


(وَاعْلَمُوا أَنَّما
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى
وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ
وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ
وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا
وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ
تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً
كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ
بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢))
اللغة :
(العدوة) بضم
العين ويجوز كسرها وفتحها : شط الوادي وشفيره ، سسيت بذلك لأنها عدت ما في الوادي
من ماء ونحوه أن يتجاوزها ، أي منعته ، وفي مختار الصحاح : العدوة بضم العين
وكسرها : جانب الوادي وحافته ، وقال أبو عمرو : هي المكان المرتفع.
(الدنيا
والقصوى) تأنيث الأدنى والأقصى ، وجاءت إحداهما بالياء والثانية بالواو مع أن
كلتيهما فعلى من بنات الواو لأن القياس قلب الواو ياء كالعليا ، وأما القصوى
كالعود في مجيئه على الأصل
وقد جاءت القصيا إلا أن استعمال القصوى أكثر ، هذا والعدوة الدنيا مما يلي
المدينة ، والقصوى مما يلي مكة.
(الرَّكْبُ) في القاموس : والركب ركبان. الإبل وهو اسم جمع لراكب أو
جمع له وهم العشرة فصاعدا وقد يكون للخيل والجمع أركب وركوب.
الاعراب :
(وَاعْلَمُوا أَنَّما
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) أن وما في حيزها سدت مسد مفعولي اعلموا وما موصولة
ولذلك نصبت في الرسم من ، ولكن ثبت وصلها في خط بعض المصاحف وثبت فصلها في بعضها
الآخر ، وهي اسم أن ، وجملة غنمتم صلة ومن شيء في محل نصب حال من عائد الموصول
المقدر والمعنى : ما غنمتموه كائنا من شيء أي قليلا كان أو كثيرا. (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ
وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) الفاء رابطة لما في الموصول من رائحة الشرط وفتحت همزة «أن»
لأنها وما في حيزها خبر مبتدأ محذوف تقديره فحكمه أن لله خمسه ، والجار والمجرور
خبر أن المقدم وخمسه اسمها المؤخر والتقدير : فإن خمسه لله ، ويجوز أن تكون أن وما
في حيزها مبتدأ خبره محذوف تقديره فحق أو فواجب أن لله خمسه ، وللرسول وما بعده
عطف على قوله لله وسيأتي في باب الفوائد تفصيل القسمة. (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما
أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ) إن شرطية وكنتم فعل الشرط والجواب محذوف تقديره فاعلموا
ذلك ، وجملة آمنتم خبر كنتم وبالله جار ومجرور متعلقان بآمنتم وما عطف على الله
وجملة أنزلنا صلة
وعلى عبدنا جار ومجرور متعلقان بأنزلنا ويوم الفرقان ظرف متعلق بأنزلنا
أيضا والمراد به يوم بدر الفارق بين الحق والباطل. (يَوْمَ الْتَقَى
الْجَمْعانِ) الظرف بدل من الظرف الأول ، وجملة التقى الجمعان مضافة
للظرف (وَاللهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وقدير خبره وعلى كل شيء
جار ومجرور متعلقان بقدير. (إِذْ أَنْتُمْ
بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى) الظرف بدل من يوم الأول أو الثاني وأنتم مبتدأ وبالعدوة
خبر والجملة مضافة للظرف والدنيا صفة للعدوة وهم بالعدوة القصوى عطف على سابقتها. (وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) الواو حالية من الظرف وهو قوله «بالعدوة القصوى» ويجوز
أن تكون عاطفة على «أنتم» لأنها مبدأ تقسيم أحوالهم وأحوال عدوهم ، والركب مبتدأ
وأسفل نصب على الظرف في محل رفع على الخبرية وسيأتي مزيد بحث له في باب الفوائد.
ومنكم جار ومجرور متعلقان بأسفل لأنه في الأصل اسم تفضيل استعمل بمعنى صفة لمكان
محذوف أقيم مقامه ، وللزمخشري فصل في تعليل هذا التوقيت ، وذكر مراكز الفريقين
سنورده في باب الفوائد لأنه بلغ الذروة في التنقيب عن أسرار الكتاب العزيز. (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ
فِي الْمِيعادِ) الواو عاطفة ولو شرطية وهي الدالة على الامتناع
وتواعدتم فعل الشرط واللام الرابطة واختلفتم جملة لا محل لها لأنها جواب الشرط وفي
الميعاد متعلق باختلفتم ، أي امتنع اختلافكم في موعد الخروج الى القتال لامتناع
تواعدكم وإعلام بعضكم بعضا بالخروج للقتال لأنكم قد تضعفون عند ما تعلمون شكيمتهم
ومنعة مكانهم مما يؤيد فصل الزمخشري البديع. (وَلكِنْ لِيَقْضِيَ
اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) لكن حرف استدراك مهمل وليقضي اللام للتعليل وهي مع
مجرورها المؤول متعلقان بمحذوف أي جمعكم بغير ميعاد والله فاعل وأمرا مفعول به ،
وجملة كان مفعولا
صفة لأمرا وكان واسمها المستتر وخبرها. (لِيَهْلِكَ مَنْ
هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ) يجوز تعليق ليهلك بما تعلق به ليقضي أي فهو بدل منه ،
ويجوز أن يتعلق بمفعولا ، ويهلك فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل ومن
اسم موصول فاعل وجملة هلك صلة وعن بينة حال.
(وَيَحْيى مَنْ حَيَّ
عَنْ بَيِّنَةٍ) عطف على الجملة السابقة ، وحي أصلها حيي أدغمت الياء
بالياء. (وَإِنَّ اللهَ
لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) الواو استئنافية وان واسمها واللام المزحلقة وسميع خبر
أول لإن وعليم خبر ثان.
البلاغة :
في قوله : «إذ
أنتم بالعدوة الدنيا» الى قوله : «ويحيا من حي عن بينة» فن الاستدراك فإن الحق
سبحانه أخبر عن الأمر الواقع بخبر أخرجته الفصاحة مجرى المثل ، وذلك أن الرسول
صلّى الله عليه وسلم لما أخبرته عيونه بقفول ركب قريش من الشام الى مكة على الجادة
المعروفة التي لا بد لسالكها من ورود «بدر» ، أمر أصحابه بالخروج وخرج معهم يريد
العير ، وكان وعد الله قد تقدم له بإحدى الطائفتين ، إما العير وإما النفير ، وبلغ
أبا سفيان ، وهو على الركب ، خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر الركب أن
يأخذ على سيف البحر ، ومضى أبو سفيان على وجهه لمكة ، فاستنفر قريشا ، فخرجوا الى بدر
ليشغلوا وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تتبّع العير ، فصادفوه ببدر ، وهو
يظن أن الركب يمر على بدر ، فوقعت اللقيا من غير ميعاد ، فأخبر الله سبحانه بموضع
المسلمين من بدر وموضع المشركين منه بقوله : «إذ أنتم بالعدوة الدنيا» أي القريبة
، «وهم بالعدوة القصوى» :
أي البعيدة ، «والركب أسفل منكم» لأن سيف البحر في غور ، وبدر في نجد
بالنسبة إليه ، وأراد أن يخبر عن وقوع اللقاء بغير ميعاد ، وعدل عن لفظ المعنى الى
لفظ الارداف فلم يقل فالتقوا من غير ميعاد ، بل قال : «ولو تواعدتم لاختلفتم في
الميعاد» لخروج لفظ الإرداف مخرج المثل ليكون أسير وأشهر ولو وقع الاقتصار على هذا
المقدار لاحتمل أن يقال : فما الحكمة في حرمان الله رسوله والمسلمين هذه الغنيمة
الباردة لأجل منها. وهي فتح مكة واستئصال أموال أهلها ، فإن اختياره لهم لقاء
النفير دون العير ليقتل حماة مكة وصناديدها فيتمكن المسلمون من فتحها وكذلك كان ،
وقد كان مراد المسلمين لقاء العير دون النفير بدليل إخباره سبحانه عنهم بذلك في
قوله : «ويودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم» يعني العير ، فإن ذات الشوكة : النفير
، لأن الشوكة السلاح ، فأرادوا هم ذلك ، وأراد الله خلافه لعلمه بالعواقب ، فأوقع
اللقاء من غير ميعاد لهذه المصلحة ، وأخرج الإخبار به مخرج المثل لما بينّا من
فائدة ذلك ، ثم قوى دليل الكلام بذكر العلة في تقويت تلك المصلحة الظاهرة ، حيث
قال بلفظ الاستدراك : «ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا» ، ثم فصل ما أجمله في
الاستدراك بقوله : «لِيَهْلِكَ
مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ» ، فاتضح الإشكال ، وارتفع ما قدر من الاحتمال وأبان عن
المعنى أحسن بيان ، فحصل في هذه الكلمات أربعة عشر نوعا من البلاغة وهي : الإيجاز
، والترشيح ، والإرداف ، والتمثيل ، والمقارنة ، والاستدراك ، والإدماج ، والإيضاح
، والتهذيب ، والتعليل ، والتنكيت ، والمساواة ، وحسن النسق ، وحسن البيان.
الفوائد :
١ لم نجر في
هذا الكتاب على الخوض في المسائل العلمية والفقهية إلا نادرا ، وإلا فيما له علاقة
بالاعراب أو البيان ، وقد خاض العلماء كثيرا في كيفية تقسيم الخمس ونلخص آراء
الأئمة بما لا يخرج عن أسلوبنا.
قسمة الخمس عند
أبي حنيفة أنها كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على خمسة أسهم : سهم
لرسول الله ، وسهم لذوي قرباه ، وثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وابن السبيل.
أما عند
الشافعي فيقسم على خمسة أسهم : سهم لرسول الله يصرف الى ما كان يصرفه إليه من
مصالح المسلمين ، كعدة الغزاة من السلاح والكراع ونحو ذلك ، وسهم لذوي القربى من
أغنيائهم وفقرائهم ، والباقي للفرق الثلاث.
وأما عند مالك
بن أنس فالأمر مفوض الى اجتهاد الإمام ، إن رأى قسمه بين هؤلاء ، وإن رأى أعطاه
بعضهم دون بعض ، وإن رأى غيرهم أولى وأهم فغيرهم. وهناك أقوال أخرى يرجع إليها في
المطولات.
٢ ـ يقع الخبر
ظرفا نحو «والركب أسفل منكم» ، وجارا ومجرورا نحو «الحمد لله» ، وشرطهما أن يكونا
تامّين كما مثل ، فلا يجوز زيد مكافا ، ولا زيد بك ، لعدم الفائدة ويتعلقان بمحذوف
وجوبا هو الخبر ، واختلف في تقديره فقيل تقديره استقر أو مستقر.
قال ابن هشام :
في المغني : والحق عندي أنه لا يترجح تقديره اسما ولا فعلا بل بحسب المعنى. وقال
ابن مالك في الخلاصة :
وأخبروا لظرف
أو بحرف جر
|
|
ناوين معنى
كائن أو استقر
|
وهناك ملاحظات
هامة نلفت إليها الانتباه :
آ ـ يخبر
بالمكان عن أسماء الذوات والمعاني نحو : زيد خلفك والخير أمامك.
ب ـ يخبر
بالزمان عن أسماء المعاني فقط نحو : الصوم اليوم والسفر غدا.
ج ـ لا يخبر
بالزمان عن أسماء الذوات فلا يقال : زيد اليوم ، والفرق أن الأحداث أفعال وحركات ،
فلا بد لكل حدث من زمان يختص به بخلاف الذوات.
د ـ إذا حصلت
فائدة جاز الإخبار بالزمان عن الذوات ، كأن يكون المبتدأ عاما والزمان خاصا ،
باضافة أو وصف ، نحو : نحن في شهر كذا ، فنحن مبتدأ وهو عام لصلاحيته في نفسه لكل
متكلم إذ لا يختص به متكلم دون غيره ، وفي شهر كذا خبره ، وهو خاص بالمضاف إليه ،
ونحن في زمن طيب اختص بالوصف.
ه ـ وأما نحو
قولهم «الورد في أيار» و «اليوم خمر» و «الليلة الهلال» ، فالتأويل فيها : خروج
الورد ، واليوم شرب خمر ، والليلة رؤية الهلال ، فالإخبار في الحقيقة إنما هو عن
اسم المعنى لا عن اسم الذات.
٣ ـ وقد آن أن
نورد فصل الزمخشري بحروفه ؛ وفيه يسمو هذا الامام الى أبعد أفق ، ويبرهن على قوة
ملاحظته وسداد تفكيره قال : «فإن قلت : ما فائدة هذا التوقيت وذكر مراكز الفريقين
، وان العير كانت أسفل منهم؟ قلت : الفائدة فيه : الإخبار عن الحال الدالة على قوة
شأن العدو وشوكته وتكامل عدته وتمهد أسباب الغلبة له ، وضعف شأن المسلمين والتياث
أمرهم وأن غلبتهم في مثل هذه الحال ليست إلا صنعا من الله سبحانه ، ودليلا على أن
ذلك أمر لم يتيسر إلا بحوله وقوته وباهر قدرته ، وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ
بها المشركون كان فيها الماء وكانت أرضا لا بأس بها ، ولا ماء بالعدوة الدنيا وهي
خبار تسوخ فيها الأرجل «أي رخوة» ، ولا يمشى فيها إلا بتعب ومشفقة ، وكانت العير
وراء ظهور العدو مع كثرة عددهم فكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم ، وتشحذ في
المقاتلة عنها نياتهم ، ولهذا كانت العرب تخرج الى الحرب بظعنهم وأموالهم ليبعثهم
الذّبّ عن الحريم والغيرة على الحرم على بذل جهدهم في القتال ، وأن لا يتركوا
وراءهم ما يحدثون أنفسهم بالانحياز اليه فيجمع ذلك قلوبهم ويضبط همهم ويوطن نفوسهم
على أن لا يبرحوا مواطنهم ، ولا يخلوا مراكزهم ويبذلوا منتهى نجدتهم وقصارى شدتهم
، وفيه تصوير ما دبر سبحانه من أمر وقعة بدر ليقضي أمرا كان مفعولا من إعزاز دينه
وإعلاء كلمته حين وعد المسلمين إحدى الطائفتين مبهمة غير مبينة حتى خرجوا ليأخذوا
العير راغبين في الخروج.
(إِذْ يُرِيكَهُمُ
اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ
وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ
الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ
قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً
وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤))
الاعراب :
(إِذْ يُرِيكَهُمُ
اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً) الظرف متعلق بمحذوف تقديره اذكر أو هو بدل ثان من يوم
الفرقان ، أو متعلق بسميع عليم أي يعلم المصالح إذ يقللهم في عينك. ويريكهم فعل
مضارع والكاف مفعول أول والهاء مفعول ثان والله فاعل وفي منامك حال وقليلا مفعول
ثالث لأن رأى الحلمية تنصب مفعولين بلا همزة فإذا دخلت عليها الهمزة نصب ثلاثة. (وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً
لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) الواو عاطفة ولو شرطية وأراكهم فعل ماض والكاف مفعول
أول والهاء مفعول ثان وكثيرا مفعول ثالث ، واللام رابطة وفشلتم فعل وفاعل
ولتنازعتم عطف على لفشلتم وفي الأمر جار ومجرور متعلقان بتنازعتم (وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ
بِذاتِ الصُّدُورِ) الواو عاطفة ولكن واسمها وجملة سلّم خبرها وإنه إن
واسمها وعليم خبرها وبذات الصدور جار ومجرور متعلقان بعليم (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ
الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً) إذ بدل من الظرف قبله ويريكموهم فعل مضارع والكاف مفعول
أول والميم
علامة الجمع والواو لإشباع الميم والهاء مفعول ثان وإذ متعلق بيريكموهم ،
وجملة التقيتم مضافة للظرف وفي أعينكم متعلق بقليلا وقليلا حال من الهاء لأن
الرؤية هنا بصرية فهي مع الهمزة تنصب مفعولين فقط. (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي
أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) عطف على ما تقدم ، وفي أعينهم حال وليقضي لام التعليل
مع مجرورها متعلقان بيقللكم لأنه علة التعليل ، وكرره لاختلاف الفعل المعلل به إذ
الفعل المعلل به أولا اجتماعهم بغير ميعاد ، وثانيا تقليل المؤمنين قبل الالتحام ،
ثم تكثيرهم في أعين الكفار ، أما الغرض في تقليل الكفار في أعين المؤمنين فهو ظاهر
، وأما تقليل المؤمنين في أعينهم قبل اللقاء فذلك ليجترئوا عليهم قلة مبالاة بهم ،
حتى إذا فاجأتهم الكثرة بهتوا وهابوا وأسقط في أيديهم ، وجملة كان مفعولا صفة
الأمر.
(وَإِلَى اللهِ
تُرْجَعُ الْأُمُورُ) الواو عاطفة والى الله جار ومجرور متعلقان بترجع
والأمور نائب فاعل.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥) وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا
فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ
(٤٦) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ
النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧))
اللغة :
(رِيحُكُمْ) الريح : الدولة شبهت في نفوذ أمرها وتمشيه بالريح
وهبوبها فقيل : هبت رياح فلان إذا دالت له الدولة ونفذ أمره ، قال سليك بن سلكة :
يا صاحبيّ
ألا لا حيّ بالوادي
|
|
إلا عبيد
مقود بين أذواد
|
أتنظران
قليلا ريث غفلتهم
|
|
أم تعدوان
فإن الريح للعادي
|
فقد استعار
الشاعر الريح للدولة بجامع النفوذ والأمر النافذ من كل فهي من المجاز ، وإذا هبت
رياحك فاغتنمها ، ورجل ساكن الريح : وقور ، وفي القاموس والمختار : ان الريح يطلق
ويراد به : القوة ، والغلبة ، والرحمة ، والنصرة ، والدولة.
(البطر) والأشر
بفتحتين : الطغيان في النعمة بترك شكرها وجعلها وسيلة الى ما لا يرضاه الله ، وقيل
: معناهما الفخر بالنعمة ومقابلتها بالتكبر والخيلاء بها.
(الرئاء) مصدر
راءى كقاتل قتالا ، والأصل : رياء فالهمزة الأولى بدل من ياء هي عين الكلمة ،
والثانية بدل من ياء هي لام الكلمة لأنها وقعت ظرفا بعد ألف زائدة.
الاعراب :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا) إذا حرف لما يستقبل من الزمن خافض لشرطه منصوب بجوابه
وجملة لقيتم مضافة وفئة
مفعول به والفاء رابطة واثبتوا فعل أمر وفاعل والجملة لا محل لها من
الاعراب لأنها جواب شرط غير جازم (وَاذْكُرُوا اللهَ
كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) واذكروا عطف على اثبتوا وهو فعل أمر وفاعل ولفظ الجلالة
مفعول به وكثيرا مفعول مطلق لأنه صفة لمصدر محذوف ويجوز إعرابه ظرفا أي وقتا كثيرا
ولعلكم تفلحون : لعل واسمها وجملة تفلحون خبرها. (وَأَطِيعُوا اللهَ
وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) وأطيعوا عطف على اذكروا ولفظ الجلالة مفعول به ورسوله
عطف عليه ولا ناهية وتنازعوا أصله تتنازعوا مجزوم بلا الناهية والفاء فاء السببية
لأنها وقعت في جواب النهي وتفشلوا مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية وتذهب
ريحكم عطف على فتفشلوا ويجوز أن تكون الواو عاطفة وتفشلوا مجزوم لأنه داخل في حكم
النهي وقد قرىء بذلك.
(وَاصْبِرُوا إِنَّ
اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) عطف على ما تقدم وإن واسمها والظرف خبرها (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا
مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ) ولا تكونوا عطف على ما تقدم وتكونوا فعل مضارع ناقص
والواو اسمها وكالذين الكاف اسم بمعنى مثل خبرها والذين مضاف إليه أو هما جار
ومجرور متعلقان بمحذوف خبر تكونوا والمراد بهم أهل مكة حين خرجوا لحماية العير ،
فأتاهم رسول أبي سفيان ، وهم بالحجفة ، أن ارجعوا فقد سلمت عيركم ، فأبى أبو جهل
وقال حتى نقدم بئرا نشرب بها الخمور ، وتعزف علينا القيان ، ونطعم من حولنا من
العرب ، فذلك بطرهم ورئاؤهم ، فوافوها ، فسقوا كأس المنايا ، وناحت عليهم النوائح
مكان القيان. وبطرا مصدر في موضع الحال ويجوز أن يعرب مفعولا لأجله وكذلك رئاء
الناس. (وَيَصُدُّونَ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) الواو عاطفة وجملة يصدون معطوفة على بطرا أي
وصدا عن سبيل الله وانما عدل عن الاسمية الى الفعلية في الصد لأن البطر
والرئاء كانا ديدنهم ودأبهم بخلاف الصد فإنه تجدد لهم في زمن النبوة والواو
استئنافية والله مبتدأ ومحيط خبره وبما يعملون جار ومجرور متعلقان بمحيط.
