


بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(لا يَسْأَمُ
الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩)
وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ
هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ
لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ
أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ
أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ
وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ
بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ
مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤))
الإعراب :
(لا يَسْأَمُ
الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) كلام مستأنف للشروع في وصف الإنسان في حالتي شدته
ورخائه. ولا نافية ويسأم الإنسان فعل مضارع وفاعل ومن دعاء الخير متعلقان بيسأم (وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ
قَنُوطٌ) الواو عاطفة وإن شرطية ومسّه فعل ماض في محل جزم فعل
الشرط والهاء مفعول به والشر فاعل والفاء رابطة للجواب ويئوس خبر لمبتدأ محذوف أي
فهو يئوس وقنوط خبر ثان. والفرق بين اليأس
والقنوط وكلاهما بمعنى قطع الرجاء من رحمة أن اليأس من منعات القلب والقنوط
ظهور آثاره على ظاهر البدن وقيل هما مترادفان من غير فارق بينهما ، وفي المختار : «اليأس
القنوط وقد يئس من الشيء من باب فهم وفيه لغة أخرى يئس ييئس بالكسر فيهما وهي شاذة
ورجل يئوس ، ويئس أيضا بمعنى علم في لغة النخع ومنه قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) ، وآيسه الله من كذا فاستيئس منه بمعنى أيس» وفي
المختار أيضا : «أيس منه لغة في يئس وبابهما فهم وآيسه منه غيره بالمدّ مثل أيأسه
وكذا أيسه بتشديد الياء تأييسا» وفيه أيضا : «القنوط : اليأس وبابه جلس ودخل وطرب
وسلم فهو قنط وقنوط وقانط فأما قنط يقنط بالفتح فيهما ، وقنط يقنط بالكسر فيهما
فإنما هو على الجمع بين اللغتين» وعبارة الكشاف : «فيئوس قنوط بولغ فيه من طريقين
من طريق بناء فعول ومن طريق التكرير. والقنوط أن يظهر عليه أثر اليأس فيتضاءل
وينكسر أي يقطع الرجاء من فضل الله وروحه وهذه صفة الكافر بدليل قوله تعالى : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ
إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) ، (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ
رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وإن شرطية وأذقناه فعل
ماض وفاعل ومفعول به والجملة في محل جزم فعل الشرط ورحمة مفعول به ثان ومن بعد نعت
لرحمة أو متعلقان بأذقناه وضرّاء مضاف إليه وجرّ بالفتحة لأنه ممنوع من الصرف لألف
التأنيث الممدودة واللام جواب القسم وجواب الشرط محذوف لسدّ جواب القسم مسدّه على
القاعدة المشهورة وهذا مبتدأ ولي خبر واللام للاستحقاق أي أستحقه بعملي (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً
وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) الواو عاطفة وما نافية وأظن فعل مضارع والفاعل مستتر والساعة
مفعول أظن الأول وقائمة مفعولها الثاني والواو عاطفة واللام موطئة للقسم وإن شرطية
ورجعت في محل جزم الشرط وإلى ربي متعلقان برجعت وإن وما في حيزها جواب القسم
ولي خبر إن وعنده حال واللام المزحلقة والحسنى اسم إن وجملة إن لي عنده
للحسنى لا محل لها لأنها جواب القسم لسبقه الشرط (فَلَنُنَبِّئَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) الفاء الفصيحة لأنها جواب لقول الكافر ولئن رجعت ،
واللام موطئة للقسم وننبئنّ فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد
الثقيلة والذين مفعول به وجملة كفروا صلة وبما في محل نصب مفعول ثان لننبئنّ و «ما»
يحتمل أن تكون موصولة أو مصدرية ولنذيقنّهم عطف على فلننبئنّ ومن عذاب في موضع
المفعول الثاني وغليظ نعت (وَإِذا أَنْعَمْنا
عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة
أنعمنا في محل جر بإضافة الظرف إليها وعلى الإنسان متعلقان بأنعمنا وجملة أعرض لا
محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ونأى بجانبه عطف على أعرض والجار والمجرور
متعلقان بنأى لأن اللام للتعدية وفيما يلي نص عبارة الزمخشري عن هذا التعبير قال :«فإن
قلت : حقق لي معنى قوله تعالى : ونأى بجانبه ، قلت : فيه وجهان : أن يوضع جانبه
موضع نفسه كما ذكرنا في قوله تعالى «على ما فرطت في جنب الله» أن مكان الشيء وجهته
ينزل منزلة الشيء نفسه ومنه قوله :
ذعرت به
القطا ونفيت عنه
|
|
مقام الذئب
كالرجل اللعين
|
يريد ونفيت عنه
الذئب ومنه «ولمن خاف مقام ربه جنتان» إلى أن يقول : فكأنه قال : ونأى بنفسه
كقولهم في المتكبر ذهب بنفسه وذهبت به الخيلاء كلّ مذهب وعصفت به الخيلاء وأن يراد
بجانبه عطفه ويكون عبارة عن الانحراف والازورار كما قالوا «ثنى عطفه وتولى بركنه»
وفي قراءة وناء بجانبه فالهمزة مؤخرة عن الألف (وَإِذا مَسَّهُ
الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة
مسه
الشر في محل جر بإضافة الظرف إليها ، فذو : الفاء رابطة وذو دعاء خبر
لمبتدأ محذوف وعريض نعت لدعاء وسيأتي في باب البلاغة معنى هذا النعت (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ
عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) أرأيتم : أي أخبروني عن حالتكم العجيبة وقد تقدم القول
في أرأيتم. ومفعول رأى الاول محذوف تقديره أرأيتم أنفسكم والثاني هو الجملة الاستفهامية
وإن شرطية وكان فعل الشرط واسمها مستتر تقديره هو أي القرآن ومن عند الله خبر ، ثم
كفرتم عطف على كان من عند الله وجواب الشرط محذوف تقديره فأنتم أضلّ من غيركم أو
ليس ثمة أضلّ منكم وجملة الشرط اعتراض بين المفعولين الأول والثاني ومن اسم
استفهام مبتدأ وأضلّ خبر وممّن متعلقان بأضل وهو مبتدأ وفي شقاق بعيد خبر والجملة
الاسمية صلة الموصول (سَنُرِيهِمْ آياتِنا
فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) السين للاستقبال ونريهم فعل مضارع ومفعول به أول
وآياتنا مفعول به ثان والرؤية هنا بصرية فلذلك عدّيت إلى اثنين فقط وفي الآفاق حال
من الآيات والآفاق جمع أفق وهو الناحية وهو كأعناق في عنق أبدلت همزته ألفا ، ونقل
الراغب «أنه يقال أفق بفتح الهمزة والفاء فيكون كجبل وأجبال والأفق الذي بلغ نهاية
الكرم تشبيها في ذلك بالذاهب في الآفاق والنسبة إلى الأفق أفقي بفتحهما قلت :
ويحتمل أنه نسبة إلى المفتوح واستغنوا بذلك عن النسبة إلى المضموم وله نظائر» وفي
أنفسهم عطف على في الآفاق (حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) حتى حرف غاية وجر ويتبين فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد
حتى وحتى وما بعدها متعلق بقوله سنريهم وأن وما في حيزها فاعل تبين (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي والواو حرف عطف على
مقدر يقتضيه السياق أي ألم يغنهم ولم يكفهم والباء حرف جر زائد وربك مجرور لفظا
مرفوع محلا والمفعول به محذوف أي أو لم يكفك ربك ، وأن وما في
حيزها بدل من ربك فيكون مرفوع المحل مجرور اللفظ وقيل الباء مزيدة في
المفعول وأن ما بعدها في محل رفع فاعل أي أو لم يكف بربك شهادته وأن واسمها وشهيد
خبرها وعلى كل شيء متعلقان بشهيد (أَلا إِنَّهُمْ فِي
مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) تقدّم إعراب نظيرتها.
البلاغة :
في قوله «فذو
دعاء عريض» استعارة مكنية تخييلية فقد استعير العرض لكثرة الدعاء وديمومته وهو من
صفات الأجرام ويستعار له الطول أيضا ولكن استعارة العرض أبلغ لأنه إذا كان عرضه
كذلك فما ظنك بطوله ؛ شبّه الدعاء بأمر يوصف بالامتداد ثم أثبت له العرض ، والطول
أطول الامتدادين فإذا كان عرضه بهذه المثابة فناهيك بطوله.
الفوائد :
الرجل اللعين :
شيء ينصب وسط الزرع لإخافة الطيور ، والبيت للشماخ وقبله :
وماء قد وردت
لأجل أروى
|
|
عليه الطير
كالورق اللجين
|
ذعرت به القطا
البيت.
وأروى اسم حبيبة
الشاعر واللجين : بفتح اللام وكسر الجيم ما يتساقط من الورق من اللجن وهو الدق
لأنه يضربه الهواء أو الراعي فيسقط من الشجر وذعرت بفتحتين أي أخفت فيه القطا
وخصّها لأنها أسبق الطير إلى الماء والرجل اللعين هو الصورة التي تنصب وسط الزرع
تطرد عنه الطير والهوام ، يقول : ورب ماء قد وردته لأجل محبوبتي على أن تجيء عنده
فأراها وشبّه الطير حول الماء بورق الشجر المتساقط في الكدرة والكثرة والانتشار
وكالرجل اللعين حال من ضمير الشاعر فيفيد أنه سبق القطا والذئب وقعد هناك ، أو حال
من الذئب أي على هيئة مفزعة وفيه دليل على شجاعة الشاعر وجرأته.
سورة الشورى
مكية وآياتها ثلاث
وخمسون
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(حم (١) عسق (٢)
كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ
الْعَظِيمُ (٤) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ
وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي
الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ
عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦))
الإعراب :
(حم. عسق). تقدم القول في فواتح السور معنى وإعرابا (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الكاف نعت لمصدر محذوف ويوحي فعل مضارع مرفوع وإليك
متعلقان بيوحي وإلى الذين عطف على إليك ومن قبلك صلة الذين والله فاعل والعزيز
الحكيم نعتان لله وقرىء يوحى بالبناء للمجهول فنائب الفاعل هو الجار
والمجرور والله فاعل بفعل محذوف دلّ عليه يوحى كأن قائلا قال من الموحي
فقيل الله (لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) له خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وفي السموات صلة وما في
الأرض عطف وهو مبتدأ والعليّ العظيم خبران لهو (تَكادُ السَّماواتُ
يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ) تكاد فعل مضارع من أفعال المقاربة والسموات اسمها وجملة
يتفطرن خبرها ومن فوقهنّ متعلقان بيتفطرن ومعنى من الابتداء أي يتبدئ الانفطار من
جهتهنّ الفوقانية لأن أعظم الآيات وأدلّها على العظمة والجلال هو الانفطار من تلك
الجهة ويعلم انفطار السفلى بطريق الأولى. واختلف في عودة الضمير في فوقهنّ فقيل هو
عائد على السموات أي يبتدىء انفطارهنّ من هذه الجهة ومن للابتداء متعلقة بيتفطرن
كما ذكرنا وقيل أنه عائد على الأرضين لتقدم ذكر الأرض قبل ذلك وقيل أنه عائد على
فرق الكفار والجماعات الملحدين (وَالْمَلائِكَةُ
يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) كلام مستأنف والملائكة مبتدأ وجملة يسبّحون خبره وبحمد
ربهم حال أو متعلقان بيسبحون (وَيَسْتَغْفِرُونَ
لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ويستغفرون عطف على يسبحون ولمن متعلقان بيستغفرون وفي
الأرض صلة من وألا أداة تنبيه وإن واسمها وهو ضمير فصل والغفور الرحيم خبر ان لإن (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ
أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) والذين مبتدأ وجملة اتخذوا صلة ومن دونه في موضع
المفعول الثاني وأولياء مفعول اتخذوا الأول والله مبتدأ وحفيظ خبر وعليهم متعلقان
بحفيظ وما نافية حجازية وأنت اسمها وعليهم متعلقان بوكيل والباء حرف جر زائد ووكيل
مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما وجملة الله حفيظ عليهم خبر الذين.
(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها
وَتُنْذِرَ
يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي
السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ
مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ
(٨) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ
يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩))
الإعراب :
(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) الكاف نعت لمصدر محذوف أي مثل ذلك الإيحاء أوحينا
وأوحينا فعل وفاعل وإليك متعلقان بأوحينا وقرآنا مفعول أوحينا وعربيا نعت. واختار
الزمخشري أن تكون ذلك إشارة إلى معنى الآية قبلها من أن الله هو الرقيب عليهم وما
أنت برقيب عليهم ولكن نذير لهم لأن هذا المعنى كرره الله في كتابه في مواضع جمة
والكاف مفعول به لأوحينا وقرآنا عربيا حال من المفعول به أي أوحيناه إليك وهو قرآن
عربي لا لبس فيه عليك لتفهم ما يقال لك ولا تتجاوز حدّ الإنذار وهو إعراب وجيه
جميل. واللام للتعليل وتنذر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام وأم القرى مفعول
به لتنذر ، وأم القرى مكة ، ومن عطف على أم القرى وحولها ظرف متعلق بمحذوف صلة من (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ
فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) وتنذر عطف على لتنذر ويوم الجمع مفعول به ثان لتنذر
والمفعول الأول محذوف أي وتنذر الناس يوم الجمع أي عذابه فحذف المفعول الأول من
الإنذار الثاني كما حذف المفعول الثاني من الإنذار الأول وتقديره العذاب ولا نافية
للجنس وريب اسمها وفيه خبرها والجملة حال من يوم الجمع أو مستأنفة واختار
الزمخشري أن تكون معترضة والمراد بيوم الجمع يوم القيامة لأن الخلائق تجمع
فيه وفريق مبتدأ وفي الجنة خبره وسوّغ الابتداء به التنويع والتفصيل وفريق في
السعير عطف على ما تقدم ويجوز أن يكون فريق خبر لمبتدأ مضمر أي المجموعون (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً
واحِدَةً) الواو استئنافية ولو شرطية وشاء الله فعل ماض وفاعل
واللام واقعة في جواب لو وجملة جعلهم لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم والهاء
مفعول به أول وأمة مفعول به ثان وواحدة نعت لأمة أي على دين واحد (وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي
رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) الواو حالية ولكن حرف استدراك مهمل ويدخل مثل مضارع
وفاعله مستتر تقديره هو ومن مفعول به وجملة يشاء صلة والعائد محذوف وفي رحمته
متعلقان بيدخل والظالمون مبتدأ وهو من باب وضع المظهر موضع المضمر ومقتضى الظاهر
أن يقول ويدخل من يشاء في غضبه ولكنه عدل عن ذلك إلى ذكر الظالمين تسجيلا عليهم
ومبالغة في الوعيد وما نافية ولهم خبر مقدم ومن حرف جر زائد وولي مجرور لفظا مرفوع
محلا على أنه مبتدأ مؤخر ولا نصير عطف على من ولي وجملة النفي خبر الظالمون (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ
أَوْلِياءَ) حرف عطف وهي منقطعة بمعنى بل واتخذوا فعل وفاعل ومن
دونه في موضع المفعول الثاني وأولياء مفعول اتخذوا الأول (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ
الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) اختلف في هذه الفاء فقال الزمخشري هي جواب شرط مقدّر أي
الفصيحة كأنه قيل بعد إنكار كل ولي سواه إن أرادوا وليّا بحق فالله هو الوليّ
بالحق لا وليّ سواه على شيء وقال أبو حيان في الردّ على الزمخشري : «لا حاجة إلى
هذا التقدير لتمام الكلام بدونه» أي فهي لمجرد العطف أي عطف ما بعدها على ما قبلها
وتبع أبا حيان أكثر المعربين وصرّح الجلال بأنها لمجرد العطف ، وعندي أن
رأي الزمخشري أسدّ وأقرب لملاءمة الكلام بعضه لبعض والله مبتدأ وهو مبتدأ
ثان أو ضمير فصل لا محل له والوليّ خبر هو والجملة خبر الله أو خبر الله وضمير
الفصل لا محل له وهو مبتدأ ويحيي الموتى خبر وهو على كل شيء قدير عطف على ما تقدم
أيضا.
(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ
فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ
لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ
فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢))
اللغة :
(يَذْرَؤُكُمْ) قال في القاموس : «ذرأ كجعل خلق والشيء كثره ومنه
الذرية مثلثة لنسل الثقلين» وقال شارحه في التاج : «وقد يطلق على الآباء والأصول
أيضا قال الله تعالى : إنّا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون والجمع ذراري كسراري»
وقد تقدم القول فيه وسيأتي معنى تعديته بفي في باب الإعراب.
(مَقالِيدُ) تقدم بحثه في سورة الزمر فجدّد به عهدا.
الإعراب :
(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ
فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) كلام مستأنف مسوق لحكاية قول رسول الله صلى الله عليه
وسلم للمؤمنين أي خالفكم فيه
الكفار في أمر من أمور الدين أو الدنيا فحكم ذلك المختلف فيه مفوّض إلى
الله تعالى. وما شرطية في محل رفع مبتدأ ويجوز أن تكون موصولة أيضا واختلفتم فعل
الشرط وفيه متعلقان باختلفتم ومن شيء حال والفاء رابطة وحكمه مبتدأ وإلى الله
متعلقان بمحذوف خبر أي مردود وراجع إلى الله (ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي
عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) ذلكم مبتدأ والله خبر ويجوز أن يكون بدلا من ذلكم وربي
خبر ثان وعليه متعلقان بتوكلت والجملة خبر ثالث وإليه متعلقان بأنيب والجملة خبر
رابع (فاطِرُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) خبر خامس وقرىء بالجر قال أبو البقاء هو بدل من الهاء
في عليه وقال الزمخشري نعت لقوله فحكمه إلى الله فتكون جملة ذلكم إلخ معترضة بين
الموصوف وصفته (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) الجملة خبر سادس وجعل فعل ماض والفاعل مستتر تقديره هو
ولكم في موضع المفعول الثاني إن كانت بمعنى التصيير ومتعلقان بجعل إن كانت بمعنى
الخلق ومن أنفسكم حال لأنها كانت صفة لأزواجا وأزواجا مفعول جعل الأول ومن الأنعام
أزواجا عطف على سابقتها وجملة يذرؤكم صفة لأزواجا وفيه متعلقان بيذرؤكم والضمير
يعود على الجعل أو التدبير قال الزمخشري : «فإن قلت فما معنى يذرؤكم فيه وهلا قيل
يذرؤكم به؟ قلت جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير ، ألا تراك تقول
للحيوان في خلق الأزواج تكثير كما قال تعالى «ولكم في القصاص حياة» (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) خبر سابع وليس فعل ماض ناقص والكاف زائدة ومثله مجرور
لفظا منصوب محلا لأنه خبر ليس وشيء اسمها وهذا الذي درجنا عليه قول أكثر المعربين
وهو المشهور عند النحاة وهناك مباحث طريفة طويلة في صددها نرجئها إلى باب الفوائد
وهو مبتدأ والسميع البصير خبران لهو (لَهُ مَقالِيدُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) له خبر مقدم ومقاليد السموات والأرض مبتدأ مؤخر والجملة
خبر ثامن (يَبْسُطُ الرِّزْقَ
لِمَنْ
يَشاءُ
وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) جملة يبسط الرزق خبر تاسع ويبسط فعل مضارع وفاعله مستتر
تقديره هو والرزق مفعول به ولمن متعلقان بيبسط وجملة يشاء صلة ويقدر عطف على يشاء
وإن واسمها وعليم خبرها وبكل شيء متعلقان بعليم.
الفوائد :
في قوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) اختلاف كثير بين كبار النحاة وسنورد هنا مجملا لأقوالهم
جميعا على أن أسهل الأوجه هو ما ذكرناه نقلا عن جمهرتهم ، وقال الشيخ بهاء الدين
بن النحّاس في تعليقه على المقرب : قال أكثر الناس هي زائدة للتوكيد والمعنى والله
أعلم ليس مثله شيء وقال جماعة من المحققين ليست بزائدة وإنما هي على بابها ومعنى
الكلام والله أعلم نفي مثل المثل ويلزم من ذلك نفي المثل ضرورة وجوده سبحانه فإن
قيل : لم توصل إلى نفي المثل بنفي مثل المثل وهلا نفى المثل من أول وهلة ، فالجواب
إن نفي المثل بنفي مثل المثل أبلغ وأفخم من قولنا أنت لا تفعل هذا لأنه نفي الشيء
بذكر دليله فهو أبلغ من نفي الشيء بغير ذكر دليله.
قلت : وقد قال
بعضهم أنها ليست بزائدة ولم يعوّل على هذا الدليل بل قال مثل ومثل ساكنا ومتحركا
سواء في اللغة كشبه وشبه فمثل هاهنا بمعنى مثل ، قال الله تعالى : «ولله المثل
الأعلى» ويكون المعنى ليس مثل مثله شيء وهو صحيح.
وقال الشهاب
الحلبي المعروف بابن السمين : «قوله ليس كمثله شيء في هذه الآية أوجه : أحدها وهو
المشهور عند المعربين أن الكاف زائدة في خبر ليس وشيء اسمها والتقدير ليس شيء مثله
قالوا : ولو لا ادّعاء زيادتها للزم أن يكون له مثل وهو محال إذ يصير التقدير على
أصالة الكاف ليس مثل مثله شيء فنفى المماثلة عن مثله فثبت أن له
مثلا ولا مثل لذلك المثل وهذا محال تعالى الله عن ذلك ، وقال أبو البقاء :
ولو لم تكن زائدة لأفضى ذلك إلى المحال إذ كان يكون المعنى أن له مثلا وليس لمثله
مثل وفي ذلك تناقض لأنه إذا كان له مثل فلمثله مثل وهو هو مع أن إثبات المثل لله
تعالى محال. قلت : وهي طريقة غريبة في تقرير الزيادة وهي طريقة حسنة الصناعة
والثاني : أن مثل هي الزائدة كزيادتها في قوله تعالى بمثل ما آمنتم قال الطبري :
كما زيدت الكاف في بعض المواضع وهذا ليس بجيد لأن زيادة الأسماء ليست بجائزة وأيضا
يصير التقدير ليس كهو شيء ، ودخول الكاف على الضمائر لا يجوز إلا في الشعر. الثالث
: أن العرب تقول مثلك لا يفعل كذا يعنون المخاطب نفسه لأنهم يريدون المبالغة في
نفي الوصف عن المخاطب فينفونها في اللفظ عن مثله فيثبت انتفاؤها عنه بدليلها ، قال
ابن قتيبة :العرب تقيم المثل مقام النفس فتقول مثلي لا يقال له هذا أي أنا لا يقال
لي هذا. الرابع : أن يراد بالمثل الصفة وذلك أن المثل بمعنى المثل والمثل الصفة
كقوله مثل الجنة فيكون المعنى ليس مثل صفته تعالى شيء من الصفات التي لغيره وهو
محمل سهل».
وللراغب في
مفرداته كلام لطيف يحسن إثباته هنا في المثل قال :«المثل أعمّ الألفاظ الموضوعة
للمشابهة وذلك أن الند يقال لما يشارك في الجوهر فقط والشبه يقال فيما يشاركه في
القدر والمساحة فقط والمثل في جميع ذلك ولهذا لما أراد الله نفي الشبه من كل وجه
خصّه بالذّكر قال تعالى : ليس كمثله شيء».
وقال ابن هشام
الأنصاري في كتابه الممتع «المغني» : «قال الأكثرون التقدير ليس شيء مثله إذ لو لم
تقدّر زائدة صار المعنى ليس شيء مثل مثله فيلزم المحال وهو إثبات المثل وإنما زيدت
لتوكيد نفي المثل لأن زيادة الحرف بمنزلة إعادة الجملة ثانيا قاله ابن جنّي ولأنهم
إذا بالغوا في نفي الفعل عن أحد قالوا مثلك لا يفعل كذا ومرادهم إنما هو
النفي عن ذاته ولكنهم إذ نفوه عمّن هو أخصّ أوصافه فقد نفوه عنه وقيل الكاف في
الآية غير زائدة ثم اختلف فقيل الزائد مثل كما زيدت في «فإن آمنوا بمثل ما آمنتم»
قالوا وإنما زيدت هنا لتفصل الكاف من الضمير انتهى والقول بزيادة الحرف أولى من القول
بزيادة الاسم بل زيادة الأسماء لم تثبت».
ونختم هذا
البحث بقول الزمخشري في كشافه وقد قطعت جهيزة قول كل خطيب قال : «قالوا : مثلك لا
يبخل فنفوا البخل عن مثله وهم يريدون نفيه عن ذاته قصدوا المبالغة في ذلك فسلكوا
به طريق الكناية لأنهم إذا نفوه عمّن يسدّ مسدّه وعمّن هو على أخصّ أوصافه فقد
نفوه عنه ونظيره قولك للعربي : العرب لا تخفر الذمم ، كان أبلغ من قولك أنت لا
تخفر ومنه قولهم قد أيفعت لداته وبلغت أترابه ، يريدون إيفاعه وبلوغه ، وفي حديث
رقيقة بنت صيفي في سقيا عبد المطلب : ألا وفيهم الطيب الطاهر لداته ، والقصد إلى
طهارته وطيبه ، فإذا علم أنه من باب الكناية لم يقع فرق بين قوله : ليس كالله شيء
وبين قوله ليس كمثله شيء إلا ما تعطيه الكناية من فائدتها وكأنها عبارتان متعقبتان
على معنى واحد وهو نفي المماثلة عن ذاته ونحو قوله عز وجل : «بل يداه مبسوطتان»
فإن معناه بل هو جواد من غير تصوّر يد ولا بسط لها لأنها وقعت عبارة عن الجود لا
يقصدون شيئا آخر حتى أنهم استعملوها فيمن لا يدله فكذلك استعمل هذا فيمن له مثل
ومن لا مثل له ، ولك أن تزعم أن كلمة التشبيه كررت للتأكيد كما كررها من قال :
وصاليات ككما يؤثفين ، ومن قال : فأصبحت مثل كعصف مأكول».
وعقب ابن
المنير القاضي على كلام الزمخشري فقال : «هذا الوجه الثاني مردود على ما فيه من
الإخلال بالمعنى وذلك أن الذي يليق
هنا تأكيد نفي المماثلة والكاف على هذا الوجه إنما تؤكد المماثلة وفرّق بين
تأكيد المماثلة المنفية وبين تأكيد نفي المماثلة فإن نفي المماثلة المهملة عن
التأكيد أبلغ وآكد في المعنى من نفي المماثلة المقترنة بالتأكيد إذ يلزم من نفي
المماثلة غير المؤكدة نفي كل مماثلة ولا يلزم من نفي مماثلة محققة متأكدة بالغة
نفي مماثلة دونها في التحقيق والتأكيد وحيث وردت الكاف مؤكدة للماثلة وردت في
الإثبات فأكدته» إلى أن يقول : «والوجه الذي ذكره هو الوجه في الآية عنده وأتى
بمطية الضعف في هذا الوجه الثاني بقوله : ولك أن تزعم فافهم».
(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ
الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا
بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا
فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي
إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا
إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ
الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤)
فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ
آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ
رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا
وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥))
اللغة :
(يَجْتَبِي إِلَيْهِ) يجتلب إليه ، والاجتباء افتعال من الجباية وهي الجمع.
قال الراغب : يقال جبيت الماء في الحوض أي جمعته ومنه قوله تعالى : يجبى إليه
ثمرات كل شيء. والاجتباء الجمع على طريق الاصطفاء قال تعالى : قالوا لولا اجتبيتها
، واجتباء الله العبد تخصيصه إياه بغيض إلهي لتحصل له أنواع النعم بلا سعي منه.
الإعراب :
(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ
الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) لك أن تجعله خبرا عاشرا ، ولك أن تجعله كلاما مستأنفا
مسوقا للشروع في تفصيل ما أجمله أولا. وشرع فعل ماض والفاعل مستتر تقديره هو ولكم
متعلقان بشرع ومن الدين حال وما مفعول به وجملة وصى صلة وبه متعلقان بوصي ونوحا
مفعول به والذي عطف على ما وجملة أوحينا صلة وإليك متعلقان بأوحينا (وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ
وَمُوسى وَعِيسى) عطف على ما تقدم أيضا وتخصيص هؤلاء الأنبياء الخمسة
بالذكر لإنافتهم وعلو شأنهم لأنهم أولو العزم من الرسل (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا
تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) أن تفسيرية بمعنى أي لأنها سبقت بما فيه معنى القول دون
حروفه وهو وصى ، ويجوز أن تكون مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر في محل رفع خبرا
لمبتدأ محذوف تقديره هو أن أقيموا ، أو في محل نصب بدلا من الموصول وهو ما ، أو في
محل جر بدلا من الدين. وأقيموا الدين فعل أمر وفاعل ومفعول به والواو عاطفة ولا
ناهية وتتفرقوا فعل مضارع مجزوم بلا وفيه متعلقان بتتفرقوا (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما
تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ
مَنْ يُنِيبُ) كلام مستأنف وكبر فعل
ماض وعلى المشركين متعلقان بكبر وما فاعل وجملة تدعوهم صلة وإليه متعلقان
بتدعوهم والله مبتدأ وجملة يجتبي خبر وإليه متعلقان بيهدي ومن مفعول به وجملة يشاء
صلة ويهدي عطف على يجتبي وإليه متعلقان بيهدي ومن مفعول به وجملة ينيب صلة (وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما
جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان حال أهل الكتاب بعد
الإشارة الإجمالية إلى أحوال أهل الشرك. وما نافية وتفرقوا فعل ماض وفاعل وإلا
أداة حصر ومن بعد متعلقان بتفرقوا والاستثناء من أعمّ الأحوال فيتعلق بمحذوف حال
أيضا وما مصدرية مؤولة مع ما في حيزها بمصدر مضاف إلى الظرف وجاءهم العلم فعل ماض
ومفعول به وفاعل وبغيا مفعول لأجله أو مصدر مؤول بالمشتق فهو منصوب على الحال أي
باغين وبينهم متعلق ببغيا أي لم يكن تفرقهم لقصور في البيان والحجج ولكن للبعي
والظلم والاشتغال بالدنيا (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) الواو عاطفة ولو لا حرف امتناع لوجود وكلمة مبتدأ محذوف
الخبر وجملة سبقت نعت لكلمة ومن ربك متعلقان بسبقت وإلى أجل متعلقان بسبقت ومسمى
نعت لأجل واللام واقعة في جواب لولا وقضي فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل
المصدر المفهوم من قضي أي القضاء وبينهم متعلق بقضي والجملة لا محل لها لأنها جواب
شرط غير جازم (وَإِنَّ الَّذِينَ
أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) الواو حرف عطف ولك أن تجعلها حالية مبينة لكيفية كفر
المشركين بالقرآن ، وإن واسمها وجملة أورثوا صلة وأورثوا فعل ماض مبني للمجهول
والواو نائب فاعل والكتاب مفعول به ثان واللام المزحلقة وفي شك خبر إن ومنه نعت
لشك ومريب نعت ثان (فَلِذلِكَ فَادْعُ
وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) الفاء الفصيحة ولذلك متعلقان بادع والفاء الثانية تأكيد
للفاء الأولى واللام بمعنى إلى أي إن عرفت هذا كله وأدركت نواجم التفرق فادع إلى
الاتفاق على الملّة الحنيفية ، واستقم عطف على ادع والكاف نعت لمصدر محذوف
ويجوز في ما أن تكون مصدرية أو موصولة والاستقامة لزوم المنهج المستقيم وقد
تقدم القول في الخط المستقيم وأن أقل انحراف يخرجه عن حدود استقامته (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ
آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) الواو عاطفة ولا ناهية وتتبع فعل مضارع مجزوم بلا
والفاعل مستتر تقديره أنت وأهواءهم مفعول به وقل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت
وجملة آمنت مقول القول وبما متعلقان بآمنت وجملة أنزل الله صلة والعائد محذوف أي
أنزله الله ومن كتاب حال (وَأُمِرْتُ
لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) عطف على آمنت واللام لام الصيرورة وأعدل فعل مضارع
منصوب بأن مضمرة بعد لام الصيرورة وبينكم ظرف متعلق بأعدل وهذا أسلم من قول الجلال
وشارحيه أن اللام بمعنى الباء وأن المصدرية مقدرة ، إذ لم نر اللام ترد بمعنى
الباء ولم يذكر أحد من النحاة أن أن المصدرية تضمر بعد الباء وإنما المراد أن
الأمر مفض إلى العدل بينكم (اللهُ رَبُّنا
وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) لفظ الجلالة مبتدأ وربنا خبره ولكم عطف على ربنا ولنا
خبر مقدّم وأعمالنا مبتدأ مؤخر ولكم خبر مقدم وأعمالكم مبتدأ مؤخر (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ
يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) لا نافية للجنس وحجة اسمها مبني على الفتح وبيننا ظرف
متعلق بمحذوف خبر أي لا خصومة بيننا وبينكم لأن الباطل لجلج والحق أبلج وقد ظهر
الحق وصرتم محجوجين فلا معنى لإيراد الحجج ، والله مبتدأ وجملة يجمع خبر وبيننا
ظرف متعلق بيجمع أي يوم القيامة وإليه خبر مقدم والمصير مبتدأ مؤخر.
الفوائد :
١ ـ لام
التعليل أو الصيرورة : ينصب المضارع بأن مضمرة جوازا بعد اللام الجارّة وهي
المسماة بلام التعليل أو لام العاقبة والصيرورة نحو وأمرنا لنسلم لرب العالمين
ويجوز إظهار أن نحو وأمرت لأن أكون
أول المسلمين فإن سبقت اللام بالكون المنفي وجب إضمار أن وسمّيت اللام لام
الجحود وقد تقدم بحثها.
٢ ـ أولو العزم
من الرسل : معنى أولو العزم من الرسل أي الذين تحملوا المشاق وصبروا على ما نالهم
من إيذاء قومهم بعد أن تصدّوا لهدايتهم ، وقد جمعهم بعضهم بقوله :
محمد إبراهيم
موسى كليمه
|
|
فعيسى فنوح
هم أولو العزم فاعلم
|
(وَالَّذِينَ
يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ
عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦) اللهُ الَّذِي
أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ
قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ
آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ
يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨) اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ
يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩))
اللغة :
(داحِضَةٌ) باطلة وفي المختار : دحضت حجته بطلت وبابه خضع وأدحضها
الله ودحضت رجله زلقت وبابه قطع والإدحاض الإزلاق والدحض بفتح الدال وسكون الحاء
المهملتين وبفتح الحاء أيضا وآخره ضاد معجمة هو الزلق وفي حديث رواه أحمد عن أبي
أسماء «أنه دخل على أبي ذر وهو بالرّبذة وعنده امرأة سوداء مشنعة ليس عليها أثر
المحاسن ولا الخلوق فقال : ألا تنظرون إلى ما تأمرني به هذه السويداء؟
تأمرني أن آتي العراق فإذا أتيت العراق مالوا عليّ بدنياهم وإن خليلي صلّى الله
عليه وسلم عهد إليّ أن دون جسر جهنم طريقا ذا دحض ومزلّة وإنّا أن نأتي عليه وفي
أحمالنا اقتدار واضطمار أحرى أن ينجو من أن نأتي عليه ونحن مواقير».
(مُشْفِقُونَ) خائفون.
الإعراب :
(وَالَّذِينَ
يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ
عِنْدَ رَبِّهِمْ) والذين مبتدأ وجملة يحاجّون صلة وفي الله متعلقان
بيحاجّون وهو على حذف مضاف أي في دين الله ومن بعد حال وما مصدرية مؤولة مع ما في
حيزها بمصدر مضاف إلى الظرف وله في موضع رفع نائب فاعل استجيب أو متعلق به ونائب
الفاعل مستتر وحجتهم مبتدأ وداحضة خبر حجتهم والمبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ
الأول وهو اسم الموصول وعند ربهم ظرف متعلق بداحضة (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ
وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) الواو عاطفة وعليهم خبر مقدم وغضب مبتدأ مؤخر ولهم خبر
مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وشديد نعت لعذاب (اللهُ الَّذِي
أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ) الله مبتدأ والذي خبره وجملة أنزل الكتاب صلة وبالحق
متعلقان بأنزل فالباء للملابسة أو بمحذوف حال والميزان عطف على الحق (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ
قَرِيبٌ) الواو عاطفة وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة
يدريك خبر ولعلّ واسمها وخبرها وجملة لعلّ الساعة قريب مفعول ثان لأدري لأنها علقت
عن العمل بالترجّي ولا بدّ من تقدير مضاف أي لعلّ مجيء الساعة قريب ولا يقال
إن قريب يستوي فيه المذكّر والمؤنث لأن فعيلا هنا بمعنى فاعل لا بمعنى
مفعول وقال أبو البقاء «يجوز أن يكون ذكر على معنى الزمان أو على معنى البعث أو
على النسب أي ذات قرب» قلت : وقد شبّهوا فعيلا التي بمعنى فاعل بالتي بمعنى مفعول
فأسقطوا منها التاء فمن ذلك قوله تعالى : «إن رحمة الله قريب من المحسنين» وهو
بمعنى مقترب شبّهوه بقتيل ونحوه وقيل إنما أسقطت منه التاء لأن الرحمة والرحم واحد
فحملوا الخبر على المعنى ويؤيده قوله تعالى «هذا رحمة من ربي» وسيأتي بحث ما يستوي
فيه المذكّر والمؤنث في باب الفوائد (يَسْتَعْجِلُ بِهَا
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) يستعجل فعل مضارع مرفوع وبها متعلقان بيستعجل والذين
فاعل وجملة لا يؤمنون بها صلة (وَالَّذِينَ آمَنُوا
مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ) الواو عاطفة والذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة ومشفقون خبر
ومنها متعلقان بمشفقون والواو عاطفة ويعلمون فعل مضارع مرفوع وأن وما في حيزها
سدّت مسدّ مفعولي يعلمون (أَلا إِنَّ الَّذِينَ
يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) ألا أداة تنبيه وإن واسمها وجملة يمارون صلة وفي الساعة
متعلقان بيمارون والمماراة الملاجة لأن كل واحد منها يمري ما عند صاحبه أي يستخرج
واللام المزحلقة وفي ضلال خبر إن وبعيد نعت لضلال (اللهُ لَطِيفٌ
بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) الله مبتدأ ولطيف خبر وبعباده متعلقان بلطيف وجملة يرزق
خبر ثان ومن مفعول به وجملة يشاء صلة والواو حرف عطف وهو مبتدأ والقوي خبر والعزيز
خبر ثان.
الفوائد :
متى يستوي
المذكر والمؤنث. يستوي المذكّر والمؤنث في خمسة أوزان :
١ ـ فعول : بفتح
الفاء بمعنى فاعل كرجل صبور بمعنى صابر وامرأة صبور بمعنى صابرة وأما قولهم امرأة
ملولة من الملل بمعنى مالّة فالتاء فيه ليست للفصل وإنما هي للمبالغة بدليل دخولها
في المذكّر نحو رجل ملولة وأما امرأة عدوة فشاذ لخروجه عن القاعدة ومع ذلك فإنه
محمول على صديقة كما في عكسه وهو حمل صديق على عدو في قوله «وأنت صديق» والقياس
صديقة وهم يحملون الضدّ على ضدّه كما يحملون النظير على نظيره ولو كان فعول بمعنى
مفعول لحقته التاء الفاصلة جوازا نحو جمل ركوب وناقة ركوبة. قال عنترة :
فيها اثنتان
وأربعون حلوبة
|
|
سودا كخافية
الغراب الأعصم
|
٢ ـ فعيل : بمعنى مفعول نحو رجل
جريح وامرأة جريح بمعنى مجروحة وشذ ملحفة جديدة بالتاء فإنها بمعنى مجدودة ولحقتها
التاء فإن كان فعيل بمعنى فاعل لحقته التاء الفاصلة نحو امرأة رحيمة وظريفة فإن
قلت مررت بقتيلة بني فلان ألحقت التاء خشية الإلباس بين المذكّر والمؤنث لأنك لم
تذكّر الموصوف المأمون معه الإلباس.
٣ ـ مفعال :
بكسر الميم منحار يقال رجل منحار وامرأة منحار أي كثير النحر وشذ ميقانة من اليقين
وهو عدم التردد يقال رجل ميقان لا يسمع شيئا إلا أيقنه وامرأة ميقانة.
٤ ـ فعيل :
بكسر الميم كمعطير من العطر وشذ امرأة مسكينة لخروجه عن القاعدة ومع ذلك فإنه
محمول على فقيرة وسمع امرأة مسكين على القياس حكاه سيبويه.
٥ ـ مفعل بكسر
الميم وفتح العين كمغشم وهو الذي لا ينتهي عمّا يريده ويهواه من شجاعته ومدعس من
الدعس وهو الطعن.
(مَنْ كانَ يُرِيدُ
حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا
نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ
شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ
الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١))
الإعراب :
(مَنْ كانَ يُرِيدُ
حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان الفرق بين عملي العاملين بأن من
عمل للآخرة وفّق في عمله وضوعفت حسناته ومن كان عمله للدنيا أعطي شيئا منها لا ما
يريده ويطمح إليه ولم يكن له نصيب في الآخرة. ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ
وكان فعل ماض واسمها يعود على من وجملة يريد خبر كان وحرث الآخرة مفعول يريد ونزد
جواب الشرط وله متعلقان بنزد وفي حرثه متعلقان بنزد أيضا (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا
نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) جملة (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ
حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) عطف على الجملة السابقة والواو حالية أو عاطفة وما
نافية ويجوز أن تكون حجازية عند من يجيز تقدم الخبر وله خبر مقدّم وفي الآخرة حال
ومن حرف جر زائد ونصيب مبتدأ أو اسم ما (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ
شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) أم قدّرها بعضهم ببل الانتقالية وقدّرها الزمخشري ببل
والهمزة للتقريع والتوبيخ ولهم خبر مقدم وشركاء مبتدأ مؤخر وجملة شرعوا نعت لشركاء
ولهم متعلقان بشرعوا ومن الدين حال لأنه كان نعتا للمفعول أي شرعا من الدين
والمقصود به الشرك الذي لم يأذن به الله وما مفعول به وجملة لم يأذن صلة وبه
متعلقان بيأذن والله فاعل (وَلَوْ لا
كَلِمَةُ
الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) الواو عاطفة ولو لا حرف امتناع لوجود وكلمة الفصل مبتدأ
والخبر محذوف واللام واقعة في جواب لولا وجملة قضي بينهم لا محل لها لأنها جواب
شرط غير جازم (وَإِنَّ
الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) الواو استئنافية وإن واسمها ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ
مؤخر وأليم نعت وجملة لهم عذاب أليم خبر إن.
البلاغة :
الاستعارة
التصريحية في قوله «من كان يريد حرث الآخرة» الآية استعارة تصريحية ، شبّه ما
يعمله العامل مما يبتغي به الفائدة والنماء بالحرث ، والحرث في الأصل إلقاء البذر
في الأرض ويطلق على الزرع الحاصل منه ثم حذف المشبه وهو العمل وأبقى المشبه به وهو
الحرث للدلالة على نتائج الأعمال وثمراتها وشبهه بالزرع من حيث أنه فائدة تحصل
بعمل الدنيا ولذلك قيل : الدنيا مزرعة الآخرة.
(تَرَى الظَّالِمِينَ
مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ
هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ
الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً
إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣))
الإعراب :
(تَرَى الظَّالِمِينَ
مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ) الخطاب لكل من تتأتى منه الرؤية ، والظالمين مفعول به
ومشفقين حال لأن الرؤية بصرية ومما متعلقان بمشفقين وجملة كسبوا صلة والواو حالية
وهو مبتدأ وواقع خبر وبهم متعلقان بواقع والجملة حال ثانية والضمير يعود على الكسب
أو الإشفاق (وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ) والذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة وعملوا الصالحات عطف على
آمنوا وفي روضات الجنات خبر (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ
عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) لهم خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وجملة يشاءون صلة وعند
ربهم ظرف للاستقرار العامل في لهم ويجوز أن يكون ظرفا ليشاءون ، ومنع الزمخشري
الثاني وذلك متبدأ وهو مبتدأ ثان والفضل خبر الثاني والثاني وخبره خبر الأول
والكبير نعت ولك أن تجعل هو ضمير فصل لا محل له (ذلِكَ الَّذِي
يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) اسم الإشارة مبتدأ والذين خبره وجملة يبشر الله عباده
صلة والعائد محذوف أي يبشر به عباده والذين آمنوا نعت وعملوا الصالحات عطف على
آمنوا (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) قل فعل أمر وفاعله مستتر أي قل جوابا لأولئك الذين
تحاوروا فيما بينهم : أترون محمدا يسأل على ما يتعاطاه أجرا؟ ولا نافية وأسألكم
فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به أول وعليه حال وأجرا مفعول به ثان وإلا المودّة
يجوز أن يكون استثناء متصلا أي لا أسألكم أجرا إلا هذا وهو أن تودّوا أهل قرابتي ،
ويجوز أن يكون منقطعا أي لا أسألكم أجرا قطّ ولكنني أسألكم أن تودّوا قرابتي
الّذين هم قرابتكم ، وفي القربى متعلقان بمحذوف حال أي ثابتة في القربى والقربى
مصدر كالزلفى والبشرى وسيأتي مزيد من بحث هذه الآية (وَمَنْ يَقْتَرِفْ
حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ
شَكُورٌ) الواو عاطفة ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويقترف فعل مضارع
فعل الشرط وحسنة مفعول به أي ومن يكتسب حسنة وأصل القرف الكسب يقال فلان يقرف
لعياله كسبا من باب ضرب ونزد جواب الشرط وله
متعلقان بنزد
وفيها حال وحسنا مفعول به وإن واسمها وخبراها والجملة تعليلية.
البلاغة :
في قوله «إلا
المودّة في القربى» مجاز مرسل علاقة المحلية ولذلك لم يقل إلا مودّة القربى أو إلا
المودّة للقربى ، فقد جعلوا مكانا للمودّة ومقرا لها كقولك لي في آل فلان مودة ولي
فيهم هوى شديد تريد : أحبهم وهم مكان حبي ومحله. وقد اختلف في هذه الآية اختلافا
كثيرا يرجع إليه في المطولات وأحسن ما قرأناه في صددها ما ذكره مجاهد وقتادة
وخلاصته : والمعنى أنكم قومي وأحق من أجابني وأطاعني فإذ قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق
القربى وصلوا رحمي ولا تؤذوني.
(أَمْ يَقُولُونَ
افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ
اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ
الصُّدُورِ (٢٤) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا
عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ
لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (٢٦))
الإعراب :
(أَمْ يَقُولُونَ
افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أم حرف عطف وهي منقطعة بمعنى بل ويقولون فعل مضارع
مرفوع وجملة افترى مقول القول وعلى الله متعلقان بافترى وكذبا مفعول به (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى
قَلْبِكَ) الفاء استئنافية أو عاطفة وإن شرطية ويشأ فعل الشرط
والله فاعل ويختم جواب الشرط وعلى قلبك متعلقان بيختم وقد اختلف في معنى الختم
فقال الزمخشري : «فإن يشإ الله يجعلك من المختوم على قلوبهم حتى تفتري عليه الكذب
فإنه لا يجترئ على افتراء الكذب على الله إلا من كان في مثل ما لهم ، وهذا الأسلوب
مؤداه استبعاد الافتراء من مثله وأنه في البعد مثل الشرك بالله والدخول في جملة
المختوم على قلوبهم» وهذا كلام جميل فيه نفح من البلاغة مسكر وقال الجلال «فإن يشإ
الله يختم : يربط على قلبك بالصبر على أذاهم بهذا القول وغيره وقد فعل فمشيئة
الختم هنا مقطوع بوقوعها» وهذا كلام جميل أيضا وارد في هذا المقام (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ
الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) كلام مستأنف غير داخل في جزاء الشرط لأنه تعالى يمحو
لباطل مطلقا وقد سقطت الواو لفظا لالتقاء الساكنين وسقطت في بعض المصاحف خطأ حملا
له على اللفظ ، ويمحو الله الباطل فعل مضارع وفاعل ومفعول به ويحقّ الحق عطف على
يمحو الله الباطل وبكلماته متعلقان بيحق وإن واسمها وعليم خبرها وبذات الصدور
متعلقان بعليم (وَهُوَ الَّذِي
يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما
تَفْعَلُونَ) كلام مستأنف مسوق لبيان قبول التوبة إذا استوفت شروطها
الثلاثة إذا كانت المعصية بين العبد وربه وهي : ١ ـ الإقلاع عن المعصية ٢ ـ الندامة
على فعلها ٣ ـ العزم على عدم العودة إليها أبدا ، فإن كانت المعصية تتعلق بحق آدمي
أضيف إليها شرط رابع وهو ٤ ـ أن يبرأ من
حق صاحبها ، وهناك مباحث مطولة تتعلق بالتوبة يرجع إليها في المطولات. وهو
مبتدأ والذي خبر وجملة يقبل التوبة صلة وعن عباده متعلقان بالتوبة و «عن» هنا إما
بمعنى «من» أو أن القبول يتعدى إلى مفعول ثان بمن وعن لتضمنه معنى الأخذ والإبانة
فتلضمنه معنى الأخذ يتعدى بمن ، يقال قبلته منه أي أخذته ، ولتضمنه معنى الإبانة
والتفريق يتعدى بعن ، يقال قبلته عنه أي أزلته وأبنته عنه ، وسيأتي كلام لطيف لعلي
بن أبي طالب في التوبة في باب الفوائد ، ويعفو عن السيئات عطف على ما تقدم وكذلك
قوله ويعلم ما تفعلون وقرئ بالياء (وَيَسْتَجِيبُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) الواو عاطفة ويستجيب فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر
تقديره يعود على الله تعالى والذين نصب بنزع الخافض أي ويستجيب للذين آمنوا فحذف
الجار كما حذف في قوله «وإذا كالوهم» أي يثيبهم على طاعتهم ويزيدهم على الثواب
تفضلا ، وأجاز السمين أن يكون اسم الموصول فاعلا أي يجيبون ربهم إذا دعاهم والسين
والتاء زائدتان وأجاز أن يكون مفعولا به بعد أن تقررت زيادة السين والتاء أي يجيب
الله الذين آمنوا والأول أقوم. وعملوا الصالحات عطف على آمنوا دخل في حيز الصلة
ويزيدهم عطف أيضا ومن فضله متعلقان بيزيدهم وإلى هذا الأخير ذهب السيوطي وأبو
البقاء (وَالْكافِرُونَ
لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) الكافرون مبتدأ ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وشديد
نعت والجملة خبر الكافرون.
الفوائد :
التوبة وكلمة
سيدنا علي : روى جابر أن أعرابيا دخل مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال :
اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك وكبّر ، فلما فرغ من صلاته قال له علي بن أبي طالب
رضي الله عنه يا هذا إن سرعة اللسان
بالاستغفار توبة الكذابين وتوبتك تحتاج إلى التوبة ، فقال يا أمير المؤمنين
وما التوبة؟ قال اسم يقع على ستة معان : على الماضي من الذنوب الندامة ، ولتضييع
الفرائض الإعادة وردّ المظالم ، وإذابة النفس في الطّاعة كما ربيتها في المعصية ،
وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية ، والبكاء بدل كل ضحك ضحكة».
وأخرج
الأصبهاني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم :
النادم ينتظر من الله الرحمة ، والمعجب ينتظر المقت ، واعلموا عباد الله أن كلّ
عامل سيقدم على عمله ولا يخرج من الدنيا حتى يرى حسن عمله ، وسوء عمله وإنما
الأعمال بخواتيمها ، والليل والنهار مطيتان فأحسنوا السير عليهما إلى الآخرة
واحذروا التسويف فإن الموت يأتي بغتة ، ولا يغترن أحدكم بحلم الله عزّ وجلّ فإن
الجنة والنار أقرب إلى أحدكم من شراك نعله ، ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم
«فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرّا يره».
ومعنى الشراك :
أحد سيور النعل التي تكون على وجهها ، وهذا على سبيل التقريب والتفهيم إلى أن
النعيم والعذاب مدرك بسرعة وبعد خروج الروح يرى المؤمن الطائع ثوابه ، والعاصي
عقابه ، فالعاقل من تاب إلى الله وأسرع في الطاعة وجد في العبادة ولا يعلم انتهاء
العمر إلا الله ، فالنبي يرغّب المؤمن في التوبة رجاء إدراك رحمة الله وثوابه ويبغضه
بالقنوط وينفره من الكبر والغرور كما قال تعالى : «اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب
ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته
ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان
وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور».
هذا وقد صوّر
المتنبي التوبة والجنوح إلى المثل الأعلى بقوله الممتع :
ومن يجد
الطريق إلى المعالي
|
|
فلا يذر
المطي بلا سنام
|
ولم أر في
عيوب الناس عيبا
|
|
كنقص
القادرين على التمام
|
(وَلَوْ
بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ
بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي
يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ
الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما
بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩) وَما
أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ
(٣٠) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ
مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١))
الإعراب :
(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ
الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) كلام مستأنف مسوق لبيان أن بسط الرزق مفسدة للخلق ، ولو
شرطية وبسط الله الرزق فعل وفاعل ومفعول به ولعباده متعلقان ببسط واللام واقعة في
جواب لو وجملة بغوا في الأرض لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وسيأتي بحث في
معنى لو هنا وانتفاء البغي مع وجوده في باب الفوائد (وَلكِنْ يُنَزِّلُ
بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) الواو حالية ولكن حرف استدراك مهمل وينزل فعل مضارع
مرفوع وفاعله مستتر تقديره هو وبقدر
متعلقان بمحذوف حال وما مفعول به وجملة يشاء صلة وإن واسمها وبعباده
متعلقان بخبير وخبير بصير خبران لإن (وَهُوَ الَّذِي
يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ
الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) الواو عاطفة وهو مبتدأ والذي خبره وجملة ينزل الغيث صلة
ومن بعد حال وما مصدرية وهي مع مدخولها في تأويل مصدر مجرور بالإضافة إلى الظرف أي
من بعد قنوطهم وينشر رحمته عطف على ينزل الغيث وهو مبتدأ والولي الحميد خبراه (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) الواو عاطفة ومن آياته خبر مقدم وخلق السموات والأرض
مبتدأ مؤخر وما في محل رفع أو جر فالأول معطوف على المضاف والثاني على المضاف إليه
وهذا أرجح لسلامته من التقدير إذ لا بدّ من تقدير مضاف على الأول أي خلق ما بثّ
وجملة بثّ صلة وفيهما متعلقان ببثّ ومن دابة في موضع نصب على الحال وسيأتي مزيد
بحث عن هذه الآية في باب البلاغة (وَهُوَ عَلى
جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) وهو مبتدأ وعلى جمعهم متعلقان بقدير وإذا ظرف مستقبل
متعلق بجمعهم وجملة يشاء في محل جر بإضافة الظرف إليها وقدير خبر هو (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما
كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) الواو عاطفة وما شرطية وأصابكم فعل ماض وفاعل مستتر
ومفعول به وهو في محل جزم فعل الشرط ومن مصيبة حال والفاء رابطة وبما متعلقان
بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف أي فذلك بما كسبت وما موصولة مجرورة بالباء وجملة كسبت
صلة وأيديكم فاعل ، هذا ويجوز أن تكون ما موصولة والفاء داخلة في الخبر تشبيها
للموصول بالشرط والواو عاطفة ويعفو فعل مضارع وفاعله مستتر يعود على الله وعن كثير
متعلقان بيعفو (وَما أَنْتُمْ
بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا
نَصِيرٍ) الواو عاطفة وما نافية حجازية وأنتم اسمها والباء حرف
جر زائد ومعجزين مجرور لفظا منصوب محلا خبر ما
وفي الأرض حال والواو عاطفة وما نافية أو حجازية ولكم خبر مقدم ومن دون
الله حال ومن حرف جر زائد ووليّ مبتدأ مؤخر مرفوع محلا أو اسم ما ولا نصير عطف على
من ولي.
البلاغة :
١ ـ صحة
التفسير في قوله «وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا» الآية فن صحة التفسير وهو
أن يأتي المتكلم في أول كلامه بمعنى لا يستقل الفهم بمعرفة فحواه إما أن يكون
مجملا يحتاج إلى تفصيل أو موجها يفتقر إلى توجيه ، أو محتملا يحتاج المراد منه إلى
ترجيح لا يحصل إلا بتفسيره وتبيينه ، ووقوع التفسير يأتي في الكلام على أنحاء تارة
يأتي بعد الشرط أو بعد ما فيه معنى الشرط وطورا بعد الجار والمجرور كما في هذه
الآية وقد جاءت صحة التفسير فيها مؤذنة بمجيء الرجاء بعد اليأس والفرج بعد الشدّة
والمسرّة بعد الحزن ليكون ذلك أحلى موقعا في القلوب.
٢ ـ نسبة الشيء
إلى الكل والمراد البعض في قوله «وما بثّ فيهما من دابة» نسبة الشيء إلى جميع
المذكور والمراد إلى بعضه كقوله تعالى «يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان» وإنما يخرج من
الملح ، وقد ورد اختصاص الأرض بالدابة في موضع آخر قال تعالى : «إن في خلق السموات
والأرض واختلاف الليل والنهار» ثم قال «وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به
الأرض بعد موتها وبثّ فيها من كل دابة» فخصّ هذا الأمر بالأرض.
الفوائد :
١ ـ تقدّم في
هذا الكتاب الكثير من مباحث «لو» وفي قوله «ولو
بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض» يرد سؤال وهو : أن البغي حاصل
بالفعل فكيف يصحّ انتفاؤه بمقتضى لو الامتناعية والجواب أن المراد بالنفي جميع
الناس كما جعل الملزوم المنتفي أيضا البسط للجميع بدليل الواو التي تقتضي مطلق
الجمع ، وأورد الزمخشري سؤالا آخر وأجاب عنه وفيما يلي نص السؤال والجواب : «فإن
قلت : قد نرى الناس يبغي بعضهم على بعض ومنهم مبسوط لهم ومنه مقبوض عنهم فإن كان
المبسوط لهم يبغون فلم بسط لهم وإن كان المقبوض عنهم يبغون فقد يكون البغي بدون
البسط فلم شرطه؟ قلت : لا شبهة في أن البغي مع الفقر أقل ومع البسط أكثر وأغلب
وكلاهما سبب ظاهر للإقدام على البغي والإحجام عنه فلو عمّ البسط لغلب البغي حتى
ينقلب الأمر إلى عكس ما عليه الآن».
٢ ـ هل تدخل
إذا على المضارع؟ يجوز دخول إذا على المضارع كما تدخل على الماضي قال الله تعالى «والليل
إذا يغشى» ومنه «إذا يشاء» وقول الشاعر :
وإذا ما أشاء
أبعث منها
|
|
آخر الليل
ناشطا مذعورا
|
وذلك لأن إذا
ظرف للمستقبل فإذا دخل على الماضي كان مستقبلا أو على المضارع كان نصّا في
الاستقبال ، وواضح أن الشاعر جرّد من الناقة أمرا آخر لشدة سيرها فلذلك قال منها ،
وأصل المعنى أبعثهما في آخر الليل كالناشط وهو الثور الوحشي يخرج من أرض إلى أخرى
والمذعور الخائف وهو كناية عن سريع السير جدا.
(وَمِنْ آياتِهِ
الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ
فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ
شَكُورٍ (٣٣)
أَوْ
يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ
يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥))
اللغة :
(الْجَوارِ) السفن وهي بحذف الياء في الخط لأنها من ياءات الزوائد
وبإثباتها وحذفها في اللفظ في كلّ من الوصل والوقف وقد قرىء بها جميعها ، قال أبو
حيان : «جمع جارية وهي صفة جرت مجرى الأسماء فوليت العوامل» وقال الشهاب الحلبي :
فإن قلت الصفة متى لم تكن خاصة بموصوفيها امتنع حذف الموصوف ، لا تقول : مررت بماش
لأن المشي عامّ وتقول مررت بمهندس وكاتب ، والجري ليس من الصفات الخاصة بالموصوف وهو
السفن فلا يجوز حذفه والجواب أن محل الامتناع إذا لم تجر الصفة مجرى الجوامد بأن
تغلب عليها الاسمية كالأبطح والأبرق وإلا جاز حذف الموصوف.
(الأعلام)
الجبال جمع علم قالت الخنساء :
وإن صخرا
لتأتم الهداة به
|
|
كأنه علم في
رأسه نار
|
وهو أحد معانيه
الكثيرة.
(رَواكِدَ) ثوابت لا تجري يقال ركد الماء ركودا من باب قعد سكن
وكذلك الريح والسفينة والشمس إذا قام قائم الظهيرة وكل ثابت في مكان فهو راكد وركد
الميزان : استوى وركد القوم : هدءوا.
(يُوبِقْهُنَّ) يهلكهنّ يقال وبق يبق مثل وعد يعد ووبق يبق من باب تعب
يتعب وبقا بسكون الباء ووبق يوبق وبقا بفتح الباء ووبوقا وموبقا
واستوبق : هلك فهو وبق وأوبقه إيباقا أهلكه وذلّله وحبسه.
الإعراب :
(وَمِنْ آياتِهِ
الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) من آياته خبر مقدم والجوار مبتدأ مؤخر وعلامة رفعه
الضمة المقدرة على الياء المحذوفة خطا ولفظا أو خطا فقط وفي البحر حال وكالأعلام
حال أيضا وقد تقدم في باب اللغة أن الجوار غلبت عليها الاسمية وعبارة أبي البقاء «الجوار
مبتدأ أو فاعل ارتفع بالجار وفي البحر حال منه والعامل فيه الاستقرار ويجوز أن
يتعلق بالجوار وكالأعلام على الوجه الأول حال ثانية وعلى الوجه الثاني هي حال من
الضمير في الجوار» (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ
الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ) إن شرطية ويشأ فعل الشرط والفاعل مستتر جوازا تقديره هو
يعود على الله تعالى ويسكن جواب الشرط والريح مفعول به والفاء عاطفة ويظللن فعل
مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة في محل جزم عطف على يسكن الريح وهو
بفتح اللام لأن الماضي بكسرها تقول ظللت قائما ونون النسوة اسم يظللن لأنه فعل
ناقص ورواكد خبرها وعلى ظهره متعلقان برواكد (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) إن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام
المزحلقة وآيات اسم إن ولكل نعت لآيات وصبّار مضاف إليه وشكور نعت لصبّار (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا
وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) أو حرف عطف ويوقهنّ عطف على يسكن أي يفرقهنّ بعصف الريح
عليهن ، قال الزمخشري : «فإن قلت علام عطف يوبقهنّ؟ قلت على يسكن لأن المعنى إن
يشأ يسكن الريح فيركدن أو يعصفها فيفرقنّ بعصفها» أو بطروء خلل على أجهزتها ، وبما
متعلقان بيوبقهنّ ويجوز في ما أن تكون موصولة أو مصدرية والباء للسببية أي بسبب ما
كسبوه من الذنوب ويعف عطف على يسكن أيضا
والمعنى أو إن يشأ يهلك ناسا وينج ناسا على طريق العفو عنهم وعن كثير
متعلقان بيعف (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ
يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) الواو حرف عطف ويعلم معطوف على تعليل مقدّر أي يفرقهم
لينتقم منهم ويعلم الذين يجادلون ، هكذا قدّره الزمخشري والجلال السيوطي ، وردّ
أبو حيّان قائلا «ويبعد تقديره لينتقم منهم لأن الذي ترتب على الشرط إهلاك قوم
ونجاة قوم فلا يحسن تقدير العلة أحد الأمرين» وتعقبه الكرخي فقال في الردّ عليه
والدفاع عن إعراب السيوطي : «بل يحسن تقديره لينتقم منهم كما قال شيخنا لأن
المقصود تعليل الإهلاك فقط الذي قدّره السيوطي بقوله يفرقهم إذ هو المناسب للعلة
المعطوفة وهي ويعلم ، ودافع الزمخشري عن الإعراب الأول وهو العطف على التعليل
المحذوف بقوله : ونحوه في العطف على التعليل المحذوف غير عزيز في القرآن ومنه قوله
تعالى : «ولنجعله آية للناس» وقوله «وخلق الله السموات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس
بما كسبت» أما الزجّاج فأعربه بالنصب على إضمار أن وتبعه أبو البقاء قال : لأن
قبلها جزاء تقول : ما تصنع أصنع مثله وأكرمك بالنصب وإن شئت وأكرمك بالرفع على
وأنا أكرمك وإن شئت وأكرمك بالجزم ، قال الزمخشري : «وفي هذا الإعراب نظر لأن
سيبويه قال في كتابه : «واعلم أن النصب بالفاء والواو في قوله : إن تأتني آتك
وأعطيك ضعيف وهو نحو من قوله «وألحق بالحجاز فاستريحا» فهذا يجوز وليس بحدّ الكلام
ولا وجهه إلا أنه في الجزاء صار أقوى قليلا لأنه ليس بواجب أنه يفعل إلا أن يكون
من الأول فعل فلما ضارع الذي لا يوجبه كالاستفهام ونحوه أجازوا فيه هذا على ضعفه»
قال الزمخشري : «ولا يجوز أن تحمل القراءة المستفيضة على وجه ضعيف ليس بحد الكلام
ولا وجهه ولو كانت من هذا الباب لما أخلى سيبويه منها كتابه وقد ذكر نظائرها من
الآيات
المشكلة» هذا وقد قرىء ويعلم بالرفع على الاستئناف على أنه جملة اسمية أو
فعلية فعلى كونها اسمية يكون الموصول مفعولا به والفاعل ضميرا مستترا يعود على
مبتدأ مضمر أي وهو يعلم الذين استجابوا وعلى كونها فعلية يكون الموصول فاعلا ،
وقرىء بالجزم بالعطف على الجواب السابق كأنه قال : وإن يشأ يجمع بين ثلاثة أمور :
هلاك قوم ونجاة آخرين وتحذير آخرين ، والذين فاعل أو مفعول به كما تقدم وجملة
يجادلون صلة وفي آياتنا متعلقان بيجادلون وما نافية أو نافية حجازية ولهم خبر مقدم
ومن حرف جر زائد ومحيص مجرور لفظا مرفوع محلا على الابتداء وعلى أنه اسم ما وجملة
النفي سدّت مسدّ مفعولي يعلم المعلقة بالنفي عن العمل.
البلاغة :
الريح بين
الإفراد والجمع تقدم في موضع آخر من هذا الكتاب أن الريح لم ترد مفردة في القرآن
إلا عذابا ، وقد حاول بعضهم أن يخرم هذا الإطلاق فقال إن قوله تعالى : «إن يشأ
يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره» يخرم هذا الإطلاق لأن الريح المذكورة نعمة. قلت
: وهذا فهم خاطئ بل إنه على العكس يؤكد سريان هذه القاعدة على إطلاقها لأنه صدّرها
بإن الشرطية فأفهم ذلك أن الأصل في الريح المفردة العذاب وأنه إذا أراد الخروج بها
عن إطلاقها قيدها بإن الشرطية حتى إذا تمّ ذلك أعاد الضمير عليها مجموعا فقال
فيظللن رواكد أي الرياح ، وقد أيد الحديث الشريف ما ذهبنا إليه من الإطلاق فقال : «اللهمّ
اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا».
(فَما أُوتِيتُمْ مِنْ
شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى
لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) وَالَّذِينَ
يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ
يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ
وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ
إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩))
الإعراب :
(فَما أُوتِيتُمْ مِنْ
شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) الفاء استئنافية وما شرطية في محل نصب مفعول به ثان
مقدّم لأوتيتم والأول هو ضمير المخاطبين وهو نائب الفاعل ومن شيء بيان ل «ما» في
محل نصب حال فمتاع : الفاء رابطة للجواب ومتاع خبر لمبتدأ محذوف أي فهو متاع
الحياة الدنيا (وَما عِنْدَ اللهِ
خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) الواو عاطفة وما موصولة في محل رفع مبتدأ وعند الله ظرف
متعلق بمحذوف لا محل له من الإعراب لأنه صلة لما وخير خبر ما وأبقى وعطف على خير
وللذين آمنوا متعلقان بأبقى وعلى ربهم متعلقان بيتوكلون وجملة يتوكلون عطف على
آمنوا داخلة في حيز الصلة (وَالَّذِينَ
يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) والذين عطف على قوله للذين وجملة يجتنبون صلة وكبائر
الإثم مفعول به والفواحش عطف على كبائر (وَإِذا ما غَضِبُوا
هُمْ يَغْفِرُونَ) الواو عاطفة وإذا ظرف متعلق بيغفرون وما زائدة وجملة
غضبوا في محل جر بإضافة إذا إليها وهم مبتدأ وجملة يغفرون خبرهم والجملة بأسرها
عطف على جملة يجتنبون داخلة في حيز الصلة
والعطف من عطف الاسمية على الفعلية ، ويشكل على هذا جواب إذا ، وقد جعله
أبو البقاء هم يغفرون وهو غير صحيح لأنه لو كان جوابا لاقترن بالفاء والأولى أنه
محذوف تقديره يغفرون حذف لدلالة يغفرون الواقعة خبرا عليه (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ
وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ
يُنْفِقُونَ) عطف على ما تقدم وجملة استجابوا صلة ولربهم متعلقان
باستجابوا وأقاموا فعل وفاعل والصلاة مفعول به وأمرهم مبتدأ وشورى خبر وبينهم ظرف
في موضع نصب على الحال وأفرد هذه الجملة بالذكر لمزيد الاهتمام بالشورى وتنويها
بها. وقد اختلف في الشورى وأصح الأقوال أنها عامة ويجمعها نظام الحكم قالوا ترك
رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر رضي الله عنه الخلافة شورى. ومما متعلقان
بينفقون وجملة رزقناهم صلة (وَالَّذِينَ إِذا
أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) عطف على ما تقدم وهي في الإعراب كقوله «وإذا ما غضبوا
هم ينتصرون» فيقال فيها ما قيل في تلك ويجوز هنا أن يكون هم تأكيدا للضمير المنصوب
في أصابهم أكد بالضمير المرفوع وليس فيه إلا الفصل بين المؤكد والمؤكد بالفاعل
والظاهر أنه جائز.
(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ
سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا
يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما
عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ
النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣))
الإعراب :
(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ
سَيِّئَةٌ مِثْلُها) الواو عاطفة وجزاء سيئة مبتدأ وسيئة خبر ومثلها نعت
لسيئة وسيأتي معنى هذا الكلام وأسراره في باب البلاغة (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ
عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) الفاء تفريعية ومن اسم شرط جازم مبتدأ وعفا فعل ماض في
محل جزم فعل الشرط وأصلح عطف على عفا والفاء رابطة وأجره مبتدأ وعلى الله خبر
والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من وجملة إنه لا يحب
الظالمين تعليل وإن واسمها وجملة لا يحب الظالمين خبرها (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ
فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) الواو عاطفة واللام للابتداء ومن اسم شرط جازم مبتدأ
وانتصر مثل ماض في محل جزم فعل الشرط وبعد ظلمه الظرف متعلق بانتصر وظلمه مضاف
إليه والهاء مضافة إلى المصدر والإضافة من إضافة المصدر إلى مفعوله وتؤيده قراءة
من قرأ من بعد ما ظلم بالبناء للمجهول والفاء رابطة للجواب وأولئك مبتدأ وما نافية
وعليهم خبر مقدم ومن حرف جر زائد وسبيل مجرور لفظا مرفوع بالابتداء محلا والجملة
خبر اسم الإشارة وجملة الإشارة في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر
المبتدأ وهو من (إِنَّمَا السَّبِيلُ
عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) إنما كافّة ومكفوفة والسبيل مبتدأ وعلى الذين خبره
وجملة يظلمون الناس صلة (وَيَبْغُونَ فِي
الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) الواو عاطفة ويبغون عطف على يظلمون وفي الأرض متعلقان
بيبغون وبغير الحق حال وأولئك مبتدأ ولهم خبر مقدم. وعذاب مبتدأ مؤخر وأليم نعت
والجملة خبر أولئك وجملة الإشارة نصب على الحال (وَلَمَنْ صَبَرَ
وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) تقدم إعراب نظيرها قريبا فجدد به عهدا ، نعم في الكلام
حذف الفاء من قوله إن ذلك وهو جواب الشرط
فالأولى جعل من موصولة مبتدأ وقوله إن ذلك خبر ، وإن واسمها واللام
المزحلقة ومن عزم الأمور خبر.
البلاغة :
١ ـ جناس المزاوجة
: في قوله «وجزاء سيئة سيئة مثلها» جناس المزاوجة اللفظي فإن السيئة الثانية ليست
بسيئة وإنما هي مجازاة عن السيئة ، سميت باسمها لقصد المزاوجة ، ومثله في البقرة
قوله تعالى «فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم» فقد تقدم القول
هناك أنه تعالى سمى جزاء الاعتداء اعتداء ليكون في نظم الكلام مزاوجة وبعضهم يعبّر
عنها بالمشاكلة وبعض المحققين لا يجعله من ذلك الباب بل يقول : إن غرضه تعالى أن
السيئة ينبغي أن تقابل بالعفو والصفح عنها فإن عدل عن ذلك إلى الجزاء كان ذلك سيئة
مثل تلك السيئة وهذا الكلام لا يخلو من نفحة صوفية روحانية.
٢ ـ التهذيب :
وفي هذه الآية فن التهذيب أيضا فإنها سلمت من المحذور الذي يقتضي تهذيبها ، وتفصيل
ذلك أنه عند ما يسند الفعل إلى الله تعالى ينبغي العدول عن إسناد الإساءة إليه كما
في قوله «يجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى» فإن صحة
المقابلة في هذا النظم أن يقال ليجزي الذين أساءوا بالإساءة حتى
تصحّ مقابلته
بقوله «ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى» لكن منع من ذلك التزام الأدب مع الله سبحانه
في إسناد فعل الإساءة إليه أو الآية التي نحن بصددها فقد أمن فيها ذلك المحذور
فأتى النظم على مقتضى البلاغة من مجيء تجنيس الازدواج فيه على وجهه من غير تغير إذ
لا ضرورة تدعو إلى تغييره.
وفي قوله «فمن
عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين»
فنّ رفيع وهو التهذيب أيضا فإن الانتصار لا يكاد يؤمن فيه تجاوز السيئة
والاعتداء خصوصا في حالة الفوران والغليان والتهاب الحمية وفي هذا جواب لمن يتساءل
ما معنى ذكر الظلم عقب العفو مع أن الانتصار ليس بظلم. ومن هذا الديباج الخسرواني
قوله تعالى «وإذا أذقنا الإنسان منّا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدّمت
أيديهم فإن الإنسان كفور» فلم يقل فإنه كفور ليسجل على هذا الجنس أنه موسوم بكفران
النعم كما سيأتي قريبا ، ومنه أيضا «وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا
أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إن الظالمين في عذاب مقيم» فوضع الظالمين موضع
الضمير الذي كان من حقه أن يعود على اسم إن فيقال ألا إنهم في عذاب مقيم فأتى هذا
الظاهر تسجيلا عليهم بلسان ظلمهم وهذا من البديع الذي يسمو على طاقات المبدعين.
الفوائد :
حذف الفاء
الرابطة : قد تحذف الفاء الرابطة في الندرة كقوله صلى الله عليه وسلم لأبيّ بن كعب
لما سأله عن اللقطة : فإن جاء صاحبها وإلا استمتع بها ، أخرجه البخاري ، أو في الضرورة
كقول حسان بن ثابت :
من يفعل
الحسنات الله يشكرها
|
|
والشر بالشرّ
عند الله مثلان
|
أراد فالله
يشكرها ، وعن المبرد أنه منع ذلك مطلقا ولكنه وارد كثيرا كقوله :
ومن لا يزل
ينقاد للغي والصبا
|
|
سيلفى على
طول السلامة نادما
|
أراد فسيلفى.
(وَمَنْ يُضْلِلِ
اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا
الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ
عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ
(٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ
يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦))
الإعراب :
(وَمَنْ يُضْلِلِ
اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) الواو عاطفة ومن شرطية في محل نصب مفعول مقدم ويضلل فعل
الشرط والله فاعله والفاء رابطة وما نافية وله خبر مقدم ومن حرف جر زائد وولي
مجرور لفظا مرفوع محلا مبتدأ مؤخر ومن بعده صفة لولي (وَتَرَى الظَّالِمِينَ
لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) تقدم أن الخطاب عام شامل لكل من تتأتى له الرؤية. وترى
فعل مضارع مرفوع والرؤية بصرية والظالمين مفعول به ولما حينية أو رابطة ورأوا
العذاب فعل ماض وفاعل ومفعول به وجملة يقولون حالية وهل حرف استفهام وإلى مرد أي
مرجع متعلقان بمحذوف خبر مقدم ومن حرف جر زائد وسبيل مجرور لفظا مرفوع محلا على
أنه مبتدأ مؤخر (وَتَراهُمْ
يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) وتراهم عطف على ترى وجملة يعرضون حالية لأن الرؤية
بصرية كما تقدم والواو نائب فاعل وعليها متعلقان بيعرضون
والضمير في عليها يعود على النار التي دلّت عليها كلمة العذاب وخاشعين حال
ثانية ومن الذل متعلقان بخاشعين أي من أجله وقد يعلق بينظرون ومن طرف متعلقان
بينظرون وخفي نعت لطرف وهل المراد بالطرف العين أو المصدر؟ كلاهما يناسب للمقام
وفي المختار :
«وطرف بصره من
باب ضرب إذا أطبق أحد جفنيه على الآخر والمرة منه طرفة يقال أسرع من طرفة عين»
وسيأتي مزيد من بحث هذا التصوير المجسّد البارع في باب البلاغة (وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ
الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) الواو حرف عطف وقال الذين آمنوا فعل وفاعل وصلة وإن
واسمها والذين خبرها وخسروا أنفسهم فعل وفاعل ومفعول به والجملة صلة وأهليهم عطف
على أنفسهم ويوم القيامة ظرف متعلق بخسروا وأجاز الزمخشري أن يتعلق بقال أي يقولون
يوم القيامة إذا رأوهم على تلك الصفة (أَلا إِنَّ
الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) ألا أداة تنبيه وإن واسمها وفي عذاب خبرها ومقيم نعت
والجملة من مقول قول الله تعالى ويحتمل أن يكون من كلامهم أيضا (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ
يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) الواو عاطفة وما نافية وكان فعل ماض ناقص ولهم خبر كان
المقدم ومن حرف جر زائد وأولياء مجرور بمن لفظا في محل رفع على أنه اسم كان المؤخر
وجملة ينصرونهم صفة لأولياء ومن دون الله حال (وَمَنْ يُضْلِلِ
اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) الواو عاطفة ومن شرطية في محل نصب مفعول مقدم ليضلل
ويضلل فعل الشرط والله فاعل والفاء رابطة لجواب الشرط وما نافية وله خبر مقدم ومن
حرف جر زائد وسبيل مجرور بمن لفظا في محل رفع مبتدأ مؤخر والمراد بالسبيل هنا
الطريق الموصل إلى الحق في الدنيا أو إلى الجنة في الآخرة.
البلاغة :
في قوله «ينظرون
من طرف خفي» تجسيد بارع وتصوير رائع لمن يقف أمام الموت الذي ينتظره والسيف مصلّت
على رأسه يرأرىء بأجفانه ويحركها تحريكا ضعيفا خفيا يمكنه من مسارقة النظر فإن من
ينظر إلى أمر مكروه يستهول أمره ويزوي ناظره عنه ، بيد أنه لا يتمالك دون أن يرمق
ما يكرهه وما يتوقع حدوثه رمقا سريعا.
(اسْتَجِيبُوا
لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما
لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا
فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا
إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ
سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨))
الإعراب :
(اسْتَجِيبُوا
لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) استجيبوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل
ولربكم متعلقان به أي أجيبوه بالتوحيد والعبادة ومن قبل متعلقان باستجيبوا أيضا
وأن وما في حيزها مضافة إلى الظرف ويوم فاعل ولا نافية للجنس ومردّ اسمها المبني
على الفتح وله خبرها ومن الله متعلقان بمرد لأنه مصدر ميمي والجملة صفة ليوم وأجاز
بعضهم تعليق من الله بيأتي أي من قبل أن يأتي من الله يوم لا يتاح لأحد ردّه (ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ
وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) ما نافية ولكم خبر مقدم ، ومن ملجإ : من حرف جر زائد
وملجإ
مجرورا لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ ويومئذ الظرف متعلق بمحذوف حال وما
لكم من نكير عطف على ما لكم من ملجإ ، واختلف في معنى النكير فقيل هو بمعنى
الإنكار كأنه مصدر أنكر على غير قياس ، واكتفى في الأساس بقوله : «وشتم فلان فما
كان عنده نكير» وجاء في القاموس ما يلى : «ونكر فلان الأمر كفرح نكرا محركة ونكرا
ونكورا بضمهما ونكيرا» فأورده مصدرا لنكر وفي التهذيب «النكير اسم الإنكار الذي
معناه التغير» ولذلك لفّق الزمخشري المعنى من كل المعاني فقال :«والنكير : الإنكار
أي ما لكم مخلص من العذاب ولا تقدرون أن تنكروا شيئا مما اقترفتموه ودوّن في صحائف
أعمالكم» وقال الزجاج : «معناه أنهم لا يقدرون أن ينكروا الذنوب التي يوقفون عليها»
(فَإِنْ أَعْرَضُوا
فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) الفاء استئنافية وإن شرطية وأعرضوا فعل ماض في محل جزم
فعل الشرط والواو فاعل والفاء رابطة وما نافية وأرسلناك فعل وفاعل ومفعول به وعليهم
متعلقان بحفيظا وحفيظا حال والمعنى وأرسلناك لتقسرهم على اتباع ما جئتهم ، والأولى
أن يكون جواب الشرط محذوفا والفاء عاطفة على الجواب المحذوف المقدّر بما يناسب
المقام أي فلا تبتئس ولا تحاول اقتسارهم (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا
الْبَلاغُ) إن نافية وعليك خبر مقدم وإلا أداة حصر والبلاغ مبتدأ
مؤخر. قيل هذا منسوخ بآيات الأمر بالجهاد (وَإِنَّا إِذا
أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها) الواو عاطفة وإن واسمها وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى
الشرط وجملة أذقناه في محل جر بإضافة الظرف إليها والإنسان مفعول به ومنّا حال
لأنه كان في الأصل صفة لرحمة وتقدمت ورحمة مفعول به أي نعمة وجملة فرح بها لا محل
لها لأنها جواب شرط غير جازم وجملة الشرط خبر إن (وَإِنْ تُصِبْهُمْ
سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) عطف على ما تقدم وإن شرطية وتصبهم فعل الشرط والضمير
يعود على الإنسان
باعتبار الجنس فجمعه باعتبار المعنى وسيئة فاعل تصبهم وبما متعلقان بتصبهم
وما موصولة وجملة قدمت أيديهم صلة والعائد محذوف أي قدمته ، وعبر بالأيدي لأن أكثر
الأعمال تزاول بها ، والفاء رابطة أو علة للجواب المقدّر والتقدير وإن تصبهم سيئة
نسوا النعمة فورا وإن واسمها وخبرها وقد ذكرنا في باب البلاغة الآنف الذكر سر وقوع
الظاهر موقع المضمر أي فإنه كفور.
(لِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً
وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً
وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠) وَما كانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ
رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ
أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا
الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا
وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣))
الإعراب :
(لِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) كلام مستأنف لبيان سعة ملكه سبحانه ، والملك بالضم
الاستيلاء على الشيء والتصرّف به
حسب المشيئة. ولله خبر مقدّم وملك السموات والأرض مبتدأ مؤخر وجملة يخلق
حال وما مفعول به ليخلق وجملة يشاء صلة (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ
إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) يهب فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره هو يعود على
الله تعالى ولمن متعلقان بيهب وجملة يشاء صلة وإناثا مفعول به ويهب لمن يشاء الذكور
عطف على الجملة الآنفة وجملة يهب لمن يشاء بدل من جملة يخلق ما يشاء بدل مفصل من
مجمل (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ
ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) أو حرف عطف ويزوّجهم فعل مضارع وفاعل مستتر يعود عليه
سبحانه ومفعول به وذكرانا وإناثا مفعول به ثان ليزوّجهم على تضمينه معنى التصيير
أي يجعل أولاده ذكورا وإناثا بدليل ما بعده ، واختار أبو البقاء والخطيب إعراب
ذكرانا وإناثا حالين ، ويجعل من يشاء عقيما عطف على ما تقدم وعقيما مفعول به ثان
حتما وإن واسمها وعليّ خبرها الأول وقدير خبرها الثاني وسيأتي المزيد من بحث هذه
الآية في باب البلاغة (وَما كانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ
رَسُولاً) الواو حرف عطف أو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لبيان
كيفية تكليم الله لعباده ، وما نافية وكان فعل ماض ناقص ولبشر خبر كان المقدم وأن
ومنصوبها اسمها وإلا أداة حصر ووحيا مصدر واقع موقع الحال أو مفعول مطلق لفعل
محذوف وأو حرف عطف ومن وراء حجاب متعلقان بمقدر معطوف على المقدّر العامل في وحيا
أي وإلا أن يكلم الله من وراء حجاب أو مسمعا من وراء حجاب ، وأو حرف عطف ويرسل
معطوف على اسم خالص من التقدير بالفعل وهو قوله وحيا فكأنه قال إلا موحيا أو مرسلا
وأن يوحي وحيا أو يرسل رسولا. وقد شغلت هذه الآية المفسرين والنحاة وسنورد لك في
باب الفوائد بحثا مسهبا في صددها (فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ
ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) فيوحي
عطف على يرسل وقد قرئا بالرفع على الاستئناف أي فهو يرسل ويوحي وبإذنه
متعلقان بيوحي والوحي هو الإلهام والإشارة السريعة وما مفعول به وجملة يشاء صلة
وإن واسمها وخبراها (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) الكاف نعت لمصدر محذوف أي مثل إيحائنا إلى غيرك وإليك
متعلقان بأوحينا وروحا مفعول به ومن أمرنا نعت لروحا وقيل حال ومن تبعيضية أي حال
كون هذا الروح وهو القرآن بعض ما نوحيه إليك لأن الموحى إليه لا ينحصر في القرآن (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا
الْإِيمانُ) الجملة حال من الكاف في إليك وما استفهامية معلقة لتدري
عن العمل في محل رفع مبتدأ والكتاب خبر والجملة في محل نصب سدّت مسدّ مفعولي تدري
ولا الإيمان عطف على الكتاب (وَلكِنْ جَعَلْناهُ
نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) الواو حالية أو عاطفة ولكن حرف استدراك مهمل وجعلناه فعل
وفاعل ومفعول به ونورا مفعول به ثان وجملة نهدي به صفة لنورا ومن مفعول به وجملة
نشاء صلة ومن عبادنا حال (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي
إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) الواو عاطفة وإن واسمها واللام المزحلقة وجملة تهدي خبر
ومفعول تهدي محذوف أي كل إنسان مكلف وإلى صراط مستقيم متعلقان بتهدي (صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) صراط الله بدل من الأول بدل المعرفة من النكرة والذي
نعت لله وبه خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وفي السموات متعلقان بمحذوف صلة وما في الأرض
عطف على ما في السموات (أَلا إِلَى اللهِ
تَصِيرُ الْأُمُورُ) ألا أداة تنبيه وإلى الله متعلقان بتصير والأمور فاعل
والمراد بالصيرورة هنا الديمومة.
البلاغة :
قد تستوعب هذه
الآيات ما يعدل الصحائف التي استغرقتها السورة بكاملها ولكننا سنوجز قدر الطاقة مع
تفادي الإخلال : ففي قوله «يهب
لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوّجهم» الآية فن صحة التقسيم وقد
تقدم الإلماع إليه وأنه استيفاء المتكلم جميع أقسام المعنى الذي هو شارع فيه بحيث
لا يغادر منه شيئا فانه سبحانه إما أن يفرد العبد بهبة الإناث ، أو بهبة الذكور ،
أو بهما جميعا ، أو لا يهبه شيئا ؛ فقد وقعت صحة التقسيم في هذه الآية على الترتيب
الذي تستدعيه البلاغة وهو الانتقال في نظم الكلام ورصفه من الأدنى الى الأعلى
فقدّم هبة الإناث وانتقل إلى هبة الذكور ثم إلى هبة المجموع ، وجاء في كل قسم من
أقسام العطية بلفظ الهبة وأفرد معنى الحرمان بالتأخير لأن إنعامه على عباده أهمّ
عنده ، وتقديم الأهم واجب في كل كلام بليغ ، والآية إنما سيقت للاعتداد بالنعم
وإنما أتى بذكر الحرمان ليتكمل التمدح بالقدرة على المنع كما يمدح بالعطاء فيعلم
أنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ، وعدل من لفظ الحرمان والمنع الى لفظ هو
ردفه وتابعه وهو لفظ الجعل ، وسيأتي ما يشبهه في سورة الواقعة مع مزيد من التفصيل
فانظره هناك.
هذا وهناك من
الطباق ما لا يخفى مما تقدم بحثه كثيرا.
الفوائد :
١ ـ قبل أن
نورد لك قاعدة نحوية هامة نورد ما قاله أعلام المفسرين والنحاة في إعراب قوله «وما
كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا» الآية.
وإليك خلاصة ما
قاله الزمخشري :
وما صحّ لأحد
من البشر أن يكلمه الله إلا على ثلاثة أوجه :
١ ـ إما على
طريق الوحي وهو الإلهام والقذف في القلب أو المنام.
٢ ـ وإما على
أن يسمعه كلامه الذي يخلقه في بعض الأجرام من غير أن يبصر السامع من يكلمه لأنه في
ذاته غير مرئي.
٣ ـ وإما على
أن يرسل إليه رسولا من الملائكة.
إلى أن يقول «ووحيا
وأن يرسل مصدران واقعان موقع الحال لأن أن يرسل في معنى إرسالا ومن وراء حجاب ظرف
واقع موقع الحال أيضا كقوله تعالى : وعلى جنوبهم والتقدير : وما صحّ أن يكلم أحدا
إلا موحيا أو مسمعا من وراء حجاب أو مرسلا» إلى أن يقول : «ومن جعل وحيا في معنى
أن يوحي وعطف يرسل عليه على معنى وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أي بأن يوحي
أو بأن يرسل فعليه أن يقدر قوله أو من وراء حجاب تقديرا يطابقهما عليه نحو أو أن
يسمع من وراء حجاب وقرىء أو يرسل رسولا فيوحي بالرفع على أو هو يرسل أو بمعنى
مرسلا عطف على وحيا في معنى موحيا».
أما عبارة
السمين : «قرأ نافع يرسل برفع اللام وكذلك فيوحي فسكنت ياؤه والباقون بنصبها فأما
القراءة الأولى ففيها ثلاثة أوجه :
١ ـ أحدها أنه
رفع على إضمار مبتدأ أي أو هو يرسل.
٢ ـ والثاني
أنه عطف على وحيا على أنه حال لأن وحيا في تقدير الحال أيضا فكأنه قال إلا موحيا
أو مرسلا.
٣ ـ الثالث أن
يعطف على ما يتعلق به من وراء إذ تقديره أو يسمع من وراء حجاب ووحيا في موضع الحال
عطف عليه ذلك المقدّر المعطوف عليه أو يرسل والتقدير إلا موحيا أو مسمعا من وراء
حجاب أو مرسلا.
وأما الثانية
ففيها ثلاثة أوجه :
١ ـ أحدها : أن يعطف على المضمر الذي يتعلق به من وراء حجاب إذ
تقديره أو يكلمه من وراء حجاب وهذا الفعل المقدّر معطوف على وحيا والمعنى إلا بوحي
أو إسماع من وراء حجاب أو إرسال رسول ولا يجوز أن يعطف على يكلمه لفساد المعنى ،
قلت إذ يصير التقدير وما كان لبشر أن يرسله الله رسولا فيفسد لفظا ومعنى ، قال
مكّي : لأنه يلزم منه نفي الرسل ونفي المرسل إليهم.
٢ ـ الثاني :
أن ينصب بأن مضمرة وتكون هي وما نصبته معطوفين على وحيا ووحيا حال فتكون هنا أيضا
حالا والتقدير إلا موحيا أو مرسلا.
٣ ـ الثالث :
أنه عطف على معنى وحيا فإنه مصدر مقدر بأن والفعل والتقدير إلا بأن يوحى إليه أو
بأن يرسل ، ذكره مكّي وأبو البقاء.
وقوله أو من
وراء حجاب ، العامة على الإفراد وابن أبي عبلة حجب جمعا وهذا الجار يتعلق بمحذوف
تقديره أو يكلمه من وراء حجاب ، وقد تقدم أن هذا الفعل معطوف على معنى وحيا أي إلا
أن يوحي أو يكلمه ، قال أبو البقاء : ولا يجوز أن يتعلق من بيكلمه الموجودة في
اللفظ لأن ما قبل الاستثناء لا يعمل فيما بعد إلا ثم قال :من متعلقة بيكلمه لأنه
ظرف والظرف يتسع فيه».
وقال أبو
البقاء : «ولا يجوز أن يكون معطوفا على أن يكلمه لأنه يصير معناه ما كان لبشر أن
يكلمه الله ولا أن يرسل إليه رسولا وهذا فاسد».
٢ ـ نصب الفعل
المضارع جوازا : ينصب الفعل المضارع جوازا بأن مضمرة بعد أحرف خمسة وهي : اللام
الجارّة إذا لم يسبقها كون ناقص ماض منفي ولم يقترن الفعل بلا فإن سبقت اللام
بالكون
المذكور وجب إضمار أن وإن قرن الفعل بلا نافية أو زائدة مؤكدة وجب إظهارها
لئلا يتوالى مثلان وهما لام كي ولام لا من غير إدغام وهو ركيك في الكلام نحو «لئلا
يكون للناس عليكم حجة» بإدغام النون في لا النافية ونحو «لئلا يعلم أهل الكتاب»
بإدغام النون في لا الزائدة المؤكدة وتسمى هذه اللام لام كي ولام العاقبة ولام
التوكيد ، والأحرف الأربعة الباقية من الأحرف الخمسة التي تضمر أن بعدها جوازا هي
الواو وأو وثم والفاء إذا كان العطف بها على اسم ليس في تأويل الفعل وهو نوعان
مصدر وغيره فغير المصدر كقول حصين بن حمام المري :
ولو لا رجال
من رزام أعزة
|
|
وآل سبيع أو
أسوءك علقما
|
فأسوءك معطوف
على رجال وهو ليس في تأويل الفعل ، ورزام حيّ من نمير ، وعلقما منادى مرخم ،
والمصدر نحو : «وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل
رسولا في قراءة غير نافع بالنصب بإضمار أن بعد أو والتقدير إلا وحيا أو إرسالا
ووحيا مصدر ليس في تأويل الفعل ، وقول ميسون بنت بجدل الكلابية زوج معاوية بن أبي
سفيان وأم ابنه يزيد :
ولبس عباءة
وتقرّ عيني
|
|
أحبّ إليّ من
لبس الشفوف
|
فتقرّ منصوب
بأن مضمرة جوازا وهي والفعل في تأويل مصدر مرفوع بالعطف على لبس بالواو العاطفة
على قولها قبله :
لبيت تخفق
الأرواح فيه
|
|
أحبّ إليّ من
قصر منيف
|
ويقال قرّت
عينه تقرّ إذا كان دمعها نادرا ولا يكون ذلك إلا في الفرح وهو مشتق من القرّ ويقال
سخنت إذا كان دمعها حارّا ولا يكون
إلا في الترح ، وقوله :
لولا توقع
معتر فأرضيه
|
|
ما كنت أوثر
أترابا على أتراب
|
فأرضيه منصوب
بأن مضمرة جوازا بعد الفاء وان وأرضى في تأويل مصدر معطوف على توقع والتقدير لو لا
توقع معتر فإرضائي إياه وتوقع ليس في تأويل الفعل والمعتر المعترض للمعروف
والأتراب جمع ترب بكسر التاء وهو من يولد معك في الوقت الذي تولد فيه فيساويك في
سنك والمعنى لولا توقع من يصرف عن فعل المعروف وإرضاؤه ما آثر الشاعر المساوي
لغيره في السن على المساوي له في سنّه ، وقول أنس بن مدركة الخثعمي :
إني وقتلي
سليكا ثم أعقله
|
|
كالثور يضرب
لما عافت البقر
|
فأعقله مضارع
عقل منصوب بأن مضمرة جوازا بعد ثم وأن وأعقله في تأويل مصدر معطوف على قتلي
والتقدير وقتلي سليكا ثم عقلي إياه وقتلي ليس في تأويل الفعل ، وسليكا بالتصغير
اسم رجل مفعول قتلي وكالثور خبر إن والمراد بالثور ذكر البقر لأن البقر تتبعه فإذا
عاف الماء عافته فيضرب ليرد الماء فترد معه واعقله من عقلت القتيل : أعطيت ديّته ،
ولأبي العلاء رأي طريف في الثور قال هو ثور الطحلب وهو الذي يعلو على الماء فيصدر
البقر عنه فيضرب به صاحب البقر ليفحص عن الماء فيشربه قال : وسمّاه بالثور وذكره
مع البقر ليلغز به على السامع ، على أن هذا محض تكلّف والصواب الأول.
سورة الزخرف
مكية وآياتها تسع
وثمانون
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(حم (١) وَالْكِتابِ
الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
(٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤) أَفَنَضْرِبُ
عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ
أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ
إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى
مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨))
الإعراب :
(حم. وَالْكِتابِ
الْمُبِينِ) حم : تقدم القول في فواتح السور معنى وإعرابا والواو
واو القسم والكتاب مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره
أقسم والمبين نعت للكتاب (إِنَّا جَعَلْناهُ
قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) إن واسمها وجملة جعلناه خبرها وجعلناه أي صيّرناه وفعل
وفاعل ومفعول به وقرآنا مفعول به ثان وعربيا نعت ولعلّ
واسمها وجملة تعقلون خبرها وجملة إنّا جعلناه جواب القسم ؛ وقد استهوى هذا
الجواب علماء البلاغة كما سيأتي. وأجاز الزمخشري أن يكون جعلناه بمعنى خلقناه جريا
على قاعدة المعتزلة في القول بخلق القرآن وسيأتي حديث عنها في باب الفوائد فيكون
قرآنا حالا من الهاء وجملة لعلكم تعقلون تعليلية لا محل لها لأن الترجّي مستعار
لمعنى الإرادة أي جعلناه قرآنا عربيا إرادة أن تعقله العرب (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا
لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) الواو عاطفة والجملة معطوفة على جواب القسم فهي بمثابة
جواب ثان وإن واسمها وفي أم الكتاب متعلقان بمحذوف خبرها والتقدير مثبت وأم الكتاب
أصل الكتب أي اللوح المحفوظ قال تعالى :«بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ» ولدينا ظرف
متعلق بمحذوف حال واللام المزحلقة وعليّ خبر ثان وحكيم خبر ثالث ، واعترض بعضهم
على هذا الإعراب لأن فيه تقديم الخبر غير المقرون باللام على المقرون بها قال أبو
البقاء : «في أم الكتاب يتعلق بعلي واللام لا تمنع من ذلك ولدينا بدل من الجار
والمجرور ويجوز أن يكون حالا من الكتاب أو من أم ولا يجوز أن يكون واحد من الظرفين
خبرا لأن الخبر قد لزم أن يكون علي من أجل اللام ولكن يجوز أن يكون كل واحد منهما
صفة للخبر فصارت حالا بتقدمها» (أَفَنَضْرِبُ
عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء عاطفة على محذوف
مقدّر بينها وبين الهمزة تقديره أنهملكم فنضرب ، ونضرب فعل مضارع مرفوع والفاعل
مستتر تقديره نحن وعنكم متعلقان بنضرب والذكر مفعول به أي القرآن وصفحا فيه أوجه
أحدها أنه مصدر مرادف لمعنى نضرب لأنه يقال ضرب عن كذا وأضرب عنه بمعنى أعرض عنه
وصرف وجهه عنه والثاني أنه منصوب على الحال من فاعل نضرب أي صافحين والثالث أنه
منصوب على أنه ظرف بمعنى الجانب من قولهم
نظر إليه بصفح وجهه كما تقول ضع هذا الكتاب جانبا وامش جانبا والرابع أنه
مفعول من أجله والمعنى أفنعزل عنكم إنزال القرآن وإلزام الحجة به إعراضا عنكم
وسيأتي مزيد من القول في هذه الآية. وأن مصدرية وقرىء بكسر الهمزة فهي شرطية فهي
ومدخولها على الأول مفعول من أجله وعلى الثاني يكون كنتم فعل الشرط والجواب محذوف
وعبارة الزمخشري : «فإن قلت كيف استقام معنى إن الشرطية وقد كانوا مسرفين على البت؟
قلت : هو من الشرط الذي ذكرت أنه يصدر عن المدلّ بصحة الأمر المتحقق لثبوته كما
يقول الأجير : إن كنت عملت لك فوفّني حقّي وهو عالم بذلك ولكنه يخيل في كلامه أن
تفريطك في الخروج عن الحق فعل من له شك في الاستحقاق مع وضوحه استجهالا له» وكنتم
: كان واسمها وقوما خبرها ومسرفين نعت (وَكَمْ أَرْسَلْنا
مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ) كم خبرية في محل نصب مفعول مقدّم لأرسلنا ومن نبي تمييز
لكم الخبرية وفي الأولين متعلقان بأرسلنا (وَما يَأْتِيهِمْ
مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) الواو عاطفة وما نافية ويأتيهم فعل مضارع مرفوع ومفعول
به مقدم ومن حرف جر زائد ونبي مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه فاعل وإلا أداة حضر
وكان واسمها وبه متعلقان بيستهزئون وجملة يستهزئون خبر كانوا (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً
وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) الفاء الفصيحة وأهلكنا فعل وفاعل وأشد مفعول به ومنهم
متعلقان بأشد وبطشا تمييز على الأرجح وقيل حال من فاعل أهلكنا أي باطشين وأراه محض
تكلّف ، ومضى عطف على فأهلكنا ومثل الأولين فاعل مضى.
البلاغة :
١ ـ القسم في
قوله «والكتاب المبين إنّا جعلناه» الآية فن التناسب ، فقد أقسم بالقرآن وإنما
يقسم بعظيم ثم جعل المقسم عليه
تعظيم القرآن بأنه قرآن عربي مرجو له أن يعقل به العالمون فكان جواب القسم
مصححا للقسم وتم التناسب بين القسم والمقسم به لأنهما من واد واحد ، وقد تعلق
الشعراء بأذيال هذه البلاغة العالية فأقسم أبو تمام بالثنايا إذ قال :
وثناياك إنها
إغريض
|
|
ولآل توم
وبرق وميض
|
وأقاح منوّر
في بطاح
|
|
هزّه في
الصباح روض أريض
|
وارتكاض
الكرى بعيني
|
|
ك في النوم
فنونا وما لعيني غموض
|
فقد أقسم أبو
تمام بالثنايا وهي مقدم أسنانها أنها أغريض فالقسم وجوابه متعلقان بشيء واحد ،
والإغريض ـ كما في الصحاح ـ الطلع وكل أبيض طري ، والتوم واحدة تومة وهي حبة تعمل
من الفضة كالدرة.
٢ ـ الاستعارة
: وفي قوله «وإنه في أم الكتاب» استعارة تصريحية ، وقد استعير لفظ الام للأصل وهو
المشبه المحذوف لأن الأولاد تنشأ من الام كما تنشأ الفروع من الأصول وحكمة ذلك
تمثيل ما ليس بمرئي حتى يصير مرئيا ولم تفد هذه الاستعارة سوى الظهور لأن الام
أظهر للحس من الأصل.
الفوائد :
١ ـ فتنة خلق
القرآن : كانت المعتزلة تقول بنفي صفات المعاني عن الله تعالى ، ومنها الكلام ،
لأن إثباتها يؤدي إلى التشبيه وإلى تعدّد القديم وذلك ينافي التوحيد وكان من
النتائج اللازمة لذلك أن قالوا : بأن القرآن كلام الله مخلوق ، قال صاحب المواقف :
«قالت المعتزلة : كلامه تعالى أصوات وحروف لكنها ليست قائمة بذاته بل يخلقها الله
في غيره كاللوح المحفوظ أو جبريل أو النبي وهو حادث» وليست المعتزلة أول
من قال بخلق القرآن ، كما أنهم ليسوا أول من أنكر الصفات ، بل إن أول من
عرف بالقول بخلقه الجعد بن درهم بدمشق ، وهو مؤدب مروان بن محمد آخر خلفاء بني
أمية وأخذ عنه ذلك القول جهم بن صفوان الترمذي زعيم فرقة الجهمية الجبرية فقال
بخلقه إذ أن الجهمية تنكر الصفات وذكروا أن بشر بن غياث المريسي ، وهو زعيم
المريسية من فرق المرجئة ، قال أيضا بخلق القرآن في عصر الرشيد ونهاه أبو يوسف عن
ذلك فلم ينته فهجره وطرده من مجلسه وقال : لا تنتهي أو تفسد خشبة ـ يريد الصلب ـ ولما
بلغ ذلك الرشيد قال عليّ إن أظفرني الله به أن أقتله وظل بشر مختفيا طول خلافة
الرشيد ولم يظفر به مع شدّة طلبه له ، وذكروا أيضا أن حفصا الفرد ، وهو من أكابر
المجبرة ، قال بذلك القول وأن الشافعي ناظره وكفّره ، وكان الناس في تلك المسألة ،
في عصر الرشيد ، بين أخذ وترك حتى ولي المأمون فقال بخلقه وكان من أشد نصراء
الاعتزال ، ويطول بنا القول إن عمدنا إلى نقل مجريات هذه الفتنة فارجع إليها في
مظانها الكثيرة إن شئت.
على أننا لا
نمرّ بهذا البحث دون أن نشير إلى محنة الإمام أحمد بن حنبل لذيوعها فنقول : أحضر
المعتصم الإمام أحمد وعقد له مجلسا للمناظرة وفيه عبد الرحمن بن إسحق والقاضي أحمد
بن داود وغيرهما فناظروه ثلاثة أيام ولم يزل معهم في جدال إلى اليوم الرابع فأمر
المعتصم بضربه بالسياط ، ولم يحل عن رأيه إلى أن أغمي عليه ونخسه عجيف بن عنبسة
بالسيف ورمى عليه بارية (وهي الحصير المنسوج) وديس عليه ثم حمل إلى منزله بعد أن
ضرب ثمانية وثلاثين سوطا وكانت مدة مكثه في السجن ثمانية وعشرين شهرا وارجع إلى
تاريخ الطبري ووفيات الأعيان ومروج الذهب لتقرأ العجيب من أخبار هذه الفتنة.
٢ ـ وعدناك بأن
نتحدث إليك عن أسلوب القرآن فنقول :
احتوى القرآن
على ألفاظ كثيرة وصفها بعض الصحابة والتابعين أنها من غير لغة العرب ، كما ألّف
العلماء في ذلك كتبا خاصة ، ووجود المعرب في القرآن قضية علمية اختلف حولها
العلماء اختلافا كبيرا على رأيين ، أحدهما :
الرأي الأول :
وجود المعرب في القرآن وإلى ذلك ذهب بعض الصحابة والتابعين والعلماء منهم ابن عباس
ووهب بن منبّه وابن مسعود وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وعطاء والضحاك والسدي وأبو
عمران الجويني وعمرو بن شرحبيل وأبو موسى الأشعري والزمخشري وابن الحاجب والسيوطي
وغيرهم.