(وَإِذْ زَيَّنَ
لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ
وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ
وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ
وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ
فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩))
اللغة :
(نَكَصَ عَلى
عَقِبَيْهِ) رجع القهقرى يمشي الى ظهره قال الشاعر :
ليس النكوص
على الأعقاب مكرمة
|
|
إن المكارم
إقدام على الأصل
|
والعقب بكسر
القاف وسكونها : مؤخر القدم والولد وولد الولد ، والجمع أعقاب ، وأعقاب الأمور
أواخرها ، يقال : جاء عقبه وبعقبه أي خلفه ، ورجع على عقبه أي على الطريق التي جاء
منها سريعا ،
ووطئ عقبه أي مشى في أثره ، وسافر على عقب الشهر أي في آخره.
الاعراب :
(وَإِذْ زَيَّنَ
لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) الظرف إذ منصوب باذكر محذوفا وجملة زين مضاف إليها ولهم
متعلق بزين والشيطان فاعل وأعمالهم مفعول به. (وَقالَ : لا غالِبَ
لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ) وقال عطف على زين ولا نافية للجنس وغالب اسمها مبني على
الفتح ولكم خبرها ومن الناس حال من الضمير في لكم لتضمنه معنى الاستقرار.
(وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) الواو عاطفة للجملة التي في حيز القول ولذلك كسرت
همزتها ، وإن واسمها وجار خبرها ولكم متعلق بجار لأنها بمعنى مجير ومعين وناصر لكم
، قيل أتاهم الشيطان في صورة سراقة بن مالك سيد ناحية كنانة. (فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ
عَلى عَقِبَيْهِ) الفاء عاطفة ولما ظرف بمعنى حين أو رابطة وتراءت
الفئتان فعل وفاعل ونكص عطف على تراءت والجملة لا محل لها وعلى عقبيه حال أي
هاربا. (وَقالَ : إِنِّي
بَرِيءٌ مِنْكُمْ) وقال عطف على نكص وان واسمها وخبرها ومنكم جار ومجرور
متعلقان ببريء والجملة مقول القول. (إِنِّي أَرى ما لا
تَرَوْنَ) إن واسمها وجملة أرى خبرها وما مفعول به وجملة لا ترون
صلة والعائد محذوف. (إِنِّي أَخافُ اللهَ
وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) إن واسمها وجملة أخاف الله خبرها والله مبتدأ وشديد
العقاب خبر والجملة عطف على ما في حيز القول. (إِذْ يَقُولُ
الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) الظرف معمول اذكر أو نكص وجملة يقول المنافقون مضافة
والذين عطف على المنافقون وفي قلوبهم خبر مقدم ومرض مبتدأ مؤخر والجملة صلة (غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) الجملة مقول القول وهؤلاء
مفعول غر ودينهم فاعله ، يعني هؤلاء المنافقون ومرضى القلوب : ان المسلمين
اغتروا بدينهم ، وسولت لهم أنفسهم لقاء زهاء ألف وهم لا يتجاوزون ثلاثمائة وبضعة
عشر رجلا فقال الله لهم مبكتا : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ
عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) الواو استئنافية ومن شرطية مبتدأ ويتوكل فعل الشرط وعلى
الله متعلق بيتوكل وجواب الشرط محذوف تقديره يغلب والفاء رابطة للتعليل وان الله
عزيز حكيم إن واسمها وخبراها.
(وَلَوْ تَرى إِذْ
يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ
وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٥١) كَدَأْبِ آلِ
فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ
اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢) ذلِكَ بِأَنَّ
اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا
ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ
وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ
بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (٥٤))
الاعراب :
(وَلَوْ تَرى إِذْ
يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ) الواو استئنافية وترى فعل مضارع وهي بصرية والفاعل
مستتر تقديره أنت والمفعول به محذوف أي الكفرة أو حالهم وإذ ظرف لترى أي : ولو ترى
الكفرة أو حال الكفرة حين تتوفاهم الملائكة ببدر. ولو الامتناعية تردّ الفعل
المضارع ماضيا كما أن «إن» ترد الماضي مضارعا ، وجملة يتوفى مضافة والذين مفعول به
والملائكة فاعل وجملة كفروا صلة ، وقد تقدم سر الحذف لجواب لو والمفعول به وقد
اجتمعا هنا وتقدير الجواب : لرأيت شيئا عظيما. (يَضْرِبُونَ
وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) جملة يضربون حال من الملائكة أو من الذين كفروا لأن
فيهما ضميريهما ، ويجوز أن يكون فاعل يتوفى هو ضمير الله تعالى لتقدمه في قوله ومن
يتوكل على الله ، وعندئذ فالملائكة مبتدأ خبره ما بعده والجملة حال من الذين كفروا
وذوقوا ، معطوف على يضربون على إرادة القول أي ويقولون ذوقوا ، وعذاب الحريق مفعول
به. (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ذلك رفع بالابتداء وبما قدمت خبره وما مصدرية أو موصولة
وأيديكم فاعل وأن الله عطف على ما أي : ذلك العذاب بسببين : بسبب كفركم ومعاصيكم ،
وبأن الله ، وجملة ليس خبر إن وبظلام الباء حرف جر زائد وظلام خبر ليس محلا وللعبيد
جار ومجرور متعلقان بظلام وظلام صيغة مبالغة تفيد النسب. (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ) الكاف في محل رفع خبر مبتدأ محذوف أي دأب هؤلاء مثل دأب
آل فرعون سواء كانت اسمية أم حرفية وآل مضاف وفرعون مضاف إليه والذين عطف على آل
ومن قبلهم صلة الذين والجملة استئنافية مسوقة لبيان ما حل بهم
من العذاب بسبب كفرهم قال ابن عباس : والمعنى أن آل فرعون أيقنوا أن موسى
عليه الصلاة والسلام نبي فكذبوه ، فكذلك حال هؤلاء لما جاءهم محمد صلى الله عليه
وسلم بالصدق كذبوه ، فأنزل الله بهم عقوبته كما أنزلها بآل فرعون. (كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) جملة كفروا بآيات الله تفسيرية لدأب آل فرعون ، وبآيات
الله جار ومجرور متعلقان بكفروا (فَأَخَذَهُمُ اللهُ
بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) عطف على كفروا وأخذهم الله فعل ومفعول به وفاعل
وبذنوبهم متعلق بأخذهم أي بسبب ذنوبهم وإن واسمها وقوي خبرها الأول وشديد العقاب
خبرها الثاني.
(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ) اسم الاشارة مبتدأ وبأن الله خبره وجملة لم يك خبر أن
ويك مضارع ناقص مجزوم بلم وعلامة جزمه السكون المقدرة على النون المحذوفة للتخفيف.
وسترد في باب الفوائد خصائص كان ، واسم يك مستتر تقديره : الله تعالى ومغيرا خبرها
ونعمة مفعول به لمغيرا لأنه اسم فاعل وجملة أنعمها صفة لنعمة والهاء مفعول به وعلى
قوم جار ومجرور متعلقان بأنعمها (حَتَّى يُغَيِّرُوا
ما بِأَنْفُسِهِمْ) حتى حرف غاية وجر ويغيروا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة
بعد حتى والجار والمجرور متعلقان بمغيرا وما مفعول به وبأنفسهم صلة ما. (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) عطف على ما سبقه ولذلك فتحت همزة أن ، أي وبسبب أن الله
، وسميع خبر أن الأول وعليم خبرها الثاني. (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ
وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كرره لفوائد نلخصها بما يلي :
١ ـ ان الكلام
الثاني يجري مجرى التفصيل للكلام الأول فتكون الجملة تفسيرية.
٢ ـ ذكر في
الآية الأولى أنهم كفروا بآيات الله وجحدوها وفي الثانية إشارة إلى أنهم كذبوا بها
مع جحودهم لها وكفرهم بها.
٣ ـ ان التكرير
للتأكيد فتكون الجملة مؤكدة تابعة للأولى ، وقد تقدم إعرابها على كل حال.
(كَذَّبُوا بِآياتِ
رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) الجملة تفسيرية أيضا كما تقدم في سابقها وجملة
فأهلكناهم بذنوبهم عطف على كذبوا.
(وَأَغْرَقْنا آلَ
فِرْعَوْنَ) عطف على ما تقدم وفي ذكر الإغراق بيان للأخذ بالذنوب (وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ) كل مبتدأ ساغ الابتداء فيها لإضافتها ونيابة التنوين عن
المضاف إليه كما تقدم في بحث تنوين العوض ولما فيها من معنى العموم أي وكلهم من
غرقى القبط وقتلى قريش ، وجملة كانوا ظالمين خبر كل وجمع الضمير في كانوا وفي
ظالمين مراعاة لمعنى كل ، لأن «كل» متى قطعت عن الإضافة جاز مراعاة لفظها تارة ،
ومراعاة معناها أخرى ، وإنما اختير هنا مراعاة المعنى لأجل الفواصل ، ولو روعي
اللفظ فقط فقيل : وكل كان ظالما ، لم تتفق الفواصل.
البلاغة :
١ ـ المجاز
المرسل في قوله «بما قدمت أيديكم» فإن هذا العذاب إنما حاق بهم بسبب كفرهم ، ومحل
الكفر هو القلب لا اليد لأنها ليست موضعا للمعرفة ، فلا يتوجه التكليف عليها حتى
يمكن إيصال العذاب إليها ، ولكن اليد هنا معناها القدرة ، والعلاقة السببية ، لأن
اليد آلة النعمة كما استعملت مجازا بمعنى النعمة.
٢ ـ عدل عن
ظالم إلى ظلام وقد كان ظاهر الكلام يقضي بنفي الأدنى لأنه أبلغ من نفي الأعلى ،
لأن نفي الأعلى لا يستلزم نفي الأدنى ، وبالعكس ؛ ولكنه عدل عن ذلك لأجل العبيد أو
لأن العذاب من العظم بحيث لو لا الاستحقاق لكان المعذب بمثله ظلاما بليغ الظلم
متفاقمه.
الفوائد :
١ ـ صيغة فعّال
وفاعل وفعل في النسب :
قد يستغنى عن
ياء النسب بصوغ المنسوب إليه على فعّال بتشديد ثانيه ، وذلك غالب في الحرف جمع
حرفة كبزّاز بزايين معجمتين لبائع البز ، ونجار لمن حرفته النجارة ، وعوّاج لبياع
العاج ، وعطّار لبياع العطر ، ومن غير الغالب قول امرئ القيس :
وليس بذي رمح
فيطعنني به
|
|
وليس بذي سيف
وليس بنبّال
|
أي بذي نبل
بدليل ما قبله فاستعمل فعال في غير الحرف ، وحمل عليه قوم من المحققين قوله تعالى
: «وما ربك بظلام للعبيد» أي بذي ظلم ، والذي حملهم على ذلك أن النفي منصب على
المبالغة فثبت أصل الفعل ، والله تعالى منزه عن ذلك وأمثلة فعّال كثيرة ومع كثرتها
قال سيبويه : غير مقيسة فلا يقال لصاحب الدقيق دقّاق ، ولا لصاحب الفاكهة فكّاه ،
ولا لصاحب البر برار ، ولا لصاحب الشعير شعّار ، والمبرد يقيس هذا.
ـ هذا ويصاغ
المنسوب إليه أيضا على فاعل أو على فعل بفتح أوله وكسر ثانيه بمعنى ذي كذا ،
فالأول كتامر أي ذي تمر ، ولابن أي ذي لبن ، وطاعم أي ذي طعام ، وكاس أي ذي كساء ،
والثاني كطعم أي ذي طعام ، ونهر أي ذي نهار ، قال الراجز :
لست بليلى
ولكني نهر
|
|
لا أدلج
الليل ولكن أبتكر
|
أنشده سيبويه
في كتابه ، أي ولكنني نهاريّ أي عامل بالنهار. واختلفوا في قول الحطيئة :
دع المكارم
لا ترحل لبغيتها
|
|
واقعد فانك
أنت الطاعم الكاسي
|
فقال قوم : هو
فاعل بمعنى مفعول ، أي مطعوم ومكسو على حد قوله تعالى «فهو في عيشة راضية» ، وقال
آخرون : هو من باب النسب أي ذي طعام وذي كسوة ، وفي كلتا الحالين فهو ذم أي أنه
ليس له فضل غير أنه يأكل ويشرب.
٢ ـ خصائص كان
:
تختص «كان»
بأمور :
آ ـ جواز
زيادتها بشرطين :
أحدهما : كونها
بلفظ الماضي لتعين الزمان فيه دون المضارع وشذّ قول أم عقيل بن أبي طالب وهي ترقصه
:
أنت تكون ما
جد نبيل
|
|
إذا تهب شمأل
بليل
|
فأنت مبتدأ
وماجد خبره وتكون زائدة بين المبتدأ والخبر.
والثاني :
كونها بين شيئين متلازمين ليسا جارا ومجرورا وليس المراد بزيادتها أنها لا تدل على
معنى البتة ، بل أنها لم يؤت بها للإسناد ، وإلا فهي دالة على المضيّ ، ولهذا كثر
زيادتها بين ما التعجبية وفعل التعجب لكونه سلب الدلالة على المضي نحو : ما كان
أحسن زيدا ، فكان زائدة بين المبتدأ وخبره وقال الشاعر :
حجبت تحيتها
فقلت لصاحبي
|
|
ما كان
أكثرها لنا وأقّلها
|
وقد تزاد بين
الفعل ومرفوعه نحو قول بعضهم : لم يوجد كان مثلهم ، فزاد كان بين الفعل ونائب
الفاعل ، واختلف في قول الفرزدق :
فكيف إذا
مررت بدار قوم
|
|
وجيران لنا ،
كانوا ، كرام
|
فقال قوم منهم
المبرد : إنها في البيت ليست بزائدة بل هي الناقصة والواو اسمها ولنا خبرها
والجملة في موضع الصفة لجيران وكرام صفة بعد صفة ، فهو نظير قوله تعالى : «هذا
كتاب أنزلناه مبارك» ، وذهب سيبويه والخليل الى أنها في البيت زائدة ولاتباعهما في
تخريج اتصالها بالواو أقوال يرجع إليها في المطولات.
ب ـ ومنها أنها
تحذف ويبقى اسمها وخبرها ، وكثر ذلك بعد أن المصدرية الواقعة في موضع المفعول لأجله
في كل موضع أريد فيه تعليل فعل بفعل ، نحو : أمّا أنت منطلقا انطلقت ، فانطلقت
معلول وما قبله علة له مقدمة عليه ، والأصل : انطلقت لأن كنت منطلقا ، ثم قدمت
اللام التعليلية وما بعدها المجرور بها على «انطلقت» فصار : لأن كنت منطلقا انطلقت
، ثم حذفت كان لذلك فانفصل الضمير الذي هو اسم كان ، فصار : أن أنت منطلقا ، ثم
زيدت ما للتعويض من كان فصار :أن ما أنت ، ثم أدغمت النون في الميم للتقارب في
المخرج ، فصار أما أنت ، وعليه قول عباس بن مرداس :
أبا خراشة
أمّا أنت ذا نفر
|
|
فإن قومي لم
تأكلهم الضبع
|
أي لأن كنت ذا
نفر فخرت ، ثم حذف «فخرت» وهو متعلق الجار لأن وما بعدها وأبا خراشة منادى ودخلت
الفاء في فإن قومي لأن
الثاني مستحق بالأول ، فهو مسبّب عنه ، والأول سبب فأشبه الشرط والجزاء.
ج ـ ومنها أنها
تحذف مع اسمها ويبقى الخبر ويكثر ذلك بعد إن ولو الشرطيتين فمثال لو :
لا يأمن
الدهر ذو بغي ولو ملكا
|
|
جنوده ضاق
عنها السهل والجبل
|
أي ولو كان
صاحب البغي ملكا ذا جنود كثيرة وقول النبي صلى الله عليه وسلم : «التمس ولو خاتما
من حديد» أي التمس شيئا ولو كان ما تلتمسه خاتما من حديد.
ومثال إن :
قد قيل ما
قيل إن صدقا وإن كذبا
|
|
فما اعتذارك
من قول إذا قيلا
|
أي إن كان ما
قيل صدقا وإن كان ما قيل كذبا ، وقولهم : «الناس مجزيون بأعمالهم إن خيرا فخير وإن
شرا فشر» بنصب الأول على الخبرية لكان المحذوفة مع اسمها ، ورفع الثاني على
الخبرية لمبتدأ محذوف أي إن كان عملهم خيرا فجزاؤهم خير وإن كان عملهم شرا فجزاؤهم
شر.
د ـ ومنها أن
لام مضارعها وهي النون يجوز حذفها تخفيفا ، وصلا لا وفقا ، وذلك بشرط أن يكون
مجزوما بالسكون غير متصل
بضمير نصب ولا بساكن نحو : «ولم أك بغيا» وكالآية التي نحن بصددها.
ه ـ ومنها ،
وهذه الخاصة تشاركها فيها أخواتها إلا ثلاثة ، أن تستعمل تامة أي مستغنية بمرفوعها
نحو : «وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة» وقول أبي تمام :
قد كان ما
خفت أن يكونا
|
|
إنا إلى الله
راجعونا
|
ومعناها عندئذ
حصل ، أما الثلاثة التي لزمت النقص فهي : فتىء وزال وليس.
(إِنَّ شَرَّ
الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥)
الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ
وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ
بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ
قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ
الْخائِنِينَ (٥٨) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا
يُعْجِزُونَ (٥٩))
اللغة :
(تَثْقَفَنَّهُمْ) : تصادفهم وتظفر بهم ، وفي المصباح : ثقفت الشيء
ثقفا من باب تعب أخذته ، وثقفت الرجل في الحرب أدركته ، وثقفته ظفرت به ،
وثقفت الحديث فهمته بسرعة والفاعل ثقيف.
(فَانْبِذْ) : فاطرح إليهم العهد ، والنبذ الطرح ، وهو هنا مجاز عن
إعلامهم بأن لا عهد لهم بعد اليوم ، فشبّه العهد بالشيء الذي يرمى لعدم الرغبة فيه
، وأثبت النبذ له تخييلا ، ومفعوله محذوف أي عهدهم. وسيأتي مزيد من هذا البحث
الهام في باب البلاغة.
الاعراب :
(إِنَّ شَرَّ
الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) إن واسمها والدواب مضاف لشر وعند الله ظرف متعلق بمحذوف
حال والذين خبر إن وجملة كفروا صلة ، والجملة كلها استئنافية سيقت بعد شرح أحوال
المهلكين من شرار الكفرة للشروع في بيان أحوال الباقين منهم وتفصيل أحكامهم.
(فَهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ) الفاء الفصيحة وهم مبتدأ وجملة لا يؤمنون خبر ، أي لا
يتوقع منهم إيمان بعد أن أصروا على الكفر ولجوا فيه. (الَّذِينَ عاهَدْتَ
مِنْهُمْ) بدل من الذين كفروا فمحله الرفع ، أي الذين عاهدتهم من
الذين كفروا ، وجعلهم شر الدواب لأن شر الناس الكفار ، وشر الكفار المصرون منهم ،
وشر المصرين الذين نكثوا العهود ، وجملة عاهدت صلة ومنهم حال. (ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ
مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) ثم عطف للترتيب مع التراخي وعهدهم مفعول به وفي كل مرة
جار ومجرور متعلقان بينقضون والواو عاطفة وهم مبتدأ وجملة لا يتقون خبر. (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ) الفاء رابطة لشبه المبتدأ بالشرط لأن الموصول فيه رائحة
منه وإن شرطية وما زائدة ، وأدغمت
النون بالميم ، وتثقفنهم فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد
الثقيلة وهو في محل جزم فعل الشرط والهاء مفعول به وفي الحرب جار ومجرور متعلقان
بتثقفنهم. (فَشَرِّدْ بِهِمْ
مَنْ خَلْفَهُمْ) الفاء رابطة وشرد فعل أمر وبهم جار ومجرور متعلقان بشرد
والباء بمعنى السببية أي بسبب تنكيلك بهم ، ومن مفعول به لشرد وخلفهم ظرف متعلق
بمحذوف صلة ، والمعنى انك إذا ظفرت بهؤلاء الكفار الذين نقضوا العهد ، فافعل بهم
أنماطا من التنكيل تفرق بها جمع كل ناقض للعهد خافر للذمام ، حتى يخافك من وراءهم.
(لَعَلَّهُمْ
يَذَّكَّرُونَ) لعل واسمها وجملة يذكرون خبرها أي لعلهم يتعظون بهم. (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ
خِيانَةً) الواو عاطفة وإن شرطية أدغمت بما الزائدة وتخافن فعل
الشرط ولكنه مبني لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل مستتر تقديره أنت ومن قوم
جار ومجرور متعلقان بتخافن وخيانة مفعول به.
(فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ
عَلى سَواءٍ) الفاء رابطة وانبذ فعل أمر وإليهم جار ومجرور متعلقان
بانبذ وعلى سواء في موضع الحال من الفاعل والمفعول معا أي فاعل الفعل وهو ضمير
النبي ومفعوله وهو المجرور بإلى أي حال كونهم مستوين في العلم بنقض العهد وسيأتي
مزيد بحث في هذه الآية العجيبة الأسلوب. (إِنَّ اللهَ لا
يُحِبُّ الْخائِنِينَ) إن واسمها وجملة لا يحب الخائنين خبرها ، والجملة
تعليلية للأمر بالنبذ ، والنهي عن مناجزة القتال المدلول عليه بالحال على طريقة
الاستئناف. (وَلا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) الواو عاطفة ولا ناهية ويحسبن مضارع مبني في محل جزم
بلا الناهية والذين كفروا فاعل والمفعول الأول محذوف أي أنفسهم وجملة سبقوا مفعول
يحسبن الثاني أي فاتوا عذابه ونجوا منه وان واسمها وجملة لا يعجزون خبرها.
البلاغة :
فن الاشارة :
في قوله تعالى
: «وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء» ، فن يقال له : «فن الاشارة» ،
وبعضهم يدرجه في باب الإيجاز لأنه متفرع عنه ، ولكن قدامة فرعه من ائتلاف اللفظ مع
المعنى ، وشرحه فقال ، هو أن يكون اللفظ القليل دالا على المعنى الكثير حتى تكون
دلالة اللفظ على المعنى كالإشارة باليد فإنها تشير بحركة واحدة إلى أشياء كثيرة لو
عبّر عنها بأسمائها احتاجت الى عبارة طويلة وألفاظ كثيرة. والفرق بينه وبين
الإيجاز أن الإيجاز بألفاظ المعنى الموضوعة له ، وألفاظ الاشارة لمحة دالة ،
فدلالة اللفظ على الإيجاز دلالة مطابقة ، ودلالة اللفظ في الإشارة إما دلالة تضمين
أو دلالة التزام ، فقوله تعالى : «فانبذ إليهم على سواء» تشير الى الأمر بالمقاتلة
بنبذ العهد كما نبذوا عهدك ، مع ما يدل عليه الأمر بالمساواة في الفعل من العدل ،
فإذا أضفت الى ذلك ما تشير إليه كلمة خيانة من وجود معاهدة سابقة ، تبين لك ما
انطوت عليه هذه الإشارات الخفية من دلالات كأنها أخذة السحر.
وقد افتن
العلماء في بناء حكم الآية ، فقالوا : إنه إذا ظهرت آثار نقض العهد ممن هادنهم
الإمام من المشركين بأمر ظاهر مستفيض ، استغنى الامام عن نبذ العهد وإعلامهم بالحرب
، وإن ظهرت الخيانات بأمارات تلوح وتتضح له من غير أمر مستفيض ، فحينئذ يجب عليه
أن ينبذ إليهم ويعلمهم بالحرب ، وأما إذا ظهر نقض العهد ظهورا مقطوعا ، فلا حاجة
للإمام الى نبذ العهد ، بل يفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهل مكة
لما نقضوا العهد بقتل خزاعة ، وهم في
ذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرعهم إلا وجيشه بمر الظهران وذلك
على أربعة فراسخ من مكة.
فن الاشارة في الشعر :
أما فن الاشارة
في الشعر فهو شائع في شعرنا العربي كثيرا ومن أطرفه قول بهاء الدين زهير :
عفا الله
عنكم أين ذاك التودّد؟
|
|
وأين جميل
منكم كنت أعهد؟
|
بما بيننا لا
تنقضوا العهد بيننا
|
|
فيسمع واش أو
يقول مفند
|
فقد أشار بما
إلى ما لا يحصى من دواعي الهوى ، ونوازع الشوق ، وجميل قول أبي الطيب المتنبي :
لعينيك ما
يلقى الفؤاد وما لقي
|
|
وللحب ما لم
يبق مني وما بقي
|
فقد أشار بما
الأولى وما الثانية الى ما لا يخفى مما يلقاه قلبه من الوجد فيما يستأنفه ، وما
لقيه من قبل ذلك فيما أسلفاه ، ومما أحدثه الحب فيه من ندوب سواء ما لم يبقه السقم
منه مما أفناه ، وما بقي منه مما أنحله وأضناه ، ولأبي فراس في الإشارة :
وما لك لا
تلقى بمهجتك القنا
|
|
وأنت من
القوم الذين هم هم
|
وما أبدع قول
أبي العلاء المعري :
منك الصدود
ومني بالصّدود رضا
|
|
من ذا عليّ
بهذا في هواك قضى
|
بي منك ما لو
بعين الشمس ما طلعت
|
|
من الكآبة أو
بالبرق ما ومضا
|
أما خالد
الكاتب فقد بلغ نهاية الحسن بقوله :
رقدت ولم ترث
للساهر
|
|
وليل المحب
بلا آخر
|
ولم تدر بعد
ذهاب الرقا
|
|
د ما فعل
الدمع بالناظر
|
(وَأَعِدُّوا
لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ
عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ
يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ
وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١))
اللغة :
(رِباطِ الْخَيْلِ) هي ما يرتبط منها ، ورباط الخيل حبسها واقتناؤها قال :
فينا رباط
جياد الخيل معلمة
|
|
وفي كليب
رباط اللؤم والعار
|
وقال الزمخشري
: «والرباط اسم للخيل التي تربط في سبيل الله ، ويجوز أن تسمى بالرباط الذي هو
بمعنى المرابطة ، ويجوز أن يكون جمع ربيط كفصيل وفصال ، والمصدر هنا مضاف لمفعوله».
وفي المصباح ،
ربطه ربطا ـ من باب ضرب ومن باب قتل ـ لغة شده ، والرباط ما يربط به القربة وغيرها
، والجمع ربط مثل كتاب وكتب ، ويقال للمصاب : ربط الله على قلبه بالصبر ، كما يقال
: أفرغ الله عليه الصبر أي ألهمه ، والرباط اسم من رابط مرابطة ـ من باب قاتل ـ إذا
لازم ثغر العدو ، والرباط الذي يبنى للفقراء ، مولد ويجمع في القياس على ربط
بضمتين ورباطات ا ه. ونرى أن المطابق للقوة التي هي الرمي أن يكون الرباط على بابه
والله أعلم.
(جنح) له وإليه
: مال ، وجنحت الإبل أمالت أعناقها ، والمصدر الجنوح ، ويقال : جنح الليل أقبل ،
قال النضر بن شميل : جنح الرجل إلى فلان ولفلان إذا خضع له ، والجنوح الاتباع أيضا
لتضمنه الميل ، ومنه الجوانح للأضلاع لميلها على حشوة الشخص ، والجناح من ذلك
لميلانه على الطائر. قال ذو الرمة :
إذا مات فوق
الرحل أحييت روحه
|
|
بذكراك
والعيس المراسيل جنح
|
وقال النابغة :
جوانح قد
أيقن أن قبيله
|
|
إذا ما التقى
الجمعان أول غالب
|
(السلم) بكسر
السين وفتحها الصلح ، ففي المصباح : والسلم بكسر السين وفتحها الصلح ويذكر ويؤنث ،
وقال الزمخشري : والسلم تؤنث تأنيث نقيضها وهي الحرب ، قال عباس بن مرداس يخاطب
خفاف بن ندبة :
السلم تأخذ
منها ما رضيت به
|
|
والحرب يكفيك
من أنفاسها جرع
|
الاعراب :
(وَأَعِدُّوا لَهُمْ
مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) الواو عاطفة وأعدوا فعل أمر والواو فاعل ولهم جار
ومجرور متعلقان بأعدوا ، والمراد ناقضو العهد كما يقتضيه سياق الكلام أو للكفار
مطلقا ، وما مفعول به وجملة استطعتم صلة ومن قوة في موضع نصب على الحال من الموصول
أو من العائد عليه ومن رباط الخيل عطف عليه.
(تُرْهِبُونَ بِهِ
عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) جملة ترهبون حال من فاعل أعدوا أي حال كونكم مرهبين أو
حال من مفعول أعدوا وهو الموصول أي حال كونه مرهبا به ، وبه متعلق بترهبون وعدو
الله مفعول ترهبون وعدوكم عطف على عدو الله وآخرين عطف على عدوكم ، والمراد بهم
اليهود ومن دونهم صفة لآخرين. (لا تَعْلَمُونَهُمُ
اللهُ يَعْلَمُهُمْ) جملة لا تعلمونهم صفة لآخرين والله مبتدأ وجملة يعلمهم
خبر والمفعول الثاني محذوف تقديره محاربين. (وَما تُنْفِقُوا مِنْ
شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) الواو استئنافية وما اسم شرط جازم في محل نصب مفعول مقدم
لتنفقوا وتنفقوا فعل الشرط ومن شيء حال
وفي سبيل الله جار ومجرور متعلقان بتنفقوا ويوف جواب الشرط ونائب الفاعل
مستتر وإليكم جار ومجرور متعلقان بيوف ، وأنتم مبتدأ وجملة لا تظلمون خبر والجملة
معطوفة. (وَإِنْ جَنَحُوا
لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ) الواو عاطفة وإن شرطية وجنحوا فعل ماض وهو فعل الشرط
وللسلم جار ومجرور متعلقان بجنحوا والفاء رابطة واجنح فعل أمر ولها جار ومجرور
متعلقان باجنح وتوكل عطف على اجنح وعلى الله متعلق بتوكل ، وان واسمها ، وهو ضمير
فصل والسميع خبر أول والعليم خبر ثان ، ويجوز أن يكون هو مبتدأ والسميع العليم
خبراه والجملة خبر إنه.
الفوائد :
بحث في المؤنث
اعلم أن العرب
قد أنثوا أسماء كثيرة بتاء مقدرة ، ويستدل على ذلك التقدير : بالضمير العائد عليها
، نحو : «النار وعدها الله الذين كفروا» ، «حتى تضع الحرب أوزارها» ، «وإن جنحوا
للسلم فاجنح لها». وبالاشارة إليها نحو : «هذه جهنم». وبثبوت التاء في تصغيرها نحو
: أذينة وعيينة مصغر أذن وعين من الأعضاء المزدوجة ، فإن التصغير يرد الأشياء إلى
أصولها ، وغير المزدوج مذكر كالرأس والقلب. أو بثبوت التاء في فعلها نحو : «ولما
فصلت العير» وبسقوطها من عددها كقول حميد الأرقط يصف قوما عربية :
أرمي عليها
وهي فرع أجمع
|
|
وهي ثلاث
أذرع وأصبع
|
فأذرع جمع ذراع
وهي مؤنثة بدليل سقوط التاء من عددها وهو ثلاث.
هذا ، والقاعدة
المشهورة ، هي أنه ما كان من الأعضاء مزدوجا ، فالغالب عليه التأنيث إلا الحاجبين
والمنخرين والخدين فإنها مذكرة ، والمرجع السماع ، وعد المنخرين من المزدوج لا
ينافي عد الأنف من غيره لأن الأنف اسم للمنخرين معا وكل واحد يسمى منخرا لا أنفا ،
ومن المزدوج الكف فهي مؤنثة وزعم المبرد أنها قد تذكر وأنشد :
ولو كفي
اليمين تقيك خوفا
|
|
لأفردت
اليمين عن الشمال
|
ولم يقل اليمنى
، كذا قال المبرد ، وهو وهم لأن اليمين مؤنثة بمنزلة اليمنى. وقال ابن يسعون : ذكر
حملا على العضو ثم رجع الى التأنيث ، فقال : تقيك.
وما كان من
الأعضاء غير مزدوج فالغالب عليه التذكير ، ومن غير الغالب اللسان والقفا فإنهما قد
يؤنثان.
(وَإِنْ يُرِيدُوا
أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ
وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي
الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ
بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ
وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤))
اللغة :
(حَسْبَكَ) الحسب : بسكون السين الكفاية ، يقال حسبك درهم ، وتزاد
عليه الباء فيقال بحسبك درهم أي كفايتك ، وهذا رجل حسبك من رجل ، وزيد صديقي فحسبي
، أو فحسب ، أي يكفيني ويغني عن غيره ، وقال جرير :
إني وجدت من
المكارم حسبكم
|
|
أن تلبسوا خز
الثياب وتشبعوا
|
فإذا تذوكرت
المكارم مرة
|
|
في مجلس أنتم
به فتقنعوا
|
الاعراب :
(وَإِنْ يُرِيدُوا
أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ) الواو عاطفة وإن شرطية ويريدوا فعل الشرط والواو فاعل ،
وأن وما في حيزها مصدر مفعول به ، فإن الفاء رابطة وإن واسمها وخبرها والجملة
الاسمية في محل جزم جواب الشرط. (هُوَ الَّذِي
أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) هو مبتدأ والذي خبره وجملة أيدك صلة وبنصره جار ومجرور
متعلقان بأيدك وبالمؤمنين عطف على بنصره. (وَأَلَّفَ بَيْنَ
قُلُوبِهِمْ) وألف عطف على أيدك وبين ظرف متعلق بألف وقلوبهم مضاف
اليه. (لَوْ أَنْفَقْتَ ما
فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) لو شرطية وأنفقت فعل وفاعل وما مفعول به وفي الأرض صفة
وجميعا حال وما نافية وألفت فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير
جازم. (وَلكِنَّ اللهَ
أَلَّفَ
بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) الواو عاطفة أو استئنافية ولكن واسمها وجملة ألف بينهم
خبر لكن وإن واسمها وخبراها والجملة تعليلية.
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) حسبك خبر مقدم والله مبتدأ مؤخر أو بالعكس ومن عطف على
الله وجملة اتبعك صلة ومن المؤمنين حال.
والمعنى حسبك
الله وحسبك المؤمنين ، أي كافيك الله وكافيك المؤمنون ويحتمل أن تكون بمعنى مع وما
بعده منصوب ، كما تقول : حسبك وزيدا درهم ، والمعنى كافيك وكافي المؤمنين الله ،
لأن عطف الظاهر على المضمر في مثل هذه الصورة ممتنع كما تقرر في علم النحو ،
وأجازه الكوفيون ، قال الفراء : ليس بكثير في كلامهم أن تقول : حسبك وأخيك ، بل المستعمل
أن يقال : حسبك وحسب أخيك ، بإعادة الجار فلو كان قوله ومن اتبعك مجرورا لقيل :
حسبك الله وحسب من اتبعك ، واختار النصب على المفعول معه النحاس.
الفوائد :
حسب : قال أبو
حيان : وحسبك مبتدأ مضاف الى الضمير وليس مصدرا ولا اسم فاعل.
قال سيبويه : «قالوا
حسبك وزيدا درهم لما كان فيه من معنى كفاك وقبح أن يحملوه على المضمر نووا الفعل
كأنه قال : حسبك وبحسب أخاك درهم ولذلك كفيك» كفيك وهو من كفاه يكفيه ، وكذلك قطك
تقول : كفيك وزيدا درهم ، وقطك وزيدا درهم ، وليس هذا من باب المفعول معه وإنما
جاء سيبويه به حجة للحمل على الفعل
للدلالة. فحسبك يدل على كفاك ويحسبني مضارع أحسبني فلان إذا أعطاني حتى
أقول حسبي. فالناصب في هذا فعل يدل عليه المعنى ، وهو في : كفيك وزيدا درهم. أوضح
لأنه مصدر للفعل المضمر أي ويكفي زيدا. وفي قطك وزيدا درهم التقدير فيه أبعد ، لأن
قطك ليس في الفعل المضمر شيء من لفظه ، إنما هو مفسر من حيث المعنى فقط. وفي ذلك
الفعل المضمر فاعل يعود على الدرهم ، والنية بالدرهم التقديم ، فيصير من عطف الجمل
، ولا يجوز أن يكون من باب الإعمال لأن طلب المبتدأ للخبر وعمله فيه ليس من قبيل
طلب الفعل أو ما جرى مجراه ولا عمله ، فلا يتوهم ذلك فيه.
وقال الزجاج : «حسب
اسم فعل والكاف نصب والواو بمعنى مع» ، فعلى هذا يكون الله فاعلا لحسبك ، وعلى هذا
التقدير يجوز في : ومن أن يكون معطوفا على الكاف لأنها مفعول باسم الفعل لا مجرور
، لأن اسم الفعل لا يضاف ، إلا أن مذهب الزجاج خطأ لدخول العوامل على حسبك ، تقول
: بحسبك درهم وقال تعالى : «فإن حسبك الله» ولم يثبت كونه اسم فعل في مكان فيعتقد
فيه أنه يكون اسم فعل واسما غير اسم فعل كرويد.
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ
عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ
يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ
(٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ
فِيكُمْ
ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ
يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ
الصَّابِرِينَ (٦٦))
اللغة :
(حَرِّضِ) التحريض في اللغة : المبالغة في الحث على الأمر من
الحرض ، وهو أن ينهكه المرض ويتبالغ فيه حتى يشفي على الموت ، أو أن تسميه حرضا
وتقول له : ما أراك إلا حرضا في هذا الأمر ومحرضا فيه ليهيجه ويحرّك منه ، ويقال :
حركه وحرضه وحرصه وحرشه وحربه بمعنى ، وفي المصباح : حرض حرضا ـ من باب تعب ـ أشرف
على الهلاك ، فهو حرض بفتح الراء تسمية بالمصدر مبالغة ، وحرضته على الشيء تحريضا.
وفي المختار : والتحريض على القتال الحث والاحماء عليه.
الاعراب :
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) حرض فعل أمر وفاعله أنت والمؤمنين مفعول به وعلى القتال
جار ومجرور متعلقان بحرض.
(إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ
عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) إن شرطية ويكن فعل الشرط ومنكم خبر يكن المقدم وعشرون
اسمها المؤخر وصابرون صفة ويغلبوا جواب الشرط ومئتين مفعول به ، ويجوز أن تعرب يكن
هنا تامة فيكون عشرون فاعلا ومنكم حال. (وَإِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا
أَلْفاً
مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) عطف على ما تقدم والاعراب مماثل ومن الذين كفروا صفة ل «ألفا».
(بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ
لا يَفْقَهُونَ) بأنهم جار ومجرور متعلقان بيغلبوا والباء للسببية وأن
واسمها وقوم خبرها وجملة لا يفقهون صفة ل «قوم». (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ
عَنْكُمْ) الآن ظرف متعلق بخفف والله فاعل وعنكم متعلق بخفف. (وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) عطف على خفف وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي علم وفيكم
خبر أن المقدم وضعفا اسمها المؤخر. (فَإِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) فيها ما تقدم من الاعراب. (وَإِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ) عطف على ما تقدم. (بِإِذْنِ اللهِ
وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) بإذن الله جار ومجرور متعلقان بيغلبوا والله مبتدأ ومع
ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر والصابرين مضاف إليه.
(ما كانَ لِنَبِيٍّ
أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ
الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْ لا
كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨)
فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩))
اللغة :
(يُثْخِنَ) في المصباح «أثخن في الأرض إثخانا سار الى العدو
وأوسعهم قتلا ، وأثخنته أو هنته بالجراحة وأضعفته» وأثخنه المرض
إذا أثقله ، من الثخانة التي هي الغلظ والكثافة ، والمعنى حتى يذل الكفر
ويضعفه بإشاعة القتل في أهله ، ويعز الإسلام ويقويه بالاستيلاء والقهر ثم الأسر
بعد ذلك.
(عَرَضَ الدُّنْيا) حطامها ، سمي بذلك لأنه قليل اللبث يريد الفداء ، وقد
سمى المتكلمون الأعراض أعراضا لأنها لا ثبات لها ، فإنها تطرأ على الأجسام ثم تزول
عنها.
الاعراب :
(ما كانَ لِنَبِيٍّ
أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) ما نافية وكان فعل ماض ناقص ولنبي خبر مقدم وأن وما في
حيزها اسمها ويجوز أن تكون تامة بمعنى ما حصل وما استقام فيتعلق الجار والمجرور
بها وتكون أن وما في حيزها فاعلا لها. ويكون وخبرها المقدم واسمها المؤخر. (حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) حتى حرف غاية وجر ويثخن فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد
حتى وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بيثخن. (تُرِيدُونَ عَرَضَ
الدُّنْيا) الجملة استئنافية وعرض الدنيا مفعول تريدون. (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ) الواو استئنافية أو عاطفة والله مبتدأ وجملة يريد
الآخرة خبر ، والله مبتدأ وعزيز خبر أول وحكيم خبر ثان.
(لَوْ لا كِتابٌ مِنَ
اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) لو لا حرف امتناع لوجود متضمن معنى الشرط وكتاب مبتدأ
محذوف الخبر ومن الله نعت لكتاب وكذا سبق والخبر محذوف تقديره موجود ولمسكم اللام
واقعة في جواب لو لا ومسكم فعل ومفعول به وفيما جار ومجرور متعلقان بمسكم أي :
بسبب ما أخذتم وما مضافة وأخذتم صلة وعذاب فاعل وعظيم صفة. (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً
طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ
غَفُورٌ
رَحِيمٌ) الفاء الفصيحة أي ما دمت قد أبحت لكم الغنائم فكلوا ،
وكلوا فعل أمر وفاعل ومما جار ومجرور متعلقان بكلوا وجملة غنمتم صلة وحلالا نصب
على الحال من المغنوم أو صفة للمصدر أي أكلا حلالا ، واتقوا عطف على كلوا ولفظ
الجلالة مفعول به وإن واسمها وخبراها.