الرأي الثاني :
أن القرآن لا يحتوي على غير العربي من الألفاظ وهو مذهب كثير من العلماء ومنهم
الإمام الشافعي وأبو عبيدة وابن فارس وابن جرير الطبري والباقلاني والرازي وغيرهم.
وليس مما يفيد
كثيرا أن نعرض التفاصيل لكلا الرأيين وأدلتهما والردّ عليهما وإنما المفيد في ذلك
فهم الأمور الآتية :
١ ـ أن
الدارسين المتأخرين قد ارتضوا الرواية التالية عن أبي عبيد القاسم بن سلام وكأنما
وجدوا فيها حلا للقضية وخروجا من هذا الخلاف والرواية هي : قال أبو عبيد : وروي عن
ابن عباس ومجاهد وعكرمة وغيرهم في أحرف كثيرة أنه من غير لسان العرب مثل (سجيل
والمشكاة واليم والطور وأباريق واستبرق) وغير ذلك فهؤلاء أعلم بالتأويل من أبي
عبيدة ولكنهم ذهبوا إلى مذهب ، وذهب هذا إلى غيره وكلاهما مصيب إن شاء الله تعالى.
وذلك أن هذه
الحروف بغير لسان العرب في الأصل فقال أولئك
على الأصل ثم لفظت به العرب بألسنتها فعربته فصار عربيا إياه فهي عربية في
هذه الحال ، أعجمية الأصل فهذا القول يصدق على الفريقين جميعا.
وقد أورد هذه
الرواية الجواليقي بعد أن أورد قول عبيدة : من زعم أن في القرآن لسانا سوى العربية
فقد أعظم على الله القول واحتجّ بقوله تعالى : «إنّا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم
تعقلون» ثم نقل هذه الرواية من جاء بعد الجواليقي ودرس موضوع التعريب في القرآن
كالسيوطي وغيره.
٢ ـ إنه سواء أكانت
الألفاظ الواردة في القرآن من لغات أخرى أعجمية باعتبار الأصل عربية باعتبار الحال
أو أعجمية باعتبار الأصل والحال فإن ورودها في القرآن يدل على أن العرب قد فهموها
وتقبلوها وفهمهم لها يدل على شيوعها بينهم من قبل أن يأتيهم بها وهذا يثبت ما نحن
بصدده من وجود الألفاظ المنقولة من لغات أخرى في الجاهلية ومن استمرار ذلك حين جاء
الإسلام.
٣ ـ يبدو أن
الذين رفضوا وجود المعرب في القرآن سيطر عليهم الوازع الديني أكثر من تقرير الواقع
اللغوي ولذلك فإن السيوطي حين أورد هذه الألفاظ في كتابيه «المتوكلي فيما في
القرآن من المعرب» و «المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب» ساق بين يديها أسانيد
نسبتها إلى الصحابة والتابعين كأنما يتحرز هو أيضا من القول بذلك بنفسه وقد عدّد
اللغات المنقول عنها تلك الألفاظ فأوصلها إلى عشر وهي الحبشية والفارسية والرومية
والهندية والسريانية والعبرانية والنبطية والقبطية والتركية والزنجية والبربرية.
(وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ
الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ
لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ
(١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ
وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا
نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي
سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا
لَمُنْقَلِبُونَ (١٤))
اللغة :
(بِقَدَرٍ) بمقدار أي يؤدي ما تحتاجون إليه فلا يكون قليلا لا ينفع
ولا يكون كثيرا فيؤذي ويضرّ.
(فَأَنْشَرْنا) أحيينا ، وفي المصباح : «نشر الموتى نشورا حيوا ،
ونشرهم الله يتعدى ولا يتعدى ويتعدى بالهمزة أيضا فيقال أنشرهم الله ونشرت الأرض
نشورا أيضا حييت وأنبتت ويتعدى بالهمزة فيقال أنشرتها إذا أحييتها بالماء».
(مُقْرِنِينَ) مطيقين يقال أقرن الشيء إذا أطاقه ، قال ابن هرمة :
وأقرنت ما
حملتني ولقلما
|
|
يطاق احتمال
الصدّ يا دعد والهجر
|
قال الزمخشري :
«وحقيقة أقرنه وجده قرينته وما يقرن به لأن
الصعب لا يكون قرينة للضعيف» وقال الأخفش وأبو عبيدة : «مقرنين ضابطين وقيل
مماثلين في الأيدي والقوة من قولهم هو قرن فلان إذا كان مثله في القوة ويقال فلان
مقرن لفلان أي ضابط له وأقرنت كذا أي أطقته وأقرن له أي أطاقه وقوي عليه كأنه صار
له قرنا قال الله تعالى :«وما كنّا له مقرنين» أي مطيقين ، وقال آخرون : وفي أصله
قولان أحدهما أنه مأخوذ من الأقران يقال أقرن يقرن إقرانا إذا أطاق أو أقرنت كذا
إذا أطقته وأحكمته كأنه جعله في قرن وهو الحبل فأوثقه به وشده والثاني أنه مأخوذ
من المقارنة وهو أن يقرن بعضها ببعض في حبل تقول : قرنت كذا بكذا إذا ربطته به
وجعلته قرينه.
الإعراب :
(وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وإن شرطية وسألتهم فعل
ماض مبني على السكون لاتصاله بضمير رفع متحرك والتاء فاعل والهاء مفعول به (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) من اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة خلق السموات
والأرض خبر والجملة الاستفهامية في محل نصب مفعول ثان لسألتهم المعلقة عن العمل
بالاستفهام (لَيَقُولُنَّ
خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) اللام واقعة في جواب القسم لأنه المتقدم كما هي القاعدة
ويقولنّ فعل مضارع مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال وقد تقدمت له نظائر
والواو المحذوفة فاعل والنون للتوكيد ولو كان مجزوما لكان الحذف للجازم لا لتوالي
الأمثال وجملة خلقهنّ مقول القول وكرر الفعل للتأكيد والعزيز فاعل والعليم صفة
وسيأتي مزيد من بحث هذه الآية في باب البلاغة (الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) اسم الموصول صفة ثانية أو بدل وجملة جعل صلة ولكم
متعلقان بجعل على أنها بمعنى خلق وإن كانت بمعنى صير
فيكون متعلقا بمحذوف حال والأرض مفعول به أول ومهدا مفعول به ثان أو حال (وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) عطف على ما تقدم ولكم متعلقان بجعل أو في موضع المفعول
الثاني وفيها حال وسبلا مفعول به (لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ) لعل واسمها وجملة تهتدون خبرها (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً
بِقَدَرٍ) عطف على الموصول الأول وجملة نزل صلة ومن السماء
متعلقان بنزل وماء مفعول به وبقدر في موضع نصب على الحال (فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً
كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) الفاء عاطفة وأنشرنا عطف على نزل ، وفيه التفات سيأتي
سره في باب البلاغة ، وبه متعلقان بأنشرنا وبلدة مفعول به وميتا صفة لبلدة وكذلك
صفة لمصدر محذوف وتخرجون فعل وفاعل (وَالَّذِي خَلَقَ
الْأَزْواجَ كُلَّها) عطف أيضا وجملة خلق الأزواج صلة وكلها تأكيد (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ
وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) عطف على خلق الأزواج داخل في حيز الصلة ولكم في موضع
المفعول الثاني ومن الفلك حال والأنعام عطف على الفلك وما موصول مفعول به وجملة
تركبون صلة والعائد محذوف أي ما تركبونه وسيأتي بحث عن فعل الركوب في باب الفوائد (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ
تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) اللام للتعليل والجار والمجرور متعلقان بجعل وتستووا
فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والواو فاعل وعلى ظهوره متعلقان بتستووا ، ثم
حرف عطف وتذكروا عطف على تستووا ونعمة ربكم مفعول تذكروا وإذا ظرف مستقبل متعلق
بجوابه المحذوف والمدلول عليه بتذكروا وجملة استويتم في محل جر بإضافة الظرف إليها
وعليه متعلقان باستويتم وذكر الضمير في ظهوره نظرا للفظ ما كما جمع الظهور لذلك (وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ
لَنا هذا) وتقولوا عطف على ما تقدم وسبحان مفعول مطلق لفعل محذوف
والذي مضاف إليه وجملة سخر صلة ولنا متعلقان بسخر وهذا مفعول به (وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) الواو للحال وما نافية وكان واسمها وله متعلقان بمقرنين
ومقرنين
خبر كنا (وَإِنَّا إِلى
رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) الواو حالية أيضا وسيأتي سرّ هذا الحال في باب البلاغة
وإن واسمها وإلى ربنا متعلقان بمنقلبون واللام المزحلقة ومنقلبون خبر إن.
البلاغة :
انطوت هذه
الآيات على أفانين من البلاغة نوجزها فيما يلي :
١ ـ فأول فن
فيها هو الحذف ، فقد حذف الموصوف وهو الله تعالى وأقام صفاته مقامه لأن الكلام
مجزأ فبعضه من قولهم وبعضه من قول الله تعالى فالذي هو من قولهم خلقهنّ وما بعده
هو من قول الله تعالى وأصل الكلام أنهم قالوا خلقهنّ الله بدلالة قوله في آية أخرى
: ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولنّ الله ثم لما قالوا خلقهنّ الله وصف
الله تعالى ذاته بهذه الصفات وأقيمت مقام الموصوف كأنه كلام واحد ونظير هذا أن
تقول للرجل : من أكرمك من القوم؟ فيقول أكرمني زيد فتقول أنت واصفا له : الكريم
الجوّاد المفضال الذي من صفته كذا وكذا.
٢ ـ الالتفات :
والفن الثاني هو الالتفات فإنه لما وقع الانتقال من كلامهم إلى كلام الله عزّ وجلّ
جاء أوله على لفظه الغيبة وآخره على الانتقال منها إلى التكلم في قوله فأنشرنا
افتنانا في أفانين البلاغة ولتسجيل المنّة على عباده وقرع أسماعهم بها ومن هذا
النمط في القرآن كثير.
٣ ـ سرّ الحال
: والسر في قوله «وإنا إلى ربنا لمنقلبون» أنه كم من راكب دابة عثرت به أو شمست أو
طاح عن ظهرها فهلك وكم من راكبين في سفينة انكسرت بهم ففرقوا فلما كان الركوب بحد
ذاته أمرا شديدا لخطورة مجهول المغبة والراكب مستهدف لأنواع المتالف
وصنوف المخاطر كان من حقه أن لا ينسى أنه هالك لا محالة ، وأنه منقلب إلى
الله ، ولن يتاح له الإفلات من قضائه إذا حمّ ، ومن قدره إذا حلّ ، والغاية من كل
ذلك أن يكون منتبها إلى نفسه ، غير مؤثر لدنياه على آخرته.
الفوائد :
من الأسرار
التي تدق على الأفهام ، مباحث تعدية الأفعال ؛ فالعرب يعدّون الفعل الواحد مرة
بنفسه ومرة بواسطة ، مثل سكرت وأخواته ويعدّون الأفعال المترادفة بآلات مختلفة مثل
دعوت وصلّيت فإنك تقول : صلى النبيّ على آل أبي أوفى ولو قلت : دعا على آل أبي
أوفى لأفهم عكس المقصود ولكن دعا لآل أبي أوفى ، ويعدّون بعضهما إلى مفعولين
ومرادفه إلى مفعول واحد كعلم وعرف فلا يترتب على الاختلاف بالتعدّي والقصور والاختلاف
في المعنى ، ويستنتج من هنا أن ركب باعتبار القبيلين معناه واحد وإن خصّ أحدهما
باقتران الواسطة والآخر بسقوطها فالصواب أحد الأمرين ، أما تقدير المتعلقين على ما
هما عليه لو انفردا فيكون التقدير ما تركبونه وتركبون فيه والأقرب تعليله باعتبار
التعدّي بنفسه ويكون هذا من تغليب أحد اعتباري الفعل على الآخر وهو أسهل من
التغليب في قوله تعالى «فأجمعوا أمركم وشركاءكم» على أحد التأويلين فيه فإن
التباين ثم ثابت بين الفعلين من حيث المعنى أعني جمع الأمر وجمع الشركاء ولكن لما
تقاربا غلب أحدهما على الآخر ثم جعل المغلب هو المتعدي بنفسه.
(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ
عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا
يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما
ضَرَبَ
لِلرَّحْمنِ
مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي
الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ
الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ
شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩))
اللغة :
(جُزْءاً) قال في القاموس : «الجزء : البعض ويفتح والجمع أجزاء
وبالضم موضع ورمل ، وجزأه كجعله : قسّمه أجزاء كجزّأه ، وبالشيء اكتفى كاجتزأ
وتجزأ ، والشيء شدّه ، والإبل بالرطب عن الماء : قنعت كجزئت بالكسر ، وأجزأتها أنا
وجزّأتها ، وأجزأت عنك مجزأ فلان ومجزأته ، ويضمّان : أغنيت عنك مغناه ، والمخصف
جعلت له جزأة أي نصابا ، والخاتم في إصبعي أدخلته ، والمرعى التفّ نبته ، والأم
ولدت الإناث ، وشاة عنك : قضت لغة في جزت ، والشيء إياي : كفاني ، والجوازئ الوحش.
«وجعلوا له من عباده جزءا» أي إناثا» وأنكره الزمخشري وقال إنه اصطناع لا لغة
وفيما يلي نص عبارته : ومعنى من عباده جزءا أن قالوا : الملائكة بنات الله فجعلوهم
جزءا له وبعضا منه كما يكون الولد بضعة من والده وجزءا له ، ومن بدع التفاسير
تفسير الجزء بالإناث وادّعاء أن الجزء في لغة العرب اسم للإناث وما هو إلا كذب على
العرب ووضع مستحدث متحوّل ، ولم يقنعهم ذلك حتى اشتقوا منه أجزأت المرأة ثم صنعوا
بيتا :
إن أجزأت حرة
يوما فلا عجب
|
|
زوجتها من
بنات الأوس مجزئة
|
قد يكون
للزمخشري عذره في استبعاد هذا التفسير ، ولكن عذره يصبح معدوما عند ما نذكر أن
الزجّاج والمبرّد هما اللذان روياه وهما
إماما اللغة العربية وحافظاها ومن إليهما المنتهى في معرفتها.
(الْحِلْيَةِ) الزينة.
الإعراب :
(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ
عِبادِهِ جُزْءاً) الواو عاطفة على رأي الزمخشري لأنه جعل الكلام متصلا
بقوله : ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض أي وقد جعلوا له مع ذلك الاعتراف من
عباده جزءا فوصفوه بصفات المخلوقين ولك أن تجعلها مستأنفة. وجعلوا فعل وفاعل
والجعل هنا بمعنى التصيير وله في موضع المفعول الثاني ومن عباده حال وجزءا مفعول
جعلوا الأول (إِنَّ الْإِنْسانَ
لَكَفُورٌ مُبِينٌ) إن واسمها واللام المزحلقة وكفور خبر إن ومبين صفة أي
مظهر لكفره (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا
يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ) أم متصلة معطوف على استفهام محذوف المقصود منه الإنكار
والتوبيخ والتقدير أتقولون أم اتخذ وقال بعضهم منقطعة بمعنى بل وقال آخرون بهما
معا وكل صحيح وقد تقدم القول مطولا في أم. واتخذ فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو
ومما متعلقان بمحذوف هو مفعول اتخذ الثاني وجملة يخلق صلة وبنات مفعول اتخذ الأول
وأصفاكم عطف على اتخذ وبالبنين متعلقان بأصفاكم (وَإِذا بُشِّرَ
أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير ما تقدم
وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وبشّر فعل ماض مبني للمجهول وأحدهم نائب فاعل
وبما متعلقان ببشر وجملة ضرب صلة وضرب متضمن معنى جعل فيتعلق للرحمن بمحذوف في
موضع المفعول الثاني ومثلا مفعول ضرب الأول (ظَلَّ وَجْهُهُ
مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) ظل فعل ماض ناقص ووجهه اسمها ومسودّا خبرها والجملة لا
محل لها لأنها جواب شرط غير جازم والواو حالية وهو مبتدأ وكظيم خبر والجملة حالية (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ
وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ)
الهمزة للاستفهام الإنكاري والواو حرف عطف عطفت الجملة على جملة مقدرة أي يجترئون
ويبلغون أبعد الآماد في سوء الأدب ويجعلون لله من ينشّؤ في الحلية ، فمن موصول
مفعول به لفعل محذوف وقيل هي مبتدأ خبره محذوف تقديره جزءا وولدا ، وجملة ينشّؤ
صلة وينشّؤ مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر يعود على من ، وفي الحلية متعلقان
بينشّؤ ، وفي الخصام متعلقان بمبين ، وغير مبين خبر هو والجملة حالية وعبارة أبي
البقاء : «فإن قلت المضاف إليه لا يعمل فيما قبله قيل إلا في غير لأن فيها معنى
النفي فكأنه قال : وهو لا يبين في الخصام ومثله مسألة الكتاب : أنا زيدا غير ضارب
وقيل ينتصب بفعل يفسره ضارب وكذا في الآية» وقيل هو من باب «على لا حب لا يهتدي
بناره» أي لا منار له فيهتدي به أي لا يكون منها خصام وليس ببعيد. (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ
هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) الواو عاطفة وجعلوا فعل وفاعل والملائكة مفعول جعلوا
الأول والذين نعت وهم مبتدأ وعباد الرحمن خبره والجملة صلة الذين وإناثا مفعول
جعلوا الثاني (أَشَهِدُوا
خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) السين حرف استقبال وسيأتي سره في باب البلاغة وتكتب فعل
مضارع مبني للمجهول وشهادتهم نائب فاعل ويسألون عطف على ستكتب.
البلاغة :
معنى الاستقبال
: إنما ضجّ إلى الاستقبال فأتى بالسين الدّالة عليه ليتضمن الكلام معنى انفساح
الوقت للتوبة وبناء الرجاء على الاستعطاف لقبولها قبل كتابة ما قالوا جريا على ما
كانوا يعتقدون من تفضيل الذكور على الإناث ونسبة شرّ الجزأين وهو الإناث إلى الله
، وفي هذا منتهى التسفيه لآرائهم لأنهم تجنّوا على نصفنا الثاني فنسبوا إليه الشرّ
ونقصان العقل ثم تجنّوا على خالقهم بنسبتهم هذا الجزء
الذي هو شر إليه ، وعن بعض العرب أن امرأته وضعت أنثى فهجر البيت الذي فيه
المرأة فقالت :
ما لأبي حمزة
لا يأتينا
|
|
يظل في البيت
الذي يلينا
|
غضبان أن لا
نلد البنينا
|
|
ليس لنا من
أمرنا ماشينا
|
وإنما نأخذ
ما أعطينا
|
|
حكمة ربي ذي
الجلال فينا
|
(وَقالُوا
لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ
إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ
مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا
عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي
قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى
أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ
بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ
بِهِ كافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الْمُكَذِّبِينَ (٢٥))
اللغة :
(يَخْرُصُونَ) في المصباح : «وخرص الكافر خرصا من باب قتل كذب فهو
خارص» وفي القاموس والتاج «الخراص : الكذاب» وللخاء والراء فاء وعينا للكلمة سر
عجيب أنهما تدلّان على المهانة والاستقذار وإحداث الأثر السيّء : فخرئ خرءا وخراءة
وخروءا تغوط وسلح يقال :خرئت بينهم الضبع أي دخلت بينهم العداوة والمخراة والمخرأة
:
المكان الذي يخرأ فيه والجمع مخارئ ، وخرب البيت ضد عمر وخرب الرجل : صار
مشقوق الأذن أو مثقوبها فهو أخرب وهي خرباء ، وخربش الكتاب أو العمل : أفسد ، وهي
من العامي الفصيح ، وخربص أيضا بمعنى أخذ المال وذهب به عامية فصيحة أيضا ، وخرت الأذن
: ثقبها وخرّت الأرض عرفها ولم تخف عليه طرقها لأنه ذهب في أرجائها وخرب في
أكنافها ، والخرثاء من صفات المرأة المستقبحة فهي الضخمة الخاصرتين المسترخية
اللحم ، والخرتي بضم الخاء أردأ المتاع وسقطه وخرتي الكلام ما لا خير فيه ، وخرج
برز وهو معروف والخراج الولّاج بالتشديد كثير الخروج والولوج والخراج مثلثة الخاء
الأتاوة وأصله ما يخرج من غلة الأرض والمال والخراج بضم الخاء كل ما يخرج بالبدن
كالدمل والخارجي : من خلف السلطان والجماعة ومنه سمّيت الخوارج وهم سبع فرق من
كبار الفرق الإسلامية ، وخرخر النائم : غطّ ، والخريدة اللؤلؤة التي لم تثقب ،
والخرور معروف وفيه مهانة لصاحبه ، والخرازة مهنة ممتهنة وأخرسه الله معروف
وأطعموا النفساء خرستها وهو طعامها خاصة وقد خرّست فتخرّست قال :
فلله عينا من
رأى مثل مقبسي
|
|
إذا النفساء
أصبحت لم تخرّس
|
ورماه الله
بخرساء وهي الداهية قال الأخطل :
وكم أنقذتني
من جرور حبالكم
|
|
وخرساء لو
يرمى بها الفيل تلبّدا
|
وأصلها الأفعى
، قال عنترة :
عليهم كل
محكمة دلاص
|
|
كأن قتيرها
أعيان خرس
|
ورأيت عليه
قميصا مثل خرشاء الحية رقة وصفاء وهو سلحها وهو يلقي من صدره خراشيّ منكرة وهي
النخامة والبلغم ، وخرط الورق قشره عن الشجرة اجتذابا له ووسمه على الخرطوم أذله
وهم خراطيم القوم وشرب الخرطوم : السلامة لأنها أول ما ينعصر ، قال الأخطل :
جادت بها من
ذوات القار مترعة
|
|
كلفاء ينحتّ
عن خرطومها المدر
|
وفي العود خرع
أي لين ورخاوة ومنه قيل للفاجرة الخريع قال :
يزيد جمال
الدّل منها رزانة
|
|
وحلم إذا خفّ
النساء الخرائع
|
وهو رخو
كالخروع ، وخرف الثمار اجتناها وأخرفي لنا يا جارية ، وخرق الثوب وخرّقه : وسّع
شقّه وانخرق وتخرّق واتسع الخرق على الراقع وشاة خرقاء مثقوبة الأذن وقد خرق في
عمله وفيه خرق وهو أخرق وهي خرقاء ، وخرم الشيء خرقه واخترمهم الدهر وتخرمهم ، قال
أبو ذؤيب الهذلي :
سبقوا هوى
وأعنقوا لهواهم
|
|
فتخرّموا
ولكل جنب مصرع
|
وهذا من أعاجيب
لغتنا الشريفة.
(أُمَّةٍ) طريقة تؤم وتقصد وتكسر همزتها.
الإعراب :
(وَقالُوا لَوْ شاءَ
الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) كلام مستأنف مسوق لبيان نوع آخر من أنواع كفرهم ،
وقالوا فعل وفاعل ولو شرطية وشاء الرحمن فعل وفاعل والمفعول به محذوف وكثير حذفه
بعد فعل المشيئة كما تقدم أي لو شاء عدم عبادة الملائكة ما عبدناهم وما نافية
وعبدناهم فعل وفاعل ومفعول به والجملة لا محل لها لأنها واقعة في جواب لو (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ
هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) ما نافية ولهم خبر مقدم وبذلك حال لأنه كان في الأصل
صفة ومن حرف جر زائد وعلم مبتدأ مؤخر ولك أن تجعل ما حجازية على رأي من يجيز تقديم
خبرها على اسمها وإن نافية وهم مبتدأ وإلا أداة حصر ويخرّصون فعل مضارع مرفوع (أَمْ آتَيْناهُمْ
كِتاباً
مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) أم حرف عطف معادل للاستفهام في قوله اشهدوا خلقهم فهي
متصلة وقال بعضهم أم منقطعة بمعنى همزة الاستفهام الإنكاري كأنه بعد أن نفى حجتهم
العقلية أضرب عن الكلام إلى نفي حجتهم النقلية ورجح الشهاب الخفاجي هذا الوجه
لبعده عن قوله شهدوا (بَلْ قالُوا إِنَّا
وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) بل حرف عطف وإضراب وقالوا فعل وفاعل وإن واسمها وجملة
وجدنا آباءنا خبرها وجملة إن واسمها وخبرها مقول قولهم وعلى أمة في موضع المفعول الثاني
لوجدنا (وَإِنَّا عَلى
آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) الواو عاطفة وإن واسمها وعلى آثارهم متعلقان بمهتدون
ومهتدون خبرها وقيل على آثارهم هو الخبر أي ماشون ومهتدون خبر ثان ولعله أولى (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ
فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ) الواو عاطفة وكذلك نعت لمصدر محذوف وقد تقدمت له نظائر
وما نافية وأرسلنا فعل وفاعل ومن قبلك متعلقان بأرسلنا ، في قرية متعلقان بمحذوف
حال ومن حرف جر زائد ونذير مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول أرسلنا (إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا
وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) إلا أداة حصر والاستثناء من أعمّ الأحوال وقال مترفوها
فعل وفاعل وما بعده تقدم إعرابه (قالَ أَوَلَوْ
جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ) قال فعل ماض والفاعل ضمير مستتر تقديره هو والهمزة
للاستفهام والواو حالية والتقدير أتقتدون بآبائكم ولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه
آباءكم من الضلالة ولو شرطية وجئتكم فعل وفاعل ومفعول به وبأهدى متعلقان بجئتكم
وسيأتي سرّ التفضيل في باب البلاغة ومما متعلقان بأهدى وجملة وجدتم صلة وعليه
متعلقان بوجدتم (قالُوا إِنَّا بِما
أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) قالوا فعل وفاعل وإن واسمها وبما متعلقان بكافرون وجملة
أرسلتم صلة الموصول وبه متعلقان بأرسلتم وكافرون خبر إنّا (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ
كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) الفاء حرف عطف وانتقمنا فعل وفاعل ومنهم متعلقان
بانتقمنا ، فانظر الفاء
عاطفة وانظر فعل أمر وفاعله مستتر تقدره أنت وكيف اسم استفهام في محل نصب
خبر مقدّم لكان وكان فعل ماض ناقص وعاقبة المكذبين اسمها المؤخر.
البلاغة :
في قوله «قال
أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنّا بما أرسلتم به كافرون» فن
الإلجاء وهو أن يبادره المتكلم الخصم بما يلجئه إلى الاعتراف بحقيقة نفسه ودخيلة
قلبه ، فالتعبير في الآية بالتفضيل المقتضي أن ما عليه آباؤهم فيه هداية لم يكن
إلا لإلجائهم إلى الاعتراف بحقيقة نيّاتهم التي يضمرونها كأنه يتنزل معهم إلى أبعد
الحدود ويرخي لهم العنان إلى أقصى الآماد ليعترفوا بالتالي بمكابرتهم التي لا تجدي
معها المناصحة في القول ولا ينفع في تذليلها الإتيان بالحجّة.
(وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ
الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي
عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى
جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا
سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ
عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ
رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ
دَرَجاتٍ
لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا
يَجْمَعُونَ (٣٢))
اللغة :
(بَراءٌ) بفتح الباء وألف وهمزة بعد الراء وهو مصدر في الأصل وقع
موقع الصفة ولذلك استوى فيه المذكر والمؤنث والواحد والاثنان والجماعة وفي المختار
: «وتبرأ من كذا فهو براء منه بالفتح والمدّ لا يثنى ولا يجمع لأنه مصدر كالسماع»
وفي القاموس : «وأنا براء منه لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث أي بريء».
(عَقِبِهِ) ذريته وفي القاموس : «العقب : الجري بعد الجري والولد
وولد الولد كالعقب ككتف».
(سُخْرِيًّا) بضم السين نسبة إلى السخرة وهي العمل بلا أجرة وفي
القاموس «وسخره كمنعه سخريا بالكسر ويضم كلّفه ما لا يريد وقهره» وقد تقدم شرحها
ويبعد أن تكون من السخرية التي هي الاستهزاء والتهكم خلافا لمن قال إنها من
السخرية التي هي بمعنى الاستهزاء أي ليستهزئ الغني بالفقير.
الإعراب :
(وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لتذكير العرب بحال
جدّهم الأعلى ، والظرف متعلق باذكر محذوفا وجملة قال إبراهيم في محل جر بإضافة
الظرف إليها ولأبيه متعلقان بقال وقومه عطف على أبيه وجملة إنني برآء في محل نصب
مقول للقول ومما متعلقان ببراء وجملة تعبدون صلة ما (إِلَّا الَّذِي
فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) إلا أداة استثناء والذي مستثنى والاستثناء
منقطع كأنه قال لكن الذي فطرني فإنه سيهدين ويجوز أن يكون الاستثناء متصلا
بناء على أنهم كانوا يسركون مع الله الأصنام ، وأجاز الزمخشري وغيره أن تكون إلا
صفة بمعنى غير على أن «ما» في ما تعبدون موصوفة تقديره إنني برآء من آلهة تعبدونها
غير الذي فطرني فهو نظير قوله تعالى «لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا» ورجح أبو
حيان انقطاع الاستثناء إذ كانوا لا يعبدون الله مع أصنامهم. وجملة فطرني صلة
للموصول والفاء تعليلية وإن واسمها وجملة سيهدين خبرها والسين للتأكيد لا
للاستقبال أي يديم هدايتي لأنه تعالى هاديه في المستقبل والحال والمفعول به محذوف
أي سيهديني لرعاية الفاصلة (وَجَعَلَها كَلِمَةً
باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) الواو حرف عطف وجعلها فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول
والضمير يعود على إبراهيم وكلمة مفعول به ثان وباقية صفة وفي عقبه متعلقان بباقية
، ولعلهم لعل واسمها وجملة يرجعون خبرها وسيأتي المراد بالكلمة الباقية في باب
الفوائد (بَلْ مَتَّعْتُ
هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ) بل حرف إضراب وعطف والإضراب عن محذوف لا بدّ من تقديره
ليتسلسل الكلام والتقدير وجعلها كلمة باقية في عقبه بأن وصّاهم بها رجاء أن يثوب
إليها المشركون فلم يحصل ما ترجاه بل متعت هؤلاء الذين يمتّون بالنسبة إلى إبراهيم
ولم أعاملهم بالعقوبة وأنسأت في آجالهم. وهؤلاء اسم إشارة مبني على الكسر في محل
نصب مفعول به وآباءهم عطف على هؤلاء أو مفعول معه وحتى حرف غاية وجر ، وسيأتي سر
غاية التمتيع في باب البلاغة ، وجاءهم الحق فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر ورسول
عطف على الحق ومبين صفة لرسول (وَلَمَّا جاءَهُمُ
الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ) الواو حرف عطف ولما رابطة أو حينية وجاءهم الحق فعل
ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وجملة قالوا لا محل لها لأنها واقعة في جواب شرط غير
جازم وهذا مبتدأ وسحر خبره والجملة
مقول قولهم وإنّا إن واسمها وبه متعلقان بكافرون وكافرون خبر إنّا (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا
الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) الواو عطف على الكلام المتقدم وقالوا فعل وفاعل ولو لا
حرف تحضيض بمعنى هلّا ونزل فعل ماضي مبني للمجهول وهذا اسم إشارة نائب فاعل
والقرآن بدل وعلى رجل متعلقان بنزل ومن القريتين صفة لرجل وعظيم صفة ثانية لرجل
وسيأتي القول عنهما في باب الفوائد (أَهُمْ يَقْسِمُونَ
رَحْمَتَ رَبِّكَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري تجهيلا لهم واستركاكا
لعقولهم وهم مبتدأ وجملة يقسمون خبر ورحمة ربك مفعول يقسمون وكتبت رحمة ربك في
المصحف بالتاء المفتوحة وسيأتي تفصيل ذلك في باب الفوائد (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ
مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) نحن مبتدأ وجملة قسمنا خبر وبينهم ظرف متعلق بقسمنا
ومعيشتهم مفعول به وفي الحياة الدنيا متعلقان بمحذوف حال (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ
دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) الواو حرف عطف ورفعنا فعل وفاعل وبعضهم مفعول به وفوق
بعض ظرف متعلق برفعنا ودرجات تمييز واللام للتعليل وقيل للصيرورة أو العاقبة ويتخذ
فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا بعد اللام وبعضهم فاعل وبعضا مفعول به أول وسخريا
مفعول به ثان ويترتب على هذا ما أفصح عنه الخازن بقوله : «يعني أنّا لو سوّينا
بينهم في كل الأحوال لم يخدم أحد أحدا ولم يصر أحد منهم مسخرا لغيره وحينئذ يفضي
ذلك إلى خراب العالم وفساد حال الدنيا» (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ
خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) الواو عاطفة أو حالية ورحمة ربك مبتدأ وخير خبر ومما
متعلقان بيجمعون وجملة يجمعون صلة ما.
البلاغة :
في مجيء
الإضراب بقوله تعالى «بل متّعت هؤلاء» الآية ، وجعل الغاية للتمتع مجيء الحق نكتة
بديعة لأنه ليس المقصود من الإضراب
رد الكلام السابق ولكن المقصود هو التأكيد والاستمرار ليبيّن أنهم شغلوا
عمّا جاءهم من الحق إذ لا مناسبة بين مجيء الحق والتمتيع ، والمعنى أنهم شغلوا عن
شكر المنعم فإنهم بدلا من أن ينصاعوا إلى الحق ويأخذوا بأسبابه ، ويعكفوا عليه
واستجلاء آلائه جاءوا بما هو شر من غفلتهم التي كانوا عليها.
الفوائد :
١ ـ المراد
بالكلمة الباقية في عقب إبراهيم صلوات الله عليه كلمة التوحيد التي تكلم بها وهي
قوله : إنني برآء مما تعبدون إلا الذي فطرني.
٢ ـ المراد
بالقريتين مكة والطائف والمراد بالرجلين الوليد بن المغيرة المخزومي بمكة وعروة بن
مسعود الثقفي من الطائف لأن الرجل الشريف عندهم وحسب معتقداتهم السخيفة هو الذي
يكون كثير المال والجاه ومحمد ليس كذلك فليست الرسالة لائقة به.
٣ ـ رسمت التاء
مفتوحة في قوله «ورحمة ربك» في المصحف كما رسمت في الأعراف والروم وهود والبقرة.
(وَلَوْ لا أَنْ
يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ
لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣)
وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً
وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ
رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ
شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ
وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
مُهْتَدُونَ
(٣٧) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ
الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ
ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩))
اللغة :
(سُقُفاً) في القاموس : «السقف للبيت كالسقيف والجمع سقوف وسقف
بضمتين» وعن الفراء جمع سقيفة وقرىء سقوفا جمعا على فعول نحو كعب وكعوب.
(وَمَعارِجَ) جمع معرج بفتح الميم وكسرها وسمّيت المصاعد من الدرج
معارج لأن المشي عليها مثل مشي الأعرج.
(وَزُخْرُفاً) الزخرف الذهب والزينة ، وقال ابن زيد : هو ما يتخذه
الناس في منازلهم من الأمتعة والأثاث ، وقال الحسن : النقوش وأصله الزينة يقال
زخرفت الدار أي زينتها وتزخرف فلان أي تزين ، وأوردت معاجم اللغة معاني عديدة
للزخرف منها الذهب وحسن الشيء وزخرف الكلام أباطيله المموّهة وزخرف الأرض ألوان
بناتها والجمع زخارف.
(يَعْشُ) في القاموس : العشا مقصور سوء البصر في الليل والنهار
والعمى عشا كرضي ودعا وفي المختار وعشا عنه أعرض وبابه عدا ومنه قوله تعالى : «ومن
يعش عن ذكر الرحمن» قلت وفسره بعضهم في الآية بضعف البصر وقال أبو الهيثم والأزهري
: عشوت إلى كذا أي قصدته وعشوت عن كذا أي أعرضت عنه فيفرّق بين إلى وعن مثل ملت
إليه وملت عنه.
(نُقَيِّضْ) نسبب ونقدّر يقال قيّض الله له كذا : قدّره له وقيض
الله فلانا لفلان : جاءه به.
الإعراب :
(وَلَوْ لا أَنْ
يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) الواو استئنافية ولو لا حرف امتناع لوجود وأن وما بعدها
في تأويل مصدر مبتدأ محذوف الخبر والناس اسم يكون وأمة خبرها وواحدة صفة ومعنى
كونهم أمة واحدة اجتماعهم على أمر واحد ، وأريد به هنا الكفر بقرينة الجواب كما
سيأتي (لَجَعَلْنا لِمَنْ
يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها
يَظْهَرُونَ) اللام رابطة للجواب وجعلنا فعل وفاعل ولمن في موضع
المفعول الثاني وجملة يكفر صلة لمن وبالرحمن متعلقان بيكفر ولبيوتهم بدل اشتمال من
لمن يكفر بإعادة الجار وسقفا مفعول جعلنا الأول ومن فضة صفة لسقفا ومعارج عطف على
سقفا وعليها متعلقان بيظهرون ويظهرون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون
والجملة صفة لمعارج (وَلِبُيُوتِهِمْ
أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ) عطف على ما تقدم وتكرر لفظ البيوت لزيادة التقرير ولك
أن تقدّر مقدرا لتنصب أبوابا وسررا فيكون من عطف الجمل (وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا
مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) وزخرفا عطف أيضا على سررا أو مفعول به لفعل محذوف أي
وجعلنا لهم زخرفا وعطفه الزمخشري على محل من فضة كأنه قال سقفا من فضة وذهب أي
بعضها كذا وبعضها كذا والواو عاطفة وإن نافية وكل ذلك مبتدأ ولما بالتشديد بمعنى
إلا ومتاع الحياة الدنيا خبر وقرىء بتخفيف لما فإن عندئذ مخففة من الثقيلة مهملة
واللام الفارقة وما زائدة (وَالْآخِرَةُ عِنْدَ
رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) الواو حالية والآخرة مبتدأ وعند ربك ظرف متعلق بمحذوف
حال وللمتقين متعلقان بمحذوف خبر الآخرة وفي هذا تقرير واف على أن العظيم حقا هو
العظيم في الآخرة لا في الدنيا (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ
ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) كلام مستأنف مسوق لسرد مآل المعرضين عن ذكر الله وقيل
هو متصل بقوله أول بالسورة
أفنضرب عنكم الذكر صفحا ، ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويعش فعل
الشرط وعن ذكر الرحمن متعلقان بيعش ونقيض جواب الشرط وجملتا الشرط والجزاء خبر من
وله متعلقان بنقيض وشيطانا مفعول به لنقيض والفاء حرف عطف وهو مبتدأ وله حال لأنه
كان في الأصل صفة لقرين وتقدمت عليه وقرين خبر (وَإِنَّهُمْ
لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) الواو عاطفة وإن واسمها واللام المزحلقة وجملة يصدّونهم
خبر إن وعن السبيل متعلقان بيصدّونهم (وَيَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) الواو حالية أو عاطفة ويحسبون فعل مضارع مرفوع وعلامة
رفعه ثبوت النون وأن واسمها وخبرها سدّت مسدّ مفعولي يحسبون وسيأتي سرّ الجمع في
باب البلاغة (حَتَّى إِذا جاءَنا
قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) حتى حرف غاية وجر وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن متضمن
معنى الشرط وجملة جاءنا في محل جر بإضافة الظرف إليها وفاعل جاءنا يعود على العاشي
المأخوذ من يعش الآنف وجملة قال لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ويا حرف تنبيه
أو حرف نداء والمنادى محذوف ظاهر التقدير وليت حرف تمن ونصب وبيني ظرف متعلق
بمحذوف خبرها المقدم وبينك عطف على بيني وبعد المشرقين اسم ليست المؤخر وسيأتي
معنى المشرقين في باب البلاغة (فَبِئْسَ الْقَرِينُ) الفاء الفصيحة وبئس فعل ماض جازم لإنشاء الذم والقرين
فاعل بئس والمخصوص بالذم محذوف تقديره أنت (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ
الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) كلام مستأنف مسوق لبسط ما يقال لهم في الآخرة ولن حرف
نفي ونصب واستقبال وينفعكم فعل مضارع منصوب بلن واليوم ظرف متعلق بينفعكم وإذ ظرف
لما مضى من الزمن بدل من اليوم ولا يقال إن إذ للمضي واليوم للحال فلا يجوز البدل
لأن الدنيا والآخرة متصلتان وهما سواء في حكم الله وعلمه فكأن إذ مستقبلة وكأن
اليوم ماض ، قال ابن جنّي في مساءلته أبا علي : راجعت فيها مرارا وآخر ما
حصل منه أن الدنيا والآخرة متصلتان وهما سواء في حكم الله وعلمه.
وجملة ظلمتم في
محل جر بإضافة الظرف إليها وأن وما بعدها في تأويل مصدر فاعل ينفعكم أي لن ينفعكم
اشتراككم في العذاب كما ينفع الاشتراك في مصائب الدنيا حيث يتأسى المصاب بمثله
وقيل الفاعل مستتر تقديره تمنّيكم وهو المدلول عليه بقوله «يا ليت بيني وبينه» أي
لن ينفعكم تمنّيكم البعد ويؤيد إضمار الفاعل قراءة إنكم بالكسر فإنه استئناف يفيد
التعليل إما بالفتح فأن وما بعدها في موضع نصب بنزع الخافض أي لأنكم والجار
والمجرور متعلقان بينفعكم وفي العذاب متعلقان بمشتركون ومشتركون خبر إن.
البلاغة :
١ ـ النكرة
الواقعة في سياق الشرط : في قوله : «ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا» الآية
نكتة بديعة وهي أن النكرة الواقعة في سياق الشرط تفيد العموم ولذلك أعاد عليه
الضمير مجموعا في قوله :«وإنهم ليصدّونهم» والثاني الواو في قوله «ويحسبون»
والثالث الهاء في قوله إنهم.
أخرج ابن أبي
حاتم عن محمد بن عثمان المخزومي أن قريشا قالت قيضوا لكل رجل من أصحاب محمد رجلا
يأخذه فقيضوا لأبي بكر طلحة بن عبيد الله فأتاه وهو في القوم فقال أبو بكر : إلام
تدعوني؟قال : أدعوك إلى عبادة اللّات والعزّى قال أبو بكر : وما اللات؟ قال :أولاد
الله ، قال : وما العزّى؟ قال : بنات الله ، قال أبو بكر فمن أمهم؟ فسكت طلحة ولم
يجبه فقال لأصحابه : أجيبوا الرجل فسكت القوم.
فقال طلحة : قم
يا أبا بكر أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فأنزل الله : ومن يعش عن
ذكر الرحمن ، الآية.
٢ ـ وفي هذه
الآية أيضا من التنكيت وهو أن يقصد المتكلم إلى شيء بالذكر دون غيره مما يسدّ
مسدّه لأجل نكتة في المذكور ترجح مجيئه على سواه ، فإن لقائل أن يقول لأي نكتة عدل
عن لفظ الحقيقة فلم يقل : ومن يعرض عن ذكر الرحمن فاستعار لفظة العشا للضلال فنقول
: النكتة في ذلك أن لفظ الاستعارة موفّ بالمعنى المراد بخلاف لفظ الحقيقة فإن
الإعراض إعراضان : إعراض يرجى بعده الإقبال لأن المعرض متمكّن من الإقبال وذلك
إعراض المؤمن المعتقد أحسن معتقد فيعرض له من الملاذّ التي تستغرق فكره وتشغل قلبه
وعقله شغلا بتلك اللذة أو ضدها أو غيرها من أمور الدنيا فيعرض عن الذكر في تلك
الحالة فمصاحبة الشيطان لذلك غير دائمة لأنه يمكن أن يؤوب إلى الله سبحانه ويتوب
عن ذلك فيقبل على ما كان أعرض عنه من الذكر الذي عرف قديما طريقه واهتدى إلى سبيله
وربي عليه أو لأجل عناية إلهية اقتضتها سابقة أزلية تجذبه إليه وإعراض ضلال عن
طريق الرشد وسبيل الخير حتى لو قدّرنا أنه أراد الإقبال على الخير لمنعته منه
سابقة الضلال والشقوة التي غلبت عليه ، والمراد بالإعراض في الآية إعراض الضلال لا
إعراض الغفلة فلا جرم أنه حسن استعارة العشا للضلال فيها وهذا المعرض هو الذي يقيض
له مقارنة الشيطان أين كان وحيث كان وبذلك يتبين موضع النكتة التي رجّحت العدول عن
لفظ الحقيقة إلى لفظ الاستعارة.
٣ ـ التغليب :
وفي قوله : «بعد المشرقين» فن التغليب وهو شائع في كلامهم يغلبون الشيء على ما
لغيره وذلك بأن يطلق اسمه على الآخر ويثنى بهذا الاعتبار لتناسب بينهما واختلاط
فمثال التغليب للتناسب قولهم الأبوين للأب والأم ومنه قوله تعالى «ولأبويه لكل
واحد منهما السدس» والمشرقين والمغربين والخافقين وهو محل الخفوق أي
الغروب من خفق النجم أي غرب والقمرين في الشمس والقمر قال أبو الطيب :
نشرت ثلاث
ذوائب من شعرها
|
|
في ليلة فأرت
ليالي أربعا
|
واستقبلت قمر
السما بوجهها
|
|
فأرتني
القمرين في وقت معا
|
أي الشمس وهو
وجهها وقمر السماء ، والقمران في العرف الشمس والقمر ، وقيل إن منه قول الفرزدق :
أخذنا بآفاق
السماء عليكم
|
|
لنا قمراها
والنجوم الطوالع
|
وقيل إنما أراد
محمدا والخليل عليهما الصلاة والسلام لأن نسبه يمتّ إليها ، وقالوا العمرين في أبي
بكر وعمر وقيل المراد عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز فلا تغليب ، وأما الأول
ففيه تغليب غلبوا الأخف وقيل لطول عمره ، وقالوا العجاجين في رؤبة والعجاج ،
والمروتين في الصفا والمروة ، ومثال التغليب للاختلاط قوله تعالى :«فمنهم من يمشي
على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع» فإن الاختلاط حاصل في
العموم السابق في قوله «كل دابة» ثم فصله فيما بعد وفي من يمشي على رجلين في عبارة
التفصيل فإنه يضم الإنسان والطائر وقوله تعالى : «اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين
من قبلكم لعلكم تتقون» لأن لعل متعلقة بخلقكم لا باعبدوا لئلا يلزم تعليل الشيء
بنفسه أي اعبدوا لأجل التقوى والتقوى هي العبادة وغلبوا المذكر على المؤنث حتى عدت
منهم في قوله تعالى : «وكانت من القانتين» أي مريم وعدت من الذكور حيث جعلت
بمثابتهم في التعبير بلفظ يخصّ به الذكور في أصل الوضع ولو لم يغلب لقال : من
القانتات.
الفوائد :
الدنيا سجن
المؤمن وجنة الكافر في صحيح الترمذي : «عن أبي
هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الدنيا سجن المؤمن وجنة
الكافر» وعن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو كانت الدنيا
تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء».
(أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ
الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠) فَإِمَّا
نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي
وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي
أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ
وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ
مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥))
الإعراب :
(أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ
الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ) كلام مستأنف مسوق لتسليته صلى الله عليه وسلم أي إن
هؤلاء صم فلا يمكنك إسماعهم وعمي فلا يمكنك هدايتهم ، والهمزة للاستفهام الإنكاري
التعجبي والفاء عاطفة على محذوف مقدر وأنت ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ وجملة تسمع
خبر والصمّ مفعول به واو حرف عطف وجملة تهدي العمي عطف على تسمع الصمّ (وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الواو عاطفة ومن اسم موصول معطوف على العمي وجملة كان
صلة من واسم كان ضمير مستتر تقديره هو وفي ضلال خبر كان ومبين صفة (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا
مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) الفاء عاطفة وإن شرطية أدغمت نونها في ما الزائدة
ونذهبن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة وهو في محل
جزم فعل الشرط وبك متعلقان بنذهبنّ ، فإنّا : الفاء رابطة لجواب الشرط وإن واسمها
ومنهم متعلقان بمنتقمون ومنتقمون خبر إن وجملة فإنّا في محل جزم جواب الشرط (أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ
فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) عطف على الجملة السابقة والذي مفعول نرينك الثاني وجملة
وعدناهم صلة وإن واسمها وخبرها (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي
أُوحِيَ إِلَيْكَ) الفاء الفصيحة أي إن علمت هذا وتأكدت منه فاستمسك ،
واستمسك فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وبالذي متعلقان باستمسك وجملة أوحي إليك
صلة (إِنَّكَ عَلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ) الجملة لا محل لها من الإعراب لأنها تعليل للأمر وإن
واسمها وعلى صراط خبرها ومستقيم صفة (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ
لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) الواو عاطفة وإن واسمها واللام المزحلقة وذكر خبر إن
ولك متعلقان بذكر أو صفة له ولقومك عطف على لك والواو عاطفة وسوف حرف تسويف
وتسألون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل (وَسْئَلْ مَنْ
أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) الواو عاطفة واسأل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ومن
مفعول به وجملة أرسلنا صلة الموصول ومن قبلك متعلقان بأرسلنا ومن رسلنا حال وسيأتي
بحث المجاز في هذا السؤال في باب البلاغة (أَجَعَلْنا مِنْ
دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) الجملة سدّت مسدّ مفعولي اسأل المعلقة عن العمل
بالاستفهام والهمزة للاستفهام وجعلنا فعل وفاعل ومن دون الرحمن مفعول جعلنا الثاني
وآلهة مفعول جعلنا الأول وجملة يعبدون صفة لآلهة ويعبدون فعل مضارع مبني للمجهول
والواو نائب فاعل.
البلاغة :
المجاز في
مساءلة الشعراء للديار والرسوم : في قوله «واسأل من
أرسلنا من قبلك» مجاز مرسل فقد أوقع السؤال على الرسل مع أن المراد أممهم
لعلاقة الهداية المفضية بهم إلى معرفة اليقين ويكثر في العربية السؤال الواقع
مجازا حيث لا يصحّ السؤال على الحقيقة ومنه مساءلة الشعر الديار والرسوم والأطلال
على حدّ قول عنترة :
هلّا سألت
الخيل يا ابنة مالك
|
|
إن كنت جاهلة
بما لم تعلمي
|
وقيل هو على
حذف مضاف فيكون مجازا بالحذف أي واسأل أمم من أرسلنا من قبلك وهلّا سألت راكبي
الخيل ، ويشهد لهذا التأويل وإرادة سؤال الأمم قوله تعالى «فاسأل الذين يقرءون
الكتاب من قبلك».
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ
الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧)
وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ
بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ
لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنا
عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠) وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ
قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ
مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ
ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ
فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤)
فَلَمَّا
آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْناهُمْ
سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (٥٦))
الإعراب :
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان شبهة أوردها فرعون على موسى كما
أوردت قريش شبهة الفقر على محمد صلى الله عليه وسلم. واللام جواب للقسم المحذوف
وقد حرف تحقيق وأرسلنا فعل وفاعل وموسى مفعول به وبآياتنا حال فالباء للملابسة
وإلى فرعون متعلقان بأرسلنا وملئه عطف على فرعون (فَقالَ إِنِّي
رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) الفاء حرف عطف وإني : إن واسمها ورسول رب العالمين
خبرها وجملة إن وما بعدها مقول القول (فَلَمَّا جاءَهُمْ
بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) الفاء عاطفة على مقدر أي فطلبوا منه الآيات الدالّة على
صدقه ، ولما ظرفية حينية أو رابطة وجاءهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به وبآياتنا
متعلقان بجاءهم وإذا فجائية ولك أن تجعلها ظرفا معمولا لفعل المفاجأة الذي هو جواب
لما ولك أن تجعلها حرفا ، وفيما يلي نص عبارة أبي حيان بهذا الصدد قال : «قال
الزمخشري : فإن قلت كيف جاز أن تجاب لما بإذا الفجائية؟ قلت : لأن فعل المفاجأة
معها مقدّر وهو عامل النصب في محلها كأنه قيل : فلما جاءهم بآياتنا فاجئوا وقد
ضحكهم انتهى. ولا نعلم نحويا ذهب إلى ما ذهب إليه هذا الرجل من أن إذا الفجائية
تكون منصوبة بفعل مقدّر تقديره فاجأ بل المذاهب فيها ثلاثة مذاهب : أما إنها حرف
فلا تحتاج إلى عامل أو ظرف مكان أو ظرف زمان فإن ذكر بعد الاسم الواقع بعدها خبر
كانت منصوبة على الظرف والعامل فيها ذلك الخبر نحو خرجت فإذا زيد قائم تقديره
وخرجت ففي المكان الذي خرجت فيه زيد قائم أو
ففي الوقت الذي خرجت فيه زيد قائم وإن لم يذكر بعد الاسم أو ذكر اسم منصوب
على الحال كانت إذا خبر للمبتدأ فإن كان الاسم جثة وقلنا إنها ظرف مكان كان الأمر
واضحا نحو خرجت فإذا الأسد أي ففي الحضرة الأسد أو فإذا الأسد رابضا وإن قلنا إنها
ظرف زمان كان على حذف مضاف لئلا يخبر الزمان عن الجثة نحو خرجت فإذا الأسد أي ففي
الزمان حضور الأسد وما ادّعاه الزمخشري من إضمار فعل المفاجأة لم ينطق به ولا في
موضع واحد ثم المفاجأة التي ادّعاها لا يدل المعنى على أنها تكون من الكلام السابق
بل المعنى يدل على أن المفاجأة تكون من الكلام الذي فيه إذا تقول خرجت فإذا الأسد
والمعنى ففاجأني الأسد وليس المعنى ففاجأت الأسد» وقد أوردنا القول في إذا
الفجائية ، وهم مبتدأ ومنها متعلقان بيضحكون وجملة يضحكون خبرهم (وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ
أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) الواو عاطفة وما نافية ونريهم فعل وفاعل مستتر ومفعول
به أول ومن حرف جر زائد وآية مفعول به ثان لنريهم وإلا أداة حصر وهي مبتدأ وأكبر
خبر ومن أختها متعلقان بأكبر والجملة صفة لآية وسيأتي المزيد من بحث هذا الكلام في
باب البلاغة (وَأَخَذْناهُمْ
بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) الواو عاطفة وأخذناهم فعل وفاعل ومفعول به وبالعذاب
متعلقان بأخذناهم ولعل واسمها وخبرها (وَقالُوا : يا
أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا
لَمُهْتَدُونَ) الواو عاطفة وقالوا فعل وفاعل ويا أيها نداء تقدم
إعرابه والساحر بدل من أي أو نعت لها وادع فعل أمر مبني على حذف حرف العلة ولنا
متعلقان بادع وربك مفعول به وبما متعلقان بادع وما يحتمل أن تكون موصولة وأن تكون
مصدرية وجملة عهد صلة أو مؤولة بمصدر مجرور بالبناء وعندك ظرف متعلّق بعهد وإن
واسمها ولمهتدون خبرها واللام المزحلقة (فَلَمَّا كَشَفْنا
عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) الفاء عاطفة على محذوف مقدّر أي فدعا موسى فلما كشفنا ،
ولما رابطة أو حينية وكشفنا فعل وفاعل وعنهم
متعلقان بكشفنا والعذاب مفعول به وإذا فجائية تقدّم القول فيها مفصلا وهم
مبتدأ وجملة ينكثون خبرها (وَنادى فِرْعَوْنُ
فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ) الواو استئنافية أو عاطفة ونادى فرعون فعل وفاعل وفي
قومه متعلقان بنادى ، وسيأتي سر هذا النداء والظرفية في باب البلاغة ، وقال فعل
ماض وفاعله مستتر تقديره هو والجملة تفسيرية ويا قوم منادى مضاف إلى ياء المتكلم
المحذوفة والهمزة للاستفهام التقريري وليس فعل ماض ناقص جامد ولي خبرها المقدم
وملك مصر اسمها المؤخر وهذه الواو إما حالية فالجملة نصب على الحال وإما عاطفة
وهذه عطف على ملك مصر وعلى الأول تكون هذه مبتدأ والأنهار بدل وجملة تجري خبر ومن
تحتي متعلقان بتجري ، أفلا : الهمزة للاستفهام والفاء عاطفة على مقدّر ولا نافية
وتبصرون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون (أَمْ أَنَا خَيْرٌ
مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) أم حرف عطف وهي منقطعة مقدّرة ببل والهمزة أي بل أنا
خير فهي منقطعة لفظا متصلة معنى وقال الزمخشري والسيوطي : أم هذه متصلة لأن المعنى
أفلا تبصرون أم تبصرون إلا أنه وضع قوله أنا خير منه موضع تبصرون لأنهم إذا قالوا
له أنت خير كانوا عنده بصراء وهذا من إنزال السبب منزلة المسبّب. واعترض أبو حيان
على الزمخشري بأن المعادل لا يحذف بعد أم إلا إن كان بعدها لفظ لا نحو أتقول أم لا
أي أم لا تقول أما حذفه بدون لا كما هنا فلا يجوز على أنه جاء حذف أم والمعادل وهو
قليل ومنه قول الشاعر :
دعاني إليها
القلب إني لأمره
|
|
سميع فما
أدري أرشد طلابها
|
يريد أم غي.
وقال أبو
البقاء : «أم هنا منقطعة في اللفظ الوقوع الجملة بعدها وهي في المعنى متصلة معادلة
إذ المعنى أنا خير منه أم لا» وسيأتي
مزيد من هذا البحث في باب الفوائد ، وأنا مبتدأ وخير خبر ومن هذا متعلقان
بخير والذي بدل من اسم الإشارة وهو مبتدأ ومهين خبر والجملة صلة الذي (وَلا يَكادُ يُبِينُ) لك في الواو أن تجعلها عاطفة فالجملة معطوفة على صلة
الموصول ولك أن تجعلها مستأنفة فالجملة لا محل لها أيضا وأجازوا أن تكون حالية ولا
نافية ويكاد فعل مضارع ناقص من أفعال المقاربة واسمها ضمير مستتر تقديره هو وجملة
يبين خبر يكاد أي يظهر كلامه (فَلَوْ لا أُلْقِيَ
عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) الفاء عاطفة ولو لا حرف تحضيض بمعنى هلّا وألقي فعل ماض
مبني للمجهول وعليه متعلقان بألقي وأسورة نائب فاعل وهو جمع سوار ومن ذهب صفة
لأسورة (أَوْ جاءَ مَعَهُ
الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) أو حرف عطف وجاء فعل ماض ومعه ظرف متعلق بجاء والملائكة
فاعل ومقترنين حال أي متتابعين يشهدون بصدقه (فَاسْتَخَفَّ
قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) الفاء عاطفة واستخف فعل ماض أي استفز ، وفي المختار : «استفزه
الخوف : استخفه» وفي المصباح : «واستخف قومه : حملهم على الخفّة والجهل» وقومه
مفعول به. فأطاعوه : الفاء عاطفة وأطاعوه فعل ماض وفاعل ومفعول به وإن واسمها
وجملة كانوا خبرها وجملة إن تعليلية لا محل لها وقوما خبر كانوا وفاسقين صفة (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ
فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) الفاء عاطفة ولما حينية ظرفية أو رابطة وآسفونا فعل ماض
وفاعل ومفعول به وهو منقول بالهمزة من أسف إذا غضب فعداه بالهمزة والمعنى فلما
عملوا ما يوجب دالة الحلم ويثير الحفائظ ، وجملة انتقمنا لا محل لها لأنها جواب
لما ومنهم متعلقان بانتقمنا ، فأغرقناهم عطف على انتقمنا وأجمعين تأكيد للهاء (فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً
لِلْآخِرِينَ) الفاء عاطفة وجعلناهم فعل وفاعل ومفعول به أول وسلفا
مفعول به ثان أي سابقين متقدمين إلى العذاب ليتعظ بهم غيرهم ومثلا عطف على سلفا
وللآخرين صفة لمثلا.
البلاغة :
١ ـ في قوله «وما
نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها» كلام جامع مانع يعني أنهنّ موصوفات بالكبر لا
يكدن يتفاوتن فيه ، قال الزمخشري : «وكذلك العادة في الأشياء التي تتلاقى في الفضل
وتتفاوت منازلها فيه التفاوت اليسير أن تختلف آراء الناس في تفضيلها فيفضل بعضهم
هذا وبعضهم ذاك فعلى ذلك بنى الناس كلامهم فقالوا أرأيت رجالا بعضهم أفضل من بعض
وربما اختلفت آراء الرجل الواحد فيها فتارة يفضل هذا وتارة يفضل ذاك ومنه بيت
الحماسة :
من تلق منهم
تقل لاقيت سيدهم
|
|
مثل النجوم
التي يسري بها الساري
|
وقد فاضلت
الأنمارية بين الكلمة من بنيها ثم قالت لما أبصرت مراتبهم متدانية قليلة التفاوت :
ثكلتهم إن كنت أعلم أيّهم أفضل هم كالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفاها» فالوصف
بالكبر مجاز وإن ذلك بالنسبة إلى الناظرين فيها.
٢ ـ المجاز
أيضا : وفي قوله «ونادى فرعون في قومه» مجاز مرسل علاقته المحلية فقد جعل قومه
محلا لندائه وموقعا له والمعنى أنه أمر بالنداء في مجامعهم وأماكنهم كما أن المراد
من نادى فيها فأسند النداء إليه كقولك قطع الأمير اللص إذا أمر بقطعه.
الفوائد :
أم أيضا :
قدّمنا في باب الإعراب لمحة عن أم وذكرنا في مواضع متقدمة من هذا الكتاب مباحث
جليلة فيها وننقل هنا الفصل الممتع الذي عقده صاحب المغني بصددها مع تعليق مفيد
عليه ، قال ابن هشام : «سمع حذف أم المتصلة ومعطوفها كقول الهذلي :
دعاني أيها
القلب إني لأمره
|
|
سميع فما
أدري أرشد طلابها
|
تقديره أم غي ،
كذا قالوا ، وفيه بحث كما مر ، ـ أي في الألف المفردة من أن الهمزة هنا كهل فلا
تحتاج إلى معادل ـ وأجاز بعضهم حذف معطوفها بدونها فقال في قوله تعالى : «أفلا
تبصرون أم» إن الوقف هنا وإن التقدير أم تبصرون ثم يبتدئ أنا خير وهذا باطل إذ لم
يسمع حذف معطوف بدون عاطفه وإنما المعطوف جملة أنا خير ووجه المعادلة بينهما وبين
الجملة قبلها أن الأصل أم تبصرون ثم أقيمت الاسمية مقام الفعلية والسبب مقام
المسبّب لأنهم إذا قالوا له : أنت خير كانوا عنده بصراء وهذا معنى كلام سيبويه.
فإن قلت : فإنهم يقولون أتفعل هذا أم لا والأصل أم لا تفعل ، قلت : إنما وقع الحذف
بعد لا ولم يقع بعد العاطف وأحرف الجواب تحذف الجمل بعدها كثيرا وتقوم هي في اللفظ
مقام تلك الجمل فكأن الجملة هنا مذكورة لوجود ما يغني عنها».
وعبارة سيبويه
في الكتاب : «هذا باب أم منقطعة وذلك قولك أعمرو عندك أم عندك زيد فهذا ليس بمنزلة
أيّهما عندك ، ألا ترى أنك لو قلت أيّهما عندك لم يستقم إلا على التكرير والتوكيد
ويدلك على أن الآخر منقطع عن الأول قول الرجل إنها لا بل ثم يقول أم شاء فكما جاءت
أم هنا بعد الخبر منقطعة كذلك تجيء بعد الاستفهام وذلك أنه حين قال : أعمرو عندك
فقد ظن أنه عنده ثم أدركه مثل ذلك الظن في زيد بعد أن استغنى كلامه ثم قال ومثل
ذلك : وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير كأن فرعون قال أفلا
تبصرون أم أنتم بصراء فقوله أم أنا خير من هذا بمنزلة أم أنتم بصراء لأنهم لو
قالوا أنت خير منه كان بمنزلة قولهم نحن بصراء فكذلك أم أنا خير بمنزلة أم أنتم
بصراء» فقد حكم سيبويه بأن أم منقطعة.
(وَلَمَّا ضُرِبَ
ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا
خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ
(٥٨) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي
إِسْرائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ
يَخْلُفُونَ (٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها
وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ
إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢))
الإعراب :
(وَلَمَّا ضُرِبَ
ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) كلام مستأنف مسوق لبيان نوع آخر من لجاجهم وإمعانهم في
المكابرة ، ولما ظرفية حينية أو رابطة وضرب فعل ماض مبني للمجهول وابن مريم نائب
فاعل ومثلا مفعول به ثان لأن ضرب ضمن معنى جعل ويجوز أن يعرب حالا أي ذكر ممثلا به
وإذا فجائية تقدم القول فيها وقومك مبتدأ ومنه متعلقان بيصدون وجملة يصدون خبر
قومك وهو بكسر الصاد أي ترتفع لهم جلبة وضوضاء فرحا وجذلا وضحكا مما سمعوا ،
وستأتي القصة في باب الفوائد وقرئ يصدون بالضم من الصدود أي الإعراض وقيل هما
لغتان (وَقالُوا أَآلِهَتُنا
خَيْرٌ أَمْ هُوَ) الواو عاطفة وقالوا فعل وفاعل والهمزة للاستفهام
وآلهتنا مبتدأ وخير خبر وأم حرف عطف وهي متصلة وهو معطوف على آلهتنا (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ
هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) ما نافية وضربوه فعل وفاعل ومفعول به ولك متعلقان
بضربوه وإلا أداة
حصر وجدلا مفعول من أجله أي لأجل الجدال والمراء واللجاج لا لإظهار الحق
ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال أي لا مجادلين وبل حرف إضراب وهم مبتدأ وقوم
خبر وخصمون صفة لقوم (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ
أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) إن نافية وهو مبتدأ وإلا أداة حصر وعبد خبر هو وجملة
أنعمنا صفة لعبد وعليه متعلقان بأنعمنا وجعلناه عطف على أنعمنا ومثلا مفعول به ثان
لجعلناه ولبني إسرائيل صفة لمثلا (وَلَوْ نَشاءُ
لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) الواو عاطفة ولو شرطية ونشاء فعل مضارع مرفوع والفاعل
مستتر تقديره نحن واللام واقعة في جواب لو لا وجعلنا فعل وفاعل ومنكم في موضع
المفعول الثاني إن كانت جعلنا بمعنى صيّرنا وإن كانت بمعنى خلقنا فالجار والمجرور
متعلقان بجعلنا وفي الأرض متعلقان بيخلفون وجملة يخلفون صفة لملائكة ، وقال بعض
النحويين : «من تكون للبدل أي لجعلنا بدلكم ملائكة وجعل من ذلك قوله تعالى «أرضيتم
بالحياة الدنيا من الآخرة» أي بدل الآخرة وقول الشاعر :
أخذوا المخاض
من الفصيل غلبة
|
|
ظلما ويكتب
للأمير أقالا
|
أي بدل الفصيل
والأولى أنها للتبعيض كما ذكرنا في الإعراض (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ
لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) الواو عاطفة وإن واسمها واللام المزحلقة وعلم خبر إنه
وللساعة صفة لعلم أي شرط من أشراطها تعلم به فسمي الشرط علما لحصول العلم به
والفاء الفصيحة ولا ناهية وتمترن فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وعلامة جزمه حذف
النون والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل والنون المشددة نون التوكيد الثقيلة
والمرية الشك (وَاتَّبِعُونِ هذا
صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) الواو عاطفة واتبعوني فعل أمر مبني على حذف النون
والواو فاعل والنون للوقاية والياء المحذوفة خطا اتّباعا لسنّة المصحف مفعول به
وهذا مبتدأ وصراط خبر ومستقيم
صفة (وَلا يَصُدَّنَّكُمُ
الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) الواو عاطفة ولا ناهية ويصدنكم فعل مضارع مبني على
الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة وهو في محل جزم بلا والكاف مفعول به والشيطان
فاعل وجملة إنه لكم عدوّ مبين تعليلية لا محل لها من الإعراب.
الفوائد :
من القصص
الممتع ما يرويه المؤرخون بصدد هذه الآية «ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه
يصدّون» فقد ذكروا أنه لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش : إنكم وما
تعبدون من دون الله حصب جهنم ، امتعضوا من ذلك امتعاضا شديدا فقال عبد الله بن
الزبعرى : يا محمد أخاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم؟ فقال عليه السلام هو لكم
ولجميع الأمم فقال : خصمتك ورب الكعبة أليست النصارى يعبدون المسيح واليهود يعبدون
عزيرا وبنو مليح يعبدون الملائكة فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن
وآلهتنا معهم ففرحوا وضحكوا وارتفعت أصواتهم وذلك قوله تعالى : إذا قومك منه يصدون
، ففند الله مكابرتهم بأنه إنما قصد به الأصنام ولم يقصد به الأنبياء والملائكة
إلا أن ابن الزبعرى لما رأى كلام رسول الله محتملا لفظه وجه العموم مع علمه بأن
المراد به أصنامهم ليس غير وجد للحيلة مساغا فصرف معناه إلى الشمول والإحاطة على
طريق المماحكة واللجاج فتوقر رسول الله عن إجابته حتى أجاب عنه ربه بقوله : «إن
الذين سبقت لهم منّا الحسنى أولئك عنها مبعدون» ، فدلّ به على أن الآية خاصة
بالأصنام ، هذه خلاصة القصة ولا بدّ من التنبيه إلى أن عبد الله بن الزبعرى صحابي
مشهور وشاعر معروف وقد أسلم وحسن إسلامه وهذه القصة على تقدير صحتها كانت قبل
إسلامه ، والزبعرى
بكسر الزاي وفتح الباء وسكون العين والراء المفتوحة والألف المقصورة ومعناه
في اللغة السيئ الخلق.
(وَلَمَّا جاءَ عِيسى
بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ
الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللهَ هُوَ
رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ
الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ
أَلِيمٍ (٦٥))
الإعراب :
(وَلَمَّا جاءَ عِيسى
بِالْبَيِّناتِ قالَ : قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ
الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان تعنت بني إسرائيل ولما رابطة أو
حينية وجاء عيسى فعل ماض وفاعل وبالبيّنات متعلقان بجاء وجملة قال لا محل لها
وجملة قد جئتكم بالحكمة مقول القول ، ولأبين : الواو عاطفة واللام لام التعليل
وأبين فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام التعليل والجار والمجرور معطوفان
على بالحكمة وعبارة الشهاب : «قوله ولأبين لكم متعلق بمقدر أي وجئتكم لأبين ولم
يترك العاطف ليتعلق بما قبله ليؤذن بالاهتمام بالعلّة حتى جعلت كأنها كلام برأسه»
ولكم متعلقان بأبين وبعض الذي مفعول به لأبين وجملة تختلفون صلة وفيه متعلقان
بتختلفون (فَاتَّقُوا اللهَ
وَأَطِيعُونِ) لك أن تجعل الفاء عاطفة فيكون الكلام معطوفا على ما
سبقه على أنه تتمة كلام عيسى ولك أن تجعلها استئنافية فيكون الكلام مستأنفا من
الله للدلالة
على طريق الطاعة ومحجتها الواضحة ، واتقوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به وأطيعون
عطف على فاتقوا والياء المحذوفة لمراعاة خط المصحف مفعول به (إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ
فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) الجملة تفسير لما تقدم من قوله وأطيعون وإن واسمها وهو
مبتدأ وربي خبر والجملة خبر إن وربكم عطف على ربي والفاء الفصيحة واعبدوه فعل
وفاعل ومفعول به وهذا مبتدأ وصراط خبر ومستقيم صفة (فَاخْتَلَفَ
الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) الفاء عاطفة واختلف الأحزاب فعل وفاعل ومن بينهم حال من
الأحزاب (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) الفاء عاطفة وويل مبتدأ وقد تقدم أنها كلمة عذاب فلذلك
ساغ الابتداء بها وللذين خبره ومن عذاب يوم أليم خبر ثان أو حال أي حال كونه كائنا
من عذاب يوم القيامة.
(هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦)
الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧)
يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨)
الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ
أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠))
(يُطافُ عَلَيْهِمْ
بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ
الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي
أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ
مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣))
اللغة :
(الْأَخِلَّاءُ) جمع خليل وهو الصديق وفي المصباح : «الخليل الصديق
والجمع أخلاء كأصدقاء وفي القاموس : «والخل بالكسر والضم الصديق المختص أو لا يضم
إلا مع ود يقال : كان لي ودّا وخلّا والجمع أخلال كالخليل والجمع أخلّاء وخلّان أو
الخليل الصادق أو من أصفى المودّة وأصحّها» واستدرك في التاج فقال : «قال ابن سيده
وكسر الخاء أكثر ويقال للأنثى خل أيضا».
(تُحْبَرُونَ) تسرّون سرورا يظهر حباره أي أثره على وجوهكم ، وقال
الزجّاج : تكرمون إكراما يبالغ فيه والحبرة المبالغة فيما وصف بجميل وفي القاموس :
«والحبر بفتحتين الأثر كالحبار بكسر أوله وفتحه».
(بِصِحافٍ) بقصاع قال الكسائي : «أعظم القصاع الجفنة ثم القصعة وهي
تشبع العشرة ثم الصحفة وهي تشبع الخمسة ثم المئكلة وهي تشبع الرجلين أو الثلاثة».
(وَأَكْوابٍ) جمع كوب وهو إناء لا عروة له قال قطرب : الإبريق لا
عروة له وقال الأخفش : الإبريق لا خرطوم له وقيل كالإبريق إلا أنه لا أذن له ولا
مقبض. وقال أبو منصور الجواليقي : «إنما كان بغير عروة ليشرب الشارب من أين يشاء
لأن العروة ترد الشارب من بعض الجهات» وقال عدي :
متكئا تصفق
أبوابه
|
|
يسعى عليه
العبد بالكوب
|
الإعراب :
(هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) هل حرف استفهام معناه النفي أي لا ينظرون ، وينظرون فعل
مضارع مرفوع
بثبوت النون والواو فاعل وإلا أداة حصر والساعة مفعول به وأن تأتيهم
:المصدر المنسبك من أن وتأتيهم بدل من الساعة بدل اشتمال والمعنى هل ينظرون إلا
إتيان الساعة وبغتة حال والواو للحال وهم مبتدأ وجملة لا يشعرون خبر والجملة حال
ثانية (الْأَخِلَّاءُ
يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) الأخلاء مبتدأ ويومئذ ظرف منصوب بعدو أي تنقطع في ذلك
اليوم كل آصرة أو خلّة بين المتخالين وتستحيل عداوة ومقتا وإذ ظرف مضاف إلى مثله
والتنوين عوض عن الجملة وتقديرها يوم إذ تأتيهم الساعة وبعضهم مبتدأ ثان ولبعض
متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لعدو وعدو خبر بعضهم والجملة الاسمية
خبر الأخلاء وإلا أداة استثناء والمتقين مستثنى بإلا منصوب (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ
الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) الجملة مقول قول محذوف أي ويقال لهم ويا حرف نداء وعباد
منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة مراعاة لخط المصحف ولا نافية وخوف مبتدأ وساغ
الابتداء به لأنه سبق بنفي وعليكم خبر واليوم ظرف متعلق بمحذوف حال ولا عطف على ما
تقدم وأنتم مبتدأ وتحزنون جملة فعلية في محل رفع خبر (الَّذِينَ آمَنُوا
بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ) الذين صفة لعبادي لأنه منادى مضاف وجملة آمنوا صلة
الذين وبآياتنا متعلقان بآمنوا وكانوا كان واسمها ومسلمين خبرها والجملة معطوفة على
الصلة ، واختار بعضهم أن تكون الواو حالية والجملة في محل نصب على الحال من الواو
وقال أنها آكد (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ
أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ) ادخلوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجنة
مفعول به على السعة وأنتم مبتدأ وأزواجكم عطف على أنتم وجملة تحبرون خبر أنتم (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ
وَأَكْوابٍ) يطاف فعل مضارع مبني للمجهول وعليهم في موضع رفع نائب
فاعل وبصحاف متعلقان بيطاف ومن ذهب صفة لصحاف وأكواب عطف على صحاف وذكر الذهب في
الصحاف واستغنى به عن الإعادة في الأكواب
كقوله تعالى «والذاكرون الله كثيرا والذاكرات» (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ
وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) الواو عاطفة وفيها خبر مقدم وما موصول مبتدأ مؤخر وجملة
تشتهيه الأنفس صلة ما وتلذ الأعين عطف على الصلة داخلة في حيزها وأنتم مبتدأ وفيها
متعلقان بخالدون وخالدون خبر أنتم (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ
الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الواو عاطفة وتلك مبتدأ والجنة خبر والتي نعت للجنة
وجملة أورثتموها صلة وبما متعلقان بأورثتموها وكنتم كان واسمها وجملة تعملون خبر
كنتم (لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ
كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ) لكم خبر مقدم وفيها حال وفاكهة مبتدأ مؤخر وكثيرة صفة
ومنها متعلقان بتأكلون وجملة تأكلون نصب لفاكهة ، ويجوز أن تعرب الجنة بدلا من اسم
الإشارة فتكون جملة لكم فيها فاكهة هي الخبر ، وعبارة أبي حيان المتفقة مع عبارة
الزمخشري هي : «وتلك الجنة مبتدأ وخبر والتي أورثتموها صفة أو الجنة صفة والتي
أورثتموها وبما كنتم تعملون الخبر وما قبله صفتان فإذا كان بما الخبر تتعلق بمحذوف
وعلى القولين الأولين يتعلق بأورثتموها».
البلاغة :
حفلت هذه
الآيات بضروب من البلاغة وأفانين من البيان نوجزها فيما يلي :
١ ـ الإيجاز :
وذلك في نداء الله تعالى لعباده ، فقد اشتمل هذا النداء على أمور أربعة : ١ ـ نفى
عنهم الخوف ٢ ـ نفى عنهم الحزن ٣ ـ أمرهم بدخول الجنة ٤ ـ بشّرهم باستحواذ السرور
على أنفسهم.
٢ ـ الإيجاز
أيضا : وذلك في قوله تعالى «وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين» فقد حصر أنواع
النعم لأنها لا تعدو أمرين اثنين : إما مشتهاة في القلوب وإما مستلذة في العيون ،
وجاء في الحديث : إن
رجلا قال يا رسول الله أفي الجنة خيل فإني أحب الخيل ، فقال : إن يدخلك
الله الجنة فلا تشاء أن تركب فرسا من ياقوتة حمراء فتطير بك في أيّ الجنة شئت إلا
فعلت فقال أعرابي يا رسول الله أفي الجنة إبل فإني أحب الإبل فقال يا أعرابي إن
أدخلك الله الجنة أصبت فيها ما اشتهت نفسك ولذّت عينك.
٣ ـ الالتفات :
في قوله «وتلك الجنة التي أورثتموها» فقد التفت من الغيبة إلى الخطاب للتشريف
والمخاطب كل واحد ممّن دخل الجنة ولذلك أفرد الكاف ولم يقل وتلكم مع أن مقتضى
أورثتموها أن يقول وتلكم وذلك للإيذان بأن كل واحد من أهل الجنة مقصود بالذكر
لذاته.
٤ ـ الاستعارة
: فقد شبّه الجنة بالمال الموروث والتلاد الموفور ثم استعار له الإرث على طريق
الاستعارة المكنية لأن كل عمل لا بد أن يلقى جزاءه إذ يذهب العمل ويبقى جزاؤه مع
العامل ، أو أنها شبّهت في بقائها على أهلها وإفاضة النعم السوابغ عليهم بالميراث
الباقي لا ينضب له معين ولا ينتهي إلى نفاد.
وعن أبي سعيد
الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا دخل أهل
الجنة الجنة ينادي مناد إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا وإن لكم أن تحيوا فلا
تموتوا أبدا وإن لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدا وإن لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبدا
ذلك قول الله عزّ وجلّ «ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون» رواه
مسلم والترمذي.
(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ
فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ
مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦)
وَنادَوْا يا مالِكُ
لِيَقْضِ
عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ
وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨))
اللغة :
(يُفَتَّرُ) يخفف وفي القاموس : «فتر يفتر ويفتر فتورا وفتارا سكن
بعد مدة ولان بعد شدّة وفتره تفتيرا وفتر الماء سكن».
(مُبْلِسُونَ) ساكتون سكوت يأس وفي المصباح : «أبلس الرجل إبلاسا سكت
وأبلس سكن».
الإعراب :
(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ
فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ) كلام مستأنف مسوق للشروع في الوعيد بعد الإفاضة في حديث
الوعد وإن واسمها وفي عذاب جهنم خبر أول وخالدون خبر ثان ولك أن تعلّق الجار
والمجرور بخالدون (لا يُفَتَّرُ
عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) الجملة حالية ولا نافية ويفتر فعل مضارع مبني للمجهول
ونائب الفاعل مستتر تقديره هو أي العذاب وعنهم متعلقان بيفتر والواو للحال وهم
مبتدأ وفيه متعلقان بمبلسون ومبلسون خبرهم والجملة حال ثانية (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ
الظَّالِمِينَ) الواو عاطفة وما نافية وظلمناهم فعل ماض وفاعل ومفعول
به والواو حالية ولكن مخففة مهملة وكان واسمها وهم ضمير فصل لا محل له أو هو توكيد
للواو والظالمين خبر كانوا (وَنادَوْا يا مالِكُ
لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) الواو عاطفة ونادوا فعل ماض وفاعل وعبر بالماضي عن المضارع
إيذانا بحقيقة وقوعه فهو من باب أتى أمر الله ، ويا مالك نداء ، وسيأتي الحديث عن
مالك وندائه في باب الفوائد ، واللام لام الأمر ويقض فعل
مضارع مجزوم بلام الأمر وعلينا متعلقان بيقض أي ليمتنا وربك فاعل (قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) إن واسمها وخبرها في موضع نصب مقول القول (لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ
أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) اللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وجئناكم فعل
وفاعل وبالحق متعلقان بجئناكم والواو حالية وإن واسمها وللحق متعلقان بكارهون
وكارهون خبر إن.
الفوائد :
١ ـ قرأ علي وابن
مسعود رضي الله عنهما يا مال بحذف الكاف للترخيم وقيل لابن عباس : إن ابن مسعود
قرأ ونادوا يا مال فقال : ما أشغل أهل النار عن الترخيم وعن بعضهم أن الذي حسن
الترخيم لأهل النار ضعفهم عن إتمام الاسم لأنهم في غنية عن الترخيم قال ابن جنّي :
«وللترخيم في هذا الموضع سر وذلك أنهم لعظم ما هم عليه خفتت أصواتهم ووهنت قواهم
وذلّت أنفسهم فكان هذا من موضع الاختصار ضرورة» قال الطيبي «قلت هذا اعتذار منه
لقراءة ابن مسعود حيث ردّها ابن عباس بقوله : ما أشغل أهل النار عن الترخيم فإن ما
للتعجب وفيه معنى الصدّ نظير قولك لمن كان في شدة واشتغل عنها بما لا يهمه : ما
أشغلك عن هذا أما يصدّك عن هذا ما أنت فيه من الهول والشدّة» قلت والترخيم هو لغة
التسهيل والتليين يقال صوت رخيم أي سهل لين ، واصطلاحا حذف بعض الكلمة على وجه
مخصوص وهو ثلاثة أنواع :
١ ـ ترخيم
النداء ٢ ـ ترخيم الضرورة ٣ ـ ترخيم التصغير ، ومباحثها في كتب النحو.
ومالك هو خازن
النار أي رئيس سدنتها الماضي عليهم كلامه
ومجلسه في وسط النار وفيها جسور تمر عليها ملائكة العذاب فهو يرى أقصاها
كما يرى أدناها.
٢ ـ الحديث
المتعلق بالآية : وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : يلقى على أهل النار الجوع فيعدل ما هم فيه من العذاب فيستغيثون فيغاثون
بطعام من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع فيستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة فيذكرون
أنهم يجيزون الغصص في الدنيا بالشراب فيستغيثون بالشراب فيدفع إليهم بكلاليب
الحديد فإذا دنت من وجوههم شوت وجوههم فإذا دخلت بطونهم قطعت ما في بطونهم فيقولون
ادعوا خزنة جهنم فيقولون «ألم تك تأتيكم رسلكم بالبيّنات قالوا بلى قالوا فادعوا
وما دعاء الكافرين إلا في ضلال» قال : فيقولون : ادعوا مالكا فيقولون : «يا مالك
ليقض علينا ربك» قال فيجيبهم : إنكم ماكثون قال الأعمش : نبئت أن بين دعائهم وبين
إجابة مالك إياهم ألف عام قال فيقولون : ادعوا ربكم فلا أحد خير من ربكم فيقولون :
«ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنّا قوما ضالّين ، ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنّا
ظالمون» قال : فيجيبهم :«اخسئوا فيها ولا تكلمون» قال فعند ذلك يئسوا من كل خير
وعند ذلك يأخذون في الزفير والحسرة والويل.
وعن عبد الله
بن عمرو رضي الله عنهما قال : إنّ أهل النار يدعون مالكا فلا يجيبهم أربعين عاما
ثم يقول : إنكم ماكثون ثم يدعون ربهم فيقولون : «ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنّا
ظالمون» فلا يجيبهم مثل الدنيا ثم يقول : «اخسئوا فيها ولا تكلمون» ثم ييئس القوم
فما هو إلا الزفير والشهيق تشبه أصواتهم أصوات الحمير أولها شهيق وآخرها زفير.
(أَمْ أَبْرَمُوا
أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ
وَنَجْواهُمْ
بَلى
وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠) قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ
فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ
الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى
يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ
وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ
مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ
الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧)
وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ
وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩))
اللغة :
(أَبْرَمُوا) أحكموا وفي المصباح : «وأبرمت العقد إبراما : أحكمته
فانبرم هو وأبرمت الشيء دبرته» ويقال أبرم الحبل إذا أتقن فتله والمراد القتل
الثاني وأما الأول فيقال له سحل وفي القاموس : السحل ثوب لا يبرم غزله كالسحيل ،
قال زهير يمدح هرم بن سنان والحارث بن عوف :
يمينا لنعم
السيدان وجدتما
|
|
على كل حال
من سحيل ومبرم
|
الإعراب :
(أَمْ أَبْرَمُوا
أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) كلام مستأنف مسوق للانحاء باللائمة على المشركين لما
بدر منهم ، وأم منقطعة بمعنى بل فبل للإضراب والانتقال من توبيخ أهل النار وحكاية
حالهم إلى حكاية جناية هؤلاء المشركين والهمزة للإنكار وأبرموا فعل ماض وفاعل
وأمرا مفعول به والفاء عاطفة وإن واسمها وخبرها (أَمْ يَحْسَبُونَ
أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ؟) أم تقدم القول فيها ويحسبون فعل مضارع مرفوع والواو
فاعل وأن وما بعدها سدّت مسدّ مفعولي تحسبون وجملة لا نسمع خبر أنّا وسرّهم مفعول
نسمع ونجواهم عطف على سرّهم (بَلى وَرُسُلُنا
لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) بلى حرف جواب أي نسمع ذلك والواو للحال ورسلنا مبتدأ
ولديهم ظرف متعلق بيكتبون وجملة يكتبون خبر رسلنا والجملة حالية (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ
فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والجملة مستأنفة
مسوقة لتفنيد ما ورد من مزاعم لهم في أول السورة بأن لله ولدا من الملائكة وإن
شرطية وكان فعل ماض ناقص وللرحمن خبرها المقدّم وولد اسمها المؤخر والفاء رابطة
لجواب الشرط وأنا مبتدأ وأول العابدين خبر وسيأتي معنى تعليق العبادة بكينونة
الولد في باب الفوائد (سُبْحانَ رَبِّ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) سبحان مفعول مطلق لفعل محذوف ورب السموات والأرض مضاف
إليه ورب العرش بدل من رب الأولى وعمّا متعلقان بسبحان وجملة يصفون صلة ما (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا
حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) الفاء الفصيحة وذرهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به ويخوضوا
جواب الطلب ولذلك جزم ويلعبوا عطف على يخوضوا ، حتى حرف غاية وجر ويلاقوا فعل
مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والواو فاعل ويومهم مفعول به والذي صفة وجملة
يوعدون صلة ويوعدون مضارع
مبني للمجهول والواو نائب فاعل (وَهُوَ الَّذِي فِي
السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) الواو استئنافية وهو مبتدأ والذي خبره وفي السماء
متعلقان بإله لأنه بمعنى معبود ، ومثل له الزمخشري بقولهم هو حاتم طي حاتم في تغلب
على تضمين معنى الجواد الذي شهر به كأنك قلت هو جواد في طي جواد في تغلب. وإله خبر
لمبتدأ محذوف تقديره هو والجملة صلة الذي وفي الأرض إله عطف على قوله في السماء
إله وهو مبتدا والحكيم العليم خبران (وَتَبارَكَ الَّذِي
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) الواو عاطفة وتبارك فعل ماض والذي فاعله وله خبر مقدم
وملك السموات مبتدأ مؤخر والجملة صلة وما عطف على السموات والأرض والظرف متعلق
بمحذوف هو الصلة (وَعِنْدَهُ عِلْمُ
السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) الواو عاطفة وعنده ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وعلم
الساعة مبتدأ مؤخر وإليه متعلقان بترجعون وترجعون فعل مضارع مبني للمجهول والواو
نائب فاعل (وَلا يَمْلِكُ
الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ) الواو عاطفة ولا نافية ويملك فعل مضارع والذين فاعله
وجملة يدعون صلة الموصول ومن دونه متعلقان بيدعون والشفاعة مفعول يملك (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ) إلا أداة حصر ومن مستثنى من الذين وهو استثناء منقطع
والمعنى ولا يملك آلهتهم ويعني بهم الأصنام والأوثان الشفاعة كما زعموا أنهم
شفعاؤهم عند الله ولكن من شهد بالحق وهو توحيد الله وهو يعلم ما شهد به هو الذي
يملك الشفاعة ويجوز أن يكون الاستثناء متصلا لأنه يكون المستثنى منه محذوفا كأنه
قال ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة في أحد إلا فيمن شهد بالحق فهو استثناء
من المفعول المحذوف على حدّ قول الشاعر :
نجا سالم
والنفس منه بشدقه
|
|
ولم ينج إلا
جفن سيف ومئزر
|
فهو استثناء من
المشفوع فيهم. وجملة شهد بالحق صلة من وهم
الواو حالية أو عاطفة وهم مبتدأ وجملة يعلمون خبر (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ
لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وإن شرطية وسألتهم فعل
ماض وفاعل ومفعول به وهو في محل جزم فعل الشرط ومن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ
وجملة خلقهم خبر من وجملة الاستفهام المعلقة في محل نصب مفعول به ثان لسألتهم وليقولنّ
اللام جواب القسم وجواب الشرط محذوف على القاعدة المعروفة وهي اجتماع قسم وشرط
ويقولنّ فعل مضارع مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال والواو المحذوفة
لالتقاء الساكنين فاعل والنون المشددة نون التوكيد الثقيلة والله فاعل بفعل محذوف
دلّ عليه موصول الاستفهام والتقدير خلقنا الله لأن القضية الشرطية لا تستدعي
الوقوع ولا عدمه والدليل على أن المرفوع فاعل فعله محذوف لا مبتدأ أنه جاء عند عدم
الحذف كقوله تعالى الآنف الذكر «ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهنّ
العزيز العليم» على أن هذه الحجة قد تعارض بالمثل فيقال والدليل على أنه مبتدأ أنه
قد جاء كذلك كقوله تعالى : «قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر ـ إلى قوله ـ قل
الله ينجيكم منها» وما يقال أنه قدّم لإفادة الاختصاص ممنوع لأن الفاعل لا يجوز
تقديمه على عامله على الأصح والأحسن أن يقال إن الحجة الفعلية في هذا الباب أكثر
فالحمل عليها أولى. وقال ابن هشام : «يقول بعضهم في ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن
الله إن اسم الله سبحانه وتعالى مبتدأ أو فاعل أي الله خلقهم أو خلقهم الله
والصواب الحمل على الثاني بدليل ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولنّ خلقهنّ
العزيز الحكيم» وتعقبه الدماميني شارع المغني فقال «هذا معارض بقوله تعالى : قل من
ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه إلى أن قال : قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب»
وتعقبه الشمني فقال : «وأقول لا يعارضه لأن الكلام إنما هو في خصوص الجواب الذي
سنده خلق لا في كل جواب».
والفاء عاطفة
وأنى اسم استفهام بمعنى كيف في محل نصب على الحال ويؤفكون فعل مضارع مبني للمجهول
والواو نائب فاعل (وَقِيلِهِ يا رَبِّ
إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) الواو للقسم وقيله أي قوله مجرور بواو القسم والجار
والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم والجواب إما محذوف أي لأفعلنّ بهم ما
أريد وإما مذكور وهو قوله إن هؤلاء قوم لا يؤمنون كأنه قيل وأقسم بقيله يا رب وقيل
هو معطوف على الساعة وفيه بعد وقرئ بالنصب قال الجلال السيوطي «ونصبه على المصدر
بفعله المقدّر وقيل إن النصب بالعطف على سرهم ونجواهم وقيل إنه بالعطف على محل
الساعة كأنه قيل إنه يعلم الساعة وقرئ بالرفع على الابتداء والخبر ما بعده أو إن
الخبر محذوف تقديره وقيله مسموع أو متقبل» وإن واسمها وخبرها وجملة لا يؤمنون صفة (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ
فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) الفاء الفصيحة واصفح فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت
وعنهم متعلقان باصفح وقل عطف على فاصفح وسلام خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر سلام فسوف
الفاء عاطفة وسوف حرف تسويف ويعلمون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون
والواو فاعل والمفعول به محذوف للتفخيم أي مغبة أمرهم.
الفوائد :
وعدناك بالحديث
عن تعليق العبادة بكينونة الولد وقد شجر بين المفسرين والمتكلمين جدال طويل في
صددها وخاصة بين أهل السنّة والمعتزلة ، فقال الزمخشري بأسلوبه البارع ما يلي : «قل
إن كان للرحمن ولد وصحّ ذلك وثبت ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها فأنا
أول من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له كما يعظم الرجل ولد الملك
لتعظيم أبيه وهذا كلام وارد على سبيل
الفرض والتمثيل لغرض وهو المبالغة في نفي الولد والإطناب فيه وأن لا يترك
الناطق به شبهة إلا مضمحلة مع الترجمة عن نفسه بثبات القدم في باب التوحيد وذلك
أنه علّق العبادة بكينونة الولد وهي محال في نفسها فكان المعلّق بها محالا مثلها
فهو في صورة إثباته الكينونة والعبادة وفي معنى نفيهما على أبلغ الوجوه وأقواها»
ثم أورد تهكما بأهل السنّة وأرخى للسانه العنان فأساء إلى الذات الإلهية إذ قال : «ونظيره
أن يقول العدلي للمجبر إن كان الله خالقا للكفر في القلوب ومعذب عليه عذابا سرمدا
فأنا أول من يقول هو شيطان وليس بإله فمعنى هذا الكلام وما وضع له أسلوبه ونظمه
نفي أن يكون الله تعالى خالقا للكفر وتنزيهه عن ذلك وتقديسه ولكن على طريق
المبالغة فيه من الوجه الذي ذكرنا مع الدلالة على سماجة المذهب وضلالة الذاهب إليه
والشهادة القاطعة بإحالته والإفصاح عن نفسه بالبراءة منه وغاية النفار والاشمئزاز
من ارتكابه».
وقد نوّه أبو
حيان بإساءة الزمخشري فقال بعد أن نقل ما نقلناه من كلام الزمخشري : «ثم ذكر كلاما
يستحق عليه التأديب بل السيف نزّهت كتابي عن ذكره» وهذا ليس بالردّ كما ترى بل فيه
مقابلة المهاترة بالمهاترة والشطط بالشطط.
وردّ الإمام
ناصر الدين أحمد بن محمد بن المنير الإسكندري المالكي قاضي الإسكندرية المتوفى سنة
٦٨٣ ه على الزمخشري ردّا حسنا سلك فيه جادة النقد الصحيح فقال «لقد اجترأ عظيما
واقتحم مهلكة في تمثيله بقول من سمّاه عدليا إن كان الله خالقا للكفر في القلوب
ومعذبا عليه فأنا أول القائلين إنه شيطان وليس بإله فلينتقم عليه ذلك بقول القائل
: قد ثبت عقلا وشرعا أنه تعالى خالق لذلك في القلوب كما خلق الإيمان وفاء بمقتضى
دليل العقل الدال على أن لا خالق إلا الله وتصديقا بمضمون قوله تعالى : «هل من
خالق غير الله
وقوله : الله خالق كل شيء وإذا ثبتت هذه المقدمة عقلا ونقلا لزمه فرك أذنه
وغلّ عنقه إذ يلحد في الله إلحادا لم يسبقه إليه أحد من عباده الكفرة ولا تجرأ
عليه ما ردّ من مردّة الفجرة» إلى آخر هذا الرد الذي لم يخل من السباب والشتائم
أيضا.
ثم قال
الزمخشري : «وقد تمحل الناس بما أخرجوه به من هذا الأسلوب الشريف المليء بالنكت
والفوائد المستقلة بالتوحيد على أبلغ وجوهه فقيل إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا
أول العابدين الموحدين لله المكذبين قولهم بإضافة الولد إليه وقيل إن كان للرحمن
ولد فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد من عبد يعبد إذا اشتد أنفه فهو عبد وعابد»
وقيل : هي إن النافية أي ما كان للرحمن ولد فأنا أول من قال بذلك وعبد ووحد وقد
فنّد أبو حيان هذه الوجوه كلها بما لا يتّسع له صدر هذا الكتاب.
وعبارة
الشوكاني : «أي إن كان له ولد في قولكم وعلى زعمكم فأنا أول من عبد الله وحده لأن
من عبد الله وحده فقد دفع أن يكون له ولد ، كذا قال ابن قتيبة وقال الحسن والسدّي
: إن المعنى ما كان للرحمن ولد ويكون قوله فأنا أول العابدين ابتداء كلام ، وقيل
المعنى :قل يا محمد إن ثبت لله ولد فأنا أول من يعبد هذا الولد الذي تزعمون ثبوته
ولكنه يستحيل أن يكون له ولد وفيه نفي للولد على أبلغ وجه وأتم عبارة وأحسن أسلوب
وهذا هو الظاهر من النظم القرآني ، ومن هذا القبيل قوله تعالى : وإنّا وإياكم لعلى
هدى أو في ضلال مبين ، ومثل هذا قول الرجل لمن يناظره إن ثبت ما تقوله بالدليل
فأنا أول من يعتقده ويقول به ، فتكون إن شرطية وهذا ما اخترناه ورجحه ابن جرير
وغيره وهناك أقوال أخرى ضربنا عنها صفحا لأنها من التمحّل والتكلّف لا يليق
بالقرآن الكريم أن يأتي بها أو يرمي إليها لأن القرآن لا يأتي بالقليل من اللغة
ولا الشاذ.
سورة الدخان
مكيّة وآياتها تسع
وخمسون
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(حم (١) وَالْكِتابِ
الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا
مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا
إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ
مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ
آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩))
الإعراب :
(حم وَالْكِتابِ
الْمُبِينِ) تقدم القول في مثلها في سورة الزخرف فجدّد به عهدا (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ
مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) إن واسمها وجملة أنزلناه خبرها وفي ليلة متعلقان
بأنزلناه ومباركة نعت ليلة وجملة إنّا أنزلناه جواب القسم وإنّا إن واسمها وجملة
كنّا خبرها وكان واسمها ومنذرين خبرها وجملة إنّا كنّا لا محل لها لأنها جواب
القسم أيضا من غير عاطف أو مستأنفة أو تفسيرية لجواب القسم (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ
حَكِيمٍ) الجملة مستأنفة أو صفة لليلة وعبارة الزمخشري غاية في
إعرابها قال : «فإن قلت إنّا كنّا منذرين فيها يفرّق كل أمر حكيم ما موقع هاتين
الجملتين؟ قلت هما جملتان مستأنفتان ملفوفتان فسّر بهما جواب القسم الذي هو قوله
تعالى : إنّا أنزلناه في ليلة مباركة كأنه قيل أنزلناه لأن من شأننا الإنذار
والتحذير من العقاب وكان إنزالنا إياه في هذه الليلة خصوصا لأن إنزال القرآن من
الأمور الحكيمة وهذه الليلة يفرق فيها كل أمر حكيم» وفيها متعلقان بيفرق ويفرق فعل
مضارع مبني للمجهول وكل أمر نائب فاعل وحكيم صفة لأمر أي يفصل ويكتب كل أمر حكيم
من أرزاق العباد وآجالهم وجميع شئونهم (أَمْراً مِنْ
عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) أجازوا في أمرا وجوها عديدة ولم يترجح لنا وجه معين
لنجزم به فنورد عبارة أبي البقاء ثم نورد بقية الأقوال في باب الفوائد قال : «في
نصبه أوجه أحدها هو مفعول منذرين كقوله لينذر بأسا شديدا والثاني هو مفعول له
والعامل فيه أنزلناه أو منذرين أو يفرق والثالث هو حال من الضمير في حكيم أو من
أمر لأنه قد وصف أو من كل أو من الهاء في أنزلناه والرابع أن يكون في موضع المصدر
أي فرقا من عندنا والخامس أن يكون مصدرا أي أمرنا أمرا ودلّ على ذلك ما يشتمل
الكتاب عليه من الأوامر والسادس أن يكون بدلا من الهاء في فأنزلناه» ومن عندنا صفة
لأمر أو متعلق بيفرق وإن واسمها وجملة كنّا مرسلين خبر إنّا (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أجازوا في رحمة خمسة أوجه متساوية الرجحان الأول
المفعول لأجله والعامل فيه إما أنزلناه وإما أمرا وإما يفرق وإما منذرين والثاني
أنه مصدر منصوب بفعل مقدّر أي رحمنا رحمة والثالث أنه مفعول بمرسلين والرابع أنه
حال من ضمير مرسلين أي ذوي رحمة والخامس أنه بدل من أمرا فيجيء فيه ما تقدم ، ومن
ربك صفة لرحمة أو متعلق بنفس الرحمة وإن واسمها وهو مبتدأ أو ضمير فصل والسميع
العليم خبران لهو أو لإنه وقد تقدمت له نظائر
(رَبِّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) رب السموات والأرض بدل من ربك وما عطف على السموات
والأرض والظرف صلة الموصول وإن شرطية وكنتم في محل جزم فعل الشرط وموقنين خبر كنتم
وجواب الشرط محذوف تقديره فأيقنوا بأن محمدا رسوله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ
يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) الجملة خبر أيضا لأن ، وربكم خبر رابع أو خبر لمبتدأ
محذوف ورب آبائكم الأولين عطف على ما تقدم (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ
يَلْعَبُونَ) إضراب عن محذوف كأنه قال فليسوا بموقنين بل هم في شكّ
بحسب ضمائرهم وهم مبتدأ وفي شك خبر وجملة يلعبون حال.
الفوائد :
١ ـ ليلة القدر
: المراد بالليلة المباركة ليلة القدر وقد اختلف فيها وفي تحديد موعدها وقيل ليلة
النصف من شعبان ويمكن الرجوع في معرفتها إلى المطولات هذا ويتطلع المسلمون في
مشارق الأرض ومغاربها إلى ليلة القدر والاحتفال بها والحرص عليها والتعرّض لما
يحتشد فيها من خير كثير وثواب كبير وليلة القدر من الشئون الدينية التي صحّ بها
النص صحة لا تدع في صدر المؤمن ريبا أو حرجا وإن كان لم يرد معها ذلك السر الذي
دعا المسلمين إلى تكريمها من أجله ، والذي نراه أن ليلة القدر لم تكن ولن تكون
بابا يفتح في السماء أو نورا يملأ فضاء البيت وإنما هي مبدأ لرحمة الله الشاملة
التي استنفذت الإنسانية كلها من ربقة الطغيان وأخذت بأيدي الحيارى إلى مسالك واضحة
المعالم شريفة الغايات والأهداف يستشعرون فيها برد الطمأنينة ، وراحة السكينة
واسترجاع الرشد العازب ، وربما كان من أجل هذه المعاني الشريفة في ليلة القدر جعل
قيامها سترا للعيوب وغفرانا للذنوب فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من
ذنبه.
٢ ـ أقوال
المعربين في أمرا : قال الزمخشري : «أمرا من عندنا نصب على الاختصاص ، جعل كل أمر
جزلا بأن وصفه بالحكيم ثم زاده جزالة وكسبه فخامة بأن قال أعني بهذا الأمر أمرا
حاصلا من عندنا كائنا من لدنا وكما اقتضاه علمنا وتدبيرنا ، ويجوز أن يراد به
الأمر الذي هو ضد النهي ثم إما أن يوضع موضع فرقانا الذي هو مصدر يفرق لأن معنى
الأمر والفرقان واحد من حيث أنه إذا أحكم بالشيء وكتبه فقد أمر به أو يكون حالا من
أحد الضميرين في أنزلناه إما من ضمير الفاعل أي أنزلناه آمرين أمرا أو من ضمير
المفعول أي أنزلناه في حال كونه أمرا من عندنا بما يجب أن يفعل».
أما الشهاب
السمين فقد قال فيه أوجه : أحدها أن ينتصب حالا من فاعل أنزلناه والثاني أنه حال
من مفعوله أي أنزلناه آمرين أو مأمورا به والثالث أن يكون مفعولا له وناصبه إما
أنزلناه وإما منذرين وإما يفرق والرابع أنه مصدر من معنى يفرق أي فرقا وهناك أقوال
أخرى لا تخرج عن هذا النطاق.
(فَارْتَقِبْ يَوْمَ
تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ
(١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ
الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا
مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ
(١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦))
اللغة :
(بِدُخانٍ) الدخان معروف وقال أبو عبيدة : والدخان الجدب قال
القتبي : سمي دخانا ليبس الأرض منه حتى يرتفع منها كالدخان وقياس جمعه في القلّة
أدخنة وفي الكثرة دخنان نحو غراب وأغربة وغربان وشذوا في جمعه على فواعل فقالوا :
دواخن كأنه جمع داخنة تقريبا كما شذّوا في عنان فقالوا عوانن وفي القاموس : والدخان
كغراب وجبل ورمان الغبار والجمع أدخنة ودواخن ودواخين.