البلاغة :
حسن التعليل :
في قوله تعالى
: «لو لا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم» فن يدعى «فن التعليل» ،
وهو أن يريد المتكلم ذكر حكم واقع أو متوقع ، فيقدم قبل ذكره علة وقوعه لكون رتبة
العلة التقدم على المعلول ، وسبق الكتاب من الله تعالى هو العلة في النجاة من
العذاب.
هذا وبالنسبة
للعلة والوصف المعلل ينقسم هذا الفن الى أربعة أقسام :
١ ـ ثابت ظاهر
العلة ولكنها مخالفة للعلة الأصلية ومثاله قول ابن المعتز :
قالوا :
اشتكت عينه ، فقلت لهم :
|
|
من كثرة
القتل نالها الوصب
|
حمرتها من
دماء من قتلت
|
|
والدم في
السيف شاهد عجب
|
فإن العلة
الحقيقية في حمرة العين هي الرمد وهي ظاهرة تركها الشاعر ، وعلل بعلة غير حقيقية
وهي : أن حمرتها من دماء من قتلت من العشاق.
٢ ـ ثابت خفي
العلة كقول أبي الطيب المتنبي :
لم يحك نائلك
السحاب وإنما
|
|
حمّت به
فصبيبها الرّحضاء
|
يعني أن السحاب
لم يحك نائلك ، أي عطاءك ، وإنما صارت محمومة بسبب نائلك وتفوقه عليها ، فالمصبوب
منها هو عرق الحمى ، فنزول المطر من السحاب صفة ثابتة لا يظهر لها في العادة ، وقد
علله بأنه عرق حماها الحادثة بسبب عطاء الممدوح.
٣ ـ ثابت وهو
متمكن كقول مسلم بن الوليد المعروف بصريع الغواني :
يا واشيا
حسنت فينا إساءته
|
|
نجى حذارك
إنساني من الغرق
|
فاستحسان إساءة
الواشي وصف غير ثابت إلا أنه ممكن ، وقد خالف الناس في استحسانها معللا بأن حذره
من الواشي كان سببا لسلامة إنسان عينه من الغرق في الدموع حيث ترك البكاء خوفا
منه.
٤ ـ القسم
الرابع ليس بثابت ولا ممكن كقول الشاعر :
لو لم تكن نية
الجوزاء خدمته
|
|
لما رأيت
عليها عقد منتطق
|
فنسبة النية
الى الجوزاء غير ثابتة ولا ممكنة ، فإن الارادة لا تكون إلا من حي ، والجوزاء جماد
ليس فيه حياة ولا إرادة لها
ولا نية وقد نسب الشاعر ذلك إليها وعلله بأمارة الخدمة وهي عقد النطاق. لأن
الجوزاء صورتها صورة شخص قد انتطق. والنطاق الزنار وكل ما يشد به الوسط.
وواضح أن الآية
الكريمة ليست داخلة في نطاق هذه الأقسام الأربعة التي لا تخلو من تكلف. وإنما هي
من مطلق التعليل لحكم من الأحكام.
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي
قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ
مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ
وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى
يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ
عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
(٧٢))
الاعراب :
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى) لمن متعلقان بقل وفي أيديكم صلة لمن ومن الأسرى حال. (إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ
خَيْراً) إن شرطية ويعلم فعل الشرط والله فاعل وفي قلوبكم مفعول
به ليعلم وخيرا مفعول به ثان والجملة الشرطية مقول القول. (يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ
مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يؤتكم جواب الشرط والكاف مفعول به أول وخيرا مفعول به
ثان ومما متعلقان ب «خيرا» وجملة أخذ صلة ومنكم متعلقان بأخذ ويغفر لكم عطف على
يؤتكم والله مبتدأ وغفور خبر أول ورحيم خبر ثان. (وَإِنْ يُرِيدُوا
خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) الواو عاطفة وإن شرطية ويريدوا فعل الشرط والواو فاعل
وخيانتك مفعول به والفاء رابطة للجواب وقد حرف تحقيق وخانوا الله فعل وفاعل ومفعول
به ومن قبل متعلقان بخانوا وبنيت قبل على الضم لانقطاعها عن الاضافة لفظا لا معنى
أي قبل بدر بالكفر. (فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ
وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) الفاء عاطفة وأمكن فعل ماض وفاعل مستتر ومنهم متعلقان
بأمكن ومفعول أمكن محذوف أي أمكنك منهم والله مبتدأ وخبراه. (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا
وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) ان واسمها وجملة آمنوا صلة وما بعده من الأفعال عطف
عليه. (وَالَّذِينَ آوَوْا
وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) والذين عطف على الذين وجملة آووا صلة ونصروا عطف على
آووا وأولئك مبتدأ وبعضهم مبتدأ ثان وأولياء بعض خبره والمبتدأ الثاني وخبره خبر
المبتدأ الأول وجملة أولئك ... إلخ خبر إن.
(وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) والذين عطف جملة على جملة ، والذين مبتدأ وجملة آمنوا
صلة ولم
يهاجروا عطف على آمنوا ، أو الواو حالية ، ما نافية ولكم خبر مقدم ومن
ولايتهم حال لأنه كان في الأصل صفة لشيء. ومن حرف جر زائد وشيء مبتدأ مؤخر محلا
وجملة ما لكم خبر الذين وحتى حرف غاية وجر ويهاجروا منصوب بأن مضمرة بعد حتى
والجار والمجرور متعلقان بما في النفي من معنى الفعل أي ابتغت ولايتك عليهم الى
هجرتهم. (وَإِنِ
اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) الواو عاطفة وإن شرطية واستنصروكم فعل وفاعل ومفعول به
وهو في محل جزم فعل الشرط وفي الدين جار ومجرور متعلقان باستنصروكم والفاء رابطة
وعليكم خبر مقدم والنصر مبتدأ مؤخر والجملة في محل جزم جواب الشرط. (إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) إلا أداة استثناء وعلى قوم جار ومجرور متعلقان
بالمستثنى المحذوف أي : إلا النصر على قوم وبينكم ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم
وبينهم عطف على بينكم وميثاق مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية صفة لقوم ، أي فهؤلاء
القوم لا تنصروهم عليهم وتنقضوا العهد ، والله مبتدأ وبصير خبره وبما تعملون
متعلقان ببصير.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا
بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ
وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ
اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ
مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا
وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى
بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥))
الاعراب :
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا
بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) الواو عاطفة والذين مبتدأ وكفروا صلة وبعضهم مبتدأ ثان
وأولياء خبر بعضهم والجملة خبر الذين ، ويجوز أن يكون بعضهم بدلا من اسم الاشارة ،
والخبر أولياء بعض (إِلَّا تَفْعَلُوهُ
تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) إن شرطية ولا زائدة وتفعلوه فعل مضارع وفاعل ومفعول به
وهو فعل الشرط وتكن جواب الشرط وهي تامة وفتنة فاعل أي تحصل فتنة وفي الأرض جار
ومجرور متعلقان بتكن وفساد عطف على فتنة وكبير صفة لفتنة.
(وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) الذين مبتدأ وآمنوا صلة وما بعده عطف عليه. (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا) عطف على الذين آمنوا (أُولئِكَ هُمُ
الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) أولئك مبتدأ وهم ضمير فصل أو مبتدأ ثان والمؤمنون خبر
أولئك أو خبر «هم» والجملة خبر أولئك وحقا مفعول مطلق (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) لهم خبر مقدم ومغفرة مبتدأ مؤخر ورزق عطف على مغفرة
وكريم صفة. (وَالَّذِينَ آمَنُوا
مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ) الذين مبتدأ وآمنوا صلة وما بعده عطف عليه. (فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) الفاء رابطة لما في الموصول من رائحة الشرط واسم
الاشارة مبتدأ ومنكم خبره. (وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) أولو مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الواو لأنه ملحق بجمع
المذكر السالم والأرحام مضاف اليه وبعضهم مبتدأ وأولى خبره وببعض جار ومجرور متعلقان
بأولى وفي كتاب الله خبر لمبتدأ محذوف أي هذا الحكم المذكور في كتاب الله. (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) إن واسمها وبكل شيء متعلق بعليم وعليم خبر إن.
سورة التوبة
مدنية إلا الآيتين
الأخيرتين
فمكيتان وآياتها مائة وتسع وعشرون تمهيد
لا بد منه
:لهذه السورة عدة أسماء وهي :براءة ، التوبة ، المقشقشة ، المبعثرة ، المشردة ،
المخزية ، الفاضحة.
المثيرة ،
الحافرة ، المدمدمة ، سورة العذاب ، المنكلة ، البحوث بفتح الباء وكلها ترجع الى
معنى واحدة ففيها توبة على المؤمنين. والتبرئة من النفاق ، والبحث عن حال المنافقين
وإثارة حالهم والحفر عنها أي البحث.
وما يخزيهم
ويفضحهم وينكلهم ، ويشردهم ويدمدم عليهم أي يهلكهم.
ولم تبدأ
بالبسملة لأسباب خمسة ذكرها القرطبي في تفسيره الكبير ولا مجال لا يرادها ، وقال
الجلال : لم تكتب فيها البسملة لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر بذلك كما يؤخذ من
حديث رواه الحاكم ، وأخرج في معناه عن علي أنّ البسملة أمان ، وهي نزلت لرفع الأمن
بالسيف. وعن حذيفة : إنكم تسمونها سورة التوبة وهي سورة العذاب.
وروى البخاري
عن البراء : أنها آخر سورة نزلت.
(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ
وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي
الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ
وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى
النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ
فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣))
اللغة :
(فَسِيحُوا) السياحة : السير ، يقال ساح في الأرض يسيح سياحة وسيوحا
وسيحانا ، ومنه سيح الماء في الأرض ، وسيح الخيل ، ومنه قول طرفة بن العبد :
لو خفت هذا
منك ما فلتني
|
|
حتى ترى خيلا
أمامي تسيح
|
الاعراب :
(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ
وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) براءة خبر لمبتدأ محذوف أي هذه براءة ومن الله صفة
لبراءة فهي لابتداء الغاية متعلقة بمحذوف صفة لبراءة وليست متعلقة بالبراءة كما في
قولك : برئت من الذنب والدين ، والمعنى هذه براءة واصلة من الله
ورسوله ، والى الذين متعلق بمتعلق من أي واصلة الى الذين ، ويجوز أن تكون
براءة مبتدأ وساغ الابتداء بها لتخصيصها بالصفة والى الذين خبرها كما تقول : رجل
من تميم في الدار ، ومن المشركين حال ، قال المفسرون : لما خرج رسول الله صلى الله
عليه وسلم الى تبوك كان المنافقون يرجفون الأراجيف ، وجعل المشركون ينقضون عهودهم.
وذلك قوله
تعالى «وإما تخافن من قوم خيانة» الآية. ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أمر
به ونبذ لهم عهودهم ، قال الزجاج : أي قد برىء الله ورسوله من وفاء عهودهم إذا
نكثوا ، وسيأتي في باب الفوائد ما يرويه التاريخ. (فَسِيحُوا فِي
الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) الفاء الفصيحة وجملة سيحوا مقول قول محذوف أي فقولوا
أيها المسلمون للمشركين سيحوا وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بسيحوا وأربعة أشهر
ظرف زمان متعلق بسيحوا والمراد بالأشهر الأربعة : شوال وذو القعدة وذو الحجة
والمحرم وقيل : هي عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشر من ربيع
الآخر. (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ
غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) الواو حرف عطف واعلموا فعل أمر والواو فاعل وان وما في
حيزها سدت مسد مفعولي اعلموا وأن واسمها وغير معجزي خبرها والله مضاف اليه. (وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) وأن عطف على أنكم والله اسمها ومخزي الكافرين خبرها. (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى
النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) ارتفاع أذان كارتفاع براءة على الوجهين والجملة معطوفة
على مثلها ، والأذان الإعلام بمعنى الإيذان ، ومن الله صفته أو متعلق به وإلى
الناس الخبر ويوم الحج الأكبر ظرف متعلق بما تعلق به الى الناس. (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) بفتح همزة أن وفيه وجهان : أحدهما خبر أذان والثاني هو
صفة أي وأذان كائن بالبراءة ، وقيل التقدير وإعلام من الله بالبراءة ، فالباء
متعلقة
بنفس المصدر وأن واسمها وخبرها ومن المشركين جار ومجرور متعلقان ببريء ،
ورسوله فيه أوجه : أحدها أنه مبتدأ والخبر محذوف أي ورسوله بريء منهم وإنما حذف
لدلالة الأول عليه وهذا أصح الأوجه ، وقيل : هو معطوف على محل اسم أن أو معطوف على
الضمير المستتر في الخبر. وسيأتي ما في هذه الآية من أبحاث تتعلق بالنحو في باب
الفوائد. (فَإِنْ تُبْتُمْ
فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) الفاء عاطفة أو استئنافية وإن شرطية وتبتم فعل ماض
وفاعل وهو في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة وهو مبتدأ وخير خبره ولكم جار ومجرور
متعلقان بخير.
(وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ
فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) وإن توليتم عطف على إن تبتم وأنكم أن واسمها وقد سدت
مسد مفعولي اعلموا وغير خبر أن ومعجزي الله مضاف إليه. (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ
أَلِيمٍ) الواو عاطفة وبشر فعل أمر وفاعل مستتر والذين مفعول به
وجملة كفروا صلة وبعذاب جار ومجرور متعلقان ببشر وأليم نعت.
الفوائد :
١ ـ ما يقوله التاريخ في معاهدة الحديبية :
عاهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم قريشا يوم الحديبية ، على أن يضعوا الحرب عشر سنين يأمن فيها
الناس ، ودخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودخلت بنو بكر في عهد
قريش ، ثم عدت بنو بكر على خزاعة فنالوا منهم وأعانتهم قريش بالسلاح ، فلما تظاهرت
بنو بكر وقريش على خزاعة ونقضوا عهدهم ، خرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى وقف على
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنشد :
لا هم إني
ناشد محمدا
|
|
حلف أبينا
وأبيه الأتلدا
|
إن قريشا
أخلفوك الموعدا
|
|
ونقضوا ذمامك
المؤكدا
|
هم بيّتونا
بالحطيم هجّدا
|
|
وقتلونا
ركّعا وسجدا
|
فقال عليه
الصلاة والسلام : لا نصرت إن لم أنصركم ، وتجهز الى مكة. ففتحها سنة ثمان من
الهجرة ، فلما كانت سنة تسع أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحج فقيل له :
المشركون يحضرون ويطوفون بالبيت عراة ، فقال لا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك ، فبعث
أبا بكر تلك السنة أميرا على الموسم ليقيم للناس الحج ، وبعث معه أربعين آية من
صدر براءة ليقرأها على أهل الموسم ، ثم بعث بعده عليا على ناقته العضباء ليقرأ على
الناس صدر براءة ، وأمره أن يؤذن بمكة ومنى وعرفة : أن قد برئت ذمة رسول الله صلى
الله عليه وسلم من كل شرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، فرجع أبو بكر فقال : يا رسول
الله بأبي أنت وأمي أنزل في شأني شيء فقال : لا ، ولكن لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا
إلا رجل من أهلي ، أما ترضى يا أبا بكر أنك كنت معي في الغار وأنك معي على الحوض؟
فقال : بلى يا رسول الله ، فسار أبو بكر أميرا على الحاج ، وعلي بن أبي طالب يؤذن
ببراءة ، فلما كان قبل يوم التروية بيوم قام أبو بكر فخطب الناس وحدثهم عن مناسكهم
، وأقام للناس الحج ، والعرب في تلك السنة على معاهدهم التي كانوا عليها في
الجاهلية من أمر الحج ، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب فأذن في الناس
بالذي أمر به وقرأ عليهم أول سورة براءة.
وقال يزيد بن
تبيع : سألنا عليا بأي شيء بعثت في الحجة؟ قال : بعثت بأربع : لا يطوف بالبيت
عريان ، ومن كان بينه وبين النبي عهد فهو
إلى مدته ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر ، ولا يدخل الجنة إلا نفس
مؤمنة ، ولا يجتمع المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا في الحج ، ثم حج رسول الله
صلى الله عليه وسلم سنة عشر حجة الوداع.
سبب وضع علم النحو :
جيء الى عمر بن
الخطاب برجل يقرأ : «إن الله بريء من المشركين ورسوله» بالجر ، فسأله ، فقال :
هكذا قرأت في المدينة ، فقال عمر :ليس هكذا ، إنما هي ورسوله ، بضم اللام ، فإن
الله لا يبرأ من رسوله ثم أمر أن لا يقرأ القرآن إلا عالم بالعربية ، ودعا بأبي
الأسود الدؤلي فأمره أن يضع النحو. فمقتضى هذه الرواية أن هذا العلم لم يكن معروفا
قبل أبي الأسود ، وأن كلام الناس قبله إنما كان بمجرد الفطرة وهو المعهود.
هذا وقد اشتهر
أن أبا الأسود الدؤلي هو أول من وضع علم النحو قالوا : انه سمع ابنته يوما تلحن
فذهب الى علي بن أبي طالب ، فقال له : فشا اللحن في أبنائنا وأخشى أن تضيع اللغة
فقال له الامام : اكتب بسم الله الرّحمن الرّحيم الكلام كلّه ثلاثة : اسم وفعل
وحرف ، فالاسم كذا والفعل كذا والحرف كذا ، والأسماء ثلاثة : ظاهر ومضمر ومبهم ،
والفاعل مرفوع أبدا ، والمفعول منصوب أبدا ، والمضاف مجرور أبدا ، فافهم وقس ، وما
عنّ لك من الزيادة فاضممه.
ولكن قال
السيوطي في المزهر : إن العروض والنحو كانا قديمين وأتت عليهما الأيام فقلّا في
أيدي الناس ، فجدّدهما الخليل وأبو الأسود ، واستدل على قدم العروض بما بسطه هناك
، وعلى قدم النحو
بما منه : كتابة المصحف على الوجه الذي يعلله النحاة في ذوات الواو والياء
والهمز والمدّ والقصر ، فكتبوا ذوات الياء بالياء وذوات الواو بالألف.
ونحن نؤيد هذا
الرأي الطريف للسيوطي .. مستدلين بما يلي :
١ ـ تبيين علي
بن أبي طالب لأبي الأسود جملا من القواعد الاصطلاحية السابقة ، إذ كون ذلك ألهمه
الإمام خاصة بعيد ، ويبعده أيضا قوله لأبي الأسود : وما عنّ لك من الزيادة فاضممه
إليه ، أي مما كان كهذه الضوابط ، فهذا صريح أو كالصريح في أن هذا العلم كان
معروفا بينهم أو بين أفراد منهم لا مجرد صحة النطق سليقة.
٢ ـ قول عمر بن
الخطاب : «لا يقرأ القرآن إلا عالم باللغة العربية» فإن المتبادر منه قواعدها
وأصولها التي بها يعرف وجوه الكلام بمعونة المقام ، إذ لو كان المراد مجرد
المتكلمين بالصواب لزم منع كل عجمي منه ، ولم يكن وجه للتخصيص بالعالم باللغة
بالنظر الى العرب إذ القوم جميعا أعراب معتدلو الألسنة بالسليقة ، وتجويزه القرآن
لمن كان عارفا دون غيره صريح في أن منهم عارفين باللغة ومنهم جاهلين بها ، فيلزم
أن يكون معرفة العارفين قدرا زائدا على ما عند غيرهم ، وليس إلا القواعد والضوابط.
٣ ـ إنه حيث
كان علم العروض واصطلاحاته معلوما لدى بعض العرب كما صرح به الوليد بن المغيرة إذ
قال في القرآن لما قيل انه شعر : لقد عرضته على هزجه ورجزه فلم أره يشبه شيئا من
ذلك ، والشعر لم بكن إلا لأفراد من العرب ، فلأن تكون قواعد العربية التي هي
لسانهم جميعا معلومة عند البعض أولى.
(إِلاَّ الَّذِينَ
عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ
يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى
مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ
الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ
وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا
الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(٥))
اللغة :
(المرصد) اسم
مكان للموضع الذي يقعد فيه العدو أو يمر به أو يجتازه فهو كممر ومجتاز ، وهو من
رصدت الشيء إذا ترقبته.
الاعراب :
(إِلَّا الَّذِينَ
عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) في هذا الاستثناء وجهان : أحدهما أنه منقطع أي لكن
الذين عاهدتم فإن حكمهم كذا وكذا فالذين مبتدأ خبره جملة فأتموا ، والثاني أنه
متصل فهو مستثنى من المشركين في قوله تعالى «براءة من الله ورسوله» ـ الى ـ «الذين
عاهدتم من المشركين» وهم بنو ضمرة حي من كنانة ، أمر الله رسوله صلى الله عليه
وسلم بإتمام عهدهم الى مدتهم وكان قد بقي من مدتهم تسعة أشهر ،
وكان السبب فيه أنهم لم ينقضوا العهد ، والمعنى على كل حال.