الأعراب :
(فَارْتَقِبْ يَوْمَ
تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) الفاء الفصيحة وارتقب فعل أمر وفاعله ضمير مستتر تقديره
أنت ويوم مفعول به لارتقب وجملة تأتي السماء في محل جر بإضافة الظرف إليها وبدخان
متعلقان بتأتي ومبين صفة لدخان وفي الدخان المذكور أقوال متشعبة يرجع إليها في
مطولات كتب التفسير وملخصها : هو دخان يجيء يوم القيامة يصيب المؤمن (يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) الجملة في محل جر صفة لدخان أيضا أي يشملهم ويلبسهم
والناس مفعول به وهذا مبتدأ وعذاب خبر وأليم صفة لعذاب والجملة مقول قول محذوف
وجملة القول في محل نصب على الحال أي قائلين لربك (رَبَّنَا اكْشِفْ
عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) تتمة مقولهم وربنا منادى مضاف واكشف فعل أمر للدعاء
والفاعل مستتر تقديره أنت وعنّا متعلقان باكشف والعذاب مفعول به وإن واسمها
ومؤمنون خبرها والجملة تعليلية للدعاء (أَنَّى لَهُمُ
الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ) أنّى اسم استفهام بمعنى كيف في محل نصب على الظرفية وهو
في محل رفع خبر مقدم ولهم حال والذكرى مبتدأ مؤخر ، والاستفهام هنا محمول على غير
حقيقته ، بل المراد استبعاد أن يكون
لهم الذكرى بقرينة قوله «وقد جاءهم رسول مبين ثم تولوا عنه» أي كيف يذكرون
ويتعظون ويفون بما وعدوا به من الإيمان عند كشف العذاب عنهم وقد جاءهم ما هو أعظم
وأدخل في وجوب الادّكار من كشف الدخان وهو ما ظهر على يد رسول الله صلى الله عليه
وسلم من الآيات البيّنات ومن الكتاب المعجز وغيره فلم يذكروا وأعرضوا عنه والواو
حالية وقد حرف تحقيق وجاءهم رسول فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر ومبين صفة (ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا
مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) ثم حرف عطف وتولوا فعل وفاعل والعطف على محذوف أي فلم
يذكروا ثم تولوا وعنه متعلقان بتولوا وقالوا عطف على تولوا ومعلم خبر لمبتدأ محذوف
أي هو معلم بفتح اللام المشددة اسم مفعول من علم أي يعلمه غلام أعجمي لبعض ثقيف
وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في سورة النحل ومجنون خبر ثان (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً
إِنَّكُمْ عائِدُونَ) إن واسمها وكاشفوا العذاب خبرها وقليلا ظرف زمان متعلق
بكاشفوا وإن واسمها وعائدون خبرها (يَوْمَ نَبْطِشُ
الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) يوم ظرف متعلق بمحذوف دلّ عليه إنّا منتقمون أي ننتقم
واقتصر على هذا الإعراب الزمخشري وأجاز غيره أن يكون بدلا من يوم تأتي وقيل منصوب
بإضمار اذكر وقيل بمنتقمون وردّ الزمخشري هذا الوجه بأن إن تحجب عن ذلك وجملة نبطش
في محل جر بإضافة الظرف إليها والبطشة مفعول مطلق والكبرى صفة وإن واسمها ومنتقمون
خبرها.
(وَلَقَدْ فَتَنَّا
قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا
إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا
عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي
وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي
فَاعْتَزِلُونِ
(٢١) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي
لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ
جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ
وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ
وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ
وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩))
اللغة :
(فَتَنَّا) بلونا وامتحنّا أي فعلنا بهم فعل الممتحن الذي يريد أن
يعلم بحقيقة ذلك الشيء ، وذلك الامتحان كان بزيادة الرزق والتمكين في الأرض ففسدوا
واستطالوا في الغيّ وركوب متن الضلال.
(رَهْواً) قال في الكشاف : «الرهو فيه وجهان : أحدهما أنه الساكن
قال الأعشى :
يمشين رهوا
فلا الأعجاز خاذلة
|
|
ولا الصدور
على الأعجاز تتكل
|
أي مشيا ساكنا
على هنية ، أراد موسى لما جاوز البحر أن يضربه بعصاه فينطبق كما ضربه فانفلق فأمر
بأن يتركه ساكنا على هنية قارا على حاله من انتصاب الماء وكون الطريق يبسا لا
يضربه بعصاه ولا يغير منه شيئا ليدخله القبط فإذا حصلوا فيه أطبقه الله عليهم.
والثاني أن الرهو الفجوة الواسعة وعن بعض العرب أنه رأى جملا فالجا فقال سبحان
الله رهو بين سنامين أي اتركه على حاله منفرجا» فهو في الأصل مصدر رها يرهو رهوا
كعدا يعدو عدوا إما بمعنى سكن وإما بمعنى انفرج وانفتح
وفي المختار : «رها بين رجليه أي فتح وبابه عدا ، ورها البحر سكن وبابه عدا
أيضا».
(فاكِهِينَ) طيبي الأنفس أو أصحاب فاكهة كلابن وتامر وقد مرت هذه
الصيغة وعبارة القاموس «الفاكهة الثمر كله والفاكهاني بائعها وكخجل آكلها والفاكه
صاحبها وفكههم تفكيها أطرفهم بها والاسم الفكيهة والفكاهة بالضم وفكه كفرح فكها
فهو فكه وفاكه طيب النفس ضحوك أو يحدّث صحبه فيضحكهم».
الإعراب :
(وَلَقَدْ فَتَنَّا
قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) كلام مستأنف مسوق للشروع في ضرب الأمثلة لهم بمن تقدمهم
من الأقوام واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وفتنا فعل ماض وفاعل وقبلهم
ظرف متعلق بفتنا وقوم فرعون مفعول به ، وجاءهم : الواو عاطفة وجاءهم فعل ماض
ومفعول به مقدم ورسول فاعل وكريم صفة (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ
عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) أن يجوز أن تكون مفسّرة لأن مجيء الرسل متضمن معنى
القول ويجوز أن تكون مصدرية وهي مع مدخولها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض
والجار والمجرور متعلقان بجاءهم ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن
وجملة أدّوا إليّ خبر وعباد الله منادى مضاف محذوف منه حرف النداء فيكون المراد
بعباد الله القبط ، واختار الزمخشري أن تكون عباد الله مفعولا به وهم بنو إسرائيل
يقول أدّوهم إليّ وأرسلوهم معي ويؤيد هذا ما جاء في سورة الشعراء «فأتيا فرعون
فقولا إنّا رسول رب العالمين أن أرسل معنا بني إسرائيل» وإن واسمها ولكم متعلقان
بمحذوف حال ورسول خبر إنّي وأمين صفة (وَأَنْ لا تَعْلُوا
عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) الواو عاطفة
وأن عطف على أن الأولى ويجوز فيها من الأوجه ما جاز في الأولى ولا ناهيه
وتعلو فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون وعلى الله متعلقان بتعلوا وإن
واسمها وجملة آتيكم خبرها وبسلطان متعلقان بآتيكم ومبين صفة والجملة تعليلية للنهي
لا محل لها (وَإِنِّي عُذْتُ
بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) الواو حرف عطف على بربي وإن واسمها وجملة عذت خبرها
وربي متعلقان بعذت وربكم عطف على بربي وأن وما بعدها في تأويل مصدر منصوب بنزع
الخافض والجار والمجرور متعلقان بعذت أي من أن ترجمون وياء المتكلم المحذوفة مفعول
ترجمون (وَإِنْ لَمْ
تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) الواو عاطفة وإن شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتؤمنوا
فعل الشرط والفاء رابطة وجملة اعتزلون في محل جزم جواب الشرط واقترنت الجملة
بالفاء وجوبا لأنها طلبية ولا ترسم الياء أيضا لأنها من آيات الزوائد (فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ
مُجْرِمُونَ) الفاء حرف عطف والكلام معطوف على مقدّر قدّره الجلال
بقوله فلم يتركوه ، ودعا ربه فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وأن ومدخولها في محل
نصب بنزع الخافض أي بأن هؤلاء والجار والمجرور متعلقان بدعا وأن واسمها وخبرها ومجرمون
صفة لقوم (فَأَسْرِ بِعِبادِي
لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) الفاء الفصيحة وهي الواقعة جوابا لشرط مقدّر كأنه قال :
إن كان الأمر كما تقول فأسر وبعبادي متعلقان بأسر وليلا ظرف زمان متعلق بأسر أيضا
وإن واسمها وخبرها والجملة تعليل للأمر بالإسراء وهو السير ليلا (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ
جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) الواو عاطفة واترك فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت
ورهوا حال أو مفعول به ثان لاترك وإن واسمها وخبرها والجملة تعليل للأمر بالترك (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) الكلام مرتبط بمقدّر لا بدّ منه ليلتئم نظام الكلام
والتقدير فاطمأن موسى بذلك فتمّ إغراقهم ، وكم خبرية في محل نصب مفعول به مقدّم
لتركوا ومن جنات
وعيون في محل نصب على الحال (وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ
كَرِيمٍ) عطف على جنات وعيون والمقام الكريم يراد به مجالسهم
الحافلة التي كانوا يقيمونها ومحافلهم الهانئة التي كانوا يلتفّون فيها (وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ) عطف أيضا وهو من عطف العام على الخاص لأن النعمة لا
تشمل جميع ما تقدم وغيره مما لم يذكر وجملة كانوا صفة لنعمة وفيها متعلقان بفاكهين
وفاكهين خبر كانوا (كَذلِكَ
وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ) كذلك خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر كذلك وقال الزمخشري : «الكاف
منصوبة على مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها» فهي عنده في موضع المفعول المطلق وقال
أبو البقاء تركا كذلك فجعله نعتا للترك المحذوف ، والواو حرف عطف وأورثناها فعل
وفاعل ومفعول به والجملة عطف على كم تركوا وقوما مفعول به ثان وآخرين نعت لقوما (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ
وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) الفاء عاطفة والكلام معطوف على جملة أغرقوا المقدّرة
وبكت عليه السماء والأرض فعل وفاعل وما نافية وكانوا منظرين كان واسمها وخبرها.
البلاغة :
معنى بكت عليهم
السماء والأرض : في قوله «فما بكت عليهم السماء والأرض» استعارة مكنية تخييلية ؛
شبّه السماء والأرض بمن يصحّ منه الاكتراث ثم حذف المشبه به وهو من يصحّ منه
الاكتراث واستعار له شيئا من لوازمه وهو البكاء والمعنى أنهم لم يكونوا يعملون
عملا صالحا ينقطع بهلاكه فتبكي الأرض لانقطاعه وتبكي السماء لأنه لم يصعد إليها
شيء من ذلك العمل الصالح بعد هلاكهم وجعله بعضهم مجازا مرسلا عن الاكتراث بهلاك
الهالك والعلاقة السببية ، ذكر المسبب وأراد السبب فإن الاكتراث المذكور سبب يؤدي
إلى البقاء عادة.
قال أبو حيان :
فما بكت عليهم السماء والأرض استعارة لتحقير أمرهم وأنه لم يتغير عن هلاكهم شيء
ويقال في التعظيم بكت عليه السماء والأرض وبكته الريح وأظلمت له الشمس وقال زيد بن
مفزع :
الريح تبكي
شجوها
|
|
والبرق يلمع
في غمامه
|
وقال جرير :
فالشمس طالعة
ليست بكاسفة
|
|
تبكي عليك نجوم
الليل والقمرا
|
ولا مندوحة لنا
عن أن نتناول بيت جرير بالشرح والإعراب فقد شغل النقاد كثيرا وهو من قصيدة يرثي
بها عمر بن عبد العزيز وقبله :
نعى النعاة
أمير المؤمنين لنا
|
|
يا خير من حج
بيت الله واعتمرا
|
حملت أمرا
عظيما فاضطلعت به
|
|
وقمت فيه
بأمر الله يا عمرا
|
فالشمس طالعة (البيت)
وقوله يا خير حكاية قول النعاة أي قائلين يا خير ويحتمل أنه من كلام الشاعر ففيه
التفات ، والنعي النداء بالموت ، والأمر العظيم الخلافة ومشاقها وأعباؤها ؛ شبهها
بالأمر المحسوس الذي يحمل على طريق الاستعارة المكنية والتحميل تخييل للاستعارة ،
وأمر الله شرعه ، وفي هذا البيت أقوال منها أن فيه تقديما وتأخيرا وأن نجوم الليل
والقمر منصوبان بكاسفة لا بقوله تبكي وتقديره ليست بكاسفة نجوم الليل ولا القمر
تبكي عليك وإذا كانت غير كاسفة لغيرها من الكواكب كانت غير مضيئة فهي سوداء مظلمة
والزمان كله ليل وهذا في غاية ما يكون من المبالغات في المراثي ومن أجود ما قيل في
الرثاء ، وطالعة خبر الشمس وليست بكاسفة خبر ثان وتبكي عليك حال أو خبر ثالث ونجوم
الليل مفعول كاسفة أي لم تكسف الشمس نجوم الليل لانطماسها وقلّة ضوئها
من كثرة بكائها فلا تقدر على منع الكواكب من الظهور ، ويحتمل أن نجوم الليل
مفعول تبكي أي تغلب نجوم الليل في البكاء عليك وقيل روايته هكذا وهم والرواية
الشمس كاسفة ليست بطالعة أي لا تطلع أبدا من حينئذ فالأوجه أن نجوم الليل مفعول
تبكي وقيل ظرف له أي مدة نجوم إلخ وقيل نجوم مرفوع على الفاعلية والقمر مفعول معه
، ونصب عمر مشكل لأنه علم مفرد فكان ينبغي أن يبنى على الضم وفيه وجوه منها أنه
أراد يا عمر بن الخطاب أو يا عمر بن عبد العزيز والمنادى المضاف يكون منصوبا ثم
قطع الإضافة لانتهاء الوزن ومنها أنه أراد يا عمراه على الندبة وحذف الهاء كما قيل
في قوله تعالى : «يا أسفا على يوسف» وقيل غير ذلك مما يطول فيه القول وليس بطائل.
(وَلَقَدْ نَجَّيْنا
بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ
عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى
الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣)
إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما
نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ
خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ
كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧))
اللغة :
(تُبَّعٍ) هو تبع الحميري الذي سار بالجيوش وحير الحيرة وبنى
سمرقند وقيل هدمها كان مؤمنا وكان قومه كافرين ولذلك ذمّهم الله دونه وعبارة أبي
حيان : «الظاهر أن تبعا هو شخص معروف وقع التفاضل بين
قومه وقوم الرسول عليه الصلاة والسلام وإن كان لفظ تبع يطلق على كل من ملك
العرب كما يطلق كسرى على من ملك الفرس وقيصر على من ملك الروم قيل اسمه أسعد
الحميري وكنّي أبا كرب ، وذكر أبو حاتم الرياشي أنه آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم
قبل أن يبعث بتسعمائة سنة وروي أنه لما آمن بالمدينة كتب كتابا ونظم شعرا ، أما
الشعر فهو :
شهدت على
أحمد أنه
|
|
رسول من الله
باري النسم
|
فلو مدّ عمري
إلى عمره
|
|
لكنت وزيرا
له وابن عمّ
|
وأما الكتاب
فروى ابن إسحق وغيره أنه كان فيه : أما بعد فإني آمنت بك وبكتابك الذي أنزل عليك
وأنا على دينك وسنّتك وآمنت بربك ورب كل شيء وآمنت بكل ما جاء من ربك من شرائع
الإسلام فإن أدركتك فبها ونعمت وإن لم أدركك فاشفع لي ولا تنسني يوم القيامة فإني
من أمتك الأولين وتابعتك قبل مجيئك وأنا على ملّتك وملّة أبيك إبراهيم عليه
السّلام ثم ختم الكتاب ونقش عليه لله الأمر من قبل ومن بعد وكتب عنوانه : إلى محمد
بن عبد الله نبيّ الله ورسوله خاتم النبيين ورسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم
من تبع الأول. ويقال كان الكتاب والشعر عند أبي أيوب خالد بن زيد فلم يزل عنده حتى
بعث النبي صلى الله عليه وسلم. وكانوا يتوارثونه كابرا عن كابر حتى أدوه للنبي صلى
الله عليه وسلم. وقال قوم ليس المراد بتبع رجلا واحدا إنما المراد ملوك اليمن
وكانوا يسمّون التتابعة ، قال الجوهري : «التتابعة ملوك اليمن والتبع الظل والتبع
الظل والتبع ضرب من الطير» وعبارة الزمخشري : «وقيل لملوك اليمن التتابعة لأنهم
يتبعون كما قيل الأقيال لأنهم يتقيلون» وفي مختار الصحاح : التقيل شرب نصف النهار.
وسمي الظل تبعا لأنه يتبع الشمس.
هذا وكان منهم
سبعون تبعا ، قال النعمان بن بشير الأنصاري :
لنا من بني
قحطان سبعون تبعا
|
|
أطاعت لنا
بالخرج منّا الأعاجم
|
ومنّا سراة
الناس هود وصالح
|
|
وذو الكفل
منّا والملوك الأعاظم
|
وقيل كانوا
ثمانين فلم يتفق له في الشعر هذا وتفاصيل أخبارهم مبثوثة في بطون كتب التاريخ
المطوّلة فليرجع إليها من استهوته قراءة الأساطير الممتعة وما فيها من قصص عجيب.
الإعراب :
(وَلَقَدْ نَجَّيْنا
بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ) كلام مستأنف مسوق لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم عمّا
كان يكابده من قريش وإثلاج صدره بأن الله قادر على إنقاذه وإنقاذ أتباعه من أذاهم
كما نجى بني إسرائيل من القبط وهو أمر كان بحسب الظاهر أمرا بعيد الوقوع.
واللام جواب
للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق ونجينا فعل وفاعل وبني إسرائيل مفعول به ومن العذاب
متعلقان بنجينا والمهين صفة للعذاب (مِنْ فِرْعَوْنَ
إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ) من فرعون بدل من قوله من العذاب بإعادة الجار كأنه في
نفسه كان عذابا مهينا لما كابدوه منه من عذاب وإهانة وقيل متعلقان بمحذوف حال من
العذاب أي كائنا أو صادرا من فرعون ، وإن واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر
تقديره هو وعاليا خبرها ومن المسرفين خبر ثان لكان وجملة إن وما بعدها لا محل لها
لأنها تعليلية (وَلَقَدِ
اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) الواو عاطفة واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق
واخترناهم فعل وفاعل ومفعول به وعلى علم متعلقان بمحذوف حال وعلى بمعنى مع أي مع
علمنا بأنهم يزيفون وتفرط منهم الفرطات وعلى العالمين متعلقان باخترناهم أو لكثرة
الأنبياء منهم (وَآتَيْناهُمْ مِنَ
الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ) عطف على ما تقدم وآتيناهم فعل وفاعل ومفعول ومن
الآيات حال مقدّم وما مفعول به ثان لآتيناهم وفيه خبر مقدم وبلاء مبتدأ
مؤخر ومبين صفة لبلاء والجملة صلة الموصول (إِنَّ هؤُلاءِ
لَيَقُولُونَ) إن واسمها واللام المزحلقة ويقولون فعل مضارع مرفوع
بثبوت النون والجملة خبر إن وجملة إن هؤلاء مستأنفة مسوقة للحديث عن قريش بعد
استطراد حديث بني إسرائيل (إِنْ هِيَ إِلَّا
مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) إن نافية وهي مبتدأ وإلا أداة حصر وموتتنا خبر هي
والأولى نعت ، وسيأتي معنى الميتة الأولى في باب الفوائد ، والواو حرف عطف وما
نافية حجازية ونحن اسمها وبمنشرين الباء حرف جر زائد ومنشرين خبرها منصوب محلا
مجرور لفظا (فَأْتُوا بِآبائِنا
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الفاء الفصيحة أي إن كنتم صادقين فيما تقولون فعجّلوا
لنا إحياء من مات من آبائنا لينهض دليلا على ما تعدّونه من قيام الساعة وبعث
الموتى (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ
قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا
مُجْرِمِينَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري وهم مبتدأ وخير خبر وأم حرف
عطف وقوم تبع عطف على هم والذين عطف على قوم تبع ومن قبلهم متعلقان بمحذوف صلة
الذين ، وجملة أهلكناهم حال من المعطوف والمعطوف عليه أو مستأنفة لا محل لها وإن
واسمها وجملة كانوا مجرمين خبرها والمراد بالخيرية المفضلة القوة والمنعة في
الدنيا ، وجملة انهم كانوا مجرمين تعليلية لا محل لها لأنها تعليل لإهلاكهم.
الفوائد :
معنى الموتة
الأولى أنهم لما وعدوا بعد الحياة الدنيا حالتين أخريين الأولى منهما الموت
والأخرى حياة البعث أثبتوا الحالة الأولى وهي الموت ونفوا ما بعدها وسمّوها أولى
مع أنهم اعتقدوا أن لا شيء بعدها لأنهم نزلوا جحدهم على الإثبات فجعلوها أولى على
ما ذكرت
لهم وهذا أولى من حمل الموتة الأولى على السابقة على الحياة الدنيا لوجهين
أحدهما أن الاقتصار عليها لا يعتقدونه لأنهم يثبتون الموت الذي يعقب حياة الدنيا
وحمل الحصر المباشر للموت في كلامهم على صفة تذكر لا على نفس الموت المشاهد لهم فيه
عدول عن الظاهر بلا حاجة ، الثاني أن الموت السابق على الحياة الدنيا لا يعبر عنه
بالموتة فإن الموتة فعلة فيها إشعار بالتجدّد والطريان والموت السابق على الحياة
الدنيا أمر مستصحب لم تتقدمه حياة طرأ عليها مع أن في بقية السورة قوله تعالى : «لا
يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى» وإنما عنى بالموتة الأولى هنا الموت المتعقب
للحياة الدنيا فقط.
(وَما خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ
بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ
أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ
يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
(٤٢) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي
فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ
الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ
تَمْتَرُونَ (٥٠))
اللغة :
(مَوْلًى) في المختار : «المولى المعتق وابن العم والناصر والجار
والحليف».
(شَجَرَةَ الزَّقُّومِ) تقدم الكلام فيها في سورة الصافات فارجع إليها.
(المهل) اسم
يجمع معدنيات الجواهر كالفضة والحديد ، والصفر ما كان منها ذائبا ، والقطران
الرقيق ، والزيت الرقيق ، والسم ، والقيح ، أو صديد الميت خاصة ، وما يتحات عن
الخبز من الرماد ، وهو بضم الميم وأجازوا فتح الميم لأنهم سمعوا لغة قليلة فيه
وإنما المهل بالفتح التؤدة والرفق.
(الْحَمِيمِ) الماء الشديد الحرارة.
(فَاعْتِلُوهُ) أي فقودوه بعنف وغلظة ، والعتل هو أن يأخذ بتلابيب
الرجل فيجر إلى حبس أو قتل ومنه العتل وهو الجافي الغليظ وفي المختار : «عتل الرجل
جذبه جذبا عنيفا وبابه ضرب ونصر» فقولهم العتّال للذي ينقل الأحمال بالأجرة صحيح
لا غبار عليه والحرفة العتالة.
الإعراب :
(وَما خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) كلام مستأنف مسوق للتدليل على صحة الحشر ووقوعه ولك أن
تعطفه على ما قبله ليتناسق الكلام ويلتئم طرفاه. وما نافية وخلقنا السموات فعل
وفاعل ومفعول به وما عطف على السموات والأرض وبينهما ظرف متعلق بمحذوف هو صلة ما
ولاعبين حال من الفاعل (ما خَلَقْناهُما
إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الجملة مفسّرة لما قبلها وما نافية وخلقناهما فعل وفاعل
ومفعول به وإلا أداة حصر وبالحق حال أي محقّين في ذلك
ليكون في ذلك برهان للعاقل والواو حالية ولكن حرف مشبه بالفعل للاستدراك
وأكثرهم اسمها وجملة لا يعلمون خبرها (إِنَّ يَوْمَ
الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) إن واسمها وميقاتهم خبرها وأجمعين تأكيد للضمير أي
للناس جميعا (يَوْمَ لا يُغْنِي
مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) يوم يجوز أن يكون بدلا من يوم الفصل وأن يكون ظرفا لما
دلّ عليه الفصل أي يفصل بينهم يوم لا يغني ، ولا يتعلق بالفصل نفسه لأنه قد أخبر
عنه ، وجملة لا يغني في محل جر بإضافة الظرف إليها ومولى فاعل وعن مولى متعلقان
بيغني وشيئا مفعول به أو مفعول مطلق أي قليلا منه والواو حرف عطف ولا نافية وهم
مبتدأ وجملة ينصرون خبر وهو مبني للمجهول والواو نائب فاعل (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ) إلا أداة حصر ومن في محل رفع بدل من الواو في ينصرون أي
لا يمنع من العذاب إلا من رحمه الله ، ويجوز أن ينصب على الاستثناء فيكون منقطعا
على رأي الكسائي أي ولكن من رحم الله لا ينالهم ما يحتاجون فيه إلى من ينفعهم من
المخلوقين أو متصلا تقديره لا يغني قريب عن قريب إلا المؤمنين فإنه يؤذن لهم في
الشفاعة فيشفعون في بعضهم وجملة رحم الله صلة الموصول (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) إن واسمها وهو مبتدأ أو ضمير فصل والعزيز الرحيم خبران
لإن أو لهو والجملة خبر إن (إِنَّ شَجَرَةَ
الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) إن واسمها والزقوم مضاف إليه وطعام الأثيم خبرها (كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ
كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) كالمهل خبر ثان لإن وجملة يغلي حال من الزقوم أو من
طعام الأثيم وقد تقدم بحث مجيء الحال من المضاف إليه لأنه كالجزء من المضاف وفي البطون
متعلقان بيغلي والكاف ومجرورها نعت لمصدر محذوف أي تغلي غليانا مثل غليان الحميم (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ
الْجَحِيمِ) خذوه فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعله والهاء
مفعوله والأمر للزبانية فالجملة مقول قول محذوف ، فاعتلوه عطف على خذوه وإلى سواء
الجحيم
متعلقان باعتلوه أي إلى وسط الجحيم (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ
رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وصبّوا فعل أمر وفاعل
وفوق رأسه ظرف متعلق بصبّوا وعذاب الجحيم مفعول به (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) الجملة مقول قول محذوف أي ويقال له ذق ، وذق فعل أمر
وفاعله مستتر تقديره أنت وإن واسمها وأنت مبتدأ أو ضمير فصل والعزيز الكريم خبران
لإن أو لأنت وجملة إنك إلخ تعليلية وسيأتي سر هذا التعليل في باب البلاغة (إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) إن واسمها وما خبرها وجملة كنتم صلة وبه متعلقان
بتمترون وجملة تمترون خبر كنتم.
البلاغة :
١ ـ في قوله «ثم
صبّوا فوق رأسه من عذاب الحميم» استعارة مكنية تخييلية فقد شبّه العذاب بالمائع ثم
خيّل له بالصب.
٢ ـ وفي قوله «ذق
إنك أنت العزيز الكريم» فن التهكم وقد تقدم أنه عبارة عن الإتيان بلفظ البشارة في
موضع النذارة والوعد في مكان الوعيد تهاونا من القائل بالمقول له واستهزاء به وقد
تقدمت أمثلته في مواضعها كقوله تعالى في النساء : «بشر المنافقين بأن لهم عذابا
أليما» وهو أغيظ للمستهزأ به وأشد إيلاما له.
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ
وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤)
يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ
إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً
مِنْ
رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩))
اللغة :
(السندس) هو ما
رقّ من الديباج ، والإستبرق ما غلظ منه ، وهو تعريب استير قال الزمخشري : «فإن قلت
: كيف ساغ أن يقع في القرآن العربي المبين لفظ أعجمي؟ قلت إذا عرب خرج عن أن يكون
أعجميا لأن معنى التعريب أن يجعل عربيا بالتصرّف فيه وتغييره عن منهاجه وإجرائه
على أوجه الإعراب» وهناك سؤال آخر أورده الملحد ابن الراوندي وهو كيف وعد الله أهل
الجنة بلبس الإستبرق وهو غليظ الديباج مع أنه عند أغنياء الدنيا عيب ونقص؟ والجواب
أن غليظ ديباج الجنة لا يساويه غليظ ديباج الدنيا حتى يعاب كما أن سندس الجنة وهو
رقيق الديباج لا يساويه سندس الدنيا ، وقد أشبع أبو العلاء المعرّي في رسالة
الغفران ابن الراوندي تهكما وسخرية.
الإعراب :
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي مَقامٍ أَمِينٍ) وإن واسمها وفي مقام خبرها وأمين نعت لمقام (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) الجار والمجرور بدل من في مقام بإعادة الجار (يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ
وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ) الجملة إما خبر ثان لإن وإما حال من الضمير المستكن في
الجار ومن سندس متعلقان بيلبسون ومتقابلين حال من الضمير في يلبسون وفي هذه الحال
وصف جميل لمجالس أهل الجنة لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض لدوران الأسرة بهم (كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) كذلك خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر كذلك وهذه الجملة
اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه جيء بها
للتقرير ، وزوجناهم عطف على يلبسون وهو فعل ماض وفاعل ومفعول به وبحور
متعلقان بزوجناهم وعين نعت لحور ، وسيأتي في باب الفوائد وصف طريف للحور العين (يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ
آمِنِينَ) الجملة حال من الهاء في وزوجناهم ويدعون فعل مضارع
مرفوع بثبوت النون والواو فاعل وفيها حال وبكل متعلقان بيدعون أي يطلبون إحضارها
لديهم وآمنين حال أي لا يخافون من مغبة أكلها (لا يَذُوقُونَ فِيهَا
الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) الجملة حال من الضمير في آمنين ولا نافية ويذوقون فعل
مضارع مرفوع بثبوت النون وفيها حال والموت مفعول به وإلا أداة استثناء والموتة
مستثنى من الموت على أنه استثناء منقطع والأولى صفة ، وسيأتي مزيد من القول في
إعراب هذا الاستثناء في باب الفوائد (وَوَقاهُمْ عَذابَ
الْجَحِيمِ) الواو عاطفة ووقاهم فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله
وعذاب الجحيم مفعول به ثان (فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ
ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) فضلا مفعول مطلق لفعل محذوف وقيل مفعول من أجله والأول
أقرب لأنه مصدر ملاق لعامله في المعنى أي تفضلنا بذلك فضلا ومن ربك صفة لفضلا وذلك
مبتدأ وهو ضمير فصل والفوز خبر والعظيم نعت للفوز ويجوز أن يكون هو مبتدأ ثانيا
والفوز خبره والجملة خبر اسم الإشارة (فَإِنَّما
يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) الفاء الفصيحة وإنما كافة ومكفوفة وإنما جعلناها فصيحة
لأن الآية فذلكة للسورة فقد أفصحت عن مقدر ، ويسّرناه فعل ماض وفاعل ومفعول به
وبلسانك متعلقان بيسرناه ولعل واسمها وجملة يتذكّرون خبرها (فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) الفاء الفصيحة أيضا أي إن لم يتعظوا ولم يؤمنوا به
فارتقب ، وارتقب فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ومفعوله محذوف تقديره هلاكهم
وجملة إنهم مرتقبون تعليلية للأمر بالانتظار وإن واسمها وخبرها ، فمفعول مرتقبون
محذوف أيضا تقديره هلاكك.
الفوائد :
١ ـ استثناء
مشكل : قال الشهاب السمين «قوله إلا الموتة الأولى فيه أوجه : أحدها أنه استثناء
منقطع أي لكن الموتة الأولى قد ذاقوها ، والثاني أنه متصل وتأولوه بأن المؤمن عند
موته في الدنيا بمنزلته في الجنة لمعاينته ما يعطاه منها أو لما يتيقنه من نعيمها
، الثالث أن إلا بمعنى سوى ، نقله الطبري وضعفه ، قال ابن عطية وليس تضعيفه بصحيح
بل كونها بمعنى سوى مستقيم متّسق ، الرابع أن إلا بمعنى بعد واختاره الطبري وأباه
الجمهور لأن مجيء إلا بمعنى بعد لم يثبت ، وقال الزمخشري : فإن قلت كيف استثنيت
الموتة الأولى المذوقة قبل دخول الجنة من الموت المنفي ذوقة فيها! قلت : أريد أن
يقال لا يذوقون فيها الموت البتة فوضع قوله إلا الموتة الأولى موضع ذلك لأنه
الموتة الماضية محال ذوقها في المستقبل فهو من باب التعليق بالمحال كأنه قيل : إن
كانت الموتة الأولى يستقيم ذوقها في المستقبل فإنهم يذوقونها في الجنة» أقول هذا
الذي ذكره الزمخشري ونقله السمين مبني على أن الموتة بدل على طريقة البدل المجوز
فيها البدل من غير الجنس وأما على طريقة الحجازيين فانتصبت الموتة استثناء منقطعا
، وسرّ اللغة التميمية بناء النفي المراد على وجه لا يبقي للسامع مطمعا في الإثبات
، فيقولون ما فيها أحد إلا حمار على معنى إن كان الحمار من الأحدين ففيها أحد
فيعلقون الثبوت على أمر محال حتما بالنفي.
٢ ـ الحور
العين : وعدناك بنقل وصف طريف للحور العين مقتبس من الحديث الشريف ، وقبل أن نورد
ما اخترناه من الأحاديث الواردة بهذا الصدد نقول الحور جمع حوراء وهي كما في
القاموس وغيره من الحور بالتحريك وهو أن يشتد بياض العين ويسودّ سوادها وتستدير
حدقتها وترقّ جفونها ويبيض ما حواليها ، والعين جمع عيناء
كحمراء فعين أصله بضم الغين بوزن قفل لكنها كسرت لتصحّ الياء أي واسعات
الأعين وفيما يلي نص الحديث الذي اخترناه لهذا الوصف :«عن علي رضي الله عنه أنه
سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية «يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا
... إلى آخرها قال قلت يا رسول الله ما الوفد إلا ركب قال النبي صلى الله عليه
وسلم :والذي نفسي بيده إنهم إذا خرجوا من قبورهم استقبلوا بنوق بيض لها أجنحة
عليها رحال الذهب شرك نعالهم نور يتلألأ كل خطوة منها مثل مدّ البصر وينتهون إلى
باب الجنة فإذا حلقة من ياقوتة حمراء على صفائح الذهب وإذا شجرة على باب الجنة
ينبع من أصلها عينان فإذا شربوا من أحدهما جرت في وجوههم بنضرة النعيم وإذا توضئوا
من الأخرى لم تشعث أشعارهم أبدا فيضربون الحلقة بالصحيفة فلو سمعت طنين الحلقة يا
علي فيبلغ كل حوراء أن زوجها قد أقبل فتستخفها العجلة فتبعث قيّمها فيفتح له الباب
فيقول لولا أن الله عزّ وجلّ عرفه نفسه لخرّ له ساجدا مما يرى من النور والبهاء
فيقول : أنا قيّمك الذي وكلت بأمرك فيتبعه فيقفو أثره فيأتي زوجته فتستخفها العجلة
فتخرج من الخيمة فتعانقه وتقول أنت حبّي وأنا حبّك وأنا الراضية فلا أسخط أبدا
وأنا الناعمة فلا أبأس أبدا وأنا الخالدة فلا أظعن أبدا فيدخل بيتا من أساسه إلى
سقفه مائة ألف ذراع مبني على جندل اللؤلؤ والياقوت طرائق حمر وطرائق خضر وطرائق
صفر ما منها طريقة تشاكل صاحبها فيأتي الأريكة فإذا عليها سرير ، على السرير سبعون
فراشا على كل فراش سبعون زوجة على كل زوجة سبعون حلة يرى مخ ساقها من باطن الحلل
يقضي جماعهن في مقدار ليلة تجري من تحتهم أنهار مطّردة ، أنهار من ماء غير آسن صاف
ليس فيه كدر وأنهار من عسل مصفى لم يخرج من بطون النحل وأنهار من خمر لذة للشاربين
لم تعصره الرجال بأقدامها وأنهار من لبن لم يتغير طعمه لم يخرج من
بطون الماشية فإذا اشتهوا الطعام جاءتهم طير بيض فترفع أجنحتها فيأكلون من
جنوبها من أيّ الألوان شاءوا ثم تطير فتذهب وفيها ثمار متدلية إذا اشتهوها انبعث
الغصن إليهم فيأكلون من أيّ الثمار شاءوا إن شاء قائما وإن شاء متكئا وذلك قوله «وجنى
الجنتين دان» وبين أيديهم خدم كاللؤلؤ» رواه ابن أبي الدنيا في كتاب صفة الجنة عن
الحارث ، ونكتفي بهذا الحديث مجتزئين بها عن أحاديث كثيرة في هذا المعنى وسترد في
مواضعها إن شاء الله.
سورة الجاثية
مكية وآياتها سبع
وثلاثون
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(حم (١) تَنْزِيلُ
الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ
دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما
أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ
مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥) تِلْكَ آياتُ
اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ
يُؤْمِنُونَ (٦))
الإعراب :
(حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ
مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) تقدم القول في فواتح السور فجدّد به عهدا ، وتنزيل
الكتاب مبتدأ ومن الله خبره والعزيز الحكيم نعتان لله ويجوز أن يعرب تنزيل خبر
لمبتدأ محذوف ومن الله متعلقان به (إِنَّ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) إن حرف مشبّه بالفعل وفي السموات خبر مقدّم واللام
للتأكيد وآيات اسم أن وللمؤمنين
صفة لآيات (وَفِي خَلْقِكُمْ
وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ
وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ
الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) الواو عاطفة وفي خلقكم خبر مقدّم والواو عاطفة وما اسم
موصول معطوف على خلقكم وجملة يبث صلة ومن دابة متعلقان بيبث أو بمحذوف حال أي يبثه
كائنا من دابة وآيات مبتدأ مؤخر ولقوم صفة لآيات وجملة يوقنون صفة لقوم واختلاف
عطف أيضا على خلقكم منزل تنزيله من أنه متعلق بمحذوف خبر مقدم وما عطف على اختلاف
وأنزل الله فعل وفاعل والجملة صلة ما ومن رزق حال أو متعلق بأنزل ، فأحيا عطف على
أنزل وبه متعلقان بأحيا والأرض مفعول به وتصريف الرياح عطف على اختلاف وآيات مبتدأ
مؤخر ولقوم صفة وجملة يعقلون صفة لقوم ، ومن المفيد أن نورد هنا عبارة الزمخشري إذ
استوفى القراءات في هاتين الآيتين قال : «وقرىء آيات لقوم يوقنون بالنصب والرفع
على قولك إن زيدا في الدار وعمرا في السوق أو وعمرو في السوق وأما قوله آيات لقوم
يعقلون فمن العطف على عاملين سواء نصبت أو رفعت فالعاملان إذا نصبت هما إن وفي
أقيمت الواو مقامهما فعملت الجر في اختلاف الليل والنهار والنصب في آيات وإذا رفعت
فالعاملان الابتداء وفي عملت الرفع. في آيات والجر في اختلاف ، وقرأ ابن مسعود :
وفي اختلاف الليل والنهار ، فإن قلت : العطف على عاملين على مذهب الأخفش سديد لا
مقال فيه وقد أباه سيبويه فما وجه تخريج الآية عنده؟ قلت فيه وجهان عنده : أحدهما
أن يكون على إضمار في والذي حسّنه تقدم ذكره في الآيتين قبلها ويعضده قراءة ابن
مسعود ، والثاني أن ينتصب آيات على الاختصاص بعد انقضاء المجرور معطوفا على ما
قبله أو على التكرير ورفعها بإضمار هي ، وقرىء واختلاف الليل والنهار بالرفع» (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ
بِالْحَقِّ) تلك مبتدأ وآيات الله خبر وجملة نتلوها حالية ويجوز أن
تكون
آيات الله بدلا من اسم الإشارة وجملة نتلوها هي الخبر وعليك متعلقان
بنتلوها وبالحق حال أي ملتبسة بالحق (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ
بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) الفاء عاطفة وبأي متعلقان بيؤمنون والاستفهام إنكاري
معناه النفي أي لا يؤمنون وحديث مضاف لأي وبعد الله ظرف متعلق بمحذوف نعت للحديث
ويؤمنون فعل مضارع مرفوع.
البلاغة :
في قوله : إن
في السموات إلى قوله يعقلون فن التخيير ، وهو أن يأتي الشاعر أو الكاتب بأبيات أو
جمل يسوغ فيها أن تقفى بقواف شتى فيتخير منها قافية يرجحها على سائرها ، فالبلاغة
في الآيات تقتضي أن تكون فاصلة الآية الأولى للمؤمنين لأنه سبحانه ذكر العالم
بجملته حيث قال السموات والأرض ومعرفة ما في العالم من الآيات الدالة على أن
المخترع قادر عليم حكيم ولا بدّ من التصديق أولا بالصانع حتى يصحّ أن يكون ما في
المصنوع من الآيات دليلا على أنه موصوف بتلك الصفات والتصديق هو الإيمان وكذلك
قوله تعالى في الآية الثانية لقوم يوقنون فإن خلق الإنسان وتدبير خلق الحيوان
والتفكر في ذلك مما يزيده يقينا في معتقده الأول وكذلك معرفة جزئيات العالم من
اختلاف الليل والنهار وإنزال الرزق من السماء وإحياء الأرض بعد موتها وتصريف
الرياح يقتضي رجاحة العقل ليعلم أن من صنع هذه الجزئيات هو الذي صنع العالم الكلي
بعد قيام البرهان ، على أن للعالم الكلي صانعا مختارا فلذلك اقتضت البلاغة أن تكون
فاصلة الآية الثالثة لقوم يعقلون وإن احتيج للعقل في الجميع إلا أن ذكره هنا أمتن
بالمعنى من الأول.
(وَيْلٌ لِكُلِّ
أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ
مُسْتَكْبِراً
كَأَنْ
لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا
شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ
جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠) هذا هُدىً وَالَّذِينَ
كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١))
الإعراب :
(وَيْلٌ لِكُلِّ
أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) ويل مبتدأ وهي كلمة عذاب ولذلك ساغ الابتداء بها ولكل
أفّاك خبره وأثيم نعت وهما صفتا مبالغة للكذب والإثم (يَسْمَعُ آياتِ اللهِ
تُتْلى عَلَيْهِ) جملة يسمع صفة لأفّاك أثيم أو حال من الضمير فيهما ولك
أن تجعلها مستأنفة ويسمع آيات الله فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وجملة تتلى
عليه حال من آيات الله وعليه متعلقان بتتلى (ثُمَّ يُصِرُّ
مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) ثم حرف عطف للترتيب والتراخي ويصرّ فعل مضارع معطوف على
يسمع قال الزمخشري : «وأصله من إصرار الحمار عى العانة وهو أن ينحي عليها صارّا
أذنيه» قلت : وفي الصحاح : «صرّ الفرس أذنيه ضمّهما إلى رأسه فإذا لم يوقعوا قالوا
أصرّ الفرس بالألف» ومستكبرا حال من فاعل يصرّ وكأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير
الشأن وجملة لم يسمعها خبرها والجملة حال ثانية أي يصرّ حال كونه مثل غير السامع (وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً
اتَّخَذَها هُزُواً) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة
علم في محل جر بإضافة الظرف إليها ومن آياتنا متعلقان بعلم أو بمحذوف حال لأنه كان
في الأصل صفة لشيئا وشيئا مفعول به وجملة اتخذها لا محل لها لأنها جواب شرط غير
جازم والهاء مفعول
اتخذ الأول وهزوا مفعول اتخذ الثاني (أُولئِكَ لَهُمْ
عَذابٌ مُهِينٌ) اسم الإشارة مبتدأ ولهم خبر مقدّم وعذاب مبتدأ مؤخر
ومهين صفة لعذاب والجملة خبر لأولئك وجملة أولئك مستأنفة (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) من ورائهم خبر مقدم وجهنم مبتدأ مؤخر والواو اسم للجهة
التي يواريها الشخص من خلف أو قدّام قال :
أليس ورائي
أن تراخت منيتي
|
|
أدبّ مع
الولدان أزحف كالنسر
|
وسيرد المزيد
من هذا البحث في باب البلاغة. (وَلا يُغْنِي
عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً) الواو عاطفة ولا نافية ويغني فعل مضارع مرفوع وعنهم
متعلقان بيغني وما موصول فاعل ويجوز أن تكون مصدرية فالمصدر المؤول هو الفاعل
وشيئا مفعول به (وَلا مَا اتَّخَذُوا
مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) عطف على ما كسبوا وما يجوز أيضا أن تكون موصولة أو
مصدرية ومن دون الله حال لأنه كان في الأصل صفة لأولياء وأولياء مفعول اتخذوا
الثاني والأول محذوف أي اتخذوه (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) الواو عاطفة ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وعظيم نعت
لعذاب (هذا هُدىً
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) كلام مستأنف مسوق لبيان هداية القرآن وهذا مبتدأ وهدى
خبر والذين مبتدأ وجملة كفروا صلة الموصول وبآيات ربهم متعلقان بكفروا ولهم خبر
مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر والجملة خبر اسم الموصول ومن رجز صفة لعذاب والرجز مطلق
العذاب وأليم صفة لرجز.
البلاغة :
التضاد : في
قوله «من ورائه جهنم» التضاد وهو استعمال لفظ يحتمل المعنى وضدّه وهو مشترك بين
المعنيين فيستعمل في الشيء وضدّه ، والبيت الذي أوردناه شاهدا في باب الإعراب
لعبيد بن الأبرص
والهمزة فيه للتقرير وقد توسع في الوراء حتى استعمل في كل غيب ومنه
المستقبل وأدبّ أمشي بتؤدة وأن المصدرية مقدرة قبله لأنه اسم ليس وأزحف يحتمل أنه
بدل من أدبّ وأن حال وكالنسر حال أيضا.
الفوائد :
عودة الضمير :
مما يشكل فهمه لأول وهلة عودة الضمير في قوله «اتخذها هزوا» لأن ظاهر الكلام يوهم
أنه عائد على شيء وهو مذكر ولكنه عدل عن اتخذه إلى اتخذها إشعارا بأنه إذا أحسّ
بشيء من الكلام أنه من جملة الآيات التي أنزلها الله على محمد صلى الله عليه وسلم
خاص في الاستهزاء وبجميع الآيات ولم يقتصر على الاستهزاء بما بلغه منها ، وقال
الزمخشري «ويحتمل وإذا علم من آياتنا شيئا يمكن أن يتشبث به المعاند ويجد له محملا
يتسلق به على الطعن والغميزة افترصه واتخذ آيات الله هزوا وذلك نحو افتراص ابن
الزبعرى قوله عزّ وجلّ : إنكم وما تدعون من دون الله حصب جهنم ومغالطته رسول الله
صلى الله عليه وسلم وقوله خصمتك ، ويجوز أن يرجع الضمير إلى شيء لأنه في معنى
الآية كقول أبي العتاهية :
نفسي بشيء من
الدنيا معلقة
|
|
الله والقائم
المهدي يكفيها
|
حيث أراد عتبة»
هذا وقد كنى أبو العتاهية بالشيء عن جارية من حظايا المهدي اسمها عتبة ولذلك أعاد
عليه الضمير مؤنثا وبعده :
إني لأيأس
منها ثم يطمعني
|
|
فيها احتقارك
للدنيا وما فيها
|
ومعنى البيتين
أنه لا يريد من الدنيا غير هذا الشيء والقائم بالأمر يكفيها أي يكفيني تلك الحاجة
أو يكفي نفسي ما تريد والله بقطع الهمزة لأن أول المصراع محل ابتداء في الجملة ،
ثم أنا أيأس منها
فأقطع طمعي منها ثم أطمع فيها ثانيا بسبب احتقارك للدنيا وما فيها وهو مدح
بنهاية الكرم وروي أنه كتب ذلك في ثوب وأدرجه في برنية وأهداها للمهدي فهمّ بدفعها
إليه فقالت الجارية أتدفعني إلى رجل مكتسب فأمر بملء البرنية مالا ودفعها إليه
فقال للخزّان إنما أمر لي بدنانير فقال له الخزّان نعطيك دراهم واختلفا ، فقالت لو
كان عاشقا لما فرّق بينهما.
(اللهُ الَّذِي
سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا
مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ (١٣) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ
أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ
صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ
(١٥))
الإعراب :
(اللهُ الَّذِي
سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ) كلام مستأنف مسوق للاعتبار بتسخير البحر على عظمته
والسفن الجارية فيه لمخلوق هو أضأل شيء بالنسبة لهما والله مبتدأ والذي خبره وجملة
سخر صلة ولكم متعلقان بسخر والبحر مفعول به واللام للتعليل وتجري فعل مضارع منصوب
بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بتجري أيضا والفلك فاعل وبأمره
حال (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) عطف على ما تقدم ولعلّ واسمها وخبرها (وَسَخَّرَ
لَكُمْ
ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) الواو عاطفة والجملة عطف على سابقتيها وجميعا حال من ما
ووهم الجلال وتبع في إعرابه ابن مالك حيث عدّها من المؤكدات ، فأعربها توكيدا لما
الموصولة الواقعة مفعولا لسخر ولو كان كذلك لقيل جميعه ثم التوكيد بجمع قليل فلا
يحمل عليه التنزيل ، ومنه حال أي سخرها كائنة منه تعالى وحاصلة من عنده ، وأجاز
الزمخشري أن يتعلق بمحذوف خبر مبتدأ محذوف تقديره هي جميعا منه (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ) إن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام
للتأكيد وآيات اسم إن المؤخر ولقوم صفة لآيات وجملة يتفكرون صفة لقوم (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا
لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وللذين متعلقان بقل
وجملة آمنوا صلة الموصول لا محل لها ويغفروا فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب
تشبيها بالشرط والجزاء كقولك قم تصب خيرا وقيل هو على حذف اللام وقيل على معنى قل
لهم اغفروا يغفروا فهو جواب أمر محذوف دلّ عليه الكلام وقد تقدم القول مسهبا في
قوله تعالى «قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة» في سورة إبراهيم فجدد به عهدا
وللذين متعلقان بيغفروا وجملة لا يرجون صلة الموصول وأيام الله مفعول وسيأتي معنى
أيام الله في باب الفوائد ، وليجزي : اللام للتعليل ويجزي فعل مضارع منصوب بأن
مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بيغفروا لأنه علّة لها وقوما مفعول
به والفاعل مستتر تقديره هو يعود على الله وبما متعلقان بيجزي وما يجوز أن تكون
موصولة أو مصدرية وكان واسمها وجملة يكسبون خبرها ، وسيأتي سر تنكير قوما في باب
البلاغة (مَنْ عَمِلَ صالِحاً
فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) من شرطية في محل رفع مبتدأ والجملة مستأنفة مسوقة لبيان
كيفية الجزاء وعمل فعل
ماض في محل جزم فعل الشرط والفاعل مستتر يعود على من وصالحا مفعول به أو
نعت لمصدر محذوف.
البلاغة :
في قوله تعالى «ليجزي
قوما بما كانوا يكسبون» التنكير فقد نكر قوما وهم معروفون ، وقد اختلف الرواة
وأصحاب السير فيهم مما يمكن الرجوع إليه في مظانه وإنما جنح إلى التنكير تعظيما
لهم وثناء عليهم إذ المراد فيهم عمر بن الخطاب على أرجح الأقوال كأنما قال إن
هؤلاء الذين يضبطون أنفسهم ، ويحتملون الأذى بصبر وثبات هم قوم أيّ قوم وهو ينتظم
في باب التجريد وقد قدّمناه مفصلا بأقسامه.
الفوائد :
أيام الله :
المراد بقوله «لا يرجون أيام الله» أي الوقائع المشهورة التي انتصر الحق فيها على
الباطل وأديل الباطل بالجهاد ، وهذا جري على أساليب العرب إذ يقولون أيام العرب
لوقائعهم المشهورة على حدّ قول السموأل :
وأيامنا
مشهورة في عدونا
|
|
لها غرر
معلومة وحجول
|
وقال ظالم بن
البراء الفقيمي في يوم ذي بهدى بوزن سكرى :
ونحن غداة
يوم ذوات بهدى
|
|
لدى الوتدات
إذ غشيت تميم
|
ضربنا الخيل
بالأبطال حتى
|
|
تولت وهي
شاملها الكلوم
|
وقال جرير
للأخطل ، يعيّره بذلك اليوم :
هل تعرفون
بذي بهدى نوار سنا
|
|
يوم الهذيل
بأيدي القوم منتشر
|
وارجع إلى
الأغاني والعمدة ففيهما تفصيل واف لأيام العرب في الجاهلية والإسلام.
(وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي
إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ
الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ
مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ
بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما
كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ
فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ
لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ
أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ
وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا
السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١))
الإعراب :
(وَلَقَدْ آتَيْنا
بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) كلام مستأنف مسوق لإعلام النبي صلى الله عليه وسلم أن
السبيل التي يتمشى عليها قومه هي السبيل التي تمشى عليها من تقدمهم من الأمم.
واللام جواب للقسم
المحذوف وقد حرف تحقيق وآتينا فعل وفاعل وبني إسرائيل مفعول به أول والكتاب
مفعول به ثان والحكم والنبوّة معطوفان على الكتاب (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ
الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) ورزقناهم عطف على آتينا وهو فعل وفاعل ومفعول به ومن
الطيبات متعلقان برزقناهم وفضلناهم على العالمين عطف على ما تقدم ومعنى التفضيل
أنه لم يؤت غيرهم مثل ما آتيناهم (وَآتَيْناهُمْ
بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ
الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) عطف أيضا وبينات مفعول به ثان وعلامة نصبه الكسرة لأنه
جمع مؤنث سالم ومن الأمر صفة لبيّنات أي دلائل ظاهرة في أمر الدين ، فما الفاء
عاطفة وما نافية واختلفوا فعلى وفاعل وإلا أداة حصر ومن بعد متعلقان باختلفوا وما
مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر مجرور بالإضافة وجاءهم العلم فعل ومفعول به مقدم
وفاعل مؤخر وبغيا مفعول من أجله وبينهم ظرف متعلق بمحذوف صفة لبغيا (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) إن واسمها وجملة يقضي خبرها وبينهم ظرف متعلق بيقضي
ويوم القيامة متعلق بمحذوف حال وفيما متعلقان بيقضي أيضا وجملة كانوا صلة وجملة
يختلفون خبر كان وفيه متعلقان بيختلفون (ثُمَّ جَعَلْناكَ
عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي والكلام مستأنف وجعلناك
فعل وفاعل ومفعول به أول وعلى شريعة في موضع المفعول الثاني والشريعة في الأصل ما
يرده الناس من المياه والأنهار فاستعير ذلك للدين والعبادة لأن العباد يردون ما
تحيا به نفوسهم ومن الأمر نعت لشريعة والفاء عاطفة واتبعها فعل أمر وفاعل ومفعول
به (وَلا تَتَّبِعْ
أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) الواو حرف عطف ولا ناهية وتتبع فعل مضارع مجزوم بلا
الناهية وأهواء مفعول به والذين مضاف إليه وجملة لا يعلمون صفة (إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ
اللهِ شَيْئاً) الجملة لا محل لها لأنها تعليل للنهي عن اتباع أهوائهم
وإن واسمها وجملة لن يغنوا خبرها
وعنك متعلقان بيغنوا ومن الله متعلقان بيغنوا أيضا وشيئا مفعول (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ
أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) الواو عاطفة وإن واسمها وبعضهم مبتدأ وأولياء بعض خبر
والجملة خبر إن والله مبتدأ ووليّ المتقين خبر (هذا بَصائِرُ
لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) هذا مبتدأ وبصائر خبره وجمع الخبر باعتبار ما ينطوي
عليه المبتدأ وهو القرآن من آيات ودلائل واضحات وللناس صفة لبصائر وهدى ورحمة
معطوفان على بصائر ولقوم نعت وجملة يوقنون نعت لقوم والجملة كلها مستأنفة (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا
السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أم منقطعة بمعنى الهمزة وبل والكلام مستأنف مسوق لبيان
تغاير حالي المسيئين والمحسنين ، وحسب فعل ماض والذين فاعله وجملة اجترحوا السيئات
صلة وأن وما في حيزها في تأويل مصدر سدّت مسدّ مفعولي حسب ونجعلهم فعل مضارع
وفاعله مستتر تقديره نحن والهاء مفعول نجعل الأول وكالذين في موضع المفعول الثاني
وجملة آمنوا صلة وعملوا الصالحات عطف على آمنوا (سَواءً مَحْياهُمْ
وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) سواء حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور وهما
كالذين آمنوا والمعنى أحسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم مثل الذين آمنوا
وعملوا الصالحات في حال استواء محياهم ومماتهم والاستفهام بمعنى الإنكار والنفي
ومحياهم فاعل بسواء وساء فعل ماض للذم وما هنا مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر هو
فاعل ساء أو ما نكرة تامة بمعنى شيء في محل نصب على التمييز وفاعل ساء مستتر
تقديره هو.
الفوائد :
١ ـ مبكاة
العابدين : هذه الآية «أم حسب الذين اجترحوا السيئات» إلخ ، تسمى مبكاة العابدين ،
وعن تميم الداري رضي الله عنه أنه كان
يصلي ذات ليلة عند المقام فبلغ هذه الآية فجعل يبكي ويردّد إلى الصباح ساء
ما يحكمون ، وكان الفضيل بن عياض يقول لنفسه : ليت شعري من أيّ الفريقين أنت؟
٢ ـ قراءة
ثانية للآية : هذا وقد قرىء سواء محياهم ومماتهم بالرفع فسواء خبر مقدّم ومحياهم
مبتدأ مؤخر وقد اختلف في إعراب هذه الجملة فقال الزمخشري أنها بدل من الكاف لأ
الجملة تقع مفعولا ثانيا فكانت في حكم المفرد وردّ عليه أبو حيان قائلا : «وهذا
الذي ذهب إليه الزمخشري من إبدال الجملة من المفرد قد أجازه أبو الفتح واختاره ابن
مالك وأورد على ذلك شواهد على زعمه ولا يتعين فيها البدل» إلى أن يقول «والذي يظهر
لي أنه إذا قلنا بتشبث الجملة بما قبلها أن تكون الجملة في موضع الحال والتقدير أم
حسب الكفار أن مصيرهم مثل المؤمنين في حال استواء محياهم ومماتهم ليسوا كذلك بل هم
مفترقون أي افتراق في الحالتين وتكون هذه الحال مبينة ما انبهم في المثلية الدال
عليها الكاف التي هي في موضع المفعول الثاني».
(وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ (٢٢) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ
عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً
فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣) وَقالُوا ما هِيَ
إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ
وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤) وَإِذا
تُتْلى
عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا
بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ
ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٦))
الإعراب :
(وَخَلَقَ اللهُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) لك أن تجعل الكلام معطوفا على ما تقدم ليكون بمثابة
الدليل على نفي الاستواء بين الفريقين ولك أن تجعله استئنافا مسوقا لهذه الغاية.
وخلق الله السموات فعل وفاعل ومفعول به والأرض عطف على السموات وبالحق حال من
الفاعل أو المفعول (وَلِتُجْزى كُلُّ
نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) الواو عاطفة واللام للتعليل وتجزى فعل مضارع منصوب بأن
مقدرة بعد لام التعليل والكلام معطوف على قوله بالحق لأن كلا من الباء واللام
تكونان للتعليل فكان الخلق معللا بالجزاء واختار الزمخشري أن يكون معطوفا على معلل
محذوف تقديره ليدل بها على قدرته ولتجزى كل نفس ، واختار ابن عطية أن تكون لام
العاقبة أو الصيرورة أي وصار الأمر منها من حيث اهتدى بها قوم وضلّ بها آخرون وليس
ببعيد ، والواو للحال وهم مبتدأ وجملة لا يظلمون خبر والجملة في محل نصب على الحال
(أَفَرَأَيْتَ مَنِ
اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) الهمزة للاستفهام المقصود به الأمر أي أخبرني ، ورأيت
فعل وفاعل ومن مفعول رأيت الأول والثاني محذوف تقديره مهتديا وجملة اتخذ صلة
الموصول وإلهه مفعول أول لاتخذ وهواه مفعولها الثاني وأضله الله فعل ماض ومفعول به
مقدم وفاعل مؤخر وعلى علم حال من المفعول وهو أولى من جعله من الفاعل كما أعربه
الجلال والمعنى أضله الله وهو عالم بالحق لأن
المبالغة فيه أشد والتشنيع والتنديد به أكثر (وَخَتَمَ عَلى
سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) عطف على ما تقدم وقد تقدم الكلام على هذه الآية في
البقرة (فَمَنْ يَهْدِيهِ
مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) الفاء عاطفة ومن اسم استفهام بمعنى النفي ، أي لا أحد
يهديه ، في محل رفع مبتدأ وجملة يهديه خبر ومن بعد الله متعلقان بيهديه والهمزة
للاستفهام الإنكاري والفاء عاطفة على محذوف مقدر أي تصرّون على الغيّ ولا نافية
وتذكرون فعل مضارع حذفت إحدى تاءيه (وَقالُوا : ما هِيَ
إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لتفنيد مزاعمهم إذ
كانوا يزعمون أن هلاك الأنفس منوط بمرور الأيام والليالي ، وسيرد المزيد من هذا
البحث في باب الفوائد ، وما نافية وهي مبتدأ وإلا أداة حصر وحياتنا مبتدأ والدنيا
خبر وجملة نموت مستأنفة مسوقة لإيراد المزيد من عقائدهم الفاسدة وجملة نحيا عطف
عليها والواو حالية وما نافية ويهلكنا فعل مضارع ومفعول به مقدم وإلا أداة حصر
والدهر فاعل يهلكنا (وَما لَهُمْ بِذلِكَ
مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) الواو للحال وما نافية ولهم خبر مقدم وبذلك متعلقان
بعلم ومن حرف جر زائد وعلم مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ مؤخر وإن نافية
وهم مبتدأ وإلا أداة حصر وجملة يظنون خبرهم (وَإِذا تُتْلى
عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا
بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة
تتلى في محل جر بإضافة الظرف إليها وهو مبني للمجهول وعليهم متعلقان بتتلى وآياتنا
نائب فاعل وبيّنات حال أي واضحات الدلالة وما نافية وكان فعل ماض ناقص وحجتهم خبر
كان المقدّم وإلا أداة حصر وأن قالوا أن ومدخولها في تأويل مصدر في محل رفع اسم
كان المؤخر والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وائتوا فعل أمر مبني على
حذف النون والواو فاعل وبآبائنا متعلقان بائتوا والجملة مقول القول وإن حرف
شرط جازم وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والجواب محذوف تقديره
فائتوا وصادقين خبر كنتم (قُلِ اللهُ
يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا
رَيْبَ فِيهِ) قل فعل أمر والله مبتدأ وجملة يحييكم خبر ثم حرف عطف
للترتيب مع التراخي للإشارة إلى المدة الفاصلة بين الحياة والموت ويميتكم فعل
مضارع وفاعل مستتر ومفعول ثم حرف عطف كما تقدم ويجمعكم فعل مضارع وفاعل مستتر
والكاف مفعول وإلى يوم القيامة متعلقان بيجمعكم ولا نافية للجنس وريب اسمها وفيه
خبرها والجملة حال من يوم القيامة (وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) الواو حالية ولكن واسمها وجملة لا يعلمون خبرها.
الفوائد :
الدهر في اللغة
مدة بقاء العالم ، من دهرهم أمر أي أصابهم به الدهر وفي القاموس «ودهرهم أمر كمنع
نزل بهم مكروه وهم مدهور بهم ومدهورون» وكان من شأن العرب إذا ضربهم سوء نسبوه
للدهر اعتقادا منهم أنه الفعّال لما يريد ، وترى أشعارهم ناطقة بشكوى الدهر حتى
يوجد ذلك في أشعار المسلمين ، قال ابن دريد في مقصورته :
يا دهر إن لم
تك عتبى فاتئد
|
|
في إروادك
والعتبى سوا
|
وقد فند أبو
العلاء في لزومياته آراء الدهريين فقال :
ودان أناس
بالجزاء وكونه
|
|
وقال رجال
إنما أنتم بقل
|
وهذا رد على
الدهريين الذين يقولون : إن العالم قديم بالطبع لم يزل كذلك ولم يحدث بإحداث محدث
والناس كالنبات ينبتون ويعودون بالموت هشيما ، وقال أبو العلاء في الرد على ابن
الراوندي وكتابه التاج في رسالة الغفران ومما قاله : «وأما ابن الراوندي فلم يكن
إلى
المصلحة بمهدي وأما تاجه فلا يصلح أن يكون نعلا ، وهل تاجه إلا كما قالت
الكاهنة : أف وتف ، وجورب وخف» وقال صلى الله عليه وسلم : «لا تسبّوا الدهر فإن
الله هو الدهر» أي لأنه تعالى هو الفعّال لما يريد لا الدهر والحديث رواه البخاري
ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة.
(وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ
الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى
كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هذا كِتابُنا
يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ (٢٩) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ
رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا
الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ
وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (٣١))
اللغة :
(جاثِيَةً) يقال جثا على ركبتيه جثّوا ورأيته جاثيا بين يديه
ورأيتهم جثيا عنده وفي الحديث : «أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الله تعالى يوم
القيامة» وتجاثوا على الركب فأجاثى خصمه مجاثاة وصار فلان جثوة من تراب قال طرفة :
ترى جثوتين
من تراب عليهما
|
|
صفائح صمّ من
صفيح منضّد
|
أي أرى قبر
البخيل والجواد كومتين من تراب عليهما حجارة عراض صلاب فيما بين قبور عليها حجارة
عراض قد نضدت وعبارة
القرطبي : «وفي الجاثية تأويلات خمسة : الأول قال مجاهد مستوفزة وقال سفيان
المستوفز الذي لا يصيب الأرض منه إلا ركبتاه وأطراف أنامله قال الضحاك : وذلك عند
الحساب ، الثاني مجتمعة قاله ابن عباس وقال الفرّاء : المعنى وترى أهل كل دين
مجتمعين ، الثالث متميزة قاله عكرمة ، الرابع خاضعة بلغة قريش ، الخامس باركة على
الركب قاله الحسن ، والجثو الجلوس على الركب يقال جثا على ركبتيه يجثو ويجثى جثوا
وجثيا على فعول فيهما وقد مضى في مريم ، وأصل الجثوة الجماعة من كل شيء ثم قيل هو
خاص بالكفّار قاله يحيى بن سلام وقيل إنه عامّ للمؤمن والكافر انتظارا للحساب وقد
روى سفيان بن عيينة عن عمر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كأني
أراكم بالركب جاثين دون جهنم» هذا وقرىء جاذية بالذال والجذو أشد استيفازا من الجثو
لأن الجاذي هو الذي يجلس على أطراف أصابعه.
(نَسْتَنْسِخُ) أي نستكتب الملائكة أعمالكم ، وفي الأساس :«نسخت كتابي
من كتاب فلان وانتسخته واستنسخته بمعنى ويكون الاستنساخ بمعنى الاستكتاب «إنّا
كنّا نستنسخ» وهذه نسخة عتيقة ونسخ عتق» والمعنى نأمر الملائكة بنسخ ما كنتم
تعملون وإثباته فليس المراد بالنسخ إبطال شيء وإقامة آخر مقامه.
الإعراب :
(وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) كلام مستأنف مسوق لتعميم القدرة بعد تخصيصها بالإحياء
والإماتة والجمع لأن معنى المالك أن يتصرف بما يملك كما يشاء ، ولله خبر مقدم وملك
السموات والأرض مبتدأ مؤخر (وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) الواو استئنافية ويوم ظرف متعلق بيخسر وجملة تقوم
الساعة في محل جر بإضافة الظرف
إليها ويومئذ ظرف أضيف إلى مثله وهو بدل من يوم تقوم والتنوين في يومئذ
تنوين عوض عن جملة أي يوم تقوم الساعة وقيل العامل في ويوم تقوم ما يدل عليه الملك
قالوا لأن السماء والأرض يتبدلان فكأنه قيل ولله ملك السموات والأرض والملك يوم
القيامة ويومئذ على هذا منصوب بيخسر ويخسر المبطلون فعل وفاعل (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً ، كُلُّ
أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) الواو عاطفة وترى فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره أنت وكل
أمة مفعول به أول إن كانت الرؤية علمية ولكن سياق الكلام يرجح كونها بصرية وجاثية
مفعول به ثان على الأول وحال على الثاني وكل أمة مبتدأ وجملة تدعى إلى كتابها خبر (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) اليوم ظرف متعلق بتجزون وتجزون فعل مضارع مبني للمجهول
والواو نائب فاعل وما مفعول به ثان لتجزون والجملة مقول قول محذوف أي يقال لهم
اليوم تجزون وكان واسمها وجملة تعملون خبرها والجملة صلة ما (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ
بِالْحَقِّ) هذا مبتدأ وكتابنا خبر وجملة ينطق خبر ثان أو في موضع
النصب على الحال ويجوز أن يكون كتابنا بدلا من هذا وجملة ينطق خبر هذا وبالحق حال
وعليكم متعلقان بينطق ، وسيأتي معنى نطق الكتاب في باب البلاغة (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) إن واسمها وجملة كنّا خبر إنّا وجملة نستنسخ خبر كنّا
وما مفعول به وجملة كنتم صلة ما وجملة تعملون خبر كنتم (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ) الفاء عاطفة وأما حرف شرط وتفصيل للمجمل المفهوم من
قوله ينطق عليكم بالحق أو لتجزون والذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة للموصول وعملوا
الصالحات عطف على آمنوا ، فيدخلهم الفاء رابطة لجواب أما وجملة يدخلهم ربهم في
رحمته خبر الذين (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ
الْمُبِينُ) تقدم إعرابها كثيرا (وَأَمَّا الَّذِينَ
كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) الواو عاطفة وأما حرف شرط وتفصيل والذين مبتدأ وجملة
كفروا صلة وجواب
أما محذوف تقديره فيقال لهم والهمزة للاستفهام والفاء عاطفة على الجواب
المحذوف ولم حرف نفي وقلب وجزم وتكن فعل مضارع مجزوم بلم والمعنى ألم يأتكم رسلي
فلم تكن ، وآياتي اسم تكن وجملة تتلى عليكم خبرها (فَاسْتَكْبَرْتُمْ
وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ) الفاء عاطفة واستكبرتم فعل وفاعل وكنتم كان واسمها
وقوما خبرها ومجرمين نعت لقوما.
البلاغة :
١ ـ الاستعارة
المكنية : في قوله «هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق» استعارة مكنية ، شبّه الكتاب
بشاهد يؤدي شهادته بالحق وحذف المشبه به واستعار له شيئا من لوازمه وهو النطق
بالشهادة.
٢ ـ وفي قوله :
«فيدخلهم في رحمته» مجاز مرسل علاقته الحالية أي في جنته لأن الرحمة لا يحلّ فيها
الإنسان لأنها معنى من المعاني وإنما يحلّ في مكانها فاستعمال الرحمة في مكانها
مجاز أطلق فيه الحال وأريد المحل فعلاقته الحالية.
(وَإِذا قِيلَ إِنَّ
وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا
السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدا
لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣)
وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ
النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ
اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ
مِنْها
وَلا
هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ
الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣٧))
الإعراب :
(وَإِذا قِيلَ إِنَّ
وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا
السَّاعَةُ) الواو عاطفة والكلام معطوف على ما سبق لأنه من جملة ما
يقال لهم ، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وقيل فعل ماض مبني للمجهول ونائب
الفاعل مستتر تقديره هو وإن واسمها وخبرها والجملة مقول القول والساعة مبتدأ وجملة
لا ريب فيها خبره وقيل الساعة عطف على محل إن واسمها معا لأن لإن واسمها موضعا وهو
الرفع بالابتداء وقرئ والساعة بالنصب عطف على الوعد والجملة في محل نصب سدّت مسدّ
مفعولي ندري لأنها علقت بالاستفهام وجملة قلتم لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم
وما نافية وندري فعل مضارع مرفوع وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ والساعة خبره (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ
بِمُسْتَيْقِنِينَ) إن نافية ونظن فعل مضارع مرفوع وإلا أداة حصر وظنا
مفعول مطلق وهذا التركيب من المشكلات التي دندن المعربون والمفسرون حولها ، وسنورد
لك المزيد منها في باب الفوائد ، والواو حرف عطف وما نافية حجازية ونحن اسمها
والباء حرف جر زائد ومستيقنين مجرور بالباء لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا
وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) الواو استئنافية وبدا فعل ماض ولهم متعلقان ببدا وسيئات
فاعل وما مضاف إليه وجملة عملوا صلة ما وحاق بهم عطف على بدا لهم وما فاعل حاق
وجملة كانوا صلة وبه متعلقان بيستهزئون وجملة يستهزئون
خبر كانوا (وَقِيلَ الْيَوْمَ
نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) الواو عاطفة وقيل فعل ماض مبني للمجهول واليوم ظرف
متعلق بننساكم وكما نعت لمصدر محذوف ونسيتم فعل وفاعل ولقاء يومكم مفعول به وقد
توسع في الظرف فأضيف إليه ما هو واقع فيه على حدّ قوله مكر الليل ، وهذا نعت
ليومكم أو بدل منه (وَمَأْواكُمُ
النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) الواو عاطفة ومأواكم خبر مقدّم والنار مبتدأ مؤخر ويجوز
العكس والواو عاطفة وما نافية ولكم خبر مقدم ومن حرف جر زائد وناصرين مجرور لفظا
مرفوع محلا على أنه مبتدأ مؤخر (ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ
اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً) ذلكم مبتدأ والإشارة إلى العذاب العظيم الذي أعدّ لهم
وبأنكم أن وما في حيزها في محل جر بالباء والجار والمجرور خبر ذلك وأن واسمها
وجملة اتخذتم خبرها وآيات الله مفعول اتخذتم الأول وهزوا مفعول اتخذتم الثاني (وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) الواو حرف عطف وغرّتكم فعل ماض ومفعول به مقدم والحياة
فاعل مؤخر والدنيا نعت للحياة (فَالْيَوْمَ لا
يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) الفاء الفصيحة واليوم ظرف متعلق بيخرجون ولا نافية
ويخرجون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل ومنها متعلقان بيخرجون ولا عطف
على ما تقدم وهم مبتدأ وجملة يستعتبون خبر (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ
رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ) الفاء استئنافية ولله خبر مقدّم والحمد مبتدأ مؤخر ورب
السموات بدل أو نعت لله وكذلك ما بعده (وَلَهُ الْكِبْرِياءُ
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الواو عاطفة وله خبر مقدم والكبرياء مبتدأ مؤخر وفي
السموات حال من الكبرياء ويجوز أن يتعلق بالاستقرار الذي تعلق به الظرف الأول
واختار بعضهم أن يتعلق بنفس لأنه مصدر وهو مبتدأ والعزيز الحكيم خبران له.
البلاغة :
١ ـ المجاز
المرسل أو الاستعارة المكنية : في قوله «وقيل اليوم ننساكم» إلخ مجاز مرسل علاقته
السببية لأن النسيان سبب الترك وإذا نسي الشيء فقد تركه وأهمله تماما وقال بعضهم :
ويجوز أن يعتبر في ضمير الخطاب الاستعارة بالكناية بتشبيههم بالأمر المنسي في
تركهم في العذاب وعدم المبالاة بهم وتجعل نسبة النسيان قرينة الاستعارة.
٢ ـ الالتفات :
وذلك في قوله «فاليوم لا يخرجون منها» فقد التفت من الخطاب إلى الغيبة عند ما
انتهى إلى هذه المثابة التي صاروا إليها فهم جديرون بإسقاطهم من رتبة الخطاب
احتقارا لهم واستهانة بهم.
الفوائد :
أشرنا إلى
الإشكال الوارد في قوله تعالى «إن نظن إلا ظنا» لأن المصدر المؤكد لا يجوز أن يقع
استثناء مفرغا فلا يقال ما ضربت إلا ضربا لعدم الفائدة لكونه بمنزلة أن يقال ما
ضربت إلا ضربت ، ومن المقرر عند النحويين أنه يجوز تفريغ العامل لما بعده من جميع
المعمولات إلا المفعول المطلق فلا يقال ما ظننت إلا ظنا لاتحاد مورد النفي
والإثبات وهو الظن والحصر إنما يتصور حين تغاير مورديهما وفيما يلي ما قاله
المعربون :فقال المبرد أصله إن نحن إلا نظن ظنا وهو يريد أن مورد النفي محذوف وهو
كون المتكلم على فعل من الأفعال فهذا هو مورد النفي ومورد الإثبات كونه يظن ظنا
فكلمة إلا وإن كانت متأخرة لفظا فهي متقدمة في التقدير فمدلول الحصر إثبات الظن
لأنفسهم ونفي ما عداه ومن جملة ما عداه اليقين والمقصود نفيه لكنه نفي ما عدا الظن
مطلقا للمبالغة في نفي اليقين ولذلك أكد بقوله وما نحن بمستيقنين.
أما أبو حيان
فأوّلها على حذف وصف المصدر حتى يصير مختصا لا مؤكدا وتقديره إلا ظنا ضعيفا أو على
تضمين نظن معنى نعتقد ويكون ظنا مفعولا به.
وقال الزمخشري
: «فإن قلت : ما معنى قوله إن نظن إلا ظنا؟قلت : أصله نظن ظنا ومعناه إثبات الظن
مع نفي ما سواه وزيد نفي ما سوى الظن توكيدا بقوله : وما نحن بمستيقنين.
وردّ أبو حيان
على الزمخشري كعادته فقال : «هذا كلام من لا شعور له بالقاعدة النحوية من أن
التفريغ يكون في جميع المعمولات من فاعل ومفعول وغيره إلا المصدر المؤكد فإنه لا
يكون فيه.
أما أبو البقاء
فقال : «تقديره إن نحن إلا نظن ظنا فإلا مؤخرة لولا هذا التقدير لكان المعنى ما
نظن إلا ظنا وقيل هي في موضعها لأن نظن قد تكون بمعنى العلم والشك فاستثني الشك أي
ما لنا اعتقاد إلا الشك.
سورة الأحقاف
مكيّة وآياتها خمس
وثلاثون
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(حم (١) تَنْزِيلُ
الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ
كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ
ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ (٤) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا
يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥))
اللغة :
(الأثارة) بفتح
الهمزة بقية من علم والمكرمة المتوارثة والفعل المجيد من قولهم سمنت الناقة على
أثارة من شحم وهي البقية منه ، وعن ابن الأعرابي أغضبني فلان على أثارة غضب أي على
أثر غضب كان قبل ذلك ، وهم أثارة من علم أي بقية منه يأثرونها عن الأولين ويقال :
لبني فلان أثارة من شرف إذا كانت عندهم شواهد قديمة وفي غير ذلك ، قال الراعي :
وذات أثارة
أكلت علينا
|
|
نباتا في
أكمته قفارا
|
أي بقية من شحم
، وقال الواحدي : وكلام أهل اللغة في هذا الحرف يدور على ثلاثة أقوال : الأول
الأثارة واشتقاقها من أثرت الشيء أثيره أثارة كأنها بقية تخرج فتستثار والثاني من
الأثر الذي هو الرواية والثالث من الأثر بمعنى العلامة.
الإعراب :
(حم تَنْزِيلُ
الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) حم تقدم القول في فواتح السور وتنزيل الكتاب خبر لمبتدأ
محذوف أو مبتدأ خبره من الله والعزيز الحكيم نعتان (ما خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) ما نافية وخلقنا السموات فعل وفاعل ومفعول به وإلا أداة
حصر وبالحق صفة لمصدر محذوف أي خلقا ملتبسا بالحق والواو حرف عطف وأجل عطف على
الحق ومسمى صفة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا
عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) الواو عاطفة والذين مبتدأ وجملة كفروا صلة وعمّا
متعلقان بمعرضون وجملة أنذروا صلة والعائد محذوف أي عن الذي أنذروه ومعرضون خبر
الذين ويجوز أن تكون ما مصدرية أي عند إنذارهم ذلك اليوم (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) قل فعل أمر وفاعل مستتر وأرأيتم فعل وفاعل وما مفعول به
وجملة تدعون صلة ومن دون الله حال وأروني فعل أمر وفاعله ومفعوله والجملة توكيد
لأرأيتم وجملة ماذا خلقوا مفعول أرأيتم الثاني وماذا مفعول مقدم لخلقوا أو ما
مبتدأ وذا اسم موصول خبره وجملة خلقوا صلة ويجوز أن لا تكون أروني توكيدا لأرأيتم
فتكون المسألة من باب التنازع لأن أرأيتم يطلب مفعولا ثانيا وأروني كذلك وقوله
ماذا خلقوا هو المتنازع فيه. ونص عبارة أبي حيان : «قل أرأيتم ما تدعون معناه
أخبروني عن الذين تدعون من دون الله وهي الأصنام أروني ماذا خلقوا من الأرض
استفهام توبيخ ومفعول أرأيتم الأول هو ما تدعون وماذا خلقوا جملة استفهامية يطلبها
أرأيتم لأن مفعولها الثاني يكون استفهاما ويطلبها أروني على سبيل التعليق فهذا من
باب الإعمال أعمل الثاني وحذف مفعول أرأيتم الثاني ويمكن أن يكون أروني توكيدا
لأرأيتم بمعنى أخبروني كأنها بمعنى واحد. وقال ابن عقبة : يحتمل أرأيتم وجهين
أحدهما أن تكون متعدية وما مفعولة بها ويحتمل أن تكون أرأيتم منبهة لا تتعدى وتكون
ما استفهاما على معنى التوبيخ وتدعون معناه تعبدون» ا. ه وكون أرأيتم لا تتعدى
وأنها منبهة فيه شيء ؛ قاله الأخفش في قوله : قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة والذي
يظهر أن ما تدعون مفعول أرأيتم كما هو في قوله قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون في
سورة فاطر وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة فيها وقد أمضى الكلام في أرأيتم في
سورة الأنعام» ومن الأرض حال لأنها تفسير للمبهم في ماذا خلقوا (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ
ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) أم بمعنى همزة الإنكار وبل الإضرابية فهي منقطعة كأنه
أضرب عن الاستفهام الأول إلى الاستفهام عن أن لهم مشاركة مع الله في خلق السموات
والأرض فإن الشرك بمعنى المشاركة ولهم خبر مقدم وشرك مبتدأ مؤخر وفي السموات
متعلقان بشرك وائتوني فعل أمر وفاعل ومفعول به والجملة من تتمة المقول وبكتاب
متعلقان بائتوني ومن قبل هذا صفة لكتاب أي كائن من قبل هذا وأو حرف عطف وأثارة عطف
على بكتاب ومن علم صفة لأثارة وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط
والجواب محذوف تقديره فائتوني وصادقين خبر كنتم (وَمَنْ أَضَلُّ
مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ
الْقِيامَةِ) الواو استئنافية ومن اسم استفهام معناه الإنكار في محل
رفع مبتدأ وأضل خبر وممّن متعلقان بأضل وجملة
يدعو صلة من ومن دون الله حال ومن مفعول يدعو وجملة لا يستجيب له صلة ،
وأجازوا في من أن تكون نكرة
تامة موصوفة
فتكون جملة لا يستجيب له صفة وإلى يوم القيامة حال وسيأتي معنى الغاية في باب
البلاغة (وَهُمْ عَنْ
دُعائِهِمْ غافِلُونَ) الواو حالية وهم مبتدأ وعن دعائهم متعلقان بغافلون
وغافلون خبر هم والجملة في موضع نصب على الحال.
البلاغة :
١ ـ في قوله :
إلى يوم القيامة نكتة بلاغية رائعة وذلك أنه جعل يوم القيامة غاية لعدم الاستجابة
ومن شأن الغاية انتهاء المعنى عندها لكن عدم الاستجابة مستمر بعد هذه الغاية لأنهم
في القيامة أيضا لا يستجيبون لهم فالوجه أنها من الغايات المشعرة بأن ما بعدها وإن
وافق ما قبلها إلا أنه أزيد منه زيادة بيّنة تلحقه بالثاني حتى كأن الحالتين وإن
كانتا نوعا واحدا لتفاوت ما بينهما كالشيء وضدّه وذلك أن الحالة الأولى التي جعلت
غايتها القيامة لا تزيد على عدم الاستجابة والحالة الثانية التي في القيامة زادت
على عدم الاستجابة بالعداوة وبالكفر بعبادتهم إياهم فهو من وادي ما تقدم في سورة
الزخرف في قوله بل متّعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين ولما جاء الحق
قالوا : هذا سحر وإنّا به كافرون.
٢ ـ التغليب :
وغلب العاقل على غير العاقل على سبيل المجازاة لأن عابدي الأصنام كانوا يصفونها
بالتمييز جهلا وغباوة.
(وَإِذا حُشِرَ
النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦) وَإِذا
تُتْلى
عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ
هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا
تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى
بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) قُلْ ما
كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ
أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩))
اللغة :
(بِدْعاً) فيه وجهان أحدهما أن يكون مصدرا فيكون على حذف مضاف
تقديره ذا بدع والثاني أن البدع بنفسه صفة على فعل بمعنى بديع كالخف والخفيف والحب
والحبيب وقد تقدم القول في البديع مسهبا وأنه ما لم ير له مثيل من الابتداع وهو
الاختراع.
الإعراب :
(وَإِذا حُشِرَ
النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) الواو حرف عطف وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة
حشر الناس في محل جر بإضافة الظرف إليها والناس نائب فاعل وجملة كانوا لا محل لها
لأنها جواب شرط غير جازم وكان واسمها ولهم حال وأعداء خبر كانوا وكانوا عطف على
وكانوا الأولى وبعبادتهم متعلقان بكافرين والهاء مضافة إلى عبادة من إضافة المصدر
إلى مفعوله أي بكونهم معبودين وكافرين خبر كانوا (وَإِذا تُتْلى
عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ
هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) الواو عاطفة وإذا تتلى عليهم
آياتنا عطف على ما تقدم وبيّنات حال وجملة قال الذين كفروا جواب إذا لا محل
لها وللحق متعلقان بقالوا وعبارة أبي حيان «واللام في للحق لام الصلة أي لأجل الحق»
ولما ظرفية حينية أو رابطة ، وجاءهم فعل ومفعول به وفاعل مستتر وهذا مبتدأ وسحر
خبر ومبين نعت والجملة مقول قولهم (أَمْ يَقُولُونَ
افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) أم بمعنى بل وهمزة الاستفهام الإنكاري أضرب عن ذكر
تسميتهم إياه سحرا إلى ذكر قولهم أن محمدا افتراه ونسج أسلوبه من صنعه وذلك أشدّ
سماجة من قبله وإن كانا ينبعان من مصدر واحد موغل في الضلالة والكفر ، وجملة
افتراه مقول قولهم ، وقل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وإن شرطية وافتريته فعل
وفاعل ومفعول به والفاء رابطة لجواب الشرط ولا نافية وتملكون فعل مضارع مرفوع
بثبوت النون والواو فاعله ولي جار ومجرور متعلقان بتملكون ومن الله حال لأنه كان
في الأصل صفة وتقدم على موصوفة وشيئا مفعول به (هُوَ أَعْلَمُ بِما
تُفِيضُونَ فِيهِ) الجملة حالية وهو مبتدأ وأعلم خبر وبما متعلقان بأعلم
وجملة تفيضون فيه صلة ما (كَفى بِهِ شَهِيداً
بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) كفى فعل ماض والباء حرف جر زائد والهاء ضمير مجرور لفظا
في موضع رفع بالفاعلية وشهيدا تمييز وبيني ظرف متعلق بشهيدا وبينكم ظرف معطوف على
مثله والواو عاطفة وهو مبتدأ والغفور الرحيم خبران له (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ
وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وما نافية وكان
واسمها وبدعا خبرها ومن الرسل نعت لبدعا وما عطف على ما النافية الأولى وأدري فعل
مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره نحن وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة يفعل
بالبناء للمجهول خبرها وهي معلقة لأدري عن العمل فتكون سادّة مسدّ مفعوليها ، وقال
الزمخشري : «وما في ما يفعل يجوز أن تكون موصولة منصوبة وأن تكون استفهامية مرفوعة»
وبي متعلقان
بيفعل ولا بكم عطف عليه (إِنْ أَتَّبِعُ
إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) إن نافية وأتبع فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره
أنا وإلا أداة حصر وما مفعول أتبع وجملة يوحى إليّ صلة والواو حرف عطف وما نافية
وأنا مبتدأ وإلا أداة حصر ونذير خبر ومبين نعت.
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي
إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ
كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ
هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا
كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى
لِلْمُحْسِنِينَ (١٢) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا
فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ
خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤))
الإعراب :
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ) جملة أرأيتم مقول القول ومفعولا أرأيتم محذوفان
تقديرهما أرأيتم حالكم إن كان كذا ألستم ظالمين وجواب الشرط محذوف أيضا تقديره فقد
ظلمتم وقدّره الزمخشري ألستم ظالمين ورد عليه أبو حيان بأنه لو كان كذلك لوجبت
الفاء لأن الجملة الاستفهامية متى وقعت جوابا للشرط ألزمت الفاء ثم
إن كانت أداة الاستفهام همزة تقدمت على الفاء نحو إن تزرنا أفما نكرمك وإن
كانت غيرها تقدمت الفاء عليها نحو إن تزرنا فهل ترى ألا خيرا وقيل جواب الشرط فآمن
واستكبرتم وقيل هو محذوف تقديره فمن المحق منّا ومن المبطل وقيل فمن أضلّ واسم كان
ضمير مستتر تقديره هو ومن عند الله خبرها وكفرتم الواو عاطفة وجملة كفرتم عطف على
فعل الشرط واختار الجلال والسمين أن تكون حالية وبه متعلقان بكفرتم (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ
عَلى مِثْلِهِ) الواو عاطفة وشهد شاهد فعل وفاعل ومن بني إسرائيل صفة
لشاهد وعلى مثله متعلقان بشهد والضمير يعود إلى القرآن أي على مثل القرآن من
المعاني الموجودة في التوراة المطابقة له من إثبات التوحيد والبعث والنشور وغير
ذلك وهذه المثلية هي باعتبار تطابق المعاني وإن اختلفت الألفاظ (فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ
لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الفاء عاطفة وآمن فعل وفاعل مستتر تقديره هو أي الشاهد
واستكبرتم عطف على فآمن وإن واسمها وجملة لا يهدي القوم الظالمين خبر (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ
آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) الواو عاطفة وقال الذين فعل وفاعل وجملة كفروا صلة
وللذين متعلقان بقال وجملة آمنوا صلة ولو شرطية وكان فعل ماض ناقص واسمها مستتر
يعود على ما جاء به محمد وخيرا خبرها وما نافية وسبقونا فعل وفاعل ومفعول به وإليه
متعلقان بسبقونا والجملة مقول القول وجملة ما سبقونا إليه لا محل لها لأنها جواب
شرط غير جازم (وَإِذْ لَمْ
يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) الواو عاطفة وإذ ظرف ماض متعلق بمحذوف تقديره ظهر عنادهم
وتسبّب عنه قوله فسيقولون ولا يعمل في إذ فسيقولون لتضاد الزمانين ولأجل الفاء
أيضا وقيل إن لم يكن مانع من عمل فسيقولون في الظرف إلا تنافي دلالتي المضي
والاستقبال فهذا غير مانع فإن الاستقبال هاهنا إنما خرج مخرج الإشعار بدوام ما وقع
ومضى لأن القوم قد حرموا الهداية وقالوا هذا إفك قديم
وأساطير الأولين وغير ذلك فمعنى الآية إذن وقالوا إذا لم يهتدوا به هذا إفك
قديم وداموا على ذلك وأصرّوا عليه فعبّر عن وقوعه ثم دوامه بصيغة الاستقبال كما
قال إبراهيم إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وقد كانت الهداية واقعة وماضية ولكن أخبر
عن وقوعها ثم دوامها فعبّر بصيغة الاستقبال وهذا طريق الجمع بين قوله سيهدين وقوله
في الأخرى فهو يهدين ولو لا دخول الفاء على الفعل لكان هذا الذي ذكرناه هو الوجه
ولكن الفاء المسبّبة دلّت بدخولها على محذوف هو السبب وقطعت الفعل عن الظرف
المتقدم فوجب تقدير المحذوف عاملا فيه.
وقال أبو
السعود في تفسيره «وإذا لم يهتدوا به ظرف لمحذوف يدل عليه ما قبله ويترتب عليه ما
بعده أي وإذ لم يهتدوا بالقرآن قالوا ما قالوا فسيقولون غير مكتفين بنفي خبريته
هذا إفك قديم كما قالوا أساطير الأولين وقيل المحذوف ظهر عنادهم وليس بذاك». وعبارة
الكرخي «قوله وإذ لم يهتدوا ظرف لمحذوف مثله ظهر عنادهم لا لقوله فسيقولون فإنه
للاستقبال وإذ للمضي ويجوز أن يقال إن إذ للتعليل لا للظرف أو يقال فسيقولون
للاستمرار في الأزمنة الثلاث والسين لمجرد التأكيد وأما الفاء فلا تمنع من العمل
فيما قبلها نصّ عليه الرضي وغيره والتسبب يجوز أن يكون عن كفرهم».
ولم حرف نفي
وقلب وجزم ويهتدوا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعل والفاء عاطفة والسين حرف
استقبال ويقولون فعل مضارع مرفوع وفاعل وهذا مبتدأ وإفك خبر وقديم صفة والجملة
الاسمية في محل نصب مقول القول (وَمِنْ قَبْلِهِ
كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً) الواو استئنافية ومن قبله جار ومجرور متعلقان بمحذوف
خبر مقدم وكتاب موسى مبتدأ مؤخر وإماما ورحمة حالان من كتاب موسى والتقدير وكتاب
موسى كائن من قبل القرآن في حال كونه إماما ورحمة (وَهذا كِتابٌ
مُصَدِّقٌ
لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) الواو عاطفة وهذا مبتدأ وكتاب خبر ومصدّق صفة ولسانا
حال من الضمير في مصدّق أو من كتاب والعامل فيه معنى الإشارة ، وأعربه أبو البقاء
مفعولا به لمصدّق وعلى هذا تكون الإشارة إلى غير القرآن وقيل هو منصوب بنزع الخافض
أي بلسان عربي ، وأجاز أبو حيان جميع هذه الأوجه. واللام للتعليل وينذر فعل مضارع
منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بمصدق أو هو في محل نصب
مفعول لأجله والذين مفعول به وجملة ظلموا صلة وبشرى عطف على محل لينذر إن كان
مفعولا لأجله ويجوز أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف أي وهو بشرى وللمحسنين نعت لبشرى (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ
ثُمَّ اسْتَقامُوا) إن واسمها وجملة قالوا صلة وربنا مبتدأ والله خبر ويجوز
العكس وثم حرف عطف وجملة استقاموا عطف على جملة قالوا. (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) الفاء زائدة في خبر إن لما في الموصول من رائحة الشرط
وقال السمين : والفاء زائدة في خبر الموصول لما فيه من معنى الشرط ولم تمنع إن من
ذلك لبقاء معنى الانتداب بخلاف لعل وليت وكأن ، وسيبويه يرى تقدير حذف إن ثم دخلت
الفاء في خبر الذين ، ولا نافية وخوف مبتدأ ساغ الابتداء به لتقدم النفي وعليهم
خبر ، ولا هم يحزنون عطف على الجملة السابقة وجملة فلا خوف عليهم خبر إن (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ
فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أولئك مبتدأ وأصحاب الجنة خبره وخالدين فيها حال وجزاء
مصدر منصوب بفعل محذوف أي يجزون جزاء وأجاز أبو البقاء إعرابه حالا ، وبما متعلقان
بجزاء وما موصولة أو مصدرية وكان واسمها وجملة يعملون خبرها والجملة خبر ثان لإن.
(وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ
كُرْهاً
وَحَمْلُهُ
وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ
سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ
عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي
ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ
الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ
سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا
يُوعَدُونَ (١٦) وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ
أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ
وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ
الْأَوَّلِينَ (١٧))
اللغة :
(وَفِصالُهُ) في المختار : «الفصال هو الفطام ، وقرئ وفصله والفصل
والفصال كالعظم والعظام بناء ومعنى وسيأتي المراد به في باب البلاغة.
و (بَلَغَ أَشُدَّهُ) تقدم تفسير الأشد وعبارة الكشاف : «بلوغ الأشد أن يكتهل
ويستوفي السن التي تستحكم فيها قوته وعقله وتمييزه وذلك إذا أناف على الثلاثين
وناطح الأربعين».
(أَوْزِعْنِي) ألهمني وقد تقدم تفسيرها.
الإعراب :
(وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً) كلام مستأنف مسوق لبيان العبرة في اختلاف حال الإنسان
مع أبويه فقد يطيعهما وقد يخالفهما وما دام
الإنسان مركوزا على هذه السجية فلا يبعد مثل هذا مع النبي صلى الله عليه
وسلم. ووصينا فعل وفاعل والإنسان مفعول به وبوالديه متعلقان بوصّينا وإحسانا مصدر
منصوب بفعل محذوف أي وصّيناه أن يحسن إليهما إحسانا وقيل هو مفعول به على تضمين
وصينا معنى ألزمنا فيكون مفعولا ثانيا وقيل بل هو منصوب على أنه مفعول من أجله أي
وصيناه بهما إحسانا منّا إليهما وقرئ حسنا وإعرابه كما تقدم (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً
وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) الجملة لا محل لها لأنها تعليلية للوصية المذكور وحملته
أمه فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وكرها بضم الكاف وفتحها وقد قرئ بهما وهو
منصوب على الحال من الفاعل أي ذات كره ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف أي حملا كرها
ووضعته كرها عطف على ما تقدم (وَحَمْلُهُ
وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) الواو حالية وحمله مبتدأ وفصاله عطف على حمله وثلاثون
خبر وشهرا تمييز (حَتَّى إِذا بَلَغَ
أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) حتى حرف غاية وجر أي وعاش إلى أن بلغ أشدّه وإذا ظرف
مستقبل وجملة بلغ أشده في محل جر بإضافة الظرف إليها وبلغ عطف على بلغ الأولى
وأربعين مفعول به وسنة تمييز ولا بدّ من تقدير مضاف أي تمام أربعين (قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ
نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً
تَرْضاهُ) جملة قال لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ورب منادى
مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة وقد تقدم تقريره وأوزعني فعل أمر للدعاء وأن وما في
حيزها في محل نصب مفعول أوزعني ونعمتك مفعول أشكر والتي صفة نعمتك وجملة أنعمت
عليّ صلة وأن أعمل عطف على أن أشكر وصالحا مفعول به أو صفة لمصدر محذوف وجملة
ترضاه صفة لعملا (وَأَصْلِحْ لِي فِي
ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) وأصلح عطف على أوزعني ولي متعلقان بأصلح وفي ذريتي
متعلقان بمحذوف حال وعبارة الزمخشري : «فإن قلت ما معنى وأصلح لي في ذريتي؟
قلت معناه أن يجعل ذريته موقعا للصلاح ومظنة له كأنه قال هب لي الصلاح في
ذريتي وأوقعه فيهم» وأحسن من ذلك عبارة الشهاب الخفاجي في حاشيته على البيضاوي : «يعني
كان الظاهر أصلح لي ذريتي لأن الإصلاح متعدّ كما في قوله تعالى وأصلحنا له زوجه
فقيل أنه عدّي بفي لتضمنه معين اللطف أي الطف بي في ذريتي أو هو نزل منزلة اللازم
ثم عدي بفي ليفيد سريان الصلاح فيهم وكونهم كالظرف له لتمكنه فيهم وهذا ما أراده
المصنف وهو الأحسن» وإن واسمها وجملة تبت خبرها وإليك متعلقان بتبت وإني من
المسلمين عطف على إني تبت إليك (أُولئِكَ الَّذِينَ
نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) أولئك مبتدأ والذين خبره وجملة نتقبل عنهم صلة وأحسن
مفعول به وما موصول مضاف إليه وجملة عملوا صلة ويجوز أن تكون ما مصدرية أي أحسن
عملهم (وَنَتَجاوَزُ عَنْ
سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا
يُوعَدُونَ) ونتجاوز عطف على نتقبل داخل في حيز الصلة وعن سيئاتهم
متعلقان بنتجاوز وفي أصحاب الجنة حال وعبارة الزمخشري «فإن قلت ما معنى قوله في
أصحاب الجنة قلت هو نحو قولك أكرمني الأمير في ناس من أصحابه تريد أكرمني في جملة
من أكرم منهم ونظمني في عدادهم ومحله النصب على الحال على معنى كائنين من أصحاب
الجنة ومعدودين فيهم» وأجاز أبو البقاء وغيره أن يكون الجار والمجرور في موضع رفع
على أنه خبر مبتدأ مضمر أي هم في أصحاب الجنة. ووعد الصدق مصدر منصوب بفعله
المقدّر أي وعدهم الله وعد الصدق أي وعدا صادقا وهو مصدر مؤكد لمضمون الجملة
السابقة والذي صفة لوعد الصدق وجملة كانوا يوعدون صلة الموصول وجملة يوعدون خبر
كانوا ويوعدون فعل مضارع مرفوع مبني للمجهول والواو نائب فاعل (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ
لَكُما) والذي مبتدأ سيأتي خبره فيما بعد وجملة قال صلة
ولوالديه متعلقان بقال وأفّ اسم فعل مضارع معناه
أتضجر وقد تقدم القول فيه ولكما جار ومجرور في محل نصب على الحال لأن اللام
للبيان (أَتَعِدانِنِي أَنْ
أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) الهمزة للاستفهام الإنكاري وتعدانني فعل مضارع مرفوع
وفاعل ومفعول به وأن أخرج في تأويل مصدر مفعول ثان لتعدانني أو نصب على نزع الخافض
وأخرج فعل مضارع مبني للمجهول ، وقد الواو حالية وقد حرف تحقيق وخلت القرون فعل
وفاعل ومن قبلي متعلقان بخلت (وَهُما يَسْتَغِيثانِ
اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ
الْأَوَّلِينَ) الواو للحال وهما مبتدأ وجملة يستغيثان في محل رفع خبر
المبتدأ ولفظ الجلالة مفعول به ، واستغاث يتعدى بنفسه تارة وبالباء أخرى ولكنه لم
يرد في القرآن إلا متعديا بنفسه ، وقال الرازي : «معناه يستغيثان بالله من كفره
فلما حذف الجار وصل الفعل ، وقيل : الاستغاثة الدعاء فلا حاجة إلى الباء» وويلك
مصدر أمات العرب فعله والجملة معمولة لقول مقدّر أي يقولان ويلك آمن والجملة في
محل نصب على الحال أي يستغيثان الله قائلين ، وعبارة أبي البقاء : «وويلك مصدر لم
يستعمل فعله وقيل هو مفعول به أي ألزمك الله ويلك» وآمن فعل أمر من الإيمان وهو من
جملة مقولهما وإن واسمها وخبرها والجملة تعليلية للأمر لا محل لها والفاء عاطفة
على القول المحذوف وما نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وأساطير الأولين خبر هذا
والجملة مقول القول.
البلاغة :
في قوله «وحمله
وفصاله ثلاثون شهرا» مجاز مرسل علاقته المجاورة لأن الفصال هو الفطام وأريد به هنا
مدته التي يعقبها الفطام.
الفوائد :
١ ـ تضمنت هذه
الآيات تعليمات فريدة في برّ الوالدين لأن إكرامهما من العمل الذي يحبه الله تعالى
ويساوي ثواب الجهاد في
سبيله ولا غرو فقد قرن الله رضاه برضاهما وقد تقدم ذلك في سورة النساء حيث
يقول تعالى : «واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا» وقال تعالى في
سورة العنكبوت «ووصّينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به
علم فلا تطعهما إليّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون» وقد أخرج مسلم من طريق مصعب
بن سعد عن أبيه قال : حلفت أم سعد لا تكلمه أبدا حتى يكفر بدينه قالت :زعمت أن
الله أوصاك بوالديك فأنا أمك وأنا آمرك بهذا فنزلت الآية ، وعن أبي بكرة رضي الله
عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثا؟
قلنا : بلى يا رسول الله قال الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال
ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت رواه البخاري ومسلم
والمعنى تمنينا أنه يسكت إشفاقا عليه لما رأوا من أثر انزعاجه في ذلك ، وقال ابن
دقيق العيد : اهتمامه صلى الله عليه وسلم بشهادة الزور يحتمل أن يكون لأنها أسهل
وقوعا على الناس والتهاون بها أكثر ومفسدتها أكثر وقوعا لأن الشرك ينبو عنه المسلم
والعقوق ينبو عنه الطبع وأما قول الزور فإن الحوامل عليه كثيرة فحسن الاهتمام بها
وليس ذلك لعظمها بالنسبة إلى ما ذكر معها.
٢ ـ مدة الحمل
: قال أبو حيان : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا أي ومدة حمله وفصاله وهذا لا يكون إلا
بأن يكون أحد الطرفين ناقصا إما بأن تلد المرأة لستة أشهر وترضع عامين وإما أن تلد
لتسعة أشهر على العرف وترضع عامين غير ربع عام فإن زادت مدة الحمل نقصت مدة الرضاع
فمدة الرضاع عام وتسعة أشهر وإكمال العامين لمن أراد أن يتم الرضاعة وقد كشفت
التجربة أن أقل مدة الحمل ستة أشهر كنص القرآن ، وقال جالينوس : كنت شديد الفحص عن
مقدار زمن الحمل
فرأيت امرأة ولدت لمائة وأربع وثمانين ليلة وزعم ابن سينا أنه شاهد ذلك
وأما أكثر الحمل فليس في القرآن ما يدل عليه وحكي عن أرسطاطاليس أنه قال : إن مدة
الحمل لكل الحيوان مضبوطة سوى الإنسان فربما وضعت لسبعة أشهر ولثمانية وقلّما يعيش
الولد في الثامن إلا في بلاد معينة مثل مصر.
٣ ـ لطيفة :
ذكر تعالى الأم في ثلاث مراتب : في قوله بوالديه وحمله وإرضاعه المعبّر عنه
بالفصال ، وذكر الوالد في واحدة في قوله بوالديه فناسب ما قال الرسول من جعل ثلاثة
أرباع البرّ للأم والربع للأب في قول الرجل : يا رسول الله من أبرّ؟ قال أمك قال
ثم من؟ قال أمك قال ثم من؟ قال أمك قال ثم من؟ قال أباك.
(أُولئِكَ الَّذِينَ
حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا
وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩) وَيَوْمَ يُعْرَضُ
الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ
الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما
كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ
تَفْسُقُونَ (٢٠) وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ
وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا
إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا
لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا
إِنْ
كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ
وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣)
فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ
مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤)
تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ
مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥) وَلَقَدْ
مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً
وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا
أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ
ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦))
اللغة :
(الأحقاف) قال
في القاموس : «الحقف بالكسر المعوج من الرمل والجمع أحقاف وحقاف وحقوف وجمع الجمع
حقائف وحقفة أو الرمل العظيم المستدير أو المستطيل المشف أو هي رمال مستطيلة
بناحية الشحر» وقال شارحه في التاج : «وبه فسر قوله تعالى «واذكر أخا عاد إذ أنذر
قومه بالأحقاف» قال الجوهري : وهي ديار عاد وقال ابن عرفة قوم عاد كانت منازلهم
بالرمال وهي الأحقاف وفي المعجم : وروي عن ابن عباس أنها واد بين عمان وأرض مهرة
وقال ابن إسحق : الأحقاف رمل فيما بين عمان إلى حضرموت وقال قتادة : الأحقاف رمال
مشرفة على
هجر بالشحر من أرض اليمن ، قال ياقوت : فهذه ثلاثة أقوال غير مختلفة في
المعنى» وفي القاموس أيضا : «الشجر كالمنع فتح الفم وساحل البحر بين عمان وعدن
ويكسر» وقال أبو حيان : «الحقف رمل مستطيل مرتفع فيه اعوجاج وانحناء ومنه احقوقف
الشيء اعوج قال امرؤ القيس :
فلما أجزنا
ساحة الحيّ وانتحى
|
|
بنا بطن خبت
ذي حقاف عقنقل
|
قال شارحه
الزوزني : «والحقف رمل مشرف معوج والجمع أحقاف وحقاف» وعبارة الكشاف : «الأحقاف
جمع حقف وهو رمل مستطيل مرتفع فيه انحناء من احقوقف الشيء إذا اعوجّ وكانت عاد
أصحاب عمد يسكنون بين رمال مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشحر من بلاد اليمن
وقيل بين عمان ومهرة» وقال ابن زيد : «هي رمال مشرفة على البحر مستطيلة كهيئة
الجبال ولم تبلغ أن تكون جبالا» وقال مقاتل : كانت منازل عاد باليمن في حضرموت
بموضع يقال له مهرة وإليه تنسب الإبل المهرية وقال أبو الطيب في هجاء كافور :
ويلمّها خطة
ويلم قابلها
|
|
لمثلها خلق
المهرية القود
|
قال أبو البقاء
في شرحه للديوان : المهرية : منسوبة إلى مهرة بن حيدان بطن من قضاعة.