لا تجروا
البريء مجرى المذنب والوافي مجرى الغادر ، وجملة عاهدتم صلة ومن المشركين حال. (ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً
وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ولم حرف نفي وقلب وجزم
وينقصوكم مجزوم بلم وشيئا إما مفعول ثان لنقص لأنه يتعدى لواحد ولاثنين وإما مصدر
مفعول مطلق أي شيئا من النقصان أو لا قليلا ولا كثيرا من النقصان ، ولم يظاهروا
عطف على لم ينقصوكم وعليكم جار ومجرور متعلقان بيظاهروا وأحدا مفعول به أي لم
يعاونوا عليكم عدوا كما عدت بنو بكر على خزاعة وقد تقدمت قصتها. (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى
مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) الفاء عاطفة أتموا فعل أمر والواو فاعل وإليهم جار
ومجرور متعلقان بأتموا وعهدهم مفعول به وإلى مدتهم بدل من إليهم وإن واسمها وجملة
يحب المتقين خبرها.
(فَإِذَا انْسَلَخَ
الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) الفاء عاطفة أو استئنافية وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى
الشرط وجملة انسلخ مضافة للظرف والأشهر فاعل والحرم صفة وقد تقدم أنها شوال وذو
القعدة وذو الحجة والمحرم وهي التي أبيح فيها للناكثين أن يسيحوا. (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ) الفاء رابطة واقتلوا المشركين فعل أمر وفاعل ومفعول به
وحيث ظرف متعلق باقتلوا وجملة وجدتموهم مضافة للظرف.
(وَخُذُوهُمْ
وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) وخذوهم عطف على اقتلوا أي واسروهم واحصروهم عطف أيضا أي
قيدوهم وامنعوهم من التجوال في البلاد ، واقعدوا عطف أيضا ولهم متعلقان باقعدوا
وكل مرصد نصب على الظرف كقوله : «لأقعدن لهم صراطك المستقيم» وهو اختيار الزجاج
واختار بعضهم أن يكون منصوبا بنزع الخافض.
والخافض المقدر
هو «على» أو «الباء الظرفية» أو «في» ويجوز
أن يعرب مفعولا مطلقا كأنه قيل وارصدوهم كل مرصد. وقد خطّأ أبو علي الفارسي
الزجاج في جعله ظرفا. (فَإِنْ تابُوا
وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) الفاء استئنافية وإن شرطية وتابوا فعل وفاعل في محل جزم
فعل الشرط وأقاموا الصلاة عطف على تابوا وكذلك قوله : وآتوا الزكاة ، فخلوا الفاء
رابطة وخلوا فعل أمر وفاعل وسبيلهم مفعول به. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) سبق إعرابها.
(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ
أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦) كَيْفَ
يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ
عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا
لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا
عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ
بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا
بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما
كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً
وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠))
اللغة :
(الإلّ) اختلف
اللغويون والمفسرون في هذه الكلمة اختلافا شديدا. قال في أساس البلاغة : «لا
يرقبون في مؤمن إلّا ولا ذمة» أي قرابة ، وفي القاموس وشروحه : الإلّ العهد والجار
والأصل الجيد والعداوة والحقد ، وقال أبو عبيدة : إن المراد به العهد ، وقال
الفراء :إن المراد به القرابة ، وقال آخرون : إن الإل هو الجؤار وهو رفع الصوت عند
التحالف ، وذلك أنهم كانوا إذا تحالفوا جأروا بذلك جؤارا ، وقيل هو من أل البرق إذ
لمع ، ويجمع الإل في القلة على آلّ ، والأصل أألل بزنة أفلس فأبدلت الهمزة الثانية
ألفا لكونها بعد أخرى مفتوحة وأدغمت اللام في اللام ، وأنشد لحسان بن ثابت :
لعمرك إن
إلّك من قريش
|
|
كإلّ السقب
من رأل النعام
|
وهذا صريح في
أن معناه : القرابة ، والسقب خوار الناقة ، والرأل ولد النعام ، ومعنى البيت :
وحياتك إن قرابتك من قريش بعيدة أو معدومة كقرابة ولد الناقة من ولد النعام. وقال
الزجاج : «الإل عندي على ما توجبه اللغة يدور على معنى الحدة ، ومنه الألة للحربة
، ومنه أذن مؤللة أي محددة ، ومنه قول طرفة بن العبد يصف أذني ناقته بالحدة
والانتصاب :
مؤللتان تعرف
العتق فيهما
|
|
كسامعتي شاة
بحومل مفرد
|
الاعراب :
(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ) الواو استئنافية وإن شرطية وأحد مرتفع بفعل الشرط مضمرا
يفسره الظاهر تقديره : وإن استجارك
أحد استجارك ولا يرتفع بالابتداء لأن الشرط يقتضي الفعل وإن من عوامل الفعل
لا تدخل على غيره ، والمعنى وإن جاءك أحد من المشركين لا عهد بينك وبينه فاستأمنك
فأمنه ، ومن المشركين صفة وجملة استجارك مفسرة (فَأَجِرْهُ حَتَّى
يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) الفاء رابطة وأجره فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وحتى
حرف غاية وجر ويسمع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والجار والمجرور متعلقان بأجره وكلام
الله مفعول به. (ثُمَّ أَبْلِغْهُ
مَأْمَنَهُ) ثم حرف عطف وأبلغه فعل أمر ومفعول به أول ومأمنه مفعول
به ثان. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) ذلك مبتدأ أي ذلك الأمر يعني الأمر بالإجارة وإبلاغ
المأمن. وبأنهم خبر وقوم خبر إن وجملة لا يعلمون صفة. (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ
عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) هذا تركيب تجوز فيه أعاريب عديدة متساوية في الأرجحة
:فكيف اسم استفهام في معنى الاستنكار والاستبعاد خبر مقدم ليكون وعهد اسم يكون
مؤخر وللمشركين حال ويجوز أن يكون الخبر للمشركين وكيف حال. ويجوز أن يكون قوله
عند الله هو الخبر وكيف حال أيضا من العهد أما في الوجهين السابقين فتكون عند ظرفا
للعهد وعند رسوله عطف على عند الله. (إِلَّا الَّذِينَ
عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) تقدم القول في مثل هذا الاستثناء وأنه يجوز فيه
الانقطاع والاتصال. (فَمَا اسْتَقامُوا
لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) الفاء استئنافية وما مصدرية ظرفية وهي في محل نصب على
الظرف أي فاستقيموا لهم مدة استقامتهم لكم ويجوز أن تكون شرطية وحينئذ ففي محلها
وجهان أولهما : النصب على الظرفية الزمانية والتقدير أي زمان استقاموا لكم
فاستقيموا لهم ، ونظره أبو البقاء بقوله تعالى : «ما يفتح الله للناس من رحمة فلا
ممسك لها» والثاني أنها في محل رفع مبتدأ وفي الخبر القول المشهور في خبر أداة
الشرط ، واستقاموا فعل ماض في
محل جزم فعل الشرط إن اعتبرت شرطية والفاء رابطة على كل حال واستقيموا فعل
أمر وفاعل. هذا وقد أجاز ابن مالك في ما المصدرية الزمانية أن تكون شرطية جازمة في
وقت واحد قال أبو البقاء ولا يجوز أن تكون نافية لفساد المعنى إذ يصير المعنى
استقيموا لهم لأنهم لم يستقيموا لكم وذلك باطل وإن الله إن واسمها وجملة يحب
المتقين خبرها. (كَيْفَ؟ وَإِنْ
يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) كيف تكرار لما تقدم لاستبعاد ثبات المشركين على العهد
وحذف الفعل لكونه معلوما أي فهو حال أو خبر كان المحذوفة وقد ورد هذا الحذف في
أشعارهم ، قال كعب الغنوي يرثي أخاه :
وخبر تماني
انما الموت بالقرى
|
|
فكيف وهاتا
هضبة وقليب
|
أي كيف مات أخي
فيها ، والقليب البئر لأنه قلب ترابه من بطن الأرض الى ظهرها. وإن الواو للحال وإن
شرطية ويظهروا فعل الشرط وعليكم جار ومجرور متعلقان به ولا يرقبوا جواب الشرط
وفيكم متعلقان بيرقبوا وإلّا مفعول به وذمة عطف عليه. (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى
قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) جملة مستأنفة مسوقة لوصف حالهم من مغايرة ظاهرهم
لباطنهم ، بأفواههم جار ومجرور متعلقان بيرضونكم وتأبى قلوبهم عطف عليه أي أن
كلامهم مزوق مزخرف قد يروق سامعه ولكنه لا ينطوي على أي صدق لأن الضغن الساكن في
قلوبهم يمنعهم من تحقيق كلامهم المعمول ، وأكثرهم مبتدأ وفاسقون خبر أي أنهم خلعاء
فجرة لا يأبهون لمعرة ولا يعبئون بما يقال فيهم من سيء الأحدوثة. (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً
قَلِيلاً) أي استبدلوا بآيات الله ثمنا قليلا وهو انسياقهم مع
الأهواء وانجرارهم مع الشهوات والآثام ، وثمنا مفعول اشتروا وقليلا صفة. (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ
ساءَ
ما كانُوا يَعْمَلُونَ) يجوز في ساء أن يكون على بابه من التصرفه والتعدي فتكون
ما فاعلا والمفعول به محذوف أي ساءهم الذي كانوا يعملونه أو عملهم إذا جعلت ما
مصدرية ، ويجوز أن يكون جاريا مجرى بئس فيحول الى فعل بالضم ويمتنع تصرفه ويصير
للذم ويكون المخصوص بالذم محذوفا وقد سبق تقرير ذلك. (لا يَرْقُبُونَ فِي
مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) تقدم اعراب نظيرها وكررها زيادة في تقبيح حالهم
واستهجان مآلهم. (وَأُولئِكَ هُمُ
الْمُعْتَدُونَ) تقدم أيضا ويجوز أن يكون هم ضمير فصل أو مبتدأ ثانيا.
(فَإِنْ تابُوا
وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ
الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ
عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا
أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢))
الاعراب :
(فَإِنْ تابُوا
وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) الفاء استئنافية وإن شرطية وتابوا فعل ماض في محل جزم
فعل الشرط وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة والجملتان عطف على تابوا. (فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) الفاء رابطة وإخوانكم خبر لمبتدأ محذوف أي فهم إخوانكم
وفي الدين حال والجملة الاسمية في محل جزم على أنها جواب الشرط (وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ) الواو اعتراضية والجملة معترضة كأنه قيل : وإن من
تأمل بتفصيلها فهو العالم بحقيقتها ولقوم جار ومجرور متعلقان بنفصل وجملة
يعلمون صفة (وَإِنْ نَكَثُوا
أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) الواو عاطفة ومن بعد عهدهم حال وطعنوا في دينكم عطف
أيضا أي وثلبوه وعابوه والجار والمجرور متعلقان بطعنوا. (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ
إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) الفاء رابطة وقاتلوا فعل أمر وفاعل وأئمة الكفر مفعول
به ، انهم ان واسمها ولا نافية للجنس وأيمان اسمها ولهم خبرها والجملة خبر انهم ،
ولعل واسمها وجملة ينتهون خبرها.
(أَلا تُقاتِلُونَ
قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ
أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ
وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ
غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
(١٥))
الاعراب :
(أَلا تُقاتِلُونَ
قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) ألا حرف تحضيض وستأتي أحرف التحضيض في باب الفوائد.
وتقاتلون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل وقوما مفعول به وجملة نكثوا
أيمانهم صفة
قوما ويجوز أن تكون الهمزة للاستفهام ولا نافية ودخلت الهمزة عليها تقريرا
لنفي المقاتلة والحض عليها من جهة أخرى (وَهَمُّوا بِإِخْراجِ
الرَّسُولِ) عطف على نكثوا وبإخراج متعلقان بهموا وقد تقدم أنهم
هموا بأحد أمور ثلاثة : قتله وحبسه وإخراجه (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ
أَوَّلَ مَرَّةٍ) الواو عاطفة وهم مبتدأ وجملة بدءوكم خبر وأول مرة نصب
على الظرف متعلق ببدءوكم والبادئ أظلم. (أَتَخْشَوْنَهُمْ
فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الهمزة للاستفهام ومعناها النهي أي لا تخشوهم فالله
الفاء الفصيحة والله مبتدأ وأحق خبر وان تخشوه المصدر المؤول بدل اشتمال من الله
أي خشية الله أحق وإن شرطية وكنتم فعل الشرط ومؤمنين خبر كنتم وجواب الشرط محذوف
دلت عليه الفاء الفصيحة. (قاتِلُوهُمْ
يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) قاتلوهم فعل أمر وفاعل ومفعول به ويعذبهم جواب الطلب
جزم به وهو واحد من خمسة أجوبة ستأتي وهي : (وَيُخْزِهِمْ
وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ
قُلُوبِهِمْ) وجميعا معطوفة على يعذبهم (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى
مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) الواو استئنافية ويتوب جملة مستأنفة ولم ينسقها على
الأجوبة المتقدمة لأن توبة الله عن من يشاء ليست جزاء على قتال الكفار.
الفوائد :
١ ـ حروف
التحضيض هي : لو لا ولو ما وهلا وألا. قال الله تعالى : «لو لا أخرتني إلى أجل
قريب» وقال : «لو ما تأتينا بالملائكة» وقال عنترة :
هلا سألت
الخيل يا ابنة مالك
|
|
إن كنت جاهلة
بما لم تعلمي
|
والتحضيض هو
الحث على الشيء ، ويقال حضضته على فعله إذا حثثته عليه ، وإذا وليهنّ المستقبل كنّ
تحضيضا وإذا وليهنّ الماضي كن لوما وتوبيخا فيما تركه المخاطب ، وقد جرت مجرى حروف
الشرط في اقتضائها الأفعال فلا يقع بعدها مبتدأ ولا غيره من الأسماء فإن وقع بعدها
اسم ، كان في نية التأخير نحو قولك : هلا زيدا ضربت والمراد هلا ضربت زيدا ، أو
على تقدير فعل محذوف نحو قولك لفاعل الإكرام :هلا زيدا ، أي هلا أكرمت زيدا قال
الشاعر وهو جرير :
تعدون عقر
النيب أفضل مجدكم
|
|
بني ضوطرى لو
لا الكمي المقنعا
|
فأضمر فعلا نصب
الكمي المقنعا والمعنى : إن هؤلاء بني ضوطرى والضوطرى الضخم الذي لا غناء عنده ،
يمشون بالإطعام والضيافة ويجعلون الكرم أكبر مجدهم ، فالناصب للكمي هو الفعل
المراد بعد لو لا وتقديره تلقون أو تبارزون أو نحو ذلك.
٢ ـ يجزم الفعل
المضارع إذا وقع جوابا لأمر أو نهي أو استفهام أو تمنّ أو عرض أو حض وذلك بأن
مضمرة نحو قولك أكرمني أكرمك ، ولا تفعل يكن خيرا لك ، وألا تأتيني أحدثك ، وأين
بيتك أزرك ، وألا ماء أشربه ، وليته عندنا يحدثنا ، قال الخليل : إن هذه الأوائل
كلها فيها معنى «إن» فلذلك انجزم الجواب ، وقال النحويون إنه لا يجوز أن تقول : لا
تدن من الأسد يأكلك لأن التقدير إن لا تدن من الأسد يأكلك ، وهذا محال لأن تباعده
لا يكون سببا لأكله ، وللنحاة هنا كلام طويل يرجع اليه في المطولات.
٣ ـ أفاض
الشعراء في معنى قوله تعالى «ويذهب غيظ قلوبهم» لأن العرب قوم جبلوا على الحمية
والأنفة. فرغبتهم في إدراك الثأر وقتل الأعداء هي اللائقة بطباعهم. وقد رمق سماء
هذا المعنى أبو تمام فقال :
إن الأسود
أسود الغاب همتها
|
|
يوم الكريهة
في المسلوب لا السلب
|
(أَمْ
حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ
وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ
وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦) ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ
يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ
حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧))
اللغة :
(وَلِيجَةً) فعلية من ولج كالدخيلة من دخل ، وكل شيء أدخلته في شيء
وليس منه فهو وليجة ، ويكون للمفرد وغيره بلفظ واحد ، وقد تجمع على ولائج ، ووليجة
الرجل من يداخله في باطن أموره ، وفي المصباح : ولج الشيء في غيره يلج من باب وعد
ولوجا دخل وأولجته إيلاجا أدخلته ، والوليجة : البطانة.
الاعراب :
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تُتْرَكُوا) أم منقطعة وسيأتي حكمها ، وحسبتم فعل وفاعل وأن وما في
حيزها سدت مسد مفعولي حسبتم والمعنى :إنكم لا تتركون على ما أنتم عليه حتى يتبين
المخلص منكم (وَلَمَّا يَعْلَمِ
اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) الواو للحال ولما حرف جازم تفيد التوقع ويعلم مجزوم بها
والله فاعل والذين مفعول به وجملة جاهدوا صلة ومنكم حال. (وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ
وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) الواو عاطفة ولم حرف نفي وقلب وجزم ويتخذوا مضارع مجزوم
بلم ومن دون الله متعلقان بيتخذوا ولا رسوله عطف على الله ووليجة مفعول به. (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) تقدم إعرابها كثيرا. (ما كانَ
لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) ما نافية وكان فعل ماض ناقص وللمشركين خبر كان المقدم
وأن وما في حيزها اسمها المؤخر.
(شاهِدِينَ عَلى
أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) شاهدين حال من الواو في يعمروا وعلى أنفسهم جار ومجرور
متعلقان بشاهدين وكذلك قوله بالكفر أي ما صح ولا استقام في العرف والطبع أن يجمعوا
بين عمارة المساجد والكفر وهما متناقضان. (أُولئِكَ حَبِطَتْ
أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) أولئك مبتدأ وجملة حبطت أعمالهم خبر وفي النار جار
ومجرور متعلقان بخالدون وهم مبتدأ وخالدون خبر.
الفوائد :
تقع «أم» على
أربعة أوجه :
١ ـ متصلة أي
أن ما قبلها وما بعدها لا يستغنى بأحدهما عن
الآخر وتسمى معادلة لمعادلتها للهمزة في إفادة التسوية إن كانت الهمزة التي
قبلها للتسوية. نحو قوله تعالى في سورة المنافقون : «سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم
تستغفر لهم» أو كانت لطلب التعيين نحو : أفي الدار زيد أم عمرو.
٢ ـ منقطعة وهي
مسبوقة بالخبر المحض نحو قوله تعالى :«تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم
يقولون افتراه» ومسبوقة بالهمزة التي تفيد معنى آخر غير الاستفهام كالإنكار مثل :«ألهم
أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها» فهي بمثابة النفي ، ومعنى «أم» المنقطعة
التي لا يفارقها الإضراب.
٣ ـ أن تقع
زائدة ذكره أبو زيد وقال في قوله تعالى : «أفلا تبصرون أم أنا خير» إن التقدير
أفلا تبصرون أنا بخير.
٤ ـ أن تكون
للتعريف في لسان حمير وطيء.
أمثلة شعرية
لأم :
١ ـ وما أدري وسوف أخال أدري
|
|
أقوم آل حصن
أم نساء
|
فهنا وقعت
متصلة وتقدمت عليها همزة الاستفهام وهي لغير التسوية.
٢ ـ ولست أبالي بعد فقدي مالكا
|
|
أموتي ناء أم
هو الآن واقع
|
فهنا وقعت
متصلة بعد همزة التسوية.
٣ ـ أحاد أم سداس في أحاد
|
|
لييلتنا
المنوطة بالتناد
|
يحتمل أن تكون
أم متصلة ومنقطعة.
(إِنَّما يَعْمُرُ
مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ
وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ
الْمُهْتَدِينَ (١٨) أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ
لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩)
الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠)
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها
نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ
عَظِيمٌ (٢٢))
الاعراب :
(إِنَّما يَعْمُرُ
مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ
وَآتَى الزَّكاةَ) إنما كافة ومكفوفة ويعمر مساجد الله فعل مضارع ومفعول
به مقدم والمراد بعمارتها رمّ ما استرمّ منها ، وتنظيفها وتنويرها وتعظيمها
وتأثيثها بالرياش الفاخر المقتنى ، ومن اسم موصول فاعل يعمر وجملة آمن صلة وما
بعده عطف عليه وإعرابه ظاهر.
(وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا
اللهَ) الواو عاطفة ولم حرف نفي وقلب وجزم ويخش
مجزوم بلم والفاعل مستتر يعود على من آمن وإلا أداة حصر ولفظ الجلالة مفعول
به. (فَعَسى أُولئِكَ أَنْ
يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) الفاء الفصيحة وعسى فعل ماض من أفعال الرجاء وأولئك
اسمها وأن يكونوا خبرها ومن المهتدين خبر يكونوا ، أي فحال هؤلاء الموصوفين
بالصفات الأربع مرجوة والعاقبة عند الله معلومة. (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ
الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ) جملة مستأنفة مسوقة لخطاب المشركين على طريق الالتفات
عن الغيبة في قوله «ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله» والهمزة للاستفهام
الإنكاري التوبيخي وجعلتم سقاية الحاج فعل وفاعل ومفعول به أول وعمارة المسجد
الحرام عطف على سقاية الحاج والكاف اسم بمعنى مثل مفعول به ثان ومن مضاف اليه
وجملة آمن صلة ولا بد من حذف مضاف إما من الأول وإما من الثاني ليتصادق المجعولان
والتقدير :أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن أو أجعلتم السقاية
والعمارة كإيمان من آمن أو كعمل من آمن. (وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ
اللهِ) عطف على آمن. (لا يَسْتَوُونَ
عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) استئناف مؤكد لإبطال المساواة أي لا يستوي الفريقان.