(عارِضاً) العارض : السحاب الذي يعرض في أفق السماء ، وقال أبو
حيان : والعارض : المعترض في الجو من السحاب الممطر ومنه قول الشاعر :
يا من رأى
عارضا أرقت له
|
|
بين ذراعي
وجبهة الأسد
|
وقال الأعشى :
يا من رأى
عارضا قد بتّ أرمقه
|
|
كأنه البرق
في حافاته الشعل
|
الإعراب :
(أُولئِكَ الَّذِينَ
حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ) أولئك مبتدأ والذين خبره وجملة حق عليهم القول لا محل
لها لأنها صلة الموصول وفي أمم حال من المجرور بعلى وجملة قد خلت صفة لأمم ومن
قبلهم متعلقان بخلت ومن الجن صفة ثانية لأمم (إِنَّهُمْ كانُوا
خاسِرِينَ) إن واسمها وجملة كانوا خبرها وخاسرين خبر كانوا والجملة
لا محل لها لأنها تعليلية (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ
مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) الواو استئنافية ولكل خبر مقدم ودرجات مبتدأ مؤخر ومما
صفة لدرجات وجملة عملوا صلة ، وليوفّيهم :الواو عاطفة واللام للتعليل ويوفّيهم فعل
مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بالمعلل المحذوف كأنه
قيل وجازاهم بذلك ليوفّيهم والهاء مفعول به أول وأعمالهم مفعول به ثان والواو
للحال وهم مبتدأ وجملة لا يظلمون خبره والجملة نصب على الحال المؤكدة (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا
عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ
بِها) الواو استئنافية ويوم ظرف زمان متعلق بمحذوف تقديره
يقال لهم أذهبتم في يوم عرضهم وجملة يعرض في محل جر بإضافة الظرف إليها ويعرض فعل
مضارع مبني للمجهول والذين نائب فاعل وجملة كفروا صلة الموصول وعلى النار متعلقان
بيعرض وأذهبتم فعل وفاعل وطيباتكم مفعول به وفي حياتكم متعلقان بأذهبتم والدنيا
نعت للحياة ، وسيرد المزيد من بحث هذه الآية في باب البلاغة (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ
بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) الفاء الفصيحة واليوم ظرف زمان متعلق بتجزون وتجزون فعل
مضارع مرفوع مبني للمجهول وعذاب الهون مفعول به ثان وبما متعلقان بتجزون
وما موصولة ويجوز أن تكون مصدرية وجملة كنتم لا محل لها وجملة تستكبرون خبر كنتم
وفي الأرض متعلقان بتستكبرون وبغير الحق حال (وَبِما كُنْتُمْ
تَفْسُقُونَ) عطف على ما تقدم ويجوز أن تجعل ما مصدرية أو موصولة
والمصدرية أولى (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ
إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق للأمر بذكر قصة
عاد لهؤلاء المشركين للاعتبار بها ، واذكر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وأخا
عاد مفعول به وإذ ظرف لما مضى وهو بدل اشتمال من أخا عاد لأن أخا عاد وهو هود
يلابس وقت إنذاره وما وقع له معهم وجملة أنذر قومه في محل جر بإضافة الظرف إليها
وبالأحقاف حال من أخا عاد وليس متعلقا بأنذر كما يبدو لأول وهلة أي حالة كونهم
كائنين بالأحقاف وأما صلة أنذر فستأتي فيما بعد (وَقَدْ خَلَتِ
النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) الواو اعتراضية والجملة معترضة وقد حرف تحقيق وخلت
النذر فعل وفاعل ومن بين يديه حال ومن خلفه عطف على من بين يديه وأن مصدرية أو
مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وجملة لا تعبدوا خبرها وهي على كل حال مع
مدخولها في محل نصب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بأنذر ولا ناهية وتعبدوا
فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وإلا أداة حصر ولفظ الجلالة مفعول تعبدوا (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ
عَظِيمٍ) إن واسمها وجملة أخاف خبرها وعليكم متعلقان بأخاف وعذاب
يوم مفعول به وعظيم نعت ليوم والجملة لا محل لها لأنها تعليل للنهي (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ
آلِهَتِنا) قالوا فعل وفاعل والهمزة للاستفهام الإنكاري وجئتنا فعل
وفاعل ومفعول به واللام للتعليل وتأفكنا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام وعن
آلهتنا متعلقان بتأفكنا (فَأْتِنا بِما
تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) الفاء الفصيحة وائت فعل أمر مبني على حذف حرف العلة
والفاعل مستتر تقديره أنت ونا
مفعول به وبما متعلقان بائت وجملة تعدنا صلة وإن شرطية وكنت فعل ماض ناقص
في محل جزم فعل الشرط وكنت كان واسمها ومن الصادقين خبرها وجواب الشرط محذوف دلّ
عليه ما قبله أي فائتنا بما تعدنا (قالَ إِنَّمَا
الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) قال فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو أي هود وإنما كافة
ومكفوفة والعلم مبتدأ وعند الله ظرف متعلق بمحذوف خبر والجملة مقول القول (وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ
وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) الواو عاطفة أي وأما أنا فإنما مهمتي التبليغ لا
الإتيان بالعذاب إذ لست قادرا عليه وإنما القادر عليه هو الله تعالى ، وأبلغكم فعل
مضارع وفاعل مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به وما مفعول به وجملة أرسلت صلة
وأرسلت فعل ماض مبني للمجهول وبه متعلقان بأرسلت والواو عاطفة ولكن واسمها وجملة
أراكم خبرها وقوما مفعول به ثان وجملة تجهلون صفة لقوما (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ
أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) الفاء عاطفة على مقدر محذوف تقديره فأصروا على إلحاحهم
وطلبهم العذاب فجاءهم فلما رأوه ، ولما ظرفية حينية أو رابطة ورأوه فعل ماض وفاعل
ومفعول به وعارضا حال لأن الرؤية بصرية وقيل تمييز ومستقبل أوديتهم نعت وجاز لأن
الإضافة غير محضة فلم تفد التعريف فساغ وقوعها نعتا للنكرة أي متوجها وسائرا إليها
وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب لما المتضمنة معنى الشرط على كل حال وهذا مبتدأ
وعارض خبره وممطرنا نعت لعارض وساغ النعت لما تقدم أي ممطر إيانا. وقال المبرد
والزجّاج : الضمير في رأوه يعود إلى غير مذكور وبيّنه قوله : عارضا فالضمير يعود إلى
السحاب أي فلما رأوا السحاب عارضا (بَلْ هُوَ مَا
اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) بل حرف عطف وإضراب قال ذلك هود وهو مبتدأ وما خبر وجملة
استعجلتم صلة وبه صلة وريح بدل من ما أو خبر لمبتدأ محذوف أي هي ريح وفيها خبر
مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وأليم نعت وجملة فيها
عذاب أليم نعت لريح وقيل هو من كلام قول الله تعالى والأول أنسب وأقعد
بالفصاحة (تُدَمِّرُ كُلَّ
شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها) الجملة نعت ثان لريح وتدمر فعل مضارع وفاعله مستتر
تقديره هي وكل شيء مفعول به وبأمر متعلقان بندمر وربها مضاف إليه (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا
مَساكِنُهُمْ) الفاء الفصيحة أي قال هود ذلك ثم أدركتهم الريح فأصبحوا
لا يرى إلا مساكنهم وإذا كان القول من الله تعالى كانت الفاء لمجرد العطف (كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ
الْمُجْرِمِينَ) كذلك نعت لمصدر محذوف ونجزي فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره
نحن والقوم مفعول به والمجرمين نعت للقوم (وَلَقَدْ
مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) الواو واو القسم واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف
تحقيق ومكناهم فعل وفاعل ومفعول به وفيما متعلقان بمكناهم وما اسم موصول بمعنى
الذي أو موصوفة وفي إن ثلاثة أوجه الأول شرطية وجوابها محذوف والجملة الشرطية صلة
ما والتقدير في الذي إن مكنّاكم فيه طغيتم ، والثاني أنها مزيدة تشبيها للموصولة
بما النافية والتوقيتية ، والثالث وهو الأرجح أنها نافية بمعنى ما أي مكناهم في
الذي ما مكناكم من القوة والبسطة واتساع الرزق وإنما عدل عن لفظ ما النافية إلى أن
تفاديا من اجتماع متماثلين لفظا وسيأتي مزيد بسط لهذا البحث في باب الفوائد
ومكناكم فعل وفاعل ومفعول به وفيه متعلقان بمكناكم (وَجَعَلْنا لَهُمْ
سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا
أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ) وجعلنا فعل وفاعل ولهم متعلقان بجعلنا لأنها بمعنى
خلقنا وسمعا مفعول به وأبصارا وأفئدة عطف على سمعا والفاء حرف عطف وما نافية وأغنى
فعل ماض وعنهم متعلقان بأغنى وسمعهم فاعل ولا أبصارهم ولا أفئدتهم عطف على سمعهم
ومن حرف جر زائد وشيء مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول مطلق أي شيئا من
الإغناء (إِذْ كانُوا
يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) إذ ظرف ماض يفيد التعليل متعلق بمعنى
النفي لأن المعلل هو النفي أي انتفى نفع هذه الحواس عنهم لأنهم كانوا
يجحدون وإلى ذلك أشار صاحب الكشاف قال : «فإن قلت بم ينتصب إذ كانوا يجحدون؟ قلت
بقوله تعالى فما أغنى فإن قلت لم جرى مجرى التعليل؟ قلت لاستواء مؤدى التعليل
والظرف في قولك ضربته لإساءته وضربته إذا أساء لأنك إذا ضربته في وقت إساءته فإنما
ضربته لوجود إساءته فيه إلا أن «إذ وحيث» غلبتا دون سائر الظروف في ذلك» حيث كاد
يلحق بمعانيهما الوضعية ، وجملة كانوا في محل جر بإضافة الظرف إليها وكان واسمها
وجملة يجحدون خبرها وبآيات الله متعلقان بيجحدون ، وحاق بهم الواو عاطفة وحاق فعل
ماض مبني على الفتح وبهم متعلقان بحاق وما فاعل حاق وجملة كانوا صلة الموصول وكان
واسمها وجملة يستهزئون خبر وبه متعلقان بيستهزئون.
البلاغة :
في قوله تعالى «ويوم
يعرض الذين كفروا على النار» إلى آخر الآية فن القلب وقد تقدم القول فيه على رأي
بعضهم وأن الأصل تعرض النار عليهم ، فعلى هذا القول يقال لهم قبل دخولها أي لدى
معاينتها ، وممّن ذهب إلى هذا الرأي الزمخشري والجلال ونص عبارة الزمخشري : «وعرضهم
على النار تعذيبهم بها من قولهم عرض ببنو فلان على السيف إذا قتلوا به ومنه قوله
تعالى : النار يعرضون عليها ويجوز أن يراد عرض النار عليهم من قولهم عرضت الناقة
على الحوض يريدون عرض الحوض عليها فقلبوا ويدل عليها تفسير ابن عباس رضي الله عنه
، يجاء بهم إليها فيكشف لهم عنها» وقيل في الرد على الزمخشري أنه لا ملجئ للقلب
باعتبار أنه جماد لا إدراك له والناقة هي المدركة فهي التي يعرض عليها الحوض وأما
النار فقد وردت النصوص
بأنها حينئذ مدركة إدراك الحيوانات بل إدراك أولي العلم فالأمر في الآية
على ظاهره وعبارة زاده في حاشيته على البيضاوي : «العرض يتعدى باللام وبعلى يقال
عرضت له أمر كذا وعرضت عليه الشيء أي أظهرته له قال تعالى «وعرضنا جهنم للكافرين
عرضا» ، قال الفراء : أي أبرزناها حتى نظر الكفار إليها ، فالمعروض عليه يجب أن
يكون من أهل الشعور والنار ليست منه فلا بدّ أن يحمل العرض على التعذيب مجازا
بطريق التعبير عن الشيء باسم ما يؤدي إليه كما يقال عرض بنو فلان على السيف فقتلوا
به أو يكون باقيا على أصل معناه ويكون الكلام محمولا على القلب والأصل ويوم تعرض
النار على الذين كفروا أي تظهر وتبرز عليهم والنكتة في اعتبار القلب المبالغة
بادّعاء أن النار ذات تمييز وقهر وغلبة».
أما الشيخ أبو
حيان فقد ردّ القلب وقال في معرض الرد على الزمخشري : «ولا ينبغي حمل القرآن على
القلب إذ الصحيح في القلب أنه مما يضطر إليه في الشعر وإذا كان المعنى صحيحا واضحا
مع عدم القلب فأي ضرورة تدعو إليه وليس في قولهم عرضت الناقة على الحوض ولا في
تفسير ابن عباس بما يدل على القلب لأن عرض الناقة على الحوض وعرض الحوض على الناقة
كلّ منهما صحيح إذ العرض أمر نسبي يصحّ إسناده لكل واحد من الناقة والحوض».
الفوائد :
قال الزمخشري :
«وإن نافية أي فيما مكنّاكم فيه إلا أن إن أحسن في اللفظ لما في مجامعة ما مثلها
من التكرير المستبشع ومثله مجتنب ، ألا ترى أن الأصل في مهما ما ما فلبشاعة
التكرير قلبوا الألف هاء ، ولقد أغث أبو الطيب في قوله :
لعمرك ما ما
بان منك لضارب
|
|
بأقتل مما
بان منك لغائب
|
وما ضرّه لو
اقتدى بعذوبة لفظ التنزيل فقال لعمرك ما إن بان منك لضارب وقد جعلت إن صلة مثلها
فيما أنشده الأخفش :
يرجى المرء
ما إن لا يراه
|
|
وتعرض دون
أذناه الخطوب»
|
هذا ما قاله
الزمخشري والرواية في ديوانه :
يرى أن ما ما
بان منك لضارب
|
|
بأقتل مما
بان منك لعائب
|
قال ابن جنّي :
«ما الأولى زائدة والثانية بمعنى الذي واسم إن مضمر فيها» وقال ابن القطاع : «قال
المتنبي ما الأولى بمعنى ليس والثانية بمعنى الذي» والمعنى يريد أنه ما الذي بان
منك لضارب بأقتل من الذي بان لعائب يعيبك ، يزيد أن العيب أشدّ من القتل وهذا من
قول حبيب بن أوس أبي تمام الطائي :
فمتى لا يرى
أن الفريصة مقتل
|
|
ولكن يرى أن
العيوب مقاتل
|
(وَلَقَدْ
أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ
قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا
يَفْتَرُونَ (٢٨) وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ
الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى
قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ
مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى
طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠)
يا
قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ
وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ
بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي
ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢))
الإعراب :
(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا
ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) كلام مستأنف مسوق لخطاب أهل مكة على جهة التمثيل واللام
جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأهلكنا فعل وفاعل وما مفعول به وحولكم ظرف
متعلق بمحذوف لا محل له من الإعراب لأنه صلة الموصول ومن القرى متعلقان بمحذوف حال
وصرفنا عطف على أهلكنا والآيات مفعول به ولعل واسمها وجملة يرجعون خبرها (فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً) الفاء عاطفة ولو لا حرف تحضيض بمنزلة هلّا ونصرهم فعل
ماض ومفعول به مقدم والذين فاعل مؤخر وجملة اتخذوا صلة ومن دون الله متعلقان
باتخذوا والمفعول الأول لاتخذوا محذوف وهو عائد الموصول وقربانا نصب على الحال
وآلهة مفعول به ثان ، وذهب ابن عطية والحوفي إلى أن المفعول الأول محذوف أيضا كما
تقدم تقريره وقربانا مفعول به ثان وآلهة بدل منه وقد شجب الزمخشري هذا الوجه وقال
إن المعنى يفسد عليه ولم يبيّن وجه فساد المعنى ونحن نبيّنه فنقول لو كان قربانا
مفعولا ثانيا ومعناه متقربا بهم لصار المعنى إلى أنهم وبّخوا على ترك اتخاذ الله
متقربا لأن السيد إذا وبخ عبده وقال : اتخذت سيدا دوني فإنما معناه اللوم على نسبة
السيادة إلى غيره وليس هذا المقصد فإن الله تعالى يتقرب إليه ولا
يتقرب به لغيره فإنما وقع التوبيخ على نسبة الإلهية إلى غير الله تعالى
فكان حق الكلام أن يكون آلهة هو المفعول الثاني لا غير ، وأجاز أبو حيان وأبو
البقاء أن يعرب قربانا مفعولا من أجله وآلهة هو المفعول الثاني والمفعول الأول
محذوف كما تقدم (بَلْ ضَلُّوا
عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) بل حرف إضراب وعطف للانتقال عن نفي النصرة لما هو أخص
منه إذ نفيها يصدق بحضورها عندهم بدون النصرة فأفاد بالإضراب أنهم لم يحضروا
بالكلية فضلا عن أن ينصروهم. وضلّوا فعل وفاعل وعنهم متعلقان بضلوا والواو حرف عطف
وذلك مبتدأ وإفكهم خبر وما الواو حرف عطف وما مصدرية أو موصولة والمعنى وافتراؤهم
أو والذي يفترونه ، وكان واسمها وجملة يفترون خبر كان (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ
الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) الواو عاطفة وإذ ظرف معمول لاذكر محذوفا وجملة صرفنا في
محل جر بإضافة الظرف إليها وصرفنا فعل وفاعل وإليك متعلقان بصرفنا ونفرا مفعول به
ومن الجن صفة لنفر وجملة يستمعون القرآن صفة ثانية لنفرا أو حال لتخصصه بالصفة (فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا : أَنْصِتُوا) الفاء عاطفة ولما ظرفية حينية أو رابطة وحضروه فعل
وفاعل ومفعول به وجملة قالوا : لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وجملة أنصتوا
مقول القول والضمير في حضروه للقرآن (فَلَمَّا قُضِيَ
وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) عطف على ما تقدم وقضي فعل ماض مبني للمجهول وجملة ولّوا
لا محل لها وإلى قومهم متعلقان بولّوا ومنذرين حال (قالُوا يا قَوْمَنا
إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ
يَدَيْهِ) قالوا فعل وفاعل وإن واسمها وجملة سمعنا خبرها وكتابا
مفعول به وجملة أنزل صفة لكتابا وهو مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو
ومن بعد متعلقان بأنزل وموسى مضاف إليه ومصدقا نعت لكتابا ولما متعلقان بمصدقا
وبين ظرف متعلق بمحذوف وهو صلة الموصول ويديه مضاف إليه (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ
مُسْتَقِيمٍ) جملة يهدي نعت ثان لكتابا أو حال منه لأنه وصف وقد
تقدمت القاعدة وإلى الحق متعلقان بيهدي وإلى صراط مستقيم عطف على إلى الحق (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ
وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ
أَلِيمٍ) يا أداة نداء وقومنا منادى مضاف وأجيبوا فعل أمر وفاعل
وداعي الله مفعول به وآمنوا عطف على أجيبوا وبه متعلقان بآمنوا ويغفر فعل مضارع
مجزوم لأنه جواب الطلب ولكم متعلقان بيغفر ومن ذنوبكم متعلقان بيغفر أيضا أي بعضها
فمن للتبعيض وسيأتي سر التبعيض في باب البلاغة ، ويجركم من عذاب أليم عطف على ما
تقدم (وَمَنْ لا يُجِبْ
داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ) الواو عاطفة ومن شرطية في محل رفع مبتدأ ولا نافية ويجب
فعل الشرط مجزوم وداعي الله مفعوله والفاء رابطة لجواب الشرط لأن الجواب وقع فعلا
جامدا ، وليس فعل ماض ناقص والباء حرف زائد ومعجز مجرور لفظا منصوب محلا لأنه خبر
ليس واسمها مستتر يعود على من وفي الأرض متعلقان بمعجز (وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ
أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الواو حرف عطف وليس فعل ماض ناقص وله خبر ليس المقدم
ومن دونه حال وأولياء اسم ليس المؤخر وأولئك مبتدأ وفي ضلال خبر أولئك ومبين صفة.
البلاغة :
في قوله «يغفر
لكم من ذنوبكم» فن التنكيت ، فقد عبّر بمن التبعيضية إشارة إلى أن الغفران يقع على
الذنوب الخاصة أما حقوق العباد فلا يمكن غفرانها إلا بعد أن يرضى أصحابها فإن الله
تعالى لا يغفر بالإيمان ذنوب المظالم.
(أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ
بِقادِرٍ
عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ
قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤)
فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ
نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥))
الإعراب :
(أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ
بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) الهمزة للاستفهام الإنكاري والواو عاطفة على مقدّر ولم
حرف نفي وقلب وجزم ويروا فعل مضارع مجزوم بلم وأن وما بعدها سدّت مسدّ مفعولي يروا
وأن واسمها والذي صفة لله وجملة خلق السموات والأرض صلة الذي والواو حرف عطف ولم
حرف نفي وقلب وجزم ويعي فعل مضارع مجزوم بلم وبخلقهنّ متعلقان بيعي والباء حرف جر
زائد وقادر مجرور لفظا مرفوع محلا لأنه خبر أن وإنما دخلت الباء الزائدة لاشتمال
النفي الذي في أول الآية على أن وما في حيزها ، وسيأتي المزيد من هذا البحث في باب
الفوائد وعلى أن يحيي الموتى متعلق بقادر (بَلى إِنَّهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) بلى حرف جواب لإبطال النفي فهي تبطل النفي وتقرر نقيضه
وتقدم بحث الفرق بينها وبين نعم ، وإن واسمها وقدير خبرها وعلى كل شيء متعلقان
بقدير (وَيَوْمَ يُعْرَضُ
الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ) الواو استئنافية ويوم ظرف متعلق بمحذوف تقديره يقال لهم
والجملة مستأنفة وجملة
يعرض في محل جر بإضافة الظرف إليها ويعرض فعل مضارع مبني للمجهول والذين
نائب فاعل وجملة كفروا صلة وعلى النار متعلقان بيعرض وجملة أليس هذا بالحق مقول
للقول الناصب للظرف والهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي وليس فعل ماض ناقص وهذا
اسمها والباء حرف جر زائد والحق مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ليس (قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا
الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) قالوا فعل وفاعل وبلى حرف جواب والواو للقسم وربنا
مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل مقدر تقديره أقسم وقال فعل ماض
والفاء الفصيحة وذوقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والعذاب مفعول وبما
متعلقان بذوقوا والباء للسببية وما مصدرية أي بسبب كفركم وكان واسمها وجملة تكفرون
خبرها (فَاصْبِرْ كَما
صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) الفاء الفصيحة لأنها جواب شرط مقدّر أي إذا كانت عاقبة
الكفّار ما ذكر فاصبر على أذاهم ، واصبر فعل أمر مبني على السكون وفاعله مستتر
تقديره أنت وكما صبر في محل نصب مفعول مطلق أو حال وأولو العزم فاعل صبر ومن الرسل
حال (وَلا تَسْتَعْجِلْ
لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً
مِنْ نَهارٍ) الواو حرف عطف ولا ناهية وتستعجل فعل مضارع مجزوم بلا
والفاعل مستتر تقديره أنت ولهم متعلقان بتستعجل ومفعول تستعجل محذوف تقديره نزول
العذاب وكأن واسمها ويوم ظرف متعلق بالنفي المفاد بلم وجملة يرون في محل جر بإضافة
الظرف إليها ويرون فعل مضارع وفاعل وما مفعول به وجملة يوعدون صلة وجملة لم يلبثوا
خبر كأن وإلا أداة حصر وساعة ظرف متعلق بيلبثوا ومن نهار صفة لساعة (بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا
الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) بلاغ خبر لمبتدأ محذوف أي هذا الذي وعظتم به بلاغ وقيل
تقديره هذا القرآن ، فجعل الفاء عاطفة وهل حرف استفهام معناه النفي
ويهلك فعل مضارع مبني للمجهول وإلا أداة حصر والقوم نائب فاعل والفاسقون
صفة.
البلاغة :
في قوله تعالى «ولم
يعي بخلقهن» مجاز مرسل علاقته السببية لأن العيّ أي التعب مستحيل عليه تعالى وهو
سبب للانقطاع عن العمل أو النقص فيه والتأخر في إنجازه فهو العلاقة في هذا المجاز.
الفوائد :
قال الزجّاج : «لو
قلت ما ظننت أن زيدا بقائم جاز كأنه قيل أليس الله بقادر ألا ترى إلى وقوع بلى
مقررة للقدرة على كل شيء من البعث وغيره لا لرؤيتهم» وقال أبو حيان في التعقيب
عليه : «والصحيح قصر ذلك على السماع».
وقال ابن هشام
: قد يعطى الشيء حكم ما أشبهه في معناه أو لفظه أو فيهما ، فأما الأول فله صور
كثيرة إحداها دخول الباء في خبر إن في قوله تعالى : أو لم يروا أن الله الذي خلق
السموات والأرض ولم يعي بخلقهنّ بقادر ، لأنه في معنى أو ليس الله بقادر والذي سهل
ذلك التقدير تباعد ما بينهما ، ولهذا لم تدخل في : أولم يروا أن الله الذي خلق
السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم ، ومثله إدخال الباء في كفى بالله شهيدا
لما دخله من معنى اكتف بالله شهيدا بخلاف قوله : قليل منك يكفيني ، وفي قوله سود
المحاجر لا يقرأن بالسور لما دخله من معنى لا يتقربن بقراءة السور ، ولهذا قال السهيلي
: لا يجوز أن تقول : وصل إليّ كتابك فقرأت به على حدّ قوله لا يقرأن بالسور لأنه
عار عن معنى التقريب.
سورة محمد
مدنيّة وآياتها ثمان
وثلاثون
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الَّذِينَ كَفَرُوا
وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ
مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) ذلِكَ
بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ
أَمْثالَهُمْ (٣) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى
إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا
فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ
مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ
(٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦))
اللغة :
(مُحَمَّدٍ) اسم عربي وهو مفعل من الحمد والتكرير فيه للتكثير كما
تقول كرّمته فهو مكرّم وعظمته فهو معظّم إذا فعلت ذلك مرة بعد مرة وهو منقول من
الصفة على سبيل التفاؤل أنه سيكثر حمده وكان كذلك صلى الله عليه وسلم ، روى بعض
نقلة العلم فيما حكاه ابن دريد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ولد أمر عبد
المطلب بجزور فنحرت ودعا رجال قريش وكانت سنّتهم في المولود إذا ولد في استقبال
الليل كفئوا عليه قدرا حتى يصبح ففعلوا ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم فأصبحوا وقد
انشقّت عنه القدر وهو شاخص إلى السماء فلما حضرت رجال قريش وطعموا قالوا لعبد
المطلب ما سمّيت ابنك هذا؟قال : سمّيته محمدا قالوا : ما هذا من أسماء آبائك قال :
أردت أن يحمد في السموات والأرض. يقال : رجل محمود ومحمد قال الأعشى :
إليك أبيت
اللعن كان كلالها
|
|
إلى الواحد
الفرد الجواد المحمّد
|
فمحمود لا يدل
على الكثرة ومحمد يدل على ذلك والذي يدل على الفرق بينهما قول الشاعر :
فلست بمحمود
ولا بمحمد
|
|
ولكنما أنت
الحبط الحباتر
|
وقد سمّت العرب
في الجاهلية رجالا من أبنائها بذلك منهم محمد بن حمران الجعفي الشاعر وكان في عصر
امرئ القيس وسمّاه شويعرا ومحمد بن خولي الهمداني ومحمد بن بلال بن أحيحة وكان زوج
سلمى بنت عمرو جدّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أم جدّه ومحمد بن سفيان بن مجاشع
بن دارم ومحمد بن مسلمة الأنصاري وأبو محمد بن أوس بن زيد شهد بدرا.
(بالَهُمْ) البال : القلب يقال : ما خطر الأمر ببالي والحال والعيش
يقال فلان رخي البال والخاطر يقال فلان كاسف البال وما يهتم به يقال : ليس هذا من
بالي أي مما أباليه وأمر ذو بال أي يهتم به وما بالك أي ما شأنك وقال الجوهري : «والبال
أيضا رفاء العيش يقال فلان رخي البال أي رخي العيش وعبارة البيضاوي «وأصلح بالهم
أي حالهم في الدين والدنيا بالتوفيق والتأييد» وعبارة أبي حيان : «البال الفكر
تقول خطر في بالي كذا ولا يثني ولا يجمع وشذ قولهم بآلات في جمعه» وعبارة القاموس
: «والبال : الحال والخاطر والقلب والحوت العظيم وبهاء : القارورة والجراب ووعاء
الطيب».
(أَثْخَنْتُمُوهُمْ) أكثرتم فيهم القتل وفي المصباح «أثخن في الأرض إثخانا
سار إلى العدو وأوسعهم قتلا وأثخنته أوهنته بالجراح وأضعفته».
(الْوَثاقَ) بالفتح والكسر اسم ما يوثق به وفي المصباح : «الوثاق
القيد والحبل ونحوه بفتح الواو وكسرها والجمع وثق مثل. وربط وعناق وعنق».
(أَوْزارَها) آلاتها وأثقالها التي لا تقوم إلا بها كالسلاح والكراع
قال الأعشى :
وأعددت للحرب
أوزارها
|
|
رماحا طوالا
وخيلا ذكورا
|
وعبارة الكشاف
: «وسمّيت أوزارها لأنه لما لم يكن لها بدّ من جرّها فكأنها تحملها وتستقل بها
فإذا انقضت فكأنها وضعتها وقيل أوزارها آثامها يعني حتى يترك أهل الحرب وهم
المشركون شركهم ومعاصيهم بأن يسلموا».
الإعراب :
(الَّذِينَ كَفَرُوا
وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) الذين مبتدأ وجملة كفروا صلة وصدّوا عطف على كفروا وعن
سبيل الله متعلقان بصدّوا وأضلّ أعمالهم فعل وفاعل مستتر يعود على الله تعالى
ومفعول به والجملة خبر الذين وأجاز أبو البقاء أن ينتصب الذين بفعل دلّ عليه
المذكور أي أضلّ الذين كفروا (وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ
مِنْ رَبِّهِمْ) والذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة وعملوا الصالحات عطف على
آمنوا ، وآمنوا بما نزل على محمد عطف أيضا والواو اعتراضية وهو مبتدأ والحق خبره
ومن ربهم حال (كَفَّرَ عَنْهُمْ
سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) جملة كفّر عنهم خبر الذين آمنوا وسيئاتهم مفعول به
وأصلح بالهم عطف على كفّر عنهم سيئاتهم (ذلِكَ بِأَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ) ذلك مبتدأ وبأن الذين كفروا خبره وجملة اتبعوا الباطل
خبر أن (وَأَنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ) عطف على ما تقدم وقد تقدم إعرابه (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ
أَمْثالَهُمْ) كذلك نعت لمصدر محذوف أي مثل ذلك الضرب يضرب الله للناس
أمثالهم وسيأتي معنى ضرب المثل هنا في باب البلاغة (فَإِذا لَقِيتُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ) الفاء عاطفة لترتيب ما في حيزها من الأمر على ما قبلها
وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط والعامل فيه فعل مقدّر هو العامل في ضرب الرقاب
تقديره فاضربوا الرقاب وقت ملاقاتكم العدو ولا يعمل فيه نفس المصدر لأنه مؤكد
وجملة لقيتم في محل جر بإضافة الظرف إليها والذين مفعول لقيتم وجملة كفروا صلة
والفاء رابطة لجواب الشرط وضرب مفعول مطلق لفعل محذوف والرقاب مضاف إليه (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ
فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) حتى حرف ابتداء أي تبدأ بعده الجمل وجعلها أبو حيان حرف
غاية وجر قال «وهذه
غاية للضرب» وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة أثخنتموهم في محل جر
بإضافة الظرف إليها والفاء رابطة لجواب إذا وشدّوا الوثاق فعل أمر وفاعل ومفعول به
والفاء للتفريع وإما حرف شرط وتفصيل ومنّا وفداء مصدران منصوبان بفعل لا يجوز
إظهاره لأن المصدر متى سيق تفصيلا لعاقبة جملة وجب نصبه بإضمار فعل والتقدير فإما
أن تمنّوا منّا وإما أن تفادوا فداء ، وأجاز أبو البقاء أن يكونا مفعولين بهما
لعامل مقدّر تقديرهم أولوهم منّا واقبلوا منهم فداء ، وليس بالوجه ، وبعد ظرف مبني
على الضم لانقطاعه عن الإضافة لفظا لا معنى أي بعد أسرهم وشدّ وثاقهم (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) حتى حرف غاية وجر وهي مع مدخولها إما أن تتعلق بالضرب
والشدّ أو بالمنّ والفداء لأنها غاية لذلك كله على تفصيل تجده مبسوطا في كتب
الفقهاء وليس هذا موضعه وسيأتي مزيد بيان في باب البلاغة ، وتضع فعل مضارع منصوب
بأن مضمرة بعد حتى والحرب فاعل وأوزارها مفعول به (ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ
اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) ذلك خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر فيهم ما ذكر من القتل
والأسر وما بعده من المنّ والفداء ولك أن تنصبه بفعل محذوف أي افعلوا ذلك ، والواو
استئنافية ولو شرطية ويشاء الله فعل مضارع وفاعل واللام واقعة في جواب لو وانتصر
فعل ماض وفاعل مستتر تقديره هو أي الله تعالى ولكن الواو عاطفة أو حالية ولكن حرف
استدراك مهمل لأنه خفف واللام للتعليل ويبلو فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام
التعليل واللام ومدخولها متعلقة بفعل محذوف تقديره أمركم بالقتال وبعضكم مفعول به
وببعض متعلقان بيبلو (وَالَّذِينَ قُتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) الواو عاطفة والذين مبتدأ وجملة قتلوا صلة وفي سبيل
الله متعلقان بقتلوا والفاء رابطة لما في الموصول من معنى الشرط ولن حرف نفي ونصب
واستقبال ويضل فعل مضارع منصوب بلن وفاعله ضمير مستتر تقديره هو وأعمالهم مفعول به
والجملة خبر الذين (سَيَهْدِيهِمْ
وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) السين حرف استقبال ويهديهم فعل مضارع وفاعل مستتر
ومفعول به ويصلح عطف على يهدي وبالهم مفعول به (وَيُدْخِلُهُمُ
الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) الواو عاطفة ويدخلهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به
والجنة مفعول به ثان على السعة وجملة عرفها لهم مستأنفة أو حالية وسيأتي في باب
الفوائد معنى عرفها لهم.
البلاغة :
١ ـ في قوله
تعالى «وأضلّ أعمالهم» استعارة مكنية فقد شبّه أعمالهم بالضالة من الإبل التي هي
بمضيعة لا رب لها يحفظها ويعتني بها أو بالماء الذي يضل في اللبن والمعنى أن
الكفار ضلّت أعمالهم الصالحة في جملة أعمالهم السيئة من الكفر والمعاصي وحتى صار
صالحهم مستهلكا في غمار سيئهم ومقابله في المؤمنين ستر الله لأعمالهم السيئة في
كنف أعمالهم الصالحة من الايمان والطاعة حتى صار سيئهم مكفرا ممحقا في جنب صالح
أعمالهم ، وإلى هذا التمثيل الجميل في عدم تقبل صالح الكفار والتجاوز عن سيئ أعمال
المؤمنين وقعت الإشارة في قوله تعالى «كذلك يضرب الله للناس أمثالهم» وتفصيل ذلك
أن ضرب المثل استعمال القول السائر المشبّه مضربه مورده بمورده قال الزمخشري : «فإن
قلت أين ضرب الأمثال؟ قلت في أن جعل اتباع الباطل مثلا لأعمال الكفّار واتباع الحق
مثلا لعمل المؤمنين أو في جعل الإضلال مثلا لخيبة الكفّار وتكفير السيئات مثلا
لفوز المؤمنين».
٢ ـ المجاز
المرسل : وفي قوله تعالى «فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب» مجاز مرسل علاقته
ذكر الجزء وإرادة الكل لأن ضرب
الرقاب عبارة عن القتل ولكن لما كان قتل الإنسان أكثر ما يكون بضرب رقبته
وقع عبارة عن القتل وقد أوثر المجاز لما فيه من تصوير وتجسيد لأن في هذه العبارة ـ
كما يقول الزمخشري ـ من الغلظة والشدّة ما ليس في لفظ القتل لما فيها من تصوير
القتل بأشنع صورة وهو حزّ العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وعلوّه وأوجه
أعضائه.
٣ ـ وفي قوله
تعالى «حتى تضع الحرب أوزارها» استعارة مكنية أو تصريحية فعلى الأولى شبّه الحرب
بمطايا ذات أوزار أي أحمال ثقال ، وعلى الثانية استعار الأوزار لآلات الحرب ، وفيه
أيضا مجاز في الإسناد فقد أسند وضع الأوزار إلى الحرب وإنما هو لأهلها.
الفوائد :
معنى قوله
تعالى «عرّفها لهم» إما من التعريف وهو التحديد بحيث يكون لكل واحد جنة مفرزة ،
وفي البخاري ما يدل على صحة هذا القول عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : «يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار حتى
إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة فو الذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله
في الجنة من منزله الذي كان في الدنيا» وأما من العرف وهو طيب الرائحة قال ابن
عباس عرفها لهم بأنواع الملاذ وطعام معرّف أي مطيّب ، تقول العرب : عرفت القدر إذا
طيبتها بالملح والأبازير ، وفي كلام بعضهم : عزف كنوح القماري وعرف كفوح القماري ،
والقماري الأول جمع قمري اسم طير والقماري الثاني عود منسوب إلى موضع ببلاد الهند
، كذا في الصحاح.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ
(٧) وَالَّذِينَ
كَفَرُوا
فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما
أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ
فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ
عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى
الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١) إِنَّ اللهَ
يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما
تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢))
اللغة :
(فَتَعْساً) التعس : الهلاك وخيبة الأمل وفي المختار : «التعس
الهلاك وأصله الكبّ وهو ضد الانتعاش وقد تعس من باب قطع وأتعسه الله ويقال : تعسا
لفلان أي ألزمه الله هلاكا» وفي المصباح : «وتعس تعسا من باب تعب لغة فهو تعس مثل
تعب ويتعدى بالحركة وبالهمزة فيقال تعسه الله بالفتح وأتعسه وفي الدعاء تعسا له
وتعس وانتكس فالتعس أن يخرّ لوجهه والنكس أن لا يستقل بعد سقطته حتى يسقط ثانية
وهي أشدّ من الأولى» وفي الأساس : «تعس فلان بالفتح ، والكسر غير فصيح ، وتعسا له
وتعسه الله وأتعسه قال :
غداة هزمنا
جمعهم بمقالع
|
|
فآبوا بأتعاس
على شر طائر
|
وتقول : أضرع
الله خدّه ، وأتعس جدّه وهو منحوس متعوس وهذا الأمر متعسة منحسة» وعبارة القرطبي :
«وفي التعس عشرة أقوال : الأول
بعدا قاله ابن عباس وابن جريج ، الثاني خزيا لهم قاله السدي ، الثالث شقاء
لهم قاله ابن زيد ، الرابع شتما لهم من الله قاله الحسن ، الخامس هلاكا لهم قاله
ثعلب ، السادس خيبة لهم قاله الضحاك وابن زياد ، السابع قبحا لهم حكاه النقاش ،
الثامن رغما لهم قاله الضحاك أيضا ، التاسع شرّا لهم قاله ثعلب أيضا ، العاشر شقوة
لهم قاله أبو العالية».
الإعراب :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) يا أيها الذين آمنوا تقدم إعرابها كثيرا وإن شرطية
وتنصروا فعل الشرط والله مفعول به وينصركم جواب الشرط ويثبت أقدامكم عطف على
الجواب ولا بدّ من حذف مضاف أي دين الله ورسوله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا
فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) والذين مبتدأ خبره محذوف تقديره تعسو وهو العامل في
تعسا ويجوز أن ينصب بفعل محذوف يفسره ما بعده وجملة كفروا صلة للموصول والفاء
رابطة تشبيها للموصول بالشرط وتعسا مفعول مطلق لفعل محذوف كما تقدم ولهم متعلقان
بتعسا أو صفة له وأضل أعمالهم عطف على الفعل الذي نصب تعسا (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ
اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) ذلك مبتدأ وبأنهم خبره وأن واسمها وجملة كرهوا خبرها
وما مفعول به وجملة أنزل الله صلة ، فأحبط عطف على كرهوا وأعمالهم مفعول به (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ
فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء عاطفة على محذوف ولم
حرف نفي وقلب وجزم ويسيروا فعل مضارع مجزوم بلم وفي الأرض متعلقان بيسيروا ،
فينظروا : الفاء فاء السببية وينظروا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء وكيف
اسم استفهام في محل نصب خبر كان المقدم وعاقبة اسمها المؤخر والذين مضاف إليه
ومن قبلهم متعلقان بمحذوف هو الصلة (دَمَّرَ اللهُ
عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) الجملة مفسرة لكيف لا محل لها ودمر الله فعل وفاعل
وعليهم متعلقان بدمر ومفعول دمر محذوف تقديره أهلك نفسهم وأموالهم وما شادوه ، ولك
أن تضمن دمر معنى سخط فلا تحتاج إلى مفعول وللكافرين خبر مقدم وأمثالها مبتدأ مؤخر
والضمير يعود على العاقبة المتقدمة أي أمثال عاقبة من قبلهم ويجوز أن يعود على
التدميرة المفهومة من قوله دمر الله عليهم والأول أولى (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ
آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) ذلك مبتدأ وبأن خبره والله اسم أن ومولى الذين آمنوا
خبر أن وأن الكافرين عطف على ما تقدم ولا نافية للجنس ومولى اسمها ولهم خبرها
والجملة خبر أن (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ) الجملة مفسّرة لولايته تعالى وما يترتب عليها وإن
واسمها وجملة يدخل الذين آمنوا خبرها وعملوا الصالحات عطف على الصلة وداخلة في
حيزها وجنات مفعول به ثان على السعة وجملة تجري من تحتها الأنهار صفة لجنات (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ
وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) والذين مبتدأ وجملة كفروا صلة وجملة يتمتعون خبر الذين
وجملة يأكلون عطف على جملة يتمتعون وكما في موضع نصب نعت لمصدر محذوف على مذهب
أكثر المعربين أو في موضع نصب على الحال على مذهب سيبويه وتأكل الأنعام فعل وفاعل
والواو استئنافية والنار مبتدأ ومثوى خبر ولهم صفة لمثوى.
(وَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ
أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ
رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ
وَاتَّبَعُوا
أَهْواءَهُمْ (١٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ
مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ
وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى
وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ
خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥))
اللغة :
(آسِنٍ) بالمدّ والقصر كضارب وحذر أي غير متغير بخلاف ماء
الدنيا فيتغير بما يطرأ عليه من عوارض وفي المختار : «الآسن من الماء مثل الآجن
وزنا ومعنى وقد أسن من باب ضرب ودخل وأسن فهو آسن من باب طرب لغة فيه» ويقال أسن
الماء وأجن إذا تغير طعمه وريحه وأنشد ليزيد بن معاوية :
لقد سقتني
رضابا غير ذي أسن
|
|
كالمسك فتّ
على ماء العناقيد
|
(عَسَلٍ) نقلوا في العسل التذكير والتأنيث وجاء في القرآن على
التذكير في قوله من عسل مصفى وفي المصباح «والعسل يذكّر ويؤنث وهو الأكثر ويصغّر
على عسيلة على لغة التأنيث ذهابا إلى أنها قطعة من الجنس وطائفة منه» وفي المختار «العسل
يذكّر ويؤنث يقال منه عسل الطعام أي عمله بالعسل وبابه ضرب ونصر وزنجبيل معسل أي
معمول بالعسل والعاسل الذي يأخذ العسل من بيت النحل ، والنحل عسّالة» وفي الأساس «الدليل
يعسل في المفازة وصفقت الرياح الماء فهو يعسل عسلانا وأنشد الأصمعي :
قد صبّحت
والظل غض ما رحل
|
|
حوضا كأن
ماءه إذا عسل
|
من نافض الريح
رويزيّ سمل ورمح وذئب عسال ورماح وذئاب عواسل وتقول : يمتار الفيء العاسل كما
يشتار الأري العاسل ، وبنو فلان يوفضون إلى العسالة ، كما يطّرد النحل إلى
العسّالة وهي الخلية وطعام معسول ومعسّل وعسلت القوم وعسّلتهم : أطعمتهم العسل».
الإعراب :
(وَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ
فَلا ناصِرَ لَهُمْ) كلام مستأنف مسوق لتسليته صلى الله عليه وسلم بمثابة
المثل له ، وكأين خبرية وهي كلمة مركبة من الكاف وأي بمعنى كم الخبرية ومحلها
الرفع على الابتداء ومن قرية تمييز لها وقد تقدم القول فيها مفصلا فجدد به عهدا
وهي مبتدأ وأشد خبر والجملة صفة لقرية وقوة تمييز ومن قريتك متعلقان بأشد والتي
نعت لقريتك وجملة أخرجتك صلة التي وجملة أهلكناهم خبر كأين والفاء عاطفة ولا نافية
للجنس وناصر اسمها ولهم خبرها وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج
من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال : «أنت أحبّ بلاد الله إليّ ولو لا أن أهلك
أخرجوني منك لم أخرج فأعتى الأعداء من عتا على الله في حرمه أو قتله غير قاتله أو
قتل بدخول الجاهلية» (أَفَمَنْ كانَ عَلى
بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا
أَهْواءَهُمْ) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان حال الفريقين المؤمنين
والكافرين والهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء عاطفة على محذوف مقدر يقتضيه المقام
والتقدير أليس الأمر كما ذكر فمن كان مستقرا على حجة ظاهرة وبرهان كمن زين له ،
ومن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وكان فعل ماض
ناقص واسمها مستتر تقديره هو يعود على من وعلى بيّنة خبر ومن ربه صفة لبينة
وكمن خبر وجملة زين بالبناء للمجهول صلة وله متعلقان بزين وسوء عمله نائب فاعل
واتبعوا عطف على زين وقد روعي فيه معنى من كما روعي لفظها في زين وأهواءهم مفعول
به (مَثَلُ الْجَنَّةِ
الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ
مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ
لِلشَّارِبِينَ) مثل الجنة مبتدأ وسيأتي الكلام على خبره والتي صفة
وجملة وعد المتقون صلة وفيها خبر مقدم وأنهار مبتدأ مؤخر والجملة حال من الجنة أو
خبر لمبتدأ مضمر أي هي فيها أنهار أو داخلة في حيز الصلة وتكرير لها ومن ماء صفة
لأنهار وغير آسن صفة ثانية لأنهار وأنهار عطف على أنهار الأولى ومن خمر نعت ولذة
للشاربين نعت ثان وللشاربين متعلقان بلذة لأنها مصدر بمعنى الالتذاذ ووقعت صفة
للخمر ويجوز أن تكون مؤنث لذّ ، ولذّ بمعنى لذيذ وعلى الأول لا بدّ من تأويلها
بالمشتق ليصحّ النعت بها على حدّ زيد عدل بمعنى عادل ، وسيأتي المزيد من بحث لذة
للشاربين في باب الفوائد (وَأَنْهارٌ مِنْ
عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ
رَبِّهِمْ) وأنهار عطف على أنهار المتقدمة ومن عسل صفة ومصفّى صفة
لعسل والواو حرف عطف ولهم خبر مقدم وفيها متعلقان بما يتعلق به الخبر من الاستقرار
المحذوف والمبتدأ محذوف تقديره أصناف ومن كل الثمرات نعت للمبتدأ المحذوف ومغفرة
عطف على أصناف أو مبتدأ خبره المقدم محذوف أي ولهم مغفرة ومن ربهم نعت لمغفرة (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ
وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) كمن خبر لمبتدأ محذوف تقديره أمن هو خالد في هذه الجنة
حسبما جرى به الوعد كمن هو خالد في النار وعلى هذا يكون خبر مثل مقدّر فقدّره سيبويه
فيما يتلى عليكم مثل الجنة والجملة بعدها أيضا مفسّرة للمثل وقدّره النضر بن شميل
مثل الجنة ما تسمعون والجملة بعدها مفسّرة أيضا ويجوز أن يكون الخبر
كمن هو خالد في النار ، وسقوا الواو عاطفة وسقوا فعل ماض مبني للمجهول
والواو نائب فاعل وماء مفعول به ثان وحميما نعت لماء ، فقطع الفاء عاطفة وقطع
أمعاءهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به.
الفوائد :
كثر الكلام
واستفاض حول هذه الآية وسننقل عبارة الزمخشري مع تعقيب بديع عليها قال : «فإن قلت
ما معنى قوله تعالى : مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار؟ قلت هو كلام في صورة
الإثبات ومعنى النفي والإنكار لانطوائه تحت حكم كلام مصدر بحرف الإنكار ودخوله في
حيّزه وانخراطه في سلكه وهو قوله تعالى : أفمن كان على بيّنة من ربه كمن زيّن له
سوء عمله فكأنه قيل أمثل الجنة كمن هو خالد في النار أي كمثل جزاء من هو خالد في
النار فإن قلت : فلم عرّي من حرف الإنكار وما فائدة التعرية؟ قلت : تعريته من حكم
الإنكار فيها زيادة تصوير لمكابرة من يسوّي بين المتمسك بالبيّنة والتابع لهواه
وأنه بمنزلة من يثبت التسوية بين الجنة التي تجري فيها تلك الأنهار وبين النار
التي يسقى أهلها الهيم ونظيره قول القائل :
أفرح أن أرزأ
الكرام وأن
|
|
أورث ذودا
شصائصا نبلا
|
هو كلام منكر
للفرح برزية الكرام ووراثة الذود مع تعرّيه عن حرف الإنكار لانطوائه تحت حكم قول
من قال : أتفرح بموت أخيك وبوراثة إبله ، والذي طرح لأجله حرف الإنكار إرادة أن
يصوّر قبح ما أزنّ به فكأنه قال له : نعم مثلي يفرح بمرزأة الكرام وبأبن يستبدل
منهم ذودا يقل طائله وهو من التسليم الذي تحته كل إنكار».
وعقّب ابن
المنير صاحب الانتصاف على كلام الزمخشري فقال :
«كم ذكر الناس في تأويل هذه الآية فلم أر أطلى ولا أحلى من هذه النكت التي
ذكرها ولا يعوزها إلا التنبيه على أن في الكلام محذوفا لا بدّ من تقديره لأنه لا
معادلة بين الجنة وبين الخالدين في النار إلا على تقدير مثل ساكن فيه يقوّم وزن
الكلام وتتعادل كفتاه ومن هذا النمط قوله تعالى : أجعلتم سقاية الحاج وعمارة
المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله ، فإنه لا بدّ من
تقدير محذوف مع الأول أو الثاني ليتعادل القسمان وبهذا الذي قدّرته في الآية ينطبق
آخر الكلام على أوله فيكون المقصود تنظير بعد التسوية بين المتمسك بالسيئة والراكب
للهوى ببعد التسوية بين المنعم في الجنة والمعذب في النار على الصفات المتقابلة
المذكورة في الجهتين وهو من وادي تنظير الشيء بنفسه باعتبار حالتين إحداهما أوضح
في البيان من الأخرى فإن المتمسّك بالسنّة هو المنعم في الجنة الموصوفة والمتبع
للهوى هو المعذب في النار المنعوتة ولكن أنكر التسوية بينهما باعتبار الأعمال أولا
وأوضح ذلك بإنكار التسوية بينهما باعتبار الجزاء ثانيا».
(وَمِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى
قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ
هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ
تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ
ذِكْراهُمْ (١٨) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ
لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ
وَمَثْواكُمْ (١٩))
الإعراب :
(وَمِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ : ما ذا قالَ آنِفاً) كلام مستأنف مسوق لبيان جانب آخر من استهزائهم وتعنتهم
فقد كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمعون كلامه ولا يعونه ولا
يلقون إليه بالا فإذا خرجوا من المجلس سألوا أهل العلم من الصحابة ماذا قال الساعة
على جهة الاستهزاء وقيل في خطبة الجمعة فتكون الآية مدنية. ومنهم خبر مقدم ومن
مبتدأ مؤخر وجملة يستمع إليك صلة وقد روعي لفظ من ، وحتى حرف غاية وجر وإذا ظرف
مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة خرجوا في محل جر بإضافة الظرف إليها ومن عندك
متعلقان بخرجوا وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وللذين متعلقان
بقالوا وجملة أوتوا بالبناء للمجهول صلة والواو نائب فاعل والعلم مفعول به ثان ،
وماذا تقدم أن في إعرابها وجهين فما اسم استفهام مبتدأ وذا اسم موصول هنا خاصة في
محل رفع خبر ولك أن تجعلها اسم استفهام بكاملها وآنفا حال من الضمير في قال أي
مؤتنفا وأعربه الزمخشري وأبو البقاء ظرفا أي ماذا قال الساعة وأنكر أبو حيان ذلك
وقال ولا نعلم أحدا من النحاة عدّه في الظروف وقال ابن عطية : «والمفسرون يقولون
آنفا معناه الساعة الماضية القريبة منّا وهذا تفسير بالمعنى» وقال في القاموس «وقال
آنفا كصاحب وكتف وقرئ بهما أي مذ ساعة أي في أول وقت يقرب منّا» كأنه يميل إلى
نصبه على الظرفية. وقال الزّجاج «هو من استأنفت الشيء إذا ابتدأته والمعنى ماذا
قال في أول وقت يقرب منّا» وعلى هذا رجحت كفّة القائلين بالظرفية (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى
قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أولئك مبتدأ والذين خبره وجملة طبع الله على قلوبهم صلة
وجملة واتبعوا أهواءهم عطف أيضا داخلة في حيز الصلة
(وَالَّذِينَ
اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) والذين مبتدأ وجملة اهتدوا صلة وجملة زادهم خبر وهدى
مفعول به ثان أو تمييز وآتاهم عطف على زادهم وتقواهم مفعول به ثان وتقواهم مصدر
مضاف للفاعل (فَهَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) الفاء استئنافية وهل حرف استفهام معناه النفي وينظرون
فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل وإلا أداة حصر والساعة مفعول به وأن
تأتيهم المصدر المؤول بدل اشتمال من الساعة أي ليس الأمر إلا أن تأتيهم وبغتة حال (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ
إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ) الفاء تعليل لإتيان الساعة مفاجأة فالاتصال بينهما
اتصال العلة بالمعلول ، وقد حرف تحقيق وأشراطها فاعل جمع شرط بفتحتين وهي العلامة
قال في المصباح «وجمع الشرط شروط مثل فلس وفلوس والشرط بفتحتين العلامة والجمع
أشراط مثل سبب وأسباب ومنه أشراط الساعة أي علاماتها ، فأنى الفاء حرف عطف وأنى
اسم استفهام في محل نصب على الظرف المكانية وهو متعلق بمحذوف خبر مقدم وذكراهم
مبتدأ مؤخر أي أنى لهم التذكّر وجملة إذا وما بعدها اعتراض وجواب إذا محذوف تقديره
كيف يتذكرون ويجوز أن يكون المبتدأ محذوفا أي أنّى لهم الخلاص ويكون ذكراهم فاعلا
لجاءتهم (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا
إِلهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) الفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن شرط مقدّر أي إذا علمت سعادة
المؤمنين وشقاوة الكافرين فاثبت على ما أنت عليه من العلم بالوحدانية فإنه وحدي
المجدي يوم القيامة وعلى التواضع وهضم النفس باستغفار ذنبك وذنوب من يؤمنون
برسالتك وأن وما في حيزها سدّت مسدّ مفعولي اعلم وأن واسمها وجملة لا إله إلا الله
خبرها وقد تقدم القول مسهبا في إعراب كلمة الشهادة ، واستغفر فعل أمر ولذنبك
متعلقان باستغفر وللمؤمنين والمؤمنات عطف على لذنبك (وَاللهُ يَعْلَمُ
مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) الواو استئنافية والله مبتدأ وجملة يعلم خبر ومتقلبكم
مفعول به
ومثواكم عطف على متقلبكم ومعناهما متصرفكم ومأواكم وعبارة الزمخشري «والله
يعلم أحوالكم ومتصرفاتكم ومتقلبكم في معايشكم ومتاجركم» ويجوز فيهما أن يكون
مصدرين ميميين من تقلب وثوى وأن يكونا اسمي مكان أو زمان.
الفوائد :
جاءت مصادر
أحوالا بكثرة في النكرات وفيها شذوذ واحد وهو المصدرية وكان الأصل أن لا تقع أحوالا
لأنها غير صاحبها في المعنى ولكنهم لما كانوا يخبرون بالمصادر عن الذوات كثيرا
واتساعا نحو زيد عدل فعلوا مثل ذلك لأنها خير من الإخبار كطلع زيد بغتة وجاء ركضا
وقتلته صبرا فصبرا وهو أن يحبسه حيّا ثم يرمى حتى يقتل حال من مفعول قتلته وذلك
كله على التأويل بالوصف فيؤول بغتة بوصف من باغت لأنها بمعنى مفاجأة أي مباغتا أو
من بغت أي باغتا يقال بغتة أي فجأة والبغت الفجأة قال :
ولكنهم كانوا
ولم أدر بغتة
|
|
وأعظم شيء
حين يفجؤك البغت
|
ومع كثرة ذلك
قال سيبويه والجمهور لا ينقاس مطلقا سواء كان نوعا من العامل أم لا كما لا ينقاس
المصدر الواقع نعتا أو خبرا بجامع الصفة المعنوية وقاسه المبرد فيما كان نوعا من
العامل فيه لأنه حينئذ يدل على الهيئة بنفسه فأجاز قياسا جاء زيد سرعة لأن السرعة
نوع من المجيء ومنع جاء ضحكا لأن الضحك ليس نوعا من المجيء.
قال ابن هشام
في الحواشي : «وإنما قاسه المبرد ولم يقسه سيبويه لأن سيبويه يرى أنه حال على
التأويل ووضع المصدر موضع الوصف لا ينقاس كما أن عكسه لا ينقاس والمبرد يرى أنه
مفعول مطلق حذف
عامله لدليل فهو عنده مقيس كما يحذف عامل سائر المفاعيل لدليل فهذا الخلاف
مبني على الخلاف في أنه حال أو مفعول مطلق».
وقال اللقاني «التمثيل
ببغتة وركضا وصبرا لا يدل على تعيّن ذلك فيها بل يجوز جعلها مفاعيل مطلقة إذ هي
نوع من عاملها فهي كرجع القهقرى».
وقاس ابن مالك
في التسهيل وابنه في شرح الألفية الحال بعد أما نحو أما علما فعالم والأصل في هذا
أن رجلا وصف عنده شخص بعلم أو غيره فقال للواصف أما علما فعالم أي مهما يذكر شخص
في حال علم فالمذكور عالم كأنه منكر ما وصف به من غير العلم فصاحب الحال على هذا
التقدير نائب الفاعل ويذكر ناصب الحال لما تقرر أن العامل في صاحب الحال هو العامل
في الحال ويجوز أن يكون ناصب الحال ما بعد الفاء إذا كان صالحا للعمل فيما قبلها
وصاحبها ما فيه من ضمير الحال والحال على هذا مؤكدة والتقدير مهما يكن من شيء
فالمذكور في حال علم فلو كان ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها تعين أن يكون منصوبا
بفعل الشرط المقدر بعد أما نحو أما علما فلا علم له وأما علما فإن له علما وأما
علما فهو ذو علم لأن المصدر يعمل في متقدم فلو كان المصدر التالي أما معرّفا بأل
فهو عند سيبويه مفعول له ، وذهب الأخفش إلى أن المعرّف بأل والمنكر كليهما بعد أما
مفعول مطلق ، وذهب الكوفيون إلى أنهما مفعول به بفعل مقدّر والتقدير مهما تذكر
علما فالذي وصفت عالم قال ابن مالك في شرح التسهيل : «وهذا القول عندي أولى
بالصواب ، وأحقّ ما اعتمد عليه في الجواب» وقاسه ابن مالك وابنه أيضا بعد خبر شبّه
به مبتدؤه كزيد زهير شعرا فزهير بالتصغير خبر شبّه به مبتدؤه وهو زيد والتقدير مثل
زهير في الشعر وإنما حذف مثل ليزول لفظ التشبيه فيكون الكلام أبلغ وشعرا حال في
تقدير الصفة
أي شاعرا والعامل فيها ما في زهير من معنى الفعل إذ معناه مجيد وصاحب الحال
ضمير مستتر في زهير لما تقرر من أن الجامد المؤول بالمشتق يتحمل الضمير ويجوز أن
يكون شعرا تمييزا لما انبهم في مثل المحذوقة وهي العاملة فيه قاله الخصاف في
الإيضاح واستظهره أبو حيان في الارتشاف وابن هشام في المغني ورجحه اللقاني «والأظهر
أنه تمييز محوّل عن الفاعل والأصل زيد مماثل شعره شعر زهير».
وقاساه أيضا
بعد الخبر المقرون بأل الدالّة على الكمال نحو : أنت الرجل علما فعلما حال والعامل
فيها ما في الرجل من معنى الفعل إذ معناه الكامل ، وفي الخاطريات لابن جنّي «أنت
الرجل فهما وأدبا يحتمل وجهين أحدهما أن يكون في قولك أنت الرجل معنى الفعل أي أنت
الكامل فهما وأدبا والثاني أن يكون على معنى تفهم فهما وتأدب أدبا» وقال أبو حيان
في الارتشاف «يحتمل عندي أن يكون تمييزا كأنه قال أنت الكامل أدبا أي أدبه فهو
محوّل عن الفاعل» فتحصل فيه ثلاثة آراء : حال ومفعول مطلق وتمييز ويتحصل من الخلاف
في المصدر المنصوب أقوال :
١ ـ مذهب
سيبويه إن المصدر هو الحال.
٢ ـ مذهب
المبرد والأخفش أنه مفعول مطلق غير منصوب بالعامل قبله وإنما عامله المحذوف من
لفظه وذلك المحذوف هو الحال.
٣ ـ مذهب
الكوفيين أنه مفعول مطلق وعامله الفعل المذكور وليس في موضع الحال.
٤ ـ وذهب جماعة
إلى أنه مصدر على حذف مضاف وتقدير جاء ركضا جاء ذا ركض.
وعلى القول
بالحالية مذاهب :
١ ـ مذهب
سيبويه : عدم القياس.
٢ ـ وذهب
المبرد إلى قياسه فيما كان نوعا من عامله.
٣ ـ وقاسه ابن
مالك وابنه في ثلاث مسائل : أ ـ بعد إما ب ـ وبعد خبر شبه به مبتدؤه ج ـ وفيما إذا
كان الخبر مقرونا بأل الدالّة على الكمال.
(وَيَقُولُ الَّذِينَ
آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ
فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ
نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ
وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً
لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ
وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ
فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ
عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ
بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ
(٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ
سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ
إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧)
ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ
أَعْمالَهُمْ (٢٨))
الإعراب :
(وَيَقُولُ الَّذِينَ
آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) كلام مستأنف لبيان موقف المؤمنين الصادقين والمنافقين
من الجهاد فقد سأل المؤمنون ربهم عزّ وجلّ أن ينزل على رسوله صلى الله عليه وسلم
سورة يأمرهم فيها بقتال الكفّار حرصا منهم على الجهاد ونيل ما أعدّ الله للمجاهدين
من جزيل الثواب فحكى الله عنهم ذلك. ويقول فعل مضارع والذين فاعله وجملة آمنوا صلة
ولو لا حرف تحضيض بمعنى هلّا ونزلت فعل ماض مبني للمجهول وسورة نائب فاعل (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ
وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ
إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ) الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة
أنزلت في محل جر بإضافة الظرف إليها وهو فعل ماض مبني للمجهول وسورة نائب فاعل
ومحكمة صفة أي مبينة غير متشابهة لا تحتمل وجها إلا وجوب القتال ، وعن قتادة كل
سورة فيها ذكر القتال فهي محكمة لأن النسخ لا يرد عليها ، وذكر عطف على أنزلت
وفيها متعلقان بذكر والقتال نائب فاعل وجملة رأيت لا محل لها لأنها جواب شرط غير
جازم والذين مفعول به وفي قلوبهم خبر مقدم ومرض مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية لا محل
لها لأنها صلة الموصول وينظرون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل والجملة
في محل نصب حال إن كانت الرؤية بصرية ومفعول به ثان إن كانت الرؤية قلبية وكلا
الوجهين مراد في الآية وإليك متعلقان بينظرون ونظر المغشي مفعول مطلق مؤكد وعليه
متعلقان بالمغشي لأنه اسم مفعول ومن الموت متعلقان بالمغشي أيضا ، فأولى الفاء
استئنافية وأولى لهم قال الجوهري : «تقول العرب أولى لك تهديد ووعيد ثم اختلف
اللغويون والمعربون في هذه اللفظة فقال الأصمعي إنها فعل ماض بمعنى قاربه
ما يهلكه والأكثرون أنها اسم ثم اختلف هؤلاء فقيل مشتق من الولي وهو القرب
وقيل من الويل ، هذا ما يتعلق باشتقاقه ومعناه وأما الإعراب فإن قلنا باسميته ففيه
أوجه أحدها أنه مبتدأ ولهم خبره وتقديره فالهلاك لهم واقتصر عليه أبو البقاء ،
والثاني أنه خبر مبتدأ مضمر تقديره العقاب أو الهلاك أولى لهم أي أقرب وأدنى ،
ويجوز أن تكون اللام بمعنى الباء أي أولى وأحق بهم الثالث أنه مبتدأ ولهم يتعلق به
واللام بمعنى الباء وطاعة خبره والتقدير فأولى بهم طاعة دون غيرها وإن قلنا بقول
الأصمعي فهو فعل ماض وفاعله مضمر يدل عليه السياق كأنه قيل فأولى هو أي الهلاك
وهذا ظاهر عبارة الزمخشري حيث قال معناه الدعاء عليهم بأن يليهم الهلاك وقال
المبرد يقال لمن هم بالغضب ثم أفلت أولى لك أي قاربك الغضب. وقال أبو حيان : «قال
صاحب الصحاح : قول العرب أولى لك تهديد وتوعيد ومنه قول الشاعر :
فأولى ثم
أولى ثم أولى
|
|
وهل للداء
يحلب من يرد
|
واختلفوا أهو
اسم أو فعل فذهب الأصمعي إلى أنه بمعنى قاربه ما يهلكه أي نزل به وأنشد :
تعادى بين
هاديتين منها
|
|
وأولى أن
يزيد على الثلاث
|
أي قارب أن
يزيد ، قال ثعلب : لم يقل أحد أحسن مما قال الأصمعي ، وقال المبرد ، يقال لمن هم
بالعطب كما روي أن أعرابيا كان يوالي رمي الصيد فينفلت منه فيقول أولى لك رمي صيدا
فقاربه ثم أفلت منه وقال :
فلو كان أولى
يطعم القوم صيدهم
|
|
ولكن أولى
يترك القوم جوّعا
|
والأكثرون على
أنه اسم فقيل هو مشتق من الولي وهو القرب كما قال الشاعر :
تكلفني ليلى
وقد شطّ وليّها
|
|
وعادت عواد
بيننا وخطوب
|
وقال الجرجاني
هو ما حول من الويل فهو أفعل منه لكن فيه قلب». وقال الجلال في تفسير سورة القيامة
«والكلمة اسم فعل واللام للتبيين» أي مبنية على السكون لا محل لها من الإعراب
والفاعل ضمير مستتر يعود على ما يفهم من السياق وهو كون هذه الكلمة تستعمل في
الدعاء بالمكروه وقوله للتبيين المفعول وهي في المعنى زائدة على حدّ سقيا لك.
وعبارة القاموس «وأولى لك هي كلمة تهديد ووعيد والمعنى قد قاربك الشر فاحذر» قال
شارحه وقيل معناه الويل لك أو أولاك الله ما تكرهه فتكون اللام زائدة» (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا
عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) طاعة وقول كلام مستقل محذوف منه أحد الجزأين إما الخبر
وتقديره أمثل وهو مذهب سيبويه والخليل ، وإما المبتدأ وتقديره الأمر أو أمرنا طاعة
وتقدم أنه يجوز أن يكون خبر الأولى وهناك أعاريب أخرى ضربنا عنها صفحا لبعدها
وتكلفها ، فإذا الفاء حرف عطف وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بصدقوا نحو
إذا جاءني بطعام فلو جئتني أطعمتك ، وجملة عزم الأمر في محل جر بإضافة الظرف إليها
والفاء رابطة لجواب إذا ولو شرطية غير جازمة وصدقوا فعل وفاعل والجملة لا محل لها
لأنها جواب إذا ولفظ الجلالة مفعول به ولكان اللام واقعة في جواب لو وكان فعل ماض
ناقص واسمها ضمير مستتر تقديره هو أي الصدق وخيرا خبرها ولهم متعلقان بخيرا (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ
أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) الفاء استئنافية وعسيتم فعل ماض من أفعال الرجاء والتاء
اسمها وسيأتي مزيد بحث عنها في باب الفوائد وإن شرطية وتوليتم فعل ماض في محل جزم
فعل الشرط والجواب محذوف لدلالة فهل عسيتم عليه أو هو نفس فهل عسيتم عند من يرى
تقديمه وجملة الشرط وجوابه معترضة لا محل
لها وأن تفسدوا خبر عسى وفي الأرض متعلقان بتفسدوا (وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) عطف على أن تفسدوا في الأرض (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ
فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) أولئك مبتدأ والذين خبره وجملة لعنهم الله صلة والفاء
عاطفة وأصمّهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به وأعمى أبصارهم عطف على فأصمّهم (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ
عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء عاطفة على مقدّر
يقتضيه السياق ولا نافية ويتدبرون القرآن فعل مضارع وفاعل ومفعول به وأم منقطعة
بمعنى بل والهمزة للتسجيل عليهم بأن قلوبهم مقفلة لا يتوصل إليها ذكر وعلى قلوب
خبر مقدم وأقفالها مبتدأ مؤخر وجوبا وسيأتي سرّ التنكير في باب البلاغة (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى
أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ
لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ) إن حرف مشبّه بالفعل والذين اسمها وجملة ارتدوا صلة
الموصول وعلى أدبارهم حال ومن بعد متعلقان بارتدّوا وما المصدرية وما في حيزها في
محل جر بالإضافة إلى الظرف ولهم متعلقان بتبين والهدى فاعل والشيطان مبتدأ وجملة
سوّل لهم خبر الشيطان والجملة الاسمية خبر إن ومعنى سوّل لهم سهّل لهم من السول
وهو الاسترخاء وأملى لهم عطف على سوّل لهم (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) ذلك مبتدأ وبأنهم خبره وأن واسمها وجملة قالوا خبرها
وللذين متعلقان بقالوا وجملة كرهوا صلة وما مفعول به وجملة نزّل الله صلة وجملة
سنطيعكم مقول القول وفي بعض الأمر متعلقان بنطيعكم (وَاللهُ يَعْلَمُ
إِسْرارَهُمْ) الواو للحال والله مبتدأ وجملة يعلم إسرارهم خبر
وإسرارهم مفعول به وهو بكسر الهمزة مصدر أسرّ وقرئ بفتحها جمع سر (فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ
الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) الفاء عاطفة وكيف اسم استفهام في محل رفع خبر مقدم أي
كيف حالهم ويجوز أن تعرب مفعولا لفعل محذوف أي فكيف يصنعون ، وإذا ظرف مستقبل
متضمن معنى الشرط
متعلق بالمبتدأ المحذوف وجملة توفتهم الملائكة في محل جر بإضافة الظرف
إليها وجملة يضربون حال من الفاعل أو من المفعول ووجوههم مفعول به وأدبارهم عطف
على وجوههم (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ
اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) ذلك مبتدأ وبأنهم خبر وجملة اتبعوا خبر أن وما مفعول به
وجملة أسخط الله صلة وكرهوا رضوانه عطف على جملة اتبعوا ما أسخط الله ، فأحبط عطف
على ما تقدم وأعمالهم مفعول به.
البلاغة :
١ ـ في قوله
تعالى «فهل عسيتم إن توليتم» إلى آخر الآية التفات من الغيبة إلى الخطاب وقد تقدم
القول مطولا في الالتفات ، والسرّ فيه هنا أنه جاء لتأكيد التوبيخ وتشديد التقريع
وتسجيل ذلك عليهم مشافهة وخطابا ، ولقائل أن يقول كيف يصحّ الاستفهام من الله
تعالى وهو عالم بما كان وما يكون؟ والجواب أنه لما عهد منكم أحرياء بأن يقول لكم
كل من سبر أغواركم وعرف تمريضكم ورخاوة عقدكم في الإيمان يا هؤلاء ما ترون؟ هل
يتوقع منكم إذا توليتم أمور الناس ونيطت بكم شئونهم وأصبحتم حكاما هل يتوقع منكم
أن تفسدوا في الأرض بالتناخر على الملك والتهالك على الدنيا والتناور والتناهب
وقطع الأرحام بمقاتلة بعض الأقارب ووأد البنات وأخذ الرشاوة والعودة إلى الجاهلية
الأولى.
٢ ـ التنكير
والاستعارة : وفي قوله تعالى : «أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها» التنكير
في قلوب مع إضافة الأقفال إليها على طريق الاستعارة المكنية ، أما التنكير فهو إما
لتهويل حالها كأنه قيل على قلوب منكرة مبهم أمرها أو إما لأن المراد بها قلوب بعض
منهم وهم قلوب المنافقين ، أما الاستعارة فهي أنه شبّه قلوبهم بالصناديق واستعار
لها
شيئا من لوازمها وهي الأقفال المختصّة بها لاستبعاد فتحها واستمرار
انغلاقها فلا تطلع مخبآتها على أحد ولا يطّلع على مخبآتها أحد.
الفوائد :
يجوز كسر سين
عسى في لغة من قال هو عسى بكذا مثل شج من شجى ، وليس ذلك الجواز مطلقا سواء أسندته
إلى ظاهر أو مضمر بل يتقيد بأن يسند إلى ضمير يسكن معه آخر الفعل كالتاء أو النون
أو نا وبهما قرئ في السبع ، قرأ نافع بالكسر لمناسبة الياء وقرأ الباقون بالفتح
وهو المختار لجريانه على الألسن.
(أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩)
وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ
فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا
أَخْبارَكُمْ (٣١) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ
وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا
اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣))
اللغة :
(أَضْغانَهُمْ) أحقادهم وفي المصباح : «ضغن صدره ضغنا من باب
تعب حقد والاسم ضغن والجمع أضغان مثل حمل وأحمال وهو ضغن وضاغن» وقال عمرو
بن كلثوم :
وإن الضغن
بعد الضغن يبدو
|
|
عليك ويخرج
الداء الدفينا
|
ومن عجيب أمر
الضاد والغين أنهما إذا اجتمعتا فاء وعينا للكملة دلّتا على معنى متقارب وهو الشيء
الكامن في الخفاء كما تقدم في الضغن ويقال ضغن عليّ فلان واضطغن وأبعد الله كل
مضاغن لأخيه مشاحن لمواليه وما زلت به حتى سللت بقية ضغنه وأخليت صدره عمّا كان في
ضمنه ، وضغبت الأرنب صوّتت إذا أخذت ، وضربه بضغث أي بقبضة من قضبان صغار أو حشيش
بعضه في بعض ومن مجازه هذه أضغاث أحلام وهي ما التبس وكمن منها ، وضغط الشيء عصره
وضيّق عليه وأعوذ بالله من ضغطة القبر وهي كامنة لا يعلمها إلا الله ، وسمعت ضغيل
الحجام وهو صوت مصّه وضغمه ضغمة الأسد وهي العضة بملء الفم وفرسه الضيغم والضياغمة
وهو الأسد ، وضغا فلان ضغاء تضوّر من ضرب أو أذى وتقول أضغيته إضغاء ثم أغضيت عنه
إغضاء وبات صبيانه يتغاضون من الجوع ويتضاغون وهذا من العجب العجاب.
(بِسِيماهُمْ) بعلامتهم وفي القاموس «والسومة بالضم والسيمة والسيماء
والسيمياء بكسرهنّ : العلامة».
(لَحْنِ الْقَوْلِ) نحوه وأسلوبه وقيل اللحن : إن تلحن بكلامك أي تميله إلى
نحو من الأنحاء ليفطن له صاحبك كالتعريض والتورية قال :
ولقد لحنت
لكم لكيما تفهموا
|
|
واللحن يعرفه
ذوي الألباب
|
فاللحن العدول
بالكلام عن الظاهر والمخطئ لاحن لعدوله عن الصواب أي لكي تفهموا دون غيركم فإن اللحن
يعرفه أرباب الألباب
دون غيرهم قال في المصباح : «اللحن بفتحتين الفطنة وهو مصدر من باب تعب
والفاعل لحن يتعدى بالهمزة فيقال ألحنته فلحن أي أفطنته ففطن وهو سرعة الفهم وهو
ألحن من زيد أي أسبق فهما ولحن في كلامه لحنا من باب نفع أخطأ في العربية قال أبو
زيد لحن في كلامه لحنا بسكون الحاء ولحونا إذا أخطأ الإعراب وخالف وجه الصواب
ولحنت بلحن فلان لحنا أيضا تكلمت بلغته ولحنت له لحنا قلت قولا فهمه عني وخفي على
غيره من القوم وفهمته من لحن كلامه وفحواه ومعاريضه بمعنى ، قال الأزهري : لحن
القول كالعنوان وهو كالعلامة تشير لها فيفطن المخاطب لغرضك».
والخلاصة أن
للحن معنيين صواب وخطأ فالصواب صرف الكلام وإزالته عن التصريح إلى المعنى والتعريض
وهذا ممدوح من حيث البلاغة ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : «فلعلّ بعضكم ألحن
بحجته من بعض» وقال الشاعر :
منطق صائب
وتلحن أحيا
|
|
نا وخير
الحديث ما كان لحنا
|
وإليه قصد
بقوله «ولتعرفنّهم في لحن القول» وأما اللحن المذموم فظاهر وهو صرف الكلام عن
الصواب إلى الخطأ بإزالة الإعراب أو التصحيف ، ومعنى الآية : وإنك يا محمد لتعرفنّ
المنافقين فيما يعرضون به من القول من تهجين أمرك وأمر المسلمين وتقبيحه
والاستهزاء به فكان بعد هذا لا يتكلم منافق عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا عرفه
بقوله ويستدل بفحوى كلامه على فساد باطنه ونفاقه.
الإعراب :
(أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ) أم حرف إضراب وعطف وحسب الذين فعل وفاعل وفي قلوبهم خبر
مقدّم
ومرض مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية صلة الموصول وأن وما في حيزها سدّت مسدّ
مفعولي حسب وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن ولن حرف نفي ونصب واستقبال
ويخرج فعل مضارع منصوب بلن والجملة خبر أن والله فاعل وأضغانهم مفعول به (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ
فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) الواو عاطفة ولو شرطية ونشاء فعل مضارع وفاعله مستتر
تقديره نحن واللام واقعة في جواب لو وأريناكهم فعل ماض ونا فاعل والكاف مفعول أول
والهاء مفعول ثان والرؤية هنا بصرية فلذلك لم تنصب سوى مفعولين والفاء عاطفة
واللام عطف على اللام الأولى الواقعة جوابا وكررت للتأكيد وعرفتهم فعل وفاعل
ومفعول وجملة لأريناكهم لا محل لها لأنها جواب لو وجملة فلعرفتهم عطف عليها
وبسيماهم متعلقان بعرفتهم (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ
فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) الواو حرف عطف واللام واقعة مع النون في جواب قسم محذوف
وتعرفنّهم فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التأكيد الثقيلة والفاعل مستتر
تقديره أنت والهاء مفعول به وفي لحن القول متعلقان بتعرفنّهم أو بمحذوف حال أي حال
كونهم لاحنين والله مبتدأ وجملة يعلم أعمالكم خبر والجملة استئنافية. (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ
الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) اللام واقعة جواب قسم محذوف مع النون ونبلونّكم فعل
وفاعل مستتر ومفعول به وحتى حرف غاية وجر أو تعليل وجر ونعلم فعل مضارع منصوب بأن
مضمرة بعد حتى والمجاهدين مفعول به ومنكم حال والصابرين عطف على المجاهدين ونبلو
عطف على نعلم وأخباركم مفعول به (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما
تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) إن واسمها وجملة كفروا صلة وجملة صدّوا عن سبيل الله
عطف على جملة كفروا وشاقوا الرسول عطف أيضا ومن بعد متعلقان بشاقوا وما مصدرية وهي
مع مدخولها في تأويل مصدر
مضاف لبعد ولهم متعلقان بتبين والهدى فاعل ولن حرف نفي ونصب واستقبال
ويضرّوا الله فعل مضارع منصوب بلن والجملة خبر إن وشيئا مفعول مطلق أي شيئا من
الضرر ، ولك أن تعربه مفعولا به ، وسيحبط الواو حرف عطف والسين حرف استقبال ويحبط
أعمالهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا
أَعْمالَكُمْ) تقدم إعراب نظير هذه الآية كثيرا وقد اشتجر الخلاف بين
أهل السنّة والاعتزال حول الكبائر وهل تحبط الحسنات فليرجع إليها من شاء في مختلف
المظان.
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ
اللهُ لَهُمْ (٣٤) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ
الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥) إِنَّمَا
الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ
أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها
فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ
تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ
يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ
الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا
يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨))
اللغة :
(السَّلْمِ) بفتح السين وكسرها الصلح وقد قرئ بهما.
(يَتِرَكُمْ) ينقصكم من وترت الرجل إذا قتلت له قتيلا من ولد أو أخ
أو حميم من الوتر وهو الانفراد وفي المختار : «ووتره حقه يتره بالكسر وترا بالكسر
أيضا نقصه وقوله تعالى : ولن يتركم أعمالكم أي في أعمالكم كقولهم دخلت البيت أي في
البيت وأوتره أفذّه ومنه أوتر صلاته ، وأوتر فرسه وتّرها توتيرا بمعنى» وفي
المصباح : «يقال وترت العدد وترا من باب وعد أفردته وأوترته بالألف مثله ووترت
الصلاة وأوترتها جعلتها وترا ووترت زيدا حقّه أثره من باب وعد أيضا نقصته ومنه من
فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله بنصبها على المفعولية».
(فَيُحْفِكُمْ) يبالغ في طلبها حتى يستأصلها فيجهدكم بذلك فالإحفاء
المبالغة وبلوغ الغاية في كل شيء ويقال أحفى شاربه استأصله وفي القاموس : «وحفا
شاربه بالغ في أخذه كأحفاه».
الإعراب :
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) إن واسمها وجملة كفروا صلة وصدّوا عطف على كفروا وعن
سبيل الله متعلقان بصدّوا (ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ
كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) ثم حرف عطف وماتوا فعل وفاعل وجملة فلن يغفر الله لهم
خبر إن ودخلت الفاء لما في الموصول من معنى الشرط (فَلا تَهِنُوا
وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) الفاء الفصيحة أي إذا علمتم وجوب الجهاد فلا تضعفوا ولا
تهنوا ، ولا ناهية وتهنوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل وتدعوا عطف على فلا
تهنوا مجزوم مثله وإلى السلم متعلقان بتدعوا والواو للحال وأنتم الأعلون مبتدأ
وخبر والجملة حالية (وَاللهُ مَعَكُمْ
وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) الواو للحال أيضا والله مبتدأ ومعكم ظرف مكان متعلق
بمحذوف خبر والواو عاطفة ولن حرف
نفي ونصب واستقبال ويتركم فعل مضارع منصوب بلن وأعمالكم منصوب بنزع الخافض
كما نصّ صاحب المختار ومفهوم كلام صاحب المصباح أنه يجوز أن تكون مفعولا به (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ
وَلَهْوٌ) إنما كافة ومكفوفة والحياة الدنيا مبتدأ ولعب وخبر ولهو
عطف على لعب (وَإِنْ تُؤْمِنُوا
وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) الواو عاطفة وإن شرطية وتؤمنوا فعل الشرط مجزوم بحذف
النون والواو فاعل وتتقوا عطف على تؤمنوا ويؤتكم جواب الشرط والكاف مفعول يؤتكم
الأول وأجوركم مفعول يؤتكم الثاني والواو حرف عطف ولا نافية ويسألكم عطف على يؤتكم
والكاف مفعول يسأل الأول وأموالكم مفعول يسأل الثاني أي لا يأمركم بإخراج جميع
أموالكم في الزكاة بل يأمر بإخراج ما فرض عليكم في الزكاة وهو معروف ومبسوط في كتب
الفقه (إِنْ يَسْئَلْكُمُوها
فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) إن شرطية ويسألكموها فعل الشرط مجزوم والكاف مفعوله
الأول والهاء مفعوله الثاني والميم علامة جمع الذكور والواو للإشباع ، فيحفكم عطف
على فعل الشرط وتبخلوا جواب الشرط ويخرج عطف على الجواب وأضغانكم مفعول به والفاعل
يعود على الله تعالى لأنكم قوم تحبّون الماء ومن نوزع في حبيبه ظهرت كوامنه التي
يخفيها (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ
تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) ها أنتم هؤلاء تقدم القول مشبعا في نظيرها ونعيد بعض ما
تقدم فنقول ها للتنبيه وأنتم مبتدأ وهؤلاء خبره وجملة تدعون مستأنفة وأعربه بعضهم
ها للتنبيه وأنتم مبتدأ وجملة تدعون خبره وهؤلاء منادى معترض بين المبتدأ والخبر
وجنح الزمخشري إلى إعراب هؤلاء اسم موصول بمعنى الذين وهو الخبر وجملة تدعون صلة
وتبعه البيضاوي وكررت ها التنبيه للتأكيد قال أبو حيان : «وكون هؤلاء موصولا إذا
تقدمها ما الاستفهامية باتفاق أو من الاستفهامية باختلاف» والكوفيون لا يشترطون
ذلك فتبع الزمخشري مذهبهم. ولتنفقوا اللام للتعليل وتنفقوا فعل مضارع منصوب
بأن مضمرة بعد لام التعليل والواو فاعل في سبيل الله متعلقان بتنفقوا (فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ ، وَمَنْ
يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) الفاء عاطفة للتفريع ومنكم خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر
وجملة يبخل صلة ولا بدّ من تقدير جملة ليتم التفريع أي ومنكم من يجود وإنما حذف
هذا المقابل لأن المقام مقام استدلال على البخل والواو عاطفة ومن شرطية مبتدأ
ويبخل فعل الشرط والفاء رابطة وإنما كافّة ومكفوفة وجملة فإنما وما بعدها في محل
جزم جواب الشرط ويبخل فعل مضارع مرفوع وعن نفسه متعلقان بيبخل لأنه يتعدى بعلى
وبعن لتضمينه معنى الإمساك والتعدّي يقال بخلت عليه وعنه وكذلك ضننت عليه وعنه (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ
الْفُقَراءُ) الواو استئنافية والله مبتدأ والغني خبره وأنتم الفقراء
عطف على والله الغني (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا
يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) الواو عاطفة على الجملة الشرطية السابقة وإن شرطية
وتتولوا فعل الشرط والواو فاعل ويستبدل جواب الشرط وقوما مفعول به وغيركم نعت
لقوما وثم حرف ولا نافية ويكونوا معطوف على الجواب مجزوم والواو اسم يكون وأمثالكم
خبرها.
سورة الفتح
مدنية وآياتها تسع
وعشرون
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ
فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما
تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢)
وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي
قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤) لِيُدْخِلَ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ
فَوْزاً عَظِيماً (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ
وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ
عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ
لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (٧) إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً
وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ
وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩))
الإعراب :
(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ
فَتْحاً مُبِيناً) إن واسمها وجملة فتحنا خبرها ولك متعلقان بفتحنا وفتحا
مفعول مطلق ومبينا صفة والمراد بالفتح فتح مكة وقيل هو صلح الحديبية والصلح قد
يسمى فتحا ، وعبر بالماضي مع أن الفتح لم يقع بعد لأن إخبار الله تعالى في تحققها
وتيقنها بمنزلة الكائن الموجود وسيأتي مزيد بيان لهذا الإخبار في باب البلاغة (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ
مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) اللام للتعليل ويغفر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد
اللام والجار والمجرور متعلقان بفتحنا وسيأتي سر جعل فتح مكة علّة للمغفرة في باب
البلاغة ، ولك متعلقان بيغفر والله فاعل وما مفعول به وجملة تقدم صلة ومن ذنبك حال
وما تأخر عطف على ما تقدم (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ
عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) ويتم عطف على ليغفر ونعمته مفعول به وعليك متعلقان
بنعمته أو بيتم ويهديك عطف أيضا والكاف مفعول به أول وصراطا مستقيما مفعول به ثان
أو منصوب بنزع الخافض (وَيَنْصُرَكَ اللهُ
نَصْراً عَزِيزاً) عطف على ما تقدم ونصرا مفعول مطلق وعزيزا نعت وسيأتي سر
هذا الإسناد في باب البلاغة (هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ
إِيمانِهِمْ) هو مبتدأ والذي خبر وجملة أنزل السكينة صلة وفي قلوب
المؤمنين متعلقان بأنزل ، وليزدادوا : اللام للتعليل ويزدادوا فعل مضارع منصوب بأن
مضمرة بعد اللام وإيمانا تمييز ومع ظرف مكان متعلق بمحذوف نعت لإيمانا (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) الواو عاطفة ولله خبر مقدم وجنود السموات والأرض مبتدأ
مؤخر وكان الله كان
واسمها وعليما خبرها الأول وحكيما خبرها الثاني (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) اللام للتعليل ويدخل فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام
التعليل والجار والمجرور متعلقان بمحذوف قدره الجلال أمر بالجهاد ليدخل وعبارة أبي
حيان «والذي يظهر أنها تتعلق بمحذوف يدل عليه الكلام وذلك أنه قال : ولله جنود
السموات والأرض كان في ذلك دليل على أنه تعالى يبتلي بتلك الجنود من شاء فيقبل
الخير من قضى له بالخير والشر من قضى له بالشر ليدخل المؤمنين جنات ويعذب الكفّار
فاللام تتعلق بيبتلي هذه وما تعلق بالابتلاء من قبول الإيمان والكفر» والمؤمنين
مفعول به ليدخل والمؤمنات عطف على المؤمنين وجنات مفعول به ثان ليدخل على السعة
وجملة تجري من تحتها الأنهار صفة لجنات وخالدين فيها حال (وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ
وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً) عطف على ما تقدم وسيئاتهم مفعول يكفر وكان واسمها وفوزا
عظيما خبر وعند الله ظرف مكان متعلق بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لفوزا وتقدم
عليه (وَيُعَذِّبَ
الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ
بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) عطف أيضا والظانّين نعت للمنافقين والمشركين وبالله
متعلقان بالظانّين وظن السوء مفعول مطلق والسوء بفتح السين ومعناه الذم وبضمها
معناه العذاب والهزيمة والشر وقيل هما لغتان غير أن المفتوح غلب في أن يضاف إليه
ما يراد ذمّه والمضموم جرى مجرى الشر وكلاهما في الأصل مصدر والإضافة ليست من قبيل
إضافة الموصوف إلى صفته فإنها غير جائزة عند البصريين لأن الصفة والموصوف عبارة عن
شيء واحد فإضافة أحدهما إلى الآخر إضافة الشيء إلى نفسه بل السوء صفة لموصوف محذوف
أي ظن الأمر السوء فحذف المضاف إليه وأقيمت صفة مقامه. وعليهم خبر مقدم ودائرة
السوء مبتدأ مؤخر والجملة دعائية لا محل لها والدائرة
في الأصل عبارة عن الخطر المحيط بالمركز ثم استعملت في الحادثة المحيطة بمن
وقعت عليه إلا أن الغالب في استعمالها للمكروه وإضافة الدائرة إلى السوء من إضافة
العام إلى الخاص فهي للبيان كخاتم فضة والمراد الإحاطة والشمول بحيث لا يتخطاهم
السوء ولا يتجاوزهم (وَغَضِبَ اللهُ
عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) الواو حرف عطف وغضب الله فعل وفاعل وعليهم متعلقان بغضب
ولعنهم عطف أيضا وأعدّ لهم جهنم عطف أيضا وساءت مصيرا عطف أيضا ومصيرا تمييز (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) الواو استئنافية ولله خبر مقدّم وجنود السموات والأرض
مبتدأ مؤخر وكان الله عزيزا حكيما تقدم إعرابها قريبا وسيأتي سرّ التكرير في باب
البلاغة (إِنَّا أَرْسَلْناكَ
شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) إن واسمها وجملة أرسلناك خبرها وشاهدا حال ومبشرا
ونذيرا عطف على شاهدا (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ
وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) اللام للتعليل وتؤمنوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد
اللام والجار والمجرور متعلقان بأرسلناك لأنه علّة الإرسال وبالله متعلقان بتؤمنوا
ورسوله عطف على الله وتعزروه وما بعده عطف على لتؤمنوا والتعزير النصر والتوقير
الاحترام والتعظيم وقرئت كلها بالياء والضمير للناس وبكرة وأصيلا ظرفان لتسبّحوه
أي بالغداة والعشي ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما صلاة الفجر وصلاة الظهر والعصر.
البلاغة :
في هذه الآيات
أفانين رفيعة من علوم البلاغة فأولها :
١ ـ التعبير
بالماضي : في قوله إنّا فتحنا ، فقد جاء الإخبار بالفتح على لفظ الماضي لأنها نزلت
حين رجع عليه الصلاة والسلام من
الحديبية قبل عام الفتح والسرّ في ذلك أن أخبار الله تعالى لما كانت محققة
نزلت منزلة الكائنة الموجودة وفي ذلك من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبر
وصدقه ما لا يخفى على من له مسكة من عقل.
٢ ـ التعليل :
وجعل تعالى فتح مكة علة للمغفرة لأن الفتح من حيث كونه جهادا وعبادة سبب للغفران
وقيل السرّ فيه اجتماع ما عدد من الأمور الأربعة وهي المغفرة وإتمام النعمة
والهداية والنصر العزيز كأنه قيل يسّرنا لك فتح مكة ونصرناك على عدوك لتجمع لك عزّ
الدارين وأغراض العاجلة والآجلة.
٣ ـ الإسناد
المجازي : وذلك في قوله تعالى «وينصرك الله نصرا عزيزا» فقد أسند العزّ والمنعة
إلى النصر وهو للمنصور فإن صيغة فعيل هنا للنسبة فالعزيز بمعنى ذي العزة.
٤ ـ التكرير :
فقد قال تعالى أولا «وكان الله عليما حكيما» وقال ثانيا «وكان الله عزيزا حكيما»
لأنه ذكر قبل الآية الأولى «ولله جنود السموات والأرض» ولما كان فيهم من هو أهل
للرحمة ومن هو أهل للعذاب ناسب أن يكون خاتمة الأولى «وكان الله عليما حكيما» ولما
بالغ تعالى في تعذيب المنافق والكافر وشدّته ناسب أن يكون خاتمة الثانية «وكان
الله عزيزا حكيما» فالأولى دلّت على أنه المدبّر لأمر المخلوقات بمقتضى حكمته
والثانية دلّت على التهديد والوعيد وأنهم في قبضة المنتقم وقد حاول بعضهم أن ينفي
التكرير ولا داعي لذلك لأن للتكرير أسرارا مرّ بعضها وسيأتي منها ما هو أوغل في
الإعجاب وأدعى إلى التأمل.
(إِنَّ الَّذِينَ
يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ
نَكَثَ فَإِنَّما
يَنْكُثُ
عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً
عَظِيماً (١٠) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا
أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ
فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ
بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ
خَبِيراً (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ
إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ
السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢))
اللغة :
(يُبايِعُونَكَ) يعاهدونك ، سمّيت المعاهدة بالمبايعة التي هي مبادلة
المال بالمال تشبيها لها بالمبايعة في اشتمال كل واحدة منهما على معنى المبادلة
لأن المعاهدة أيضا مشتملة على المبادلة بين التزام الثبات في محاربة الكافرين وبين
ضمانه عليه السلام لمرضاة الله عنهم وإثابته إياهم بجنّات النعيم في مقابلة محاربة
الكافرين وسيأتي مزيد من التفصيل في باب البلاغة.
(بُوراً) البور الهلاك وهو يحتمل أن يكون مصدرا أخبر به عن الجمع
ويجوز أن يكون جمع بائر كحائل وحول وبازل وبزل والأول أرجح ويوصف به المفرد المذكر
والمفردة المؤنثة والمثنى والجمع منهما قال ابن الزبعرى :
يا رسول
المليك إن لساني
|
|
راتق ما فتقت
إذ أنا بور
|
والبور من
الأرض ما لم يزرع.
الإعراب :
(إِنَّ الَّذِينَ
يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) كلام مستأنف مسوق لبيان أن من بايع الرسول عليه الصلاة
والسلام صورة فقد بايع الله حقيقة.
وإن واسمها
وجملة يبايعونك صلة الموصول وإنما كافّة ومكفوفة وجملة إنما يبعايعون الله خبران
والمراد بهذه البيعة بيعة الرضوان في الحديبية (يَدُ اللهِ فَوْقَ
أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) يد الله مبتدأ وفوق أيديهم ظرف متعلق بمحذوف خبر يد
الله والجملة خبر ثان لإن ويجوز أن تكون حالية من ضمير الفاعل في يبايعونك ويجوز
أن تكون مستأنفة أيضا ، فمن : الفاء استئنافية ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ
ونكث فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة وإنما كافّة ومكفوفة وينكث فعل
مضارع مرفوع والفاعل مستتر تقديره هو وعلى نفسه متعلقان بينكث والجملة في محل جزم
جواب الشرط (وَمَنْ أَوْفى بِما
عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) الواو حرف عطف ومن اسم شرط جازم مبتدأ وأوفى فعل الشرط
وهو بمعنى وفي يقال وفى بالعهد وأوفى به وهي لغة تهامة وبما متعلقان بأوفى وجملة
عاهد صلة وعليه متعلقان بعاهد وضمّت الهاء مع أنها تكسر بعد الهاء لمجيء سكون
بعدها فيجوز الضم والكسر ولفظ الجلالة مفعول به والفاء رابطة لجواب الشرط ويؤتيه
فعل وفاعل مستتر ومفعول به وأجرا مفعول به ثان وعظيما نعت (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ
الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا) السين حرف استقبال ويقول فعل مضارع مرفوع ولك متعلقان
بيقول والمخلفون فاعل ومن الأعراب حال وجملة شغلتنا أموالنا مقول القول وأهلونا
عطف على أموالنا وعلامة رفعه الواو لأنه ملحق بجمع المذكر
السالم أي عن الخروج معك ، فاستغفر الفاء عاطفة واستغفر فعل أمر ولنا
متعلقان باستغفر ومفعول استغفر محذوف أي الله (يَقُولُونَ
بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) الجملة مقول قوله تعالى ويقولون فعل مضارع مرفوع بثبوت
النون والواو فاعل وبألسنتهم متعلقان بيقولون وما مفعول به وليس فعل ماض ناقص
واسمها مستتر تقديره هو وفي قلوبهم خبر والجملة صلة ما (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ
شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً) قل فعل أمر والفاء عاطفة ومن اسم استفهام معناه النفي
في محل رفع مبتدأ ويملك فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو والجملة خبر من والجملة
مقول قل ولكم متعلقان بيملك ومن الله حال وشيئا مفعول يملك وإن حرف شرط وأراد فعل
الشرط والجواب محذوف دلّ عليه ما قبله أي فمن يملك وبكم متعلقان بأراد وخيرا مفعول
أراد وجملة أو أراد بكم نفعا عطف على الجملة السابقة (بَلْ كانَ اللهُ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيراً) بل حرف إضراب انتقالي من موضوع إلى آخر وكان واسمها
وبما متعلقان بخبيرا وجملة تعملون صلة وخبيرا خبر كان (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ
الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً) بل حرف إضراب انتقالي أيضا ، أضرب عن بيان بطلان
اعتذارهم إلى بيان الحامل لهم على التخلّف ، وظننتم فعل وفاعل وأن وما في حيزها
سدّت مسدّ مفعولي ظننتم وأن مخفّفة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن ولن حرف نفي ونصب
واستقبال وينقلب فعل مضارع منصوب بلن والرسول فاعل والمؤمنون عطف على الرسول وإلى
أهليهم متعلقان بينقلب وأبدا ظرف متعلق بينقلب أيضا (وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي
قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) وزين فعل ماض مبني للمجهول وذلك نائب فاعل وفي قلوبكم
متعلقان بزين وظننتم عطف على وزين وظن السوء مفعول مطلق وكان واسمها وقوما خبرها
وبورا نعت قوما.
البلاغة :
١ ـ في قوله «إن
الذين يبايعونك إنما يبايعون الله» استعارة تصريحية تبعية في الفعل كما تقدم ،
أطلق اسم المبايعة على هذه المعاهدة وتجد تفاصيلها في كتب التاريخ.
٢ ـ وفي قوله «يد
الله فوق أيديهم» استعارة مكنية ، شبّه تعالى نفسه بالمبايع وأثبت له ما هو من
لوازم المبايع حقيقة وهو اليد على طريق الاستعارة المكنية الأصلية ، وفي إثبات
اليد لله تعالى والله منزّه عن الجوارح عن صفات الأجسام لتأكيد معنى المشاكلة.
٣ ـ وفي قوله «فمن
يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرّا أو أراد بكم نفعا» فن اللف ، وكان الأصل :
فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرّا ومن يحرمكم النفع إن أراد بكم نفعا
لأن مثل هذا النظم يستعمل في الضرّ وقد ورد في الكتاب العزيز مطّردا كذلك قال : «فمن
يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم» وقوله «ومن يرد الله فتنته
فلن تملك له من الله شيئا» ومنه قوله عليه الصلاة والسلام في بعض الحديث «إنني لا
أملك شيئا» يخاطب عشيرته وسرّ اختصاصه بدفع المضرّة أن الملك مضاف في هذه المواضع
باللام ودفع المضرّة نفع يضاف للمدفوع عنه وليس كذلك حرمان المنفعة فإنه ضرر عائد
عليه لا له ، فإذا ظهر ذلك فإنما انتظمت الآية على هذا الوجه لأن القسمين يشتركان
في أن كل واحد منهما نفي لدفع المقدّر من خير وشر فلما تقاربا أدرجهما في عبارة
واحدة وخصّ عبارة دفع الضرّ لأنه هو المتوقع لهؤلاء إذ الآية في سياق التهديد أو
الوعيد الشديد وهي نظير قوله : «قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو
أراد بكم رحمة» فإن العصمة إنما تكون من السوء لا من الرحمة.
الفوائد :
الأهلون : جمع
أهل ويقال أهلات على تقدير تاء التأنيث كأرض وأرضات ، والذي حسن جمع أهل هذا الجمع
كونه يرد بمعنى الوصف كقولهم الحمد لله أهل الحمد وكونه في الواقع للعقلاء.
(وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ
بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣) وَلِلَّهِ
مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ
وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا
انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ
يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ
قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ
قَلِيلاً (١٥) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ
أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا
يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ
قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦))
الإعراب :
(وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ
بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً) الواو عاطفة لتقرير بوارهم وبيان كيفيته ، ومن اسم شرط
جازم أو موصولة في محل رفع مبتدأ ولم حرف نفي وقلب وجزم ويؤمن فعل مضارع مجزوم
بلم وبالله متعلقان بيؤمن ورسوله عطف على الله وجواب الشرط محذوف أي فإنه
كافر والفاء عاطفة على الجواب وإن واسمها وجملة أعتدنا خبر إن وللكافرين متعلقان
بأعتدنا وسعيرا مفعول به وجملة الشرط والجواب خبر من إن كانت شرطية وجملة فإنّا
أعتدنا هي الخبر إن كانت موصولة ودخلت الفاء لما في الموصول من معنى الشرط (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ
غَفُوراً رَحِيماً) الواو عاطفة ولله خبر مقدم وملك السموات والأرض مبتدأ
مؤخر وجملة يغفر حالية ، ولمن متعلقان بيغفر وجملة يشاء صلة ويعذب من يشاء عطف على
جملة الصلة وكان واسمها وخبراها (سَيَقُولُ
الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا
نَتَّبِعْكُمْ) السين حرف استقبال ويقول المخلفون فعل مضارع وفاعل وإذا
ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بيقول أي سيقولون وقت انطلاقكم وجملة انطلقتم
في محل جر بإضافة الظرف إليها وإلى مغانم متعلقان بانطلقتم وجملة ذرونا مقول قولهم
أي دعونا وقد تقدم أن العرب ماتوا ماضيه ومصدره واسم فاعله ، ونتبعكم فعل مضارع
مجزوم لأنه جواب الطلب (يُرِيدُونَ أَنْ
يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) جملة يريدون حالية من الفاعل وهو المخلفون ولك أن
تجعلها مستأنفة وجعلها أبو البقاء حالا من ضمير المفعول به في ذرونا وفيه تكلّف
وبعد ، وأن وما بعدها مفعول يريدون وكلام الله مفعول يبدلوا وفي قراءة كلم الله
جمع كلمة (قُلْ لَنْ
تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ولن حرف نفي ونصب
واستقبال وتتبعونا فعل مضارع منصوب بلن وعلامة نصبه حذف النون والواو فاعل ونا
مفعول به والجملة مقول القول وكذلكم نعت لمصدر محذوف أي قولا مثل هذا القول الصادر
عنّي وهو لن تتبعونا (فَسَيَقُولُونَ بَلْ
تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً) الفاء عاطفة والسين حرف استقبال ويقولون فعل مضارع
مرفوع وبل حرف إضراب أو عطف والإضراب عن
أن يكون حكم الله أن لا يتبعوهم وإثبات ما هو شر من ذلك وهو الحسد ،
وتحسدوننا عطف على سيقولون وهو فعل مضارع مرفوع وفاعل ومفعول به وبل إضراب ثان عن
وصفهم بإضافة الحسد إلى المؤمنين إلى ما أطمّ منه وهو الجهل وقلة الفقه ، وسيأتي
مزيد منه في باب البلاغة ، وكان واسمها وجملة لا يفقهون خبرها وإلا أداة حصر
وقليلا نعت لمصدر محذوف أي إلا فهما قليلا فلا معنى لقول الجلال «إلا قليلا منهم»
لأنهم جميعا مشتركون في الوصف بالغباء والبلادة (قُلْ
لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ
شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وللمخلفين متعلقان
بقل ومن الأعراب حال وجملة ستدعون مقول القول ، وسيأتي سرّ التكرير ، وإلى قوم
متعلقان بتدعون وأولي بأس شديد نعت لقوم وجملة تقاتلونهم نعت ثان أو حال ولك أن
تجعلها مستأنفة وأو حرف عطف ويسلمون عطف على تقاتلونهم ولك أن ترفع الفعل المضارع
على الاستئناف والتقدير أو هم يسلمون أي ينقادون. (فَإِنْ تُطِيعُوا
يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً) الفاء عاطفة وإن شرطية وتطيعوا فعل الشرط وعلامة جزمه
حذف النون والواو فاعل ويؤتكم جواب الشرط والكاف مفعول به أول والله فاعل وأجرا
مفعول به ثان وحسنا نعت لأجرا (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا
كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) الواو عاطفة وإن شرطية وتتولوا فعل الشرط وكما نعت
لمصدر محذوف وما مصدرية وقد تقدم هذا الإعراب كثيرا وإن جنح سيبويه إلى إعراب
الكاف في مثل هذا التركيب حالا ، ومن قبل متعلقان بتوليتم وبنى قبل على الضم
لانقطاعه عن الإضافة لفظا لا معنى ويعذبكم جواب الشرط والكاف مفعوله وعذابا مفعول
مطلق وأليما نعت لعذابا.
البلاغة :
١ ـ المبالغة :
في قوله تعالى «فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا» فالإضراب
الأول معروف وهو ديدنهم ودليل لجاجهم وتماديهم في التعنّت والإصرار على السفه ،
أما الإضراب الثاني فهو الذي تتجسد فيه بلادتهم وغباؤهم لأن الإضراب الأول فيه
نسبة إلى جهل في شيء مخصوص وهو نسبتهم الحسد إلى المؤمنين والثاني فيه نسبة إلى
جهل عام على الإطلاق.
٢ ـ التكرير :
وكرر ذكر القبائل الذين تخلفوا بهذا الاسم مبالغة في الذم وإظهارا لبشاعة التخلف
كأن الذم يتوالى عليهم كلما تكرر ذكرهم به ووسمهم بميسمه ، واختلف المفسرون في
هؤلاء القوم الذين دعوا إلى محاربتهم والموصوفين بالبأس الشديد ، فقيل هم هوازن ومن
حارب الرسول في حنين ، وقيل هم الروم الذين خرج إليهم عام تبوك ، وقيل هم أهل
الردّة الذين حاربهم أبو بكر. والتفاصيل يرجع إليها في مظانها.
(لَيْسَ عَلَى
الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ
وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (١٧) لَقَدْ رَضِيَ
اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي
قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً
(١٨) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩)
وَعَدَكُمُ
اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ
النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً
مُسْتَقِيماً (٢٠) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها
وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١))
الإعراب :
(لَيْسَ عَلَى
الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) كلام مستأنف مسوق لبيان حكم الزمنى وذوي العاهات
بالنسبة للجهاد ونفي الحرج عنهم في التخلّف عنه. وليس فعل ماض ناقص وعلى الأعرج
خبر ليس المقدم وحرج اسمها المؤخر وما بعده عطف عليه وقد روعي في الترتيب أي هؤلاء
أولى برفع الحرج عنه فقدّم الأعمى لأن عذره واضح مستمر والانتفاع منه معدوم البتة
وقدّم الأعرج على المريض لأن عاهة العرج قد يمكن الانتفاع منها في حالات معينة
كالحراسة ونحوها أما المريض فإن إمكان زوال المرض عنه متوقع في كل وقت (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ
يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) الواو حرف عطف ومن شرطية في محل رفع مبتدأ ويطع الله
ورسوله فعل الشرط ويدخله جوابه وجنات مفعول به ثان على السعة وجملة تجري من تحتها
الأنهار صفة لجنات (وَمَنْ يَتَوَلَّ
يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً) عطف على ما تقدم (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ
عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) كلام مستأنف لتقرير الرضا عن المبايعين ولذلك سمّيت
بيعة الرضوان وتفاصيلها في كتب السير والتاريخ ، واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق
ورضي الله فعل وفاعل وعن المؤمنين متعلقان برضي
وإذ ظرف ماض متعلق برضي وجملة يبايعونك مضاف إليها الظرف ، وكان مقتضى
المقام أن يأتي بالماضي ولكنه عدل عنه لسر يأتي في باب البلاغة ، وتحت الشجرة ظرف
متعلق بيبايعونك (فَعَلِمَ ما فِي
قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) الفاء عاطفة وعلم فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو يعود
على الله تعالى والجملة معطوفة على يبايعونك لما تقدم من أنه بمعنى الماضي وما
موصول مفعول به وفي قلوبهم متعلقان بمحذوف صلة ما ، فأنزل عطف على فعلم والسكينة
مفعول به وأثابهم عطف أيضا والهاء مفعول به أول وفتحا مفعول به ثان وقريبا نعت (وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها
وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) الواو حرف عطف ومغانم عطف على فتحا قريبا وجملة
يأخذونها صفة لمغانم وكان واسمها وخبرها (وَعَدَكُمُ اللهُ
مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها) كلام مستأنف على طريق الالتفات ووعدكم الله فعل ماض
ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر ومغانم مفعول به ثان وكثيرة صفة وجملة تأخذونها صفة
ثانية (فَعَجَّلَ لَكُمْ
هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) الفاء عاطفة وعجّل فعل ماض والفاعل مستتر يعود على الله
ولكم متعلقان بعجل وهذه مفعول به وكفّ أيدي الناس عنكم عطف على ما سبق (وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ
وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) الواو عاطفة على مقدّر أي لتشكروه وهي مقحمة عند
الكوفيين واسم تكون ضمير مستتر تقديره هي وآية خبرها وللمؤمنين نعت لآية ويهديكم
عطف على ولتكون والكاف مفعول به أول وصراطا مستقيما مفعول به ثان (وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ
أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) وأخرى الواو حرف عطف وأخرى معطوفة على هذه أي فعجّل لكم
هذه المغانم ومغانم أخرى وأجازوا أن تكون أخرى مبتدأ وجملة لم تقدروا عليها صفتها
وجملة قد أحاط الله بها خبرها وقال الزمخشري : «ويجوز في أخرى النصب بفعل مضمر
يفسره قد أحاط الله بها تقديره وقضى الله أخرى قد أحاط بها» وأجازوا أيضا أن تكون
مجرورة بربّ مقدرة وتكون الواو واو ربّ وفي المجرور بعد واو ربّ خلاف مشهور
أهو بربّ مقدرة أو بنفس الواو ، وقال أبو حيان في معرض ردّه على هذا الإعراب : «وهذا
فيه غرابة لأن رب لم تأت في القرآن جارّة مع كثرة ورود ذلك في كلام العرب فكيف
يؤتى بها مضمرة» واقتصر القرطبي على الوجه الأول وعبارة أبي البقاء : «وأخرى أي
ووعدكم أخرى أو أثابكم أخرى ويجوز أن تكون مبتدأ ولم تقدروا صفة وقد أحاط الخبر»
وكان واسمها وخبرها وعلى كل شيء متعلقان بقديرا.
البلاغة :
في قوله «إذ
يبايعونك» عدول عن المضارع إلى الماضي والسرّ فيه استحضار صورة المبايعة لأنها
جديرة بالتجسيد لتكون عبرة الأجداد للأحفاد ، وخلاصة قصتها أن النبي صلى الله عليه
وسلم حين نزل الحديبية بعث خراش بن أمية الخزاعي لما رأى إخفاق سفراء قريش في
مساعيهم وضياع نصائحهم إلى قومهم رسولا إلى مكة فانبعث أشقى قريش وقتئذ عكرمة بن
أبي جهل فعقر ناقة السفير وهمّ بقتله لو لا أن تداركه بعضهم فأنقذوه وردّوه إلى
قومه فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم دعا بعمر رضي الله عنه ليبعثه فقال : إني
أخافهم على نفسي لما عرف من عذوتي إياهم ولكني أدلك على رجل هو أعزّ بها منّي
وأحبّ إليهم عثمان بن عفان فبعثه وزوده بكتاب من لدنه يشرح فيه الغرض من مجيئه
وأوصاه أن يزور مسلمي مكة المستضعفين معزيا ومصبّرا حتى يأتي نصر الله والفتح ، لم
تثن سفارة عثمان رضي الله عنه من عزم قريش فأصرّت على عنادها مقررة منع الرسول
وأصحابه من الطواف مهما كانت النتيجة ، وغاية ما سمحت به أنها أذنت لعثمان وحده أن
يطوف بالبيت فأبى عثمان إلا أن يكون في صحبته رسول الله صلى الله
عليه وسلم فغاظ هذا القول قريشا وهاج حفيظتها فأمرت بسجن عثمان ثلاثة أيام
حتى تنظر في أمره فتناقل الناس الخبر مكبّرا حتى وصل معسكر الرسول أن عثمان قد قتل
، هنا قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا قائلا : ان كان حقا ما سمعنا فلن نبرح
حتى نناجز القوم ، البيعة البيعة أيّها الناس ، فتوافد الناس يبايعون رسول الله تحت
الشجرة وكانت سمرة وكان أول من بايعه سنان الأسدي فقال له وهو يبايعه : أبايعك على
ما في نفسي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : وما في نفسك؟
قال سنان :
أضرب بسيفي بين يديك حتى يظهرك الله أو اقتل وبايعه الناس على ما بايعه سنان وكان
عدد المبايعين ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرين إلى آخر تلك القصة الممتعة التي يرجع
إليها من شاء في كتب السير.
الفوائد :
روى ابن سعد
بإسناد صحيح عن نافع أن عمر بلغه أن قوما يأتون الشجرة يصلّون عندها فتوعدهم ثم
أمر بقطعها فقطعت والحكمة في ذلك أن لا يحصل الافتتان بها.
(وَلَوْ قاتَلَكُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا
نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ
لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٢٣) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ
وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ
عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَصَدُّوكُمْ
عَنِ
الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا
رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ
فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي
رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ
الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى
رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا
أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦))
اللغة :
(الْهَدْيَ) تقدم تفسيره وفيه ثلاث لغات حكاها ابن خالويه :الهدي
وهي الشهيرة ، والهدي بتشديد الياء ، والهداء وهو ما يهدى إلى الكعبة.
(مَعْكُوفاً) محبوسا يقال عكفت الرجل عن حاجته إذا حبسته عنها ،
وأنكر الفارسي تعدية عكف بنفسه وهو محجوج كما يقول الأزهري وابن سيده ببناء اسم
المفعول منه.
(مَعَرَّةٌ) مفعلة من عره بمعنى عراه إذا داهاه ما يكره وفي القاموس واللسان : المعرة
المساءة والإثم والأذى والجناية والعيب والأمر القبيح والشدّة والمسبة وتلوّن
الوجه غضبا وكوكب دون المجرة وبلد معروف.
الإعراب :
(وَلَوْ قاتَلَكُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا
نَصِيراً) الواو استئنافية ولو شرطية وقاتلكم فعل ومفعول به مقدّم
والذين فاعل وجملة كفروا صلة ، ولولّوا اللام واقعة في جواب لو وولّوا فعل وفاعل
والجملة لا محل لها لأنها جواب لو والأدبار مفعول به وثم حرف عطف ولا نافية ويجدون
فعل مضارع مرفوع وفاعل ووليّا مفعول به ولا نصيرا عطف عليه (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) سنّة مفعول مطلق لأنه مصدر مؤكد أي سنّ الله غلبة
أنبيائه سنّة ، والتي صفة لسنّة الله وجملة قد خلت صلة التي ومن قبل متعلقان بخلت
والواو عاطفة ولن حرف نفي ونصب واستقبال وتجد فعل مضارع منصوب بلن ولسنّة الله
متعلقان بتجد وتبديلا مفعول به (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ
أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ
أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) كلام مستأنف وهو مبتدأ والذي خبره وجملة كفّ صلة
وأيديهم مفعول به وعنكم متعلقان بكفّ وأيديكم عنهم عطف على أيديهم عنكم وببطن مكة
بيان للموقع وهو الحديبية فهو متعلق بمحذوف حال أي كائنين ببطن مكة والحديبية
ملاصقة للحرم ومن بعد متعلقان بكف أيضا وأن وما في حيزها في محل جر بالإضافة إلى
الظرف وعليهم متعلقان بأظفركم (وَكانَ اللهُ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيراً) كان واسمها وبصيرا خبرها وبما تعملون متعلقان ببصيرا (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ
عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) كلام مستأنف لبيان الذين صدّوا النبي صلى الله عليه
وسلم عن المسجد الحرام ، وهم مبتدأ والذين خبره وجملة كفروا صلة وصدّوكم عطف على
الصلة وعن المسجد متعلقان بصدّوكم والحرام نعت والهدي عطف على الضمير المنصوب في
صدّوكم وهو الكاف ويجوز أن تكون مفعولا معه والواو للمعية ومعكوفا
حال ، وأن يبلغ أن وما في حيزها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض أي عن أن
يبلغ أو من أن يبلغ وحينئذ يجوز في هذا الجار المقدّر أن يتعلق بصدّوكم وأن يتعلق
بمعكوفا أي محبوسا عن بلوغ محله ويجوز أن يكون المصدر المؤول في موضع نصب على أنه
مفعول من أجله لأنه علة الصدّ والتقدير صدّوا الهدي كراهة أن يبلغ محله أو هو علة
لمعكوفا أي لأجل أن يبلغ محله ، وأعربه بعضهم بدل اشتمال من الهدي أي مسددا بلوغ
الهدي محله (وَلَوْ لا رِجالٌ
مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ) الواو عاطفة ولو لا حرف امتناع لوجود ورجال مبتدأ خبره
محذوف تقديره موجودون بمكة ومؤمنون نعت رجال ونساء مؤمنات عطف على رجال مؤمنون
وجملة لم تعلموهم صفة للرجال والنساء جميعا وأن وما في حيزها في تأويل مصدر بدل
اشتمال منهم أو من الضمير المنصوب في تعلموهم (فَتُصِيبَكُمْ
مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) الفاء سببية وتصيبكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء
السببية والكاف مفعول به ومنهم متعلقان بتصيبكم ومعرّة فاعل تصيبكم وبغير علم
متعلقان بمحذوف حال من الكاف أو بمحذوف صفة لمعرّة وسيأتي الكلام في جواب لو لا (لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ
يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً
أَلِيماً) اللام للتعليل ويدخل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا بعد
اللام والجار والمجرور متعلقان بمقدر أي كان انتفاء التسليط على أهل مكة وانتفاء
العذاب ليدخل الله فهو علّة لما دلّ عليه كفّ الأيدي المفهوم من السياق عن أهل مكة
صونا لمن فيها من المؤمنين وفي رحمته متعلقان بيدخل ومن يشاء مفعول به وجملة يشاء
صلة ولو شرطية وتزيلوا فعل ماض وفاعل أي لو تميز بعضهم من بعض واللام رابطة وجملة
عذبنا لا محل لها لأنها جواب لو وقد دلّ على جواب لو لا وسيأتي مزيد من هذا البحث
في باب البلاغة وعذبنا فعل وفاعل والذين كفروا مفعول به ومنهم حال وعذابا مفعول
مطلق وأليما صفة (إِذْ جَعَلَ
الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) إذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بعذبنا أو بصدّوهم عن
المسجد الحرام ولك أن تنصبه بإضمار اذكر وجملة جعل في محل جر بإضافة الظرف إليها
والذين فاعل وجملة كفروا صلة وفي قلوبهم متعلقان بجعل إذا كانت بمعنى ألقى أو
بمحذوف مفعول به ثان لجعل إن كانت بمعنى صيّر والحمية مفعول به أول وحمية الجاهلية
بدل والحمية الأنفة يقال حميت عن كذا حمية إذا أنفت عنه وداخلك عار وأنفة لفعله ،
قال المتلمس :
ألا إنني
منهم وعرضي عرضهم
|
|
كذا الرأس
يحمي أنفه أن يهشما
|
(فَأَنْزَلَ
اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ
التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) الفاء عاطفة على مقدّر لا بدّ منه يفهم من السياق أي
فهمّ المسلمون أن يخالفوا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلح ودخلوا من
ذلك في أمر موبق أو يساور قلوبهم الشك فأنزل. والله فاعله وسكينته مفعول به وعلى
رسوله متعلقان بأنزل وعلى المؤمنين عطف على ما تقدم وألزمهم عطف أيضا والهاء مفعول
أول وكلمة التقوى مفعول به ثان وسيأتي المراد بها في باب الفوائد وكانوا عطف على
ما تقدم وأحقّ خبر كانوا وبها متعلقان بأحق وأهلها عطف على أحق عطف تفسير (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) كان واسمها وبكل شيء متعلقان بعليما وعليما خبرها.
البلاغة :
في هذه الآية
لطائف معنوية وهو أنه تعالى أبان غاية البون بين الكافر والمؤمن ، باين بين
الفاعلين إذ فاعل جعل هو الكفار وفاعل أنزل هو الله تعالى ، وبين المفعولين إذ تلك
حمية وهذه سكينة ، وبين
الإضافتين أضاف الحمية إلى الجاهلية وأضاف السكينة إلى الله تعالى ، وبين
الفعل جعل وأنزل فالحمية مجعولة في الحال في العرض الذي لا يبقى والسكينة
كالمحفوظة في خزانة الرحمة فأنزلها والحمية قبيحة مذمومة في نفسها وازدادت قبحا
بالإضافة إلى الجاهلية والسكينة حسنة في نفسها وازدادت حسنا بإضافتها إلى الله
تعالى والعطف في فأنزل بالفاء لا بالواو يدل على المقابلة تقول أكرمني زيد فأكرمته
فدلّت على المجازاة للمقابلة ولذلك جعل فأنزل ، ولما كان الرسول صلى الله عليه
وسلم هو الذي أجاب أولا إلى الصلح وكان المؤمنون عازمين على القتال لا يرجعوا إلى
أهلهم إلا بعد فتح مكة أو النحر في المنحر وأبوا إلا أن يكتبوا محمد رسول الله صلى
الله عليه وسلم وباسم الله قال تعالى «على رسوله» ولما سكن هو صلى الله عليه وسلم
للصلح سكن المؤمنون فقال «وعلى المؤمنين» ولما كان المؤمنون عند الله تعالى ألزموا
تلك الكلمة قال تعالى «إن أكرمكم عند الله أتقاكم».
(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ
رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ
اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما
لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧) هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٢٨) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ
أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً
يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ
أَثَرِ السُّجُودِ
ذلِكَ
مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ
شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ
لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٢٩))
اللغة :
(شَطْأَهُ) بسكون الطاء وفتحها وهما قراءتان سبعيتان وفي المختار «شطء
الزرع والنبات فراخه وقال الأخفش طرفه وأشطأ الزرع خرج شطؤه» وفي القاموس : الشطء
فراخ النخل والزرع أو ورقه وشطأ كمنع شطئا وشطوءا أخرجها ومن الشجرة ما خرج حول
أصله والجمع أشطاء وأشطأ أخرجها والرجل بلغ ولده فصار مثله.
الإعراب :
(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ
رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ) اللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وصدق الله فعل وفاعل
ورسوله مفعول به والرؤيا منصوب بنزع الخافض أي في رؤياه وقيل كذب يتعدى إلى
مفعولين يقال كذبني الحديث وكذا صدق كما في الآية لكنه غريب لأنه لم يعهد تعدّي
المخفف إلى مفعولين والمشدد إلى واحد وعبارة أبي حيان «وصدق يتعدى إلى اثنين
الثاني بنفسه وبحرف الجر تقول صدقت زيدا الحديث وصدقته في الحديث» وهذا ما جرى
عليه في القاموس وعبارة الزمخشري «صدقه في رؤياه ولم يكذبه تعالى الله عن الكذب
وعن كل قبيح علوّا كبيرا فحذف الجار وأوصل الفعل كقوله تعالى : صدقوا ما عاهدوا
الله عليه» وبالحق متعلق بصدق أو حال من الرؤيا (لَتَدْخُلُنَّ
الْمَسْجِدَ
الْحَرامَ
إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ) اللام جواب لقسم محذوف وتدخلن فعل مضارع مرفوع وعلامة
رفعه ثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال لأنه من الأفعال الخمسة والواو المحذوفة
لالتقاء الساكنين فاعل والنون نون التوكيد الثقيلة والمسجد مفعول به على السعة
والحرام صفة وإن شرطية وشاء الله فعل الشرط والجواب محذوف لدلالة ما قبله ، وفي
تعليق بالوعد بالمشيئة مع أنه تعالى خالق للأشياء كلها وعالم بها قبل وقوعها أقوال
نلخصها فيما يلي : ١ ـ أنه حكاية قول الملك للرسول صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن
كيسان.
٢ ـ هذا
التعليق تأدب بآداب الله تعالى وإن كان الموعود به محقق الوقوع حيث قال تعالى «ولا
تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله». ٣ ـ وقال ثعلب استثنى فيما يعلم
ليستثني الخلق فيما لا يعلمون. ٤ ـ وزعم الكوفيون أن إن هنا بمعنى إذ التي تذكر
لتعليل ما قبلها ، قالوا وليست شرطية لأن الشرط مستقبل وهذه القصة قد مضت ، وأصح
ما يقال ما أورده الزمخشري ونصه : «فإن قلت ما وجه دخول إن شاء الله في إخبار الله
عزّ وجلّ قلت فيه وجوه : أن يعلق عدّته بالمشيئة تعليما لعباده أن يقولوا في
عداتهم مثل ذلك متأدبين بأدب الله ومقتدين بسنّته» وآمنين حال من الواو المحذوفة
من لتدخلن لالتقاء الساكنين أي حال مقارنة للدخول والشرط معترض والمعنى آمنين في
حال الدخول ومحلقين حال ثانية متداخلة ورؤوسكم مفعول به ولا نافية وتخافون فعل مضارع
مرفوع بثبوت النون والجملة مستأنفة أو حالية من فاعل لتدخلن أو من الضمير في آمنين
أو في محلقين (فَعَلِمَ ما لَمْ
تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) الفاء عاطفة على جملة صدق الله وعلم فعل ماض وفاعل
مستتر تقديره هو وما مفعول به وجملة لم تعلموه صلة ما ، فجعل : الفاء عاطفة ومن
دون ذلك متعلقان بجعل وفتحا مفعول به وقريبا نعت (هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ
كُلِّهِ) هو مبتدأ والذي خبره وجملة أرسل رسوله صلة الموصول
وبالهدى متعلقان بمحذوف حال من المفعول به أي ملتبسا بالهدى ودين الحق عطف على
الهدى واللام للتعليل ويظهره فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور
متعلقان بأرسل أي ليعليه على الدين كله ، وكله تأكيد للدين وأل في الدين للجنس
يريد الأديان المختلفة (وَكَفى بِاللهِ
شَهِيداً) كفى فعل ماض والباء حرف جر زائد ولفظ الجلالة مجرور
لفظا فاعل كفى محلا وشهيدا تمييز (مُحَمَّدٌ رَسُولُ
اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) محمد مبتدأ ورسول الله خبره والذين مبتدأ ومعه ظرف
متعلق بمحذوف هو الصلة وأشداء خبر وعلى الكفار متعلقان بأشداء ورحماء خبر ثان
وبينهم ظرف متعلق برحماء جمع رحيم (تَراهُمْ رُكَّعاً
سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) الجملة خبر ثالث ولك أن تجعلها مستأنفة وتراهم فعل
مضارع وفاعل مستتر تقديره أنت والهاء مفعول به وركّعا سجّدا حالان وجملة يبتغون
مستأنفة كأنها جواب لسؤال نشأ عن مواظبتهم على الركوع والسجود كأنه قيل ماذا
يريدون بذلك فقيل يبتغون أو حال ثالثة وفضلا مفعول به ومن الله متعلقان بيبتغون
ورضوانا عطف على فضلا (سِيماهُمْ فِي
وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) سيماهم مبتدأ وفيها ثلاث لغات السيما والسيماء
والسيمياء وهي العلامة وفي وجوههم خبر ومن أثر السجود حال (ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) ذلك مبتدأ والإشارة إلى الوصف الآنف وهو كونهم أشدّاء
رحماء وسيماهم في وجوههم ، ومثلهم خبره وفي التوراة حال (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ
أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) ومثلهم مبتدأ وفي الإنجيل حال وكزرع خبر مثلهم وجملة
أخرج شطأه صفة لزرع وهناك أعاريب أخرى ستأتي الإشارة إليها في باب الفوائد ، فآزره
عطف على أخرج وكذلك فاستغلط وقوله فاستوى وعلى سوقه متعلقان باستوى أو بمحذوف حال
أي كائنا على
سوقه قائما عليها والسوق جمع ساق (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ
لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) الجملة حالية أي حال كونه معجبا والزراع مفعول يعجب ،
وليغيظ : اللام للتعليل والفعل المضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار
والمجرور متعلقان بفعل دلّ عليه السياق أي شبّهوا بذلك فالتعليل للتشبيه ، قال
الزمخشري : «فإن قلت قوله ليغيظ بهم الكفار تعليل لما ذا؟ قلت لما دلّ عليه
تشبيههم بالزرع من نمائهم وترقيهم في الزيادة والقوة ويجوز أن يعلل به وعد الله
الذين آمنوا» فهو متعلق بوعد (وَعَدَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً
عَظِيماً) وعد فعل ماض والله فاعل والذين مفعوله وجملة آمنوا صلة
وجملة وعملوا الصالحات عطف على الصلة ومنهم حال ومغفرة مفعول به ثان أو منصوب بنزع
الخافض يقال : وعده الأمر وبه ، وأجرا عطف على مغفرة وعظيما نعت.
سورة الحجرات
مدنية وآياتها ثمانى
عشرة
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا
اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ
بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ
لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ
أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ
وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ
أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ
إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥))
اللغة :
(تَحْبَطَ) في المختار : «حبط عمله بطل ثوابه وبابه فهم وحبوطا
أيضا». وقال الزمخشري : «والحبوط من حبطت الإبل إذا أكلت الخضر فنفخ بطونها وربما
هلكت ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : وإن مما ينبت الربيع لما يقتل حبطا» وفي
القاموس : «الحبط محركة آثار الجرح
أو السياط بالبدن بعد البرء أو الآثار الوارمة التي لم تشقّق فإن تقطعت
ودميت فعلوب ووجع ببطن البعير من كلأ يستوبله أو من كلأ يكثر منه فينتفخ منه» إلى
أن يقول : «وحبط عمله كسمع وضرب حبطا وحبوطا بطل ودم القتل هدرا».
(امْتَحَنَ) في القاموس «محنه كمنعه اختبره كامتحنه والاسم المحنة
بالكسر» وفي الكشاف : والامتحان افتعال من محنه وهو اختبار بليغ أو بلاء جهيد قال
أبو عمرو : كل شيء جهدته فقد محنته وأنشد :
أتت رذايا
باديا كلالها
|
|
قد محنت
واضطربت آطالها
|
نقول :
والرذايا : جمع رذية وهي الناقة المهزولة والآطال جمع أطل وهو الخاصرة كأسباب وسبب
، يقول الشاعر :
أتت المطايا
مهازيل ظاهرا ملالها
|
|
وتعبها من
السير قد أجهدت
|
تلك النون
بالمسير أو قد تدلت واضطربت خواصرها من شدة الجوع وفي الصحاح «الأيطل الخاصرة
وجمعه أياطل وكذلك الأطل وجمعه آطال».
(الْحُجُراتِ) جمع حجرة وهي فعلة بمعنى مفعولة كالغرفة وجمعها الحجرات
بضمتين والحجرات بفتح الجيم والحجرات بتسكينها وقرئ بهنّ جميعا والحجرة القطعة من
الأرض المحجورة بحائط أو نحوه.
الإعراب :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) يا حرف نداء للمتوسط وأيّها منادى نكرة مقصودة مبني على
الضم في محل نصب والهاء للتنبيه والذين بدل من أيّها وجملة آمنوا صلة الموصول ولا
ناهية
وتقدموا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل
وفيه وجهان أحدهما أنه متعدّ حذف مفعوله لقصد التعميم أو ترك المفعول للقصد إلى
نفس الفعل كقولهم : هو يعطي ويمنع والثاني أنه لازم نحو وجه وتوجه ويؤيده قراءة
ابن عباس والضحاك ويعقوب : تقدموا بفتح التاء والقاف والدال. وبين مفعول فيه ظرف
مكان متعلق بتقدموا ويدي الله مضاف إليه وعلامة جرّه الياء نيابة عن الكسرة لأنه
مثنى ولفظ الجلالة مضاف إليه ورسوله عطف على لفظ الجلالة (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ) الواو حرف عطف واتقوا فعل أمر وفاعل ولفظ الجلالة مفعول
به وإن واسمها وخبراها والجملة تعليلية لا محل لها من الإعراب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) لا ناهية وترفعوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل
وأصواتكم مفعول به وفوق ظرف متعلق بترفعوا وصوت النبي مضاف إليه (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ
كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا
تَشْعُرُونَ) الواو عاطفة ولا ناهية وتجهروا فعل مضارع مجزوم بلا وله
متعلقان بتجهروا وبالقول متعلقان بتجهروا أيضا والكاف في محل نصب صفة لمصدر محذوف
أي لا تجهروا له جهرا مثل جهر بعضكم لبعض ، ولبعض متعلقان بجهر لأنه مصدر وأن وما
في حيزها في موضع نصب على أنه مفعول لأجله على حذف مضاف أي خشية الحبوط والخشية
منهم وقد تنازعه لا ترفعوا ولا تجهروا وعبارة أبي السعود : «وقوله أن تحبط أعمالكم
إما علّة للنهي أي لا تجهروا خشية أن تحبط أو كراهة أن تحبط كما في قوله تعالى :
يبيّن الله لكم أن تضلّوا وإما علّة للمنهي أي لا تجهروا لأجل الحبوط فإن الجهر
حيث كان بصدد الأداء إلى الحبوط فكأنه فعل لأجله على طريقة التمثيل كقوله تعالى :
ليكون لهم عدوا وحزنا» وقد فرّق الزمخشري بين الوجهين تفريقا تراه في باب الفوائد.
وأعمالكم فاعل
تحبط والواو حالية وأنتم مبتدأ وجملة لا تشعرون خبر
أنتم والجملة في موضع نصب على الحال (إِنَّ الَّذِينَ
يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ
قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) إن واسمها وجملة يغضون صلة الذين وأصواتهم مفعول يغضون
وعند رسول الله الظرف متعلق بيغضون وأولئك مبتدأ والذين خبره والجملة خبر إن.
وامتحن الله
قلوبهم فعل وفاعل ومفعول به وللتقوى متعلقان بامتحن على أنها علّة الامتحان لأن
الاختبار بالمحن سبب لظهور التقوى لا سبب للتقوى نفسها فهو من إطلاق السبب على
المسبّب وسيأتي مزيد من هذا البحث في باب البلاغة ، وقال الواحدي : «تقدير الكلام
امتحن الله قلوبهم فأخلصها للتقوى فحذف الإخلاص لدلالة الامتحان عليه ولهذا قال
قتادة أخلص الله قلوبهم». وعبارة الزمخشري «والمعنى أنهم صبر على التقوى أقوياء
على احتمال مشاقها أو وضع الامتحان موضع المعرفة لأن تحقيق الشيء باختباره كما يوضع
الخبر موضعها فكأنه قيل عرف الله قلوبهم للتقوى وتكون اللام متعلقة بمحذوف واللام
هي التي في قولك أنت لهذا الأمر أي كائن له ومختص به وهي ومعمولها منصوبة على
الحال أو ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف الصعبة لأجل بالتقوى أي لتثبت
وتظهر تقواها ويعلم أنهم متقون لأن حقيقة التقوى لا تعلم إلا عند المحن والشدائد
والاصطبار عليها وقيل أخلصها للتقوى من قولهم امتحن الذهب وفتله إذا أذابه فخلص
إبريزه من خبثه ونقاه».
وهذا يجوز أن
يكون الذين امتحن بدلا من أولئك أو صفة له كما سيأتي (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ
وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) لهم خبر مقدم ومغفرة مبتدأ مؤخرا وجر عظيم عطف على
مغفرة الجملة مستأنفة على الوجه الأول وخبر أولئك على الوجه الثاني (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ
وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) إن واسمها وجملة ينادونك صلة الموصول ومن وراء الحجرات
متعلقان بينادونك أي من خارجها خلفها أو قدّامها لأن وراء من الأضداد كما تقدم
وأكثرهم مبتدأ وجملة لا يعقلون خبر أكثرهم والجملة الاسمية خبر
إن (وَلَوْ أَنَّهُمْ
صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) الواو عاطفة وأن واسمها وجملة صبروا خبرها وأن وما في
خيرها في تأويل مصدر فاعل لفعل محذوف تقديره ثبت على رأي المبرد والزجّاج
والكوفيين أو مبتدأ لا يحتاج إلى خبر لأن الخبر يحذف وجوبا بعد لو ولو لا على رأي
سيبويه وجمهرة البصريين ، وحتى حرف غاية وجر وتخرج فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد
حتى وإليهم متعلقان بتخرج واللام واقعة في جواب لو وكان فعل ماض ناقص واسمها ضمير
يعود على المصدر المفهوم من صبروا أي لكان صبرهم وخيرا خبرها ولهم متعلقان بخير
والله مبتدأ وغفور خبر أول ورحيم خبر ثان.
البلاغة :
١ ـ في قوله
تعالى «بين يدي الله ورسوله» استعارة تمثيلية ، شبّه تعجّل الصحابة في إقدامهم على
البتّ في الحكم على أمر من أمور الدين بحالة من تقدم بين يدي متبوعه أثناء سيره في
الطريق ثم استعمل في جانب الهجنة للمبالغة في تجسيد الهجنة وتقبيح الأمر ، وقال
الزمخشري وأبداع : «حقيقة قولهم جلست بين يدي فلان أن يجلس بين الجهتين المسامتتين
ليمينه وشماله قريبا منه فسمّيت الجهتان يدين لكونهما على سمت اليدين مع القرب
منهما توسعا كما يسمى الشيء باسم غيره إذا جاوره وداناه في غير موضع وقد جرت هذه
العبارة هاهنا على سنن ضرب من المجاز وهو الذي يسمّيه أهل البيان تمثيلا ، ولجريها
هكذا فائدة جليلة ليست في الكلام العريان وهي تصوير الهجنة والشناعة فيما نهوا عنه
من الإقدام على أمر من الأمور دون الاحتذاء على أمثلة الكتاب والسنّة والمعنى أن
لا تقطعوا أمرا إلا بعد ما يحكمان به ويأذنان فيه».
وعبارة الشهاب
الخفاجي في حاشيته على البيضاوي : «في هذا الكلام تجوز أن أحدهما في بين اليدين
فإن حقيقته ما بين العضوين فتجوز بهما من الجهتين المقابلتين لليمين والشمال
القريبتين منه بإطلاق اليدين على ما يجاورهما ويحاذيهما» فهو من المجاز المرسل ثم
استعيرت الجملة وهي التقدّم بين اليدين استعارة تمثيلية للقطع بالحكم بلا اقتداء
ومتابعة لمن تلزمه متابعته تصويرا لهجنته وشناعته بصورة المحسوس كتقدم الخادم بين
يدي سيده في مسيره.
٢ ـ الحذف :
وحذف مفعول تقدموا كقوله يحيي ويميت وقولهم هو يعطى ويمنع وفي الحذف من البلاغة ما
ليس في الذكر لأن الخيال يذهب فيه كلّ مذهب.
٣ ـ التكرير :
في تكرير قوله «يا أيها الذين آمنوا» فائدة بلاغية لطيفة وهي إظهار الشفقة على
المسترشد وإبداء المناصحة له على آكد وجه ليقبل على استماع الكلام ويعيره باله ،
ولتحديد المخاطبين بالذات ، وأنهم هم المعنيون بالمناصحة ، وفيه أيضا استدعاء
لتجديد الاستبصار والتيقظ والتنبّه عند كل خطاب.
٤ ـ الكناية :
في قوله «من وراء الحجرات» كناية عن موضع خلوته صلى الله عليه وسلم ومقيله مع بعض
نسائه وقد ازدادت الكناية بإيقاع الحجرات معرفة بالألف واللام دون الإضافة إليه
وفي ذلك من حسن الأدب ما لا يخفى.
الفوائد :
قال الزمخشري :
«فإن قلت لخّص الفرق بين الوجهين قلت تلخيصه أن يقدّر الفعل في الثاني مضموما إليه
المفعول له كأنهما شيء
واحد ثم يصب النهي عليهما جميعا صبّا وفي الأول يقدّر النهي موجها على
الفعل على حياله ثم يعلّل له منهيا عنه فإن قلت بأيّ النهيين تعلق المفعول له؟ قلت
: بالثاني عند البصريين مقدّرا إضماره عند الأول كقوله تعالى : آتوني أفرغ عليه
قطرا ، وبالعكس عند الكوفيين وأيّهما كان فمرجع المعنى إلى أن الرفع والجهر كلاهما
منصوص أداؤه إلى حبوط العمل.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا
قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا
أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ
لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي
قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ
هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
(٨))
الإعراب :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا
قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) يا أيها الذين آمنوا : تقدم إعرابها وإن شرطية وجاءكم
فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والكاف مفعول به مقدّم وفاسق فاعل مؤخر وبنبإ
متعلقان بجاءكم والفاء رابطة لجواب الشرط لأن الجملة طلبية وتبينوا فعل أمر مبني
على حذف النون والواو فاعل وأن تصيبوا أن وما في حيزها في محل نصب مفعول من أجله
على حذف مضاف أي خشية إصابتكم أو كراهة إصابتكم وقوما
مفعول به وبجهالة في محل نصب حال من الفاعل أي جاهلين ، فتصبحوا الفاء
عاطفة وتصبحوا معطوف على تصيبوا والواو اسم تصبحوا وعلى ما فعلتم متعلقان بنادمين
ونادمين خبر تصبحوا (وَاعْلَمُوا أَنَّ
فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) الواو حرف عطف واعلموا فعل أمر والواو فاعل وأن وما في
حيزها سدّت مسدّ مفعولي اعلموا وفيكم خبر أن المقدم ورسول الله اسم إن المؤخر ولو
شرطية وجملة يطيعكم حال من الضمير المجرور في قوله فيكم وفي كثير متعلقان بيطيعكم
ومن الأمر صفة لكثير واللام واقعة في جواب لو وعنتّم فعل وفاعل والجملة لا محل لها
من الإعراب لأنها جواب لو والمعنى لوقعتم في العنت أي الهلاك (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ
الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ
وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) الواو عاطفة ولكن واسمها وجملة حبب خبرها وإليكم
متعلقان بحبب والإيمان مفعول به وزيّنه عطف على حبّب وفي قلوبكم متعلقان بزينه
وكره إليكم الكفر عطف على ما تقدم (أُولئِكَ هُمُ
الرَّاشِدُونَ) أولئك مبتدأ وهم ضمير فصل والراشدون خبر أولئك ويجوز أن
تعرب هم مبتدأ ثانيا والراشدون خبره والجملة خبر أولئك وجملة أولئك هم الراشدون في
محل نصب على الحال أو اعتراضية لا محل لها (فَضْلاً مِنَ اللهِ
وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) فضلا مفعول من أجله أو مصدر من غير فعله واختلف في
ناصبه على الأول فقيل هو حبب إليكم فيتعين كون جملة أولئك هم الراشدون اعتراضية ،
وقيل النصب بتقدير فعل أي تبتغون فضلا ونعمة وقيل هو الراشدون على خلاف بين أهل
السنة والمعتزلة سنورده في باب الفوائد والله مبتدأ وعلم خبر أول وحكيم خبر ثان.
البلاغة :
اشتملت هذه
الآيات على أفانين متنوعة من البلاغة نوردها موجزة
فيما يلى :
١ ـ التنكير :
في قوله «إن جاءكم فاسق» والفائدة منه الشياع والشمول لأن النكرة إذا وقعت في سياق
الشرط عمّت كما تعمّ إذا وقعت في سياق النفي وقد تقدمت الإشارة إلى هذه القاعدة في
غير مكان من هذا الكتاب ، وفي هذا التنكير ردّ على من زعم أنها نزلت في الوليد بن
عقبة وهو من كبار الصحابة لأن إطلاق الفسوق عليه بعيد ذلك أن الفسوق هو الخروج من
الشيء والانسلاخ منه والوليد كما يذكرون ظن فأخطأ والمخطئ ـ كما يقول الرازي ـ لا
يسمى فاسقا فالعموم هو المراد كأنه قال : أي فاسق جاءكم بأيّ نبأ فمحّصوه وأعرضوه
على محك التصويب والتخطئة قبل البتّ في الحكم ولا تستعجلوا الأمور.
٢ ـ التقديم :
في قوله «واعلموا أن فيكم رسول الله» فقد قدّم خبر إن على اسمها والقصد من ذلك
التشدّد على بعض المؤمنين لتحاشي ما استهجنه الله من محاولتهم اتباع رأي رسول الله
صلى الله عليه وسلم لآرائهم.
٣ ـ التعبير :
بالمضارع دون الماضي في قوله : «لو يطيعكم» ولم يقل أطاعكم وذلك لإفادة الديمومة
والاستمرار على أن يعمل ما يرونه صوابا وإن عليه كلما عنّ لهم رأي أو بدأت لهم في
الأمور بداءة أن يخلد إليهم ويفعل ما يعتقدونه حقا.
٤ ـ الطباق :
وذلك في قوله تعالى «حبّب» و «كرّه» وفي التحبيب والتكريه خلاف بين أهل السنّة
والمعتزلة لا يتّسع له صدر هذا الكتاب فليرجع إلى المطولات.
الفوائد :
أورد الزمخشري
إشكالا على إعراب فضلا فقال : «فإن قلت من أين جاز وقوعه مفعولا له والرشد فعل
القوم والفضل فعل الله والشرط أن يتحد الفاعل؟ قلت لما وقع الرشد عبارة عن التحبيب
والتزيين والتكريه مسندة إلى اسمه تقدست أسماؤه صار الرشد كأنه فعله فجاز أن ينتصب
عنه أو لا ينتصب عن الراشدون ولكن عن الفعل المسند إلى اسم الله تعالى والجملة
التي هي أولئك هم الراشدون اعتراض أو عن فعل مقدّر كأنه قيل جرى ذلك أو كان ذلك
فضلا من الله وأما كونه مصدرا من غير فعله فأن يوضع موضع رشدا لأن رشدهم فضل من
الله لكونهم موفقين فيه والفضل والنعمة بمعنى الأفضال» نقول ، وهذا الإشكال الذي
أورده الزمخشري بناء على اعتقاد المعتزلة بأن الرشد ليس من أفعال الله تعالى وإنما
هو فعلهم حقيقة ، والواقع أن الرشد من أفعال الله ومخلوقاته فقد وجد شرط انتصاب
المفعول له وهو اتحاد فاعل الفعلين على أن الإشكال وارد نصا على تقريرنا على غير
الحدّ الذي أورده عليه الزمخشري بل من جهة أن الله تعالى خاطب خلقه بلغتهم
المعهودة عندهم ومما يعهدونه أن الفاعل من نسب إليه الفعل وسواء كان حقيقة أو
مجازا حتى يكون زيد فاعلا وانقض الحائط وأشباهه كذلك وقد نسب إليهم الرشد على
طريقة أنهم الفاعلون وإن كانت النسبة مجازية باعتبار المعتقد وإذا تقرر وروده على
هذا الوجه فلك في الجواب عنه طريقان إما جواب الزمخشري وإما أمكن منه وأبين وهو أن
الرشد هنا يستلزم كونه راشدا إذ هو مطاوعه لأن الله تعالى أرشدهم فرشدوا وحينئذ
يتحد الفاعل على طريقة الصناعة اللفظية المطابقة للحقيقة وهو عكس قوله يريكم البرق
خوفا وطمعا فإن الإشكال بعينه وارد فيها إذ الخوف والطمع فعلهم أي منسوب إليهم على
طريقة أنهم الخائفون الطامعون والفعل
الأول لله تعالى والجواب عنه أنهم مفعولون في معنى الفاعلين بواسطة استلزام
المطاوعة لأنه إذا أرادهم فقد رأوا وقد سلف هذا الجواب مكانه وعكسه آية الحجرات إذ
تصحيح الكلام بتقدير الفاعل مفعولا وهذا من دقائق العربية.
(وَإِنْ طائِفَتانِ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ
إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى
أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا
إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ
فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ
يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً
مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ
الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ (١١))
اللغة :
(طائِفَتانِ) الطائفة : الجماعة من الناس والقطعة من الشيء ، والذين
يجمعهم رأي أو مذهب يمتازون به عن سواهم ومؤنث الطائف والجمع طائفات وطوائف وفي
القاموس «والطائفة من الشيء القطعة منه أو
الواحد فصاعدا أو إلى الألف أو أقلها رجلان أو رجل فيكون بمعنى النفس» وقال
شارح القاموس في التاج : «قوله فيكون بمعنى النفس هذا توجيه لكون تائه للتأنيث
حينئذ أي النفس الطائفة قال الراغب : إذا أريد بالطائفة الجمع فجمع طائف وإذا أريد
به الواحد فيصحّ أن يكون جمعا وكنّى به عن الواحد وأن يكون كراوية وعلامة ونحو
ذلك.
(تَفِيءَ) مضارع فاء أي رجع.
(أَقْسِطُوا) أعدلوا من أقسط الرباعي بخلاف قسط الثلاثي الذي معناه
الجور يقال قسط الرجل إذا جار وأقسط إذا عدل قال تعالى : «وأما القاسطون فكانوا
لجهنم حطبا» وقال في التاج : «ففي العدل لغتان قسط وأقسط وفي الجور لغة واحدة قسط
بغير ألف».
(قَوْمٌ) القوم : الرجال خاصة لأنهم القوام بأمور النساء قال
الله تعالى : الرجال قوّامون على النساء وقال عليه الصلاة والسلام : النساء لحم
على وضم إلا ما ذبّ عنه الذابّون والذابّون هم الرجال ، وهو في الأصل جمع قائم
كصوّم وزوّر في جمع صائم وزائر أو تسميته بالمصدر ، عن بعض العرب إذا أكلت طعاما
أحببت نوما وأبغضت قوما أي قياما ، واختصاص القوم بالرجال صريح في الآية وفي قول
زهير :
وما أدري
وسوف أخال أدري
|
|
أقوم آل حصن
أم نساء
|
وأما قولهم في
قوم فرعون وقوم عاد أنهم الذكور فليس لفظ القوم بمتعاط للفريقين ولكن قصد ذكر
الذكور وترك ذكر الإناث لأنهنّ توابع لرجالهنّ ، هذا ما ذكره في الكشاف فهو اسم
جمع بمعنى الرجال خاصة وأحده في المعنى رجل وقيل جمع لا واحد له من لفظه وقال
بعضهم : القوم الجماعة من الناس والجمع أقوام وأقاوم وأقائم وأقاويم ، وقوم الرجل
أقرباؤه الذين يجتمعون معه في جدّ واحد.
(تَلْمِزُوا) اللمز الطعن والضرب باللسان وفي المصباح : «لمزه لمزا
من باب ضرب عابه وقرأ بها السبعة ومن باب قتل لغة وأصله الإشارة بالعين ونحوها».
(تَنابَزُوا) التنابز : تفاعل من النبز وهو التداعي باللقب والنزب
منه لقب السوء ، ويقال تنابزوا وتنابزوا إذا دعا بعضهم بعضا بلقب سوء.
الإعراب :
(وَإِنْ طائِفَتانِ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) الواو عاطفة وإن شرطية وطائفتان فاعل لفعل محذوف يفسّره
ما بعده ومن المؤمنين نعت طائفتان واقتتلوا فعل ماض مبني على الضم وسيأتي سرّ
اتصاله بواو الجماعة في باب البلاغة والفاء رابطة لجواب الشرط وأصلحوا فعل أمر
مبني على حذف النون والواو فاعل وبينهما ظرف متعلق بأصلحوا (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى
الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) الفاء عاطفة وإن شرطية وبغت فعل ماض مبني على الفتح
المقدّر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين والتاء للتأنيث وإحداهما فاعل بغت
وعلى الأخرى متعلقان ببغت والفاء رابطة وقاتلوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو
فاعل والتي مفعول به وجملة تبغي صلة التي وحتى حرف غاية وجر وتفيء فعل مضارع منصوب
بأن مضمرة بعد حتى والفاعل مستتر تقديره هي وإلى الله متعلقان بتفيء (فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما
بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) الفاء عاطفة وما بعد الفاء تقدم إعرابه وبالعدل حال أي
عادلين وإن واسمها وجملة يحب المقسطين خبرها وجملة إن وما بعدها تعليل للأمر لا
محل لها (إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) إنما كافّة ومكفوفة والمؤمنون مبتدأ وإخوة خبر ،
فأصلحوا الفاء الفصيحة وأصلحوا فعل أمر مبني على
حذف النون والواو فاعل وبين أخويكم ظرف متعلق بأصلحوا (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ) عطف على ما تقدم ولعلّ واسمها وجملة ترحمون خبرها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ
مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ) يا أيها الذين آمنوا تقدم إعرابها ولا ناهية ويسخر فعل
مضارع مجزوم بلا الناهية وقوم فاعل ومن قوم متعلقان بيسخر وعسى فعل ماض من أفعال
الرجاء وهي هنا تامة ، وسيأتي حكمها في باب الفوائد ، وأن وما في حيزها فاعلها وخيرا
خبر يكونوا ومنهم متعلقان بخير ولا نساء من نساء عطف على قوم من قوم وعسى أن يكن
خيرا منهنّ تقدم إعرابها وجملة عسى أن يكونوا مستأنفة ورد مورد جواب المستخبر عن
العلة الموجبة لما جاء النهي عنه (وَلا تَلْمِزُوا
أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) عطف على ما تقدم إعرابه واضح (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ
الْإِيمانِ) بئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم والاسم فاعله والفسوق هو
المخصوص بالذم وهو مبتدأ خبره الجملة قبله ولك أن تعربه خبرا لمبتدأ محذوف وبعد
الإيمان الظرف متعلق بمحذوف حال (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ
فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الواو عاطفة ومن اسم شرط جازم ولم حرف نفي وقلب وجزم
ويتب فعل مضارع مجزوم بلم وهو فعل الشرط والفاء رابطة للجواب لأنه جملة اسمية
وأولئك مبتدأ وهم ضمير فصل لا محل له أو مبتدأ ثان والظالمون خبر من أو خبرهم
والجملة خبر أولئك وجملة فأولئك في محل جزم جواب الشرط.
البلاغة :
١ ـ الحمل على
المعنى : قال اقتتلوا والقياس اقتتلتا حملا على المعنى لأن الطائفتين في معنى
القوم والناس ثم حمل على اللفظ فقال (بَيْنَهُما).
٢ ـ التخصيص :
خصّ الاثنين بالذكر بقوله فأصلحوا بين أخويكم دون الجمع لأن أقل من يقع منهم
الشقاق اثنان فإذا التزمت المصالحة بين الأقل كانت بين الأكثر ألزم لأن الفساد
والشر المترتبين على شقاق الجمع أكثر منهما في شقاق الاثنين.
٣ ـ وضع الظاهر
موضع المضمر : وفيه أيضا وضع الظاهر موضع المضمر مضافا إلى المأمورين بالإصلاح
للمبالغة في التقرير والتحضيض وقد مرّت الإشارة إلى هذا الفن.
٤ ـ سرّ الجمع
: لم يقل رجل من رجل ولا امرأة من امرأة إيذانا بإقدام غير واحد من رجالهم وغير
واحدة من نسائهم على السخرية واستفظاعا للشأن الذي كانوا عليه ولأن مشهد الساخر لا
يكاد يخلو ممّن يتلهّى ويستضحك على قوله ولا يأتي ما عليه من النهي والإنكار فيكون
شريك الساخر وتلوه في تحمّل الوزر وكذلك كل من يستطيبه ويضحك منه فيؤدى ذلك وإن
أوجده واحد إلى تكثير السخرة وانقلاب الواحد جماعة وقوما.
الفوائد :
١ ـ اختصّت عسى
واخلولق وأوشك من بين أفعال المقاربة بجواز إسنادهنّ إلى «أن يفعل» حال كونه
مستغنى به عن الخبر فتكون تامة قال ابن مالك في الخلاصة :
بعد عسى
اخلولق أوشك قد يرد
|
|
غنى بأن يفعل
عن ثان فقد
|
نحو وعسى أن
تكرهوا شيئا وهو خير لكم ، وعسى أن تحبّوا شيئا وهو شرّ لكم ، وينبني على هذا
الأصل فرعان أحدهما أنه إذا تقدم على إحداهنّ اسم هو المسند إليه في المعنى وتأخر
عنها أن والفعل نحو زيد
عسى أن يقوم جاز تقديرها خالية من ضمير ذلك الاسم فتكون عسى مسندة إلى أن
والفعل مستغنى بهما عن الخبر فتكون تامة وهذه لغة أهل الحجاز وجاز تقديرها مسندة
إلى الضمير العائد إلى الاسم المتقدم عليها فيكون الضمير اسمها وتكون أن والفعل في
موضع نصب على الخبر فتكون ناقصة وهذه لغة بني تميم وإلى ذلك أشار ابن مالك بقوله :
وجرّدن عسى
أو ارفع مضمرا
|
|
بها إذا اسم
قبلها قد ذكرا
|
وقد جاء
التنزيل كما في الآية التي نحن بصددها بلغة أهل الحجاز ، والفرع الثاني أنه إذا
ولى إحداهنّ أن والفعل وتأخر عنها اسم هو المسند إليه في المعنى نحو عسى أن يقوم
زيد جاز الوجهان السابقان فيما إذا تقدم المسند إليه في المعنى وعلى هذا يكون
مبتدأ مؤخرا لا غير ، وجاز أيضا وجهان آخران أحدهما أنه يجوز في ذلك الفعل المقرون
أن يقدّر خاليا من الضمير العائد إلى الاسم المتأخر فيكون الفعل مسندا إلى ذلك
الاسم المتأخر وتكون عسى مسندة إلى أن والفعل مستغنى بها عن الخبر فتكون تامة
والثاني أن يقدّر ذلك الفعل محتملا لضمير ذلك الاسم المتأخر فيكون الاسم المتأخر
مرفوعا بعسى وتكون أن والفعل في موضع نصب على الخبرية بعسى مقدّما على اسمها فتكون
ناقصة.
٢ ـ المشاقّة
في الإسلام : ننقل فيما يلى خلاصة عن الفصل الممتع الذي عقده الزمخشري بصدد
المشاقة في الإسلام وواجب المسلمين حيالها إذا استشرت واستحكمت قال : «هذا تقرير
لما ألزمه من تولّى الإصلاح بين من وقعت بينهم المشاقّة من المؤمنين وبيان أن
الإيمان قد عقد بين أهله من السبب القريب والنسب اللاصق ما إن لم
يفضل الإخوة ولم يبرز عليها لم ينقص عنها ولم يتقاصر عن غاياتها ، ثم قد
جرت عادة الناس على أنه إذا نشب مثل ذلك بين اثنين من إخوة الولاد لزم السائر أن
يتناهضوا في رفعه وإزاحته ويركبوا الصعب والذلول مشيا بالصلح وبثّا للسفراء بينهما
إلى أن يصادف ما وهى من الوفاق من يرقعه وما استشنّ من الوصال من يبله ، فالأخوة
في الدين أحقّ بذلك وبأشدّ منه وعن النبي صلى الله عليه وسلم : المسلم أخو المسلم
لا يظلمه ولا يخذله ولا يعيبه ولا يتطاول عليه في البنيان فيستر عنه الريح إلا
بإذنه ولا يؤذيه بقتار قدره ثم قال احفظوا ولا يحفظ منكم إلا قليل».
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ
إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ
أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ
اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ
ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣))
اللغة :
(تَجَسَّسُوا) يقال تجسّس الأمر إذا تطلبه وبحث عنه وقرئ ولا تحسسوا
بالحاء ، والمعنيان متقاربان ، وقال الأخفش ليست تبعد إحداهما عن الأخرى لأن
التجسس البحث عمّا يكتم عنك والتحسّس
بالحاء طلب الأخبار والبحث عنها ، وقيل إن التجسس بالجيم هو البحث ومنه قيل
: رجل جاسوس إذا كان يبحث عن الأمور وبالحاء ما أدركه الإنسان ببعض حواسّه ، وفي
القاموس : «ولا تجسسوا أي خذوا ما ظهر ودعوا ما ستر الله عزّ وجلّ أو لا تفحصوا عن
بواطن الأمور أو لا تبحثوا عن العورات» وجاء فيه أيضا : «والتحسّس الاستماع لحديث
القوم وطلب خبرهم في الخير» وقال في الأساس : «ومن أين حسست هذا الخبر وأخرج
فتحسّس لنا وضرب فما قال حس وجىء به من حسّك وبسّك ، وأنشد يصف امرأة ويشكوها :
تركت بيتي من
الأشياء
|
|
قفرا مثل أمس
|
كل شيء كنت
قد جمّ
|
|
عت من حسّى
وبسّى
|
(شُعُوباً) جمع شعب بفتح الشين وهو أعلى طبقات النسب وقال أبو حيان
: «الشعب الطبقة الأولى من الطبقات الست التي عليها العرب وهي الشعب والقبيلة
والعمارة والبطن والفخذ والفصيلة فالشعب يجمع القبائل والقبيلة تحمي العمائر
والعمارة تجمع البطون والبطن يجمع الأفخاذ والفخذ يجمع الفصائل ؛ خزيمة شعب وكنانة
قبيلة وقريش عمارة وقصي بطن وهاشم فخذ والعباس فصيلة وسمّيت الشعوب لأن القبائل
تشعبت منها ومنه اشتقّت الشعوبية بضم الشين وهم قوم يصغّرون شأن العرب سمّوا بذلك
لتعلقهم بظاهر قوله تعالى :«وجعلناكم شعوبا وقبائل» وقال ابن هبيرة في المحكم :
غلبت الشعوبية بلفظ الجمع على جيل من العجم حتى قيل لمحتقر أمر العرب شعوبى وإن لم
يكن منهم وأضافوا إلى الجمع لغلبته على الجيل الواحد كقولهم أنصاري.
الإعراب :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ
إِثْمٌ) اجتنبوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وكثيرا
مفعول به ومن الظن صفة لكثيرا وإن واسمها وخبرها إن وما في حيزها تعليل للنهي
فالجملة لا محل لها (وَلا تَجَسَّسُوا
وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) الواو حرف عطف ولا ناهية وتجسسوا فعل مضارع مجزوم بلا
ولا يغتب عطف على ولا تجسسوا وبعضكم فاعل وبعضا مفعول به (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ
لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) الهمزة للاستفهام التقريري ويحب فعل مضارع مرفوع وأحدكم
فاعل وأن وما في حيزها مفعول يحب وميتا حال من لحم أخيه ومن من الأخ والفاء
الفصيحة أي إن صحّ هذا فكرهتموه وكرهتموه فعل وفاعل ومفعول به والواو لإشباع ضمة
الميم وسيرد في باب البلاغة مزيد من بحثه (وَاتَّقُوا اللهَ
إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) الواو استئنافية واتقوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به
وإن واسمها وخبراها (يا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) إن واسمها وجملة خلقناكم خبرها ومن ذكر متعلقان
بخلقناكم وأنثى عطف على ذكر (وَجَعَلْناكُمْ
شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا) الواو حرف عطف وجعلناكم فعل وفاعل ومفعول به أول وشعوبا
مفعول به ثان واللام للتعليل وتعارفوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ
أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) إن واسمها وعند الله ظرف متعلق بمحذوف حال وأتقاكم
خبرها وإن واسمها وخبراها والجملتان المصدّرتان بإن مستأنفتان.
البلاغة :
في هاتين
الآيتين أفانين متنوعة من البلاغة ندرجها فيما يلى :
١ ـ التنكير في
قوله «كثيرا من الظن» والسر فيه إفادة معنى
البعضية للإيذان بأن في الظنون ما يجب أن يجتنب من غير تبيين لذلك ولا
تعيين لئلا يجترئ أحد على ظن إلا بعد تأمّل وبعد نظر وتمحيص واستشعار للتقوى والحذر
من أن يكون الظن طائش السهم ، بعيدا عن الإصابة ، وما أكثر الذين تسوّل لهم ظنونهم
ما ليس واقعا ولا يستند إلى شيء من اليقين.
٢ ـ الاستعارة
التمثيلية الرائعة في قوله تعالى «أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه»
فقد شبّه من يغتاب غيره بمن يأكل لحم أخيه ميتا وفيها مبالغات أولها الاستفهام
الذي معناه التقرير كأنه أمر مفروغ منه مبتوت فيه ، وثانيها جعل ما هو الغاية من
الكراهة موصولا بالمحبة ، وثالثها إسناد الفعل إلى كل أحد للإشعار بأن أحدا من
الأحدين لا يحبّ ذلك ، ورابعها أنه لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان
وهو أكره اللحوم وأبعثها على التقزّز حتى جعل الإنسان أخا ، وخامسها أنه لم يقتصر
على أكل لحم الأخ حتى جعله ميتا ومن ثم فصحت هذه الآية وأكبرها أصحاب البيان وقال
النبي صلى الله عليه وسلم «ما صام من ظل يأكل لحوم الناس» وفي صحيح مسلم عن أبي
هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أتدرون ما الغيبة؟ قالوا : الله
ورسوله أعلم قال ذكرك أخاك بما يكره قال : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول فقال إن
كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته.
وعن ابن عباس
أن سلمان كان يخدم رجلين من الصحابة ويسوّي لهما طعامهما فينام عن شأنه يوما
فبعثاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبغي لهما أداما وكان أسامة على طعام
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما عندي شيء فأخبرهما سلمان بذلك فعند ذلك
قالا لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها فلما راحا إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال لهما ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما ، فقالا : ما تناولنا لحما
فقال : إنكما قد اغتبتما فنزلت ...
ثم إن الغيبة
على ثلاثة أضرب :
١ ـ أن تغتاب
وتقول لست أغتاب لأني أذكر ما فيه فهذا كفر ، ذكره الفقيه أبو الليث في التنبيه
لأنه استحلال للحرام القطعي.
٢ ـ أن تغتاب
وتبلغ غيبة المغتاب فهذه معصية لا تتم التوبة عنها إلا بالاستحلال لأنه أذاه فكان
فيه حق العبد أيضا وهذا محمل قوله عليه الصلاة والسلام : الغيبة أشدّ من الزنا قيل
: وكيف؟ قال الرجل يزنى ثم يتوب عنه فيتوب الله عليه وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى
يغفر له صاحبه.
٣ ـ إن لم تبلغ
الغيبة فيكفيه التوبة والاستغفار له ولمن اغتابه ، فقد أخرج ابن أبى الدنيا عن أنس
رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كفّارة من اغتبته أن
تستغفر له.
(قالَتِ الْأَعْرابُ
آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ
الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ
مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا
وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ
الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦)
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا
تَمُنُّوا
عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨))
اللغة :
(يَلِتْكُمْ) ينقصكم ويظلمكم ، يقال ألته السلطان حقه أشدّ الألتة
وهي لغة غطفان وأسد ولغة أهل الحجاز لاته ليتا وقرئ باللغتين لا يلتكم ولا يألتكم
وفي السمين «قراءة أبي عمرو بالهمز من ألته يألته بالفتح في الماضي وبالكسر والضم
في المضارع وقراءة الآخرين بترك الهمز من لاته يليته كباعه يبيعه وقيل هو من ولته
يلته كوعده يعده».
الإعراب :
(قالَتِ الْأَعْرابُ
آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ
الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) قالت الأعراب فعل ماض وفاعل وجملة آمنا في محل نصب مقول
القول وجملة لم تؤمنوا في محل نصب مقول القول أيضا والواو حرف عطف ولكن حرف
استدراك مهمل وقولوا فعل أمر وفاعل وجملة أسلمنا مقول القول والواو للحال ولما حرف
نفي وجزم ويدخل فعل مضارع مجزوم بلما وما في لما من معنى التوقع دال على أنهم قد
آمنوا فيما بعد والإيمان فاعل وفي قلوبكم متعلقان بيدخل (وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا
يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الواو عاطفة وإن شرطية وتطيعوا فعل الشرط وعلامة جزمه
حذف النون والواو فاعل ولفظ الجلالة مفعول به ورسوله عطف على الله ولا نافية
ويلتكم فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الشرط ومن أعمالكم حال لأنه كان صفة
لشيئا وشيئا مفعول به ثان أو مفعول مطلق وإن واسمها وخبراها (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ
آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) إنما كافّة ومكفوفة والمؤمنون مبتدأ والذين خبر وجملة
آمنوا صلة وثم حرف عطف للتراخي والفائدة منه الإشارة إلى أن نفي الريب عنهم ليس في
وقت حصول الإيمان فيهم فقط بل هو مستمر بعد ذلك فيما يتطاول من أزمنة وآماد ولم
حرف نفي وقلب وجزم ويرتابوا فعل مضارع مجزوم بلم (وَجاهَدُوا
بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) وجاهدوا عطف على آمنوا وبأموالهم متعلقان بجاهدوا وكذلك
قوله في سبيل الله وأولئك مبتدأ وهم ضمير فصل أو مبتدأ ثان والصادقون خبر أولئك أو
خبرهم والجملة خبر أولئك (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ
اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ
وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) الهمزة للاستفهام الإنكاري وتعلمون فعل مضارع مرفوع
وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل ولفظ الجلالة مفعوله وبدينكم متعلقان بتعلمون
لأنه بمعنى التعريف والواو للحال والله مبتدأ وجملة يعلم خبر وما مفعول به وفي
السموات صلة والله مبتدأ وبكل شيء متعلقان بعليم وعليم خبر (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا
قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) يمنّون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وعليك متعلقان
بيمنّون وأن وما في حيزها نصب بنزع الخافض وقل فعل أمر وجملة لا تمنّوا مقول القول
وعليّ متعلقان بتمنّوا وإسلامكم نصب بنزع الخافض أيضا (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ
هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) بل حرف إضراب وعطف والله مبتدأ وجملة يمنّ عليكم خبر
وأن وما في حيزها نصب بنزع الخافض أيضا وللإيمان متعلقان بهداكم وإن شرطية وكنتم
صادقين في موضع جزم فعل الشرط وجوابه محذوف يدلّ عليه ما قبله أي فهو المانّ عليكم
(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ
غَيْبَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) إن واسمها وجملة يعلم خبرها والله مبتدأ وبصير خبر وبما
تعملون متعلقان ببصير.
البلاغة :
في قوله تعالى «قالت
الأعراب آمنّا» إلخ الآية فن سمّاه صاحب الصناعتين وغيره الاستدراك ، وغيره يسمّيه
الاستثناء ، وهو يتضمن ضربا من المحاسن زائدا على ما يدل عليه المدلول اللغوي
كقوله الآنف الذكر فإن الكلام لو اقتصر فيه على ما دون الاستدراك لكان منفرا لهم
لأنهم ظنوا الإقرار بالشهادتين من غير اعتقادهما إيمانا ، فأوجبت البلاغة تبيين
الإيمان فاستدرك ما استدركه من الكلام ليعلم أن الإيمان موافقة القلب للسان ولأن
انفرد اللسان بذلك يسمى إسلاما لا إيمانا وزاده إيضاحا بقوله «ولما يدخل الإيمان
في قلوبكم» وبعضهم يدخل هذا النوع في نطاق فن يقال له جمع المختلفة والمؤتلفة
فإنهم ظنوا أن الإيمان العمل باللسان دون العمل بالجنان فجاء قوله تعالى «ولكن
قولوا أسلمنا» مؤتلفا لقولهم آمنّا وهم يعتقدون أن الإيمان مجرد الإقرار باللسان
وخالف ذلك قوله تعالى «قل لم تؤمنوا» وائتلف به قوله مبينا حقيقة الإيمان وأنه
خلاف ما ظنوا بقوله سبحانه «ولما يدخل الإيمان في قلوبكم».
سورة ق
مكيّة وآياتها خمس
وأربعون
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(ق وَالْقُرْآنِ
الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ
الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ
بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ
حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ
(٥) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها
وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا
فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً
وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨))
اللغة :
(مَرِيجٍ) مضطرب وأصله من الحركة والاضطراب ومنه مرج الخاتم في
إصبعه إذا قلق من الهزال ، وفي المختار : «مرج الأمر والدين اختلط وبابه طرب وأمر
مريج مختلط» والمعنى أنهم لا يثبتون على رأي واحد فتارة يقولون : شاعر وتارة ساحر
وتارة كاهن.
الإعراب :
(ق وَالْقُرْآنِ
الْمَجِيدِ) تقدم القول في فواتح السور فجدد به عهدا ، والواو حرف
قسم وجر والقرآن مقسم به والمجيد صفة والجواب محذوف يدل عليه ما بعده وتقديره أنك
جئتهم منذرا بالبعث فلم يقبلوا بل عجبوا وقيل هو مذكور واختلفوا في تقديره فقيل هو
قد علمنا وقيل هو قوله ما يلفظ من قول والأول أولى وأرسخ عرقا في البلاغة ، وقدره
أبو البقاء لتبعثنّ أو لترجعنّ على ما دلّ عليه سياق الآيات (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ
مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) بل حرف عطف وإضراب ، أضرب عن جواب القسم المحذوف لبيان
حالتهم الزائدة في الشناعة والقبح ، وعجبوا فعل وفاعل وأن وما في حيزها في تأويل
مصدر منصوب بنزع الخافض أي من أن جاءهم ومنذر فاعل جاءهم ومنهم صفة لمنذر ، فقال
الفاء عاطفة وقال الكافرون فعل وفاعل وهذا مبتدأ وشيء خبر وعجيب صفة والجملة مقول
القول (أَإِذا مِتْنا
وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) الهمزة للاستفهام الإنكاري وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن متضمن معنى الشرط
ومتنا فعل وفاعل وجملة متنا في محل جر بإضافة الظرف إليها ، وناصب الظرف مضمر
معناه أحين نموت ونبلى نرجع لأن ما بعده دلّ عليه ، وكنّا كان واسمها وترابا خبرها
وذلك مبتدأ ورجع خبر وبعيد صفة أي مستبعد مستنكر من قولك هذا كلام بعيد أي بعيد من
الوهم والعادة (قَدْ عَلِمْنا ما
تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) كلام مستأنف مسوق للردّ على استبعادهم ما هو قريب من
مفهوم المؤمنين الذين شرح الله صدورهم ، وقد حرف تحقيق وعلمنا فعل وفاعل وما موصول
مفعول به وجملة تنقص الأرض صلة ومنهم متعلق بتنقص والواو حالية وعندنا ظرف متعلق
بمحذوف خبر مقدّم وكتاب مبتدأ مؤخر وحفيظ صفة والجملة حال (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا
جاءَهُمْ فَهُمْ
فِي
أَمْرٍ مَرِيجٍ) بل حرف إضراب وعطف إضراب انتقالي مما هو شنيع إلى ما هو
أشنع وأقبح وهو تكذيب النبوّة بعد إنكار البعث ، وكذبوا فعل وفاعل وبالحق متعلقان
بكذبوا ولما ظرفية حينية أو رابطة ، فهم الفاء عاطفة وهم مبتدأ وأمر خبر ومريج صفة
(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا
إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ
فُرُوجٍ) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء عاطفة على محذوف يطيح
بكل ما قالوه افتئاتا على الحق وإنكارا له أي أغفلوا وعملوا فلم ينظروا ولم حرف
نفي وقلب وجزم وإلى السماء متعلقان بينظروا وكيف اسم استفهام في محل نصب حال
وبنيناها فعل وفاعل ومفعول به والجملة بدل من السماء والواو للحال وما نافية ولها
خبر مقدّم ومن حرف جر زائد وفروج مجرور لفظا مبتدأ مؤخر محلا ، وفروج : فتوق وشقوق
وصدوع ، وهو جمع فرج (وَالْأَرْضَ
مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) الواو حرف عطف والأرض عطف على محل إلى السماء وهو النصب
على المفعولية ، ولك أن تنصب الأرض بفعل محذوف تقديره ومددنا الأرض وعلى الأول
تكون جملة مددناها حالية ، وألقينا عطف على مددنا وفيها متعلقان بألقينا ورواسي
مفعول به أي جبالا راسية ثوابت (وَأَنْبَتْنا فِيها
مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) وأنبتنا عطف على ما تقدم أيضا وفيها متعلقان بأنبتنا
ومن كل زوج متعلقان بأنبتنا أيضا وبهيج صفة لزوج (تَبْصِرَةً وَذِكْرى
لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) تبصرة وذكرى مفعول من أجله وقيل نصب بفعل مقدّر من
لفظهما أي على المفعولية المطلقة وقيل حالان من الفاعل أي مبصرين ومذكرين أو حال
من المفعول أي ذات تبصرة وذات تذكرة ولكل متعلقان بتبصرة وبذكرى وعبد مضاف إليه
ومنيب نعت لعبد.
البلاغة :
١ ـ في قوله : «ق»
إلى قوله «عجيب» فن التسجيع أو الإسجاع
وهو بحث طويل ألّف فيه علماء هذا الفن الكتب المطوّلة ، وهو أن يتوخى
المتكلم تسجيع جمل كلامه ، وهو على ضربين : ضرب تأتي فيه الجمل المسجعة مجملة
مندمجة في الجمل المهملة وضرب تأتي فيه الجمل المسجعة منفردة ، ومن الأول قول عبد
السلام بن غياث الحمصي المعروف بديك الجن : حر الإهاب وسيمه ، بر الإياب كريمه ،
محض النصاب حميمه. وسيأتي ذكر الضرب الثاني في سورة الرحمن.
٢ ـ في قوله «المجيد»
مجاز بالإسناد لأنه حال المتكلم لأن من علم أحكامه ومراميه ، وامتثل لأوامره
ونواهيه مجد.
(وَنَزَّلْنا مِنَ
السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩)
وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا
بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ
وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣))
(وَأَصْحابُ
الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينا
بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥))
اللغة :
(الْحَصِيدِ) الذي من شأنه يحصد.
(باسِقاتٍ) البسوق : الطول وفي المصباح : «بسقت النخلة بسوقا من
باب فقد طالت فهي باسقة والجمع باسقات وبواسق وبسق الرجل : مهر في عمله» قال
الشاعر :
لنا خمر
وليست خمر كرم
|
|
ولكن من نتاج
الباسقات
|
كرام في
السماء ذهبن طولا
|
|
وفات ثمارها
أيدي الجناة
|
ومن قولهم في
المعنى الثاني قول ابن نوفل في ابن هبيرة :
يا ابن الذين
بمجدهم
|
|
بسقت على قيس
فزاره
|
(نَضِيدٌ) متراكب بعضه فوق بغض وقد تقدم شرح معنى الطلع في قوله
تعالى «ومن طلعها قنوان».
(أَفَعَيِينا) من عيي بالأمر إذا لم يهتد لوجه علمه ، وعيي عن حجته
يعيا من باب عيا عجز عنه وقد يدغم الماضي فيقال عيّ فالرجل عيّ فالرجل عي وعيي على
فعل وفعيل وعيي بالأمر لم يهتد لوجهه وأعياني بالألف أتعبني ، فأعييت يستعمل
متعديا ولازما وأعيا في مشيه فهو معي منقوص. وفي المختار : «العيّ ضد البيان وقد
عيي في منطقه فهو عي على فعل وعيي يعيا بوزن رضي يرضى فهو عيي على فعيل ويقال أيضا
عي وعيي إذا لم يهتد لوجهه والإدغام أكثر وأعياه أمره».
(لَبْسٍ) شك وخلط وشبهة.
الإعراب :
(وَنَزَّلْنا مِنَ
السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ) الواو عاطفة ونزلنا فعل وفاعل ومن السماء متعلقان
بنزلنا وماء مفعول به ومباركا صفة ، فأنبتنا عطف على نزلنا وبه متعلقان بأنبتنا
وجنات مفعول به وحب الحصيد عطف على جنات ، أي وحب النبت المحصود ، وحذف الموصوف (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ
نَضِيدٌ) والنخل عطف على جنات وحب الحصيد وباسقات حال مقدّرة
لأنها في وقت الإنبات لم تكن طوالا ولها خبر مقدّم وطلع مبتدأ مؤخر ونضيد نعت لطلع
والجملة
حال من النخل الباسقات بطريق الترادف أو من الضمير في باسقات على طريق
التداخل (رِزْقاً لِلْعِبادِ
وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ) يجوز في رزقا أن يكون مفعولا من أجله أو مفعولا مطلقا
على أنه مصدر من معنى أنبتنا أو حالا أي مرزوقا للعباد أو ذا رزق وللعباد صفة لرزقا
ومتعلق به على أنه مصدر وأحيينا عطف على فأنبتنا وبه متعلق بأحيينا وبلدة مفعول به
وميتا نعت وكذلك خبر مقدم والخروج مبتدأ مؤخر وتقديم الخبر للحصر (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ
وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ) كلام مستأنف لبيان حقيقة راهنة عن البعث واتفاق جميع
الرسل عليه وقبلهم ظرف متعلق بكذبت وقوم نوح فاعل وما بعده عطف عليه (وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ) عطف على ما تقدم أيضا (وَأَصْحابُ
الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ) عطف أيضا وقد مرّت جميعا (كُلٌّ كَذَّبَ
الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) كل مبتدأ والتنوين فيه عوض عن كلمة أي كل رسول من
المذكورين وجملة كذب الرسل خبره والفاء عاطفة وحق فعل ماض ووعيد فاعل مضاف لياء
المتكلم وأصله وعيدي فحذفت الياء وبقيت الكسرة دليلا عليها (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ
بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) الهمزة للاستفهام أي لم نع به فلا نعيا بإعادته والفاء
عاطفة على محذوف تقديره أقصدنا الخلق فعجزنا عنه حتى يتوهم أحد عجزنا عن إعادته
وعيينا فعل وفاعل وبالخلق متعلقان بعيينا فالأول صفة للخلق وبل عطف على مقدّر
مستأنف مسوق لبيان شبهتهم وفضح سفسطتهم والتقدير هم غير منكرين لقدرتنا بل هم في
خلط وشبهة ، وهم مبتدأ وفي لبس خبر ومن خلق نعت للبس وجديد نعت لخلق.
البلاغة :
التعريف
والتنكير في تعريف الخلق الأول وتنكير اللبس والخلق الجديد لأغراض بلاغية معجزة ،
فالتعريف تنويه بفخامة ما قصد تعريفه
وتعظيمه ، ومثله تعريف الذكور في قوله تعالى «ويهب لمن يشاء الذكور» والقصد
منه جعله دليلا على إمكان الخلق الثاني بطريق الأولى لأنه إذا لم يع تعالى بالخلق
على عظمته وانفساحه واستيعابه لما يدهش العقول ويحير الأفكار فالخلق الآخر هو مجرد
إعادة أولى أن لا يعبأ به وأن لا يتجاوز مدى القدرة والإمكان فهذا سرّ تعريف الخلق
الأول ، وأما التنكير فأمره منقسم ، فمرة يقصد به تفخيم المنكر من حيث ما فيه من
الإبهام كأنه أفخم من أن يخاطبه معرفة ، ومرة يقصد به التقليل من المنكر والوضع
منه ، ومن الأول قوله تعالى «سلام قولا من رب رحيم» وقوله «لهم مغفرة وأجر عظيم»
وقوله «إن المتقين في جنات ونعيم» وهو أكثر من أن يحصى ، والثاني هو الأصل في
التنكير فلا يحتاج إلى تمثيله فتنكير اللبس من التعظيم والتفخيم كأنه قال : في لبس
أي وتنكير الخلق الجديد للتقليل منه والتهوين لأمره بالنسبة إلى الخلق الأول يحتمل
أن يكون للتفخيم وكأنه أمر أعظم من أن يرضى الإنسان بكونه ملتبسا عليه مع أنه أول
ما تبصر فيه صحته.
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ
مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ
وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ
عَتِيدٌ (١٨) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ
تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠))
اللغة :
(تُوَسْوِسُ) الوسوسة الصوت الخفي ومنها وسواس الحلي ،
ووسوسة النفس ما يخطر ببال الإنسان ويهجس في ضميره من حديث النفس.
(حَبْلِ الْوَرِيدِ) قال الزمخشري : «وحبل الوريد مثل في فرط القرب كقولهم
هو منّي معقد القابلة ومعقد الإزار وقال ذو الرمّة :
هل أغدونّ في
عيشة رغيد
|
|
والموت أدنى
لي من الوريد
|
أي لا أكون في
عيشة واسعة والحال أن الموت أقرب إليّ من الوريد ، والوريدان عرقان في مقدّم صفحتي
العنق سمّيا بذلك لأنهما يردان من الرأس أو لأن الروح تردهما وقد تقدم بحث وجه
إضافة الحبل إلى الوريد.
(عَتِيدٌ) حاضر ، وفي المصباح «عتد الشيء بالضم عتادا بالفتح حضر
فهو عتد بفتحتين وعتيد أيضا ويتعدى بالهمزة والتضعيف فيقال أعتده صاحبه وعتده إذا
أعدّه وهيأه ، وفي التنزيل : وأعتدت لهنّ متكأ».
الإعراب :
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ
مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) الواو استئنافية واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف
تحقيق وخلقنا الإنسان فعل ماض وفاعل ومفعول به والواو للحال بتقدير نحن وجملة نعلم
خبر مبتدأ مقدّر والجملة الاسمية في محل نصب على الحال المقدّرة ولك أن تجعل الواو
استئنافية فتكون الجملة مستأنفة وما مفعول به وجملة توسوس صلة ولك أن تجعل ما
مصدرية والتقدير ونعلم وسوسة نفسه له وبه متعلقان بتوسوس ونفسه فاعل ، ونحن الواو
عاطفة ونحن مبتدأ وأقرب خبر وإليه متعلقان بأقرب ومن حبل الوريد متعلقان بأقرب
أيضا (إِذْ يَتَلَقَّى
الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ
وَعَنِ
الشِّمالِ قَعِيدٌ) إذ يجوز أن يكون ظرفا لأقرب وأن يكون التقدير اذكر
وجملة يتلقى في محل جر بإضافة الظرف إليه والمتلقيان فاعل وعن اليمين خبر مقدم
والشمال عطف على اليمين وقعيد مبتدأ مؤخر والجملة في محل نصب على الحال من
المتلقيان (ما يَلْفِظُ مِنْ
قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ما نافية ويلفظ فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر تقديره هو
يعود على الإنسان ومن حرف جر زائد وقول مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول يلفظ
وإلا أداة حصر ولديه ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم ورقيب عتيد مبتدأ مؤخر وهو
واحد في اللفظ والمعنى رقيبان عتيدان أو ملكان موصوفان بأنهما رقيبان عتيدان وقيل
لا حاجة إلى هذا التقدير بل الأولى جعل الوصفين لشيء واحد أي إلا لديه ملك موصوف
بأنه رقيب عتيد أي حافظ حاضر (وَجاءَتْ سَكْرَةُ
الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) كلام مستأنف مسوق لبيان ما يلاقونه من الموت والبعث وما
يترتب عليهما من الأهوال ، وجاءت سكرة الموت فعل وفاعل وبالحق حال أي حال كونها
ملتبسة بالحق فالباء للملابسة وقيل هي للتعدية يعني وأحضرت سكرة الموت حقيقة الأمر
الذي أنطق الله به كتبه وبعث به رسله ورجح الزمخشري هذا الوجه ، وذلك مبتدأ وما
خبر وكان واسمها ومنه متعلقان بتحيد وجملة تحيد خبر كنت وجملة كنت صلة ما وجملة
ذلك ما كنت مقول قول محذوف أي ويقال له في وقت الموت ذلك الأمر الذي رأيته لا الذي
كنت منه تحيد في حياتك فلم ينفعك الهرب وما أنجاك الفرار (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ
الْوَعِيدِ) عطف على وجاءت سكرة الموت ونفخ فعل ماض مبني للمجهول
وفي الصور متعلقان بنفخ وذلك مبتدأ ويوم الوعيد خبره والإشارة إلى مصدر نفخ.
(وَجاءَتْ كُلُّ
نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا
فَكَشَفْنا
عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢) وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما
لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤)
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً
آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما
أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ
وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ
وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ
وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠))
الإعراب :
(وَجاءَتْ كُلُّ
نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) الواو عاطفة وجاءت كل نفس فعل وفاعل ومعها ظرف مكان
متعلق بمحذوف خبر مقدم وسائق مبتدأ مؤخر وشهيد عطف على سائق والجملة الاسمية في
محل رفع صفة لكل أو في محل نصب صفة لها أي معها من يسوقها ويشهد عليها ولك أن
تجعلها حالية (لَقَدْ كُنْتَ فِي
غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) الجملة مقول قول محذوف أي يقال لكل نفس واللام جواب
للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وكان واسمها وفي غفلة خبرها ومن هذا متعلقان بغفلة
والفاء حرف عطف وكشفنا فعل وفاعل وعنك متعلقان بكشفنا وغطاءك مفعول به والفاء
عاطفة وبصرك مبتدأ واليوم ظرف متعلق بمحذوف حال وحديد خبر بصرك (وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ
عَتِيدٌ) الواو عاطفة وقال قرينه فعل وفاعل والمراد بالقرين
الملك الموكل به أو الشيطان الذي سوّل له الشر وهذا مبتدأ وما يجوز أن تكون
نكرة موصوفة وعتيد صفتها ولدي ظرف متعلق بعتيد أي هذا شيء عتيد لدي أي حاضر عندي
ويجوز على هذا أن يكون لدي وصفا لما وعتيد صفة ثانية أو خبر لمبتدأ محذوف أي هو
عتيد ويجوز أن تكون ما موصولة بمعنى الذي ولدي صلتها وعتيد خبر الموصول والموصول
وصلته خبر اسم الإشارة ويجوز أن تكون ما بدلا من هذا موصولة أو موصوفة بلدي وعتيد
خبر هذا ، وجوّز الزمخشري في عتيد أن يكون بدلا أو خبرا بعد خبر أو خبر مبتدأ
محذوف وفيما يلي نص إعراب الزمخشري قال : «فإن قلت : كيف إعراب هذا الكلام؟ قلت :
إن جعلت ما موصوفة فعتيد صفة لها وإن جعلتها موصولة فهو بدل أو خبر بعد خبر أو خبر
مبتدأ محذوف». وقال أبو البقاء : «قوله تعالى : هذا مبتدأ وفي ما وجهان أحدهما هي
نكرة وعتيد صفتها ولدي معمول عتيد ويجوز أن يكون لدي صفة أيضا فيتعلق بمحذوف وما
وصفتها خبر هذا والوجه الثاني أن تكون ما بمعنى الذي فعلى هذا تكون ما مبتدأ ولدي
صلة وعتيد خبر ما والجملة خبر هذا ويجوز أن تكون ما بدلا من هذا ويجوز أن يكون
عتيد خبر مبتدأ محذوف ويكون ما لدي خبرا عن هذا أي هو عتيد ولو جاء ذلك في غير
القرآن لجاز نصبه على الحال».
(أَلْقِيا فِي
جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) الجملة مقول قول محذوف أي يقال ألقيا ، وألقيا فعل أمر
مبني على حذف النون لاتصاله بألف الاثنين ، قيل خاطب الملكين السائق والشهيد وقيل
هو خطاب للواحد وأخرج الكلام مخرج الخطاب مع الاثنين لأن العرب من عادتهم إجراء
خطاب الاثنين على الواحد والجمع فمن ذلك قول امرئ القيس :
قفا نبك من
ذكرى حبيب ومنزل
|
|
بسقط اللوى
بين الدخول فحومل
|
وقول الآخر :
فإن تزجراني
يا ابن عفان أنزجر
|
|
وإن ترعياني
أحم عرضا ممنعا
|
خاطب الواحد
خطاب الاثنين وإنما فعلت العرب ذلك لأن الرجل يكون أدنى أعوانه اثنين : راعي إبله
وراعي غنمه ، وكذلك الرفقة أدنى ما تكون ثلاثة فجرى خطاب الاثنين على الواحد لمرور
ألسنتهم عليه ويجوز أن يكون المراد به ألق ألق وقف قف فإلحاق الألف أمارة دالّة
على أن المراد تكرير اللفظ كما قال أبو عثمان المازني في قوله تعالى : رب ارجعون ،
والمراد منه أرجعني أرجعني أرجعني فجعلت الواو علما مشعرا بأن المعنى تكرير اللفظ
مرارا وقيل أراد ألقين وأراد امرؤ القيس فقن على جهة التأكيد فقلب النون ألفا في
حال الوصل لأن هذه النون تقلب أيضا في حال الوقف فحمل الوصل على الوقف ، ألا ترى أنك
لو وقفت على قوله تعالى «لنسفعن» قلت : لنسفعا ومنه قول الأعشى :
وصلّ على حين
العشيات والضحى
|
|
ولا تحمد
الشيطان والله فاحمدا
|
أراد فاحمدن
فقلب نون التوكيد ألفا. وفي جهنم متعلقان بألقيا وكلّ كفّار مفعول به وعنيد صفة
لكفّار (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ
مُعْتَدٍ مُرِيبٍ) صفات متتابعة (الَّذِي جَعَلَ مَعَ
اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ) الذي يجوز أن يكون بدلا من كل فيكون في محل نصب أو بدلا
من كفّار فيكون في محل جر وأن يكون منصوبا على الذم وأن يكون مبتدأ فيكون في محل
رفع وجملة جعل صلة ومع الله ظرف متعلق بمحذوف مفعول به ثان وإلها آخر مفعول به أول
والفاء رابطة لشبه الموصول بالشرط في العموم ، وألقياه فعل أمر وفاعل ومفعول به
والجملة خبر الذي إذا جعلت خبرا والأول أرجح وفي العذاب متعلقان بألقياه والشديد
نعت للعذاب (قالَ قَرِينُهُ
رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) قال قرينه فعل وفاعل وربنا منادى مضاف وما نافية
وأطغيته فعل وفاعل ومفعول به ولكن حرف استدراك مهمل لأنه خفّف وكان فعل ماض ناقص
واسمها
مستتر تقديره هو وفي ضلال متعلقان بمحذوف خبر كان وبعيد صفة لضلال وجملة
قال قرينه مستأنفة ولذلك جاءت بلا واو ، قال الزمخشري : «فإن قلت لم أخليت هذه
الجملة عن الواو وأدخلت على الأولى قلت لأنها استؤنفت كما تستأنف الجمل الواقعة في
حكاية التقاول كما رأيت في حكاية المقاولة بين موسى وفرعون فإن قلت : فأين التقاول
هاهنا؟ قلت : لما قال قرينه هذا ما لديّ عتيد ، وتبعه قوله : قال ربنا ما أطغيته ،
وتلاه : لا تختصموا لديّ ، علم أن ثم مقاولة من الكافر لكنها طرحت لما يدل عليها
كأنه قال رب هو أطغاني فقال قرينه ربنا ما أطغيته ، وأما الجملة الأولى فواجب
عطفها للدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها في الحصول أعني مجيء كل نفس مع
الملكين وقول قرينه ما قال له» (قالَ لا تَخْتَصِمُوا
لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) لا ناهية وتختصموا فعل مضارع مجزوم والجملة مقول القول
ولدي ظرف متعلق بتختصموا والواو للحال وقد حرف تحقيق وقدمت فعل وفاعل وإليكم متعلقان
بقدمت والباء في بالوعيد مزيدة مثلها في ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة أو معدية ،
على أن قدم مطاوع بمعنى تقدم ويجوز أن يقع الفعل على جملة قوله ما يبدل القول لدي
وما أنا بظلّام للعبيد ويكون بالوعيد حالا أي قدمت إليكم هذا ملتبسا بالوعيد
مقترنا به أو قدمته إليكم موعدا لكم به (ما يُبَدَّلُ
الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ما نافية ويبدل فعل مضارع مبني للمجهول والقول نائب
فاعل ولدي ظرف متعلق بيبدل والواو حرف عطف وما نافية حجازية وأنا اسمها والباء حرف
جر زائد وظلّام مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما وللعبيد متعلقان بظلّام (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ
امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) يوم لك في ناصبه وجهان : أن تجعله منصوبا باذكر مقدّرا
أو تعلقه بظلام لأنه إذا لم يظلم في هذا اليوم فنفى الظلم عنه في غيره أولى وجملة
نقول لجهنم في محل جر بإضافة الظرف إليه وجملة هل
امتلأت مقول القول وتقول عطف على نقول وهل حرف استفهام ومن حرف جر زائد
ومزيد مجرور لفظا مرفوع على الابتداء محلا وخبره محذوف تقديره موجود.
البلاغة :
١ ـ في قوله «فكشفنا
عنك غطاءك» كناية عن الغفلة كأنها غطّت جميعه أو عينيه فهو لا يبصر ، فإذا كانت
القيامة زالت عنه الغفلة فتكشفت له الحقائق وانجلى عنه الرين الذي كان مسدولا
أمامه فأبصر ما لم يكن يبصره في حياته ، ويجوز أن يكون الغطاء استعارة تصريحية
جعلت الغفلة كأنها غطاء غطى به جسده كله أو غشاوة غطى بها عينيه فهو لا يبصر شيئا.
٢ ـ الاستعارة
المكنية : يجوز حمل قوله تعالى «يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد» على
الاستعارة المكنية التخييلية ، وعلى هذا درج المعتزلة ومن قال بقولهم من أهل
السنّة ، قال الزمخشري : «وسؤال جهنم وجوابها من باب التخييل الذي يقصد به تصوير
المعنى في القلب وتثبيته ، وفيه معنيان أحدهما أنها تمتلئ مع اتساعها وتباعد
أطرافها حتى لا يسعها شيء ولا يزاد على امتلائها لقوله تعالى : لأملأنّ جهنم ،
والثاني أنها من السعة بحيث يدخلها من يدخلها وفيها موضع للمزيد ، ويجوز أن يكون
هل من مزيد استكثارا للداخلين فيها أو طلبا للزيادة غيظا على العصاة والمزيد إما
مصدر كالمحيد والمحيد وإما اسم مفعول كالمبيع» ويجوز حمله على الحقيقة ، وقد جرى
جمهور أهل السنّة على الحقيقة وأنكروا على الزمخشري وغيره إطلاق التخييل وقالوا هو
منكر لفظا ومعنى. أما لفظا فلأنه من الألفاظ الموهمة في حق جلال الله تعالى وإن
كانت معانيها صحيحة وأيّ إيهام
أشد من إيهام لفظ التخييل ، ألا ترى كيف استعمله الله فيما أخبر أنه سحر
وباطل في قوله يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فلا يشك في وجوب اجتنابه ، وأما
المعنى فلأن أهل السنّة يعتقدون أن سؤال جهنم وجوابها حقيقة وأن الله تعالى يخلق
فيها الإدراك بذلك بشرطه. هذا وقد تعلق الشعراء بأهداب هذه البلاغة العالية وكان
أول من رمق سماءها الفرزدق إذ قال في زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب
في قصيدته التي أولها :
هذا الذي
تعرف البطحاء وطأته
|
|
والبيت يعرفه
والحلّ والحرم
|
فقال :
يكاد يمسكه
عرفان راحته
|
|
ركن الحطيم
إذا ما جاء يستلم
|
وتبعه أبو تمام
:
لو يعلم
الركن من قد جاء يلثمه
|
|
لخرّ يلثم
منه موطئ القدم
|
وأخذه البحتري
وأجاد :
فلو أن
مشتاقا تكلف فوق ما
|
|
في سعة لسعى
إليك المنبر
|
ونهج المتنبي
هذا النهج بقوله :
لو تعقل
الشجر التي قابلتها
|
|
مدّت محيّية
إليك الأغصنا
|
أما في
الجاهلية فقد ورد هذا المعنى في قول عنترة واصفا فرسه من معلقته :
فازور من وقع
القنا بلبانه
|
|
وشكا إليّ
بعبرة وتحمحم
|
هذا ولا
يفوتنّك ما في هذه الاستعارة من جمال التخييل الحسّي والتجسيم لجهنم المتغيظة
والنهمة التي لا تشبع وقد تهافت عليها أولئك
الذين كانوا يصمّون في دنياهم آذانهم عن الدعوة إلى الهدى ، ويصرّون على
غيّهم ولجاجهم وها هم الآن يستجيبون لدعوتها مرغمين.
(وَأُزْلِفَتِ
الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ
أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ
مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ ما
يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ
هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ
شَهِيدٌ (٣٧))
اللغة :
(وَأُزْلِفَتِ) وقربت تقول أزلفه : قربه وأزلف الأشياء : جمعها وأزلف
الدليل القوم : حملهم على التقدم ، وأزعجهم مزلفة بعد مزلفة أي مرحلة بعد مرحلة.
(مَحِيصٍ) : معدل وفي القاموس : «حاص عنه يحيص حيصا وحيصة وحيوصا
ومحيصا ومحاصا وحيصانا عدل وحاد كانحاص أو يقال للأولياء حاصوا وللأعداء انهزموا
والمحيص المحيد والمعدل والمميل والمهرب ودابة حيوص نفور والحيصاء الضيقة الحياء»
وقال في مادة بيص «ووقع في حيص بيص وحيص بيص وحيص بيص وحيص بيص بفتح أولهما
وآخرهما وبكسرهما وبفتح أولهما وكسر آخرهما وقد
يجريان في الثانية وفي حاص باص أي اختلاط لا محيص عنه وجعلتم الأرض عليه
حيص بيص وحيصا بيصا ضيقتم عليه حتى لا يتصرف فيها» وحيص بيص لقب الشاعر التميمي
شهاب الدين ، وحيصة بيصة لفظتان رويتا عنه في وصفه زحمة الناس فتغلبتا على اسمه
ولقب بهما ، له شعر في الوصف والهجاء والمديح ، لغته عربية قحة ، توفي في بغداد
سنة ١١٧٩ م.
الإعراب :
(وَأُزْلِفَتِ
الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) الواو حرف عطف وأزلفت فعل ماض مبني للمجهول والجنة نائب
فاعل وللمتقين متعلقان بأزلفت وغير بعيد منصوب على الظرفية لقيامه مقام الظرف لأنه
صفته أي مكانا غير بعيد ، وأجاز الزمخشري نصبه على الحال قال : «وتذكيره لأنه على
زنة المصدر كالزئير والصليل والمصادر يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث أو على
حذف الموصوف أي شيئا غير بعيد» (هذا ما تُوعَدُونَ
لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) هذا مبتدأ وما خبره وجملة توعدون صلة ولكل جار ومجرور
بدل من قوله للمتقين بتكرير الجار وجملة هذا ما توعدون اعتراضية فصل بها بين البدل
والمبدل منه (مَنْ خَشِيَ
الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) من بدل من كل بعد كون كل بدلا من المتقين إلا أنه بدل
من المتقين أيضا لأن تكرر البدل مع كون المبدل منه واحدا لا يجوز ، ويجوز أن يكون
خبرا لمبتدأ محذوف أي هم من خشي أو مبتدأ خبره جملة ادخلوها بسلام كما سيأتي لأن
من في معنى الجمع ، وأجاز الزمخشري أن يكون منادى كقولهم من لا يزال محسنا أحسن
إليّ ، وحذف حرف النداء للتقريب وجملة خشي الرحمن صلة وبالغيب حال من المفعول به
أي خشيه وهو غائب لا يعرفه (ادْخُلُوها بِسَلامٍ
ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) الجملة مقول قول محذوف كما تقدم وادخلوها فعل وفاعل
ومفعول به وبسلام حال من الفاعل أي سالمين من كل مخوفة فهي حال مقارنة وذلك
مبتدأ ويوم الخلود خير (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ
فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) لهم خبر مقدم ما ومبتدأ مؤخر وجملة يشاءون صلة وفيها
حال من الموصول أو متعلق بيشاءون ولدينا ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم ومزيد مبتدأ
مؤخر (وَكَمْ أَهْلَكْنا
قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ
هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لذكر إهلاك قرون
ماضية وكم خبرية منصوبة بما بعدها على المفعولية وأهلكنا فعل وفاعل وقبلهم ظرف
متعلق بمحذوف حال ومن قرن تمييز كم الخبرية وهم مبتدأ وأشد خبر والجملة صفة لكم أو
لتمييزها ومنهم متعلقان بأشد وبطشا تمييز ، فنقبوا الفاء عاطفة ونقبوا فعل وفاعل
والعطف على المعنى كأنه اشتد بطشهم فنقبوا وفي البلاد متعلقان بنقبوا ، وهل حرف
استفهام ومن حرف جر زائد ومحيص مجرور لفظا مرفوع على الابتداء محلا والخبر محذوف
تقديره لهم أو لغيرهم وجملة هل من محيص مقول قول محذوف وجملة القول حالية من واو
نقبوا أي فنقبوا في البلاد قائلين هل من محيص (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) إن حرف مشبّه بالفعل وفي ذلك خبر إن المقدّم واللام
المزحلقة للتأكيد وذكرى اسم إن ولمن متعلقان بمحذوف صفة لذكرى وجملة كان صلة وله
خبر كان المقدم وقلب اسمها المؤخر وأو حرف عطف وألقى السمع فعل وفاعل مستتر ومفعول
به والواو حالية وهو مبتدأ وشهيد خبر.
البلاغة :
في قوله تعالى «لمن
خشي الرحمن بالغيب» إذ كيف تقترن الخشية باسم الرحمن الدّال على سعة الرحمة
والجواب أن في ذلك
مبالغة في الثناء على الخاشي لأنه إذا خشيه وهو عالم بسعة رحمته فناهيك
بخشيته التي ما بعدها خشية ، كما أثنى عليه بالخشية مع أن المخشي منه غائب.
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ
لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ
طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ
وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ
قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ
(٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ
تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ
أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ
بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (٤٥))
اللغة :
(لُغُوبٍ) تعب وفي المختار «اللغوب بضمتين التعب والإعياء وبابه
دخل ، ولغب بالكسر لغوبا لغة ضعيفة» وفي المصباح أنه من باب قتل وفي القاموس : أنه
من باب منع وكرم أيضا.
(أَدْبارَ) بفتح الهمزة جمع دبر بضمتين وقرئ بكسر الهمزة على أنه
مصدر قام مقام ظرف الزمان ، وقد قرأها نافع وابن كثير وحمزة ، وقال جماعة من الصحابة
والتابعين : إدبار السجود الركعتان بعد المغرب وإدبار النجوم الركعتان قبل الفجر.
الإعراب :
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ
لُغُوبٍ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق للردّ على اليهود
الذين قالوا إن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استراح واستلقى على العرش
يوم السبت فلذلك تركوا العمل فيه. واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وخلقنا
فعل وفاعل والسموات مفعول به والأرض عطف على السموات وفي ستة أيام متعلقان بخلقنا
والواو عاطفة أو حالية وما نافية ومسّنا فعل ماض ونا مفعول به ومن حرف جر زائد
ولغوب مجرور لفظا مرفوع محلا لأنه فاعل (فَاصْبِرْ عَلى ما
يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ
الْغُرُوبِ) الفاء الفصيحة واصبر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت
وعلى ما يقولون متعلقان باصبر وسبّح فعل أمر وبحمد ربك حال من فاعل سبّح أي صلّ
حامدا وقبل طلوع الشمس ظرف متعلق بسبّح وقبل الغروب عطف على الظرف (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ
وَأَدْبارَ السُّجُودِ) الواو عاطفة ومن الليل متعلق بسبّح والفاء عاطفة وسبّحه
فعل أمر وفاعل مستتر والهاء مفعول به وأدبار السجود ظرف (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ
مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) عطف على ما تقدم واستمع فعل أمر وفاعله مستتر تقديره
أنت ومفعوله محذوف أي واستمع نداء المنادي والظرف متعلق باستمع وقيل تقدير المفعول
ما أقول لك فعلى هذا يكون يوم منصوبا بيخرجون مقدّرا مدلولا عليه بقوله ذلك يوم
الخروج وحذفت ياء ينادي اتباعا للرسم والمناد فاعل وحذفت الياء في بعض القراءات
للرسم أيضا ومن مكان متعلقان بينادي وقريب نعت والمنادي هو إسرافيل وقيل هو جبريل
والنافخ إسرافيل ورجحه الشهاب الخفاجي (يَوْمَ يَسْمَعُونَ
الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) الظرف بدل من الظرف الأول وجملة يسمعون في محل جر
بإضافة إذا إليها والصيحة مفعول به وبالحق حال من الواو في يسمعون أو من
الصيحة وذلك مبتدأ ويوم الخروج خبر (إِنَّا نَحْنُ
نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ) إن واسمها ونحن ضمير فصل أو مبتدأ وجملة نحيي خبر إنا
أو خبر نحن والجملة خبر إن وإلينا خبر مقدم والمصير مبتدأ مؤخر (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ
سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) الظرف بدل مما قبله ومنعه بعضهم لتعدده وعلّقه بالمصير
وجملة تشقق في محل جر بإضافة الظرف إليها وأصل تشقق تتشقق وقرئ بتشديد الشين
بإدغام التاء الثانية فيها والأرض فاعل وعنهم متعلقان بتشقق وسراعا حال من الضمير
في عنهم وذلك مبتدأ وحشر خبر وعلينا متعلق بيسير ويسير خبر ذلك (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما
أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) نحن مبتدأ وأعلم خبر وبما متعلقان بأعلم وما موصولة أو
مصدرية والواو حرف عطف وما نافية حجازية وأنت اسمها وعليهم متعلقان بجبار والباء
حرف جر زائد وجبار مجرور بالباء لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ
وَعِيدِ) الفاء الفصيحة وذكر فعل أمر وبالقرآن متعلقان بذكر ومن
مفعول به وجملة يخاف صلة ووعيد مفعول يخاف وحذفت ياء المتكلم اتباعا للرسم.
سورة الذاريات
مكيّة وآياتها ستّون
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَالذَّارِياتِ
ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣)
فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ
لَواقِعٌ (٦) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ
(٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي
غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ
عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ
تَسْتَعْجِلُونَ (١٤))
اللغة :
(الذَّارِياتِ) الرياح لأنها تذرو التراب وغيره أي تطيره.
(الحاملات)
السحاب لأنها تحمل المطر.
(وِقْراً) بكسر الواو أي ثقلا.
(الْحُبُكِ) التكسر الذي يبدو على وجه الماء إذا ضربته الريح ، قال
البحتري يصف بركة المتوكل :
إذا علتها
الصبا أبدت لها حبكا
|
|
مثل الجواشن
مصقولا حواشيها
|
وفي الكشاف : «الحبك
: الطرائق مثل حبك الماء والرمل إذا ضربته الريح وكذلك حبك الشعر آثار تثنيه
وتكسره قال زهير :
مكلل بأصول
النجم تنسجه
|
|
ريح خريق
لضاحي مائه حبك
|
والدرع محبوكة
لأن حلقها مطرّق طرائق» يصف زهير قطاة فرّت من صقر حتى استغاثت منه بماء قريب
وقبله :
حتى استغاثت
بماء لا رشاء له
|
|
من الأباطح
في حافاته البرك
|
وبعده :
كما استغاث
بسيء فزّ غيطلة
|
|
خاف العيون
فلم ينظر به الحشك
|
يقول إن هذا
الماء القريب لا رشاء له أي لا حبل يستقى به منه لعدم احتياجه إليه من الأباطح أي
في الأمكنة المتسعة المستوية وفي حافّاته أي جوانبه والبرك جمع بركة وهو نوع من
طير الماء يكلل ذلك الماء بأصول النجم أي النبات الذي لا ساق له وتنسجه أي تثنيه
ثنيا منتظما كالنسج فهو استعارة تصريحية والخريق الباردة والشديدة السير والضاحي
الفاهر والحبك الطرق في الماء إذا ضربته الريح جمع حبيكة ، السيئ بالفتح والكسر
اللبن في طرف الثدي والغزّ ولد البقر الوحشية والغيطلة الشجر الملتف وأضيف الغز
إليها لأنه فيها والعيون هنا رقباء الصيد وحشكت الدرة باللبن حشكا وحشوكا امتلأت
به وفيه دلالة على أنها كانت ظمأى.