والله مبتدأ
وجملة لا يهدي القوم الظالمين خبر ، وقد أورد التعليل لنفي المساواة في المعنى. (الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا
وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً
عِنْدَ اللهِ) كلام مستأنف مسوق لتقرير حالة الموصوفين بهذه الأوصاف
الثلاثة المذكورة ، والذين مبتدأ وآمنوا صلة وما بعده عطف عليه وأعظم خبر ودرجة
تمييز وعند الله الظرف حال. (وَأُولئِكَ هُمُ
الْفائِزُونَ) مبتدأ وخبر وهم ضمير فصل أو مبتدأ ثان وقد تقدم نظيره. (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ
مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ) يبشرهم ربهم فعل مضارع ومفعول به وفاعل وبرحمة جار
ومجرور
متعلقان بيبشرهم ومنه صفة وبرضوان وجنات معطوفان على رحمة.
(لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ
مُقِيمٌ) لهم خبر مقدم وفيها حال ونعيم مبتدأ مؤخر ومقيم صفة (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) خالدين حال مقدرة وفيها متعلقان بخالدين وأبدا ظرف
متعلق بخالدين أيضا. (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ
أَجْرٌ عَظِيمٌ) إن واسمها والظرف خبر مقدم وأجر مبتدأ مؤخر وعظيم صفة
والجملة الاسمية خبر ان.
البلاغة :
في هذه الآيات
فنون من البلاغة نوردها فيما يلي :
أولا ـ التشبيه الصناعي وأغراضه :
١ ـ التشبيه
الذي خرج به الكلام مخرج الإنكار في قوله تعالى : «أجعلتم سقاية الحاج وعمارة
البيت الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر» فهذا إنكار على من جعل حرمة الجهاد
كحرمة من آمن بالله واليوم الآخر وفي ذلك أوفى دلالة على تعظيم حال المؤمن
بالإيمان وأنه لا يساوى به مخلوق ليس على صفته وهو أحد أغراض التشبيه الصناعي.
٢ ـ إخراج
الأغمض الى الأظهر بالتشبيه والى ما تقع عليه الحاسة كقوله تعالى : «والذين كفروا
أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا» وسيأتي مزيد من
الكلام على هذه الآية.
٣ ـ ومنها
إخراج ما لم تجربه العادة الى ما جرت به العادة كقوله تعالى : «وإذ نتقنا الجبل
فوقهم كأنه ظلة».
٤ ـ ومنها
إخراج ما لا يعلم بالبديهة الى ما يعلم بالبديهة كقوله تعالى : «وجنة عرضها
السماوات والأرض».
٥ ـ منها إخراج
ما لا قوة له في الصفة الى ما له قوة في الصفة كقوله تعالى : «وله الجوار المنشآت
في البحر كالأعلام».
٦ ـ ومنها بيان
إمكان المشبه وذلك حين يسند اليه أمر مستغرب لا تزول غرابته إلا بذكر شبيه له كقول
البحتري :
دان الى أيد
العفاة وشاسع
|
|
عن كل ندّ في
الندى وضريب
|
كالبدر أفرط
في العلو وضوءه
|
|
للعصبة
السّارين جد قريب
|
فقد وصف
البحتري ممدوحه في البيت الأول بأنه قريب للمحتاجين ، بعيد المنزلة ، بينه وبين
نظرائه في الكرم بون شاسع ، ولكن البحتري حينما أحس بأنه وصف ممدوحه بوصفين
متضادين هما : القرب والبعد. أراد أن يبين لك أن ذلك ممكن وأن ليس في الأمر تناقض
، فشبه ممدوحه بالبدر الذي هو في السماء ولكن ضوءه قريب جدا للسائرين بالليل.
٧ ـ ومنها بيان
حاله وذلك حينما يكون المشبه غير معروف الصفة قبل التشبيه فيفيده التشبيه الوصف
كقول النابغة :
كأنك شمس
والملوك كواكب
|
|
إذا طلعت لم
يبد منهنّ كوكب
|
فقد شبه
النابغة ممدوحه بالشمس وشبه غيره من الملوك بالكواكب ، لأن سطوة الممدوح تغض من
سطوة كل ملك كما تخفي الشمس الكواكب ، فهو يريد أن يبين حال الممدوح وحال غيره من
الملوك.
٨ ـ ومنها
تقرير حاله وذلك إذا كان المشبه معروف الصفة قبل التشبيه معرفة إجمالية ، وكان
التشبيه يبين مقدار هذه الصفة ، كقوله تعالى : «والذين يدعون من دونه لا يستجيبون
لهم بشيء إلا كباسط كفيه الى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه» فقد تحدثت الآية في
شأن من يعبدون الأوثان وأنهم إذا دعوا آلهتهم لا يستجيبون لهم ، ولا يرجع إليهم
هذا الدعاء بفائدة ، وقد أراد الله تعالى أن يقرر هذه الحال ويثبتها في الأذهان ،
فشبه هؤلاء الوثنيين بمن يبسط كفيه الى الماء ليشرب فلا يصل الماء الى فمه
بالبداهة ، لأنه يخرج من خلال أصابعه ما دامت كفاه مبسوطتين ، ويأتي هذا الغرض
حينما يكون المشبه أمرا معنويا لأن النفس لا تجزم بالمعنويات جزمها بالحسيات فهي
في حاجة دائمة الى الاقناع.
٩ ـ تزيين
المشبه كقول أبي الحسن الأنباري في مصلوب :
مددت يديك
نحوهم احتفاء
|
|
كمدهما إليهم
بالهبات
|
وهذا البيت من
قصيدة نالت شهرة بعيدة في الأدب العربي لا لشيء إلا لأنها حسنت ما أجمع الناس على
قبحه والاشمئزاز منه وهو الصلب ، فهو يشبه مد ذراعي المصلوب على الخشبة والناس
حوله بمدّ ذراعيه بالعطاء للسائلين أيام حياته ، والغرض من هذا التشبيه التزيين ،
وأكثر ما يكون هذا النوع في المديح والرثاء والفخر ووصف ما تميل اليه النفوس.
١٠ ـ تقبيح
المشبه كقول أحد الأعراب في ذم امرأته :
وتفتح ـ لا
كانت ـ فما لو رأيته
|
|
توهمته بابا
من النار يفتح
|
فهو يدعو على
امرأته بالحرمان من الوجود فيقول لا كانت ويشبه فمها حينما تفتحه بباب من أبواب
جهنم ، والغرض من هذا التشبيه التقبيح ، وأكثر ما يستعمل في الهجاء ووصف ما تنفر
منه النفوس ، ومنه قول المتنبي :
وإذا أشار
محدثا فكأنه
|
|
قرد يقهقه أو
عجوز تلطم
|
هذا وسيأتي
المزيد من بحث التشبيه فيما يأتي.
ثانيا ـ اللف والنشر :
في قوله تعالى
: «يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم» بعد أن وصف المؤمنين
بثلاث صفات وهي : الايمان والهجرة والجهاد بالنفس والمال ، فبدأ بالرحمة في مقابلة
الايمان لتوقفها عليه وثنى بالرضوان الذي هو نهاية الإحسان في مقابلة الجهاد الذي
فيه بذل الأنفس والأموال ، ثم ثلث بالجنات في مقابلة الهجرة وترك الأوطان ، إشارة
الى أنهم لما آثروا تركها بدلهم دارا عظيمة دائمة وهي الجنات وهذا فنّ طريف عرّفوه
: بأنه ذكر متعدد على وجه التفصيل أو الإجمال ، ثم ذكر ما لكل واحد من المتعدد من
غير تعيين ، ثقة بأن السامع يميز ما لكل واحد منها ثم يرده الى ما هو له ، أما قسم
التفصيل فهو ضربان :
آ ـ أن يكون
النشر على ترتيب اللف ، بأن يكون الأول من المتعدد في النشر للأول من المتعدد في
اللف والثاني للثاني وهكذا الى الآخر. قال أحدهم :
ومقرطق يغني
النديم بوجهه
|
|
عن كأسه
الملأى وعن إبريقه
|
فعل المدام
ولونها ومذاقها
|
|
في مقلتيه
ووجنتيه وريقه
|
وكالآية التي
نحن بصددها.
ب ـ أن يكون
النشر على غير ترتيب اللف كقول أبي فراس :
وشادن قال لي
لما رأى سقمي
|
|
وضعف جسمي
والدمع الذي انسجما
|
أخذت دمعك من
خدي وجسمك من
|
|
خصري وسقمك
من طرفي الذي سقما
|
وأما قسم
الإجمال فهو أن تلف الشيئين في الذكر ثم تتبعهما كلاما مشتملا على متعلق بأحدهما
ومتعلق بآخر من غير تعيين كقوله تعالى : «وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو
نصارى» فذكر الفريقين على طريق الإجمال دون التفصيل ثم ذكر ما لكل منهما ،
فالمتعدد المذكور اجمالا هو الفريقان أو قولهما ، والأصل : قالت اليهود لن يدخل
الجنة إلا من كان هودا ، وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى ، فلف بينهما
لعدم الالتباس وللثقة بأن السامع يرد إلى كل فريق قوله.
ثالثا : تنكير
المبشر به وهو قوله : «يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات» لوقوعه وراء صفة
الواصف وتعريف المعرف.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ
اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ
فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ
وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها
وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ
اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ
بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤))
اللغة :
(العشيرة) هي
الأهل الأدنون ، وقيل هم أهل الرجل الذين يتكثر بهم سواء بلغوا العشرة أم فوقها ،
وقيل : هي الجماعة المجتمعة بنسب أو عقد أو وداد كعقد العشرة.
الاعراب :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعرابه. (لا تَتَّخِذُوا
آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ) لا ناهية وتتخذوا مضارع مجزوم بلا الناهية والواو فاعل
وآباءكم مفعول به وإخوانكم عطف عليه وأولياء مفعول به ثان والجملة استئنافية مسوقة
للرد على ما قالوه بعد ما أمر الله تعالى بالتبري
من المشركين ، فقد قالوا : كيف يمكن أن يقاطع الرجل أباه وأخاه وابنه ، فرد
الله عليهم بذلك ، أي أن مقاطعة الرجل أهله في الدين واجبة فالمؤمن لا يوالي
الكافر وإن كان أباه وأخاه وابنه. (إِنِ اسْتَحَبُّوا
الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ) إن شرطية واستحبوا فعل وفاعل في محل جزم فعل الشرط
والكفر مفعول استحبوا وعلى الايمان جار ومجرور متعلقان باستحبوا المتضمن معنى
اختاروا. (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ
مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الواو استئنافية ومن شرطية مبتدأ ويتولهم فعل الشرط وقد
روعي فيه اللفظ فأفرد ، ومنكم حال والفاء رابطة وأولئك مبتدأ وهم ضمير فصل أو ضمير
مبتدأ والظالمون خبر أولئك أو هم والجملة خبر أولئك وقد روعي فيه جانب المعنى لمن.
(قُلْ إِنْ كانَ
آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ
وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ
تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ) إن شرطية وكان واسمها وما بعده عطف عليه وأحب خبر كان
وإليكم حال ومن الله جار ومجرور متعلقان بأحب ورسوله وجهاد في سبيله عطف على الله
أي من الهجرة إليهما. (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى
يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) الفاء رابطة وتربصوا فعل أمر وفاعل وحتى حرف غاية وجر
ويأتي منصوب بأن مضمرة بعد حتى والله فاعل وبأمره جار ومجرور متعلقان بيأتي والله
مبتدأ وجملة لا يهدي القوم الفاسقين خبر ومعنى الأمر هنا التهديد ومفعوله محذوف ،
أي انتظروا عقوبة عاجلة أو آجلة ، وهذه الآية من أشد الآيات تهديدا وإرعادا
وإبراقا وردعا لكل من تسول له نفسه إيثار الفانية على الباقية ومراعاة جانب الأهل
والعشيرة وترك جانب الله.
(لَقَدْ نَصَرَكُمُ
اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ
فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ
ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى
رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ
بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧))
اللغة :
(المواطن) جمع
موطن والمواطن مثل الوطن ، وفي المصباح :«الوطن مكان الإنسان ومقره ، والجمع أوطان
مثل سبب وأسباب ، والموطن مثل الوطن والجمع مواطن كمسجد ومساجد ، والموطن أيضا
:المشهد من مشاهد الحرب» وعبارة الزمخشري : «مواطن الحرب مقاماتها وموافقها قال :
وكم موطن
لولاي طحت كما هوى
|
|
بأجرامه من
قلة النيق منهوي
|
أي كثير من
مواطن الحرب لولاي موجود لطحت بكسر الطاء وضمها ، من باع وقال أي هلكت فيها كما
هوى منهو أي ساقط من قلة النيق أي من رأس الجبل. ومذهب سيبويه أن لو لا حرف جر إذا
وليها ضمير نصب ومذهب الأخفش أنه وضع ضمير النصب موضع ضمير الرفع على الابتداء ،
أما المبرد فقد أنكر وروده وهو محجوج بهذا
البيت وغيره ، وأراد الله تعالى بالمواطن الكثيرة الأماكن التي وقعت فيها
وقعات بدر وقريظة والنضير والحديبية وخيبر وفتح مكة. وفي القاموس : الموطن : الوطن
والمشهد من مشاهد الحرب ، فلا حاجة عندئذ لتقدير مضاف كما ذهب بعضهم ، والفعل منه
وطن يطن من باب ضرب وطنا وأوطن إيطانا بالبلد أقام به ، واستوطن البلد : اتخذه
وطنا.
(حُنَيْنٍ) هو واد بين مكة والطائف ، أي يوم قتالكم فيه هوازن وذلك
في شوال سنة ثمان فهي عقيب الفتح وستأتي الإشارة الى هذه الوقعة في باب الفوائد.
(رَحُبَتْ) في المختار : الرحب بالضم السعة يقال منه : فلان رحيب
الصدر ، والرحب بالفتح الواسع وبابه ظرف وقرب ، والمصدر رحابة كظرافة ورحب كقرب
اه.
الاعراب :
(لَقَدْ نَصَرَكُمُ
اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) جملة مستأنفة مسوقة لتذكير المؤمنين بآلائه عليهم
واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق ونصركم الله فعل ومفعول به وفاعل وفي
مواطن جار ومجرور متعلقان بنصركم وكثيرة صفة. (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ
إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) الواو عاطفة ويوم ظرف معطوف على قوله مواطن ، ولا مانع
من عطف الظرفين المكاني والزماني أحدهما على الآخر كعطف أحد المفعولين على الآخر
والفعل واحد ، إذ يجوز أن تقول : ضرب زيد عمرا في المسجد ويوم الجمعة ، كما تقول
ضربت زيدا وعمرا ولا يحتاج الى إضمار فعل جديد غير الأول هذا مع أنه لا بد من
تغاير الفعلين الواقعين بالمفعولين في
الحقيقة. فإنك إذا قلت : اضرب زيدا اليوم وعمرا غدا لم يشك في أن الضربين
متغايران بتغاير الظرفين ، ومع ذلك الفعل واحد في الصناعة ، فعلى هذا يجوز في
الآية بقاء كل واحد من الظرفين على حاله غير مؤول الى الآخر ، على أن الزمخشري
وغيره يوجبون تعدد الفعل وتقدير ناصب لظرف الزمان غير الفعل الأول وإن كانا جميعا
زمانين لعلة أن كثرتهم لم تكن ثابتة في جميع المواطن ولذلك قدر الزمخشري محذوفا
قال : «فإن قلت كيف عطف الزمان على المكان وهو يوم حنين على المواطن؟ قلت : معناه
وموطن يوم حنين أو في أيام مواطن كثيرة ويوم حنين ، ويجوز أن يراد بالموطن الوقت
كمقتل الحسين ومقدم الحاج ، على أن الواجب أن يكون يوم حنين منصوبا بفعل مضمر لا
بهذا الظاهر وموجب ذلك أن : إذ أعجبتكم بدل من يوم حنين فلو جعلت ناصبه هذا الظاهر
لم يصح لأن كثرتهم لم تعجبهم في جميع تلك المواطن ولم يكونوا كثيرا في جميعها ،
فبقي أن يكون ناصبة فعلا خاصا به».
وإذ ظرف لما
مضى منصوب على البدلية من يوم حنين كما تقدم أو منصوب بإضمار اذكر وجملة أعجبتكم
مضافة للظرف وأنفسكم فاعل.
ومنع بعضهم
إبدال إذ من يوم حنين بل هو منصوب بفعل مقدر أي اذكروا إذ أعجبتكم كثرتكم. (فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً) الفاء عاطفة ولم حرف نفي وقلب وجزم وتغن مضارع مجزوم
بلم وشيئا مفعول مطلق أو مفعول به. (وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ
الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) وضاقت عطف على ما تقدم عليكم جار ومجرور متعلقان بضاقت
والأرض فاعل والباء حرف جر بمعنى مع وما مصدرية أي مع رحبها على أن الجار والمجرور
في موضع الحال أي ملتبسة برحبها كقولك : دخلت عليه بثياب السفر ، أي ملتبسا بها
تعني مع ثياب السفر. (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ
مُدْبِرِينَ) عطف على ما تقدم ومدبرين حال من التاء في وليتم. (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى
رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ)
ثم حرف عطف وتراخ وأنزل الله فعل وفاعله وسكينته مفعول به وعلى رسوله جار
ومجرور متعلقان بأنزل وعلى المؤمنين عطف على رسوله. (وَأَنْزَلَ جُنُوداً
لَمْ تَرَوْها) وأنزل جنودا عطف على ما تقدم وجملة لم تروها صفة
لجنودا. (وَعَذَّبَ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) عطف أيضا وذلك مبتدأ وجزاء الكافرين خبره (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) عطف على ما تقدم مقترن بالتراخي ومن بعد ذلك حال وعلى
من يشاء متعلقان بيتوب والله مبتدأ وغفور رحيم خبراه.
الفوائد :
استفاضت السير
في الروايات لهذه الوقعة ويؤخذ منها أن المسلمين كانوا اثني عشر ألفا الذين حضروا
فتح مكة منضما إليهم ألفان من الطلقاء عند ما التقوا مع هوازن وثقيف فيمن ضامّهم
من امداد سائر العرب فكانوا الجم الغفير ، فلما التقوا قال رجل من المسلمين : لن
نغلب اليوم من قلة فساءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقتتلوا اقتتالا شديدا ،
وأدركت المسلمين نشوة الإعجاب بالكثرة ، وزل عنهم أن الله هو الناصر لا كثرة
الجنود ، فانهزموا حتى بلغ فلهم مكة وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده وهو
ثابت ، في مركزه لا يتحلحل ، ليس معه إلا عمه العباس آخذا بلجام دابته وأبو سفيان
ابن الحارث ابن عمه ، روى أبو جعفر بن جرير بسنده عن عبد الرحمن عن رجل كان في
المشركين يوم حنين قال : لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم
حنين لم يقوموا لنا حلب شاة ، فلما لقيناهم جعلنا نسوقهم في آثارهم حتى انتهينا
الى صاحب البغلة
البيضاء فإذا هو رسول الله ، قال فتلقّانا عنده رجال بيض الوجوه حسان
فقالوا لنا : شاهت الوجوه ارجعوا فانهزمنا وركبنا أكتافنا.
وهناك روايات
كثيرة تختلف في سردها وتتفق في معناها على أن ذلك الموقف كان شهادة صدق على تناهي
شجاعة النبي ورباطة جأشه ، وأن الرجال تكثر بالنصر وتقل بالخذلان.
٢ ـ قال
الصفاقسي : ظاهر كلام الزمخشري أولا منع عطف الزمان على المكان ، ولم أر من نص
عليه وفيه نظر ، وأما وجوب إضمار الفعل فهو مبني على اشتراك المعطوف والمعطوف عليه
في متعلقات الفعل وهو ممنوع ، وقد أشار الى منعه ابن الحاجب في مختصره في الأصول.
والتحقيق
والتدقيق إن قوله يوم حنين ، إن جعلته عطفا على مواطن فالواو قائم مقام حرف الجر
وهو «في» فكأنه قال : لقد نصركم الله في مواطن كثيرة في يوم حنين ، وهذا المعنى
باطل لأنه يعين مكان النصرة وزمانها. ولا شك أنه ليس زمان النصرة في المواطن
الكثيرة يوم حنين سواء أجعلت «إذ أعجبتكم» بدلا أم لا وأما إذا عطفت «ويوم حنين»
على محل «في مواطن» كما هو الظاهر فحرف العطف قائم مقام «نصركم» العامل «في مواطن»
فكأنه قال : لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين خاصة وحينئذ جاز أن يكون «إذ
أعجبتكم» بدلا من يوم ، وهذا كما تقول : رأيت مرارا في مصر وليلة العيد إذ أفاض
الناس من عرفة. هذا هو الصدق الحق الذي لا غطاء على وجهه المنير فلا تخش من قعقعة
سلاح الزمخشري فإنها جعجعة من غير طحن ولكن جواد كبوة.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ
الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ
اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ
شاءَ
إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨) قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا
بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا
يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩))
اللغة :
(نَجَسٌ) في القاموس : «النجس بالفتح وبالكسر وبالتحريك ككتف
وعضد ضد الطاهر ، وقد نجس كسمع وكرم وأنجسه ونجّسه فتنجّس ، وداء ناجس ونجيس ككريم
إذا كان لا يبرأ منه وتنجس فعل فعلا يخرج به عن النجاسة ، والتنجيس اسم شيء من
القذر أو عظام الموتى أو خرقة الحائض كان يعلق على من يخاف عليه من ولوع الجن به
والمعوّذ منجّس» وجاء في شرح التاج على القاموس تعليقا على قوله المعوذ منجس : «قال
ثعلب قلت لابن الاعرابي : لم قيل للمعوذ منجّس وهو مأخوذ من النجاسة؟ فقال : إن
للعرب أفعالا تخالف معانيها ألفاظها يقال فلان يتنجّس إذا فعل فعلا يخرج به عن
النجاسة» وفي سجعات الأساس : «إذا جاء القدر لم يغن المنجم ولا المنجس ، ولا
الفيلسوف ولا المهندس» ، وعن الحسن في رجل تزوج امرأة كان قد زنى بها هو أنجسها
فهو أحق بها.
(عَيْلَةً) فقر ، وفي المصباح : العيلة بالفتح الفقر وهي مصدر عال
يعيل من باب سار فهو عائل والجمع عالة وهو في تقدير فعلة مثل كافر
وكفرة ، وعيلان بالفتح اسم رجل ومنه قيس بن عيلان قال بعضهم :ليس في كلام
العرب عيلان بالعين المهملة إلا هذا ، وفي المختار : وعيال الرجل من يعولهم وواحد
العيال عيل والجمع عيائل كجيائد ، وأعال الرجل كثرت عياله فهو معيل والمرأة معيلة
، قال الأخفش أي صار ذا عيال».
(الْجِزْيَةَ) سميت جزية لأنها طائفة مما على أهل الذمة أن يجزوه أي
يقضوه أو لأنهم يجزون بها من منّ عليهم بالإعفاء من القتل ، ومن غريب أمر الجيم
والزاي أنهما إذا وقعتا فاء وعينا للكلمة دلتا على معنى الأخذ والشدة ، فجزأت
الشيء تجزئة ، وشيء مجزأ أي مبعض ، وذلك لا يتأتى إلا بالقوة والشدة ، وبعير مجزىء
قوي سمين لأنه يجزىء الراكب والحامل ، وجزر لهم الجزّار نحر لهم جزورا وهم نحّارون
للجزر ، وأخذ الجازر جزارته وهي حقه وإياكم وهذه المجازر ، ومنه الجزر والمدّ ،
والجزيرة والجزائر ويقال جزيرة العرب لأرضها ومحلتها لأن بحر فارس وبحر الحبش
ودجلة والفرات قد أحدقت بها ، وجزّ الشعر والزرع والنخيل ، وهذا زمن الجزاز ،
ويقال : جزّوا ضأنهم وحلقوا معزهم ، وجزع الوادي قطعة عرضا قال أبو تمام :
إليك جزعنا
مغرب الملك كلما
|
|
قطعنا ملا
صلت عليك سباسبه
|
وهم بجزع
الوادي وهو منعطفه ، وتجزّع الشيء : تقطّع وتفرق ، قال الراعي :
ومن فارس لم
يحرم السيف خطّه
|
|
إذا رمحه في
الدارعين تجزّعا
|
ومنه الجزع
الظفاري لأن لونه قد يجزّع الى بياض وسواد ، قال امرؤ القيس :
كأن عيون
الوحش حول خبائنا
|
|
وأرحلنا
الجزع الذي لم يثقّب
|
وجزف كذا
اتباعه منه جزافا وبالجزاف ، وجازفه في البيع مجازفة وجزافا ، وحطب جزل قاس يابس.
وأنشد ثعلب :
فويها لقدرك
ويها لها
|
|
إذا اختير في
المحل جزل الحطب
|
وقال :
فأصبحت أنى
تأتها تستجر بها
|
|
تجد حطبا
جزلا ونارا تأججا
|
وضرب الصيد
فجزله جزلتين أي قطعتين ، ومن المجاز رجل جزل : ذو عقل ورأي وقد جزل وما أبين
الجزالة فيه ، وهو جزل العطاء ، وإن فعلت كذا فلك الذكر الجميل والثواب الجزيل ،
وامرأة جزلة ذات أرداف ، وجزمت ما بيني وبينه قطعته ، وجزم اليمين قطعها البتة ،
وجزم على كذا عزم عليه ، وتقول هذا حكم جزم وقضاء حتم.
فإذا رجعنا
لجزى رأينا عجبا من هذه المادة تقول يجزيك الله عني ويجازيك قال لبيد :
وإذا جوزيت
قرضا فاجزه
|
|
إنما يجزى
الفتى ليس الجمل
|
وقال الحطيئة :
من يفعل
الخير لا يعدم جوازيه
|
|
لا يذهب
العرف بين الله والناس
|
الاعراب :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعرابها (إِنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) إنما كافة ومكفوفة والمشركون نجس مبتدأ وخبر أي ذوو نجس
لأن معهم
الشرك الذي هو بمنزلة النجس ، أو لأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون
النجاسات فلا تنفك تلابسهم ، أو جعلوا كأنهم النجاسة عينها مبالغة في وصفهم بها ،
والنجس مصدر يستوي فيه المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والجمع ، أو هو مجاز عن خبث
الباطن وفساد العقيدة. (فَلا يَقْرَبُوا
الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) الفاء الفصيحة ولا ناهية ويقربوا مضارع مجزوم بها
والواو فاعل والمسجد مفعول به والحرام صفة. (بَعْدَ عامِهِمْ هذا) الظرف متعلق بيقربوا وعامهم مضاف إليه وهذا نعت لعامهم
أو بدل منه وهو العام التاسع للهجرة. وفي هذا الحكم مسائل فقهية يرجع إليها في
المظانّ المطولة. (وَإِنْ خِفْتُمْ
عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ) الواو عاطفة وإن شرطية وخفتم فعل وفاعل في محل جزم فعل
الشرط وعيلة مفعول به ، فسوف الفاء رابطة وسوف حرف استقبال ويغنيكم الله فعل مضارع
ومفعول به وفاعل والجملة في محل جزم جواب الشرط ومن فضله جار ومجرور متعلقان
بيغنيكم وإن شرطية وشاء فعلها والجواب محذوف دل عليه ما قبله أي فسوف يغنيكم. (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ان واسمها وخبراها.
(قاتِلُوا الَّذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) جملة مستأنفة مسوقة للأمر بغزو المشركين ، وقاتلوا فعل
أمر وفاعل والذين مفعول به وجملة يؤمنون صلة وبالله متعلقان بيؤمنون ولا باليوم
الآخر عطف على بالله.
(وَلا يُحَرِّمُونَ ما
حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ) عطف على ما تقدم وما مفعول يحرمون وجملة حرم الله
ورسوله صلة. (وَلا يَدِينُونَ
دِينَ الْحَقِّ) الواو عاطفة ودين الحق يجوز أن يكون مصدر يدينون فهو
مفعول مطلق ، ويجوز أن يكون مفعولا به مع تضمين يدينون معنى يعتقدون.
ويجوز أن يكون
منصوبا بنزع الخافض أي بدين الحق ولعله أظهر.
(مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ) حال من الضمير في يدينون أو من الذين الأولى مع ما في
حيزها وجملة أوتوا الكتاب صلة والكتاب مفعول به
ثان. (حَتَّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ) حتى حرف غاية وجر ويعطوا منصوب بأن مضمرة بعد حتى
والجزية مفعول به وعن يد حال وسيأتي مزيد بحث عنها في باب البلاغة (وَهُمْ صاغِرُونَ) حال ثانية وهم مبتدأ وصاغرون خبر.
البلاغة :
في قوله تعالى «عن
يد» كناية عن الانقياد ، يقال : أعطى فلان بيده إذا سلم وانقاد ، لأن من أبى
وامتنع لم يعط يده ، بخلاف المطيع المنقاد كأنه قيل : قاتلوهم حتى يعطوا الجزية عن
طيب نفس وانقياد دون أن يكرهوا عليها ثم إن المراد بها إما يد المعطي وإما الآخذ
ومعناه على إرادة يد المعطي حتى يعطوها عن يد مؤاتية غير ممتنعة لأن من أبى وامتنع
لم يعط يده بخلاف المطيع المنقاد ، ألا ترى الى قولهم : نزع يده عن الطاعة كما
يقال : خلع ربقة الطاعة عن عنقه ، وأما يد الآخذ فمعناه حتى يعطوها عن يد قاهرة
مستولية ، أو عن إنعام عليهم لأن قبول الجزية منهم وترك أرواحهم نعمة عظيمة عليهم
، هذا وقد تقدمت مباحث الكناية وسيرد الكثير منها في حينه.
(وَقالَتِ الْيَهُودُ
عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ
بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ
اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً
مِنْ
دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا
إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١)
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ
أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢))
اللغة :
(يُضاهِؤُنَ) في المصباح : ضاهأه مضاهأة مهموز عارضه وباراه ، ويجوز
التخفيف فيقال : ضاهيته مضاهاة وهي مشاكلة الشيء بالشيء.
(يُؤْفَكُونَ) يصرفون.
(أَحْبارَهُمْ) في المختار : الحبر الذي يكتب به وموضعه المحبرة بالكسر
، والحبر أيضا الأثر وفي الحديث : يخرج رجل من النار قد ذهب حبره وسبره ، قال
الفراء : أي هيئته ولونه. وقال الأصمعي : الجمال والبهاء وأثر النعمة وتحبير الخط
والشعر وغيرهما تحسينه.
والحبر بالفتح
الحبور وهو السرور ، وحبره أي سره ، وبابه نصر ، وحبرة أيضا بالفتح ومنه قوله
تعالى : «فهم في روضة يحبرون» أي يسرون وينعمون ويكرمون ، والحبر بالفتح والكسر
واحد أحبار اليهود والكسر أفصح لأنه يجمع على أفعال دون فعول ، وقال الفراء :هو
بالكسر ، وقال أبو عبيدة : هو بالفتح. وقال الأصمعي : لا أدري أنه بالفتح أو
بالكسر ، وقال : الحبر بالكسر منسوب الى الحبر الذي يكتب به لأنه كان صاحب كتب
والحبرة كالعنبة برد يماني والجمع حبر كعنب وحبرات بفتح الباء. وفي المنجد : الحبر
والحبر بالفتح
والكسر : العالم الصالح ، السرور والنعمة ، رئيس من رؤساء الدين ، الحبر
الأعظم : خلف السيد المسيح على الأرض ، رئيس الكهنة عند اليهود ، والجمع أحبار
وحبور.
(رُهْبانَهُمْ) جمع راهب وهو من اعتزل الناس الى دير طلبا للعبادة
والمؤنث راهبة وجمعها راهبات ورواهب.
الاعراب :
(وَقالَتِ الْيَهُودُ
عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) الواو استئنافية وقالت اليهود فعل وفاعل وعزير مبتدأ
وابن الله خبر ولذلك أثبتت ألف ابن لأنها تحذف إذا وقعت ابن صفة أو بدلا بين علمين
، ونوّن عزير لأنه عربي فلم يبق فيه إلا علة واحدة وهي العلمية وقرىء بمنع الصرف
باعتباره أعجميا ، وقرىء قوله تعالى : «وقالت اليهود عزير ابن الله» على وجهين :
بتنوين عزير لأن ابنا خبر عن عزير فجرى مجرى قولك زيد ابن عمرو ، والقراءة الأخرى
بمنع التنوين وهي على وجهين : أحدهما أن يكون عزير خبرا لمبتدأ محذوف وابن وصفا له
فحذف التنوين من عزير لأن ابنا وصف له فكأنهم قالوا : هو عزير بن الله والوجه
الآخر أن يكون جعل ابنا خبرا عن عزير وحذف التنوين لالتقاء الساكنين.
(وَقالَتِ النَّصارى
الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) جملة مماثلة معطوفة على سابقتها وجملة المبتدأ والخبر
مقول القول. (ذلِكَ قَوْلُهُمْ
بِأَفْواهِهِمْ) ذلك مبتدأ وقولهم خبر وبأفواههم حال وسيرد في باب
البلاغة سر ذكر الأفواه. (يُضاهِؤُنَ قَوْلَ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) الجملة حالية وقول مفعول به والذين مضاف إليه وجملة
كفروا صلة ومن قبل
حال. (قاتَلَهُمُ اللهُ
أَنَّى يُؤْفَكُونَ) قاتلهم الله فعل ومفعول به وفاعل والجملة دعائية لا محل
لها وأنى اسم استفهام بمعنى كيف في محل نصب حال مقدم ويؤفكون فعل مضارع مبني
للمجهول والواو نائب فاعل أي كيف يصرفون عن الحق. (اتَّخَذُوا
أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ
مَرْيَمَ) اتخذوا فعل وفاعل وأحبارهم مفعول به ورهبانهم عطف على
أحبارهم وأربابا مفعول به ثان ومن دون الله صفة لأربابا والمسيح عطف على أحبارهم
والمفعول الثاني بالنسبة إليه محذوف أي ربا وابن صفة للمسيح أو بدل منه وثبتت
الألف فيه لأنه صفة بين علمين والمسيح لقب واللقب من أقسام العلم (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا
إِلهاً واحِداً) الواو للحال وما نافية وأمروا فعل ماضي مبني للمجهول
والواو نائب فاعل وإلا أداة حصر واللام للتعليل ويعبدوا منصوب بأن مضمرة بعد لام
التعليل وواحدا صفة إلها. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) الجملة صفة ثانية لإلها وقد تقدم القول مفصلا في اعراب «لا
إله إلا الله». (سُبْحانَهُ عَمَّا
يُشْرِكُونَ) سبحان مفعول مطلق والهاء مضاف إليه وهو مصدر بمعنى
التنزيه الله عن الإشراك به وعما متعلقان بسبحانه وجملة يشركون صلة ما. (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ
بِأَفْواهِهِمْ) جملة يريدون حالية لتمثيل حالهم في محاولتهم أن يبطلوا
نبوة محمد بالتكذيب بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم وسيأتي بحث ذلك في باب
البلاغة وأن وما في حيزها مفعول يريدون ونور الله مفعول به وبأفواههم جار ومجرور
متعلقان بيطفئوا. (وَيَأْبَى اللهُ
إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) ويأبى الله عطف على يريدون وإلا أداة حصر لأن الكلام
على تقدير النفي لأن يأبى تجري مجرى لم يرد وأن وما في حيزها مفعول يأبى ولو الواو
حالية ولو شرطية جوابها محذوف لدلالة ما قبله عليه تقديره لأتمه ولم يبال بكراهتهم
والجملة
حالية والمعنى لا يريد الله إلا إتمام نوره ولو كرهوه وقد قيل : كيف دخلت «إلا»
الاستثنائية على يأبى ولا يجوز كرهت أو أبغضت إلا زيدا ، وقال الفراء : إنما دخلت
لأن في الكلام طرفا من الجحد ، وقال الزجاج : إن العرب تحذف مع أبى والتقدير ويأبى
الله كل شيء إلا أن يتم نوره ، وقال علي بن سليمان : إنما جاز هذا في أبى لأنها
منع أو امتناع فضارعت النفي ، قال النحاس : وهذا أحسن كما قال الشاعر :
وهل لي أم
غيرها إن تركتها
|
|
أبى الله إلا
أن أكون لها ابنا
|
البلاغة :
في قوله تعالى
: «ذلك قولهم بأفواههم» إيهام بأن القول لا يكون إلا بالفم فما معنى ذكر أفواههم؟
ولكن السر كامن في الأفواه وهو أن ما تندبه لا يكون إلا مجرد قول لا يؤبه له ولا
يعضده برهان ولا تنهض به حجة فما هو إلا لفظ فارغ وهراء لا طائل تحته كالألفاظ
المهملة التي هي أجراس ونغم لا تنطوي على معان وما لا معنى له لا يعدو الشفتين.
(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ
رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ
كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ
الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ
وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ
وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ
اللهِ
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ
فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ
لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥))
اللغة :
(يَكْنِزُونَ) يجمعون ويدفنون ، وفي المصباح : كنزت المال كنزا من باب
ضرب جمعته وادخرته ، وكنزت التمر في وعائه كنزا أيضا ، وهذا زمن الكناز قال ابن
السكيت : لم يسمع إلا بالفتح ، وحكى الأزهري : كنزت التمر كنازا وكنازا بالفتح
والكسر ، والكنز المال المدفون معروف تسميته بالمصدر والجمع كنوز مثل فلس وفلوس ،
واكتنز الشيء اكتنازا اجتمع وامتلأ ، وفي الأساس : وإنه لكنيز اللحم مكتنزه : صلبه
، وناقة كناز اللحم ، ومن المجاز : معه كنز من كنوز العلم وقال زهير :
عظيمين في
عليا معد وغيرها
|
|
ومن يستبح
كنزا من المجد يعظم
|
وهذا كتاب
مكتنز بالفوائد.
(الذَّهَبَ) معروف وهو يذكر ويؤنث ، وله أسماء عديدة وهي :نضر ،
نضار ، نضير ، زبرج ، زخرف ، عسجد ، عقيان.
الاعراب :
(هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ) الجملة مستأنفة
وهو مبتدأ والذي خبره وجملة أرسل رسوله صلة وبالهدى أي بالقرآن متعلق بأرسل
ودين الحق عطف على الهدى. (لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) اللام للتعليل ويظهر منصوب بأن مضمرة والهاء مفعول به
يعود على الرسول ، وعلى الدين جار ومجرور متعلقان بيظهره وكله تأكيد للدين والواو
حالية ولو شرطية وصلية وكره المشركون فعل وفاعل والمفعول به محذوف أي ذلك. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعرابها. (إِنَّ كَثِيراً مِنَ
الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) إن واسمها ومن الأحبار صفة لكثيرا والرهبان عطف على
الأحبار وليأكلون اللام المزحلقة ، وجملة يأكلون خبر إن وأموال الناس مفعول به
بالباطل حال وسيأتي تحقيق الأكل في باب البلاغة. (وَيَصُدُّونَ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ) عطف على يأكلون. (وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) الواو استئنافية والذين مبتدأ وجملة يكنزون صلة والذهب
مفعول يكنزون والفضة عطف على الذهب ولا ينفقونها عطف على يكنزون وفي سبيل الله
متعلقان بينفقونها. (فَبَشِّرْهُمْ
بِعَذابٍ أَلِيمٍ) الفاء رابطة لما في الشرط من معنى العموم ورائحة الشرط
وبشرهم فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وبعذاب جار ومجرور متعلقان ببشرهم وأليم صفة
وجملة بشرهم خبر ، والأحسن أن يكون الذين منصوبا بتقدير بشر الذين يكنزون (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ
جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ) الظرف متعلق بقوله بعذاب أليم وقيل بمحذوف يدل عليه
عذاب أي يعذبون يوم يحمى أو بمحذوف تقديره اذكر وجملة يحمى مضافة للظرف ويحمى
يحتمل أن يكون من حميت وأحميت ثلاثيا ورباعيا يقال حميت الحديدة وأحميتها أي أوقدت
عليها لتحمى ونائب الفاعل المحذوف هو النار تقديره يوم تحمى النار عليها ، فلما
حذف نائب الفاعل ذهبت علامة التأنيث لذهابه كقولهم رفعت القصة الى الأمير
ثم تقول رفع الى الأمير ، وعليها في محل رفع نائب فاعل كما تقدم وفي نار جهنم
متعلق بيحمى ، فتكوى الفاء عاطفة وتكوى عطف على تحمى وبها متعلقان بتكوى وجباههم
نائب فاعل وجنوبهم وظهورهم عطف على جباههم وسيأتي سر تخصيص هذه الأعضاء في باب
البلاغة.
(هذا ما كَنَزْتُمْ
لِأَنْفُسِكُمْ) الجملة مقول القول محذوف أي يقال لهم ، وهذا مبتدأ وما
خبره وجملة كنزتم صلة ولأنفسكم متعلقان بكنزتم.
(فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ
تَكْنِزُونَ) الفاء الفصيحة وذوقوا فعل أمر وفاعل وما مفعول به وجملة
كنتم تكنزون صلة وجملة تكنزون خبر كنتم.
البلاغة :
في هذه الآيات
فنون عديدة من أفانين البلاغة نجملها فيما يلي :
١ ـ الاستعارة
في أكل الأموال إذ هي مما لا يؤكل ولكن الأكل استعير للأخذ ومعنى أكلهم بالباطل ،
أنهم كانوا يأخذون الرشا في الأحكام.