(الْخَرَّاصُونَ) الكذّابون والخرص الظن والحدس ، يقال : كم
خرص أرضك؟ بكسر الخاء ، وأصل الخرص القطع من قولهم خرص فلان كلاما واخترصه
إذا اقتطعه من غير أصل.
(غَمْرَةٍ) الغمرة من غمره الماء يغمره إذا غطّاه والمراد بها هنا
الجهل.
الإعراب :
(وَالذَّارِياتِ
ذَرْواً) الواو حرف قسم وجر والذاريات مجرور بواو القسم والجار
والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم وذروا مفعول مطلق والعامل فيه اسم الفاعل
والمفعول محذوف (فَالْحامِلاتِ
وِقْراً) الفاء حرف عطف والحاملات عطف على الذاريات ووقرا مفعول
به لاسم الفاعل ومن فتح الواو اعتبرها مصدرا بناء على تسمية المحمول به.
(فَالْجارِياتِ
يُسْراً) الفاء حرف عطف والجاريات عطف على ما قبله أيضا ويسرا
مصدر في موضع الحال على رأي سيبويه أي جريا ذا يسر ويجوز أن يعرب صفة لمصدر محذوف
نابت عنه فهو مفعول مطلق (فَالْمُقَسِّماتِ
أَمْراً) الفاء عاطفة والمقسمات معطوف أيضا وأمرا مفعول به لاسم
الفاعل (إِنَّما تُوعَدُونَ
لَصادِقٌ) إن حرف مشبّه بالفعل وما اسم موصول اسمها وجملة توعدون
صلة والعائد محذوف أي توعدونه واللام المزحلقة وصادق خبر إن ويجوز أن تكون ما
مصدرية فتكون وما في حيزها مؤولة بمصدر هو اسم إن أي إن وعدكم لصادق والجملة لا
محل لها لأنها جواب القسم (وَإِنَّ الدِّينَ
لَواقِعٌ) عطف على ما تقدم (وَالسَّماءِ ذاتِ
الْحُبُكِ) الواو حرف قسم وجر وبالسماء مجرور بواو القسم والجار
والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم وذات الحبك نعت للسماء (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) إن واسمها واللام المزحلقة وفي قول
متعلقان بمحذوف خبر إن ومختلف نعت لقول والجملة لا محل لها أيضا لأنها جواب
القسم (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ
أُفِكَ) الضمير للقرآن أو للرسول أي يصرف عنه من صرف الصرف الذي
لا صرف أشدّ منه وأعظم (قُتِلَ
الْخَرَّاصُونَ) الجملة دعائية لا محل لها وقتل فعل ماض مبني للمجهول
والخرّاصون وهم مبتدأ وفي غمرة متعلقان بساهون وساهون خبرهم والجملة الاسمية لا
محل لها لأنها صلة الموصول (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ
يَوْمُ الدِّينِ) يسألون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل وأيّان
اسم استفهام في محل نصب ظرف زمان وهو متعلق بمحذوف خبر مقدّم ويوم الدين مبتدأ مؤخر
والجملة في محل نصب مفعول يسألون (يَوْمَ هُمْ عَلَى
النَّارِ يُفْتَنُونَ) يوم مفعول فيه ظرف زمان متعلق بفعل محذوف تقديره يقع أو
يجيء وهم مبتدأ وجملة يفتنون خبره وعلى النار متعلقان بيفتنون وعلى بمعنى في
والجملة في محل جر بإضافة يوم إليها ، وسيأتي مزيد من هذا الإعراب في باب الفوائد (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي
كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) الجملة مقول قول محذوف أي ويقال لهم حين التعذيب :
ذوقوا. وذوقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وفتنتكم مفعول به وهذا
مبتدأ والذي اسم موصول خبره وجملة كنتم صلة وكان واسمها وبه متعلقان بتستعجلون
وجملة تستعجلون خبر كنتم.
البلاغة :
١ ـ الكناية عن
الموصوف : في قوله «يؤفك عنه من أفك» كناية عن موصوف وهو المكذب الجاحد للحق
والضمير في عنه يعود للقرآن أو للرسول أي يصرف عنه من صرف صرفا لا أشد منه ولا
أعظم وقيل يعود إلى يوم القيامة ، أقسم بالذاريات على أن وقوع أمر القيامة حق ثم
أقسم
بالسماء على أنهم في قول مختلف في وقوعه فمنهم شاك ومنهم جاحد ثم قال يؤفك
عن الإقرار بيوم القيامة من هو المأفوك ، وفائدة الكناية هنا أنه لما خصص هذا بأنه
هو الذي صرف أفهم أن غيره لم يصرف فكأنه قال : لا يثبت الصرف في الحقيقة إلا لهذا
وكل صرف دونه يعتبر بمثابة المعدوم بالنسبة إليه.
٢ ـ الاستعارة
المكنية : وفي قوله «ذوقوا فتنتكم» شبّه العذاب بطعام يؤكل ثم حذف المشبّه به
واستعير له شيء من لوازمه وهو الذوق وقد تقدم نظيره ، وقيل إن أصل معنى الفتنة إذابة
الجوهر ليظهر غشّه ثم استعمل في التعذيب والإحراق ، وفي القاموس : «الفتن بالفتح
الفن والحال ومنه العيش فتنان أي لونان حلو ومر ، والإحراق ، ومنه على النار
يفتنون».
الفوائد :
قال الزجّاج : «يوم
نصب على وجهين أحدهما أن يكون على معنى يقع الجزاء يوم هم على النار يفتنون والآخر
أن يكون لفظه لفظ نصب ومعناه معنى رفع لأنه مضاف إلى جملة كلام ، تقول يعجبني يوم
أنت قائم ويوم أنت تقوم إن شئت فتحته وإن شئت رفعته كما قال الشاعر :
لم يمنع
الشرب منها غير أن نطقت
|
|
حمامة في
غصون ذات أرقال
|
وروى غير أن
نطقت بالرفع لما أضاف غير إلى أن وليست متمكّنة فتح وكذلك لما أضاف يوم إلى الجملة
فتح.
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ
كانُوا
قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ
(١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي
أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ
(٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ
تَنْطِقُونَ (٢٣))
اللغة :
(يَهْجَعُونَ) الهجوع الفرار من النوم أي القليل منه ، وفي المختار : «الهجوع
النوم ليلا وبابه خضع والهجعة : النومة الخفيفة ويقال أتيت فلانا بعد هجعة أي بعد
نومة خفيفة من الليل» وقال الشاعر :
قد حصت
البيضة رأسي فما
|
|
أطعم نوما
غير تهجاع
|
أسعى على جل
بني مالك
|
|
وكل امرئ في
شأنه ساع
|
والشعر لقيس
الأسلت ، وحصت : أهلكت أو حلقت البيضة التي تلبس على الرأس في الحرب أي حلقت شعر
رأسي من دوام لبسها للحرب ، وشبّه النوم بالمطعوم على طريق الاستعارة المكنية.
الإعراب :
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) إن واسمها وفي جنات متعلقان بمحذوف خبرها وعيون عطف على
جنات (آخِذِينَ ما آتاهُمْ
رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ
كانُوا
قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) آخذين حال من الضمير المستكن في خبر إن أي استقروا
راضين بما أعطاهم مسرورين به وما اسم موصول في محل نصب مفعول به لآخذين وجملة
آتاهم ربهم صلة وإن واسمها وجملة كانوا خبرها والجملة تعليل لما ذكر وقبل ذلك ظرف
متعلق بمحسنين ومحسنين خبر كانوا (كانُوا قَلِيلاً مِنَ
اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) الجملة تفسيرية لا محل لها لأنها تفسير لإحسانهم وكان
واسمها وقليلا ظرف زمان متعلق بيهجعون أو صفة لمفعول مطلق محذوف أي هجوعا قليلا
ومن الليل صفة قليلا وما زائدة لتأكيد القلة لذلك وصفهم بأنهم يحيون الليل متهجدين
وجوّزوا أن تكون ما مصدرية في موضع رفع بقليلا أي كانوا قليلا هجوعهم وهو إعراب سهل
حسن ، وأن تكون ما موصولة بمعنى الذي والعائد محذوف تقديره كانوا قليلا من الليل
من الوقت الذي يهجعون فيه وفيه تكلف ، وردّ بعضهم أن تكون ما مصدرية لأن قليلا
حينئذ واقع على الهجوع لأنه فاعله وقوله من الليل لا يستقيم أن يكون صفة للقليل
ولا بيانا له ولا يستقيم أن يكون من صلة المصدر لأنه تقدم عليه ولا كذلك على أنها
موصولة فإن قليلا حينئذ واقع على الليل كأنه قال قليلا المقدار الذي كانوا يهجعون
فيه من الليل فلا مانع أن يكون من الليل بيانا للقليل على هذا الوجه. ونص عبارة
أبي البقاء «قوله تعالى «كانوا قليلا» في خبر كان وجهان
أحدهما ما
يهجعون وفي ما على هذا وجهان أحدهما هي زائدة أي كانوا يهجعون قليلا وقليلا نعت
لظرف أو مصدر أي زمانا قليلا أو هجوعا قليلا والثاني هي نافية ذكره بعض النحويين
ورد ذلك عليه لأن النفي لا يتقدم عليه ما في حيزه وقليلا من حيزه ، والثاني أن
قليلا خبر كان وما مصدرية أي كانوا قليلا هجوعهم كما تقول كانوا يقلّ هجوعهم ويجوز
على هذا أن يكون ما يهجعون بدلا من اسم كان بدل الاشتمال ومن الليل لا يجوز أن
يتعلق بيهجعون على هذا القول لما فيه من تقديم معمول المصدر عليه وإنما
هو منصوب على التبيين أي يتعلق بفعل محذوف يفسّره يهجعون ، وقال بعضهم تمّ
الكلام على قوله قليلا ثم استأنف فقال من الليل ما يهجعون وفيه بعد لأنك إن جعلت
ما نافية فسد لما ذكرنا وإن جعلتها مصدرية لم يكن فيه مدح لأن كل الناس يهجعون في
الليل» (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ) الواو حرف عطف وبالأسحار متعلقان بيستغفرون والباء
بمعنى في وهم مبتدأ وجملة يستغفرون خبر وقدم متعلق الخبر لجواز تقديم العامل (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ
وَالْمَحْرُومِ) الواو حرف عطف وفي أموالهم خبر مقدم وحق مبتدأ مؤخر
وللسائل متعلقان بمحذوف صفة والمحروم عطف على السائل والجملة معطوفة على خبر كان
فهي خبر ثالث (وَفِي الْأَرْضِ
آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ) الواو عاطفة أو استئنافية وفي الأرض خبر مقدّم وآيات
مبتدأ مؤخر وللموقنين صفة لآيات (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا
تُبْصِرُونَ) الواو عاطفة وفي أنفسكم خبر حذف مبتدؤه لدلالة سابقه
عليه والتقدير آيات والهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء عاطفة على محذوف مقدّر ولا
نافية وتبصرون فعل مضارع مرفوع (وَفِي السَّماءِ
رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) الواو عاطفة وفي السماء خبر مقدّم ورزقكم مبتدأ مؤخر
والواو عاطفة وما موصولة عطف على رزقكم وتوعدون فعل مضارع مبني للمجهول والواو
نائب فاعل والجملة صلة والعائد محذوف (فَوَ رَبِّ السَّماءِ
وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) الفاء استئنافية والواو حرف قسم وجر وربّ السماء مجرور
بالواو والأرض عطف على السماء والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم وإن
واسمها واللام المزحلقة وحق خبرها ومثل بالنصب صفة لمفعول مطلق محذوف أي إنه الحق
، حقا مثل نطقكم ، ويجوز أن يكون منصوبا على الحال من الضمير المستكن في لحق وقيل
حال من لحق وإن كان نكرة فقد أجاز ذلك الجرمي وسيبويه في مواضع من كتابه والنطق
هنا عبارة عن الكلام بالحروف والأصوات في ترتيب المعاني ويقول الناس هذا حق
كما أنك هاهنا وهذا حق كما أنك ترى وتسمع. وما زائدة نصّ على ذلك الخليل
وقيل نكرة موصوفة في محل جر بالإضافة إلى مثل وقيل إنه لما أضاف فعل إلى مبني وهو
قوله أنكم بناه كما بنى يومئذ في نحو قوله من عذاب يومئذ وعلى حين عاتبت المشيب
على الصبا وقوله الآنف :
لم يمنع
الشرب منها غير أن نطقت
|
|
حمامة في
غصون ذات أرقال
|
فغير في موضع
رفع بأنه فاعل يمنع وإنما بنيت هذه الأسماء المبهمة نحو مثل ويوم وحين وغير إذا
أضيفت إلى المبني لأنها تكتسي منه البناء لأن المضاف يكتسي من المضاف إليه ما فيه
من التعريف والتنكير والجزاء والاستفهام تقول هذا غلام زيد وصاحب القاضي فيتعرف
الاسم بالإضافة إلى المعرفة وتقول غلام من يضرب فيكون استفهاما وتقول صاحب من يضرب
أضرب فيكون جزاء وقرئ بالرفع على أنه صفة لحق. وإن واسمها وجملة تنطقون خبرها
وجملتها في محل جر بالإضافة وإذا جعلت ما نكرة موصوفة فتكون الجملة خبرا لمبتدأ
محذوف أي هو أنكم.
البلاغة :
في قوله «فوربّ
السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون» فن القسم وقد مرّت الإشارة إليه ، وأنه
عبارة عن أن يريد المتكلم الحلف على شيء فيحلف بما يكون فيه فخر له أو تعظيم لشأنه
أو تنويه بقدره أو ما يكون ذما لغيره أو جاريا مجرى الغزل والترقق أو خارجا مخرج
الموعظة والزهد ، فقد أقسم سبحانه بقسم يوجب الفخر لتضمنه التمدح بأعظم قدرة وأجلّ
عظمة.
الفوائد :
روى الأصمعي
قال : أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على مقود له فقال : من الرجل؟ قلت : من
بني أجمع قال : من أين أقبلت؟فقلت : من موضع يتلى فيه كلام الرحمن ، فقال اتل عليّ
، فتلوت والذاريات ... فلما بلغت قوله تعالى وفي السماء رزقكم قال : حسبك فقام إلى
ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولّى فلما
حججت مع الرشيد طفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت دقيق فالتفت فإذا الأعرابي قد
نحل واصفرّ فسلّم علي واستقرأ السورة فلما بلغت الآية صاح وقال : قد وجدنا ما
وعدنا ربنا حقا ثم قال وهل غير هذا فقرأت : فورب السماء والأرض إنه لحق فصاح وقال
يا سبحان الله من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف ولم يصدّقوه بقوله حتى ألجئوه إلى
اليمين قالها ثلاثا وخرجت معها نفسه.
(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ
ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً
قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ
سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ
مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ
امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا
كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠) قالَ فَما
خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ
مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً
عِنْدَ
رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
(٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا
فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧))
اللغة :
(ضَيْفِ) الضيف : للواحد والجماعة لأنه في الأصل مصدر كالزور
والصوم قيل كانوا اثني عشر ملكا وفي القاموس : «الضيف للواحد والجميع وقد يجمع على
أضياف وضيوف وضيفان وهي ضيف وضيفة» أما الضيفن فهو من يجيء مع الضيف متطفلا وفي
الأساس : ضاف إليه : مال إليه وضاف عنه : مال عنه وضاف السهم عن الهدف وضافت الشمس
وضيّفت وتضيفت : مالت إلى الغروب وقال بشر :
طاو برملة
أورال تضيفه
|
|
إلى الكناس
عشيّ بارد صرد
|
أي أماله إليه
، والناقة تضيف إلى الفحل والجارية تضيف إلى الرجل : تستأنس إلى صوته وتريد أن
تأتيه وأضف ظهرك إلى الحائط ، قال امرؤ القيس :
فلما دخلناه
أضفنا ظهورنا
|
|
إلى كل حاري
جديد مشطّب
|
ونزلوا بضيف
الوادي : بناحيته وتضايفوا الوادي : أتوا ضيفه ، وضافني وتضيفني ، قال الفرزدق :
ومنّا خطيب
لا يعاب وقائل
|
|
ومن هو يرجو
فضله المتضيف
|
وأضفته وضيّفته
وهو ضيف وكذلك الجميع وهم ضيوف وأضياف وضيفان.
(فَراغَ) راغ : ذهب في خفية وهذا من أدب المضيف ليباده ضيفه
بقراه وفي المصباح «وراغ الثعلب روغا من باب قال وروغانا ذهب يمنة ويسرة في سرعة
وخديعة فهو لا يستقر في جهة وراغ فلان إلى كذا مال إليه سرّا».
(فَأَوْجَسَ) أضمر في نفسه.
(صَرَّةٍ) بفتح الصاد هي شدّة الصياح والرنّة والتأوّه من حرّ
الجند وصرّ القلم والباب وقيل : جماعة من الناس ، وفي الصحاح : «الصرة :الضجة
والصحة والصرة : الجماعة والصرّة الشدّة من حرب وغيره».
(فَصَكَّتْ) اختلف في الصك فقيل هو الضرب باليد مبسوطة وقيل هو ضرب
الوجه بأطراف الأصابع مثل المتعجب وهي عادة النساء إذا أنكرن شيئا ، وأصل الصك ضرب
الشيء بالشيء العريض.
(خَطْبُكُمْ) شأنكم والخطب في الأصل الأمر الجلل ومنه الخطبة لأنها
كلام بليغ يستهدف أمورا جليلة.
(مُسَوَّمَةً) معلمة من السومة وهي العلامة.
الإعراب :
(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ
ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) هل حرف استفهام والاستفهام هنا معناه التفخيم والتنبيه
على أن الحديث ليس من علم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما عرفه بالوحي ، وأتاك
فعل ومفعول به مقدم وضيف إبراهيم مضاف إلى الحديث والمكرمين نعت لضيف
(إِذْ دَخَلُوا
عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) إذ ظرف لما مضى من الزمن نصب بالمكرمين لأن إبراهيم
أكرمهم أو فيما في ضيف من معنى الفعل أو بإضمار اذكر أو بحديث أي هل أتاك حديثهم
وقت دخولهم عليه ورجحه ابن هشام لأنه مصدر فيه رائحة الفعل وجملة دخلوا في محل جر
بإضافة الظرف إليها وعليه متعلقان بدخلوا ، فقالوا معطوف على دخلوا وسلاما مفعول
مطلق استغني عن فعله لأنه سدّ مسدّه وأصله نسلّم عليكم سلاما وقال فعل ماض وفاعل
مستتر تقديره هو وسلام مبتدأ ساغ الابتداء به مع أنه نكرة لتضمنه معنى الدعاء
وإنما عدل إلى الرفع بالابتداء لقصد الثبات وديمومة السلام حتى تكون تحيته أحسن من
تحيتهم والخبر محذوف تقديره سلام عليكم ، وقرئا مرفوعين ، وقوم خبر لمبتدأ محذوف
تقديره وأنتم أو هم ومنكرون صفة لقوم (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ
فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) الفاء عاطفة على مقدّر يقتضيه السياق أي فبادر إلى
إكرامهم دون أن يشعرهم لأن من أدب الضيافة أن يباده المضيف ضيوفه بالقرى من غير أن
يشعروا به حذرا من أن يكفوه فراغ. وراغ فعل ماض وفاعل مستتر وإلى أهله متعلقان
براغ ، فجاء عطف للتعقيب وبعجل متعلقان بجاء وسمين صفة لعجل (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا
تَأْكُلُونَ) عطف على ما تقدم وإليهم متعلقان بقربه وألا أداة
استفهام ولا نافية والاستفهام معناه العرض أو الإنكار وتأكلون فعل مضارع مرفوع
والجملة مقول القول (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ
خِيفَةً) الفاء عاطفة على مقدّر يقتضيه السياق أي فلما رأى
امتناعهم وإصرارهم على الامتناع أوجس منهم خيفة ظنا منه أنهم يريدون إيقاع السوء
به وخيفة مفعول أوجس (قالُوا لا تَخَفْ
وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) لا ناهية وتخف فعل مضارع مجزوم بلا وبشّروه فعل ماض
وفاعل ومفعول به وبغلام متعلقان ببشروه وعليم نعت غلام (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ
فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) عطف أيضا على مقدّر لا بدّ منه ، أي لما سمعت سارة
امرأة إبراهيم البشارة أقبلت وهي تصيح وامرأته فاعل فأقبلت وفي صرة متعلقان
بمحذوف حال أي صارّة ، فصكت عطف على فأقبلت ووجهها مفعول به وقالت عطف أيضا وعجوز
خبر لمبتدأ محذوف أي أنا عجوز وعقيم صفة أي أنا عجوز عاقر فكيف ألد؟ وعقيم فعيل
بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث أي معقومة كأنما شدّت برباط ويقال رجل عقيم
أيضا قال :
عقم النساء
فما يلدن شبيهه
|
|
إن النساء
بمثله عقيم
|
(قالُوا
كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) قالوا فعل وفاعل وكذلك جار ومجرور في موضع نصب صفة
لمصدر محذوف أي قولا مثل ذلك الذي قلنا ، وقال ربك فعل وفاعل وإن واسمها وهو ضمير
فصل أو عماد لا محل له والحكيم العليم خبران لإن (قالَ فَما خَطْبُكُمْ
أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) قال فعل ماض وفاعله مستتر أي إبراهيم والفاء الفصيحة
لأنها أفصحت عن شرط مقدر أي إن كنتم ملائكة كما تقولون فما شأنكم؟ وما اسم استفهام
مبتدأ وخطبكم خبر وأيها منادى محذوف منه حرف النداء وهو مبني على الضم لأنه نكرة
مقصودة والهاء للتنبيه والمرسلون بدل (قالُوا إِنَّا
أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) إن واسمها وجملة أرسلنا خبر ونا نائب فاعل وجملة أرسلنا
خبر إنّا وإن وما في حيزها مقول القول وإلى قوم متعلقان بأرسلنا ومجرمين نعت (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ
طِينٍ) اللام للتعليل ونرسل فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام
التعليل والفاعل مستتر تقديره نحن وعليهم متعلقان بنرسل وحجارة مفعول به ومن طين
نعت لحجارة ولام التعليل ومجرورها متعلقان بأرسلنا (مُسَوَّمَةً عِنْدَ
رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ) مسومة صفة ثانية لحجارة أو حال منها لأنها وصفت بالجار
والمجرور وعند ربك الظرف متعلق بمسومة وللمسرفين متعلقان بمسومة أيضا (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ) الفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن جمل قد حذفت ، وأخرجنا
فعل وفاعل ومن مفعول وكان فعل ماض ناقص واسمها مستتر تقديره هم وفيها خبرها ومن
المؤمنين حال وجملة كان صلة الموصول لا محل لها والضمير بقوله فيها يعود إلى قرى
قوم لوط ولم يجر لها ذكر لكونها معلومة (فَما وَجَدْنا فِيها
غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) الفاء عاطفة وما نافية ووجدنا فعل وفاعل وغير بيت مفعول
به ومن المسلمين صفة وهم لوط وابنتاه وقد وصفوا بالإيمان والإسلام لأنهم مصدقون
بقلوبهم عاملون بجوارحهم (وَتَرَكْنا فِيها
آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) الواو عاطفة وتركنا فعل وفاعل وفيها متعلقان بتركنا
وآية مفعول به وللذين صفة لآية وجملة يخافون العذاب الأليم صلة الموصول.
البلاغة :
١ ـ الاستفهام
التقريري : في قوله «هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين» استفهام تقريري لتفخيم
الحديث ولتجتمع نفس المخاطب كما تبدأ المرء إذا أردت أن تحدّثه بعجيب فتقرره هل
سمع ذلك أم لا فكأنك تقتضي أن يقول لا ويطلب منك الحديث.
٢ ـ الحذف :
وفي قوله «قوم منكرون» الحذف وقد اختلف في تقدير المبتدأ المحذوف فقيل إن الذي
يناسب حال إبراهيم عليه السلام أنه لا يخاطبهم بذلك إذ فيه من عدم الأنس ما لا
يخفى بل يظهر أنه يكون التقدير هؤلاء قوم منكرون وقال ذلك مع نفسه أو لمن كان معه
من أتباعه وغلمانه بحيث لا يسمع ذلك الأضياف وقيل أنكرهم لأنهم ليسوا من معارفه أو
من جنس الناس الذين عهدهم أو رأى لهم حالا وشكلا خلاف حال الناس وشكلهم أو كان هذا
سؤالا لهم كأنه قال أنتم قوم منكرون فعرّفوني من أنتم.
٣ ـ المجاز
المرسل : في قوله «قالوا لا تخف وبشّروه بغلام عليم» مجاز مرسل فقد سمي الغلام
عليما باعتبار ما يئول إليه أمره إذا كبر.
(وَفِي مُوسى إِذْ
أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ
وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي
الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ
الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ
كَالرَّمِيمِ (٤٢))
اللغة :
(بِرُكْنِهِ) الركن : الجانب الذي يعتمد عليه ، وفي القاموس : «ركن
إليه كنصر وعلم ومنع ركونا حال وسكن ، والركن بالضم الجانب الأقوى والأمر العظيم
وما يقوّى به من ملك وجند وغيره والعز والمنعة» ومعنى تولى بركنه : أعرض وازور
وانحرف راكبا رأسه.
(مُلِيمٌ) المليم الذي أتى بما يلام عليه من عناد ولجاج والملوم
الذي وقع به اللوم وفي المثل : ربّ لائم مليم ورب ملوم لا ذنب له.
الإعراب :
(وَفِي مُوسى إِذْ
أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) الواو عاطفة وفي موسى عطف على قوله فيها بإعادة الجار
لأن المعطوف عليه ضمير مجرور فيتعلق بتركنا من حيث المعنى ويكون التقدير وتركنا في
قصة
موسى آية ويجوز أن يتعلق بجعلنا مقدّرة لدلالة وتركنا ، وأجاز ذلك الزمخشري
قال أو يعطف على وتركنا فيها آية على معنى وجعلنا في موسى آية كقوله : «علفتها
تبنا وماء باردا» واعترضه أبو حيان فقال : «ولا حاجة إلى إضمار وجعلنا لأنه يمكن
أن يكون العامل في المجرور وتركنا» وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بمحذوف لأنه
نعت لآية أي آية كائنة في وقت إرسالنا ولك أن تعلقه بتركنا ، وجملة أرسلناه في محل
جر بإضافة الظرف إليها وإلى فرعون متعلقان بأرسلناه وبسلطان متعلقان بمحذوف حال أي
مؤيدا ومبين نعت سلطان (فَتَوَلَّى
بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) الفاء حرف عطف وتولى فعل ماض وفاعله مستتر يعود إلى
فرعون وبركنه حال من ضمير فرعون وقال عطف على تولى وساحر خبر لمبتدأ محذوف أي هو
ساحر وأو حرف عطف للإبهام على السامع أو للشك نزل نفسه منزلة الشاك مع أنه يعرفه
نبيا حقا تمويها على قومه ومجنون عطف على ساحر (فَأَخَذْناهُ
وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ) الفاء حرف عطف وأخذناه فعل وفاعل ومفعول به وجنوده يجوز
أن يكون معطوفا على مفعول أخذناه وهو الأولى وأن يكون مفعولا معه ، فنبذناهم في
اليمّ عطف على أخذناه وفي اليم متعلقان بنبذناه ، وهو الواو للحال وهو ضمير منفصل
في محل رفع مبتدأ ومليم خبر والجملة في محل نصب حال من مفعول نبذناهم أو من مفعول
أخذناه والفرق بين الحالين أن الواو في الأولى واجبة لازمة إذ ليس فيها ذكر ضمير
يعود على صاحب الحال وفي الثانية ليست واجبة لازمة إذ في الجملة ذكر ضمير يعود
عليه (وَفِي عادٍ إِذْ
أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) عطف على ما تقدم ويقال فيها ما قيل في : وفي موسى إذ
أرسلناه ، وعليهم متعلقان بأرسلنا والريح مفعول به والعقيم نعت للريح (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ
إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) ما نافية وتذر فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره هي
أي الريح والجملة حال من الريح ومن حرف جر زائد وشيء مجرور
لفظا منصوب محلا لأنه مفعول به وجملة أتت عليه صفة لشيء وإلا أداة حصر
وجعلته فعل وفاعل مستتر ومفعول به والجملة في موضع المفعول الثاني لتذر كأنه قيل
ما تترك من شيء إلا مجعولا ، وكالرميم جار ومجرور في موضع المفعول الثاني لجعلته أو
الكاف اسم بمعنى مثل مفعول به والرميم مضاف إليه.
البلاغة :
الاستعارة
المكنية : في قوله «كالريح العقيم» استعارة مكنية ، شبّه ما في الريح من الصفة
التي تمنع من إنشاء مطر أو إلقاح شجر بما في المرأة من الصفة المذكورة التي تمنع
الحمل ثم قيل العقيم وأريد به ذلك المعنى بقرينة وصف الريح به فالمستعار له الريح
والمستعار منه ذات النتاج والمستعار العقم وهو عدم النتاج والمشاركة بين المستعار
له والمستعار منه في عدم النتاج وهي استعارة محسوس لمحسوس للاشتراك في أمر معقول
وهي من ألطف الاستعارات.
(وَفِي ثَمُودَ إِذْ
قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ
قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ
كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦) وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا
لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨))
اللغة :
(الصَّاعِقَةُ) التي تقع من السماء والصاعقة التي تصقع الرءوس ،
وقال الأصمعي الصاعقة والصاقعة سواء وأنشد :
يحكون
بالمصقولة القواطع
|
|
تشقق البرق من
الصواقع
|
وأما الصعقة
فقيل أنها مثل الزجرة وهو الصوت الذي يكون عن الصاعقة ، قال بعض الرجّاز :
لاح سحاب
فرأينا برقه
|
|
ثم تدانى
فسمعنا صعقه
|
وفي المختار : «الصاعقة
نار تسقط من السماء في رعد شديد ، يقال صعقتهم السماء من باب قطع إذا ألقت عليهم
الصاعقة والصاعقة أيضا صيحة العذاب».
الإعراب :
(وَفِي ثَمُودَ إِذْ
قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ) عطف على ما تقدم أيضا وجملة تمتعوا مقول القول وحتى حرف
غاية وجر وحين مجرور بحتى والجار والمجرور متعلقان بتمتعوا (فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) الفاء حرف عطف للترتيب الإخباري وعتوا فعل وفاعل وعن
أمر ربهم متعلقان بعتوا ، فأخذتهم الصاعقة عطف على عتوا والواو للحال وهم مبتدأ
وجملة ينظرون خبر والجملة في محل نصب على الحال (فَمَا اسْتَطاعُوا
مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) الفاء عاطفة وما نافية واستطاعوا فعل وفاعل ومن حرف جر
زائد وقيام مجرور لفظا منصوب محلا لأنه مفعول به والواو عاطفة وما نافية وكانوا
فعل ماض ناقص والواو اسمها ومنتصرين خبرها (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ
قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) الواو عاطفة وقوم منصوب بفعل محذوف مفهوم ضمنا أي
وأهلكنا قوم نوح ولك أن تقدّره واذكر قوم نوح وقرئ بالجر عطفا على وفي ثمود ، ومن
قبل : من حرف جر وقبل ظرف مبني على الضم
لانقطاعه عن الإضافة لفظا لا معنى والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال وإن
واسمها وجملة كانوا قوما فاسقين خبرها وجملة إن وما بعدها لا محل لها لأنها تعليل
لهلاكهم (وَالسَّماءَ
بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) الواو عاطفة والسماء نصب على الاشتغال والتقدير بنينا
السماء بنيناها ، وبنيناها فعل وفاعل ومفعول به والجملة لا محل لها لأنها مفسّرة
وجملة بنينا السماء عطف على الجملة الفعلية السابقة ولذلك ترجح النصب وقرأ العامة
ولم يقرأ بالرفع إلا اثنان من غير السبعة وهو أبو السمال وابن مقسم ، وبأيد يجوز
أن يتعلق بمحذوف حال من فاعل بنيناها أي ملتبسين بقوة أو من مفعوله أي ملتبسة بقوة
ويجوز أن يتعلق ببنيناها فتكون الباء للسببية أي بسبب قدرتنا ، والواو حالية وإن
واسمها واللام المزحلقة وموسعون خبرها والجملة في محل نصب على الحال من فاعل
بنيناها أو من مفعوله ومعنى موسعون قادرون من الوسع وهو الطاقة والموسع القوي على
الإنفاق وفي المصباح : «وسع الله عليه رزقه يوسع بالتصحيح وسعا من باب نفع بسطه
وكثره وأوسعه ووسعه بالألف والتشديد مثله وأوسع الرجل بالألف صار ذا سعة وغنى» (وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ
الْماهِدُونَ) عطف على الجملة السابقة ويجري إعرابها كما جرى هناك ،
فنعم الفاء عاطفة ونعم فعل ماض جامد لإنشاء المدح والماهدون فاعل نعم والمخصوص
بالمدح محذوف أي نحن فالجملة خبر له.
(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ
خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي
لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ
إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١) كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢)
أَتَواصَوْا
بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ
(٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥) وَما خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ
وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ
الْمَتِينُ (٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ
فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي
يُوعَدُونَ (٦٠))
اللغة :
(فَفِرُّوا) في المصباح : «فرّ من عدوه يفرّ من باب ضرب فرارا هرب
وفرّ الفارس فرّا أوسع الجولان للانعطاف وفرّ إلى الشيء ذهب إليه».
(أَتَواصَوْا) التواصي : أن يوصي القوم بعضهم إلى بعض والوصية
المتقدمة في الأمر بالأشياء المهمة مع النهي عن المخالفة.
(ذَنُوباً) : الذنوب بفتح الذال الدلو العظيمة وقال الراغب :«الذنوب
الدلو الذي له ذنب» وهو يؤنث ويذكّر قال :
لنا ذنوب
ولكم ذنوب
|
|
فإن أبيتم
فلنا القليب
|
وقال علقمة :
وفي كل حيّ
قد ضبطت بنعمة
|
|
فحقّ لشاس من
نداك ذنوب
|
الإعراب :
(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ
خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) الواو عاطفة ومن كل شيء يجوز أن يتعلق بخلقنا أي خلقنا
من كل زوجين ويجوز أن يتعلق بمحذوف حال من زوجين لأنه في الأصل صفة له والتقدير
خلقنا زوجين كائنين من كل شيء ، وخلقنا فعل وفاعل وزوجين مفعول به ولعل واسمها
وجملة تذكرون خبرها والأصل تتذكرون حذفت إحدى التاءين من الأصل (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ
مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) الفاء الفصيحة أي إذا علمتم أن الله تعالى فرد لا نظير
له ولا نديد ففروا إليه ووحدوه ولا تشركوا به شيئا ولا بدّ من تقدير مضاف محذوف أي
إلى ثوابه ، وفرّوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وإلى الله متعلقان
بفرّوا وإن واسمها ولكم متعلقان بنذير وكذلك يتعلق منه ولك أن تعلقه بمحذوف على
أنه حال من نذير لأنه في الأصل صفة له ونذير خبر إني ومبين نعت نذير (وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً
آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) الواو عاطفة ولا ناهية وتجعلوا فعل مضارع مجزوم بلا
والواو فاعله ومع الله ظرف مكان متعلق بمحذوف في موضع المفعول الثاني وإلها مفعول
تجعلوا الأول وآخر نعت إلها وإني لكم منه نذير مبين تقدم إعرابها وهذه الجملة
تكرير للتأكيد فالأولى مرتبة على ترك الإيمان والطاعة والثانية مرتبة على الإشراك (كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) الكاف خبر مبتدأ محذوف أي الأمر والشأن وما نافية وأتى
فعل ماض والذين مفعوله المقدم ومن قبلهم متعلقان بمحذوف صلة الذين ومن حرف جر زائد
ورسول مجرور بمن لفظا مرفوع محلا لأنه فاعل والجملة لا محل لها لأنها مفسرة وإلا
أداة حصر وقالوا فعل وفاعل وساحر خبر لمبتدأ محذوف تقديره أنت وأو حرف عطف ومجنون
عطف على ساحر وقد تقدم معنى العطف وجملة
إلا قالوا في محل نصب على الحال من الذين من قبلهم كأنه قيل ما أتى الذين
من قبلهم رسول إلا في حال قولهم هو ساحر أو مجنون (أَتَواصَوْا بِهِ
بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي التعجبي وتواصوا
فعل ماض وفاعل والواو فاعل تواصوا وبه متعلقان بتواصوا وبل حرف إضراب وعطف وهم
مبتدأ وقوم خبر وطاغون نعت قوم (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ
فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) الفاء الفصيحة أي إن كان هذا شأنهم وقد بلوته وخبرته
بنفسك فتولّ عنهم ، فتولّ فعل أمر مبني على حذف حرف العلة والفاعل مستتر تقديره
أنت وعنهم متعلقان بتول والفاء تعليلية للأمر وما نافية حجازية وأنت اسمها والباء
حرف جر زائد وملوم مجرور لفظا منصوب محلا لأنه خبر ما (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ
الْمُؤْمِنِينَ) الواو عاطفة وذكر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت
والفاء تعليل للأمر وإن واسمها وجملة تنفع المؤمنين خبرها (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ
إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الواو عاطفة وما نافية وخلقت فعل وفاعل والجن مفعول به
والإنس عطف على الجن وإلا أداة حصر واللام للتعليل أو للعاقة ويعبدون فعل مضارع
منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام التعليل وعلامة نصبه حذف النون والنون المذكورة
للوقاية والواو فاعل وياء المتكلم المحذوفة في محل نصب مفعول به ولام التعليل
ومدخولها متعلقان بخلقت وسيأتي مزيد بحث لهذه الآية التي شجر الخلاف حولها (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما
أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) ما نافية وأريد فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره
أنا ومنهم متعلقان بأريد ومن حرف جر زائد ورزق مجرور لفظا منصوب محلا لأنه مفعول
أريد والواو حرف عطف وما أريد عطف على مثيلتها وأن حرف مصدري ونصب ويطعمون فعل
مضارع منصوب بأن وياء المتكلم المحذوفة مفعول به وأن وما في حيزها في تأويل مصدر
مفعول به أي وما أريد إطعامهم إياي (إِنَّ اللهَ هُوَ
الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) إن واسمها وهو ضمير فصل لا محل له والرزاق
خبر إن الأول وذو القوة خبر ثان والمتين خبر ثالث وقيل نعت للرزاق أو لذو (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً
مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) الفاء الفصيحة أي إذا عرفت حال الكفرة الآنف ذكرهم مثل
عاد وثمود وقوم نوح فإن لهؤلاء المكذبين نصيبا مثل نصيبهم وسيأتي مزيد من هذا
البحث في باب البلاغة ، وإن حرف مشبه بالفعل وللذين جار ومجرور في محل نصب خبر
مقدم لإن وجملة ظلموا صلة الموصول وذنوبا اسم إن المؤخر ومثل ذنوب أصحابهم صفة
لذنوبا والفاء عاطفة لترتيب النهي عن الاستعجال ولا ناهية ويستعجلون فعل مضارع
مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والنون المذكورة المكسورة للوقاية
والياء المحذوفة مفعول به (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) الفاء عاطفة لترتيب ثبوت الويل أي العذاب الشديد لهم
وويل مبتدأ ساغ الابتداء به لما تضمنه من معنى الدعاء وللذين خبره وجملة كفروا صلة
الموصول ومن يومهم صفة لويل وقرر الجلال أنها بمعنى في وهو أحد معاني من التي
أنهاها صاحب المغني إلى خمسة عشر معنى ومثّل لذلك بقوله تعالى «إذا نودي للصلاة من
يوم الجمعة» أي في يوم الجمعة ، والذي صفة ليومهم ويوعدون فعل مضارع مبني للمجهول
والواو نائب فاعل وجملة يوعدون صلة الذي.
البلاغة :
١ ـ في قوله
الجن والإنس طباق ومعنى إلا ليعبدون أي إلا مهيئين ومستعدين للعبادة ، ذلك أنني
خلقت فيهم العقل وركزت فيهم الحواس والقدرة التي تمكّنهم من العبادة وهذا لا ينافي
تخلّف العبادة بالفعل من بعضهم لأن هذا البعض المتخلّف وإن لم يعبد الله مركوز فيه
الاستعداد والتهيؤ الذي هو الغاية في الحقيقة ، وقد شجر خلاف
بين أهل السنّة والاعتزال حول هذه الآية والواقع أنه لا خلاف لأن الآية
إنما سيقت لبيان عظمته سبحانه وإن شأنه مع عبيده لا يقاس به شأن عبيد الخلق معهم
فإن عبيدهم مطلوبون بالخدمة والتكسب للسادة وبواسطة مكاسب عبيدهم قدر أرزاقهم
والله تعالى لم يطلب من عباده رزقا ولا إطعاما وإنما يطلب منهم عبادته ليس غير
وزيادة على كونه لا يطلب منهم رزقا إنه هو الذي يرزقهم وهناك حجج يضيق عنها صدر
هذا الكتاب فلتطلب في مظانها.
٢ ـ الاستعارة
التمثيلية التصريحية : وفي قوله «فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا
يستعجلون» استعارة تمثيلية تصريحية لأن الأصل فيه السقاة الذين يتقسمون الماء
فيكون لهذا ذنوب ولهذا ذنوب قال :
لنا ذنوب
ولكم ذنوب
|
|
فإن أبيتم
فلنا القليب
|
ولما قال عمرو
بن شاس :
وفي كل حيّ قد
خبطت بنعمة
|
|
فحقّ لشأس
بعد ذاك ذنوب
|
قال الملك نعم
وأذنبة :
وعبارة المبرد
في الكامل : «وأصل الذنوب الدلو كما ذكرت لك وقال علقمة بن عبدة للحارث بن أبي شمر
الغساني (وبعضهم يقول شمر وبعضهم يقول شمر) وكان أخوه أسيرا عنده وهو شأس بن عبدة
أسره في وقعة عين أباغ (وبعضهم يقول إباغ) في الوقعة التي كانت بينه وبين المنذر
بن ماء السماء في كلمة له مدحه فيها :
وفي كل حيّ
قد خبطت بنعمة
|
|
فحقّ لشأس من
نداك ذنوب
|
فقال الملك :
نعم وأذنبة.
سورة الطور
مكيّة وآياتها تسع
وأربعون
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَالطُّورِ (١)
وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤))
(وَالسَّقْفِ
الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧)
ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ
سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي
خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ
النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ
لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ
إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦))
اللغة :
(الطُّورِ) جبل معروف وقيل إن الطور كل جبل ينبت الشجر المثمر وما
لا ينبت فليس بطور ، وقال المبرد : «يقال لكل جبل طور فإذا دخلت الألف واللام
للمعرفة فهو لشيء بعينه».
(مَسْطُورٍ) متفق الكتابة بسطور مصفوفة في حروف مرتبة وفي المختار :
«السطر الصف من الشيء يقال بنى سطرا والسطر أيضا الخط والكتابة وهو في الأصل مصدر
وبابه نصر وسطر أيضا بفتحتين والجمع أسطار كسبب وأسباب وجمع الجمع أساطير وجمع
السطر أسطر وسطور كأفلس وفلوس».
(رَقٍّ) الرق بالفتح والكسر جلد رقيق يكتب فيه وجمعه رقوق والرق
بالكسر المملوك وعبارة الراغب «الرق كل ما يكتب فيه جلدا كان أو غيره وهو بفتح
الراء على الأشهر ويجوز كسرها كما قرئ شاذا وأما الرق الذي هو ملك الأرقاء فهو
بالكسر لا غير» وقال الزمخشري :
«والرق :
الصحيفة وقيل الجلد الذي يكتب فيه الكتاب الذي يكتب فيه الأعمال».
(الْمَسْجُورِ) المملوء بالماء.
(تَمُورُ) تضطرب وتجيء وتذهب وفي المختار : «مار من باب قال تحرك
وذهب ومنه قوله تعالى : يوم تمور السماء مورا قال الضحاك :
تموج موجا وقال
أبو عبيدة والأخفش تكفّأ».
(اصْلَوْها) في المصباح صلي بالنار وصليها صلى من باب تعب وجد حرها
والصلاء وزان كتاب حر النار وصليت اللحم أصليه من باب رمى شويته.
(يُدَعُّونَ) الدع هو الدفع وقيل هو أن تغل الأيدي إلى الأعناق وتجمع
النواحي إلى الأقدام ثم يدفعون دفعا عنيفا على وجوههم ، وفي المختار : «دعه دفعه
وبابه ردّ ومنه قوله تعالى «فذلك الذي يدع اليتيم».
الإعراب :
(وَالطُّورِ وَكِتابٍ
مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) الواو حرف قسم وجر وهي أقسام خمسة جوابها إن عذاب ربك
لواقع والواو الأولى للقسم والواوات بعدها للعطف أو كل واحدة منها للقسم وفي رق
متعلقان بمسطور أو نعت آخر لكتاب (وَالْبَيْتِ
الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) عطف على قوله والطور أو كل منها قسم مستقل بنفسه
وجوابها جميعا قوله : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ
لَواقِعٌ) إن واسمها واللام المزحلقة وواقع خبر إن (ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) ما نافية وله خبر مقدم ومن حرف جر زائد ودافع مجرور
لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ مؤخر ، وهذه الجملة خبر ثان لإن أو صفة لواقع (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) الظرف متعلق بواقع أي يقع العذاب في ذلك اليوم وتكون
جملة النفي معترضة بين العامل ومعموله وقيل الظرف متعلق بدافع وجملة تمور السماء
في محل جر بإضافة الظرف إليها ومورا مفعول مطلق (وَتَسِيرُ الْجِبالُ
سَيْراً) الجملة عطف على جملة تمور السماء مورا (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) الفاء الفصيحة لأن في الكلام معنى المجازاة والتقدير
إذا كان ما ذكر فويل لمن يكذب الله ورسوله ، وويل مبتدأ ساغ الابتداء به لتضمنه
معنى الدعاء ويومئذ ظرف منصوب بويل وإذ ظرف مضاف إلى ظرف مثله والتنوين عوض عن
جملة وللمكذبين هو الخبر لويل (الَّذِينَ هُمْ فِي
خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) الذين نعت للمكذبين وهم مبتدأ وفي خوض متعلقان بيلعبون
وجملة يلعبون خبرهم والجملة لا محل لها لأنها صلة الذين (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ
دَعًّا) الظرف بدل من يوم تمور السماء مورا أو من يومئذ قبله
وجملة يدعون في محل جر بإضافة الظرف إليها ويدعون فعل مضارع مبني للمجهول والواو
نائب فاعل وإلى نار جهنم متعلقان بيدعون ودعا مفعول مطلق (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها
تُكَذِّبُونَ) الجملة
منصوبة بقول محذوف أي يقال لهم ذلك وهذه مبتدأ والنار خبر والتي صفة وجملة
كنتم صلة التي كان واسمها وبها متعلقان بتكذبون وجملة تكذبون خبر كنتم (أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا
تُبْصِرُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء عاطفة على محذوف
تقديره كنتم تقولون للوحي هذا سحر أفسحر هذا يريد أهذا المصداق أيضا سحر وقد أفادت
الفاء هذا المعنى ، وسحر خبر مقدم وهذا مبتدأ مؤخر وأم يجوز أن تكون منقطعة بمعنى
بل لأن الكلام تم عند قوله أفسحر هذا ثم قال أم أنتم أي بل أنتم لا تبصرون ويجوز
أن تكون متصلة أي ليس شيء منهما ثابتا فثبت أنكم قد بعثتم وأن الذي ترونه حق فهو
تقريع شديد وتهكم فظيع ، وأنتم مبتدأ وجملة لا تبصرون خبر (اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا
سَواءٌ عَلَيْكُمْ) فعل أمر وفاعل ومفعول به والفاء عاطفة واصبروا فعل أمر
وفاعل وأو حرف عطف ولا ناهية وتصبروا فعل مضارع مجزوم بلا وسواء خبر لمبتدأ محذوف
أي صبركم وتركه سواء وعليكم متعلقان بسواء ونحا الزمخشري إلى إعرابها مبتدأ خبره
محذوف أي سواء عليكم الأمران وتبعه أبو حيان ولا مانع من ذلك لأن ما في سواء من
معنى التسوية أفادها فائدة سوّغت إعرابها مبتدأ (إِنَّما تُجْزَوْنَ
ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) إنما كافّة ومكفوفة وتجزون فعل مضارع مبني للمجهول
والواو نائب فاعل وما اسم موصول مفعول به ثان وجملة كنتم تعملون صلة وكان واسمها
وجملة تعملون خبرها وجملة إنما تجزون تعليلية للاستواء.
البلاغة :
١ ـ الاستعارة
التصريحية في قوله «الذين هم في خوض يلعبون» :
الأصل في الخوض
أن يكون في الماء يقال خاض الماء : دخله ثم غلب على الخوض في الباطل وغيره ، شبّه
الكذب والاندفاع في الباطل
بلجة يخوضها اللاعب ، يقال خاض الغمرات أي اقتحمها وخاض في الحديث أفاض فيه
وخاض الجواد في الميدان مرح ويقال أنه يخوض المنايا أي يلقي نفسه في المهالك وهو
يخوض الليل أي يتخبط فيه غير مكترث بالأهوال ، وفي اللغة أسماء غلبت عليها معان
خاصة كالإحضار فإنه عام في كل شيء ثم غلب على الاستعمال في الإحضار للعذاب قال
تعالى : لكنت من المحضرين ونظيره في الأسماء الغالبة دابة فإنها غلبت في ذوات
الأربع والقوم غلب في الرجال والاستعارة هنا تصريحية.
٢ ـ التنكير :
ونكر كتاب في قوله «وكتاب مسطور» لأنه كتاب مخصوص من بين جنس الكتب كقوله : «ونفس
وما سواها».
٣ ـ الالتزام :
وفي قوله «والطور وكتاب مسطور» فن الالتزام وقد تقدمت الإشارة إليه فقد جاءت الطاء
قبل واو الردف لازمة.
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ
رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ
عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ
أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ
كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ
مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا
تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ
عَلَيْهِمْ
غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى
بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ
(٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ
قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨))
اللغة :
(فاكِهِينَ) ناعمين متلذذين وقال الزجّاج والفرّاء : فاكهين معجبين
بما آتاهم ربهم وفي المختار : «فكه الرجل من باب سلم فهو فكه إذا كان طيب النفس
مزاجا والفكه أيضا البطر الأشر وقرئ ونعمة كانوا فيها فكهين أي أشرّين وفاكهين أي
ناعمين والمفاكهة الممازحة وتفكّه تعجب وقيل تندم قال الله تعالى : فظلتم تفكهون
أي تندمون وتفكّه بالشيء تمتع به».
(بِحُورٍ) الحور : جمع حوراء من الحور وهو شدّة بياض العين في شدة
سوادها.
(عِينٍ) العين : جمع عيناء وهو الواسعة العينين.
(أَلَتْناهُمْ) نقصناهم وفي المصباح «ألت الشيء ألتا من باب ضرب نقص
ويستعمل متعديا أيضا فيقال ألته».
(السَّمُومِ) النار لدخولها في المسام وهي في الأصل الريح الحارّة
تتخلل المسام والجمع سمائم وقال ثعلب : السموم شدّة الحر وشدّة البرد في النهار
وقال أبو عبيدة : السموم بالنهار وقد يكون بالليل والحرّ بالليل وقد يكون بالنهار.
وقيل أصل السموم من السم الذي هو مخرج النفس فكل خرق سم أو من السم الذي يقتل.
الإعراب :
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ) إن واسمها وفي جنات خبرها ونعيم عطف على جنات والكلام
مستأنف مسوق لزفّ البشرى للمتقين ويجوز أن يكون تتمة المقول للكفّار زيادة في
إغاظتهم وإدخال الحسرة إلى قلوبهم (فاكِهِينَ بِما
آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) فاكهين : حال وبما متعلقان بفاكهين وما موصولة واقعة
على الفواكه التي في الجنة أي متلذذين بفاكهة الجنة ويجوز أن تكون الباء بمعنى في
أي فيما آتاهم من الثمار وغير ذلك ويجوز أن تكون ما مصدرية أيضا وآتاهم ربهم فعل
ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر ووقاهم عطف على الصلة أي فاكهين بإيتاء ربهم
وبوقايتهم له عذاب الجحيم ويجوز أن تكون الواو حالية فتكون الجملة في محل نصب على
الحال وقد مقدّرة عند من يشترط اقترانها بالماضي الواقع حالا وأجاز الزمخشري أن
تكون معطوفة على جنات وعذاب الجحيم مفعول به ثان (كُلُوا وَاشْرَبُوا
هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الجملة مقول قول محذوف وهنيئا حال أو مفعول مطلق فتكون
بمعنى المصدر ، وقد تقدم الكلام مشبعا على هنيئا في سورة النساء ، وبما متعلقة
بكلوا أو اشربوا وجملة كنتم صلة وكان واسمها وجملة تعملون خبر كنتم ، وأجاز
الزمخشري أن تكون الباء زائدة وما فاعل هنيئا ولكن زيادة الباء ليست مقيسة إلا في
فاعل كفى وقد أنكر عليه أبو حيان ذلك (مُتَّكِئِينَ عَلى
سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) متكئين حال من الضمير المستكن في قوله في جنات أي
كائنون في جنات حال كونهم متكئين أو من فاعل كلوا أو من مفعول آتاهم أو من مفعول
وقاهم وعلى سرر متعلقان بمتكئين ومصفوفة نعت لسرر والواو حرف عطف وزوّجناهم فعل
وفاعل ومفعول به وبحور متعلقان بزوّجناهم وعين نعت لحور (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ
ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ
ذُرِّيَّتَهُمْ) في الواو ثلاثة أقوال نسردها فيما يلي ثم نبيّن مواضع
الرجحان : ١ ـ استئنافية والذين مبتدأ والخبر جملة ألحقنا بهم ذريتهم وعليه أكثر
المفسرين والمعربين. ٢ ـ قال أبو البقاء : منصوب بفعل محذوف على تقدير وأكرمنا
الذين آمنوا. ٣ ـ قال الزمخشري : والذين آمنوا معطوف على حور عين أي قرناهم بالحور
وبالذين آمنوا أي بالرفقاء والجلساء منهم كقوله تعالى إخوانا على سرر متقابلين
فيتمتعون تارة بملاعبة الحور وتارة بمؤانسة الإخوان المؤمنين. وقد ردّ أبو حيان
على الزمخشري فقال : «ولا يتخيل أحد أن قوله والذين آمنوا معطوف على بحور عين غير
هذا الرجل وهو تخيل أعجمي مخالف لفهم العربي» ونحن لا نتردد في مشايعة أبي حيان في
ردّه. وجملة آمنوا صلة الذين واتبعتهم ذريتهم عطف على آمنوا وبإيمان حال من ذريتهم
أي حال كون الذرية ملتبسة بإيمان وجملة ألحقنا بهم ذريتهم خبر الذين (وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ
شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) الواو حرف عطف وألتناهم فعل وفاعل ومفعول به ومن عملهم
حال ومن حرف جر زائد وشيء مجرور لفظا منصوب محلا لأنه مفعول ثان وكل مبتدأ وامرئ
مضاف إليه ، وبما الباء حرف جر وما موصولة أو مصدرية والجار والمجرور متعلقان
برهين ورهين خبر كل (وَأَمْدَدْناهُمْ
بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) وأمددناهم عطف على ما تقدم وبفاكهة متعلقان بأمددناهم
ولحم عطف على فاكهة ومما صفة وجملة يشتهون صلة الموصول (يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ
فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) الجملة مستأنفة وقيل نصب على الحال من مفعول أمددناهم
ويتنازعون فعل مضارع وفاعل وفيها متعلقان بيتنازعون وكأسا مفعول به ولا نافية
للجنس أهملت لتكررها ولغو مبتدأ خبره فيها ولا تأثيم عطف عليه وسوغ الابتداء به
تقدّم النفي عليه ، ومعنى يتنازعون الكأس يتجاذبونها تجاذب ملاعبة إذ أهل الدنيا
لهم لذة في ذلك ، وقيل معنى يتنازعون يتعاطون قال الأخطل :
نازعته طيب
الراح الشمول وقد
|
|
صاح الدجاج
وحانت وقعة الساري
|
(وَيَطُوفُ
عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) الواو حرف عطف ويطوف فعل مضارع مرفوع وعليهم متعلقان
بيطوف وغلمان فاعل يطوف ولهم صفة لغلمان وكأن واسمها ولؤلؤ خبرها ومكنون صفة لؤلؤ
وجملة كأنهم صفة ثانية (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ
عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) الواو حرف عطف وأقبل بعضهم فعل وفاعل وعلى بعض متعلقان
بأقبل وجملة يتساءلون حال (قالُوا إِنَّا كُنَّا
قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ) قالوا فعل وفاعل وإن واسمها وجملة كنّا خبرها وجملة
إنّا كنّا مقول القول وقبل ظرف مبني على الضم لانقطاعه عن الإضافة لفظا لا معنى
والظرف متعلق بمحذوف حال ومشفقين خبر كنّا (فَمَنَّ اللهُ
عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) الفاء حرف عطف ومنّ الله فعل وفاعل وعلينا متعلقان بمنّ
ووقانا عطف على منّ وعذاب السموم مفعول به ثان (إِنَّا كُنَّا مِنْ
قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) إن واسمها وكان واسمها ومن قبل حال وجملة ندعوه خبر
كنّا وجملة كنّا خبر إنّا وإن واسمها وهو ضمير فصل أو عماد والبرّ الرحيم خبران
لإنه وجملة إنه تعليلة لا محل لها.
البلاغة :
التشبيه المرسل
المجمل : في قوله : كأنهم لؤلؤ مكنون تشبيه مرسل مجمل ، شبّه الغلمان باللؤلؤ
المكنون في الأصداف لأنه أحسن وأصفى أو لأنه مخزون ولا يخزن إلا الثمين الغالي
القيمة وصدف الدرّ غشاؤه الواحدة صدفة مثل قصبة وقصب.
الفوائد :
إذا تكررت لا
النافية للجنس جاز فيها خمسة أوجه :
١ ـ بناء
الاسمين على أنها عاملة عمل إن في كليهما نحو : لا حول ولا قوة إلا بالله.
٢ ـ رفعهما على
أنها مهملة فما بعدها مبتدأ وخبر نحو : لا لغو فيها ولا تأثيم. وقول الحطيئة :
ماذا تقول
لأفراخ بذي مرخ
|
|
زغب الحواصل
لا ماء ولا شجر
|
٣ ـ بناء الأول على الفتح ورفع
الثاني كقول أبي الطيب :
لا خيل عندك
تهديها ولا مال
|
|
فليسعد النطق
إن لم تسعد الحال
|
٤ ـ رفع الأول وبناء الثاني على
الفتح نحو :
فلا لغو ولا
تأثيم فيها
|
|
وما فاهوا به
أبدا مقيم
|
٥ ـ بناء الأول على الفتح ونصب
الثاني بالعطف على محل اسم لا نحو :
لا نسب اليوم
ولا خلة
|
|
اتسع الخرق
على الراقع
|
(فَذَكِّرْ
فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ
شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي
مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ
هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا
بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ
أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ
خَلَقُوا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ
رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ
فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨))
اللغة :
(الكاهن) الذي
يذكر أنه يخبر عن الحق عن طريق العزائم ، والكهانة صفة الكاهن.
(نَتَرَبَّصُ) التربص الانتظار بالشيء من انقلاب حال له إلى خلافها.
(الْمَنُونِ) المنيّة والموت من منّه إذا قطعه لأن الموت قطوع ،
وريبها : الحوادث التي تريب عند مجيئها قال :
تربص بها ريب
المنون لعلها
|
|
سيهلك عنها
بعلها أو سيجنح
|
(أَحْلامُهُمْ) عقولهم والأحلام جمع الحلم وهو الإمهال الذي يدعو إليه
العقل والحكمة وفي القاموس : «والحلم بالكسر الأناة والعقل والجمع أحلام وحلوم
ومنه : أم تأمرهم أحلامهم بهذا».
(الْمُصَيْطِرُونَ) جمع المسيطر وهو الغالب القاهر من سيطر عليه إذا راقبه
وحفظه أو قهره ، وحكى أبو عبيدة سيطرت عليّ إذا اتخذتني خولا ، ولم يأت في كلام
العرب اسم على مفيعل إلا خمسة ألفاظه :مهيمن ومحيمر ومبيطر ومسيطر ومبيقر ؛
فالمحيمر اسم جبل والبواقي أسماء فاعلين ، وفي الصحاح : المسيطر والمصيطر المسلط
على الشيء
ليشرف عليه ويتعهد أمواله ويكتب عمله وأصله من السطر لأن الكتاب يسطر.
الإعراب :
(فَذَكِّرْ فَما
أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) الفاء الفصيحة وذكر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت
والفاء تعليلية وما نافية حجازية وأنت اسمها وبنعمة ربك يجوز في هذا الجار
والمجرور أن يتعلق بما في ما من معنى النفي فتكون الباء للسببية وهذا أرقى الأوجه
والمعنى انتفت عنك الكهانة والجنون بسبب نعمة ربك عليك كما تقول : ما أنا بمعسر
بحمد بالله وغناه وقال أبو البقاء إن الباء في موضع نصب على الحال والعامل فيها
بكاهن أو مجنون والتقدير ما أنت كاهنا ولا مجنونا حال كونك ملتبسا بنعمة ربك وعلى
هذا فهي حال لازمة والباء للملابسة وقيل الباء للقسم ونعمة ربك مقسم به متوسط بين
اسم ما وخبرها فتتعلق بفعل محذوف تقديره أقسم والجواب محذوف والتقدير ونعمة ربك ما
أنت بكاهن ولا مجنون وهو أضعفها (أَمْ يَقُولُونَ
شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) أم منقطعة بمعنى بل وقد ذكرت هنا خمس عشرة مرة وكلها
إلزامات ليس للمخاطبين بها جواب عنها ، ويقولون فعل مضارع مرفوع وشاعر خبر لمبتدأ
محذوف وجملة نتربص به صفة لشاعر وبه متعلقان بنتربص وريب المنون مفعول به (قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ
مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وتربصوا فعل أمر
مبني على حذف النون والواو فاعل والفاء تعليل للأمر المقصود به التهديد وإن واسمها
ومعكم ظرف متعلق بمحذوف حال ومن المتربصين خبر إني وجملة تربصوا مقول القول (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا
أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) أم حرف عطف بمعنى بل وقد تقدم القول فيها وتأمرهم
فعل مضارع ومفعول به مقدّم وأحلامهم فاعل وبهذا متعلقان بتأمرهم وأم عاطفة
وهم مبتدأ وقوم خبر وطاغون نعت (أَمْ يَقُولُونَ
تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) تقوّله فعل ماض ومفعول به والفاعل مستتر تقديره هو (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ
كانُوا صادِقِينَ) الفاء الفصيحة لأنها جواب شرط مقدّر أي فإن قالوا
تقوّله أي اختلقه فليأتوا ، واللام لام الأمر ويأتوا فعل مضارع مجزوم بلام الأمر
والواو فاعل وبحديث متعلقان بيأتوا ومثله صفة لحديث وإن شرطية وكان واسمها وخبرها
وجواب إن محذوف دلّ عليه ما قبله أي إن صدقوا في هذا القول فليأتوا (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ
هُمُ الْخالِقُونَ) عطف على ما تقدم ومن غير شيء متعلقان بخلقوا وأم هم
الخالقون مبتدأ وخبر (أَمْ خَلَقُوا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ) عطف على ما تقدم (أَمْ عِنْدَهُمْ
خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) الظرف متعلق بمحذوف خبر مقدّم وخزائن مبتدأ مؤخر وهم
مبتدأ والمسيطرون خبر (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ
يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) لهم خبر مقدّم وسلّم مبتدأ مؤخر وجملة يستمعون نعت
لسلّم وفيه متعلقان بيستمعون ، فليأت : الفاء الفصيحة لأنها جواب شرط مقدّر تقديره
إن ادّعوا ذلك فليأت واللام لام الأمر ويأت فعل مضارع مجزوم بلام الأمر ، ومستمعهم
فاعل وبسلطان متعلقان بيأت ومبين صفة.
البلاغة :
١ ـ في قوله «أم
تأمرهم أحلامهم بهذا» مجاز عقلي فقد أسند الأمر إلى الأحلام وقد كان العرب
يتفاخرون بعقولهم فأزرى الله بها حيث لم تثمر لهم معرفة الحق والباطل ، ويجوز
اعتبارها استعارة مكنية إن أريد التشبيه ، وكل مجاز عقلي يصحّ أن يكون استعارة
مكنية ولا عكس.
٢ ـ وفي قوله :
«نتربص به ريب المنون» استعارة تصريحية فقد أطلق الريب على الحوادث والريب الشك
وشبّهت الحوادث بالريب أي الشك لأنها لا تدوم ولا تبقى على حال.
(أَمْ لَهُ الْبَناتُ
وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ
(٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً
فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ
سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ
ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ
الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً
وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ
بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ
فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩))
اللغة :
(مَغْرَمٍ) المغرم أن يلتزم الإنسان ما ليس عليه.
(كِسْفاً) قطعة وقيل قطعا واحدتها كسفة مثل سدرة وسدر.
(مَرْكُومٌ) موضوع بعضه فوق بعض.
الإعراب :
(أَمْ لَهُ الْبَناتُ
وَلَكُمُ الْبَنُونَ) له خبر مقدّم والبنات مبتدأ مؤخر ولكم البنون عطف على
له البنات (أَمْ تَسْئَلُهُمْ
أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) تسألهم فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره أنت ومفعول به أول
وأجرا مفعول به ثان والفاء حرف عطف وهم مبتدأ ومن مغرم متعلقان بمثقلون ومثقلون
خبر (أَمْ عِنْدَهُمُ
الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) الظرف متعلق بمحذوف خبر مقدّم والغيب مبتدأ مؤخر والفاء
عاطفة وهم مبتدأ وجملة يكتبون خبر (أَمْ يُرِيدُونَ
كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) يريدون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وكيدا مفعول به
والفاء عاطفة والذين مبتدأ وهو من وضع الظاهر موضع المضمر وقد تقدمت الإشارة إليه
وجملة كفروا صلة وهم مبتدأ والمكيدون خبره والجملة الاسمية خبر الذين (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ
سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) لهم خبر مقدم وإله مبتدأ مؤخر وغير الله نعت لإله
وسبحان الله منصوب على المفعولية المطلقة وعمّا متعلقان بسبحان وجملة يشركون لا
محل لها لأن ما موصولة أو مصدرية (وَإِنْ يَرَوْا
كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) الواو عاطفة وإن شرطية ويروا فعل الشرط مجزوم وعلامة
جزمه حذف النون والواو فاعل وكسفا مفعول به ومن السماء صفة لكسفا ويقولوا جواب
الشرط وسحاب خبر لمبتدأ محذوف ومركوم صفة لسحاب (فَذَرْهُمْ حَتَّى
يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) الفاء الفصيحة لأنها جواب شرط مقدّر والتقدير إذا بلغوا
في الكفر والعناد إلى هذا الحدّ وتبين أنهم لا يرجعون عن الكفر فدعهم حتى يموتوا
عليه ، وذرهم فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وحتى حرف غاية وجر ويلاقوا فعل مضارع
مجزوم بأن مضمرة بعد حتى ويومهم مفعول به والذي نعت ليومهم وفيه متعلقان بقوله
يصعقون وجملة يصعقون لا محل لها لأنها صلة الذي ، ويصعقون
بالبناء للمجهول من صعق الثلاثي أو من أصعق الرباعي والمعنى أن غيرهم
أصعقهم ، وقرئ يصعقون مبنيا للفاعل ومعناه يموتون من شدّة الأهوال (يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ
شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) يوم بدل من يومهم وجملة لا يغني في محل جر بإضافة الظرف
إليها وعنهم متعلقان بيغني وكيدهم فاعل يغني وشيئا مفعول به أو مفعول مطلق والواو
حرف عطف ولا نافية وهم مبتدأ وجملة ينصرون خبر (وَإِنَّ لِلَّذِينَ
ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الواو استئنافية وإن حرف مشبه بالفعل وللذين خبرها
المقدم وجملة كفروا صلة الموصول وعذابا اسم إن المؤخر ودون ظرف متعلق بمحذوف صفة
لعذابا وذلك اسم إشارة مضاف إليه ، ولكن الواو عاطفة أو حالية ولكن حرف مشبّه
بالفعل للاستدراك وأكثرهم اسمها وجملة لا يعلمون خبر لكن (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ
بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) الواو عاطفة واصبر فعل أمر مبني على السكون والفاعل
مستتر تقديره أنت ولحكم ربك متعلقان باصبر والفاء تعليلية وإن واسمها وبأعيننا خبر
إنك أي بمرأى منّا حيث نراك ونكلؤك ، وجمع العين لأن الضمير بلفظ الجماعة ، وسبّح
عطف على واصبر وبحمد ربك متعلقان بمحذوف حال أي ملتبسا بحمد ربك وحين ظرف متعلق
بسبّح وجملة تقوم في محل جر بإضافة الظرف إليها (وَمِنَ اللَّيْلِ
فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ) الواو عاطفة ومن الليل متعلقان بسبّحه ، وسبّحه فعل أمر
وفاعل مستتر ومفعول به وإدبار النجوم مصدر ناب عن الظرف وسيأتي حكمه في باب
الفوائد.
الفوائد :
ينوب عن الظرف
ما كان مجرورا بإضافة أحد الظرفين إليه ثم حذف المضاف وأنيب عنه المضاف إليه بعد
حذفه ، والغالب في هذا
المضاف إليه النائب عن المضاف المحذوف أن يكون مصدرا مثل جئتك صلاة العصر
أو قدوم الحاج فصلاة وقدوم مفعول فيهما منصوبان نصب ظرف الزمان لأنهما لما نابا عن
الزمان عرضت لهما اسمية الزمان فانتصبا انتصابه والأصل وقت صلاة العصر ووقت قدوم
الحاج ومنه وإدبار النجوم أي وقت غروبها ، ومن أقوالهم لا أكلمه القارظين والأصل
مدة غيبة القارظين فحذف مدة وأنيب عنها غيبة ثم حذف غيبة وأنيب عنها القارظين ،
وهو تثنية قارظ وهو الذي يحني القرظ بفتح القاف والراء وهو شيء يدبغ به. قال
الجوهري في الصحاح : لا آتيك أو يئوب القارظ العنزي وهما قارظان كلاهما من عنزة
خرجا في طلب القرظ فلم يرجعا وطالت غيبتهما.
سورة النّجم
مكيّة وآياتها ثنتان
وستّون
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَالنَّجْمِ إِذا
هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ
هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ
فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ
قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ
الْفُؤادُ ما رَأى (١١))
اللغة :
(النَّجْمِ) معروف وجمعه نجوم وأنجم وأنجام ونجم وهو الكوكب وعند
الإطلاق الثريا ، وفي المراد به هنا أقوال منها أن المراد به جماعة النجوم إذا هوت
أي سقطت وغابت عن الحسّ وأراد به الجنس قال الراعي :
وبات يعدّ
النجم في مستحيرة
|
|
سريع بأيدي
الآكلين جمودها
|
وقيل أراد
الثريا وأقسم بها إذا سقطت وغابت مع الفجر ، والعرب
تطلق اسم النجم على الثريا خاصة قال أبو ذؤيب :
فوردن
والعيوق مقعد رائي
|
|
الضرباء فوق
النجم لا يتتلع
|
قال ابن دريد
والثريا سبعة أنجم ستة ظاهرة وواحد خفي يمتحن الناس به أبصارهم وقيل إن الله أقسم
بالقرآن إذا أنزله نجوما متفرقة على رسول الله في ثلاث وعشرين سنة.
(هَوى) غرب وهو في الأصل سقط من علو قال الراغب : «الهوى سقوط
من علو».
(مِرَّةٍ) قوة وشدة أو حصافة في عقله ورأيه ومتانة في دينه وأصل
المرة شدة الفتل وفي معاجم اللغة : المرة : الفتل يقال حبل شديد المرة والحالة
التي يستمر عليها الشيء وطاقة الحبل وقوة الخلق وشدّته وأصالة العقل وخلط من أخلاط
البدن وهو الصفراء والسوداء.
(قابَ قَوْسَيْنِ) القاب والقيب والقاد والقيد : المقدار قال الزجّاج :«إن
العرب قد خوطبوا على لغتهم ومقدار فهمهم قيل لهم في هذا ما يقال للذي يحدّد
فالمعنى فكان على ما تقدرونه أنتم قدر قوسين أو أقل من ذلك» وقال ابن السكّيت : «قاس
الشيء يقوسه قوسا لغة في قاسه يقيسه إذا قدّره وقد جاء تقديرهم بالقوس والرمح
والسوط والذراع والباع والخطوة والشبر والفتر والإصبع» وفي القرطبي : «والقاب ما بين
المقبض والسية ولكل قوس قابان وقال بعضهم في قوله تعالى : فكان قاب قوسين أراد
قابي قوس فقلبه» وفي المصباح «سية القوس خفيفة الياء ولامها محذوفة وترد في النسبة
فيقال سيوي والهاء عوض عنها طرفها المنحني قال أبو عبيدة : وكان رؤبة يهمزه والعرب
لا تهمزه ويقال لسيتها العليا يدها ولسيتها السفلى رجلها».
الإعراب :
(وَالنَّجْمِ إِذا
هَوى) الواو للقسم والنجم مجرور بالواو والجار والمجرور
متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن والعامل في هذا
الظرف فعل القسم المحذوف أي أقسم بالنجم وقت هويه وقيل النجم نزول القرآن فيكون
العامل في الظرف نفس النجم على أن هذا الإعراب معترض عليه وإن كنّا نرجحه وفيما
يلي ما أورده السمين ننقله بنصه لنفاسته «وفي العامل في هذا الظرف أوجه وعلى كلّ
منها أشكال ، أحد الأوجه أنه منصوب بفعل القسم المحذوف تقديره أقسم بالنجم وقت
هويه قاله أبو البقاء وغيره وهو مشكل فإن فعل القسم إنشاء والإنشاء حال وإذا لما
يستقبل من الزمان فكيف يتلاقيان؟ الثاني أن العامل فيه مقدّر على أنه حال من النجم
أي أقسم به حال كونه مستقرا في زمان هويه وهو مشكل من وجهين أحدهما أن النجم جثة
والزمان لا يكون حالا منها كما لا يكون خبرا والثاني أن إذا للمستقبل فكيف يكون
حالا؟ وقد أجيب عن الأول بأن المراد بالنجم القطعة من القرآن والقرآن قد نزل منجما
في عشرين سنة وهذا تفسير ابن عباس وغيره وعن الثاني بأنها حال مقدّرة ، والثالث أن
العامل فيه نفس النجم إذا أريد به القرآن قاله أبو البقاء وفيه نظر لأن القرآن لا
يعمل في الظرف إذا أريد أنه اسم لهذا الكتاب المخصوص وقد يقال : إن النجم بمعنى
المنجم كأنه قيل والقرآن المنجم في هذا الوقت وهذا البحث وارد في مواضع منها
والشمس وضحاها وما بعده ومنها قوله :والليل إذا يغشى ومنها والضحى والليل إذا سجا
وسيأتي في والشمس بحث أخصّ من هذا تقف عليه إن شاء الله تعالى. أما أبو حيان
فاختار الحالية قال : «وإذا ظرف زمان والعامل فيه محذوف تقديره كائنا إذا هوى
وكائنا منصوب على الحال اقسم تعالى بالنجم في حال هويه» وجملة
هوى في محل جر بإضافة الظرف إليها (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ
وَما غَوى) الجملة لا محل لها لأنها جواب القسم وعبّر بالصحبة
لأنها أدلّ على القصد مرغبة لهم فيه ومقبلة بهم إليه ومقبحة اتهامه في إنذاره مع
معرفتهم بطهارة شمائله ، وضلّ صاحبكم فعل وفاعل وما غوى عطف على ما ضلّ (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) الواو عاطفة وما نافية وينطق فعل مضارع وفاعله هو وعن
الهوى متعلقان بينطق أي وما يصدر نطقه عن هوى في نفسه فعن للمجاوزة على بابها وقيل
إنها بمعنى الباء فتكون متعلقة بمحذوف حال (إِنْ هُوَ إِلَّا
وَحْيٌ يُوحى) إن نافية وهو مبتدأ وإلا أداة حصر ووحي خبر هو وجملة
يوحى صفة لوحي (عَلَّمَهُ شَدِيدُ
الْقُوى) الجملة صفة ثانية لوحي وعلّمه فعل ومفعول به وشديد
القوى فاعل علّمه والمراد به جبريل (ذُو مِرَّةٍ
فَاسْتَوى) ذو مرة صفة لشديد القوى والفاء عاطفة واستوى فعل وفاعل
مقدّر (وَهُوَ بِالْأُفُقِ
الْأَعْلى) الواو حالية وهو مبتدأ وبالأفق خبر والأعلى صفة للأفق
والجملة في موضع الحال (ثُمَّ دَنا
فَتَدَلَّى) ثم حرف عطف للتراخي ودنا فعل وفاعله مقدّر تقديره هو أي
جبريل فتدلى عطف على دنا والتدلّي الامتداد من علو إلى أسفل ومن التدلي اشتقت
الدوالي التي تحمل العنب المعلق (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ
أَوْ أَدْنى) الفاء عاطفة وكان واسمها المستتر وقاب قوسين خبرها
وتقدير الكلام فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين وفيه حذف ثلاث متضايفات أي
فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين وفيه فحذفت ثلاثة من اسم كان وواحد من خبرها
، وأو حرف عطف أو للإباحة وأدنى عطف على قاب وهذه الآية كقوله تعالى : أو يزيدون
وقد تقدم القول في أو والمعنى فكان بأحد هذين المقدارين في رأي الرائي أي لتقارب
ما بينهما يشك الرائي في ذلك وأدنى اسم تفضيل والمفضل عليه محذوف تقديره أو أدنى
من قاب قوسين أو هي بمعنى بل أي بل أدنى (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ
ما أَوْحى) الفاء عاطفة راجعة إلى علمه شديد القوى
وأوحى فعل وفاعل مقدّر وإلى عبده متعلقان بأوحى وما موصولة أو مصدرية وعلى
كل حال هي ومدخولها في موضع نصب على أنها مفعول به على الأول أو مفعول مطلق على
الثاني وسيرد مزيد بحث عنها في باب البلاغة (ما كَذَبَ الْفُؤادُ
ما رَأى) ما نافية وكذب الفؤاد فعل وفاعل وقد قرئ كذب بالتشديد
أيضا وما موصولة مفعول به لأن كذب فعل يتعدى إلى مفعول قال الأخطل :
كذبتك عينك
أم رأيت بواسط
|
|
غلس الظلام
من ارباب خيالا
|
وقيل لا يتعدى
فيكون نصب ما على إسقاط الخافض أي فيما رآه وزعم صاحب المنجد أن كذب قد يتعدى إلى
اثنين قال : «وقد يتعدى إلى مفعولين فيقال كذبه الحديث إذا نقل الكذب وقال خلاف
الواقع فإذا شدّد اقتصر على مفعول واحد» ولم أجد فيما بين يدي من كتب اللغة ما
يؤيد ذلك ، أما كذبه الحديث فالحديث نصب بنزع الخافض على الأصح ، هذا ويجوز أن
تكون ما مصدرية وهي مع مدخولها في موضع نصب لأنه مفعول كذب والمعنى أنه ما أوهمه
الفؤاد أنه رأى ولم ير بل صدقه الفؤاد رؤيته.
البلاغة :
١ ـ في قوله «ثم
دنا فتدلى» فن القلب وهو من المقلوب الذي تقدم فيه ما يوضّحه التأخر وتأخر ما
يوضّحه التقديم أي تدلى فدنا لأنه تدلى للدنو ودنا بالتدلي.
٢ ـ في قوله «فأوحى
إلى عبده ما أوحى» فن الإبهام وقد تقدم القول فيه وهو كثير شائع في القرآن كأنه
أعظم من أن يحيط به بيان ، فأبهم الأمر الذي أوحاه إلى عبده وجعله عاما وذلك أبلغ
لأن السامع
يذهب وهمه فيه كل مذهب ، وجميل قول دريد بن الصمة :
صبا ما صبا
حتى علا الشيب رأسه
|
|
فلما علاه
قال للباطل أبعد
|
وقول أبو نواس
:
ولقد نهزت مع
الغواة بدلوهم
|
|
وأسمت سرح
اللحظ حين أساموا
|
وبلغت ما بلغ
امرؤ بشبابه
|
|
فإذا عصارة
كل ذلك أثام
|
فقوله «وبلغت
ما بلغ امرؤ بشبابه» من المليح النادر ، ومثله قول الآخر في وصف الخمر :
مضى بها ما
مضى من عقل شاربها
|
|
وفي الزجاجة
باق يطلب الباقي
|
٣ ـ «في قوله تعالى والنجم إلى
قوله وأدنى» ، جرس ساحر أخّاذ في تقطيع لفظي عجيب يصوّران موضوعا جليلا ببراعة
معجزة ، فقد بدأت الآية الكريمة بالقسم بالنجم الذي كان بعض العرب يحلّونه محلّ
الإله ولكن القسم ليس بالإله المزعوم فحسب بل به حين يهوي ويسقط من عليائه التي
خدعت بعض السذّج وضعاف العقول فجعلوا منه إلها غير الله ، فهذا السقوط يجرح
الألوهية ، وقد أورده القرآن الكريم مع القسم تتميما له لأن له أبعادا معنوية
خارقة ، ثم نفت الآية الكريمة عن الرسول العربي صفة الضلال التي اتهمه بها
الجاحدون أولئك الذين بلغ الضلال منهم أن عبدوا النجم الذي ليست له مناعة ضد
السقوط ، ونصّت الآية في تنزيه القرآن الذي نزل على الرسول الأمين عن الهوى
والعاطفة وقال فيه : إنه وحي من الله الخالق القوي الذي أمر الرسول بحمل رسالة
القرآن فصدع بالأمر ونهض يبشّر قومه بهداه وينذرهم في تنكرهم لرشاده ولم يكن هذا
الوحي في ذلك يدعو إلى التشكّك أو التشكيك بل كان والرسول الكريم أقرب ما يكون إلى
ربه سبحانه
وتعالى ، أنه كان على بعد ما بين طرفي القوس والعرب يعرفون قصر المسافة
بينهما حقّ المعرفة لأن القوس تعيش بين أيديهم وتصحبهم طول الوقت.
(أَفَتُمارُونَهُ عَلى
ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى
(١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما
زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨))
اللغة :
(أَفَتُمارُونَهُ) من المماراة والمراء أي الملاحاة والمجادلة واشتقاقه من
مرى الناقة كأن كل واحد من المتجادلين يمري ما عند صاحبه.
(سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) شجرة نبق في منتهى الجنة تأوي إليها أرواح الشهداء ،
وقد اختلف في سبب تسميتها على ثمانية أقوال تفصيلها في المطوّلات.
الإعراب :
(أَفَتُمارُونَهُ عَلى
ما يَرى) الهمزة للاستفهام الإنكاري وتمارونه فعل وفاعل ومفعول
به وعلى ما يرى متعلقان بتمارونه وكان من حقه أن يتعدّى بفي كقولك جادلته في كذا
وإنما ضمن معنى الغلبة فعدّي تعديتها ، وجملة يرى صلة الموصول ويجوز أن تكون ما
مصدرية (وَلَقَدْ رَآهُ
نَزْلَةً أُخْرى) الواو للحال واللام جواب للقسم المحذوف وقد
حرف تحقيق ورآه فعل وفاعل مستتر ومفعول به ونزلة يجوز إعرابها ظرفا للزمان
أي مرة أخرى لأن مصدر النزلة بمثابة المرة منها ويجوز إعرابها حالا نصبت نصب
المصدر الواقع موقع الحال ويجوز إعرابها مفعولا مطلقا على أنه مصدر مؤكد وإلى ذلك
ذهب أبو البقاء وقدّره مرة أخرى أو رؤية أخرى وإلى الأول ذهب الزمخشري وأجاز أبو
حيان الأوجه الثلاثة ولم يعمد إلى الترجيح ، وأخر نعت لنزلة (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) الظرف متعلق برآه أو حال من الفاعل أو المفعول أو منهما
معا وسدرة مضاف إليه والمنتهى مضاف إلى سدرة (عِنْدَها جَنَّةُ
الْمَأْوى) الظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وجنة المأوى مبتدأ مؤخر
والجملة حال من سدرة المنتهى (إِذْ يَغْشَى
السِّدْرَةَ ما يَغْشى) الظرف متعلق برآه وجملة يغشى السدرة في محل جر بإضافة
الظرف إليها والسدرة مفعول به وما اسم موصول فاعل يغشى وفيه الإبهام المتقدم ذكره (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) ما نافية وزاغ البصر فعله ماض وفاعل وما طغى عطف على ما
زاغ أي ما مال بصره عن مرئيه ولا جاوزه تلك الليلة (لَقَدْ رَأى مِنْ
آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) اللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق ورأى فعل ماض
وفاعله مستتر ومن آيات ربه حال مقدّمة على المفعول والكبرى مفعول رأى والتقدير لقد
رأى الآيات الكبرى حال كونها من جملة آيات ربه ويحتمل أن تكون الكبرى صفة آيات ربه
لا مفعولا به ويكون المرئي محذوفا لتضخيم الأمر وتعظيمه كأنه قال : لقد رأى من
آيات ربه الكبرى أمورا عظاما لا يحيط بها الوصف ، والحذف في مثل هذا أبلغ وأهول
لأن فيه تفخيما لآيات الله الكبرى وأن فيها ما رآه وفيها ما لم يره وهو على الوجه
الأول يكون مقتضاه أنه رأى جميع الآيات الكبرى على الشمول والعموم مع أن آيات الله
مما لا يحيط أحد بجملتها.
(أَفَرَأَيْتُمُ
اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ
الذَّكَرُ
وَلَهُ
الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ
سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ
يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ
رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ
وَالْأُولى (٢٥))
اللغة :
(اللَّاتَ) جاء في القاموس ما يلي : «واللات مشددة التاء صنم وقرأ
بها ابن عباس وعكرمة وجماعة ، سمي بالذي كان يلت عنده السويق بالسمن ثم خفف ، وجاء
في البحر قوله : واللات صنم كانت العرب تعظمه قال قتادة كان بالطائف وقال أبو
عبيدة وغيره كان في الكعبة وقال ابن زيد : كان بنخلة عند سوق عكاظ قال ابن عطية
وقول قتادة أرجح ويؤيده قول الشاعر :
وفرّت ثقيف
إلى لاتها
|
|
بمنقلب
الخائب الخاسر
|
والتاء في
اللات قيل أصلية لام الكلمة كالباء من باب وألفه منقلبة فيما يظهر من ياء لأن مادة
ليت موجودة فإن وجدت مادة من ل وت جاز أن تكون منقلبة من واو وقيل التاء للتأنيث
ووزنها فعلة من لوى قيل لأنهم كانوا يلوون عليها ويعكفون للعبادة أو يلتوون عليها
أي يطوفون حذفت لامها وقرأ الجمهور اللات خفيفة التاء وابن عباس ومجاهد ومنصور بن
المعتمر وأبو صالح وطلحة وأبو الجوزاء ويعقوب وابن كثير في رواية بشدّها قال ابن
عباس كان هذا رجلا بسوق عكاظ يلت السمن والسويق عند صخرة.
(الْعُزَّى) فعلى من العز وهي تأنيث الأعز كالفضلى والأفضل وهي اسم
صنم وقيل شجرة كانت تعبد وعبارة الكشاف : «والعزى كانت لغطفان وهي سمرة وأصلها
تأنيث الأعز وبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقطعها فخرجت
منها شيطانة ناشرة شعرها داعية ويليها واضعة يدها على رأسها فجعل يضربها بالسيف
حتى قتلها وهي تقول :
يا عزّ
كفرانك لا سبحانك
|
|
إني رأيت
الله قد أهانك
|
ورجع فأخبر
رسول الله فقال عليه السلام تلك العزى ولن تعبد أبدا» وجاء في القاموس «والعزى
العزيزة وتأنيث الأعز ، وصنم أو سمرة عبدتها غطفان أول من اتخذها ظالم بن أسعد فوق
ذات عرق إلى البستان بتسعة أميال بنى عليها بيتا وسمّاه بسا وكانوا يسمعون فيها
الصوت فبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فهدم البيت وأحرق
السمرة».
(مَناةَ) صخرة كانت لهذيل وخزاعة وعن ابن عباس لثقيف واشتقاقها
من منى يمنى أي صبّ لأن دماء النسائك كانت تصب عندها.
(ضِيزى) جائرة من ضازه يضيزه إذا ضامه وجار عليه وعلى هذا
فتحتمل وجهين أحدهما أن تكون صفة على فعلى بضمّ الفاء وإنما كسرت الفاء لتصحّ
الياء كبيض ، فإن قيل : وأي ضرورة تدعو إلى أن يقدّر أصلها ضم الفاء ولم لا قيل
فعلى بالكسر؟ فالجواب أن سيبويه حكى أنه لم يرد في الصفات فعلى بكسر الفاء وإنما
ورد بضمها نحو حبلى وأنثى وربا وما أشبهه إلا أن غيره حكى في الصفات ذلك حكى ثعلب
: ميتة حيكى ورجل كيسى وحكى غيره امرأة عزهى وامرأة سعلى
وهذا لا ينقض على سيبويه لأن سيبويه يقول في حيكى وكيسى كقوله في ضيزى
لتصحّ الياء وأما عزهى وسعلى فالمشهور فيهما عزهاة وسعلاة والوجه الثاني أن تكون
مصدرا كذكرى قال الكسائي : يقال ضاز يضيز ضيزى كذكر يذكر ذكرى وقرئ ضئزى بهمزة
ساكنة ومعنى ضأزه يضأزه : نقصه ظلما وجورا وهو قريب من الأول ، وفي المختار ضاز في
الحكم جار وضازه فيه نقصه وبخسه وبابهما باع ، وسيأتي مزيد بحث عن هذه الكلمة في
باب البلاغة.
الإعراب :
(أَفَرَأَيْتُمُ
اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء حرف عطف لترتيب
الرؤية على ما ذكر من شئونه تعالى المنافية لها غاية المنافاة والتقدير : أعقيب ما
سمعتم من آثار كماله ونفاذ أمره في الملأ الأعلى وما تحت أطباق الثرى أرأيتم هذه
الأصنام مع غاية حقارتها وفسولتها شركاء لله تعالى. ورأيتم فعل وفاعل واللات
مفعوله والعزى ومناة معطوفتان على اللات والثالثة الأخرى صفتان الأولى صفة للتين
قبلها والثانية صفة ذم للثالثة ، وستأتي أسرار هذه الصفات في باب البلاغة ، ومفعول
رأيتم الثاني محذوف تقديره قادرة على شيء ويجوز أن تكون من رؤية العين فلا تحتاج
إلى مفعول ثان (أَلَكُمُ الذَّكَرُ
وَلَهُ الْأُنْثى) الهمزة للاستفهام الإنكاري أيضا ولكم خبر مقدم والذكر
مبتدأ مؤخر وله الأنثى عطف على لكم الذكر (تِلْكَ إِذاً
قِسْمَةٌ ضِيزى) تلك مبتدأ والإشارة إلى القسمة المفهومة من الجملة
الاستفهامية وإذن بمعنى الجواب والجزاء والمعنى إذ جعلتم له البنات ولكم البنين
وقسمة خبر وضيزى صفة لقسمة (إِنْ هِيَ إِلَّا
أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ
سُلْطانٍ) إن نافية وهي مبتدأ
وإلا أداة حصر وأسماء خبر هي وسميتموها فعل وفاعل ومفعول به ثان والأول
محذوف تقديره أصناما وأنتم تأكيد للفاعل ليصحّ عطف وآباؤكم عليه على حدّ قول صاحب
الخلاصة :
وإن على ضمير
رفع متصل
|
|
عطفت فافصل
بالضمير المنفصل
|
وجملة سميتموها
صفة لأسماء وكذلك جملة ما أنزل وما نافية وأنزل الله فعل وفاعل وبها حال لأنه كان
في الأصل صفة لسلطان ومن حرف جر زائد وسلطان مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول
به (إِنْ يَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ
الْهُدى) إن نافية ويتبعون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو
فاعل وإلا أداة حصر والظن مفعول يتبعون والواو حرف عطف وما موصول معطوف على الظن
ولك أن تجعلها مصدرية والواو حالية أو اعتراضية واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف
تحقيق وجاءهم فعل ماض ومفعول به مقدّم ومن ربهم متعلقان بجاءهم والهدى فاعل جاءهم
والجملة إما حالية من فاعل يتبعون أو معترضة لا محل لها ، والتفت من الخطاب إلى
الغيبة إعراضا عنهم وتحقيرا لشأنهم (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما
تَمَنَّى) أم منقطعة بمعنى بل والهمزة للإنكار وللإنسان خبر مقدم
وما مبتدأ مؤخر وجملة تمنى صلة ما أي الذي تمنّاه وترجّاه في الأصنام (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) الفاء عاطفة على مقدّر مفهوم من معنى أم أي ليس الأمر
كذلك ولله خبر مقدم والآخرة مبتدأ مؤخر والأولى عطف على الآخرة.
البلاغة :
١ ـ في قوله
تعالى «ومناة الثالثة الأخرى» أسرار مدهشة تحتاج إلى كثير من الفطنة والدقة
لاستخراج ما تنطوي عليه من جمال آسر ، فقد وصف مناة بقوله الثالثة لأنها أقل
بالرتبة من اللات والعزّى فقد
كانت عندهم دونهما في المنزلة ، أما الوصف بقوله الأخرى فإنها تقوّي هذا
المعنى وتزيد في وضاعتها وإلا لقال الأخريات ، وقد فطن الزمخشري إلى هذا السر الدقيق
فقال «والأخرى ذم وهي المتأخرة الوضيعة المقدار كقوله تعالى : وقالت أخراهم
لأولاهم أي وضعاؤهم لرؤسائهم ، وأشرافهم» وهذه النكتة تنساق بنا إلى بحث طريف عن
الأخرى فهي تأنيث آخر ولا شك أنه في الأصل من التأخر الوجودي إلا أن العرب عدلت به
عن الاستعمال في التأخير الوجودي إلى الاستعمال حيث يتقدم ذكر مغاير لا غير حتى
سلبته دلالته على المعنى الأصلي بخلاف آخر وآخره على وزن فاعل وفاعلة فإنّ
إشعارهما بالتأخير الوجودي ثابت لم يغيّر ومن ثم عدلوا عن أن يقولوا ربيع الآخر
على وزن الأفعل وجمادى الأخرى إلى الآخر على وزن فاعل وجمادى الآخرة على وزن فاعلة
لأنهم أرادوا أن يفهموا التأخير الوجودي لأن الأفعل والفعلى من هذا الاشتقاق مسلوب
الدلالة على غرضهم فعدلوا عنها إلى الآخر والآخرة والتزموا ذلك فيهما.
٢ ـ وفي قوله «تلك
إذن قسمة ضيزى» فن عجيب أيضا فقد يتساءل الجاهلون عن السر في استعمال كلمة ضيزى
وهي وحشية غير مأنوسة ، وسنورد ما أورده ابن الأثير في مثله السائر ثم نردفه بما
استخرجناه نحن ؛ قال ابن الأثير : «وحضر عندي في بعض الأيام رجل متفلسف فجرى ذكر
القرآن الكريم فأخذت في وصفه وذكر ما اشتملت عليه ألفاظه ومعانيه من الفصاحة
والبلاغة فقال ذلك الرجل وأيّ فصاحة هناك وهو يقول : تلك إذن قسمة ضيزى؟ فهل في
لفظة ضيزى من الحسن ما يوصف فقلت له : اعلم أن لاستعمال الألفاظ أسرارا لم تقف
عليها أنت ولا أئمتك مثل ابن سينا والفارابي ولا من أضلّهم مثل أرسطاطاليس
وأفلاطون وهذه اللفظة التي أنكرتها في القرآن وهي لفظة
ضيزى فإنها في موضعها لا يسدّ غيرها مسدّها ، ألا ترى أن السورة كلها التي
هي سورة النجم مسجوعة على حرف الياء فقال تعالى : والنجم إذا هوى ، ما ضلّ صاحبكم
وما غوى وكذلك إلى آخر السورة فلما ذكر الأصنام وقسمة الأولاد وما كان يزعمه
الكفّار قال : ألكم الذّكر وله الأنثى تلك إذن قسمة ضيزى ، فجاءت هذه اللفظة على
الحرف المسجوع الذي جاءت السورة جميعها عليه وغيرها لا يسدّ مسدّها في مكانها وإذا
نزلنا معك أيّها المعاند على ما تريد قلنا : إن غير هذه اللفظة أحسن منها ولكنها
في هذا الموضع لا ترد ملائمة لأخواتها ولا مناسبة لأنها تكون خارجة عن حرف السورة
، وسأبيّن ذلك فأقول : إذا جئنا بلفظة في معنى هذه اللفظة قلنا قسمة جائرة أو
ظالمة ولا شك أن جائرة أو ظالمة أحسن من ضيزى إلا أنّا إذا نظمنا الكلام فقلنا : ألكم
الذّكر وله الأنثى تلك إذن قسمة ظالمة لم يكن النظم كالنظم الأول وصار الكلام
كالشيء المعوز الذي يحتاج إلى تمام وهذا لا يخفى على من له ذوق ومعرفة بنظم الكلام
فلما سمع ذلك الرجل ما أوردته عليه ربا لسانه في فمه إفحاما ، ولم يكن عنده في ذلك
شيء سوى العناد».
هذا ما قاله
ابن الأثير وهو جيد يدل على ذوق وفهم ولكنه لا يخرج عن الحدود اللفظية ، وسنذكر ما
سنح للخاطر من أمر معنوي يتعلق بهذا الكلام فنقول لما كان الغرض تهجين قولهم ،
وتفنيد قسمتهم ، والتشنيع عليها اختيرت لها لفظة مناسبة للتهجين والتشنيع كأنما
أشارت خساسة اللفظة إلى خساسة أفهامهم وهذا من أعجب ما ورد في القرآن الكريم من
مطابقة الألفاظ لمقتضى الحال.
(وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ
فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ
يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ
لَيُسَمُّونَ
الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ
يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً
(٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ
الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ
بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠))
الإعراب :
(وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ
فِي السَّماواتِ) والأرض الواو عاطفة وكم خبرية في محل رفع مبتدأ ومن ملك
في محل نصب تمييز كم الخبرية وقد تقدم بحثه وفي السموات والأرض صفة لملك وجملة لا
تغني شفاعتهم خبر وشيئا مفعول تغني أو مفعول مطلق أي شيئا من الإغناء (لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا
مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) إلا أداة حصر ومن بعد متعلق بتغني وأن وما في حيزها في
تأويل مصدر مجرور بالإضافة لبعد والله فاعل يشاء ويرضى معطوف على يشاء (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) إن واسمها وجملة لا يؤمنون صلة الموصول وبالآخرة
متعلقان بيؤمنون واللام المزحلقة ويسمّون الملائكة فعل مضارع وفاعل ومفعول به
والجملة خبر إن وتسمية الأنثى مفعول مطلق (وَما لَهُمْ بِهِ
مِنْ عِلْمٍ) الواو حالية وما نافية ولهم خبر مقدم ومن حرف جر زائد
وعلم مبتدأ مؤخر والجملة في محل نصب على الحال (إِنْ يَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) إن نافية ويظنون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل وإلا أداة حصر
والظن مفعول به والواو للحال وإن حرف مشبّه بالفعل والظن اسمها وجملة لا
يغني خبرها ومن الحق متعلقان بيغني وشيئا مفعول به أو مفعول مطلق (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ
ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) الفاء الفصيحة وأعرض فعل أمر وعمّن متعلق بأعرض وجملة
تولى عن ذكرنا صلة من والجار والمجرور متعلقان بتولي والواو عاطفة ولم حرف نفي
وقلب وجزم ويرد فعل مضارع مجزوم بلم وإلّا أداة حصر والحياة مفعول به والدنيا صفة (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) ذلك مبتدأ والإشارة إلى التهالك على الدنيا والإعراض عن
ذكر الله وقيل ذلك إشارة إلى جعلهم الملائكة بنات الله وقيل إشارة إلى الظن أي
غاية ما يفعلون أن يأخذوا بالظن ، ومبلغهم خبر ومن العلم متعلقان بمبلغهم والجملة
اعتراضية بين الأمر وهو أعرض وبين تعليله الآتي ، واختاره الزمخشري وقال أبو حيان
أنه غير ظاهر (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) إن واسمها وهو مبتدأ وأعلم خبر وبمن متعلقان بأعلم
وجملة ضلّ عن سبيله صلة وجملة هو أعلم خبر إن وجملة هو أعلم بمن اهتدى عطف على
الجملة السابقة.
الفوائد :
١ ـ اعلم إن كم
اسم مفرد مذكر موضوع للكثرة يعبّر به عن كل معدود كثيرا كان أو قليلا ، وسواء في
ذلك المذكر والمؤنث ، فقد صار لها معنى ولفظ وجرت في ذلك مجرى كلّ وأيّ ومن وما في
أن كل واحد منها له لفظ ومعنى فلفظه مذكر مفرد وفي المعنى يقع على التثنية والجمع
فقد جمع الضمير في الآية نظرا إلى المعنى ولو حمل على اللفظ لقال شفاعته.
٢ ـ من مبتكرات
الخطيب في تفسيره الكبير تعليل طريف لتسميته
الملائكة تسمية الإناث قال «وذلك أنهم رأوا في الملائكة تاء التأنيث وصحّ
عندهم أن يقال سجدت الملائكة فقالوا : الملائكة بنات الله فسمّوهم تسمية الإناث»
ولعلّ هذا ما أراده الزمخشري وتبعه البيضاوي بقولهما : «لأنهم إذا قالوا الملائكة
بنات الله فقد سمّوا كل واحد منهم بنتا».
(وَلِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا
وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ
كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ
الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ
أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ
أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢))
اللغة :
(اللَّمَمَ) قال الفرّاء : «أن يفعل الإنسان الشيء في الحين ولا
يكون له عادة ومنه إلمام الخيال ، والإلمام الزيادة التي لا تمتد وكذلك اللمام ،
قال أمية :
إن تغفر
اللهمّ تغفر جما
|
|
وأيّ عبد لك
لا ألمّا
|
وقد روي أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان ينشدهما ويقولهما أي لم يلم بمعصية ، وقال أعشى
باهلة :
تكفيه خرة
فلذ إن ألمّ بها
|
|
من الشواء
ويروي شربه الغمر»
|
وعن أبي سعيد
الخدري «اللّمم هي النظرة والغمزة والقبلة» وعن
السدي : «الخطرة من الذنب» وعن الكلبي : «كل ذنب لم يذكر الله عليه حدّا
ولا عذابا» وعن عطاء «عادة النفس في الحين بعد الحين» وقال أبو العباس المبرد : «أصل
اللّمم أن يلمّ بالشيء ولم يرتكبه يقال :ألمّ بكذا إذا قاربه ولم يخالطه» وقال
الأزهري : «العرب تستعمل الإلمام في معنى الدنو والقرب» وفي المصباح : «واللّمم
بفتحتين مقاربة الذنب وقيل هو الصغائر وقيل هو فعل الصغيرة ثم لا يعاوده ولمّ
بالشيء يلمّ من باب ردّ».
ومن غريب أمر
اللام والميم إذا وقعتا فاء وعينا للكلمة دلّتا على معنى اللّمح السريع والمرور
العاجل اللطيف ؛ فمن ذلك : ألمأ اللص على الشيء : ذهب به ، وما ذقت لماجا بفتح
اللام : ما يتلمّج به أي يتلمظ ، ولمح البرق والنجم : لمع من بعيد وبرق لمّاح
ولمحته ببصري ورأيته لمحة البرق وهو أسرع من لمح البصر ومن لمح بالبصر ، واللّمس
معروف وفيه معنى المخالسة ، ومن المجاز لامس المرأة ولمسها : جامعها ، ولا يخفى ما
توحي به هذه من مخالسة وانتهاز ونأي عن الأنظار ، ولمظ الرجل يلمظ وتلمظ إذا تتبع
بلسانه بقية الطعام بعد الأكل أو مسح به شفتيه واسم تلك البقية اللمّاظة وشرب
الماء لماظا بالكسر ذاقه بطرف لسانه ومن المجاز تلمظت الحيّة أخرجت لسانها وتلمظ
بذكره قال رجل من بني حنيفة :
فدع عربيا لا
تلمظ بذكره
|
|
فألأم منه
حين ينسب عائبه
|
لقد كان
متلافا وصاحب نجدة
|
|
ومرتفعا عن
جفن عينيه حاجبه
|
أي لم يأت
بخزية يغضّ لها بصره وما الدنيا إلا لماظة أيام وقال :
وما زالت
الدنيا يخون نعيمها
|
|
وتصبح بالأمر
العظيم تمخض
|
لماظة أيام
كأحلام نائم
|
|
يذعذع من
لذّاتها المتبرض
|
أي المتبلغ ،
ولمع البرق والصبح وغيرهما لمعا ولمعانا وكأنه لمع البرق وبرق لامع ولمّاع وبروق
لمع ولوامع ومن أقوالهم «أخدع من يلمع» وهو البرق الخلّب والسراب وفلاة لمّاعة
تلمح بالسراب وبه لمعة ولمع من سواد أو بياض أو أي لون كان وثوب ملمّع وقد لمّع
ولمّعه ناسجه وفيه تلميع وتلاميع إذا كانت فيه ألوان شتّى قال لبيد بن ربيعة : «إن
استه من برص ملمّعه» ورجل ألمعي ويلمعي فرّاس ومن المجاز لمع الزمام : خفق لمعانا
وزمام لامع ولموع قال ذو الرمّة :
فعاجا علندى
ناجيا ذا براية
|
|
وعوّجت
مذعانا لموعا زمامها
|
والطائر يلمع
بجناحيه يخفق بهما وخفق بملمعيه : بجناحيه ولمع بثوبه ويده وسيفه : أشار وما
بالدار لامع وأصاب لمعة من الكلأ ومعه لمعة من العيش : ما يكتفى به قال عدي :
تكذب النفوس لمعتها
|
|
وتعود بعد
آثارا
|
أي يذهب عنها
العيش ويرجع آثارا وأحاديث ، وذكر أعرابي مصدّقا فقال : فلمقه بعد ما نمقه أي
فمحاه بعد ما كتبه وما ذقت لماقا : شيئا ، وامرأة لمياء بيّنة اللّمى وهو السمرة
في باطن الشفة ومن المجاز رمح ألمى أسمره وقناة لمياء وظل ألمى كثيف أسود وشجر
ألمى الظلال وشجرة لمياء الظل :
إلى شجر ألمى
الظلال كأنه
|
|
رواهب أحر من
الشراب عذوب
|
(أَجِنَّةٌ) جمع جنين وسمي جنينا لاستتاره في بطن أمه ، وقد تقدم
بحث هذه المادة وما تدل عليه.
الإعراب :
(وَلِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) الواو استئنافية ولله خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وفي
السموات صلة ما وما في الأرض عطف على ما في السموات والجملة استئناف مسوق للإخبار
عن كمال قدرته (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ
أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) اللّام لام العاقبة أو الصيرورة وليست للتعليل بمعنى أن
عاقبة أمر الخلق أن يكون فيهم محسن ومسيء فللمسيء السوءى وللمحسن الحسنى وهي
متعلقة بما دلّ عليه معنى الملك ، ويجزي فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام
العاقبة وقيل هي بمعنى التعليل وإيضاح هذا المعنى أن التعليل لإضلال من شاء وهداية
من شاء ، والذين مفعول به وجملة أساءوا صلة الذين وبما عملوا متعلقان بيجزي ،
والذين أحسنوا بالحسنى عطف على ما تقدم (الَّذِينَ
يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) الذين في موضع نصب على أنه بدل من الذين أو هو في موضع
رفع على أنه خبر مبتدأ مضمر أي هم الذين يجتنبون وجملة يجتنبون صلة الذين وكبائر
الإثم مفعول يجتنبون والفواحش عطف على كبائر الإثم وإلا أداة استثناء واللّمم
مستثنى بإلا وهو استثناء منقطع لأنه ليس قبله ما يندرج فيه ويجوز أن يكون متصلا
عند من يفسّر اللّمم بغير الصغائر ، وأجاز الزمخشري أن يكون من باب «لو كان فيهما
آلهة إلا الله» فتكون إلا بمعنى غير صفة لكبائر الإثم وقد ظهر إعرابها فيما بعدها (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) إن واسمها وواسع المغفرة خبرها والجملة تعليلية
لاستثناء اللّمم لا محل لها (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ
إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ
أُمَّهاتِكُمْ) هو مبتدأ وأعلم خبر ولكم متعلقان بأعلم وإذ ظرف لما مضى
من الزمن متعلق بأعلم أيضا وجملة أنشأكم في محل جر بإضافة الظرف إليها ومن الأرض
متعلقان بأنشأكم وإذ عطف على إذ الأولى وأنتم مبتدأ وأجنّة خبره وفي بطون أمهاتكم
صفة لأجنّة
(فَلا تُزَكُّوا
أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) الفاء الفصيحة ولا ناهية وتزكوا فعل مضارع مجزوم بلا
الناهية وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل وأنفسكم مفعول به وهو مبتدأ وأعلم خبر
وبمن اتقى متعلقان بأعلم وجملة اتقى صلة الموصول.
(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي
تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ
فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ
الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ
لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ
يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ
هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ
الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ
عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨)
وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠)
وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ
أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦)
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ
هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠)
وَأَنْتُمْ
سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢))
اللغة :
(تَوَلَّى) عنه : أعرض عنه وتركه وتولّى هاربا أدبر وسيأتي المزيد
من معناه في باب البلاغة.
(أَكْدى) منع عطيته وقطعها وأصله إكداء الحافر وهو أن تلقاه كدية
وهي صلابة كالصخرة فيمسك عن الحفر وسيأتي المزيد من معناه في باب البلاغة.
(أَقْنى) أعطى المال الذي اتخذ قنية والقنية المال الذي تأثلته
وعزمت أن لا يخرج من يدك وفي الصحاح : «قني الرجل يقنى قنى مثل غني يغنى غنى ثم
يتعدى بتغيير الحركة فيقال قنيت له مالا كسبته نحو شترت عين الرجل وشترها الله»
وقال الراغب والحقيقة أنه جعل له مالا قنية وقنيت كذا وأقنيته.
(الشِّعْرى) هما شعريان أي كوكبان يسمى أحدهما الشعرى العبور وهو
المراد في الآية الكريمة فإن خزاعة كانت تعبدها وقد سنّ عبادتها أبو كبشة وهو رجل
من ساداتهم وقال لأن النجوم تقطع السماء عرضا والشعرى تقطعها طولا فهي مخالفة لها
فعبدها وعبدتها خزاعة وحمير ، وأبو كبشة أحد أجداد النبي صلى الله عليه وسلم من
قبل أمهاته ولذلك كان مشركو قريش يسمّون النبي صلى الله عليه وسلم ابن أبي كبشة
حين دعا إلى الله تعالى وخالف أديانهم تشبيها بذلك الرجل في أنه أحدث دينا غير
دينهم ، وهي تطلع بعد الجوزاء في شدة الحر وتسمى الشعرى اليمانية ، والثاني الشعرى
الغميصاء من الغمص بفتحتين وهو سيلان دمع العين.
(الْمُؤْتَفِكَةَ) المنقلبة وهي التي صار أعلاها أسفلها وأسفلها أعلاها.
(أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) أي دنت الدانية ، قال النابغة :
أزف الترحل
غير أن ركابنا
|
|
لما تزل
برحالنا وكأن قد
|
وقال كعب بن
زهير :
بان الشباب
وأمسى الشيب قد أزفا
|
|
ولا أرى
لشباب ذاهب خلفا
|
وفي المصباح : «أزف
الرحيل أزفا من باب تعب وأزفا أيضا دنا وقرب ، وأزفت الأزفة : دنت القامة».
(سامِدُونَ) السمود اللهو وقيل الإعراض وقيل الاستكبار وقال أبو
عبيدة : السمود الغناء بلغة حمير يقولون : يا جارية اسمدي لنا أي غنّي لنا وقال
الراغب : «السامد اللاهي الرافع رأسه من قولهم بعير سامد في مسيره وقيل سمد رأسه
وجسده أي استأصل شعره» وفي المختار :«السامد اللاهي وبابه دخل» وفسر الزمخشري
السمود بالبرطمة وهي عامية فصيحة ، ففي الصحاح البرطمة الانتفاخ من الغضب.
الإعراب :
(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي
تَوَلَّى) الهمزة للاستفهام التقريري والفاء عاطفة على محذوف
مقدّر ورأيت فعل وفاعل بمعنى أخبرني والذي مفعول رأيت الأول وجملة تولى صلة
الموصول (وَأَعْطى قَلِيلاً
وَأَكْدى) الواو عاطفة وأعطى معطوف على تولى وقليلا صفة لمصدر
محذوف ولك أن تجعله مفعولا به وأكدى عطف على أعطى (أَعِنْدَهُ عِلْمُ
الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) الهمزة للاستفهام الإنكاري وعنده ظرف متعلق بمحذوف خبر
مقدم
وعلم الغيب مبتدأ مؤخر والجملة في موضع نصب على أنها مفعول ثان لرأيت
والفاء عاطفة وهو مبتدأ وجملة يرى خبره والجملة عطف على جملة أعنده علم الغيب فهي
داخلة في حيز الاستفهام (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ
بِما فِي صُحُفِ مُوسى) أم منقطعة بمعنى بل ولم حرف نفي وقلب وجزم وينبأ فعل
مضارع مجزوم بلم ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وبما في موضع نصب مفعول ثان لينبأ
وفي صحف موسى متعلقان بمحذوف صلة ما (وَإِبْراهِيمَ
الَّذِي وَفَّى) وإبراهيم عطف على موسى والذي صفة ووفى صلة الموصول (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وجملة لا تزر
خبرها ووازرة فاعل تزر ووزر أخرى مفعول تزر وأن وما في حيزها بدل من ما في صحف
موسى فهي في محل جر أو خبر لمبتدأ محذوف أي هو أن لا تزر فهي في محل رفع (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما
سَعى) وأن عطف على أن لا تزر فهي مخففة مثلها وجملة ليس خبرها
وللإنسان خبر مقدم لليس وإلا أداة حصر وما مصدرية وسعى فعل والمصدر المؤول اسم ليس
(وَأَنَّ سَعْيَهُ
سَوْفَ يُرى) عطف على ما تقدم وسعيه اسم أن وجملة سوف يرى خبر أن (ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) ثم حرف عطف ويجزاه فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل
مستتر تقديره هو والهاء نصب بنزع الخافض أو هو مفعول ثان يقال جزيته سعيه وبسعيه
والجزاء مفعول مطلق والأوفى صفة والضمير المرفوع يعود على الإنسان والمنصوب يعود
على الجزاء وقال أبو البقاء : «قوله الجزاء الأوفى هو مفعول يجزى وليس بمصدر لأنه
وصف بالأوفى وذلك من صفة المجزى به لا من صفة الفعل» وليس قوله ببعيد وعندئذ يتعين
كون الضمير المنصوب منصوبا بنزع الخافض على أنه لا يمنع وصف المصدر من بقائه مصدرا
لأن الفعل قد يوصف بذلك مبالغة ، ويجوز أن يكون الضمير المنصوب للجزاء ثم فسّر
بقوله الجزاء الأوفى فهو بدل منه أو عطف بيان (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ
الْمُنْتَهى) عطف
على ما تقدم وإلى ربك خبر أن المقدم والمنتهى اسم أن المؤخر (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) عطف أيضا وأن واسمها وهو مبتدأ وجملة أضحك خبر والجملة
خبر أن ويجوز إعراب هو تأكيدا لاسم أن ، وعن بعضهم هو ضمير فصل وجملة أضحك خبر أن
ورجحه الأكثرون قالوا «في قوله تعالى وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيا وأنه
خلق الزوجين الذكر والأنثى إنما أتى بضمير الفصل في الأولين دون الثالث لأن بعض
الجهّال قد يثبت هذه الأفعال لغير الله تعالى كقول نمروذ أنا أحيي وأميت وأما
الثالث فلم يدعه أحد من الناس» (وَأَنَّهُ هُوَ
أَماتَ وَأَحْيا) عطف على الآية السابقة مماثلة لها في إعرابها (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ
الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) جملة خلق خبر أن والزوجين مفعول به والذكر بدل من
الزوجين والأنثى عطف على الذكر (مِنْ نُطْفَةٍ إِذا
تُمْنى) من نطفة متعلقان بخلق وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن
خافض لشرطه منصوب بجوابه وجملة تمنى في محل جر بإضافة الظرف إليها (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) الآية معطوفة على ما قبلها وعليه خبر أن المقدّم
والنشأة اسمها المؤخر والأخرى صفة للنشأة (وَأَنَّهُ هُوَ
أَغْنى وَأَقْنى) عطف على ما تقدم وقد سبق إعرابها (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) عطف أيضا (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ
عاداً الْأُولى) أن واسمها وجملة أهلك خبرها وعادا مفعول أهلك والأولى
صفة (وَثَمُودَ فَما
أَبْقى) عطف على عاد والفاء عاطفة وما أبقى معطوف على أهلك ،
وقال أبو البقاء : «وثمودا منصوب بفعل مضمر أي وأهلك ثمودا ، ولا يصحّ أن يكون
مفعولا مقدما لأبقى لأن لما النافية الصدر فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها» (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ
كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) وقوم نوح عطف على ثمود ومن قبل متعلقان بمحذوف على
الحال وقد بنيت قبل على الضم لانقطاعها عن الإضافة لفظا لا معنى وإن واسمها وصلة
كانوا خبرها وكان واسمها وهم ضمير فصل لا محل له ويجوز أن يكون تأكيدا للضمير في
كانوا وأظلم خبر كانوا وأطغى
عطف على أظلم (وَالْمُؤْتَفِكَةَ
أَهْوى) الواو عاطفة والمؤتفكة مفعول مقدم لأهوى فتكون الجملة
معطوفة ويجوز لك عطف المؤتفكة على ما قبله (فَغَشَّاها ما غَشَّى) الفاء حرف عطف وغشاها فعل وفاعل مستتر وما موصول مفعول
ثان لغشى وجملة غشى صلة ويجوز أن يكون غشى المشدد بمعنى المجرد فيتعدى لواحد ويكون
الفاعل ما كقوله تعالى : «فغشيهم من اليمّ ما غشيهم» (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكَ تَتَمارى) الفاء الفصيحة أي إن عرفت هذا كله فبأيّ آلاء ربك
تتمارى والباء ظرفية والخطاب للسامع والجار والمجرور متعلقان بتتمارى أي تتشكك وهو
استفهام إنكاري وأطلق على النعم والنقم لفظ الآلاء وهي النعم التي لا يتشكك فيها
سامع لما في النقم من الزجر والوعظ لمن اعتبر وتدبر (هذا نَذِيرٌ مِنَ
النُّذُرِ الْأُولى) اسم الإشارة مبتدأ والإشارة إلى القرآن أو إلى الرسول
صلى الله عليه وسلم ونذير خبر وتنوينه للتفخيم ومن النذر نعت لنذير والنذر إما جمع
لاسم الفاعل إذا اعتبرنا نذيرا اسم فاعل غير قياسي أو للمصدر إذا اعتبرنا نذيرا
مصدرا غير قياسي لأنه من أنذر وقياس اسم الفاعل منه منذر وقياس المصدر منه منذر
والأولى نعت للنذر (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) فعل وفاعل أي قربت الموصوفة بالقرب وهي يوم القيامة (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) الجملة حال من الآزفة وليس فعل ماض ناقص ولها خبر مقدم
ومن دون الله حال وكاشفة اسم ليس وهو تحتمل أن تكون وصفا أو مصدرا فإذا كانت وصفا
فالتاء فيها للتأنيث لأنها عندئذ صفة لمحذوف أي نفس كاشفة أو حال كاشفة ويجوز أن
تكون التاء فيها للمبالغة كعلّامة ونسّابة وأن تكون مصدرا كما قال الرمّاني
وجماعته كالعاقبة وخائنة الأعين (أَفَمِنْ هذَا
الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء استئنافية ومن هذا
متعلقان بتعجبون والحديث بدل من اسم الإشارة وتعجبون فعل مضارع مرفوع والعجب قد
يكون للتكذيب وقد يكون للاستحسان والتصديق والأول هو المقصود بالإنكار
(وَتَضْحَكُونَ وَلا
تَبْكُونَ) عطف على تعجبون (وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) الواو للحال أو للاستئناف وأنتم مبتدأ وسامدون خبر
والجملة إما حالية وإما مستأنفة (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ
وَاعْبُدُوا) الفاء الفصيحة أي إن تدبرتم هذا كله ووعيتموه حق الوعي
فاسجدوا ، واسجدوا فعل أمر مبني على حذف النون ولله متعلقان باسجدوا واعبدوا فعل
أمر معطوف على فاسجدوا والمفعول به محذوف.
البلاغة :
١ ـ في قوله
تعالى «أفرأيت الذي تولى» استعارة تصريحية لأنه استعار الإدبار والإعراض لعدم
الدخول في الإيمان ، ويمكن أن يجري هذا ضابطا لذكر التولي في القرآن فحيث ورد
مطلقا غير مقيد يكون معناه عدم الإيمان. وفي قوله «وأعطى قليلا وأكدى» استعارة
تصريحية ، شبّه من يعطى قليلا ثم يمسك عن العطاء بمن يكدي أي يمسك عن الحفر بعد أن
حيل دونه بصلابة كالصخرة. قال الإمام الراغب في مفرداته «الكدية صلابة الأرض ،
يقال حفر فأكدى فاستعير ذلك للطالب الملحف والمعطي المقل كما قال تعالى : أعطى
قليلا وأكدى».
٢ ـ وفي قوله «اضحك
وابكى» و «أمات وأحيا» و «أعطى وأكدى» و «الذّكر والأنثى» طباق لا يخفى وهو في
السورة جميعها متعدد ولهذا يدخل في باب المقابلة. وقد زاد هذا الطباق حسنا أنه أتى
في معرض التسجيع الفصيح لمجيء المناسبة التامة في فواصل الآي.
٣ ـ وفي قوله «وأنه
هو رب الشعرى» فن التنكيت وهو أن يقصد المتكلم إلى شيء بالذكر دون غيره مما يسدّ
مسدّه لأجل نكتة في المذكور ترجح مجيئه على سواه وقد خصّ الله سبحانه الشعرى
بالذكر دون غيرها من النجوم وهو رب كل شيء لما ذكرنا في باب اللغة من أن
العرب كان قد ظهر فيهم رجل يعرف بأبي كبشة عبد الشعرى ودعا إلى عبادتها
فأنزل الله الآية.
٤ ـ وفي قوله «ليس
لها من دون الله كاشفة» فن التمثيل فقد أخرج الكلام مخرج المثل السائر يتمثل به في
الوقائع.
سورة القمر
مكيّة وآياتها خمس
وخمسون
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(اقْتَرَبَتِ
السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا
سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ
مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ
بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ
إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ
كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ
الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨))
اللغة :
(مُزْدَجَرٌ) مصدر ميمي من الزجر إلا أن التاء أبدلت دالا ليوافق
الزاي بالجهر ، ولك أن تعتبره اسم مكان أي مكان اتعاظ.
(نُكُرٍ) منكر فظيع تنكره النفوس لهوله وهو يوم القيامة.
(مُهْطِعِينَ) الإهطاع هو الإسراع مع مدّ الأعناق والتشوّف بالأنظار
بصورة دائمة لا تقلع عن التحديق وهي صورة حيّة مجسّدة للفزع المرتاع الذي
يتطلع إلى ما يرتقبه من أهوال.
الإعراب :
(اقْتَرَبَتِ
السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) اقتربت الساعة فعل ماض وفاعل وانشق القمر عطف على
الجملة المتقدمة (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً
يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) الواو عاطفة وإن شرطية ويروا فعل الشرط مجزوم وعلامة
جزمه حذف النون والواو فاعل ويعرضوا جواب الشرط ويقولوا عطف على يعرضوا وسحر خبر
لمبتدأ محذوف أي هذا ومستمر صفة لسحر وفي مستمر أربعة أقوال أحدها وهو الظاهر أنه
دائم مطّرد وقيل : مستمر قوي محكم من قولهم استمر مريره ، قال البحتري في وصف
الذئب :
طواه الطوى
حتى استمر مريره
|
|
فما فيه إلا
الروح والعظم والجلد
|
وقيل هو من
استمر الشيء إذا اشتدت مرارته فلا ينساغ وقيل مستمر مار ذاهب لا يبقى وجميع هذه
الاحتمالات سائغة (وَكَذَّبُوا
وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) الواو عاطفة وكذبوا فعل وفاعل واتبعوا فعل وفاعل
وأهواءهم مفعول به ، وسيأتي سر العدول عن المضارع إلى الماضي في باب البلاغة ،
والواو للاستئناف وكل أمر مبتدأ ومستقر خبره والجملة استئناف مسوق لإدخال اليأس
إلى قلوبهم مما علّلوا به أمانيهم الكذوب ، وفي مستقر قراءات منها مستقر بفتح
القاف على أنه اسم مكان أو زمان أو مصدر ميمي أي ذو موضع استقرار أو زمان استقرار
أو استقرار وقرئ بالجر صفة لأمر فيكون كل مبتدأ والخبر محذوف أي معمول به أو
معطوفا على الساعة واستبعده أبو حيان لطول الفصل بجمل ثلاث (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما
فِيهِ مُزْدَجَرٌ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وجاءهم
فعل ماض ومفعول به ومن
الأنباء حال من ما وما موصولة أو موصوفة وعلى الحالين هي فاعل جاءهم وفيه
خبر مقدّم ومزدجر مبتدأ مؤخر والجملة صلة ما (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ
فَما تُغْنِ النُّذُرُ) حكمة خبر لمبتدأ محذوف أو بدل من ما وبالغة صفة لحكمة
ومفعول بالغة محذوف والتقدير بالغة غايتها أي لا يتطرق إليها خلل والفاء عاطفة وما
نافية أو استفهامية للإنكار وهي في محل نصب مفعول مطلق أي فأي غناء تغن النذر
ويجوز أن تجعلها مفعولا به مقدّما أي فأي شيء من الأشياء تغن النذر وتغن فعل مضارع
مرفوع والنذر فاعل تغن (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ
يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) الفاء الفصيحة وتولّ فعل أمر مبني على حذف حرف العلة
وفاعله مستتر تقديره أنت أي لا تناظرهم بالكلام وعنهم متعلقان بتولّ ويوم ظرف
متعلق باذكر مضمرا أو بيخرجون وجملة يدع في محل جر بإضافة الظرف إليها وحذفت الياء
من يدعو خطا والداعي فاعل يدعو وقرئ بإسقاط الياء اكتفاء بالكسرة وإلى شيء متعلقان
بيدعو ونكر صفة لشيء (خُشَّعاً
أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) خشعا حال وقرئ خاشعة وخاشعا وأبصارهم فاعل خشعا قال
الزجّاج : ولك في أسماء الفاعلين إذا تقدمت على الجماعة التوحيد فتقول خاشعا
أبصارهم ولك التوحيد والتأنيث نحو خاشعة أبصارهم ولك الجمع نحو خشعا أبصارهم وتقول
مررت بشباب حسن أوجههم وحسنة أوجههم وحسان وجوههم قال :
وشباب حسن
أوجههم
|
|
من إياد بن
نزار بن معبد
|
وقال الزمخشري
: «ويجوز أن يكون في خشعا ضميرهم وتقع أبصارهم بدلا منه وجملة يخرجون مستأنفة ومن
الأجداث متعلقان بيخرجون» وكأن واسمها وجراد خبرها ومنتشر صفة وجملة كأنهم جراد
حال (مُهْطِعِينَ إِلَى
الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) مهطعين
منصوب على الحال أيضا من فاعل يخرجون وإلى الداع متعلقان بمهطعين وجملة
يقول الكافرون استئنافية كأنها قد وقعت جوابا لسؤال عمّا نشأ من وصف اليوم
بالأهوال وأهله بسوء الحال كأنه قيل فما يكون حينئذ فقيل يقول الكافرون وجوّز
بعضهم أن تكون الجملة حالية من فاعل يخرجون فالأحوال من الواو إذن أربعة واحد
مقدّم وثلاثة مؤخرة وجملة هذا يوم عسر مقول القول.
البلاغة :
١ ـ المبالغة :
في قوله : «اقتربت الساعة» زيادة مبالغة على قرب ، كما أن في اقتدر زيادة مبالغة
على قدر لأن أصل افتعل إعداد المعنى بالمبالغة نحو اشتوى إذا اتخذ شواء بالمبالغة
في إعداده.
٢ ـ العدول عن
المضارع إلى الماضي : وفي قوله تعالى : «وكذبوا واتبعوا أهواءهم» عدول عن المضارع
كما يقتضيه ظاهر السياق لكون كذبوا واتبعوا معطوفين على يعرضوا ، والسر في هذا
العدول الإشعار بأنهما من عاداتهم القديمة.
٣ ـ التشبيه
المرسل المفصل : وفي قوله «يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر» تشبيه مرسل مفصّل
لأن الأركان الأربعة موجودة فيه فقد شبّههم بالجراد في الكثرة والتموج وعبارة
القرطبي «كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداع» وقال في موضع آخر : «يوم يكون الناس
كالفراش المبثوث فهما صفتان في وقتين مختلفين أحدهما عند الخروج من القبور يخرجون
فزعين لا يهتدون أين يتوجهون فيدخل بعضهم في بعض فهم حينئذ كالفراش المبثوث بعضه
في بعض لا جهة له يقصدها فإذا سمعوا المنادي قصدوه فصاروا كالجراد المنتشر لأن
الجراد له وجه يقصده» وهذا تعقيب جميل. وقد أفاد هذا التشبيه تجسيد الصورة
وتشخيصها فهذه الجموع الخارجة من الأجداث في مثل رجع الطرف تشبه الجراد
الذي اشتهر بانتشاره واحتشاده دون أن يكون له هدف من هذا الانتشار والاحتشاد وكذلك
هذه الجمع قد ألجمها الخوف وعقد الهول أفهامها وضرب عليها رواكد من الحيرة وغشيها
بأمواج من الضلالة والرين فهي تسير تلبية لدعوة الداع دون أن تعرف لم يدعوها ،
ولكنها تعرف بصورة مبهمة أنه يدعوها إلى شيء نكر لا تكتنه حقيقته ولا تعرف فحواه.
(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ
قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا
رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ
مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ
قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي
بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ
مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧))
اللغة :
(مُنْهَمِرٍ) المنهمر : المنصب بشدة وغزارة وفي المختار : «همر الدمع
والماء صبّه وبابه نصر وانهمر الماء : سال» قال امرؤ القيس :
راح تمريه
الصبا ثم انتحى
|
|
فيه شؤبوب
جنوب منهمر
|
(وَفَجَّرْنَا) التفجير : تشقيق الأرض عن الماء وللفاء مع الجيم فاء
وعينا خاصة غريبة فهما تدلّان على الشق والتصديع ، ففجأ وفجئ فجئا وفجأة وفجاءة
وفاجأ مفاجأة الرجل : هجم عليه أو طرقه بغتة من غير أن يشعر به ، والفجر ضوء
الصباح وفيه تصديع لظلمة الليل ، وشقّ لحنادسه ، ومشى فلان مفاجّا بين رجليه أي
مفرجا بينهما وفي أحاجيهم :ما شيء يفاجّ ولا يبول : هو المنضدة شيء كالسرير له
أربع قوائم يضعون عليه نضدهم وافتج الرجل : سلك الفجاج والفج يجمع على فجاج وفجاج
وهو الطريق الواسع الواضح بين جبلين وركب فلان فجرة عظيمة وهو من أهل الفجر لا من
أهل الفجور وهو الكرم وتبطح السيل في مفاجر الوادي ومرافضه وهي المواضع التي ترفض
إليها السبل ، وفجعه ما أصابه وفجّعه ويقولون : الدهر فاجئ بالشر فاجع واهب في
هبته راجع ، والفجوة المتّسع.
(عُيُوناً) جمع عين الماء وهي ما يفور من الأرض مستديرا كاستدارة
عين الحيوان فالعين مشتركة بين عين الحيوان وعين الماء وعين الذهب وعين السحاب
وعين الركية ويقال للعين ينبوع والجمع ينابيع والمنبع بفتح الميم والباء مخرج
الماء والجمع منابع.
(وَدُسُرٍ) الدسر : المسامير التي تشدّ بها السفينة واحدها دسار
ودسير ودسرت السفينة أدسرها دسرا إذا شددتها وقيل إن أصل الباب الدفع يقال دسره
بالرمح إذا دفعه بشدة والدسر صدر السفينة لأنه يدسر به الماء أي يدفع ومنه الحديث
في العنبر : «هو شيء دسره البحر» وفي المختار «الدسر : الدفع وبابه نصر» ويمكن
التوفيق بين القولين لأن المسمار يدفع في منفذه ، وسيأتي المزيد من هذا المعنى في
باب البلاغة.
(مُدَّكِرٍ) أصله مذتكر فقلبت التاء دالا لتواخي الذال في الجهر ثم
أدغمت الدال فيها.
الإعراب :
(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ
قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) كذبت فعل ماض والتاء للتأنيث وقبلهم ظرف زمان منصوب
لإضافته متعلق بكذبت وقوم نوح فاعل كذبت ، فكذبوا الفاء عاطفة وكذبوا فعل وفاعل
وعبدنا مفعول به وقالوا عطف على كذبوا ومجنون خبر لمبتدأ محذوف أي هو مجنون ،
وازدجر يجوز عطفه على قالوا أي لم يكتفوا بهذا القول بل ضمّوا إليه زجره ونهره
وقيل هو معطوف على هو مجنون فهو في حيز مقولهم أي قالوا هو مجنون وقد ازدجرته الجن
وتخبطته وذهبت بلبّه ، وازدجر فعل ماض مبني للمجهول (فَدَعا رَبَّهُ
أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) الفاء عاطفة ودعا ربه فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به
وأن وما في حيزها في محل نصب بنزع الخافض أي بأني مغلوب على حكاية المعنى ولو جاء
على حكاية اللفظ يقال أنه مغلوب ، وأن واسمها وخبرها والفاء عاطفة وانتصر فعل أمر
أي انتقم لي منهم فمتعلق انتصر محذوف كما رأيت (فَفَتَحْنا أَبْوابَ
السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) الفاء عاطفة على محذوف مقدّر أي فاستجبنا لنوح دعاءه
ففتحنا ، وفتحنا فعل وفاعل وأبواب السماء مفعول به وبماء متعلقان بفتحنا والباء
للتعدية على المبالغة حيث جعل الماء كالآلة التي يفتح بها كما تقول فتحت بالمفتاح
ويجوز أن تكون الباء للملابسة أي ملتبسة بماء منهمر فتكون في موضع نصب على الحال ،
ومنهمر صفة لماء (وَفَجَّرْنَا
الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) وفجرنا عطف على فتحنا والأرض مفعول به وعيونا تمييز فإن
نسبة فجرنا إلى الأرض مبهمة وعيونا مبين لذلك
الإبهام والأصل وفجرنا عيون الأرض فحول المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه
وجيء بالمضاف تمييزا ، فالتقى عطف على فجرنا والماء فاعل التقى وعلى أمر متعلقان
بالتقى وأفادت على معنى التعليل والمعنى اجتمع لأجل إغراقهم المقضي أزلا ، وقيل في
موضع نصب على الحال ، وجملة قد قدر صفة لأمر (وَحَمَلْناهُ عَلى
ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) الواو عاطفة وحملناه فعل وفاعل ومفعول به وعلى ذات
متعلقان بحملناه وألواح مضاف إليه ودسر عطف على ألواح (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ
كانَ كُفِرَ) الجملة صفة لذات دسر وذات ألواح في الأصل صفة لسفينة
فهي صفة ثانية وتجري فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدّرة على الياء وبأعيننا
جار ومجرور في موضع نصب على الحال من الضمير في تجري أي مكلوءة ومحفوظة بأعيننا
وجزاء مفعول لأجله أي فعلنا ذلك جزاء أو بتقدير جازيناهم جزاء ويجوز أن يكون مصدرا
في موضع الحال ولمن متعلقان بجزاء وجملة كان صلة من (وَلَقَدْ تَرَكْناها
آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) الواو عاطفة واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق
وتركناها فعل ماض وفاعل ومفعول به والضمير يعود على الفعلة وهي إغراقهم على الشكل
المذكور وأجاز الزمخشري أن يعود على السفينة ، وآية حال أو مفعول به ثان إذا كان
تركنا بمعنى جعلناها والفاء عاطفة وهل حرف استفهام ومن حرف جر زائد ومدكر مجرور
لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره موجود (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) الفاء الأولى أن تكون هي الفاء الفصيحة كأنه قال إن
علمتم ما حلّ بهم جميعا جزاء وفاقا لعملهم فكيف كان عذابي وكيف اسم استفهام في محل
نصب خبر كان المقدم وكان عذابي كان واسمها ونذري عطف على عذابي ولم تثبت الياء في
الرسم لأنها من ياءات الزوائد وكذا يقال في المواضع الآتية كلها على أنه قرئ بإثباتها
وسيأتي معنى الاستفهام في البلاغة (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) عطف على ما تقدم
وللذكر متعلقان بيسّرنا والمعنى ولقد هيأناه للذكر من يسر ناقته للسفر ويسر
فرسه للغزو إذا أسرجه وألجمه قال :
وقمت إليه
باللجام ميسرا
|
|
هنالك يجزيني
الذي كنت أصنع
|
ومعنى البيت :
وقمت إليه مهيئا ومعدّا له اللجام أو مسهلا له به دلالة على أنه كان صعبا لو لا
اللجام وهنالك إشارة إلى مكان الحرب وإلى زمانها ويجزيني أي يعطيني جزاء صنعي معه
وشبهه لمن تصح منه المجازاة على طريق الاستعارة المكنية.
البلاغة :
١ ـ إنابة
الصفات مناب الموصوفات : في وقله «وحملناه على ذات ألواح ودسر» كناية عن موصوف وهو
السفينة فقد نابت الصفات مناب الموصوفات وأدّت مؤداها بحيث لا يفصل بينها وبينها ،
ونحوه قول أبي الطيب :
مفرشي صهوة
الحصان
|
|
ولكن قميصي
مسرودة من حديد
|
أراد ولكن
قميصي درع ، وفي الآية لو جمعت بين السفينة وبين هذه الصفة أو بين الدرع وهذه
الصفة لم يصحّ وهذا من فصيح الكلام وبديعه.
٢ ـ التكرير :
وفي قوله «فهل من مدّكر» تكرار وقد مرّ تعريفه ، ونقول هنا أن فائدة التكرار أن
يجددوا عند سماع كل نبأ اتعاظا ، وسيأتي من أحكام التكرير العجب العجاب.
٣ ـ معنى
الاستفهام : وفي قوله «فكيف كان عذابي ونذر» الاستفهام هنا للسؤال عن الحال أي كان
على كيفية هائلة لا يحيطها
الوصف ، والمعنى حمل المخاطبين على الإقرار بوقوع عذابه تعالى للمكذبين.
(كَذَّبَتْ عادٌ
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً
صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ
أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ
يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢))
اللغة :
(صَرْصَراً) الصرصر : الريح الشديدة الهبوب حتى يسمع صوتها ، وهو
مضاعف صر ، وتكرير الأحرف إشعار بتكرير العمل وقد تقدم بحثه ومثله كبّ وكبكب ونه
ونهنه.
(أَعْجازُ نَخْلٍ) الأعجاز : جمع عجز وعجز كل شيء مؤخره ومنه العجز لأنه
يؤدي إلى تأخر الأمور والنخل يذكّر ويؤنّث.
(مُنْقَعِرٍ) : منقلع من أصله لأن قعر الشيء قراره ومنه تقعر فلان في
كلامه إذا تعمق فيه.
الإعراب :
(كَذَّبَتْ عادٌ
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) كذبت عاد فعل ماض وفاعل وكيف كان عذابي ونذر تقدم
إعرابها (إِنَّا أَرْسَلْنا
عَلَيْهِمْ رِيحاً
صَرْصَراً
فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) إن واسمها وجملة أرسلنا عليهم خبرها والجملة مستأنفة
مسوقة لبيان ما أجمل وريحا مفعول أرسلنا وصرصرا نعت ريحا ومستمر نعت للنحس أو
لليوم ، وسيأتي الحديث عن يوم النحس في باب الفوائد (تَنْزِعُ النَّاسَ
كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) الجملة صفة لريحا وكأن واسمها وأعجاز نخل خبرها ومنعقر
صفة لنخل والجملة حالية وهي حال مقدّرة وسيأتي المزيد عن هذا التشبيه في باب
البلاغة (فَكَيْفَ كانَ
عَذابِي وَنُذُرِ) تقدم إعرابها (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) تقدم إعرابها قريبا فجدد به عهدا.
البلاغة :
١ ـ في قوله «تنزع
الناس» وضح الظاهر موضع المضمر وذلك لإفادة العموم أي إن النزع يعمّ الذكور
والإناث جميعا وإلا فالأصل تنزعهم ، قال مجاهد «تلقى الرجل على رأسه فتفتت رأسه
وعنقه وما يلي ذلك من بدنه» وقيل كانوا يصطفون آخذي بعضهم بأيدي بعض ويدخلون في
الشعاب ويحفرون الحفر فيندسون فيها فتنزعهم وتدق رقابهم.
٢ ـ التشبيه :
وفي قوله : «كأنهم أعجاز نخل منقعر» تشبيه مرسل تمثيلي ، شبّههم بأعجاز النخل
المنقعر إذ تساقطوا على الأرض أمواتا وهم جثث غطام طوال ، وقيل كانت الريح تقطع
رءوسهم فتبقى أجسادا بلا رءوس فأشبهت أعجاز النخل التي انقلعت من مغارسها.
الفوائد :
يوم النحس :
قال الزجّاج : «قيل أنه كان في يوم الأربعاء في آخر الشهر لا تدور» ومن ثم شاع
النحس عن يوم الأربعاء التي لا تدور ، قال
الشهاب في حاشيته على البيضاوي «فإن الناس يتشاءمون بآخر أربعاء في كل شهر
ويقولون له أربعاء لا يدور وتشاؤمهم به لا يستلزم شؤمه في نفسه» وسيأتي المزيد من
هذا البحث في سورة الحاقة.
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ
بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً
لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ
هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦)
إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ
أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا
صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا
أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢))
اللغة :
(سُعُرٍ) يجوز أن يكون مفرد أي جنون يقال ناقة مسعورة أي
كالمجنونة في سيرها قال :
كأنّ بها
سعرا إذا العيس هزّها
|
|
ذميل وإرخاء
من السير متعب
|
يقول : كأن
بناقتي جنونا لقوة سيرها فالعيس جمع عيساء وهي النوق البيض حركها ذميل وإرخاء وهما
ضربان من السير متعب كل منهما ، وإسناد الهز إليهما مجاز عقلي من باب الإسناد
للسبب وإن أريد
بالهز التسيير فيكون من الإسناد للمصدر كجد جده ويجوز أن يكون جمع سعير وهو
النار.
(الْأَشِرُ) الشديد البطر والتكبّر فهي صيغة مبالغة وقيل انه صفة
مشبهة كحذر ويقظ ووطف وعجز وفي المختار «أشر وبطر من باب طرب أو فرح».
(مُحْتَضَرٌ) اسم مفعول من احتضر بمعنى حضر لأن الماء كان مقسوما
بينهم لكل فريق يوم أي كل نصيب من الماء يحضره لا يحضر آخر معه ففي يوم الناقة
تحضره الناقة وفي يومهم يحضرونه هم ، وحضر واحتضر بمعنى واحد وإنما قال قسمة بينهم
تغليبا لمن يعقل والمعنى يوم لهم ويوم لها.
(فَتَعاطى) فتناول السيف وعقرها ، وقد مرّ مدتها.
(الْمُحْتَظِرِ) بكسر الظاء اسم فاعل وهو الذي يتخذ حظيرة من الحطب
وغيره والحظيرة الزريبة وفي المختار «الحظيرة تعمل للإبل من شجر لتقيها البرد
والريح والمحتظر بكسر الظاء الذي يعملها» والمعنى صاروا كيبس الشجر المفتت إذا
تحطم والهشيم المتكسر المتفتت.
الإعراب :
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ
بِالنُّذُرِ) فعل ماض وفاعل وبالنذر متعلقان بكذبت وقد تقدم أن النذر
إما أن يكون مصدرا فيكون بمعنى الإنذار وإما أن يكون جمع نذير أي منذر (فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً
نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) الفاء عاطفة وقالوا فعل ماض وفاعل ، وأبشرا الهمزة
للاستفهام وبشرا منصوب على الاشتغال أي بفعل مضمر يفسره ما بعده أي أنتبع بشرا
ومنّا صفة لبشرا وواحدا فيه وجهان أظهرهما أنه نعت لبشرا
إلا أنه يشكل عليه تقديم الصفة المؤولة على الصفة الصريحة ويجاب بأن منّا
حينئذ ليس وصفا بل حال من واحدا قدم عليه والوجه الثاني أنه نصب على الحال من
الهاء في نتبعه ، والبشر يقع على الواحد والجمع ونتبعه فعل مضارع وفاعل مستتر
ومفعول به وإن واسمها وإذن حرف جواب وجزاء مهملة ولفي اللام المزحلقة وفي ضلال
متعلقان بمحذوف خبر إن وسعر معطوف على ضلال (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ
عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) الهمزة للاستفهام الإنكاري وألقي فعل ماض مبني للمجهول
والذكر نائب فاعل وعليه متعلقان بألقي ومن بيننا حال من الهاء في عليه أي منفردا
وبل حرف إضراب وعطف وهو مبتدأ وكذاب خبر وأشر نعت (سَيَعْلَمُونَ غَداً
مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) الجمل مقول قول محذوف تقديره قال تعالى والسين
للاستقبال ويعلمون فعل وفاعل وغدا ظرف متعلق بيعلمون ومن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ
والكذاب خبره والأشر صفة والجملة المعلقة لتصدّر الاستفهام بها سدّت مسدّ مفعولي
يعلمون (إِنَّا مُرْسِلُوا
النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ) إن واسمها ومرسلو الناقة خبرها والجملة مستأنفة لبيان
الموعود به وفتنة مفعول لأجله أي اختبارا لهم والفاء الفصيحة وارتقبهم فعل أمر
وفاعل مستتر ومفعول به واصطبر عطف على ارتقبهم ، ومتعلق واصطبر محذوف أي واصطبر
على أذاهم (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ
الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) ونبئهم الواو عاطفة ونبئهم فعل أمر وفاعل مستتر تقديره
أنت والهاء مفعول أول وأن وما في حيزها في موضع المفعول الثاني والثالث لأن نبّأ
تنصب ثلاثة مفاعيل وأن واسمها وقسمة خبرها وبينهم ظرف متعلق بمحذوف صفة مقسمة أو
بقسمة لأنها بمعنى مقسومة وكل مبتدأ وشرب مضاف إليه ومحتضر خبر كل أي محضور لهم أو
للناقة (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ
فَتَعاطى فَعَقَرَ) الفاء عاطفة ونادوا فعل ماض وفاعل والمعطوف عليه محذوف
أي فتمادوا على ذلك ، والأحسن أن تكون الفصيحة أي فبقوا على ذلك مدة ثم
ملّوا من نضوب الماء وجدب المراعي فأجمعوا على قتلها واتفقوا على الكمون
لها حيث تمر وتطوع لهذا الأمر قدار بن سالف ، وقد تقدمت قصته ، فنادوه فتعاطى
وصاحبهم مفعول به فتعاطى عطف على فنادوا أي فاجترأ على تعاطي هذا الأمر غير آبه له
فعقر عطف على تعاطي (فَكَيْفَ كانَ
عَذابِي وَنُذُرِ) تقدم إعرابها قريبا (إِنَّا أَرْسَلْنا
عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) إن واسمها وجملة أرسلنا خبرها وعليهم متعلقان بأرسلنا
وصيحة مفعول به وواحدة صفة ، فكانوا عطف على أرسلنا والواو اسم كان والهشيم
المحتظر خبرها وقرئ بالفتح على أنه اسم مكان وهو موضع الاحتظار أي الحظيرة (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ
لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) تقدم إعرابها قريبا.
البلاغة :
١ ـ في قوله «سيعلمون
غدا من الكذاب الأشر» فن الإبهام ليكون الوعيد أحفل بالانتقام والتهديد أشدّ أثرا
في النفوس ، وأورده مورد الإبهام وإن كانوا هم المعنيين لأنه أراد وقت الموت ولم
يرد غدا بعينه وهو شائع في الشعر العربي ، قال أبي الطماح :
ألا عللاني
قبل نوح النوائح
|
|
وقبل اضطراب
النفس بين الجوانح
|
وقبل غد يا
لهف نفسي في غد
|
|
إذا راح
أصحابي ولست برائح
|
أراد وقت الموت
ولم يرد غدا بعينه. ومنه قول الحطيئة :
للموت فيها
سهام غير مخطئة
|
|
من لم يكن
ميتا في اليوم مات غدا
|
٢ ـ التشبيه : وفي قوله «فكانوا
كهشيم المحتظر» تشبيه مرسل لإهلاكهم وإفنائهم.
(كَذَّبَتْ قَوْمُ
لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ
نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ
(٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ
راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧)
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي
وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ
(٤٠) وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها
فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢))
اللغة :
(حاصِباً) ريحا حصبتهم أي رمتهم بالحجارة والحصباء ، قال الفرزدق
:
مستقبلين
شمال الشام تضربنا
|
|
بحاصب كنديف
القطن منثور
|
وفي المختار : «الحصباء
بالمدّ الحصى ومنه المحصّب وهو موضع بالحجاز والحاصب الريح الشديدة تثير الحصى
والحصب بفتحتين ما تحصب به النار أي ترمى وكل ما ألقيته في النار فقد حصبتها به
وبابه ضرب» وسيأتي المزيد من معناه في باب الإعراب.
(بِسَحَرٍ) سحر إذا كان نكرة يراد به سحر من الأسحار يقال رأيت
زيدا سحرا من الأسحار ولو أريد من يوم معين لمنع من الصرف لأنه
معرفة معدول عن السحر لأن حقه أن يستعمل في المعرفة بأل ، وعبارة الزمخشري
: «بسحر بقطع من الليل وهو السدس الأخير منه وقيل : هما سحران فالسحر الأعلى قبل
انصداع الفجر والآخر عند انصداعه وأنشد :
يا سائلي إن
كنت عنها تسأل
|
|
مرّت بأعلى
السحرين تذأل
|
وصرف لأنه نكرة»
هذا وقد اختلف في تعريف الممنوع فقيل إنه ممنوع من الصرف للتعريف والعدل أما
التعريف ففيه خلاف فقيل هو معرفة بالعلمية لأنه جعل علما لهذا الوقت وقيل يشبه
العلمية لأنه تعريف بغير أداة ظاهرة كالعلم وأما العدل فإن صيغته معدولة عن السحر
المقرون بأل لأنه لما أريد به معين كان الأصل فيه أن يذكر معرّفا بأل فعدل عن
اللفظ بأل وقصد به التعريف فمنع من الصرف ، وقال السهيلي والشلوبين الصغير معرف
معروف واختلف في منع تنوينه فقال السهيلي : هو على نية الإضافة وقال الشلوبين على
نيّة أل.
الإعراب :
(كَذَّبَتْ قَوْمُ
لُوطٍ بِالنُّذُرِ) فعل ماض وفاعل وبالنذر متعلقان بكذبت (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً
إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) إن واسمها وجملة أرسلنا خبرها وعليهم متعلقان بأرسلنا
وحاصبا مفعول به وإلا أداة استثناء وآل لوط مستثنى بإلا وفي هذا الاستثناء وجهان
أحدهما أنه متصل ويكون المعنى أنه أرسل الحاصب على الجميع إلا أهله فإنه لم يرسل
عليهم والثاني أنه منقطع ويكون المعنى أنه لم يرسل على آل لوط والوجه هو الأول ،
ونجيناهم فعل وفاعل وبسحر متعلقان بنجيناهم (نِعْمَةً مِنْ
عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) نعمة مفعول مطلق ملاق لعامله في المعنى وهو نجيناهم إذ
الإنجاء نعمة ، أو مفعول لأجله تعليل
لأنجيناهم وإليه جنح الزمخشري واقتصر عليه ومن عندنا صفة لنعمة وكذلك متعلق
بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف أي مثل ذلك الإنجاء ونجزي فعل مضارع مرفوع ومن موصول
مفعول به وجملة شكر صلة الموصول (وَلَقَدْ
أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ) الواو حرف عطف واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق
وأنذرهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول وبطشتنا مفعول به ثان أو هو منصوب بنزع
الخافض قولان ، والفاء حرف عطف وتماروا فعل ماض والواو فاعل أي تدافعوا بالإنذار
على وجه الجدال وبالنذر متعلقان بتماروا (وَلَقَدْ راوَدُوهُ
عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) الجملة عطف على الجملة السابقة وعن ضيفه متعلقان
براودوه ، فطمسنا عطف على راودوه وأعينهم مفعول به والفاء عاطفة ومعطوفها محذوف أي
فقلنا لهم وجملة ذوقوا مقول القول المحذوف وعذابي مفعول ذوقوا ونذر عطف على عذابي وحذفت
ياء المتكلم كما تقدم (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ
بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) عطف أيضا وبكرة ظرف متعلق بصحبهم أي من غير يوم معين
وعذاب فاعل ومستقر نعت لعذاب أي لا يزول عنهم (فَذُوقُوا عَذابِي
وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) تقدم إعرابها (وَلَقَدْ جاءَ آلَ
فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) تقدم إعراب نظيرها (كَذَّبُوا بِآياتِنا
كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) كلام مستأنف مسوق للردّ على سؤال نشأ من حكاية مجيء
النذر كأنه قيل فماذا فعلوا حينئذ فقيل كذبوا ، وبآياتنا متعلقان بكذبوا وكلها
تأكيد لآياتنا ، فأخذناهم الفاء عاطفة وأخذناهم فعل وفاعل ومفعول به وأخذ عزيز
مفعول مطلق ومقتدر صفة لعزيز والإضافة من إضافة المصدر لفاعله.
البلاغة :
التكرير : في
الآيات المتقدمة تكرير ملحوظ مقصود والغاية منه التذكير والانتباه من سنة الغفلة
التي قد تطرأ على الأذهان فتحجبها عن
التأمل والتدبّر ، وترين عليها سجوف الجهالات حتى ما تكاد تبصر شيئا وسيأتي
المزيد من هذا الفن في سورة الرحمن.
(أَكُفَّارُكُمْ
خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ
نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥)
بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦) إِنَّ
الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى
وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ
(٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ
أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي
الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥))
الإعراب :
(أَكُفَّارُكُمْ
خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) أكفّاركم : الهمزة للاستفهام الإنكاري الذي هو بمعنى النفي وكفّاركم مبتدأ
وخير خبر ومن أولئكم متعلقان بخير وأم منقطعة بمعنى بل فهي للإضراب والانتقال إلى
وجه آخر من التبكيت ولكم خبر مقدم وبراءة مبتدأ مؤخر وفي الزبر نعت لبراءة (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ
مُنْتَصِرٌ) أم تقدم القول فيها
ويقولون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل ونحن مبتدأ وجميع خبر ومنتصر نعت
لجميع لأنه بمعنى جمع والجملة مقول القول ، وإنما وحّد منتصر للفظ بجميع فإنه واحد
في اللفظ وإن كان اسما للجماعة كالرهط والجيش وقيل لم يقل منتصرون لموافقة رؤوس
الآي وهو جيد (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ
وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) السين حرف استقبال ويهزم فعل مضارع مبني للمجهول والجمع
نائب فاعل ويولون عطف على سيهزم والدبر مفعول به ، ولم يقل الأدبار لموافقة رؤوس
الآي أيضا ولأنه اسم جنس لأن كل واحد يولي دبره (بَلِ السَّاعَةُ
مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) بل حرف إضراب وعطف والساعة مبتدأ وموعدهم خبر والواو
حرف عطف والساعة مبتدأ وأدهى خبر وأمرّ عطف على الساعة ولك أن تجعل الواو للحال (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ
وَسُعُرٍ) إن واسمها في ضلال خبرها (يَوْمَ يُسْحَبُونَ
فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) يوم الظرف متعلق بقول محذوف أي يقال لهم يوم يسحبون
وجملة يسحبون في محل جر بإضافة الظرف إليها وفي النار متعلقان بيسحبون وعلى وجوههم
متعلقان بمحذوف حال وذوقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجملة مقول
القول المقدّر ومسّ مفعول به وسقر مضاف إليه وهي علم لجهنم ولذلك منعت من الصرف لأنها
علم مؤنث (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ
خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) إن واسمها وكل شيء نصب على الاشتغال بفعل محذوف يفسره
ما بعده أي إنّا خلقنا كل شيء خلقناه وجملة الفعل المحذوف في محل رفع خبر إنّا
وجملة خلقناه مفسّرة لا محل لها ، وقد نشب خلاف طويل حول هذه الآية لخصناه لك في
باب الفوائد ، وبقدر متعلقان بمحذوف حال من كل أي مقدّرا محكما مرتبا (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ
بِالْبَصَرِ) الواو عاطفة وما نافية وأمرنا مبتدأ وإلا أداة حصر
وواحدة خبر أمرنا وكلمح متعلقان بمحذوف حال من متعلق الأمر وهو الشيء المأمور
بالوجود أي حال كونه يوجد سريعا وبالبصر متعلقان بلمح (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا
أَشْياعَكُمْ
فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) تقدم إعراب نظيرها قريبا (وَكُلُّ شَيْءٍ
فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) الواو عاطفة وكل مبتدأ وشيء مضاف إليه وجملة فعلوه صفة
وفي الزبر خبر أي الكتب جمع زبور (وَكُلُّ صَغِيرٍ
وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) مبتدأ وخبر أي مسطور في اللوح المحفوظ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ
وَنَهَرٍ) إن واسمها وفي جنات خبرها ونهر عطفت على جنات (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ
مُقْتَدِرٍ) الجار والمجرور بدل بعض من كل من قوله في جنات لأن
المقعد بعض الجنات ولك أن تعلقه بمحذوف على أنه خبر ثان لإن وعند مليك ظرف متعلق
بمحذوف صفة لجنات أو لمقعد وقيل هو خبر ثان أو ثالث لإن ومليك صيغة مبالغة.
الفوائد :
١ ـ شجر خلاف
بين أهل السنّة والمعتزلة حول قوله تعالى «إنّا كل شيء خلقناه بقدر» وكان قياس ما مهّد
النحاة رفع «كل» لكن لم يقرأ بها واحد من السبعة لأن الكلام مع الرفع جملة واحدة
ومع النصب جملتان فالرفع أخصر مع أنه لا مقتضى للنصب هاهنا من أحد الأصناف الستة
وهي الأمر والنهي والاستفهام والتمنّي والترجّي والتحضيض ، ولا نجد هنا مناسب عطف
ولا غيره مما يعدّونه من محال اختيارهم للنصب ، فإذا تبين ذلك علم أنه إنما عدل عن
الرفع إجمالا لسر لطيف يعين اختيار النصب وهو أنه لو رفع لوقعت الجملة التي هي
خلقناه صفة لشيء ورفع قوله بقدر خبرا عن كل شيء المقيد بالصفة ويحصل الكلام على
تقدير إنّا كل شيء مخلوق لنا بقدر فأفهم ذلك أن مخلوقا ما يضاف إلى غير الله تعالى
ليس بقدر ، وعلى النصب يصير الكلام إنّا خلقنا كل شيء بقدر فيفيد عموم نسبة كل
مخلوق إلى الله تعالى ، فلما كانت هذه الفائدة لا توازيها الفائدة اللفظية على
قراءة الرفع مع ما في
الرفع من نقصان المعنى ومع ما في هذه القراءة المستفيضة من مجيء المعنى
تاما كفلق الصبح لا جرم أجمعوا على العدول عن الرفع إلى النصب.
على أن
الزمخشري وهو من رؤوس المعتزلة وأعلامهم حاول خرق الإجماع ونقل قراءة بالرفع
وخلقناه في موضع الصفة وبقدر هو الخبر أو جملة خلقناه هي الخبر وبقدر حال وعبارته «كل
شيء منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر وقرئ كل شيء بالرفع» وقد انفرد بها أبو السمال
وهي شاذة.
٢ ـ خلاصة
وافية لبحث الاشتغال : وهذه خلاصة وافية لبحث الاشتغال :
أما حدّه فهو
أن يتقدم اسم ويتأخر عنه فعل متصرف أو اسم يشبهه ناصب لضميره أو لملابس ضميره
بواسطة أو غيرها ، ويكون ذلك العامل بحيث لو فرغ من ذلك المعمول وسلط على الاسم
المتقدم لنصبه ، ويجب النصب إذا وقع الاسم المتقدم بعد ما يختص بالفعل كأدوات
التحضيض نحو هلّا زيدا أكرمته ، وأدوات الاستفهام غير الهمزة نحو هل زيدا رأيته ،
وأدوات الشرط نحو حيثما زيدا لقيته فأكرمه ، ويترجح النصب في ست مسائل :
١ ـ أن يكون
الفعل المشتغل طلبا وهو الأمر والدعاء بخير أو شر.
٢ ـ أن يكون
الفعل المشتغل مقرونا باللام أو بلا الطلبيتين نحو عمرا ليضربه بكر ، وخالدا لا
تهنه.
٣ ـ أن يكون
الاسم المشتغل عنه واقعا بعد شيء الغالب عليه أن يليه فعل ولذلك أمثلة منها همزة
الاستفهام نحو : «أبشرا منّا واحدا نتبعه».
٤ ـ أن يقع
الاسم المشتغل عنه بعد عاطف غير مفصول بأما المفتوحة الهمزة المشددة الميم ، مسبوق
بفعل غير مبني على اسم قبله نحو قام زيد وعمرا أكرمته ، وقوله تعالى «والأنعام
خلقها لكم» بخلاف نحو : ضربت زيدا وأما عمرو فأهنته فالمختار فيه الرفع.
٥ ـ أن يتوهم
في الرفع أن الفعل المشتغل بالضمير صفة لما قبله نحو «إنّا كل شيء خلقناه بقدر»
لأنه إذا رفع كل احتمل خلقناه أن يكون خبرا له فيكون المعنى على عموم خلق الكائنات
الموجودة بقدر خيرا كانت أو شرا كما هو مذهب السنّة ، واحتمل أن يكون خلقناه صفة
لشيء وبقدر خبر لكل والتخصيص بالصفة يوهم أن ما لا يكون موصوفا بها لا يكون بقدر
والصفة هي المخلوقية المنسوبة له فالمخلوقية التي لا تكون منسوبة له لا تكون بقدر
فيوهم أن ثمة مخلوقا لغيره تعالى وهو مذهب المعتزلة وإنما لم يتوهم ذلك مع النصب
لكل على أنه مفعول بفعل محذوف يفسره خلقنا ، ويمتنع جعله صفة لكل شيء لأن الصفة لا
تعمل في الموصوف وما لا يعمل لا يفسر عاملا ، ومن ثم وجب الرفع لكل إن كان الفعل
المتصل بالضمير صفة لكل شيء نحو «وكل شيء فعلوه في الزبر» أي الكتب ولا يصحّ نصب
كل لأن تقدير تسليط الفعل عليها إنما يكون على حسب المعنى المراد وليس المعنى هنا
أنهم فعلوا كل شيء في الزبر حتى يصحّ تسليط فعلوا على كل شيء وإنما المعنى وكل شيء
مفعول لهم ثابت في الزبر وهو مخالف لذلك المعنى فرفع كل واجب على الابتدائية
والفعل المتأخر صفة له أو لشيء وفي الزبر خبر كل.
هذا ولم يعتبر
سيبويه إيهام الصفة مرجحا للنصب كما فعل ابن مالك بل جعل سيبويه النصب مرجوحا في
الآية المذكورة قال : «فأما قوله تعالى : «إنّا كل شيء خلقناه بقدر فإنما جاء على
حدّ قوله زيدا
ضربته وهو عربي كثير» وقال ابن الشجري : «أجمع البصريون في هذه الآية على
أن الرفع أرجح لعدم تقدم ما يقتضي النصب ، وقال الكوفيون : النصب فيها أجود لأنه
قد تقدم على كل عامل ينصب وهو إن فاقتضى ذلك إضمار خلقنا».
٦ ـ المسألة
السادسة مما يترجح نصبه أن يكون الاسم المشتغل عنه جوابا لاستفهام منصوب بما يليه
كزيدا ضربته جوابا لمن قال : أيّهم ضربت أو من ضربت فزيد يترجح نصبه لكونه جوابا
للاستفهام ليطابق الجواب السؤال في الجملة الفعلية.
هذا وفي قوله «وكل
شيء فعلوه في الزبر» يجب رفع كل ويمتنع نصبها لأن تقدير تسليط الفعل عليها إنما
يكون على حسب المعنى المراد وليس المعنى هنا أنهم فعلوا كل شيء في الزبر حتى يصحّ
تسليط فعلوا على كل شيء والفعل المتأخر صفة له أو لشيء.
سورة الرحمن
مدنيّة وآياتها ثمان
وسبعون
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الرَّحْمنُ (١)
عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤) الشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ
رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨)
وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩) وَالْأَرْضَ
وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١)
وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما
تُكَذِّبانِ (١٣))
اللغة :
(الْبَيانَ) في اللغة : المنطق الفصيح المعرب عمّا في الضمير ، وفي
الاصطلاح أحد فنون البلاغة الثلاثة وهو يبحث في التشبيه والاستعارة والمجاز
والكناية وقد تقدمت أمثلتها في هذا الكتاب.
(بِحُسْبانٍ) الحسبان : مصدر حسبته أحسبه حسابا وحسبانا وقيل هو جمع
حساب كشهاب وشهبان ورغيف ورغفان.
(النَّجْمُ) من النبات ما لم يقم على ساق نحو العشب والبقل والشجر
ما قام على ساق وأصله الطلوع يقال : نجم القرن والنبات إذا طلعا وبه سمي نجم
السماء وقيل نجم السماء وحده وأراد به جميع النجوم.
(القسط) العدل
إنما فعلوه مستقيما بالعدل وقال أبو عبيدة : الإقامة باليد والقسط بالقلب.
(الْأَكْمامِ) جمع كم وهو وعاء الزهرة وفي الصحاح : «والكم بالكسر
والكمامة وعاء الطلع وغطاء النور والجمع كمام وأكمة وأكمام وأكاميم أيضا والكمام
بالكسر والكمامة أيضا ما يكمّ به فم البعير لئلا يعضّ يقال منه بعير مكموم أي
محجوم وتكممت الشيء غطيته والكم ما ستر شيئا وغطّاه ومنه كمّ القميص بالضم والجمع
كمام وكممة والكمّة القلنسوة المدورة لأنها تغطّي الرأس».
(الْعَصْفِ) الذي يعصف فيؤكل من الزرع وقيل : العصف ورق كل شيء يخرج
منه الحب.
(الرَّيْحانُ) في المختار : «الريحان نبت معروف وهو الرزق أيضا ،
والعصف ساق الزرع والريحان ورقه عند الفرّاء» وقيل العصف التبن وفي الأساس «وصاروا
كعصف الزرع وهو حطام التبن ودقاقه».
(آلاءِ) نعم واحدها إلى ، وألى مثل معى وحصى وإلى وألي أربع
نعات.
الإعراب :
(الرَّحْمنُ ، عَلَّمَ
الْقُرْآنَ) الرحمن مبتدأ وجملة علم القرآن خبر وقد تعددت الأخبار
في الأفعال التي وردت خلوّا من العاطف على نمط التعديد وإقامة الحجة على الكافرين
، وهذا عند من لا يرى الرحمن آية ومن عدّها آية أعرف الرحمن خبر لمبتدأ محذوف أي
الله الرحمن أو مبتدأ خبره محذوف أي الرحمن ربنا وعلّم يتعدى إلى مفعولين حذف
أولهما لشموله أي علم من يتعلم وهذا أولى من تخصيص المفعول الأول المحذوف بواحد
معين (خَلَقَ الْإِنْسانَ
عَلَّمَهُ الْبَيانَ) فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وعلّمه البيان فعل ماض
وفاعل مستتر ومفعولاه والألف واللام في الإنسان للجنس (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) الشمس مبتدأ والقمر عطف عليه وبحسبان خبر الشمس (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) عطف على ما تقدم وجملة يسجدان خبر النجم (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ
الْمِيزانَ) الواو عاطفة والسماء مفعول به بفعل محذوف يفسره المذكور
وجملة رفعها مفسرة لا محل لها ووضع الميزان فعل وفاعل مستتر ومفعول به (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) أن مصدرية ولا نافية وتطغوا فعل مضارع منصوب بأن
المصدرية وأن وما بعدها في محل نصب بلام العلّة مقدّرة والجار والمجرور في محل نصب
مفعول لأجله ويجوز أن تكون أن مفسّرة ولا ناهية وتطغوا مجزوم بلا فإن قيل إن من
شرط المفسّرة أن تكون مسبوقة بجملة فيها معنى القول دون حروفه قلنا : إن وضع الميزان
يستدعي كلاما من الأمر بالعدل فيه (وَأَقِيمُوا
الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) الواو حرف عطف وأقيموا فعل أمر مبني على حذف النون
والواو فاعل والوزن مفعول به وبالقسط حال أي افعلوه مستقيما بالعدل والواو حرف عطف
ولا ناهية وتخسروا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل والميزان مفعول به (وَالْأَرْضَ وَضَعَها
لِلْأَنامِ) الواو حرف عطف والأرض مفعول به لفعل محذوف يفسّره
المذكور وجملة وضعها مفسّره لا محل له وللأنام متعلقان بوضعها أي وطأها وجعلها
مدحوة للخلق (فِيها فاكِهَةٌ
وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) فيها خبر مقدم وفاكهة مبتدأ مؤخر والنخل عطف على فاكهة وذات الأكمام صفة
للنخل والجملة في محل نصب على الحال من الأرض (وَالْحَبُّ ذُو
الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ) عطف على ما تقدم فالثلاثة في قراءة العامة معطوفات على
فاكهة وفي قراءة ابن عامر بنصب الثلاثة بفعل محذوف تقديره خلق (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) الفاء الفصيحة وبأي متعلقان بتكذبان وآلاء مضاف إليه
وربكما مضاف لآلاء وتكذبان فعل مضارع مرفوع بثبوت النون وألف التثنية فاعل والخطاب
للثقلين الإنس والجن وسيصرّح به. هذا وقد تكررت هذه الآية إحدى وثلاثين مرة وسيأتي
السر في تكريرها في باب البلاغة.
البلاغة :
١ ـ التكرير :
في قوله «فبأيّ آلاء ربكما تكذبان» تكرير عذب وقد تقدم القول فيه والسر في تكرير
الآية عقب آيات فيها تعداد عجائب خلق الله وبدائع صنعه وبعد آيات فيها ذكر النار
وشدائدها لأن من جملة الآلاء رفع البلاء وتأخير العقاب والتقرير بالنعم المعدودة
والتأكيد في التذكير بها كلها ولأن من علامات العاطفة المحتدمة هذا التكرير ، قالت
ليلى الأخيلية ترثي توبة بن الحميّر :
لنعم الفتى
يا توب كنت ولم تكن
|
|
لتسبق يوما
كنت فيه تحاول
|
ونعم الفتى
يا توب كنت لخائف
|
|
أتاك لكي
تحمي ونعم المجامل
|
ونعم الفتى
يا توب كنت إذا التقت
|
|
صدور المعالي
واستثال الأسافل
|
ونعم الفتى
يا توب جارا وصاحبا
|
|
ونعم الفتى
يا توب حين تناضل
|
لعمري لأنت
المرء أبكي لفقده
|
|
ولو لام فيه
ناقص الرأي
|
جاهل لعمري
لأنت المرء أبكي لفقده
|
|
إذا كثرت
بالملجمين ال
|
تلاتل أبى لك
ذم الناس يا توب كلما
|
|
ذكرت أمورا
محكمات
|
كوامل أبى لك
ذم الناس يا توب كلما
|
|
ذكرت سماح
حين تأوي الأ
|
رامل فلا
يبعدنك الله يا توب إنما
|
|
كذاك المنايا
عاجلات و
|
آجل فلا
يبعدنك الله يا توب إنما
|
|
لقيت حمام
الموت والموت عاجل
|
فخرجت في هذه
الأبيات من تكرار إلى تكرار لاختلاف المعاني التي عددتها وأمثال التكرير أكثر من
أن تحصى والاستفهام فيها للتقرير.
٢ ـ الحذف :
وفي قوله «علّم
القرآن» الحذف فقد حذف المفعول الأول لدلالة المعنى عليه لأن النعمة في التعليم لا
في تعليم شخص دون شخص كما يقال فلان يطعم الطعام إشارة إلى كرمه ولا يبيّن من
أطعمه.
٣ ـ في قوله «والشمس
والقمر بحسبان والنجم والشجر يسجدان» فن التوهيم وقد تقدمت الإشارة إليه وأنه
عبارة عن إتيان المتكلم بكلمة يوهم باقي الكلام قبلها أو بعدها أن المتكلم أراد
اشتراك لغتها بأخرى أو أراد تصحيفها أو تحريفها أو اختلاف إعرابها أو اختلاف
معناها أو وجها من وجوه الاختلاف والأمر بضد ذلك ، فإن ذكر الشمس والقمر يوهم
السامع أن النجم أحد نجوم السماء وإنما المراد النبت الذي لا ساق له ومنه قول أبي
تمام :
من كل أبيض
يجلو منه سائله
|
|
خدا أسيلا به
خد من الأسل
|
فإن ذكر الخد
الأسيل أي الناعم المشرق يوهم أن المراد بخد من الأسل أي الرماح مثله مع أن المراد
الجرح ومنه توهيم التصحيف ومثاله قول أبي الطيب :
وإن الفئام
التي حوله
|
|
لتحسد أرجلها
الأرؤس
|
فإن لفظة
الأرجل أوهمت السامع أن المتنبي أراد القيام ومراده الفئام بالفاء الموحدة وهي
الجماعات لأن القيام يصدق على أقل الجمع فتفوت المبالغة منه.
٤ ـ في قوله «والأرض
وضعها للأنام» إلى آخر الآيات التي عدد فيها سبحانه آلاءه دليل على أن التشدد
وسلوك الطريق الأصعب الذي يشقّ على المكلف ليسا محمودين لأن الشرع لم يقصد إلى
تعذيب النفس ، وقد روي عن الربيع بن زياد الحارثي أنه قال لعلي بن أبي طالب رضي
الله عنه : أعدني على أخي عاصم قال : فما باله؟ قال لبس العباءة يريد النسك فقال
علي رضي الله عنه : عليّ به فأتي به مؤتزرا بعباءة مرتديا لأخرى شعث الرأس واللحية
فعبس في وجهه وقال : ويحك أما استحييت من أهلك؟ أما رحمت ولدك؟ أترى الله أباح لك
الطيبات وهو يكره أن تنال منها شيئا؟ بل أنت أهون على الله من ذلك ، أما سمعت الله
يقول في كتابه : «والأرض وضعها للأنام» إلى قوله «يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان» أفترى
الله أباح هذه لعباده إلا ليبتذلوه ويحمدوا الله عليه فيثيبهم عليه وإن ابتذالك
نعم الله بالفعل خير منه بالقول ، قال عاصم فما بالك في خشونة مآكلك وخشونة ملبسك؟
قال ويحك إن الله فرض على أئمة الحق أن يقدروا أنفسهم بصفة الناس.
هذا وقد كان
النبي صلى الله عليه وسلم يأكل الطيب إذا وجده وكان يحبّ الحلواء والعسل ويعجبه
لحم الذراع ويستعذب له الماء فأين التشديد من هذا وإذن فالاقتصار على البشع في
المأكول من غير عذر تنطّع.
(خَلَقَ الْإِنْسانَ
مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ
نارٍ
(١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ
الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨) مَرَجَ
الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ
وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣) وَلَهُ الْجَوارِ
الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما
تُكَذِّبانِ (٢٥) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو
الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨) يَسْئَلُهُ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ
آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٠))
اللغة :
(صَلْصالٍ) الصلصال : الطين اليابس له صلصلة أي صوت إذا نقر.
(الفخار) الطين
المطبوخ بالنار وهو الخزف.
(الْجَانَّ) أبو الجن وأل فيه للجنس.
(مارِجٍ) المارج : اللهب الصافي الذي لا دخان فيه وقيل هو
المختلط بسواد النار من مرج الشيء إذا اضطرب واختلط.
(مَرَجَ) خلط ومعنى مرج البحرين خلط البحرين العذب والملح
في مرأى العين ومع ذلك لا يتجاوز أحدهما على الآخر ، وأصل المرج الإهمال
كما تمرج الدابة في المرعى ، وفي المصباح : «المرج أرض ذات نبات ومرعى والجمع مروج
مثل فلس وفلوس ومرجت الدابة تمرج مرجا من باب قتل رعت في المرج ومرجتها مرجا
أرسلتها ترعى في المرج يتعدى ولا يتعدى».
(بَرْزَخٌ) البرزخ الحاجز بين الشيئين وجمعه برازخ.
(اللُّؤْلُؤُ
وَالْمَرْجانُ) الدرّ والمرجان : هذا الخرز الأحمر ، وقال القاضي أبو
يعلى : «أنه ضرب من اللؤلؤ كالقضبان والمرجان اسم أعجمي معرب» وقال ابن دريد : «لم
أسمع فيه نقل متصرف» وقال الأعشى :
من كل مرجانة
في البحر أحرزها
|
|
تيارها
ووقاها طينها الصدف
|
وقيل عروق حمر
تطلع من البحر كأصابع الكف.
(الجواري)
السفن وهي جمع جارية قال الترمذي «فالفلك أولا ثم السفينة ثم الجارية سمّيت بذلك
لأنها تجري في الماء».
(كَالْأَعْلامِ) الأعلام : جمع علم وهو الجبل قالت الخنساء :
وإن صخرا
لتأتم الهداة به
|
|
كأنه علم في
رأسه نار
|
الإعراب :
(خَلَقَ الْإِنْسانَ
مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) كلام مستأنف مسوق للتوبيخ على إخلالهم بواجب شكر المنعم
على إنعامه ، وخلق فعل ماض وفاعله مستتر يعود على الله تعالى والإنسان مفعول به ومن
صلصال متعلقان بخلق وكالفخار صفة لصلصال (وَخَلَقَ الْجَانَّ
مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ)
عطف على ما تقدم ومن مارج متعلقان بخلق ومن لابتداء الغاية ومن نار صفة
لمارج ومن للبيان أو للتبعيض (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ
وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) رب المشرقين خبر لمبتدأ محذوف أي هو رب المشرقين ورب
المغربين عطف عليه والمراد مشرق الصيف ومشرق الشتاء ومغرب الصيف ومغرب الشتاء وقيل
المراد بالمشرقين مشرق الشمس والقمر وبالمغربين مغرب الشمس والقمر ، بيّن سبحانه
قدرته على تصريف الشمس والقمر ومن قدر على ذلك قدر على كل شيء وقيل هو مبتدأ خبره
جملة مرج البحرين والأول أولى (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ
يَلْتَقِيانِ) مرج البحرين فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وجملة
يلتقيان في محل نصب على الحال وهي قريبة من الحال المقدّرة ويجوز أن تكون مقارنة (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) الظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وبرزخ مبتدأ مؤخر ولا
نافية ويبغيان فعل مضارع مرفوع والجملة صفة لبرزخ والجملة كلها مستأنفة أو حال من
الضمير في يلتقيان ومعنى لا يبغيان لا يتجاوز كلّ منهما حدوده فالعذب منفرد
بعذوبته والملح منفرد بملوحته (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (يَخْرُجُ مِنْهُمَا
اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) الجملة مستأنفة أو حال ثانية من الضمير في يلتقيان
ومنهما متعلقان بيخرج واللؤلؤ فاعل يخرج والمرجان عطف على اللؤلؤ (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (وَلَهُ الْجَوارِ
الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) الواو استئنافية وله خبر مقدم والجوار مبتدأ مؤخر وحذفت
الياء في الرسم لأنها من ياءات الزوائد والمنشآت نعت للجوار وفي البحر متعلقان
بالمنشئات وكالأعلام حال من الجوار أو من الضمير في المنشآت والمعنى واحد (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (كُلُّ مَنْ عَلَيْها
فانٍ) كل مبتدأ ومن اسم موصول في محل جر بالإضافة لكل وعليها
متعلقان بمحذوف لا محل له لأنه صلة الموصول وفان خبر كل
وحذفت الياء لالتقاء الساكنين (وَيَبْقى وَجْهُ
رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) الواو عاطفة ويبقى فعل مضارع مرفوع ووجه ربك فاعله وذو
الجلال صفة لوجه والإكرام عطف على الجلال (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابه (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) كلام مستأنف للشروع في تعدّد آلاء أخرى من آلائه سبحانه
ولك أن تجعل الجملة حالا من وجه والعامل فيه يبقى أي يبقى حال كونه مسئولا من أهل
السموات والأرض. ويسأله فعل مضارع ومفعوله المقدّم السؤال محذوف فأهل السموات
يسألونه المغفرة وأهل الأرض يسألونه المغفرة والرزق ، وكل يوم ظرف متعلق
بالاستقرار الذي تعلق به خبر هو وهو مبتدأ وفي شأن خبر (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها.
البلاغة :
١ ـ في قوله «يخرج
منهما اللؤلؤ والمرجان» فن الاتساع وقد تقدم القول فيه مفصلا ، فقد أسند الخروج
إلى اللؤلؤ والمرجان لأنه إذا أخرج ذلك فقد خرج وقال يخرج منهما ولم يقل من أحدهما
لأنهما لما التقيا وصارا كالشيء الواحد ساغ أن يقول منهما وقد تقدم القول في مثله
وهو قوله «لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم» وإنما أريد إحدى
القريتين وكما تقول فلان من أهل ديار الشام وإنما بلده واحد منها.
٢ ـ وفي قوله «وله
الجوار المنشآت في البحر كالأعلام» تشبيه مرسل فقد شبّه السفن وهي تمخر عباب البحر
رائحة جائية بالجبال ، وقد استهوى هذا التشبيه الشعراء فاقتبسوه قال ابن الرومي :
أين فلك فيها
وفلك إليها
|
|
منشآت في
البحر كالأعلام
|
٣ ـ وفي قوله «كل
من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام» فن طريف وهو فن الافتنان ، وحدّه
أن يفتن المتكلم فيأتي في كلامه بفنين إما متضادين أو مختلفين أو متفقين ، وقد جمع
سبحانه بين التعزية والفخر إذ عزى جميع المخلوقات وتمدح بالانفراد بالبقاء بعد
فناء الموجودات مع وصفه ذاته بعد انفراده بالبقاء بالجلال والإكرام ، ومن أمثلته
في الشعر الجمع بين الغزل والحماسة ، والغزل لين ورقّة والحماسة شدّة وقوة ، كقول
أبي دلف أو عبد الله بن طاهر على اختلاف بين المؤرخين :
أحبك يا ظلوم
وأنت عندي
|
|
مكان الروح
من جسد الجبان
|
ولو أني أقول
مكان روحي
|
|
خشيت عليك
بادرة الطعان
|
فقد جمع بين
الغزل والحماسة بأرشق عبارة وأبلغ إشارة ، وقد بلغ عنترة فيه الذروة حين قال :
إن تغدفي
دوني القناع فإنني
|
|
طب يأخذ
الفارس المستلئم
|
فقد وصف عبلة
بستر وجهها دونه بالقناع حتى صار ما بين بصره ووجهها كالليل المغدف الذي يحول بين
الأبصار والمبصرات ، ثم قال : إنني طب بأخذ الفارس المستلئم ، أي إن تتبرقعي دوني
فإني خبير لدريتي بالحرب بأخذ الفارس الذي سترته لأمته وحالت دوني ودون مقابلته ،
فأبرز الجدّ في صورة الهزل وجاء في بيته مع الافتنان التندير الطريف ، والتعبير عن
المعنى باللفظ الشريف.
(سَنَفْرُغُ لَكُمْ
أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ
الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ
السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ
فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما
تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا
تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦) فَإِذَا انْشَقَّتِ
السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما
تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ
فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما
تُكَذِّبانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣)
يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما
تُكَذِّبانِ (٤٥))
اللغة :
(سَنَفْرُغُ) قال الزجّاج : «إن الفراغ في اللغة على ضربين أحدهما
الفراغ من الشغل والآخر القصد للشيء والإقبال عليه كما هنا وهو تهديد ووعيد ، تقول
قد فرغت مما كنت فيه أي قد زال شغلي به وتقول سأفرغ لفلان أي سأجعله قصدي فهو على
سبيل التمثيل ، شبّه تدبيره تعالى أمر الآخرة من الأخذ في الجزاء وإيصال الثواب
والعقاب إلى المكلفين بعد تدبيره تعالى لأمر الدنيا بالأمر والنهي والإماتة
والإحياء والمنع والإعطاء ، وأنه لا يشغله شأن عن شأن بحال من إذا كان في شغل
يشغله عن شغل آخر إذا فرغ من ذلك الشغل شرع في آخر».
وقال الزمخشري
: «مستعار من قول الرجل لمن يتهدده : سأفرغ لك يريد سأتجرد للإيقاع بك من كل ما
يشغلني عنك حتى لا يكون لي شغل سواه والمراد التوفر على النكاية فيه والانتقام منه
، ويجوز أن يراد ستنتهي الدنيا وتبلغ آخرها وتنتهي عند ذلك شئون الخلق التي أرادها
بقوله : كل يوم هو في شأن فلا يبقى إلا شأن واحد وهو جزاؤكم فجعل ذلك فراغا على
طريق المثل».
ويتلخص مما
تقدم أن الفراغ من صفات الأجسام التي تحلّها الأعراض وتشغلها عن الأضداد في تلك
الحال ولذلك وجب أن يكون في صفة القديم تعالى مجازا.
(الثَّقَلانِ) أصله من الثقل وكل شيء له وزن وقدر فهو ثقل ومنه قيل
لبيض النعامة ثقل قال :
فتذكرا ثقلا
رتيدا بعد ما
|
|
ألقت ذكاء
يمينها في كافر
|
وإنما سمّيت
الإنس والجن ثقلين لعظم خطرهما وجلالة شأنهما بالإضافة إلى ما في الأرض من
الحيوانات ولثقل وزنهما بالعقل والتمييز ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «إني
تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي» سمّاهما ثقلين لعظم خطرهما وجلالة قدرهما ،
وقيل إن الجن والإنس سمّيا ثقلين لثقلهما على الأرض إحياء ، ومنه قوله تعالى : «وأخرجت
الأرض أثقالها» أي أخرجت ما فيها من الموتى ، والعرب تجعل السيد الشجاع ثقلا على
الأرض ، قالت الخنساء :
أبعد ابن
عمرو من آل الشريد
|
|
حلّت به
الأرض أثقالها
|
والمعنى أنه
لما مات حلّ عنها ثقل بموته لسؤدده ومجده ، وقيل إن المعنى : زينت موتاها من
التحلية.
(أَقْطارِ) الأقطار جمع القطر وهو الناحية يقال طعنه فقطره إذا
ألقاه على أحد قطريه وهما جانباه.
(بِسُلْطانٍ) بقوة وقهر وغلبة.
(شُواظٌ) الشواظ بضم الشين وكسرها ، قال أبو عبيدة : هو اللهب لا
دخان فيه ، وقال رؤبة :
إنّ لهم من
حربنا إيقاظا
|
|
ونار حرب
تسعر الشواظا
|
(وَنُحاسٌ) النحاس : الدخان وأنشد للنابغة الجعدي :
تضيء كضوء
سراج السلي
|
|
ط لم يجعل
الله فيه نحاسا
|
وقيل الصفر
المذاب يصبّ على رؤوسهم.
(كَالدِّهانِ) في الدهان قولان أحدهما أنه جمع دهن نحو قرط وقراط ورمح
ورماح وهو في معنى قوله : يوم تكون السماء كالمهل وهو دردي الزيت والثاني أنه اسم
مفرد ، وقال الزمخشري : «اسم لما يدهن به كالجزام والإدام» وقيل هو الأديم الأحمر.
(بِسِيماهُمْ) السيما مشتق من السوم وهو رفع الثمن عن مقداره والعلامة
ترفع باظهارها لتقع المعرفة بها.
(بِالنَّواصِي) جمع ناصية وهي شعر مقدّم الرأس وأصله الاتصال فالناصية
متصلة بالرأس.
(حَمِيمٍ) : ماء حار.
(آنٍ) شديد الحرارة وفعله أنّى يأني أنيا.
الإعراب :
(سَنَفْرُغُ لَكُمْ
أَيُّهَ الثَّقَلانِ) كلام مستأنف مسوق للتهديد والوعيد ، والسين حرف استقبال
ونفرغ فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره نحن ولكم متعلقان بنفرغ وأيّه الثقلان
منادى نكرة مقصودة حذف منه حرف النداء والثقلان بدل من أيّه (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا) يا حرف نداء ومعشر الجن منادى مضاف والإنس عطف على الجن
وإن شرطية واستطعتم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وأن حرف مصدري ونصب وتنفذوا فعل
مضارع منصوب بأن وأن وما في حيزها في موضع نصب مفعول استطعتم ومن أقطار السموات
والأرض متعلقان بتنفذوا ، فانفذوا : الفاء رابطة لجواب الشرط لأن الجواب طلب
وانفذوا فعل أمر والواو فاعل والمراد بالأمر هنا التعجيز (لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) لا نافية وتنفذون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وإلا
أداة حصر وبسلطان متعلقان بتنفذون (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (يُرْسَلُ عَلَيْكُما
شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ) الجملة مستأنفة ويرسل فعل مضارع مبني للمجهول وعليكما
متعلقان بيرسل وشواظ نائب فاعل ومن نار نعت لشواظ ونحاس عطف على شواظ وقرئ بالجر
عطفا على نار وعبارة القرطبي : «وقرأ ابن كثير وابن محيصن ومجاهد وأبو عمرو :
ونحاس بالخفض عطفا على النار ، قال المهدوي : من قال : إن الشواظ النار والدخان
جميعا فالجر في نحاس هذا تبيين ، فأما الجر على قول من جعل الشواظ اللهب الذي لا
دخان فيه فبعيد لا يسوغ إلا على تقدير حذف موصوف فكأنه قال يرسل عليكما شواظ من
نار وشيء من نحاس فشيء معطوف على شواظ ومن نحاس جار ومجرور صفة لشيء وحذفت من
لتقدّم ذكرها في من نار
فيكون نحاس على هذا مجرورا بمن المحذوفة» والفاء عاطفة ولا نافية وتنتصران
فعل مضارع مرفوع والألف فاعل أي فلا تمتنعان من ذلك ولا تجدان منجاة منه (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (فَإِذَا انْشَقَّتِ
السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) الفاء استئنافية وإذا انشقت السماء ظرف لما يستقبل من
الزمن وفعل وفاعل والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها ، فكانت عطف على انشقّت
واسم كانت مستتر يعود على السماء ووردة خبرها وكالدهان نعت لوردة أو خبر ثان لكانت
أو حال من اسم كانت وسيأتي مزيد بحث عن هذا التشبيه في باب البلاغة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (فَيَوْمَئِذٍ لا
يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) الفاء رابطة لجواب إذا وقيل جواب إذا محذوف أي فإذا
انشقّت السماء رأيت أمرا عظيما ، والفاء عاطفة عليه ولا داعي لهذا التكلّف ،
ويومئذ ظرف متعلق بيسأل وإذ ظرف مضاف إلى مثله والتنوين فيه عوض عن جملة أي فيوم
إذا انشقت السماء ولا نافية ويسأل فعل مضارع مبني للمجهول وعن ذنبه متعلقان بيسأل
وإنس نائب فاعل ولا جان عطف على إنس ، والجان والإنس كلّ منهما اسم جنس يفرّق بينه
وبين واحده بالياء كزنج وزنجي (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (يُعْرَفُ
الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) يعرف فعل مضارع مبني للمجهول والمجرمون نائب فاعل
وبسيماهم متعلقان بيعرف والفاء عاطفة ويؤخذ فعل مضارع مبني للمجهول وبالنواصي هو
نائب الفاعل ويؤخذ متعدّ ومع ذلك تعدّى بالباء لأن ضمن معنى يسحب كما قال أبو حيان
، ويسحب إنما يتعدى بعلى ، قال تعالى : يوم يسحبون في النار على وجوههم ، فالأولى
أن يقال ضمن معنى يدفع أي يدفعون والمعنى تأخذ الملائكة بنواصيهم أي بشعورهم من
مقدم رءوسهم وأقدامهم فيقذفونهم في النار ، وقال الضحاك : «يجمع بين ناصيته وقدميه
في سلسلة من وراء ظهره» وعنه يؤخذ برجلي الرجل فيجمع بينهما وبين
ناصيته حتى يندقّ ظهره ثم يلقى في النار (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (هذِهِ جَهَنَّمُ
الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ) هذه مبتدأ وجهنم خبر والتي صفة وجملة يكذب بها المجرمون صلة لا محل لها (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ
آنٍ) الجملة حال من المجرمين أو مستأنفة ويطوفون فعل مضارع
مرفوع والواو فاعل والظرف متعلق بيطوفون وبين عطف على الظرف الأول وآن نعت لحميم
وهو منقوص فالكسرة مقدّرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها.
البلاغة :
في قوله «فإذا
انشقت السماء فكانت وردة كالدهان» تشبيه تمثيلي ، أراد بالوردة الغرس ، والوردة
تكون في الربيع أميل إلى الصفرة فإذا اشتد البرد كانت وردة حمراء فإذا كان بعد ذلك
كانت وردة أميل إلى الغبراء فشبّه تلوّن السماء حال انشقاقها بالوردة وشبّهت
الوردة في اختلاف ألوانها بالدهن واختلاف ألوانه.
فالتشبيه
تمثيلي كما ترى مركب من قسمين أو صورتين متعاقبتين صورة السماء منشقة وصورة الوردة
ثم صورة الدهان والصورتان الأخيرتان لتوضيع وجه الشبه وهو أحوال تلونها فهي في
الربيع صفراء وفي الشتاء حمراء ثم غبراء داكنة عند الذبول وهذا التلوّن التدريجي
من اللون الناصع إلى اللون الداكن يشبه أيضا لون الدهن وقد عملت فيه النار فاشتعل
بلون أصفر ثم بدت ألسنته محمرّة إذ آذن بالانطفاء ثم يتحوّل إلى رماد داكن.
وقال الملحدون
: ما وجه الشبه في «فكانت وردة كالدّهان» وتكرير «فبأي آلاء ربكما تكذبان» بعد ذكر
العذاب مثل يرسل عليكما
شواظ من نار ونحاس وإنما حقّ ذلك أن يذكر بعد تعديد النعم ، والجواب عن
الأول أنه قيل : معناه أن السماء تتلوّن من الفزع الأكبر كما تتلوّن الدهان
المختلفة وأن الدهان جمع دهن فهو كقوله تعالى :
يوم تكون
السماء كالمهل فيمن قال : المهل الزيت المغلي وقيل الدهان الجلد الأحمر ، وأما
الجواب عن الثاني فإن من أنذرك وخوفك من عاقبة ما تصير إليه فقد أنعم عليك ، ألا
تراه سبحانه قد قال : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ، وقد علمنا أنه بعث بشيرا
لمن آمن ونذيرا لمن كفر فجعل الإنذار رحمة كما جعل التبشير وكذا كل من عليها فان ،
فإذا انشقّت السماء ، فيه إنعام على الخلق حيث أعلمهم بما كانوا يجهلونه وحذّرهم
بما يصيرون إليه وقد جعل سبحانه التحذير رأفة بقوله :ويحذركم الله نفسه والله رءوف
بالعباد.
(وَلِمَنْ خافَ مَقامَ
رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا
أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ
تَجْرِيانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ
فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ
عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ
يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما
تُكَذِّبانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٩) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ
إِلاَّ
الْإِحْسانُ (٦٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦١))
اللغة :
(أَفْنانٍ) أغصان جمع فنن أو هي الأغصان الدقيقة التي تتفرغ من
فروع الشجر ، وخصّت بالذكر لأنها تورق وتثمر وتمدّ الظل.
(إِسْتَبْرَقٍ) ديباج غليظ والبطان جمع بطانة وهو باطن الظهارة وقيل إن
الظهار من سندس وهو مارق من الديباج.
(جَنَى) الجنى : الثمرة التي قد أدركت على الشجرة.
(دانٍ) قريب يناله القائم والقاعد والنائم.
(قاصِراتُ الطَّرْفِ) المقصورة المحبوسة ويقال قصيرة وقصورة أي مخدّرة قال
كثير :
وأنت التي
حبّبت كل قصيرة
|
|
إليّ ولم
تشعر بذاك القصائر
|
عنيت قصيرات
الحجال ولم أرد
|
|
قصار الخطا
شر النساء البحاتر
|
وقال امرؤ
القيس :
من القاصرات
الطرف لو دبّ محول
|
|
من الذر فوق
الأتب منها لأثرا
|
والطرف أصله
مصدر فلذلك وحّد ، والظاهر أنهنّ اللواتي يقصرن أعينهنّ على أزواجهنّ فلا ينظرن
إلى غيرهم وقيل الطرف طرف غيرهنّ أي قصرن عيني من ينظر إليهنّ عن النظر إلى
غيرهنّ.
(لَمْ يَطْمِثْهُنَّ) لم يفتضهن وهنّ من الحور أو من نساء الدنيا
المنشآت وفي المصباح : «طمث الرجل امرأته طمثا من بابي ضرب وقتل افتضّها
وافترعها ولا يكون الطمث نكاحا إلا بالتدمية وعليه قوله تعالى : لم يطمثهنّ».
(الْياقُوتُ) جوهر نفيس أحمر اللون يقال أن النار لا تؤثر فيه قال :
ألقني في لظى
فإن غيّرتني
|
|
فتيقن أن لست
بالياقوت
|
ومن خواصّه أنه
يقطع جميع الحجارة إلا الماس فإنه يقطعه لصلابته وقلّة مائة وشدة الشعاع والثقل
والصبر على النار ، قال بعضهم في مليح اسمه ياقوت :
ياقوت ياقوت
قلب المستهام به
|
|
من المروءة
أن لا يمنع القوت
|
سكنت قلبي
وما تخشى تلهبه
|
|
وكيف يخشى
لهيب النار ياقوت
|
والمرجان صفار
اللؤلؤ وهو أشدّ بياضا ويطلق على الآخر أيضا وسيأتي المزيد من سرّ هذا التشبيه في
باب البلاغة.
الإعراب :
(وَلِمَنْ خافَ مَقامَ
رَبِّهِ جَنَّتانِ) الواو عاطفة ولمن خبر مقدم وجملة خاف صلة من ومقام ربه
مفعول به وهو يحتمل أن يكون اسم مكان وأن يكون مصدرا ميميا وعندئذ يحتمل معنيين
الأول أنه بمعنى قيام الله عزّ وجلّ على الخلائق والثاني أنه بمعنى قيام الخلائق
بين يديه تعالى وجنتان مبتدأ مؤخر والمراد جنة واحدة وإنما ثنّى مراعاة للفواصل ،
وعبارة الزمخشري «فإن قلت لم قال جنتان قلت : الخطاب للثقلين فكأنه قيل لكل خائفين
منكما جنتان جنة للخائف الإنسي وجنة للخائف الجنّي ويجوز أن يقال جنة لفعل الطاعات
وجنة لترك المعاصي» (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدّم إعرابها (ذَواتا أَفْنانٍ) ذواتا صفة لجنتان وأفنان
مضاف إليه وخصّ الأفنان بالذكر لأنها هي التي تمرع وتورق ومنها تمتد الظلال
وتجنى الثمار وقيل الأفنان أنواع النعيم وألوانه مما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين قال
:
ومن كل أفنان
اللذاذة والصبا
|
|
لهوت به
والعيش أخضر ناضر
|
وذات مؤنث ذو
التي بمعنى صاحب ، ولا تكون إلا مضافة (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدّم إعرابها (فِيهِما عَيْنانِ
تَجْرِيانِ) فيهما خبر مقدّم وعينان مبتدأ مؤخر وجملة تجريان نعت
عينان أي في الأعالي والأسافل ، والأقوال كثيرة في العينين ولعلّ ما أوردناه أقرب
إلى المنطق (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (فِيهِما مِنْ كُلِّ
فاكِهَةٍ زَوْجانِ) فيهما خبر مقدّم ومن كل فاكهة حال لأنه كان في الأصل
صفة لزوجان وتقدم وزوجان مبتدأ مؤخر أي صنفان وكلاهما مستلذ معذوذب (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (مُتَّكِئِينَ عَلى
فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) متكئين منصوب على المدح بفعل محذوف أو حال من قوله ولمن
خاف لأن من فيها معنى الجمع وقيل العامل محذوف أي يتنعمون متكئين وعلى فرش متعلقان
بمتكئين وبطائنها مبتدأ ومن إستبرق خبر والجملة صفة لفرش والواو حالية أو عاطفة
وجنى مبتدأ والجنتين مضاف إليه ودان خبر وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الياء
المحذوفة لالتقاء الساكنين (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (فِيهِنَّ قاصِراتُ
الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) فيهنّ خبر مقدّم والضمير يعود على الجنتين وما اشتملتا
عليه من قصور ومقاصير أو على الجنات المدلول عليها بقوله «ولمن خاف مقام ربه جنتان»
وإذا كان لكل فرد من الخائفين جنتان فصحّ أنها جنات كثيرة ، وقاصرات الطرف مبتدأ
مؤخر ولم حرف نفي وقلب وجزم ويطمثهنّ فعل مضارع مجزوم بلم والجملة صفة لقاصرات
الطرف لأن الإضافة لفظية فلا تتعرف ويجوز أن تكون
حالية لأن النكرة قد تخصصت بالإضافة وإنس فاعل وقبلهم ظرف زمان متعلق
بيطمثهنّ ، ولا جان عطف على إنس (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدّم إعرابها (كَأَنَّهُنَّ
الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) الجملة نعت لقاصرات الطرف أو حال منها وكأن واسمها
والياقوت خبرها والمرجان عطف على الياقوت (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ
إِلَّا الْإِحْسانُ) هل حرف استفهام معناه الجحد والنفي وجزاء مبتدأ
والإحسان مضاف إليه وإلا أداة حصر والإحسان خبر جزاء (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها.
البلاغة :
١ ـ في قوله «فيهنّ
قاصرات الطرف» فن الإرداف وقد تقدم أنه أن يريد المتكلم معنى فلا يعبّر عنه بلفظه
الموضوع له بل بلفظ هو ردف المعنى الخاص وتابعه قريب من لفظ المعنى الخاص قرب
الرديف من الردف ، والمعنى في الآية ـ كما قلنا ـ فيهنّ عفيفات قد قصرت عفّتهنّ
طرفهن على بعولتهنّ ، وعدل عن المعنى الخاص إلى لفظ الإرداف لأن كلّ من عفّ غضّ
الطرف عن الطموح ، فقد يمتد نظر الإنسان إلى شيء وتشتهيه نفسه ويعفّ عنه مع القدرة
عليه لأمر آخر ، وقصر طرف المرأة على بعلها أو قصر طرفها حياء وخفرا أو قصر عيني
من ينظر إليهنّ عن النظر إلى غيرهنّ أمر زائد على العفّة لأن من لا يطمح طرفها
لغير بعلها أو لا يطمح حياء وخفرا فإنها ضرورة تكون عفيفة ، فكل قاصرة الطرف عفيفة
وليست كل عفيفة قاصرة الطرف فلذلك عدل عن اللفظ الخاص إلى لفظ الإرداف.
٢ ـ في قوله «كأنهنّ
الياقوت والمرجان» تشبيه مرسل مجمل لوجود الأداة ، أما وجه الشبه فهو الصفاء ، وعن
ابن مسعود رضي الله
عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن المرأة من نساء أهل الجنة ليرى
بياض ساقها من وراء سبعين حلّة حتى يرى مخها وذلك بأن الله عزّ وجلّ يقول : كأنهنّ
الياقوت والمرجان فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لأريته من
ورائه.
وعن أبي سعيد
الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ في قوله : كأنهنّ الياقوت
والمرجان قال : ينظر إلى وجهه في خدّها أصفى من المرآة وإن أدنى لؤلؤة عليها لتضيء
ما بين المشرق والمغرب وإنه ليكون عليها سبعون حلّة ينفذها بصره حتى يرى مخ ساقها
من وراء ذلك. وسيأتي مزيد من وصف نساء الجنة في سورة الواقعة.
الفوائد :
(هَلْ) ترد في الكلام على أربعة أوجه :
١ ـ تكون بمعنى
«قد» كقوله : «هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا».
٢ ـ وبمعنى
الاستفهام كقوله : «فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا».
٣ ـ وبمعنى
الأمر كقوله : «فهل أنتم منتهون».
٤ ـ وبمعنى
الجحد كقوله : «هل جزاء الإحسان إلا الإحسان».
(وَمِنْ دُونِهِما
جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦) فَبِأَيِّ
آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ
وَلا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلى
رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ
(٧٧) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٧٨))
اللغة :
(مُدْهامَّتانِ) في المختار : «دهمهم الأمر غشيهم وبابه فهم وكذا دهمتهم
الخيل ، ودهمهم بفتح الهاء لغة والدهمة السواد يقال فرس أدهم وبعير أدهم وناقة
دهماء وإدهام ادهيماما أي اسودّ قال الله تعالى :مدهامتان أي سوداوان من شدّة
الخضرة من الري والعرب تقول لكل شيء أخضر أسود وسمّيت قرى العراق سوادا لكثرة
خضرتها ، والشاة الدهماء الحمراء الخالصة الحمرة ويقال للقيد أدهم» وفي القاموس :«وحديقة
دهماء ومدهامة خضراء تضرب إلى السواد نعمة وربا ومنه مدهامتان».
(نَضَّاخَتانِ) : فوارتان بالماء لا تنقطعان والنضخ أكثر من النضح لأن
النضح بالحاء المهملة الرش وبالخاء المعجمة كالبزل والنضاخة الفوارة التي ترمي
بالماء صعدا.
(مَقْصُوراتٌ) قصرن في خدورهنّ ، يقال امرأة قصيرة وقصورة ومقصورة أي
مخدّرة.
(الْخِيامِ) في القاموس : «الخيمة أكمة فوق أبانين ، وكل بيت مستدير
أو ثلاثة أعواد أو أربعة يلقى عليها الثمام ويستظل بها في الحر أو كل بيت يبنى من
عيدان الشجر والجمع خيمات وخيام وخيم وخيم بالفتح وكعنب ، وأخامها وأخيمها : بناها
، وخيّموا دخلوا فيها وبالمكان أقاموا والشيء غطاه بشيء كي يعبق وخام عنه يخيم
خيما وخيمانا وخيوما وخيومة وخيمومة وخياما نكص وجبن ، وكاد كيدا فرجع عليه» وفي
القرطبي «وقال عمر رضي الله عنه : الخيمة درّة مجوفة».
(رَفْرَفٍ) جمع رفرفة أي بسط أو وسائد فهو اسم جمع أو اسم جنس جمعي
وفي القاموس : «والرفرف ثياب خضر تتخذ منها المحابس وتبسط ، وكسر الخباء وجوانب
الدرع وما تدلى منها وما تهدّل من أغصان الأيكة ، وفضول المحابس والفرش وكل ما فضل
فثني ، والفراش ، وسمك بحري وشجر ينبت باليمن والروشن والوسادة والبظر والشجر
الناعم المسترسل والرياض والبسط وخرقة تخاط في أسفل السرادق والفسطاط والرقيق من
ثياب الديباج».
(عَبْقَرِيٍّ) منسوب إلى عبقر وتزعم العرب أنه اسم لبلد الجن فينسبون
إليه كل شيء عجيب ، قال في القاموس : «عبقر موضع كثير الجن وقرية بناؤها في غاية
الحسن» والعبقري الكامل من كل شيء وقال الخليل : «النفيس من الرجال وغيرهم» وقال
قطرب : «ليس هو من المنسوب بل هو بمنزلة كرسي وبختي».
الإعراب :
(وَمِنْ دُونِهِما
جَنَّتانِ) من دونهما خبر مقدم وجنتان مبتدأ مؤخر أي من دون تينك
الجنتين المتقدمين جنتان في المنزلة وحسن المنظر وهذا على رأي من جعل الأولتين
أفضل من الآخرتين وقيل بالعكس ورجحه
الزمخشري وقال الكسائي : «ومن دونهما أي أمامهما وقبلهما» فلا فاضل ثم ولا
مفضول (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (مُدْهامَّتانِ) نعت جنتان (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (فِيهِما عَيْنانِ
نَضَّاخَتانِ) الجملة نعت ثان لجنتان وفيهما خبر مقدّم وعينان مبتدأ
مؤخر ونضاختان نعت عينان (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (فِيهِما فاكِهَةٌ
وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) فيها خبر مقدّم وفاكهة مبتدأ مؤخر ونخل عطف على فاكهة
ورمان عطف على نخل ، وسيأتي معنى التخصيص في باب البلاغة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (فِيهِنَّ خَيْراتٌ
حِسانٌ) فيهنّ خبر مقدم وخيرات مبتدأ مؤخر وحسان صفة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها. (حُورٌ مَقْصُوراتٌ
فِي الْخِيامِ) حور بدل من خيرات لأن خيرات فيه وجهان أحدهما أنه جمع
خيرة بوزن فعلة بسكون العين يقال امرأة خيرة وأخرى شرّة والثاني أنه جمع خيرة
المخفّف من خيرة بالتشديد ويدل على ذلك قراءة خيرات بتشديد الياء ويجوز لك أن تعرب
حورا خبرا لمبتدأ مضمر أي هنّ حور أو مبتدأ حذف خبره أي فهنّ حور ومقصورات نعت
لحور وفي الخيام متعلقان بمقصورات (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ
إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها من قبل (مُتَّكِئِينَ عَلى
رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) حال حذف عامله أي يتنعمون أو نصب على المدح واقتصر عليه
الزمخشري ، وهو عائد على من خاف مقام ربه ، وعلى رفرف متعلقان بمتكئين وخضر نعت
وعبقري عطف على رفرف وحسان نعت لرفرف خضر وعبقري (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (تَبارَكَ اسْمُ
رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) تبارك فعل ماض واسم ربك فاعله وذي صفة لرب والجلال مضاف
إليه والإكرام عطف على الجلال وقيل أن اسم صلة لمعنى تبارك ربك قال لبيد :
إلى الحول ثم
اسم السلام عليكما
|
|
ومن يبك حولا
كاملا فقد اعتذر
|
البلاغة :
في قوله «فيهما
فاكهة ونخل ورمان» فإنما فصلهما بالواو لتخصيصها بالمزايا والفضل ، وعبارة
الزمخشري «فإن قلت : لم عطف النخل والرمان على الفاكهة وهما منها؟ قلت اختصاصا
لهما وبيانا لفضلهما فإنهما كأنهما من المزية جنسان آخران كقوله تعالى : وجبريل
وميكائيل أو لأن النخل ثمرة فاكهة وطعام والرمان فاكهة ودواء فلم يخلصا للتفكه
ومنه قال أبو حنيفة رحمة الله إذا حلف لا يأكل فاكهة فأكل رمانا أو رطبا لم يحنث
وخالفه صاحباه» وحكى الزجّاج عن يونس النحوي وهو من قدماء النحويين أن النخل
والرمان من أفضل الفواكه وإنما فصلا بالواو لفضلهما ، وقال الأزهري : ما علمت أن
أحدا من العرب قال في النخل والرمان وثمارها أنها ليست من الفاكهة وإنما قال ذلك
من قال لقلة علمه بكلام العرب وتأويل القرآن العربي المبين والعرب تذكر الأشياء
جملة ثم تختصّ شيئا منها بالتسمية تنبيها على فضل فيه. وعبارة الكرخي : وهما من
الفاكهة وبه قال الشافعي رضي الله عنه وأكثر العلماء فيحنث بأكل أحدهما من حلف لا
يأكل فاكهة وحينئذ فعطفهما عليها من عطف الخاص على العام تفصيلا وقيل إنهما ليسا
من الفاكهة وعليه أبو حنيفة حيث قال : من حلف لا يأكل فاكهة لم يحنث بأكل النخل
والرمان» وهل هو من عطف الخاص على العام أم هو عطف ما تضمنه الأول ، والظاهر أن
الآية ليست من عطف الخاص على العام لأن النكرة في سياق الإثبات لا تعمّ عموما
شموليا.
سورة الواقعة
مكيّة وآياتها ستّ
وتسعون
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(إِذا وَقَعَتِ
الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣) إِذا
رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً
مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما
أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ
(٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي
جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ
الْآخِرِينَ (١٤) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها
مُتَقابِلِينَ (١٦))
اللغة :
(الْواقِعَةُ) القيامة وصفت بأنها تقع لا محالة أو كأنها واقعة في
نفسها.
(بُسَّتِ) فتنت ، وفي المصباح : بسست الحنطة وغيرها بسّا من باب قتل وهو الفتّ فهي
بسيسة فعيلة بمعنى مفعوله.
(هَباءً) الهباء غبار كالشعاع في الرقة وكثيرا ما يخرج شعاع
الشمس من الكوّة النافذة.
(مُنْبَثًّا) منتشرا متفرقا بنفسه من غير حاجة إلى هواء يفرقه.
(أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) الذين يعطون كتبهم بأيمانهم من اليمن والبركة.
(أَصْحابُ
الْمَشْئَمَةِ) الذين يعطون كتبهم بشمالهم المشائيم على أنفسهم.
(ثُلَّةٌ) جماعة.
(مَوْضُونَةٍ) منسوجة متداخلة كصفة الدرع ، قال الأعشى :
ومن نسج داود
موضونة
|
|
تساق إلى
الحيّ عيرا فعيرا
|
الإعراب :
(إِذا وَقَعَتِ
الْواقِعَةُ) في إذا أوجه :
١ ـ ظرف محض
ليس فيها معنى الشرط والعامل فيها ما في ليس من معنى النفي كأنه قيل ينتفي التكذيب
بوقوعها إذا وقعت ، وقد ذهب إلى هذا الوجه الزمخشري فقال : «فإن قلت بم انتصب إذا؟
قلت بليس كقولك يوم الجمعة ليس لي شغل» وردّه أبو حيان فقال : «أما نصبها بليس فلا
يذهب نحوي ولا من شدا شيئا من صناعة الإعراب إلى مثل هذا لأن «ليس» في النفي كما
وما لا تعمل فكذلك ليس وذلك أن
«ليس» مسلوبة الدلالة على الحدث والزمان والقول بأنها فعل هو على سبيل
المجاز لأن حدّ الفعل لا ينطبق عليها والعامل في الظرف إنما هو ما يقع فيه من
الحدث فإذا قلت يوم الجمعة أقوم فالقيام واقع في يوم الجمعة و «ليس» لا حدث لها
فكيف يكون لها عمل في الظرف ، والمثال الذي شبّه به وهو يوم الجمعة ليس لي شغل لا
يدل على أن يوم الجمعة منصوب بليس بل هو منصوب بالعامل في خبر ليس وهو الجار
والمجرور فهو من تقديم الخبر على ليس وتقديم ذلك مبني على جواز تقديم الخبر الذي
لليس عليها وهو مختلف فيه ولم يسمع من لسان العرب قائما ليس زيد ، وليس إنما تدل
على الحكم الخبري عن المحكوم عليه فقط فهي كما ولكنه لما اتصلت بها ضمائر الرفع
جعلها ناس فعلا وهي في الحقيقة حرف نفي كما النافية ، ويظهر من تمثيل الزمخشري إذا
بقوله يوم الجمعة أنه سلبها الدلالة على الشرط الذي هو غالب فيها ولو كانت شرطا
وكان الجواب الجملة المصدّرة بليس لزمت الفاء إلا أن حذفت في شعر إذ ورد ذلك فتقول
إذا أحسن إليك زيد فلست تترك مكافأته ولا يجوز ، «لست» بغير فاء إلا إن اضطر إلى
ذلك».
٢ ـ أن العامل
فيها اذكر مقدّرا.
٣ ـ أنها شرطية
وجوابها مقدّر أي إذا وقعت الواقعة كان كيت وكيت وهو العامل فيها.
٤ ـ أنها شرطية
والعامل فيها الفعل الذي بعدها ويليها وهو اختيار أبي حيان وتبع في ذلك مكيا ، قال
مكّي : والعامل فيها وقعت لأنها قد يجازى بها فعمل فيها الفعل الذي بعدها كما يعمل
في ما ومن اللتين للشرط في قولك ما تفعل أفعل ومن تكرم أكرم.
٥ ـ أنها مبتدأ
وإذا رجت خبرها وهذا على القول أنها تتصرف.
٦ ـ أنها ظرف
لخافضة رافعة قاله أبو البقاء أي إذا وقعت خفضت ورفعت.
٧ ـ أنها ظرف
لرجت وإذا الثانية إما بدل من الأولى أو تكرير لها.
٨ ـ إن العامل
فيها ما دلّ عليه قوله فأصحاب الميمنة أي إذا وقعت بانت أحوال الناس فيها.
٩ ـ أن جواب
الشرط قوله فأصحاب الميمنة.
١٠ ـ قال
الجرجاني : إذا صلة أي وقعت الواقعة مثل اقتربت الساعة وأتى أمر الله وهو كما يقال
قد جاء الصوم أي دنا واقترب.
ووقعت الواقعة
فعل وفاعل.
(لَيْسَ لِوَقْعَتِها
كاذِبَةٌ) ليس فعل ماض جامد ناقص ولوقعتها خبرها مقدّم واللام
بمعنى في على تقدير المضاف أي ليس كاذبة توجد في وقت وقوعها وكاذبة اسم ليس وكاذبة
صفة لموصوف محذوف أي نفس كاذبة ، وقيل «كاذبة» مصدر جاء بلفظ اسم الفاعل بمعنى
الكذب (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) خافضة خبر لمبتدأ محذوف ورافعة خبر ثان (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) يجوز أن تكون إذا بدلا من إذا الأولى أو تأكيدا لها أو
خبرا لها على أنها مبتدأ وقد تقدم هذا مفصلا ويجوز أن تكون شرطا والعامل فيها إما
مقدّر وإما فعلها الذي يليها كما تقدم في نظيرتها ، وعبارة الزمخشري : «ويجوز أن
ينتصب بخافضة رافعة أي تخفض وترفع وقت رجّ الأرض وبسّ الجبال لأنه عند ذلك ينخفض
ما هو مرتفع ويرتفع ما هو منخفض» ، ورجّا مفعول مطلق (وَبُسَّتِ الْجِبالُ
بَسًّا) الجملة معطوفة على الجملة السابقة (فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) الفاء عاطفة وكانت فعل ماض ناقص واسمها مستتر تقديره هي
وهباء خبرها ومنبثّا صفة لهباء (وَكُنْتُمْ
أَزْواجاً
ثَلاثَةً) عطف على رجّت وكان واسمها وخبرها وثلاثة نعت لأزواجا (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ
الْمَيْمَنَةِ) الفاء عاطفة تفريعية للشروع في تفصيل وشرح أحوال
الأزواج الثلاثة وأصحاب الميمنة مبتدأ وما استفهامية في محل رفع مبتدأ ثان
والمقصود بالاستفهام التعظيم وأصحاب الميمنة الثاني خبر ما والجملة خبر المبتدأ
الأول وتكرير المبتدأ هنا بلفظه أغنى عن الرابط وهو الضمير ومثله «الحاقة ما
الحاقة» و «القارعة ما القارعة» ولا يكون إلا في مواطن التعظيم والتحقير وهذا هو
القسم الأول من الأزواج (وَأَصْحابُ
الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) عطف على ما تقدم والمقصود هنا تحقير شأنهم وهم القسم
الثاني من الأزواج (وَالسَّابِقُونَ
السَّابِقُونَ) الواو عاطفة والسابقون مبتدأ والسابقون تأكيد وهم القسم
الثالث من الأزواج وأكثرهم عراقة في الفضل (أُولئِكَ
الْمُقَرَّبُونَ) أولئك مبتدأ والمقربون خبره والجملة خبر السابقون واسم
الإشارة أغنى عن الرابط وهو الضمير ، واختار الزمخشري أن يكون السابقون خبرا وليس
تأكيدا قال «والسابقون من عرفت حالهم وبلغك وصفهم كقوله : وعبد الله عبد الله وقول
أبي النجم «وشعري شعري» كأنه قال وشعري ما انتهى إليك وسمعت بفصاحته وقد جعل
السابقون تأكيدا وأولئك المقربون خبرا وليس بذاك» هذا ما ذكره الزمخشري وليس بعيدا
بل لعلّه أقعد بالفصاحة ، ألا ترى كيف سبق بسط حال السابقين بقوله : أولئك
المقربون فجمع بين اسم الإشارة المشار به إلى معروف وبين الإخبار عنه بقوله
المقربون المعرّف بالألف واللام العهدية. وننقل فيما يلي نص ما أورده أبو حيان قال
: «والسابقون السابقون جوّزوا أن يكون مبتدأ وخبرا نحو قولهم أنت أنت وقوله : أنا
أبو النجم وشعري شعري ، أي الذين انتهوا في السبق أي الطاعات وبرعوا فيها وعرفت
حالهم وأن يكون السابقون تأكيدا لفظيا والخير فيما بعد ذلك». وعبارة أبي البقاء «قوله
تعالى والسابقون الأول مبتدأ والثاني
خبره أي السابقون بالخير السابقون إلى الجنة وقيل الثاني نعت للأول أو تكرر
توكيدا والخبر أولئك» (فِي جَنَّاتِ
النَّعِيمِ) خبر ثان أو حال من الضمير في المقربون أو متعلق به أي
قربوا إلى رحمة الله في جنات النعيم ، وإضافة الجنات إلى النعيم من إضافة المكان
إلى ما يكون فيه كما يقال : دار الضيافة ودار الدعوة ودار العدل (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ
مِنَ الْآخِرِينَ) ثلّة خبر لمبتدأ محذوف أي هم ثلّة من الأولين ومن
الأولين نعت وقليل عطف على ثلّة ومن الآخرين نعت لقليل واختار الجلال أن يرتفع
ثلّة على الابتداء لوصفه والخبر على سرر الآتية (عَلى سُرُرٍ
مَوْضُونَةٍ) إما خبر على القول بأن ثلّة مبتدأ أو نعت ثان لثلّة على
القول بأنها خبر لمبتدأ مضمر (مُتَّكِئِينَ
عَلَيْها مُتَقابِلِينَ) حالان من الضمير في عليها أي استقروا عليها متكئين
متقابلين لا ينظر بعضهم إلى بعض.
(يَطُوفُ عَلَيْهِمْ
وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا
يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠)
وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثالِ
اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) لا
يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً
(٢٦))
اللغة :
(مُخَلَّدُونَ) باقون لا يموتون ولا يهرمون ولا يتغيرون وقيل من الخلد
وهو القرط ، قال امرؤ القيس :
وهل ينعمن
إلا سعيد مخلد
|
|
قليل الهموم
ما يبيت بأوجال
|
والولدان جمع
وليد كصبيان بمعنى مولود والولد يجمع على أولاد.
(مَعِينٍ) خمر جارية من منبع لا يفيض ولا ينقطع أبدا.
(لا يُصَدَّعُونَ) لا يحصل لهم صداع بسببها قال الزمخشري :«وحقيقته لا
يصدر صداعهم عنها» والصداع هو الداء المعروف الذي يلحق الإنسان في رأسه والخمر
تؤثر قال علقمة في وصف الخمر :
تشفي الصداع
ولا يؤذيك صالبها
|
|
ولا يخالطها
في الرأس تدويم
|
(يُنْزِفُونَ) بفتح الزاي وكسرها من نزف الشارب وأنزف يقال نزف الرجل
بالبناء للمجهول أي ذهب عقله سكرا ونزف الرجل دما : رعف فخرج دمه كله وكلاهما
وارد.
الإعراب :
(يَطُوفُ عَلَيْهِمْ
وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) الجملة مستأنفة ويجوز أن تكون حالية وعليهم متعلقان
بيطوف وولدان فاعل ومخلدون نعت ولدان ، والمعنى : يدور حولهم للخدمة غلمان لا
يهرمون ولا يتغيرون بل شكلهم شكل الولدان دائما (بِأَكْوابٍ
وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) بأكواب متعلقان بيطوف ما وبعده عطف عليه ومن معين صفة
لكأس (لا يُصَدَّعُونَ
عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ) الجملة مستأنفة أو حال من الضمير في عليهم ولا نافية
ويصدعون بالبناء للمجهول والواو نائب فاعل وعنها متعلقان به ولا ينزفون عطف على لا
يصدعون (وَفاكِهَةٍ مِمَّا
يَتَخَيَّرُونَ) عطف على ما تقدم أي وكأس ، ومما نعت لفاكهة وجملة
يتخيرون صلة (وَلَحْمِ طَيْرٍ
مِمَّا يَشْتَهُونَ) عطف على ما تقدم أيضا (وَحُورٌ عِينٌ) يقرأ
بالرفع ، وفيه أوجه : أحدها هو معطوف على ولدان أي يطفن عليهم للتنعيم لا
للخدمة ، والثاني هو مبتدأ خبره محذوف أي لهم حور أو وثم حور ، والثالث هو خبر
لمبتدأ محذوف أي ونساؤهم حور ، ويقرأ بالنصب على تقدير يعطون أو يجازون حورا ،
ويقرأ بالجر عطفا على أكواب في اللفظ دون المعنى لأن الحور لا يطاف بهنّ ، وقيل هو
معطوف على جنات أي في جنات وفي حور. وعين صفة لحور (كَأَمْثالِ
اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) كأمثال نعت ثان لحور واللؤلؤ مضاف إليه والمكنون نعت (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) جزاء مفعول من أجله أي يفعل بهم ذلك كله جزاء أو مفعول
مطلق لفعل محذوف أي جزيناهم جزاء وبما متعلقان بجزاء وجملة كانوا صلة وكان واسمها
وجملة يعملون خبرها (لا يَسْمَعُونَ فِيها
لَغْواً وَلا تَأْثِيماً) لا نافية ويسمعون فعل مضارع والواو فاعله وفيها متعلقان
بيسمعون ولغوا مفعول به والواو حرف عطف ولا نافية وتأثيما عطف على لغوا أي فاحشا
من القول أو مما يؤثم (إِلَّا قِيلاً
سَلاماً سَلاماً) إلا أداة استثناء والاستثناء منقطع وقيلا مستثنى منقطع
واجب النصب وسلاما سلاما فيه أوجه أحدها أنه بدل من قيلا أي لا يسمعون فيها إلا
سلاما سلاما ، والثاني أنه نعت قيلا ، والثالث أنه منصوب بقيلا لأنه مصدر أي إلا
أن يقولوا سلاما سلاما واختاره الزجّاج ، والرابع أن يكون مفعولا مطلقا لفعل محذوف
أي سلّموا سلاما.
البلاغة :
١ ـ في قوله «كأمثال
اللؤلؤ المكنون» تشبيه مرسل مجمل ، ووجه الشبه محذوف وهو الصون ، قال الشاعر يصف
امرأة بالصون وعدم الابتذال فشبّهها بالدرّة المكنونة في صدفتها فقال :
قامت تراءى
بين سجفي كلة
|
|
كالشمس يوم
طلوعها بالأسعد
|
أو درّة
صدفية غوّاصها
|
|
بهج متى يرها
يهلّ ويسجد
|
٢ ـ وفي قوله «لا يصدعون عنها ولا
ينزفون» فن الإيجاز وقد تقدم ، فجمع في هاتين الكلمتين جميع عيوب الخمر في الدنيا.
(وَأَصْحابُ
الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ
مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفاكِهَةٍ
كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤)
إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً
أَتْراباً (٣٧) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩)
وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠))
اللغة :
(سِدْرٍ) السدر شجر النبق.
(مَخْضُودٍ) أصل الخضد عطف العود اللين فمن هاهنا المخضود الذي لا
شوك له لأن الغالب أن الرطب اللين لا شوك له وفي المختار : «خضد الشجر قطع شوكة
وبابه ضرب فهو خضيد ومخضود» ، وقال أمية بن أبي الصلت يصف الجنة :
إن الحدائق
في الجنان ظليلة
|
|
فيها الكواعب
سدرها مخضود
|
(طَلْحٍ) الطلح : شجر الموز ، وقال أبو عبيدة : هو كل شجر عظيم
كثير الشوك ، قال بعض الحداة :
بشرها دليلها
وقالا
|
|
غدا ترين
الطلح والجبلا
|
وقال الزجّاج :
الطلح شجر أم غيلان فقد يكون على أحسن حال.
(مَنْضُودٍ) اسم مفعول من نضدت المتاع أي جعلت بعضه فوق بعض.
(أَبْكاراً) البكر التي لم يفترعها الرجل فهي على خلقتها الأولى من
حال الإنشاء ، ومنه البكرة لأول النهار والباكورة لأول الفاكهة والبكر الفتى من
الإبل وجمعه بكار وبكارة وجاء القوم على بكرتهم وبكرة أبيهم.
(عُرُباً) جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها عشقا له.
(أَتْراباً) جمع ترب وهو اللذة الذي ينشأ مع مثله في حال الصبا وهو
مأخوذ من لعب الصبي بالتراب أي هم كالصبيان الذين هم على سنّ واحدة ، قال عمر بن
أبي ربيعة :
أبرزوها مثل
المهاة تهادى
|
|
بين عشر
كواعب أتراب
|
الإعراب :
(وَأَصْحابُ
الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) كلام مستأنف مسوق للشروع في تفصيل ما أجمل أولا ،
وأصحاب مبتدأ وما اسم استفهام للتعظيم في محل رفع مبتدأ وأصحاب اليمين خبر ما
والجملة خبر أصحاب والرابط إعادة المبتدأ بلفظه كما تقدم (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ
مَنْضُودٍ) خبر ثان لأصحاب أو خبر لمبتدأ محذوف أي هم في سدر
ومخضود نعت لسدر (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ
وَماءٍ مَسْكُوبٍ وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ
وَلا
مَمْنُوعَةٍ وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) عطف على وله في سدر ولا في لا مقطوعة للنفي كقولك مررت
برجل لا طويل ولا قصير ولذلك لزم تكرارها (إِنَّا
أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) إن واسمها وجملة أنشأناهنّ خبر وإنشاء مفعول مطلق
وعبارة الكشاف «إنّا أنشأناهنّ إنشاء : ابتدأنا خلقهنّ ابتداء جديدا من غير ولادة
فإما أن يراد اللاتي ابتدئ إنشاؤهنّ أو اللاتي أعيد إنشاؤهنّ ، وعن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أن أم سلمة سألته عن قوله تعالى :إنّا أنشأناهنّ إنشاء ، فقال : يا
أم سلمة هنّ اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز شمطا رمصا جعلهنّ الله بعد الكبر
أترابا على ميلاد واحد في الاستواء كلما أتاهنّ أزواجهنّ وجدوهنّ أبكارا فلما سمعت
عائشة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قالت : وأوجعاه فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : ليس هناك وجع (فَجَعَلْناهُنَّ
أَبْكاراً عُرُباً أَتْراباً) الفاء عاطفة وجعلناهنّ فعل ماض وفاعل ومفعول به أول
وأبكارا مفعول به ثان وعربا أترابا نعتان لأبكارا (لِأَصْحابِ
الْيَمِينِ) لأصحاب اليمين متعلقان بأنشأناهنّ (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ
مِنَ الْآخِرِينَ) ثلّة خبر لمبتدأ محذوف ومن الأولين نعت لثلّة وثلّة من
الآخرين عطف على ما تقدم.
البلاغة :
١ ـ في قوله «وفرش
مرفوعة» إن فسرت الفرش بأنها جمع فراش كان معناها على حقيقته أي مرفوعة على السرر
وإن أريد بها النساء كانت كناية عن موصوف والعرب تسمي المرأة فراشا ولباسا ويدل
على هذا التأويل قوله «إنّا أنشأناهنّ إنشاء».
٢ ـ وفي قوله «عربا
أترابا» كناية أيضا عن عودتهنّ أو نشأتهنّ في سنّ صغيرة ، قالت عجوز لرسول الله
صلى الله عليه وسلم : ادع الله أن يدخلني الجنة ، فقال : إن الجنة لا تدخلها
العجائز ، فولّت وهي تبكي
فقال عليه الصلاة والسلام أخبروها أنها ليست بعجوز ، وعنه أيضا صلى الله
عليه وسلم : يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا بيضا جعادا مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين»
والعرب جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها ، قال المبرد : هي العاشقة لزوجها ، وقال
زيد بن أسلم : هي الحسنة الكلام والأتراب : هنّ اللواتي على ميلاد واحد وسنّ
واحدة.
(وَأَصْحابُ الشِّمالِ
ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ
(٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥)
وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا
مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا
الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ
إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ
الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ
مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ
شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦))
اللغة :
(سَمُومٍ) السموم : الريح الحارّة التي تدخل في مسام البدن ،
ومسام البدن خروقه ومنه أخذ السمّ الذي يدخل في المسام.
(يَحْمُومٍ) اليحموم هو الدخان الأسود البهيم ، وفي المختار :«وحممه
تحميما سخم وجهه بالفحم والحمم الرماد والفحم وكل ما احترق من النار الواحدة حممة
واليحموم الدخان».
(الْحِنْثِ) الذنب ويعبّر بالحنث عن البلوغ ومنه قولهم : لم يبلغوا
الحنث ، وإنما قيل ذلك لأن الإنسان عند بلوغه يؤاخذ بالحنث أي الذنب ، وتحنث فلان
أي جانب الحنث وفي الحديث : كان صلى الله عليه وسلم يتحنث بنار حراء ، أي يتعبد
لمجانبته الإثم ، فتفعّل في هذه كلها للسلب.
(الْهِيمِ) الإبل العطاش التي لا تروى من الماء لداء يصيبها
والواحد أهيم والأنثى هيماء ، وأصل هيم هيم بضم الهاء بوزن حمر ، لكن قلبت الضمة
كسرة لمناسبة الياء ، وعبارة السمين : «والهيم جمع أهيم وهيماء وهو الجمل والناقة
التي أصابها الهيام وهو داء معطش تشرب الإبل منه إلى أن تموت أو تسقم سقما شديدا».
الإعراب :
(وَأَصْحابُ الشِّمالِ
ما أَصْحابُ الشِّمالِ) تقدم إعراب نظيرها قريبا فجدّد به عهدا والكلام مستأنف
مسوق للشروع في تفصيل ما أجمله من أحوالهم بعد أن فصّل حال أصحاب اليمين (فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ) خبر ثان أو خبر لمبتدأ مضمر وقد تقدم نظيره (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بارِدٍ وَلا
كَرِيمٍ) عطف على ما تقدم (إِنَّهُمْ كانُوا
قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ) الجملة تعليلية لا محل لها من الإعراب وإن واسمها وجملة
كانوا خبرها وكان واسمها والظرف متعلق بمحذوف حال أو بمترفين ومترفين خبر كانوا (وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ
الْعَظِيمِ) عطف على ما تقدم وكان واسمها وجملة يصرّون خبرها وعلى
الحنث متعلقان بيصرّون والعظيم نعت (وَكانُوا
يَقُولُونَ
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) عطف أيضا وكان واسمها وجملة يقولون خبرها والهمزة
للاستفهام وإذا ظرف للشرط متعلق بشيء دلّ عليه قوله أإنا لمبعوثون ، ألا ترى أن
إذا ظرف من الزمان فلا بدّ له من فعل أو معنى فعل يتعلق به ولا يجوز أن يتعلق
بقوله متنا لأنه مضاف إليه والمضاف إليه لا يعمل في المضاف وإذا لم يجز حمله على
هذا الفعل ولا على ما بعد إن من حيث لم يعمل ما بعد إن فيما قبلها كما لا يعمل ما
بعد لا فيما قبلها فكذلك لا يجوز أن يعمل ما بعد الاستفهام فيما قبله علمت أنه
يتعلق بشيء دلّ عليه قوله أإنا لمبعوثون وذلك نحشر أو نبعث ونحوهما مما يدلّ عليه
هذا الكلام.
ومتنا فعل
وفاعل وكنّا عطف على متنا وكان واسمها وترابا خبرها وعظاما عطف على ترابا والهمزة
للاستفهام وإن واسمها واللام المزحلقة ومبعوثون خبرها (أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) الهمزة للاستفهام والواو حرف عطف وآباؤنا معطوف على
الضمير المستكن في مبعوثون وحسن العطف على الضمير من غير تأكيد نحن لوجود الفاصل
الذي هو الهمزة وقيل المعطوف عليه محل إن واسمها بعد ملاحظة تقدم المعطوف على
الخبر والتقدير أإنا أو آباؤنا مبعوثون والأولون نعت لآباؤنا (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ
لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) كلام مستأنف مسوق للردّ على إنكارهم وتحقيقا للحق ، وإن
واسمها والآخرين عطف على الأولين واللام المزحلقة ومجموعون خبر إن ، وإن واسمها
وخبرها في محل نصب مقول القول وإلى ميقات يوم متعلقان بمجموعون ومعلوم نعت ليوم ،
وقد ضمن الجمع معنى السوق فعدّي بإلى وإلا فكان الظاهر تعديته بفي (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ
الْمُكَذِّبُونَ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي داخل في حيز القول وإن
واسمها وأيها منادى نكرة مقصودة والضالون بدل من أيها والمكذبون نعت للضالون (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) اللام المزحلقة وآكلون خبر إنكم ومن شجر متعلقان بآكلون ومن زقوم بدل
من قوله من شجر أو عطف بيان أو نعت (فَمالِؤُنَ مِنْهَا
الْبُطُونَ) الفاء حرف عطف ومالئون معطوف على آكلون ومنها متعلقان
بمالئون والبطون مفعول لاسم الفاعل وأنت ضمير الشجر لأنه اسم جنس واسم الجنس يجوز
تذكيره وتأنيثه (فَشارِبُونَ عَلَيْهِ
مِنَ الْحَمِيمِ) الفاء حرف عطف وشاربون معطوف على آكلون وعليه متعلقان
بمحذوف حال ومن الحميم متعلقان بشاربون (فَشارِبُونَ شُرْبَ
الْهِيمِ) الفاء حرف عطف وشاربون عطف على ما تقدم وشرب الهيم
مفعول مطلق وصحّ عطف الشيء على نفسه لأنهما في الحقيقة مختلفان فالأول شرب للحميم
على ما هو عليه من تناهي الحرارة وقطع الأمعاء وهو أمر عجيب في حدّ ذاته والثاني
شرب للحميم على ذلك كما تشرب الهيم الماء وهو أمر أعجب وأشد غرابة. وفي هذا
التشبيه فائدتان : إحداهما التنبيه على شربهم منه والثانية عدم جدوى الشرب وأن
المشروب لا ينجع فيه كما ينجع في الهيم (هذا نُزُلُهُمْ
يَوْمَ الدِّينِ) هذا مبتدأ ونزلهم خبر ويوم الدين الظرف متعلق بمحذوف
حال أي كائنا في ذلك اليوم العصيب.
البلاغة :
١ ـ في قوله «لا
بارد ولا كريم» فن الاحتراس وقد تقدم تعريفه ، وهنا لمّا قال وظل من يحموم أوهم أن
الظل ربما جلب لهم شيئا من الراحة بعد التعب فنفي عنه صفتي الظل يريد أنه ظل ولكن
لا كسائر الظلال التي تنشر البرد والروح وتجلب النفع لمن يأوي إليه ويتفيأ تحته
ليمحق ما في مدلول الظل من الاسترواح إليه فقوله لا بارد ولا كريم صفتان للظل لا
لقوله من يحموم ، وهنا يرد اعتراض بأن الفاء تفيد الترتيب مع التعقيب ، ونقول نصّ
الرضي على أنه غير واجب مع أنه هنا يفضي إلى عدم توازن الفاصلتين وجعلهما نعتين
ليحموم لا يلائم
البلاغة القرآنية كما أن فيه فن التعريض وهو أن الذين يستأهلون الظل الذي
فيه برد وإكرام غير هؤلاء فيكون أشجى لحلوقهم وأدعى لتحسرهم ، ولهذه النكت جميعها
علل استحقاقهم هذه العقوبة بقوله «إنهم كانوا قبل ذلك مترفين» قال الرازي : «والحكمة
في ذكره سبب عذابهم ولم يذكر في أصحاب اليمين سبب ثوابهم فلم يقل أنهم كانوا قبل
ذلك شاكرين مذعنين وذلك للتنبيه على أن الثواب منه تعالى فضل والعقاب منه عدل
والفضل سواء ذكر سببه أم لم يذكر لا يوهم بالمتفضل نقصا ولا ظلما وأما العدل فإنه
إن لم يذكر سبب العقاب يظن أنه ظالم ويدل على ذلك أنه تعالى لم يقل في حق أصحاب
اليمين جزاء بما كانوا يعملون كما قال في السابقين لأن أصحاب اليمين نجوا بالفضل
العظيم لا بالعمل بخلاف من كثرت حسناته يحسن إطلاق الجزاء بحقه» وهذا كلام جميل
جدا فتدبره ولا تنس المقابلة الخفيّة الكامنة فيما بين سطور هذا الكلام العجيب
فهؤلاء الذين أمسّوا بهذه المثابة كانوا في الدنيا يعيشون غارقين في الترف ،
متقلبين في أعطافه فإذا بهم وقد لفّهم السموم واليحموم يتذكرون ما كانوا فيه
ويقابلون بينه وبين حالتهم الراهنة والتجسيد والتخييل حاضران مهيآن أمامهم ،
تتقراهما أيديهم بلمس على حدّ قول البحتري.
٢ ـ وفي الآية «هذا
نزلهم يوم الدين» فن التهكم وقد مرّ أيضا ، فقد سمّى الجحيم وما فيه من صنوف
العذاب وضروب الأهوال نزلا تهكما بهم لأن النزل ما يعدّ للنازل تكرمة له كما في
قوله تعالى «فبشّرهم بعذاب أليم» وكقول أبي الشعراء الضبّي :
وكنّا إذا
الجبار بالجيش ضافنا
|
|
جعلنا القنا
والمرهفات له نزلا
|
أي إذا نزل بنا
الجبار مع جيشه نزول الضيف ، وفيه تهكم به
حيث جاء محاربا فشبهه بمن جاء للمعروف طالبا ورشح ذلك التشبيه بجعل الرماح
والسيوف المرهفة المسنونة نزلا له وهو الطعام المعدّ للضيف.
(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ
فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ
تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ
الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ
وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ
الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ
تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً
فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ
(٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ
مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً
فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ
أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها
تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ
(٧٤))
اللغة :
(تُمْنُونَ) أمنى يمني ومنى يمني : قذف المني في الرحم وهو
النطفة ، وقرأ ابن السماك تمنون بفتح التاء والأصل من المني وهو التقدير ،
قال الشاعر :
لا تأمنّ وإن
أمسيت في حرم
|
|
حتى تلاقي ما
يمني لك الماني
|
ومنه المنية
لأنها مقدّرة تأتي على مقدار وفي المختار : «وقد منى من باب رمى وأمنى أيضا».
(قَدَّرْنا) بالتشديد والتخفيف قال :
ومفرهة عنس
قدرت لساقها
|
|
فخرت كما
تتايع الريح بالقفل
|
والمعنى قدرت
ضربي لساقها فضربتها فخرت ، ومثله في المعنى :
وإن تعتذر
بالمحلّ من ذي ضروعها
|
|
على الضيف
يجرح في عراقيبها نصلي
|
(حُطاماً) الحطام : الهشيم الذي لا ينتفع به في مطعم ولا غذاء
وأصل الحطم الكسر ، والحطم السوّاق بعنف يحطم بعضها على بعض ، قال :
قد لفّها
الليل بسواق حطم
|
|
ليس براعي
إبل ولا غنم
|
ولا بجزار على
ظهر وضم (تَفَكَّهُونَ) التفكّه أصله تناول ضروب الفواكه للأكل والفكاهة المزاح
ومنه حديث زيد : كان من أفكه الناس مع أهله ، ورجل فكه طيب النفس ، وقد استعير هنا
للتنقل في الحديث ، وقيل معناه تندمون ، وحقيقته تلقون الفكاهة عن أنفسكم ولا تلقى
الفكاهة إلا من الحزن فهو من باب تحرّج وتأثم ، وقيل تفكهون : تعجبون وقيل
تتلاومون وقيل تتفجعون وكله من باب التفسير باللازم.
(لَمُغْرَمُونَ) جمع مغرم ، والمغرم هو الذي ذهب ماله بغير عوض وأصل
الباب اللزوم والغرام العذاب اللازم قال الأعشى :
إن يعاقب يكن
غراما وإن يع
|
|
ط جزيلا فإنه
لا يبالي
|
(تُورُونَ) الإيراء إظهار النار بالقدح يقال أورى يوري ووريت بك
زنادي أي أضاء بك أمري ويقال : قدح فأورى إذا ظهرت النار فإذا لم يور يقال قدح
فأكبى ، وفي المصباح : «ورى الزند يري وريا من باب وعى وفي لغة وري يري بكسرهما
وأورى بالألف وذلك إذا أخرج ناره» وفي المختار : «وأوراه غيره أخرج ناره» وفي
معاجم اللغة : تستخرجون النار من الزناد وهو جمع زند والزند العود الذي يقدح به
النار وهو الأعلى والزندة السفلى فيها ثقب وهي الأنثى فإذا اجتمعتا قيل زندان والجمع
زناد والعرب تقدح بعودين تحك أحدهما على الآخر.
(الْمُزْنِ) السحاب جمع مزنة وفي القاموس : «المزن بالضم السحاب أو
أبيضه أو ذو الماء ، القطعة مزنة».
(أُجاجاً) في المختار : «ماء أجاج مرّ شديد الملوحة ، وقد أجّ
الماء يؤج أجوجا بالضم».
(لِلْمُقْوِينَ) للمسافرين أي جعلناها ينتفع بها المسافرون وخصّوا
بالذكر لأن منفعتهم بها أكثر من المقيمين ، وقال قطرب : «المقوي من الأضداد يقال
للفقير مقو لخلوّه من المال ويقال للغني مقو لقوته على ما يريده» وقيل المقوي
النازل بالقواء من الأرض ليس بها أحد وأقوت الدار خلت من أهلها ، قال النابغة :
أقوى وأقفر
من نعم وغيّرها
|
|
هوج الرياح
بهابي الترب موار
|
وقال عنترة :
حييت من طلل
تقادم عهده
|
|
أقوى وأقفر
بعد أم الهيثم
|
الإعراب :
(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ
فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) نحن مبتدأ وجملة خلقناكم خبر والفاء حرف عطف ولو لا حرف
تحضيض وتصدقون فعل مضارع مرفوع والواو فاعله (أَفَرَأَيْتُمْ ما
تُمْنُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء عاطفة ورأيتم فعل ماض
وفاعله ومعناه أخبروني وما اسم موصول بمعنى الذي مفعول رأيتم الأول وجملة تمنون
صلة (أَأَنْتُمْ
تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) الجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني لرأيتم
وأنتم مبتدأ وجملة تخلقونه خبر ويجوز إعراب أنتم فاعلا لفعل مقدّر أي أتخلقونه
أنتم فلما حذف الفعل لدلالة ما بعده عليه انفصل الضمير وهو من باب الاشتغال ولعله
من جهة القواعد أمكن لأجل أداة الاستفهام وأم حرف عطف وهي منقطعة لأن بعدها جملة
والمنقطعة تقدّر ببل وهمزة الاستفهام فيكون الكلام مشتملا على استفهامين الأول أأنتم
تخلقونه وجوابه لا والثاني مأخوذ من أم أي بل نحن الخالقون وجوابه نعم ، ويجوز أن
تكون أم متصلة فهي معادلة ويؤيد هذا الوجه أن الكلام يئول إلى أي الأمرين واقع
والجملة بعدها في تأويل المفرد ، ونحن مبتدأ والخالقون خبر (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ
وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) نحن مبتدأ وجملة قدرنا خبر وقدرنا فعل وفاعل والظرف
متعلق بقدرنا والموت مفعول به أي أوجبناه وكتبناه عليكم والواو عاطفة أو اعتراضية
وما نافية حجازية ونحن اسمها والباء حرف جر زائد ومسبوقين مجرور لفظا منصوب محلا
لأنه خبر ما (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ
أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) على حرف جر وأن نبدل في تأويل مصدر مجرور بعلى والجار
والمجرور متعلقان بمسبوقين أي ولم يسبقنا أحد على تبديلنا أمثالكم ويجوز تعليقهما
بقدّرنا بينكم أي قدّرنا بينكم الموت على أن نبدل أي يموت أناس ويخلفهم أناس آخرون
فتكون جملة وما نحن بمسبوقين اعتراضية ،
وننشئكم عطف على نبدل وفيما متعلقان بننشئكم وجملة لا تعلمون صلة أي ننشئكم
في صور لا تعلمونها من الحيوانات الممتهنة المرتطمة بالأقذار كالقردة والخنازير (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ
الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) الواو استئنافية واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف
تحقيق وعلمتم فعل وفاعل والنشأة مفعول به والأولى نعت ، فلو لا : الفاء عاطفة ولو
لا حرف تحضيض وتذكرون فعل مضارع وفاعل (أَفَرَأَيْتُمْ ما
تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) تقدم إعراب نظيرها فجدد به عهدا (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً
فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) لو شرطية ونشاء فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن
واللام واقعة في جواب لو وجعلناه فعل وفاعل ومفعول به وحطاما مفعول جعل الثاني
والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم وظلتم فعل ماض ناقص وأصله
ظللتم بكسر اللام حذفت العين تخفيفا والتاء اسمها وجملة تفكهون خبرها وتفكهون فعل
مضارع حذفت منه إحدى تاءيه (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) إن واسمها واللام المزحلقة ومغرمون خبرها وجملة إن
واسمها وخبرها مقول قول محذوف في محل نصب على الحال تقديره فظللتم تفكهون قائلين
أو تقولون إنّا لمغرمون أي لملزمون غرامة ما أنفقنا أو مهلكون لهلاك رزقنا (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) بل حرف إضراب وعطف ونحن مبتدأ ومحرومون خبر والجملة
معطوفة على سابقتها (أَفَرَأَيْتُمُ
الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ
نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) تقدم إعراب نظيرها والذي صفة للماء وجملة تشربون صلة
والعائد محذوف (لَوْ نَشاءُ
جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) تقدم إعرابها ، وسيأتي سر حذف اللام في هذه الآية
وذكرها في الآية الأولى في باب البلاغة (أَفَرَأَيْتُمُ
النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ
الْمُنْشِؤُنَ) تقدم إعراب نظيرها (نَحْنُ جَعَلْناها
تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) نحن مبتدأ وجملة جعلناها خبر وتذكرة مفعول به ثان
ومتاعا عطف على تذكرة وللمقوين متعلقان بمتاعا أو
صفة له (فَسَبِّحْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الْعَظِيمِ) الفاء الفصيحة أي إن عرفت هذه العوارف والآلاء الباهرة
فسبّح ، وسبّح فعل أمر وفاعله أنت وباسم متعلق بسبّح أو بمحذوف حال أي متبركا وقيل
اسم مقحم والعظيم صفة لربك.
البلاغة :
١ ـ في الآيات
الآنفة الذكر فن صحة الأقسام وقد سبق ذكره في هذا الكتاب وأنه عبارة عن استيفاء
المتكلم جميع الأقسام للمعنى المذكور الآخذ فيه بحيث لا يغادر منه شيئا ، فقد عدل
عن لفظ الحرمان والمنع إلى لفظ هو ردفه وتابعه وهو لفظ الجعل إذ قال «أفرأيتم ما
تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون لو نشاء لجعلناه حطاما» وكذلك جاء لفظ
الاعتداد بالماء حيث قال «لو نشاء جعلناه أجاجا» بلفظ الجعل عند ذكر الحرمان وما هو
في معناه وجاء العطاء بلفظ الزرع في الحرث وفي الماء بلفظ الإنزال ، فإن قيل : لم
أكد الفعل باللام في قوله في الزرع : «لو نشاء لجعلناه حطاما» ولم يؤكده في الماء
حيث قال : (لَوْ نَشاءُ
جَعَلْناهُ أُجاجاً)؟ قلت : لأن الزرع ونباته وجفافه بعد النضارة حتى يعود حطاما
فما يحتمل أن يتوهم أنه من فعل الزراع ولهذا قال سبحانه : «أأنتم تزرعونه أم نحن
الزارعون» أو يتوهم أن خصبه من سقي الماء وأن جفافه من حرارة الشمس وعدم السقي أو
تواتر مرور الإعصار فأخبر سبحانه أنه الفاعل لذلك كله على الحقيقة وأنه قادر على
جعله لو شاء حطاما في حالة نموّه وزمن شبيبته ونضارته فلما كان هذا التوهم محتملا
أوجبت البلاغة توكيد فعل الجعل فيه وإسناده لزارعه على الحقيقة ومنشئه لرفع هذا
التوهم ، ولما كان إنزال الماء من السماء محالا بما لا يتطرق احتمال توهم متوهم أن
أحدا من جميع الخلق قادر عليه لم
يحتج إلى توكيد الفعل في جعله أجاجا فإنه لا يمكن أن يتوهم أحد أن أحدا
ينزل الماء من السماء أجاجا ولا عذبا الذي هو أسهل من الأول وأهون.
وعبارة
الزمخشري في هذا الصدد هذا نصها : «فإن قلت لم أدخلت اللام على جواب لو في قوله
لجعلناه حطاما ونزعت منه هاهنا؟ قلت : إن لو لما كانت داخلة على جملتين معلقة
ثانيتهما بالأولى تعلق الجزاء بالشرط ولم تكن مخلصة للشرط كإن ولا عاملة مثلها
وإنما سرى فيها معنى الشرط اتفاقا من حيث إفادتها في مضموني جملتيهما أن الثاني
امتنع لامتناع الأول افتقرت في جوابها إلى ما ينصب علما على هذا التعلق فزيدت هذه
اللام لتكون علما على ذلك ، فإذا حذفت بعد ما صارت علما مشهورا مكانه فلأن الشيء
إذا علم وشهر موقعه وصار مألوفا ومأنوسا به لم يبال بإسقاطه عن اللفظ استغناء
بمعرفة السامع ، ألا ترى إلى ما يحكى عن رؤبة أنه كان يقول خير لمن قال له : كيف
أصبحت؟ فحذف الجار لعلم كل أحد بمكانه وتساوي حالي حذفه وإثباته لشهرة أمره وناهيك
بقول أوس :
حتى إذا
الكلّاب قال لها
|
|
كاليوم
مطلوبا ولا طلبا»
|
أقول وفي بيت
أوس بن حجر أو للنمر بن تولب حذف لا يستقيم إلا به أي قال لها لم أنظر كاليوم
مطلوبا والضمير لكلبة الصيد والكلّاب معلّم الكلاب أو الصياد أي ليس المطلوب
والطلب في هذا اليوم مثلها في غيره بل أعظم ، ثم يتابع الزمخشري : «ويجوز أن يقال
إن هذه اللام مفيدة معنى التوكيد لا محالة فأدخلت في آية المطعوم دون آية المشروب
للدلالة على أن أمر المطعوم مقدّم على أمر المشروب وأن الوعيد بفقده أشدّ وأصعب من
قبل أن المشروب إنما يحتاج إليه تبعا للمطعوم ، ألا ترى أنك إنما تسقي ضيفك بعد أن
تطعمه ولو عكست قعدت تحت قول أبي العلاء :
إذا سقيت
ضيوف الناس محضا
|
|
سقوا أضيافهم
شبما زلالا
|
وسقي بعض العرب
فقال أنا لا أشرب إلا على ثميلة ، ولهذا قدّمت آية المطعوم على آية المشروب»
والثميلة : اللبن الخالص.
ونعود إلى بيت
أبي العلاء فنقول هو من قصيدة يمدح بها سعد الدولة أبا الفضائل ، وعيب عليه حيث
مدح بسقي الضيوف الماء قبل ذكر الطعام والمخض اللبن المنزوع زبده فهو بمعنى
الممخوض ويروي محضا بالحاء المهملة أي خالصا حلوا أو حامضا والشبم البارد والزلال
العذب.
هذا وحيث جعل
علماء البلاغة للمقام مدخلا في الدلالة على المراد نقول إن معنى البيت إذا عجّلت
الناس اللبن لأضيافهم واكتفوا به عن الإسراع بالطعام عجّلوا هم بالطعام لاستعدادهم
للضيفان فيحتاجون لشرب الماء فيسقونهم ماء قبل إطعام غيرهم الضيفان فسقيهم الماء
يفيد تعجيل الطعام قبله بمعونة المقام لأنه يلزمه عادة فلا عيب فيه.
٢ ـ وفي هذه
الآيات أيضا فن التسهيم وهو أن يكون ما تقدم من الكلام دليلا على ما يتأخر منه أو
بالعكس ، فقوله «أفرأيتم ما تحرثون» إلى قوله «أفرأيتم النار التي تورون» تقتضي
أوائل هذه الآيات أن أواخرها اقتضاء لفظيا ومعنويا كما ائتلفت الألفاظ فيها
بمعانيها المجاورة الملائم بالملائم والمناسب بالمناسب لأن ذكر الحرث يلائم ذكر
الزرع والاعتداد بكونه سبحانه لم يجعله حطاما ملائم لحصول التفكّه به وعلى هذه
الآية يقاس نظم أختها.
(فَلا أُقْسِمُ
بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ
لَقَسَمٌ
لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ
مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ
الْعالَمِينَ (٨٠) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ
رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢) فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ
(٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ
وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦)
تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٨٧))
اللغة :
(بِمَواقِعِ
النُّجُومِ) بمساقطها ومغاربها وقيل بمنازلها وقيل بانكدارها
وانتثارها وسيأتي مزيد تفسير لها في باب الإعراب.
(مُدْهِنُونَ) قال الراغب : «والإدهان في الأصل مثل التدهين لكن جعل
عبارة عن المداراة والملاينة وترك الجدّ» وقال المؤرج : المدهن المنافق أو الكافر
الذي يلين جانبه ليخفي كفره ، والإدهان والمداهنة التكذيب والنفاق وأصله اللين وأن
يضمر خلاف ما يظهر.
الإعراب :
(فَلا أُقْسِمُ
بِمَواقِعِ النُّجُومِ) الفاء استئنافية ولا زائدة والمعنى فاقسم ولا تزاد في
القسم فيقال لا والله ولا أفعل قال امرؤ القيس :
لا وأبيك
ابنة العامري
|
|
لا يدعي
القوم أني أفر
|
والمعنى وأبيك
وإنما زيدت للتأكيد وتقوية الكلام. وقيل نافية.
والمنفي محذوف
وهو كلام الكافر والجاحد تقديره فلا صحة لما يقول الكافر ثم ابتدأ فقال أقسم ،
وقيل هي لام الابتداء دخلت على جملة من مبتدأ وخبر وهي أنا أقسم كقولك لزيد منطلق
ثم حذف المبتدأ فاتصلت اللام بخبره تقديره فلأقسم باللام فقط ، وقال أبو حيان :
والأولى عندي أنها لام أشبعت فتحتها فتولدت منها ألف كقوله «أعوذ بالله من العقارب»
وسيرد مزيد من هذا البحث في كتابنا ، وأقسم فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره
أنا وبمواقع النجوم متعلقان بأقسم (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ
لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) الواو اعتراضية وإن واسمها واللام المزحلقة وقسم خبرها
ولو شرطية وتعلمون فعل مضارع مرفوع وعظيم صفة قسم وجملة لو تعلمون معترضة بين
الموصوف وصفته وجملة إنه لقسم لو تعلمون عظيم لا محل لها لأنها معترضة بين القسم
وجوابه فهما اعتراضان متعاقبان وجواب لو محذوف والتقدير لو كنتم من ذوي العلم
لعلمتم (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ
كَرِيمٌ) الجملة جواب القسم لا محل لها وإن واسمها واللام
المزحلقة وقرآن خبر إنه وكريم صفة أولى لقرآن (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) في كتاب صفة ثانية لقرآن ومكنون صفة لكتاب (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) لا نافية ويمسّه فعل مضارع ومفعوله وإلا أداة حصر
والمطهرون فاعل يمسّه والجملة صفة ثالثة لقرآن ، وقيل لا ناهية ويمسّه فعل مضارع
مجزوم بلا ولكنه لما أدغم حرّك آخره لأجل الإدغام وكانت الحركة ضمة اتباعا الهاء
ولا داعي لهذا التكلف فالأولى ما ذكرناه وهو الأشبه بتناسق الصفات ويؤيد ما ذهبنا
إليه قراءة عبد الله بن مسعود ما يمسّه بما النافية وفي مسّه كناية عن لازمه وهي
نفي الاطّلاع عليه وعلى ما فيه (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ
الْعالَمِينَ) صفة رابعة ومن رب العالمين نعت لتنزيل (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ
مُدْهِنُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي ، والفاء عاطفة
وبهذا متعلقان بمدهنون والحديث بدل من اسم الإشارة وأنتم مبتدأ ومدهنون خبر (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ
تُكَذِّبُونَ) الواو حرف عطف
وتجعلون رزقكم فعل مضارع والواو فاعل ورزقكم مفعول تجعلون الأول وأن واسمها
وجملة تكذبون خبرها وأن وما في حيزها في موضع المفعول الثاني ولا بدّ من تقدير
مضاف أي شكر رزقكم (فَلَوْ لا إِذا
بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) الفاء استئنافية ولو لا حرف تحضيض بمعنى هلّا ولا يقع
بعدها الفعل فيكون التقدير فلو لا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم فالعامل في إذا هو
الفعل الواقع بعد لو لا وهو ترجعونها ، وبلغت فعل ماض وفاعله مستتر تقديره النفس
أي إذا بلغت النفس الحلقوم عند الموت (وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ
تَنْظُرُونَ) الواو حالية وأنتم مبتدأ وحين ظرف أضيف إلى مثله وهو إذ
والتنوين فيه عوض عن الجملة المضافة إليها أي إذا بلغت النفس الحلقوم وجملة تنظرون
خبر أنتم وجملة وأنتم حينئذ تنظرون حال من فاعل بلغت (وَنَحْنُ أَقْرَبُ
إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) الواو حالية ونحن مبتدأ وأقرب خبر وإليه ومنكم متعلقان
بأقرب والواو عاطفة ولكن مخفّفة مهملة للاستدراك ولا نافية وتبصرون فعل مضارع
مرفوع من البصيرة أي العلم (فَلَوْ لا إِنْ
كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الفاء عاطفة ولو لا حرف تحضيض مؤكد للولا الأولى وإن
شرطية وكنتم كان واسمها وغير مدينين خبر أي غير مجزيين بأن تبعثوا أي غير مبعوثين
وترجعونها هو العامل في إذا فقدم الظرف على عامله المتعلق به الشرطان وهما إن كنتم
غير مدينين وإن كنتم غير صادقين ومعنى تعلقهما به أنه جزاء لهما أي لكلّ منهم ففي
الكلام قلب والمعنى هلّا ترجعونها إن نفيتم البعث صادقين في نفيه. وملخص الكلام :
إن صدقتم في نفي البعث فردّوا روح المحتضر إلى جسده لينتفي عنه الموت فينتفي
البعث.
البلاغة :
الاستعارة
المكنية في قوله «فإذا بلغت الحلقوم» كأنما الروح شيء مجسم يبلغ الحلقوم في حركة
محسوسة.
(فَأَمَّا إِنْ كانَ
مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا
إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ
(٩١) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ
حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥)
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦))
اللغة :
(فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ) الروح بالفتح الراحة والرحمة ونسيم الريح والريحان
الرحمة والرزق كما في المختار وفي القاموس : «والريحان نبت طيب الرائحة أو كل نبت
كذلك أو أطرافه أو ورقه والولد والرزق».
(تَصْلِيَةُ) احتراق.
الإعراب :
(فَأَمَّا إِنْ كانَ
مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان حال المتوفى بعد الممات
إثر بيان حاله عند الوفاة ، وأما حرف شرط
وتفصيل وإن شرطية وكان فعل ماض ناقص واسمها مستتر أي المتوفّى ومن المقربين
خبر كان.
(فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ
وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) الفاء رابطة لجواب أما وجواب إن محذوف لدلالة المذكور
عليه ، وحذف جواب إن شائع كثيرا ، وروح مبتدأ خبره محذوف مقدّم عليه أي فله روح
وما بعده عطف عليه (وَأَمَّا إِنْ كانَ
مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) عطف على ما تقدم مساو له في إعرابه ، وسلام مبتدأ لما
فيه من معنى الدعاء ولك خبر سلام ومن أصحاب اليمين نعت أو حال (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ
الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ) عطف على جملة فأما إن كان ، والإعراب هو نفسه فجدّد به
عهدا (فَنُزُلٌ مِنْ
حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) الفاء رابطة لجواب أما ونزل مبتدأ حذف خبره المقدم ومن
حميم نعت لنزل وتصلية جحيم عطف على نزل (إِنَّ هذا لَهُوَ
حَقُّ الْيَقِينِ) إن واسمها واللام المزحلقة وهو ضمير فصل أو مبتدأ وحق
اليقين خبر إن أو خبر هو والجملة الاسمية خبر إن وإضافة حق إلى اليقين من إضافة
الموصوف إلى صفته (فَسَبِّحْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الْعَظِيمِ) تقدم إعرابه ونعيده لإضافة بعض الفوائد عليه ، فسبّح
فعل أمر بمعنى نزّه ولفظ اسم زائد أي نزّه ربك العظيم ويجوز أن تكون الباء للحال
أي فسبّح ملتبسا باسم ربك أو متبركا ويجوز أن تكون الباء للتعدية بناء على أن سبّح
يتعدى تارة بنفسه وتارة أخرى بحرف الجر.
سورة الحديد
مدنيّة وآياتها تسع
وعشرون
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ
(سَبَّحَ لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢)
هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ
ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ
مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ
ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي
النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ
(٦))
الإعراب :
(سَبَّحَ لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) سبّح فعل ماض مبني على الفتح ولله متعلقان بسبّح وقيل
اللام زائدة في المفعول ، وقد تقدم القول في هذا الفعل وأنه قد يتعدى بنفسه تارة
وباللام أخرى ، وجاء هذا الفعل في بعض الفواتح ماضيا كهذه الفاتحة وفي بعضها مضارعا
وفي بعضها أمرا للإشارة إلى أن هذه الأشياء مسبّحة في كل الأوقات ، وما فاعل سبّح
وفي السموات متعلقان بمحذوف صلة الموصول والأرض عطف على السموات والواو حالية أو
مستأنفة وهو مبتدأ والعزيز خبر أول والحكيم خبر ثان وعبّر بما دون من تغليبا
للأكثر (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ) له خبر مقدّم وملك السموات مبتدأ مؤخر والأرض عطف على
السموات وجملة يحيي حال من الضمير في له أو مستأنفة وجملة له ملك السموات مستأنفة
لا محل لها (وَهُوَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) الواو عاطفة وهو مبتدأ وقدير خبره والجار والمجرور
متعلقان بقدير (هُوَ الْأَوَّلُ
وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) هو مبتدأ والأول خبره وما بعده عطف عليه وهو مبتدأ
وعليم خبره وبكل شيء متعلقان بعليم (هُوَ الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) هو مبتدأ والذي خبره وجملة خلق السموات والأرض صلة
الموصول لا محل لها وفي ستة أيام متعلقان بخلق وثم حرف عطف للترتيب مع التراخي
واستوى فعل ماض وفاعله مستتر يعود على الله وعلى العرش متعلقان باستوى (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما
يَخْرُجُ مِنْها) جملة يعلم حالية أو مستأنفة ويعلم فعل مضارع وفاعله
مستتر تقديره هو وفي الأرض متعلقان بيلج وما يخرج منها عطف على ما يلج في الأرض
ومنها متعلقان بيخرج (وَما يَنْزِلُ مِنَ
السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها) وما عطف على ما الأولى وما يعرج فيها
عطف أيضا (وَهُوَ مَعَكُمْ
أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) الواو حرف عطف وهو مبتدأ ومعكم ظرف مكان متعلق بمحذوف
خبر وأينما اسم شرط جازم في محل نصب على الظرفية المكانية وهو متعلق بجوابه
المحذوف ، وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والجواب محذوف دلّ عليه ما
قبله أي فهو معكم وكنتم تامة ، والله مبتدأ وبصير خبر وبما تعملون متعلقان ببصير
وجملة تعملون صلة الموصول لا محل لها (لَهُ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) له خبر مقدم وملك السموات خبره وإلى الله متعلقان بترجع
وترجع فعل مضارع مبني للمجهول والأمور نائب فاعل (يُولِجُ اللَّيْلَ
فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) الجملة حالية أو مستأنفة والليل مفعول يولج وفي النهار
متعلقان بيولج وما بعده عطف عليه (وَهُوَ عَلِيمٌ
بِذاتِ الصُّدُورِ) الواو عاطفة وهو مبتدأ وعليم خبره وبذات الصدور متعلقان
بعليم.
(آمِنُوا بِاللهِ
وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ
آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَما لَكُمْ لا
تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ
أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى
عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ
اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ
اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ
أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ
الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ
اللهُ
الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠))
الإعراب :
(آمِنُوا بِاللهِ
وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) كلام مستأنف مسوق للشروع في مخاطبة كفّار قريش وأمرهم
بالإيمان بعد أن ذكر أنواعا من الدلائل على التوحيد. وآمنوا فعل أمر مبني على حذف
النون والواو فاعل وبالله متعلقان بآمنوا ورسوله عطف عليه وأنفقوا عطف على آمنوا
ومما متعلقان بأنفقوا وجملة جعلكم صلة الموصول والكاف مفعول أول ومستخلفين مفعول
ثان لجعل وفيه متعلقان بمستخلفين أي من مال مقتنى وعتاد مجتنى (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ
وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) الفاء استئنافية والذين مبتدأ وجملة آمنوا لا محل لها
لأنها صلة الموصول ومنكم حال وأنفقوا عطف على آمنوا داخل في حيز الصلة ولهم خبر
مقدم وأجر مبتدأ مؤخر وكبير نعت وجملة لهم أجر كبير خبر الذين (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ
وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ) الواو استئنافية وما اسم استفهام إنكاري في محل رفع
مبتدأ ولكم خبر وجملة لا تؤمنون في محل نصب على الحال وبالله متعلقان بتؤمنون
والمعنى أي شيء استقر لكم غير مؤمنين والواو حالية والرسول مبتدأ وجملة يدعوكم خبر
والجملة في محل نصب على الحال من الواو في تؤمنون (لِتُؤْمِنُوا
بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) اللام للتعليل وتؤمنوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد
اللام والجار والمجرور متعلقان بيدعوكم وبربكم متعلقان بتؤمنوا والواو حالية وقد
حرف تحقيق وأخذ ميثاقكم فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به والجملة في محل نصب على
الحال من فاعل يدعوكم على التداخل أيضا ، وفي قراءة أخذ بالبناء
للمجهول فيكون ميثاقكم نائب فاعل أي نصب لكم من الأدلة والتمكّن من النظر
بمثابة أخذ الميثاق وقيل إشارة إلى إشهادهم على أنفسهم بقوله «ألست بربكم قالوا
بلى» وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والجواب محذوف تقديره
فالآن ظهرت أعلام اليقين ووضّحت الدلائل والبراهين ولزمتكم الحجج العقلية والسمعية
، ومؤمنين خبر كنتم (هُوَ الَّذِي
يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى
النُّورِ) هو مبتدأ والذي خبره وجملة ينزل صلة لا محل لها وعلى
عبده متعلقان بينزل وآيات مفعول به وبيّنات صفة واللام للتعليل ويخرجكم فعل مضارع
منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بينزل ومن الظلمات متعلقان
بيخرجكم أي من الكفر وإلى النور متعلقان بيخرجكم أيضا أي إلى الإيمان (وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) الواو عاطفة وإن واسمها وبكم متعلقان برءوف واللام
المزحلقة ورءوف خبر إن الأول ورحيم خبر إن الثاني (وَما لَكُمْ أَلَّا
تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الواو استئنافية وما اسم استفهام إنكاري مبتدأ ولكم خبر
وأن حرف مصدري ونصب ولا نافية وتنفقوا فعل مضارع منصوب بأن وأن وما بعدها في تأويل
مصدر في محل نصب بنزع الخافض أي في أن لا تنفقوا أو من أن لا تنفقوا والجار
والمجرور متعلقان بمحذوف حال وفي سبيل الله متعلقان بتنفقوا والواو حالية ولله خبر
مقدّم وميراث السموات مبتدأ مؤخر والأرض عطف على السموات والجملة في محل نصب حال
من فاعل الاستقرار أو مفعوله أي وأي شيء يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله والحال أن
ميراث السموات والأرض له (لا يَسْتَوِي
مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) كلام مستأنف مسوق لبيان تفاوت درجات المنفقين ، ولا
نافية ويستوي فعل مضارع مرفوع ومنكم حال ومن فاعله وجملة أنفق صلة الموصول لا محل
لها ومن قبل الفتح متعلقان بأنفق وقاتل عطف على أنفق ، وفي
الكلام حذف سيأتي ذكره في باب البلاغة (أُولئِكَ أَعْظَمُ
دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا) أولئك مبتدأ والإشارة إلى من أنفق وأعظم خبر ودرجة
تمييز ومن الذين متعلقان بأعظم وجملة أنفقوا صلة ومن بعد متعلقان بأنفقوا وقاتلوا
عطف على أنفقوا (وَكُلًّا وَعَدَ
اللهُ الْحُسْنى) والله فاعل وعد والحسنى مفعول به ثان والله مبتدأ وخبير
خبره وبما تعملون متعلقان بخبير.
البلاغة :
١ ـ الحذف :
الحذف في هذه الآيات كثير ونلخصة فيما يلي :
ـ حذف مفعول
أنفقوا للمبالغة في الحثّ على الإنفاق وعدم البخل بالمال.
ـ حذف مفعول «تنفقوا
في سبيل الله» لما تقدم ولتشديد التوبيخ أي : وأي شيء لكم في أن لا تنفقوا ما هو
قربة إلى الله تعالى.
ـ حذف ثاني
الاستواءين لأن الاستواء لا يتم إلا بعد شيئين فلا بدّ من حذف مضاف تقديره : لا
يستوي منكم من أنفق من قبل فتح مكة وقوة الإسلام ومن أنفق من بعد الفتح ، فحذف
لوضوح الدلالة عليه ، وعبارة أبي حيان بهذا الصدد : «والظاهر أن «من» فاعل «لا
يستوي» وحذف مقابله وهو «ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل» لوضوح المعنى أولئك أي
الذين أنفقوا قبل الفتح وقبل انتشار الإسلام وفشوّه واستيلاء المسلمين على أم
القرى وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين جاء في حقهم قوله صلى
الله عليه وسلم : لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه ، وأبعد
من ذهب إلى أن الفاعل
بلا يستوي ضمير يعود على الإنفاق أي لا يستوي هو الإنفاق أي جنسه إذ منه ما
هو قبل الفتح وبعده ومن أنفق مبتدأ وأولئك مبتدأ خبره ما بعده والجملة في موضع رفع
خبر من وهذا فيه تفكيك للكلام وخروج عن الظاهر لغير موجب وحذف المعطوف لدلالة
المقابل كثير» وإنما كانت النفقة والقتال قبل الفتح أفضل من النفقة والقتال بعد
الفتح لأن حاجة الناس كانت إذ ذاك أكثر وهم أقل وأضعف.
٢ ـ في قوله «في
سبيل الله» استعارة تصريحية أي طاعته ، وسبيل الله كل خير يوصلهم إليه.
(مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١)
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) يَوْمَ يَقُولُ
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ
نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ
بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ
(١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ
أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى
جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ
مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ
مَوْلاكُمْ
وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥))
اللغة :
(انْظُرُونا) أمر من النظر ، والنظر هو تقليب العين إلى الجهة التي
فيها المرئي والمراد رؤيته ، ومما يدل على ذلك قوله :
فيا ميّ هل
يجزى بكائي بمثله
|
|
مرارا
وأنفاسي إليك الزوافر
|
وإني متى
أشرف على الجانب الذي
|
|
به أنت من
بين الجوانب ناظر
|
فلو كان النظر
الرؤية لم يطلب عليه الجزاء لأن المحبّ لا يستثيب من النظر إلى محبوبه شيئا بل
يريد ذلك ويتمناه ، ويدلّ على ذلك قول الآخر :
ونظرة ذي شجن
وامق
|
|
إذا ما
الركائب جاوزن ميلا
|
وأما قوله
سبحانه : ولا ينظر إليهم يوم القيامة فالمعنى أنه سبحانه لا ينيلهم رحمته ، وقد
تقول نظر إليّ فلان إذا كان ينيلك شيئا ، ويقول القائل : انظر إليّ نظر الله إليك
يريد أنلني خيرا أنالك الله ، ونظرت فعل يستعمل وما تصرّف منه على ضروب :
١ ـ أحدها أن
تريد به : نظرت إلى الشيء ، فتحذف الجار وتصل الفعل ، ومن ذلك ما أنشده أبو الحسن
:
ظاهرات
الجمال والحسن ينظر
|
|
ن كما ينظر
الأراك الظباء
|
والمعنى ينظرن إلى الأراك ، فحذف الجار ، ولهذا قال أبو حيان :«إن
النظر بمعنى الإبصار لا يتعدى بنفسه إلا في الشعر وإنما يتعدى بإلى».
٢ ـ والثاني :
أن تريد به تأملت وتدبرت وهو فعل غير متعدّ فمن ذلك قولهم اذهب فانظر زيدا أبو من
هو ، فهذا يراد به التأمّل ، ومن ذلك قوله : انظر كيف ضربوا لك الأمثال ، وانظر
كيف فضّلنا بعضهم على بعض وقد يتعدى هذا بالجار كقوله تعالى : «أفلا ينظرون إلى
الإبل كيف خلقت» فهذا حضّ على التأمل ، وقد يتعدى هذا بفي نحو قوله :أفلم ينظروا
في ملكوت السموات والأرض ، فأما قول امرئ القيس :
فلما بدا
حوران والآل دونه
|
|
نظرت فلم
تنظر بعينك منظرا
|
فيجوز أن يكون
نظرت فلم تر بعينك منظرا إلى الآل أي السراب ، وقد جوّز أن يعني بالنظر الرؤية على
الاتّساع لأن تقليب البصر نحو المبصر تتبعه الرؤية وقد يجري على الشيء لفظ ما
يتبعه ويقترن به كقولهم للمزادة راوية ، وقد يكون نظرت فلم تنظر مثل تكلمت ولم
تتكلم ، أي لم تأت بكلام على حسب ما يراد فكذلك نظرت فلم تنظر بعينك منظرا كما
تريد أو تر منظر ما يروق.
٣ ـ والثالث :
أن تريد به انتظرته من ذلك قوله : غير ناظرين إناه ، ومثله قول الفرزدق :
نظرت كما
انتظرت الله حتى
|
|
كفاك
الماحلين لك المحالا
|
يريد انتظرت
كما انتظرت.
٤ ـ والرابع أن
يكون أنظرت بمعنى انتظرت تطلب بقولك انظرني
التنفيس الذي يطلب الانتظار فمن ذلك قول عمرو بن كلثوم :
أبا هند فلا
تعجل علينا
|
|
وأنظرنا
نخبرك اليقينا
|
ومن ذلك قوله «فأنظرني
إلى يوم يبعثون» إنما هو طلب الإمهال والتسويف وعلى ذلك قراءة حمزة أنظرونا بقطع
الهمزة وكسر الظاء.
(يُقْرِضُ) القرض ما تعطيه غيرك ليقضيكه فهو قطعه عن مالكه بإذنه
على ضمان ردّ مثله ، والعرب تقول : لي عندك قرض صدق وقرض سوء إذا فعل به خيرا أو
شرّا ، قال الشاعر :
ويقضي سلامان
بن مفرج قرضها
|
|
بما قدّمت
أيديهم وأزلت
|
وسيأتي المزيد
من معناه هنا في باب البلاغة.
الإعراب :
(مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) فيه أوجه أحدها أن تكون من استفهامية مرفوعة المحل
بالابتداء وذا اسم إشارة خبره والذي صفة له أو بدل منه ، ويصحّ أن يكون من ذا
استفهاما برأسه مرفوع المحل بالابتداء والذي خبره ، ويصحّ أن تكون ذا مبتدأ والذي
يقرض الله صفة ومن خبر المبتدأ قدم عليه لما فيه من معنى الاستفهام. ويقرض فعل
مضارع وفاعله مستتر والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول والله مفعوله وقرضا
مفعول مطلق وحسنا نعت والفاء سببية ويضاعفه فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء
على جواب الاستفهام وقرئ بالرفع على الاستئناف أو العطف ، ولأبي حيان هنا كلام
لطيف نورده فيما يلي : «وقرأ عاصم فيضاعفه بالنصب بالفاء على جواب الاستفهام وفي
ذلك قلق قال أبو علي الفارسي لأن السؤال لم يقع على القرض وإنما وقع السؤال على
فاعل القرض وإنما تنصب
الفاء فعلا مردودا على فعل مستفهم عنه لكن هذه الفرقة يعني من القرّاء حملت
ذلك على المعنى كأن قوله من ذا الذي يقرض بمنزله أن لو قال أيقرض الله أحد فيضاعفه
، وهذا الذي ذهب إليه أبو علي ـ من أنه إنما تنصب الفاء فعلا مردودا عى فعل مستفهم
عنه ـ ليس بصحيح بل يجوز إذا كان الاستفهام بأدواته الاسمية نحو من يدعوني فأستجيب
له وأين بيتك فأزورك ومتى تسير فأرافقك وكيف تكون فأصحبك ، فالاستفهام هنا واقع عن
ذات الداعي وعن ظرف المكان وظرف الزمان والحال لا عن الفعل ، وحكى ابن كيسان عن
العرب : أين ذهب زيد فنتبعه وكذلك كم مالك فنصرفه ومن أبوك فنكرمه ، بالنصب بعد
الفاء وقراءة فيضاعفه بالنصب قراءة متواترة والفعل واقع صلة للذي والذي صفة لذا
وذا خبر له وإذا جاز النصب في نحو هذا فجوازه في المثل السابقة أحرى» وله متعلقان
بيضاعفه والواو حالية وله خبر مقدّم وأجر مبتدأ مؤخر وكريم صفة (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) يوم ظرف متعلق بالاستقرار العامل في وله أجر أي استقر
له أجر في ذلك اليوم أو بمضمر تقديره يؤجرون منصوب بأذكر فيكون مفعولا به ، وقال
أبو البقاء : العامل فيه فيضاعفه وجملة ترى المؤمنين والمؤمنات في محل جر بإضافة
الظرف إليها وجملة يسعى نورهم حال لأن الرؤية بصرية ونورهم فاعل يسعى والظرف متعلق
بيسعى وبأيمانهم عطف على أيديهم (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ
جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الجملة مقول قول محذوف أي ويقال لهم ، وبشراكم مبتدأ
واليوم ظرف متعلق بالقول المحذوف ، وجنات خبر بشراكم وجملة تجري من تحتها الأنهار
صفة لجنات وخالدين حال والعامل فيها المضاف المحذوف إذ التقدير بشراكم دخولكم جنات
خالدين فيها فحذف الفاعل وهو ضمير المخاطب وأضيف المصدر لمفعوله فصار دخول جنات ثم
حذف
المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه في الإعراب ، وفيها متعلقان بخالدين وذلك
مبتدأ وهو مبتدأ ثان والفوز خبره والجملة خبر ذلك والعظيم نعت للفوز (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ
وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) الظرف بدل من يوم قبله ، وقال ابن عطية «ويظهر لي أن
العامل فيه ذلك هو الفوز العظيم كأنه يقول أن المؤمنين يفوزون بالرحمة يوم يعتري
المنافقين كذا وكذا لأن ظهور المرء يوم خمود عدوه أبدع وأفخم» وردّه أبو حيان ،
وجملة يقول المنافقون في محل جر بإضافة الظرف إليها والمنافقات عطف على المنافقون
وللذين متعلقان بيقول وجملة آمنوا صلة وجملة انظرونا مقول القول وهذا فعل أمر مبني
على حذف النون والواو فاعل ونا ضمير متصل في محل نصب مفعول به ونقتبس فعل مضارع
مجزوم لأنه جواب الطلب أي نأخذ الإضاءة ومن نوركم متعلقان بنقتبس (قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ
فَالْتَمِسُوا نُوراً) قيل فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر يعود على
المؤمنين أو الملائكة الموكلين بهم وارجعوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو
فاعل والجملة مقول القول ووراءكم ظرف متعلق بارجعوا أي ارجعوا إلى الموقف إلى حيث
أعطينا هذا النور فالتمسوا نورا آخر إذ لا سبيل لكم إلى هذا النور ، واختار أبو
البقاء أن يكون وراءكم اسم فعل أمر فيه ضمير فاعل أي ارجعوا ارجعوا ، ومنع أن يكون
ظرفا لارجعوا قال : لقلة فائدته لأن الرجوع لا يكون إلا إلى وراء وليس هذا بسديد ،
والفاء عاطفة والتمسوا فعل أمر معطوف على ارجعوا ونورا مفعول به (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ
باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) الفاء عاطفة وضرب فعل ماض مبني للمجهول وبسور في محل
رفع نائب فاعل وقيل الظرف هو نائب الفاعل وقيل الباء زائدة في نائب الفاعل أي ضرب
بينهم سور والجملة معطوفة على قوله : قيل ارجعوا فإن المؤمنين أو الملائكة لما
منعوهم من اللحاق بهم للاقتباس من نورهم ، بقي
أولئك المنافقون في ظلمة داكنة لا تختلج العين من جانبها بقبس ، وسيأتي
المزيد من هذا المعنى في باب البلاغة ، وله خبر مقدّم وباب مبتدأ مؤخر والجملة صفة
لسور وباطنه مبتدأ وفيه خبر مقدم والرحمة مبتدأ مؤخر وجملة فيه خبر لباطنه والجملة
صفة ثانية لسور أو صفة لباب ولعله أولى لقربه والضمير يعود على الأقرب إلا بقرينة
وهي غير متعينة هنا ، وظاهره الواو عاطفة وظاهره مبتدأ ومن قبله خبر مقدم والعذاب
مبتدأ مؤخر والجملة خبر ظاهره والجملة كلها معطوفة على سابقتها (يُنادُونَهُمْ : أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) جملة ينادونهم مستأنفة وقيل حالية من الضمير في الظرف
والهمزة حرف استفهام ولم حرف نفي وقلب وجزم ونكن فعل مضارع ناقص واسمها مستتر
تقديره نحن ومعكم ظرف متعلق بمحذوف خبر وجملة الاستفهام مفسّرة لا محل لها أو
منصوبة بقول مقدّر (قالُوا بَلى
وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ) قالوا فعل وفاعل وبلى حرف جواب ولكنكم لكن واسمها وجملة
فتنتم أنفسكم خبر لكنكم ، وتربصتم وارتبتم معطوفان على فتنتم ، ومتعلق الأفعال
الثلاثة محذوف أي فتنتم أنفسكم بالنفاق وتربصتم بالمؤمنين الدوائر وارتبتم في
الدين (وَغَرَّتْكُمُ
الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) الواو عاطفة وفعل وفاعل وحتى حرف غاية وجر ، وجاء أمر
الله فعل وفاعل أي الموت وغرّكم عطف على وغرتكم وبالله متعلقان بغرّكم والغرور
فاعل أي الشيطان (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ
مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) الفاء الفصيحة أي إن شئتم أن تعرفوا مآلكم ومصائركم
فاليوم ، واليوم ظرف متعلق بيؤخذ ولا نافية ويؤخذ فعل مضارع مبني للمجهول ومنكم
متعلقان بيؤخذ أيضا وفدية نائب فاعل وذكر الفعل لأن التأنيث مجازي وقرئ تؤخذ بالتاء
، ولا من الذين كفروا عطف على منكم وجملة كفروا لا محل لها لأنها صلة الموصول (مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ
وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) مأواكم النار خبر مقدّم ومبتدأ مؤخر أو بالعكس وهي
مبتدأ ومولاكم خبر ، ومولاكم يصح أن يكون بمعنى أولى بكم قال لبيد :
فغدت كلا
الفرجين تحسب أنه
|
|
مولى المخافة
خلفها وأمامها
|
وهو من معلقته
يصف بقرة وحشية والفرج : موضع المخافة وما بين قوائم الدواب فما بين اليدين فرج
وما بين الرجلين فرج ، وقال ثعلب إن المولى في هذا البيت بمعنى الأولى بالشيء
كقوله تعالى : «مأواكم النار هي مولاكم» أي أولى بكم ، يقول : فغدت تلك البقرة وهي
تحسب أن كلا فرجيها مولى المخافة أي موضعها وصاحبها أو تحسب أن كل فرج من فرجيها
هو الأولى بالمخافة منه أي بأن يخاف منه ، وقال الأصمعي :أراد بالمخافة الكلاب
وبمولاها صاحبها أي غدت وهي لا تعرف أن الكلاب والكلاب خلفها أم أمامها فهي تظن كل
جهة من الجهتين موضعا للكلاب ، والضمير الذي هو اسم إن عائد إلى كلا وهو مفرد
اللفظ وإن كان يتضمن معنى التثنية ويجوز حمل الكلام بعده على لفظه مرة ، وعلى
معناه أخرى والحمل على اللفظ أكثر وتمثيلهما كلا أخويك سبّني وكلا أخويك سبّاني وقال
الشاعر :
كلاهما حين
جدّ الجري بينهما
|
|
قد أقلعا
وكلا أنفيهما رابي
|
حمل أقلعا على
معنى كلا وحمل رابيا على لفظه وقال الله عزّ وجلّ : «كلتا الجنتين قد آتت أكلها»
حملا على لفظ كلتا وخلفها وأمامها خبر مبتدأ محذوف تقديره هو خلفها وأمامها ويجوز
أن يكون بدلا من كلا الفرجين وتقديره فغدت كلا الفرجين خلفها وأمامها تحسب أنه
مولى المخافة وحقيقة مولاكم محراكم ومقمنكم يقال هو حري أن يفعل كذا وهو قمين أن
يفعله أي جدير بذلك وحقيق به أي مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم كما قيل هو مئنة
للكرم أي مكان لقول القائل : أنه لكريم فيكون اسم مكان لا كغيره من أسماء الأمكنة
فإنها
مكان للحدث بقطع النظر عمّن صدر عنه وهذا مثل للمفضل على غيره الذي هو صفته
فهو ملاحظ فيه معنى أولى لأنه مشتق منه كما أن المئنة مأخوذة من إن وليست مشتقة
منها ويجوز أن يراد هو ناصركم أي لا ناصر لكم إلا النار وبئس فعل ماض جامد لإنشاء
الذم والمصير فاعل والمخصوص بالذم محذوف أي النار.
البلاغة :
١ ـ في قوله «من
ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا» استعارة تصريحية تبعية ، فقد شبّه الإنفاق في سبيل
الله بإقراضه ثم حذف المشبّه وأبقى المشبه به ، والجامع بينهما إعطاء شيء بعوض
ومعنى كونه حسنا أي خالصا من شوائب الرياء. أما القرض الذي يدفع إلى الإنسان من
المال بشرط ردّ بدله فهو سنّة مؤكدة وقد يجب للمضطر ويحرم على من يستعين به على
معصية.
٢ ـ وفي قوله «يسعى
نورهم بين أيديهم وبأيمانهم» استعارة تصريحية أصلية» فالنور استعارة عن الهدى
والرضوان الذي هم فيه فحذف المشبّه وأبقى المشبّه به.
٣ ـ وفي قوله «خالدين
فيها» بعد قوله «بشراكم اليوم» التفات من الخطاب إلى الغيبة ، وقد تقدم القول في
الالتفات كثيرا.
٤ ـ وفي قوله «فضرب
بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب» فنّان رفيعان أولهما
الاستعارة التمثيلية ، شبّه بقاء المنافقين في حندس نفاقهم وظلامه بمن ضرب بينهم
وبين النور الهادي سور يحجب كل نور ، والفن الثاني المقابلة فقد طابق بين باطنه
وظاهره وبين الرحمة والعذاب.
(أَلَمْ يَأْنِ
لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ
الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ
عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦)
اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ
وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ
وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ
كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩) اعْلَمُوا
أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ
وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ
نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي
الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ
الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠))
اللغة :
(يَأْنِ) مضارع أنى يأني من باب رمى فهو معتل حذفت منه الياء
التي هي لامه للجازم كما يأتي في الإعراب ومعنى أنى إذا جاء إناه أي وقته ، وأنشد
ابن السكّيت :
ألما يأن لي
أن تجلّى عمايتي
|
|
وأقصر عن
ليلى بلى قد أنى لنا
|
الإعراب :
(أَلَمْ يَأْنِ
لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ
الْحَقِّ) الهمزة للاستفهام ولم حرف نفي وقلب وجزم ويأن فعل مضارع
مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة وللذين متعلقان بمحذوف تقديره أعني ، فهي
للتبيين ، وهذا ما اختاره أبو البقاء ولا داعي له ، فيتعلق الجار والمجرور بيأن ،
وجملة آمنوا صلة الموصول لا محل لها وأن وما في حيزها فاعل يأن أي ألم يقرب وقت
خشوع قلوبهم ويجيء وقته ، ومنه قول الشاعر :
ألم يأن لي
يا قلب أن أترك الجهلا
|
|
وأن يحدث
الشيب المنير لنا عقلا
|
ولذكر الله
متعلقان بتخشع والواو حرف عطف وما اسم موصول معطوف على ذكر الله وجملة نزل صلة ومن
الحق متعلقان بمحذوف حال (وَلا يَكُونُوا
كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) الواو حرف عطف ولا نافية ويكونوا عطف على تخشع ويجوز أن
تكون لا ناهية ويكون ذلك انتقالا إلى نهي المؤمنين عن كونهم مشبهين لمن تقدمهم ويكونوا
فعل مضارع ناقص والواو اسمها وكالذين خبرها وجملة أوتوا صلة والكتاب مفعول به ثان
ومن قبل متعلقان بأوتوا ، فطال عطف على أوتوا وعليهم متعلقان بطال والأمد فاعل (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ
مِنْهُمْ فاسِقُونَ) فقست قلوبهم عطف على فطال عليهم الأمد وكثير مبتدأ
ومنهم صفة لكثير ولذلك ساغ الابتداء به وفاسقون خبر كثير (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ
بَعْدَ مَوْتِها) كلام مستأنف مسوق لخطاب المؤمنين المذكورين على طريق
الالتفات ، واعلموا فعل أمر مبني على حذف
النون والواو فاعل وأن وما في حيزها سدّت مسدّ مفعولي اعلموا وأن واسمها
وجملة يحيي الأرض خبر أن والظرف متعلق بيحيي وموتها مضاف إليه (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) قد حرف تحقيق وبينّا فعل وفاعل ولكم متعلقان ببيّنّا
والآيات مفعول ولعلّ واسمها وجملة تعقلون خبرها (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ
وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ
أَجْرٌ كَرِيمٌ) إن واسمها والمصدقات عطف على المصدقين وأقرضوا عطف على
معنى الفعل في المصدقين لأن اللام بمعنى الذين واسم الفاعل بمعنى اصدّقوا كأنه قيل
إن الذين اصدّقوا وأقرضوا ، ولفظ الجلالة مفعول به وقرضا مفعول مطلق وحسنا نعت
ويضاعف فعل مضارع مبني للمجهول ولهم قائم مقام الفاعل ويجوز أن يكون القائم مقام
الفاعل مضمرا يعود على ضمير التصدّق ولا بدّ من حذف مضاف أي ثواب التصدّق ، ولهم
متعلقان بيضاعف والواو عاطفة ولهم خبر مقدّم وأجر مبتدأ مؤخر وكريم نعت (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ
أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) الواو استئنافية والذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة وبالله
متعلقان بآمنوا ورسله عطف على الله وأولئك مبتدأ ثان ، وهم يجوز أن يكون فصلا
والصدّيقون خبر أولئك وأولئك وخبره خبر الأول ويجوز أن يكون هم مبتدأ ثالثا
والصدّيقون خبرهم وهو مع خبره خبر الثاني والثاني وخبره خبر الأول (وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ
أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) يجوز أن تنسق الشهداء على ما قبله فالوقف عنده تام ،
أخبر عن الذين آمنوا أنهم صدّيقون شهداء ، ويجوز أن تكون الواو استئنافية والشهداء
مبتدأ ولك في خبره وجهان أحدهما أنه الظرف بعده والثاني أنه قوله لهم أجرهم ولهم
خبر مقدّم وأجرهم مبتدأ مؤخر ونورهم عطف على أجرهم والظرف متعلق بمحذوف حال (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا
بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) والذين مبتدأ وجملة كفروا صلة وكذبوا عطف على كفروا
وبآياتنا متعلقان بكفروا وأولئك مبتدأ وأصحاب
الجحيم خبره (اعْلَمُوا أَنَّمَا
الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ
فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) كلام مستأنف مسوق لتحقير الدنيا وهوان أمرها ، واعلموا
فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وأن ما في حيزها سدّت مسدّ مفعولي اعلموا
وأنما هنا كافّة ومكفوفة والحياة مبتدأ والدنيا نعت لها ولعب خبر الحياة وما بعدها
منسوق عليها وبينكم ظرف متعلق بمحذوف صفة لتفاخر وفي الأموال نعت لتكاثر (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ
نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً) الكاف خبر لمبتدأ محذوف أو الجار والمجرور خبر لمبتدأ
محذوف أو في موضع نصب حال من معنى ما تقدم أي ثبتت لها هذه الصفات مشبهة بغيث ،
وجملة أعجب نعت لغيث والكفّار مفعول مقدّم لأعجب وهم الزارع ونباته فاعل مؤخر ثم
حرف عطف للترتيب مع التراخي ويهيج فعل مضارع مرفوع وفاعله هو يعود إلى النبات أي
ييبس وهاج الثلاثي معناه يبس ، فتراه عطف على يهيج وفاعل تراه أنت والهاء مفعول به
مصفرّا حال لأن الرؤية بصرية ، ثم يكون حطاما عطف على ما تقدم (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ
وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ) الواو عاطفة وفي الآخرة خبر مقدّم وعذاب مبتدأ مؤخر
وشديد نعت لعذاب ومغفرة عطف على عذاب ومن الله صفة لمغفرة ورضوان عطف على مغفرة ،
وسيأتي المزيد من أسرار هذا التركيب في باب البلاغة (وَمَا الْحَياةُ
الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) الواو عاطفة وما نافية والحياة مبتدأ والدنيا نعت
للحياة وإلا أداة حصر والغرور مضاف إليه والإضافة بيانية والغرور بالضم ما اغترّ
به الشخص من متاع الدنيا.
البلاغة :
١ ـ الاستعارة
التمثيلية : في قوله «اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها» استعارة تمثيلية ،
شبّه تليين القلوب بالذكر والتلاوة بعد قساوتها
ونبوّها عن استماع الحق والعمل بأوامره بإحياء الأرض الميتة بالغيث من حيث
اشتمال كل واحد منهما على بلوغ الشيء إلى كماله المتوقع بعد خلوّه عنه أو يكون
استعارة تمثيلية لإحياء الأموات بأنه شبّه إحياءها بإحياء الأرض الميتة ، وأن من
قدر على الثاني قادر على الأول فحقّه أن تخشع القلوب لذكره.
٢ ـ وفي قوله «كمثل
غيث أعجب الكفّار نباته» الآية استعارة تمثيلية أيضا ، فهو تمثيل للحياة الدنيا في
سرعة انقضائها وقلّة جدواها بحال نبات أنبته الغيث فاستوى وأعجب به الحراث أو
الكافرون ـ على خلاف بين المفسرين ـ لأن هؤلاء وأولئك أشدّ إعجابا بزينة الحياة
الدنيا.
٣ ـ الطباق :
وطابق في قوله «وفي الآخرة عذاب» بين العذاب ، والمغفرة في قوله «ومغفرة من الله
ورضوان» ولكنه طباق بين واحد وشيئين فهو من باب لن يغلب عسر يسرين وسيأتي تفصيله
في سورة الانشراح.
(سابِقُوا إِلى
مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ
أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ
مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي
الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها
إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا
تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣)
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ
فَإِنَّ
اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤) لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ
وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ
وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ
اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥))
الإعراب :
(سابِقُوا إِلى
مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) كلام مستأنف مسوق لبيان أسباب وذرائع المفاخرة الحقيقية
التي يصحّ التفاخر بها ، وسابقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وإلى
مغفرة متعلقان بسابقوا ومن ربكم نعت لمغفرة (وَجَنَّةٍ عَرْضُها
كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) وجنة عطف على مغفرة وعرضها مبتدأ وكعرض السموات خبر
والجملة نعت لجنة والأرض عطف على السموات وأعدّت فعل ماض مبني للمجهول ونائب
الفاعل المستتر تقديره هي والجملة نعت ثان لجنة ويجوز أن تكون مستأنفة وللذين
متعلقان بأعدّت وجملة آمنوا صلة للموصول لا محل لها وبالله متعلقان بآمنوا ورسله
عطف على بالله (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) ذلك مبتدأ وفضل الله خبر وجملة يؤتيه في محل نصب حال
ويؤتيه فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به ومن اسم موصول في محل نصب مفعول ثان وجملة
يشاء صلة من والله مبتدأ وذو الفضل العظيم خبر (ما أَصابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ
أَنْ نَبْرَأَها) ما نافية وأصاب فعل ماض ، ومن مصيبة : من حرف جر
زائد ومصيبة مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه فاعل أصاب وذكر الفعل لأن تأنيث
المصيبة مجازي ، وفي الأرض نعت لمصيبة أو متعلقان بأصاب أو بنفس مصيبة ، ولا في
أنفسكم عطف على في الأرض وإلا أداة حصر وفي كتاب حال من مصيبة لتخصصها بالوصف أو
بالعمل إذا علق في الأرض بها أو بمحذوف تقديره إلا هي كائنة في كتاب فهو في محل
رفع خبر لمبتدأ محذوف ومن قبل متعلقان بما تعلق به قوله في كتاب أي إلا ثابتة في
كتاب من قبل أن نبرأها ، ونبرأها فعل مضارع منصوب بأن والفاعل مستتر يعود على الله
تعالى والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به وهو يعود على المصيبة وقيل على الأنفس
وقيل على الأرض وأن وما في حيزها في محل جر بإضافة الظرف إليها والجملة في محل جر
صفة لكتاب والضمير في نبرأها عائد إلى المصيبة أو إلى الأنفس أو إلى الأرض أو إلى
جميع ذلك ومعنى نبرأها نخلقها (إِنَّ ذلِكَ عَلَى
اللهِ يَسِيرٌ) إن واسمها وعلى الله متعلقان بيسير ويسير خبر إن (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ
وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) اللام حرف جر وكي حرف مصدري بمنزلة أن وليست للتعليل
لأنها لو كانت كذلك لم يدخل عليها حرف تعليل آخر ولا نافية وتأسوا فعل مضارع منصوب
بكي وعلامة نصبه حذف النون والواو فاعل وأصله تأسيون تحركت الياء وانفتح ما قبلها
فقلبت ألفا فصار تأساون فالتقى ساكنان الألف والواو التي هي الفاعل فحذفت الألف
لالتقاء الساكنين. وفي المصباح : وأسي أسى من باب تعب حزن فهو أسي على فعيل مثل
حزين. واللام الجارّة وما في حيزها متعلقان بمحذوف تقديره : وأعلمناكم أو أخبرناكم
وقدّره بعضهم اختبرناكم ، والواو حرف عطف ولا نافية وتفرحوا عطف على تحزنوا وبما
متعلقان بتفرحوا وجملة آتاكم صلة ومتعلق فاتكم وآتاكم محذوف تقديره من النعم (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ
فَخُورٍ) والله مبتدأ وجملة لا يحبّ خبر وكل مختال مفعول به
وفخور نعت (الَّذِينَ
يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ
النَّاسَ
بِالْبُخْلِ) الذين بدل من قوله كل مختال فخور كأنه قال : لا يحبّ
الذين يبخلون ويجوز أن يكون محله رفعا على الابتداء ويكون خبره محذوفا والتقدير
فإنهم يستحقون العذاب ويصحّ أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف أي هم الذين أو منصوبا على
الذم بفعل محذوف تقديره أذمّ وهذه الأوجه كلها متساوية في الترجيح وجملة يبخلون
صلة الموصول لا محل لها ويأمرون عطف على يبخلون والناس مفعول به وبالبخل متعلقان
بيأمرون. واستبعد بعضهم البدلية والوصفية وجعله كاملا مستأنفا لا تعلق له بما قبله
(وَمَنْ يَتَوَلَّ
فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويتولّ فعل
الشرط وعلامة جزمه حذف حرف العلّة والفاء رابطة لجواب الشرط لوقوعه جملة اسمية وإن
واسمها وهو ضمير فصل وفي قراءة بسقوطه مما يرجح كونه فعلا لا مبتدأ والغني خبر إن
والحميد خبر ثان والجملة في محل جزم جواب الشرط (لَقَدْ أَرْسَلْنا
رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ) اللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأرسلنا فعل
وفاعل ورسلنا مفعول به وبالبيّنات حال والجملة استئنافية (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ
وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) وأنزلنا عطف على أرسلنا ومعهم ظرف مكان متعلق بمحذوف
حال أي وأنزلنا الكتاب حال كونه آئلا وصائرا لأن يكون معهم إذا وصل إليهم في الأرض
، والكتاب مفعول به والميزان عطف على الكتاب واللام للتعليل ويقوم فعل مضارع منصوب
بأن مضمرة بعد اللام وبالقسط أي بالعدل متعلقان بمحذوف حال أي قاسطين عادلين ، ولك
أن تعلقه بيقوم واللام ومجرورها متعلقان بأرسلنا وأنزلنا لأنها علّة الإرسال
والإنزال (وَأَنْزَلْنَا
الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) الواو عاطفة وأنزلنا فعل وفاعل والحديد مفعول به وفيه
خبر مقدّم وبأس مبتدأ مؤخر والجملة حالية من الحديد وشديد صفة أي فيه قوة ومنعة ،
والكلام في ذلك طويل ، ومنافع للناس عطف على بأس شديد ، وقلّما تخلو صناعة من
الحديد (وَلِيَعْلَمَ
اللهُ
مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) الواو عاطفة وليعلم معطوف على محذوف دلّت عليه جملة فيه
بأس شديد فهو علّة للتعليل لا علّة للإرسال والإنزال وبذلك تعلم فساد قول بعض
المعربين كالجلال وغيره أنه معطوف على ليقوم ، والله فاعل ومن مفعول به وجملة
ينصره صلة من ورسله عطف على الهاء أي وينصر رسله أيضا وبالغيب حال من هاء ينصره أي
غائبا عنهم في الدنيا وإن واسمها وخبراها.
الفوائد :
العطف على
الظاهر والضمير : يعطف على الظاهر والضمير المنفصل مرفوعا كان أو منصوبا ، والضمير
المتصل المنصوب بلا شرط كقام زيد وعمرو وأنا وأنت قائمان وإياك والأسد ، والعطف
على الضمير المتصل المنصوب نحو جمعناكم والأولين فالأولين عطف على الكاف ، ولا
يحسن العطف على الضمير المرفوع المتصل بارزا كان أو مستترا إلا بعد توكيده بضمير
منفصل نحو «لقد كنتم أنتم وآباؤكم» ونحو «اسكن أنت وزوجك الجنة» وقد أشار ابن مالك
في الخلاصة إلى ذلك بقوله :
وإن على ضمير
رفع متصل
|
|
عطفت فافصل بالضمير
المنفصل
|
(وَلَقَدْ
أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ
وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ
قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ
الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً
وَرَحْمَةً
وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ
اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ
أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ
وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ
مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ
ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩))
اللغة :
(وَقَفَّيْنا) التقفية جعل الشيء في إثر الشيء على الاستمرار فيه
ولهذا قيل لمقاطع الشعر قواف إذ كانت تتبع البيت على إثره مستمرة في غيره على
منهاجه ، وفي المختار : «قفا أثره اتبعه وبابه عدا وقفى على أثره بفلان أي اتبعه
إياه ومنه قوله تعالى : ثم قفينا على آثارهم برسلنا ومنه الكلام المقفى».
(وَرَهْبانِيَّةً) الرهبانية : المبالغة في العبادة والرياضة والانقطاع عن
الناس منسوبة إلى الرهبان وهو المبالغ في الخوف من رهب كالخشيان من خشي وقرئت
بالضم كأنها نسبت إلى الرهبان جمع راهب كراكب وركبان ، وعبارة القاموس : «والراهب
واحد رهبان النصارى ومصدره الرهبة والرهبانية أو الرهبان بالضم قد يكون واحد وجمعه
رهابين
ورهابنة ورهبانون ولا رهبانية في الإسلام هي كالإخصاء واعتناق السلاسل ولبس
المسوح وترك اللحم ونحوها» واكتفى صاحب المنجد بالقول : «الرّهبانية والرهبانية :
طريقة الرهبان» وعرف الراهب بقوله :«من اعتزل الناس إلى دير طلبا للعبادة» وسيأتي
المزيد من معناها في باب الإعراب.
(كِفْلَيْنِ) نصيبين ضخمين والكفل الحظ ومنه الكفل الذي يتكفل به
الراكب وهو كساء أو نحوه يحويه على الإبل إذا أراد أن يرقد فيحفظه من السقوط ففيه
حظ من التحرّز من الوقوع.
الإعراب :
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) الواو حرف عطف واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق
وتكرير القسم لإظهار مزيد العناية بالأمر ، وأرسلنا فعل وفاعل ونوحا مفعول به
وإبراهيم عطف على نوحا ، وجعلنا عطف على أرسلنا وفي ذريتهما في موضع المفعول
الثاني والنبوّة مفعول جعلنا الأول والكتاب عطف على النبوّة وأراد بالكتاب الجنس
أي الكتب الأربعة (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) الفاء تفريعية ومنهم خبر مقدّم ومهتد مبتدأ مؤخر وكثير
مبتدأ ومنهم نعت لكثير وفاسقون خبر كثير (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى
آثارِهِمْ بِرُسُلِنا) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وقفينا فعل وفاعل وعلى
آثارهم متعلقان بقفينا والباء حرف جر زائد ورسلنا مجرور لفظا منصوب محلا (وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) وقفينا عطف على قفينا الأولى وبعيسى الباء حرف جر زائد
وعيسى مجرور لفظا مفعول به محلا وبن بدل ومريم مضاف إليه ، وآتيناه الواو عاطفة
وآتيناه فعل وفاعل ومفعول به أول والإنجيل مفعول به ثان (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ
اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً
وَرَحْمَةً
وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ
اللهِ) وجعلنا فعل وفاعل وفي قلوب في موضع المفعول الثاني
والذين مضاف إليه وجملة اتبعوه من الفعل والفاعل والمفعول به صلة ورأفة مفعول به
أول ورحمة مفعول به ثان ، ورهبانية فيها وجهان : ١ ـ أولهما أنها منسوقة على رأفة
ورحمة وجملة ابتدعوها نعت لها وإنما خصّت بذكر الابتداع لأن الرحمة والرأفة في
القلب أمر غريزي لا تكسّب للإنسان فيه بخلاف الرهبانية فإنها من أفعال البدن
وللإنسان فيها تكسّب. ٢ ـ الثاني أنها منصوبة بفعل مقدّر يفسّره الظاهر فتكون
المسألة من باب الاشتغال وإلى هذا الإعراب نحا الزمخشري وأبو علي الفارسي
والمعتزلة ، وذلك أنهم يقولون ما كان من فعل الإنسان فهو مخلوق له فالرأفة والرحمة
لما كانتا من فعل الله نسب خلقهما أو تصييرهما إليه والرهبانية لما لم تكن من فعل
الله تعالى بل من فعل العبد نسب خلقها إليه وإلى القارئ نص عبارة أبي حيان : «ورهبانية
معطوف على ما قبله فهي داخلة في الجمل وجملة ابتدعوها جملة في موضع الصفة لرهبانية
وخصّت الرهبانية بالابتداع لأن الرأفة والرحمة في القلب لا تكسب للإنسان فيها
بخلاف الرهبانية فإنها أفعال بدن مع شيء في القلب ففيها موضع للتكسّب ، قال قتادة
: الرحمة من الله والرهبانية هم ابتدعوها» والرهبانية رفض الدنيا وشهواتها من
النساء وغيرهنّ واتخاذ الصوامع ، وجعل أبو علي الفارسي ورهبانية مقتطعة من العطف
على ما قبلها من رأفة ورحمة فانتصب عنده ورهبانية على إضمار فعل يفسّره ما بعده
فهو من باب الاشتغال أي وابتدعوا رهبانية ابتدعوها واتبعه الزمخشري فقال :«وانتصابها
بفعل مضمر يفسّره الظاهر تقديره وابتدعوا رهبانية ابتدعوها يعني وأحدثوها من عند
أنفسهم ونذروها» وهذا إعراب المعتزلة وكان أبو علي معتزليا وهم يقولون ما كان
مخلوقا لله لا يكون مخلوقا للعبد ، والرأفة والرحمة من خلق الله والرهبانية من
ابتداع الإنسان فهي مخلوقة
له ، وهذا الإعراب الذي لهم ليس بجيد من جهة صناعة العربية لأن مثل هذا مما
لا يجوز فيه الرفع بالابتداء ولا يجوز الابتداء هنا بقوله ورهبانية لأنها نكرة لا
مسوغ لها من المسوغات للابتداء بالنكرة. وقال ابن المنير متعقبا الزمخشري : «في
إعراب هذه الآية تورّط أبو علي الفارسي وتحيز إلى فئة الفتنة وطائفة البدعة فأعرب
رهبانية على أنها منصوبة بفعل مضمر يفسّره الظاهر وعلّل امتناع العطف فقال : ألا
ترى أن الرهبانية لا يستقيم حملها على جعلنا مع وصفها بقوله ابتدعوها لأن ما يجعله
هو تعالى لا يبتدعونه هم ، والزمخشري أيضا ورد مورده الذميم وأسلمه شيطانه الرجيم
فلما أجاز ما منعه أبو علي من جعلها معطوفة أعذر لذلك بتحريف الجعل إلى معنى
التوفيق فرارا مما فرّ منه أبو علي من اعتقاد أن ذلك مخلوق لله تعالى وجنوحا إلى
الإشراك واعتقاد أن ما يفعلونه هم لا يضلّه الله تعالى ولا يخلقه وكفى بما في هذه
الآية دليلا بعد الأدلة القطعية والبراهين العقلية على بطلان ما اعتقداه فإن ذكر
محل الرحمة والرأفة مع العلم بأن محلها النصب فجعل قوله في قلوب الذين اتبعوه
تأكيدا لخلقه هذه المعاني وتصويرا لمعنى الخلق بذكر محله ، ولو كان المراد أمرا
غير مخلوق في قلوبهم لله تعالى كما زعما لم يبق لقوله في قلوب الذين اتبعوه موقع
ويأبى الله أن يشتمل كتابه الكريم على ما لا موقع له». أما أبو البقاء فقد جمع بين
الرأيين فقال : «قوله تعالى : ورهبانية هو منصوب بفعل دلّ عليه ابتدعوها لا بالعطف
على الرحمة لأن ما جعله الله تعالى لا يبتدعونه ، وقيل هو معطوف عليها وابتدعوها
نعت له والمعنى فرض عليهم لزوم رهبانية ابتدعوها ولهذا قال : ما كتبناها عليهم إلا
ابتغاء رضوان الله». أما ابن هشام فقد قال في المغني : «وقول الفارسي في ورهبانية
ابتدعوها أنها من باب زيدا ضربته واعترضه ابن الشجري بأن المنصوب في هذا الباب
شرطه أن يكون مختصّا ليصحّ رفعه بالابتداء والمشهور أنه عطف
على ما قبله وابتدعوها صفة ولا بدّ من تقدير مضاف أي وجد رهبانية وإنما لم
يحمل أبو علي الآية على ذلك لاعتزاله فقال : لأن ما يبتدعونه لا يخلقه الله عزّ
وجلّ». وخلاصة الخلاف أنه لو جعل ورهبانية عطفا على ما قبله لكان في الكلام تناقض
وذلك أن مفاد الكلام يقتضي أن تكون الرهبانية مخلوقة لله والوصف بالابتداع يقتضي
أنها مخلوقة لهم وما كان مخلوقا لهم لا يخلقه الله فهو تناقض فعدل الفارسي وتبعه
الزمخشري عن العطف وجعله من باب الاشتغال. وإنما أوردنا هذه الأقوال لنريك ما
للإعراب من تأثير في توجيه المعتقد ولهذا لم نر لأنفسنا مساغا للترجيح فتدبر.
ونعود إلى تتمة إعراب الآية فنقول : وجملة ابتدعوها إما صفة لرهبانية وإما مفسّرة
على القولين وما نافية وكتبناها فعل وفاعل ومفعول به والجملة صفة لرهبانية على كل
حال ويجوز أن تكون مستأنفة وإلا أداة استثناء إذا اعتبرنا الاستثناء منقطعا أو
أداة حصر إذا اعتبرناه متصلا ، فعلى الأول تعرب ابتغاء استثناء منقطعا وتكون إلا
بمعنى لكن والمعنى لم نفرضها عليهم ولكنهم ابتدعوها ، وعلى الثاني تعرب ابتغاء
مفعولا من أجله والمعنى ما كتبناها عليهم لشيء من الأشياء إلا لابتغاء مرضاة الله
ويكون كتب بمعنى قضى. واكتفى الزمخشري بالوجه الأول (فَما رَعَوْها حَقَّ
رِعايَتِها) الفاء عاطفة وما نافية ورعوها فعل وفاعل ومفعول به وحق
رعايتها مفعول مطلق (فَآتَيْنَا الَّذِينَ
آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) الفاء حرف عطف وآتينا فعل وفاعل والذين مفعول به وجملة
آمنوا لا محل لها لأنها صلة الموصول ومنهم حال وأجرهم مفعول به ثان وكثير مبتدأ
ومنهم نعت وفاسقون خبر (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ
مِنْ رَحْمَتِهِ) يا حرف نداء وأي منادى نكرة مقصودة مبني على الضم
والهاء للتنبيه والذين بدل وجملة آمنوا صلة واتقوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به
وآمنوا فعل أمر معطوف على اتقوا وبرسوله متعلقان بآمنوا ويؤتكم فعل
مضارع مجزوم لأنه جواب الأمر وعلامة جزمه حذف حرف العلّة والكاف مفعول به
أول وكفلين مفعول به ثان ومن رحمته نعت لكفلين (وَيَجْعَلْ لَكُمْ
نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) عطف على يؤتكم ولكم متعلقان بيجعل أو في موضع المفعول
الثاني ونورا مفعول يجعل وجملة تمشون به نعت لنورا (وَيَغْفِرْ لَكُمْ
وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) عطف على ما تقدم ولكم متعلقان بيغفر والله مبتدأ وغفور
خبر أول ورحيم خبر ثان (لِئَلَّا يَعْلَمَ
أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ) اللام لام التعليل وأن حرف مصدري ونصب ولا زائدة ويعلم
فعل مضارع منصوب بأن أي ليعلم أعمالكم بذلك فاللام متعلقة بمحذوف مقتبس من معنى
الجملة الطلبية وأهل الكتاب فاعل يعلم وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن ولا
نافية وجملة يقدرون خبر أن والمعنى أنهم لا يقدرون وعلى شيء متعلقان بيقدرون ومن
فضل الله نعت لشيء وأن وما في حيزها سدّت مسدّ مفعولي يعلم (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) الواو عاطفة وأن وما في حيزها عطف على أن لا يقدرون
داخل في حيّز المعلوم وأن واسمها وبيد الله خبر أن وجملة يؤتيه مستأنفة أو خبر ثان
لأن والهاء مفعول به أول ومن مفعول به ثان وجملة يشاء صلة (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) الله مبتدأ وذو الفضل خبره والعظيم نعت للفضل.
الفوائد :
قد يعترض
الكلام نفي فيلزم إظهار «أن» بعد لام التعليل التي لحقتها «لا» ولو أضمرت «أن» هنا
لم يجز لأن إضمارها يؤدي إلى مباشرة حرف الجر حرف النفي وذلك غير جائز.
فهرس
إعراب سورة الشورى............................................................ ١٠
إعراب سورة الزخرف............................................................ ٥٩
إعراب سورة الدخان........................................................... ١١٧
إعراب سورة الجاثية............................................................ ١٤١
إعراب سورة الأحقاف......................................................... ١٦٥
إعراب سورة محمد............................................................. ١٩٦
إعراب سورة الفتح............................................................ ٢٣٠
إعراب سورة الحجرات......................................................... ٢٥٦
إعراب سورة ق............................................................... ٢٨٠
إعراب سورة الذاريات.......................................................... ٣٠١
إعراب سورة الطور............................................................ ٣٢٦
إعراب سورة النجم............................................................ ٣٤٣
إعراب سورة القمر............................................................ ٣٧١
إعراب سورة الرحمن............................................................ ٣٩٥
إعراب سورة الواقعة............................................................ ٤٢٢
إعراب سورة الحديد........................................................... ٤٥١
|