٢ ـ أفرد
الضمير في قوله «ينفقونها» مع أنه ذكر شيئين وهما الذهب والفضة ذهابا بالضمير الى
المعنى دون اللفظ لأن كل واحد منهما جملة وافية وعدة كثيرة.
٣ ـ خصص الجباه
والوجوه والظهور لأنهم كانوا يتوخون من جمع الأموال واكتنازها الأغراض الدنيوية
التي يرفعون بها جباههم ويصونون ماء وجوههم ، يحتفل بهم الناس لدى رؤيتهم إياهم
ويطرحون مناعم الثياب على ظهورهم ، وهذه أسرار انفرد بها القرآن العزيز.
الفوائد :
روى التاريخ أن
أبا ذر قال : نزلت هذه الآيات في أهل الكتاب وفي المسلمين ووجه هذا القول أن أهل
الكتاب موصوفون بالحرص على أخذ المال من أي وجه ، ثم ذكر الله بعد ذلك وعيد من جمع
المال ومنع الحقوق الواجبة فيه سواء أكان من أهل الكتاب أم من المسلمين.
روى مسلم عن
زيد بن وهب قال : مررت بالربذة فإذا أبو ذرّ فقلت له : ما أنزلك هذا المنزل؟ قال
كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية : «والذين يكنزون الذهب والفضة ولا
ينفقونها في سبيل الله» فقال معاوية : نزلت في أهل الكتاب ، وقلت أنا : نزلت فينا
وفيهم ، فكان بيني وبينه في ذلك كلام ، فكتب الى عثمان يشكوني فكتب إلي أن أقدم
المدينة ، فقدمتها فازدحم علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك ، فذكرت ذلك
لعثمان فقال : إن شئت تنحيت فكنت قريبا منا فهذا هو الذي أنزلني هذا المنزل ولو
أمروا عليّ عبدا حبشيا لسمعت وأطعت.
حديث هام عن الذهب والفضة :
وروى سالم بن
الجعد انها لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تبا للذهب تبا للفضة ،
قالها ثلاثا ، فقالوا له : أيّ مال نتخذ؟قال : لسانا ذاكرا وقلبا خاشعا وزوجة تعين
أحدكم على دينه. هذا وقد اختلف العلماء في حد رأس المال فقال علي : أربعة آلاف فما
دونها نفقة ، فما زاد فهو كنز ، وردوا عليه بأن هذا معقول قبل أن تفرض الزكاة
وهناك كلام طويل يرجع إليه في المطولات وليس هو من غرض هذا الكتاب.
(إِنَّ عِدَّةَ
الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا
تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما
يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦)
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا
يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ
فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧))
اللغة :
(النَّسِيءُ) مصدر نساء إذا أخره ، يقال : نسأه نسئا ونسيئا ونساء
كقولك مسّه مسّا ومساسا ومسيسا ، وقيل هو فعيل بمعنى مفعول من نسأه إذا أخره فهو
منسوء ، ثم حوّل مفعول إلى فعيل كما حوّل مقتول الى قتيل ، وفي المختار : والنسيئة
كالفعيلة التأخير ، وكذا النساء بالفتح والمد التأخير والنسيء في الآية فعيل بمعنى
مفعول من قولك نسأه من باب قطع أي أخره فهو منسوء فحوّل منسوء الى نسيء كما حول
مقتول الى قتيل والمراد به هنا تأخير حرمة المحرم الى صفر وسيأتي في باب الفوائد
تفصيل ذلك.
الاعراب :
(إِنَّ عِدَّةَ
الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً) إن واسمها والشهور مضاف إليه وعند الله ظرف متعلق
بمحذوف حال أي في حكمه واثنا
خبر إن مرفوع بالألف لأنه مثنى وعشر جزء عددي مبني على الفتح وشهرا تمييز
وهي الشهور القمرية المعروفة. (فِي كِتابِ اللهِ
يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) في كتاب الله صفة لاثني عشر ويوم ظرف متعلق بمحذوف أو
بكتاب الله إن جعل مصدرا والمعنى : إن هذا أمر ثابت في نفس الأمر منذ خلق الله
الكائنات وقيل يوم خلق بدل من قوله عند الله والتقدير ان عدة الشهور عند الله في
كتاب الله يوم خلق السموات والأرض ، وفائدة الإبدالين تقرير الكلام في الأذهان ،
وجملة خلق مضاف إليها الظرف. (مِنْها أَرْبَعَةٌ
حُرُمٌ) منها خبر مقدم وأربعة مبتدأ مؤخر وحرم صفة والجملة صفة
ثانية لاثني عشر شهرا وهي ثلاثة سرد : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، وواحد فرد
وهو رجب. (ذلِكَ الدِّينُ
الْقَيِّمُ) ذلك مبتدأ والدين خبر والقيم صفة. (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) الفاء الفصيحة ولا الناهية وتظلموا فعل مضارع مجزوم بلا
الناهية والواو فاعل وفيهن متعلقان بتظلموا وأنفسكم مفعول به. (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً
كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) الواو عاطفة وقاتلوا فعل أمر والواو فاعل والمشركين
مفعول به وكافة حال من الفاعل أو المفعول وهي في الأصل مصدر معناه جميعا ولا يثنى
ولا يجمع ولا تدخله أل ولا يتصرف فيه بغير الحال ، هذا ما قرره النحاة بشأن كافة ،
ولكن صحح الشهاب الخفاجي أن يقال جاءت الكافة ، وأطال البحث فيه في شرح الشفاء ،
وقال شارح اللباب : إنه استعمل مجرورا واستدل له بقول عمر بن الخطاب : «على كافة
بيت مال المسلمين» ، وقال ابراهيم الكوراني : من قال من النحاة : إن كافة لا تخرج
عن النصب فحكمه ناشىء عن استقراء ناقص ، واستعملها الزمخشري مجرورة بالكاف في خطبة
كتابه «المفصل» فقال :«محيط بكافة الأبواب» كما استعملها في غير الأناسي. كما
الكاف بمعنى مثل صفة لمصدر محذوف أو هي حرف جر وما مصدرية مؤولة
مع ما في حيزها بمصدر صفة لمصدر محذوف أي قتالا كقتالكم وقد تقدمت له نظائر
فجدد به عهدا. (وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) أن وما في حيزها سدت مسد مفعولي اعلموا وأن واسمها ومع
ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر. (إِنَّمَا النَّسِيءُ
زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) إنما كافة ومكفوفة والنسيء مبتدأ وزيادة خبر وفي الكفر
متعلق بزيادة. (يُضَلُّ بِهِ
الَّذِينَ كَفَرُوا) فعل وفاعل وبه متعلقان به والذين كفروا فاعله وقرىء يضل
به الذين كفروا بالبناء للمجهول والجملة خبر ثان للنسيء. (يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ
عاماً) الجملة تفسيرية للضلال فلا محل لها ويجوز أن تعرب حالية
وعاما ظرف متعلق بيحلونه. (لِيُواطِؤُا عِدَّةَ
ما حَرَّمَ اللهُ) اللام للتعليل وهي مع مجرورها المؤول متعلقة بيحرمونه
أو بيحلونه حسب قانون التنازع وعدة مفعوله وما موصول مضاف إليه وجملة حرم الله
صلة. (فَيُحِلُّوا ما
حَرَّمَ اللهُ) عطف على ليواطئوا وما مفعول يحلوا. (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ) الجملة حالية من الفاعل أي مزينين أو استئنافية ولعله
أولى ، ولهم متعلقان بزين وسوء أعمالهم فاعل.
(وَاللهُ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) مبتدأ وجملة لا يهدي خبر.
الفوائد :
ما يقوله التاريخ عن النسيء :
روى التاريخ أن
العرب في الجاهلية كانت تعتقد حرمة الأشهر الحرم وتعظيمها وكانت عامة معايش العرب
من الصيد والغارة وكان يشق عليهم الكف عن ذلك ثلاثة أشهر متوالية وربما وقعت حروب
في بعض الأشهر الحرم فكانوا يكرهون تأخير حروبهم الى الأشهر الحلال فنسئوا يعني :
أخروا تحريم شهر الى شهر آخر فنزلت.
وقال المبرد في
كامله : «نسأ الله في أجلك ، ونسأ الله أجلك ، وأنسأ الله أجلك ، والنسيء من هذا
ومعناه تأخير شهر عن شهر ، وكانت النسأة من بني مذلج بن كنانة فأنزل الله عز وجل «إنما
النسيء زيادة في الكفر» لأنهم كانوا يؤخرون الشهور فيحرمون غير الحرام ويحلون غير
الحلال لما يقدرونه من حروبهم وتصرفهم فاستوت الشهور لما جاء الإسلام».
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ
اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ
فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ
تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ
وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِلاَّ
تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ
اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ
مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ
تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ
الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠))
اللغة :
(اثَّاقَلْتُمْ) أصله تثاقلتم فأبدلت التاء ثاء ثم أدغمت في الثاء ثم
اجتلبت همزة الوصل توصلا للنطق بالساكن وأنشد الكسائي :
تولي الضجيع
إذا ما اشتاقها خصرا
|
|
عذب المذاق
إذا ما اتّابع القبل
|
(الغار) الكهف ويجمع على أغوار
وغيران ، وألفه منقلبة عن واو وغار حراء نقب في جبل ثور عن يمين مكة على مسيرة
ساعة.
الاعراب :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعرابها. (ما لَكُمْ إِذا قِيلَ
لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) ما اسم استفهام مبتدأ ولكم خبر وإذا طرف مستقبل متعلق
باثاقلتم وقيل فعل ماض مبني للمجهول ولكم جار ومجرور متعلقان به وانفروا فعل أمر
وفاعل والجملة مقول القول وفي سبيل الله متعلقان بانفروا وجملة اثاقلتم حال وإلى
الأرض متعلقان باثاقلتم ، والمعنى : أي شيء لكم من الأعذار حالة كونكم متثاقلين في
وقت قول الرسول لكم انفروا أي اخرجوا الى الجهاد في سبيل الله وكان ذلك في غزوة
تبوك في سنة تسع بعد رجوعهم من الطائف وقد استنفروا في وقت عسرة وقحط وقيظ مع بعد
الشقة وتكالب العدو فشق عليهم.
(أَرَضِيتُمْ
بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) الاستفهام للانكار والتوبيخ المقترنين بالتعجب ورضيتم
فعل وفاعل وبالحياة جار ومجرور متعلقان برضيتم والدنيا صفة ومن الآخرة متعلقان
بمحذوف حال أي بديلا
من الآخرة. (فَما مَتاعُ
الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) الفاء الفصيحة وما نافية ومتاع مبتدأ والحياة مضاف إليه
والدنيا صفة وفي الآخرة متعلقان بمحذوف حال أي محسوبا في جنب الآخرة وإلا أداة حصر
وقليل خبر متاع ويجوز تعليق في الآخرة بقليل وقد سمى الشهاب «في» الداخلة على
الآخرة قياسية أي بالقياس الى الآخرة ولعمري ليس ببعيد. (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ
عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) إن شرطية ولا نافية وتنفروا فعل الشرط ويعذبكم جوابه
وعذابا مفعول مطلق وأليما صفة ويستبدل عطف على يعذبكم وقوما مفعول به وغيركم صفة ل
«قوما». (وَلا تَضُرُّوهُ
شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ولا تضروه عطف على يستبدل والواو فاعل والهاء مفعول به
وشيئا مفعول مطلق أي شيئا من الضرر والله مبتدأ وقدير خبره وعلى كل متعلقان بقدير.
(إِلَّا تَنْصُرُوهُ
فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) إن شرطية ولا نافية وقد أدغمتا كما تقدم وتنصروه فعل
الشرط والفاء رابطة وجملة قد نصره الله جواب الشرط وقد علله الزمخشري تعليلا حسنا
إذ قال : «فإن قلت كيف يكون قد نصره الله جوابا للشرط قلت فيه وجهان أحدهما إلا
تنصروه في المستقبل فسينصر من نصره حين لم يكن معه إلا رجل واحد ولا أقل من الواحد
فدل بقوله قد نصره الله على أنه ينصره في المستقبل كما نصره في ذلك الوقت ،
والثاني أنه أوجب له النصرة وجعله منصورا في ذلك الوقت فلن يخذل من بعده ، واتفق
المفسرون على أن الجواب محذوف لأن غزوة تبوك في التاسعة ، وقوله إذ أخرجه الذين
كفروا قبل ذلك بكثير وقالوا فقد نصره الله بمثابة تعليل للجواب المحذوف وهذا قريب
من قول الزمخشري الأول. (إِذْ أَخْرَجَهُ
الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ) الظرف متعلق بنصره الله وجملة أخرجه في محل جر باضافة
الظرف إليها والذين فاعل وجملة كفروا صلة
وثاني اثنين حال من الهاء في أخرجه والتقدير إذ أخرجه الذين كفروا حال كونه
منفردا عن جميع الناس إلا أبا بكر ، واثنين مضاف إليه وإذ بدل من إذ الأولى أي
فيفرض زمن إخراجه ممتدا بحيث يصدق على زمن استقرارهما في الغار وزمن القول المذكور
فهو بدل بعض من كل ، وهما مبتدأ وفي الغار خبر والجملة في محل جر بإضافة الظرف
إليها.
(إِذْ يَقُولُ
لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) إذ بدل أيضا وجملة لا تحزن مقول القول وجملة إن الله
معنا تعليلية وإن واسمها والظرف متعلق بمحذوف خبرها. (فَأَنْزَلَ اللهُ
سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) الفاء عاطفة وأنزل الله سكينته فعل وفاعل ومفعول به
وعليه متعلقان بأنزل وأيده عطف على أنزل وبجنود جار ومجرور متعلقان بأيده وجملة لم
تروها صفة لجنود (وَجَعَلَ كَلِمَةَ
الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا) الواو عاطفة أيضا وجعل فعل ماض وفاعله مستتر يعود على
الله وكلمة مفعول به والذين مضاف إليه وجملة كفروا صلة والسفلى مفعول به ثان لجعل
وكلمة الواو حالية وكلمة الله مبتدأ وهي ضمير فصل أو مبتدأ والعليا خبر كلمة أو
خبر هي والجملة خبر كلمة. (وَاللهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ) الله مبتدأ وعزيز حكيم خبراه.
(انْفِرُوا خِفافاً
وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١) لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً
وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ
وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ
أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ
لَكاذِبُونَ
(٤٢) عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ
صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣))
اللغة :
(خِفافاً وَثِقالاً) اختلفت عبارات المفسرين فيهما ولكنها ترجع الى منبع
واحد ، أي انفروا على الصفة التي يخفّ عليكم فيها الجهاد ، وعلى الصفة التي يثقل
عليكم فيها الجهاد ، وهذان الوصفان من العموم والشمول بحيث تندرج تحتهما جميع
الأقسام وستأتي قصة والي حمص في باب الفوائد.
(عَرَضاً) العرض ما عرض لك من منافع الدنيا ومتاعها ومن أقوالهم :
الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر.
(قاصِداً) : السفر القاصد هو الوسط المقارب.
(الشُّقَّةُ) : المسافة الشاطة الشاقة.
الاعراب :
(انْفِرُوا خِفافاً
وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) انفروا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وخفافا
وثقالا حالان وجاهدوا عطف على انفروا وبأموالكم جار ومجرور متعلقان بجاهدوا
وأنفسكم عطف على بأموالكم وفي سبيل الله جار ومجرور متعلقان بجاهدوا أيضا. (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) ذلكم مبتدأ أي المذكور من الأمرين وهما انفروا وجاهدوا
وخير خبر ولكم
متعلقان بخير وإن شرطية وكنتم فعل الشرط وجملة تعلمون خبر كنتم وجواب الشرط
محذوف أي فجاهدوا أو فلا تثاقلوا. (لَوْ كانَ عَرَضاً
قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ) لو شرطية امتناعية وكان عرضا كان واسمها مستتر تقديره
الشأن أي ما دعوا إليه وعرضا خبرها ، وسفرا قاصدا عطف عليه ، لاتبعوك : اللام
واقعة في جواب لو واتبعوك فعل وفاعل ومفعول به والجملة لا محل لها. (وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) الواو حالية ولكن حرف استدراك مهمل للتخفيف وبعدت عليهم
الشقة فعل وفاعل وعليهم متعلقان ببعدت والجملة حالية. (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ
اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) الواو استئنافية والسين للاستقبال وبالله متعلقان
بيحلفون وجملة لو استطعنا جواب القسم وجملة لخرجنا جواب لو ولك أن تجعل جملة لو
استطعنا مقول قول محذوف منصوب على الحال أي قائلين فتكون لخرجنا سادّة مسد القسم
والشرط جميعا ومعكم ظرف متعلق بخرجنا. (يُهْلِكُونَ
أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) جملة يهلكون أنفسهم بدل من سيحلفون أو حال أي مهلكين
وأنفسهم مفعول به والله مبتدأ وجملة يعلم خبر وان واسمها وخبرها سدت مسد مفعولي
يعلم. (عَفَا اللهُ عَنْكَ
لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) جملة دعائية قدم «عفا» فيها في معرض المعاتبة تليينا لقلب
الرسول ورأفة به وقد أخطأ الزمخشري إذ فسره بقوله : أخطأت وبئس ما فعلت ، ولقد
أحسن من قال في هذه الآية إن من لطف الله تعالى بنبيه أن بدأه بالعفو قبل العتب
ولو قال له ابتداء لم أذنت لهم لتفطر قلبه. ولم : اللام حرف جر دخل على ما
الاستفهامية فحذف ألفها وقد تقدم حكمها وكلتا اللامين متعلقة بالإذن لاختلافهما في
المعنى ، فالأولى للتعليل والثانية للتبليغ والضمير المجرور لجمع المستأذنين
وتوجيه الإنكار الى الإذن لشموله الجميع. (حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) حتى حرف
غاية وجر أي الى أن يتبين لك من صدق في عذره ممن كذب فيه ولك متعلقان
بيتبين والذين فاعل وجملة صدقوا صلة وتعلم عطف على يتبين والكاذبين مفعول به.
الفوائد :
قصة والي حمص والدمشقي :
ونروي بصدد
الجهاد والدعوة الى الاستنفار القصة الرائعة التالية ونكتفي بها لأن مباحث الجهاد والاستنفار
مبسوطة في المطولات : فعن صفوان بن عمر قال : كنت واليا على حمص فلقيت شيخا كبيرا
قد سقط حاجباه من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو فقلت : يا عم لقد أعذر الله إليك
فرفع حاجبيه وقال : يا ابن أخي استنفرنا الله خفافا وثقالا ، إلا أن من يحبه الله
يبتليه.
تكثير السواد وحفظ المتاع :
وعن الزهري :
خرج سعيد بن المسيب الى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل له : انك عليل صاحب ضرر
فقال : استنفرنا الله الخفيف والثقيل فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد وحفظت
المتاع.
(لا يَسْتَأْذِنُكَ
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا
بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما
يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ
لا
يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي
رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ
عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ
الْقاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً
وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ
وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧))
اللغة :
(وَلَأَوْضَعُوا) أي لسعوا بينكم بالنمائم وإفساد ذات البين ، وأصل
الإيضاع الإسراع.
الاعراب :
(لا يَسْتَأْذِنُكَ
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) الجملة استئنافية مسوقة لتقرير ما يستدل منه على أن
المؤمنين ليس من عادتهم أن يستأذنوك في أن يجاهدوا ويستأذنك فعل مضارع ومفعول به
والذين فاعل وجملة يؤمنون صلة وبالله جار ومجرور متعلقان بيؤمنون واليوم الآخر
معطوف على الله. (أَنْ يُجاهِدُوا
بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) أن وما في حيزها منصوب بنزع الخافض أي في الجهاد وهو
متعلق بيستأذنك وبأموالهم جار ومجرور متعلقان بيجاهدوا وأنفسهم عطف على أموالهم
والله مبتدأو عليم خبر وبالمتقين متعلقان بعليم.
(إِنَّما
يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إنما كافة ومكفوفة وما بعده تقدم إعرابه والمعنى إن
الذين يستأذنون هم المترددون المتحيرون ، أما المستبصرون المؤمنون فهم مستقرون على
ما عزموا عليه وما هو واجب عليهم ، وهذا من أرقى أفانين الأدب الواجبة الاحتذاء ،
فانه لا يليق بالمرء أن يستأذن أخاه في أن يسدي إليه معروفا كما لا يليق بالمضيف
أن يستأذن ضيفه في أن يقدم إليه ، فإن الاستئذان في هذا الموطن دليل التكلف ،
وخليق بذوي المروءة وأرباب الفتوة أن لا يتثاقلوا إذا ندبوا الى أمر جدير بالمروءة
قال طرفة :
إذا القوم
قالوا من فتى خلت أنني
|
|
عنيت فلم
أكسل ولم أتبلد
|
وقال آخر :
إن تبتدر
غاية يوما لمكرمة
|
|
تلق السوابق
منا والمصلينا
|
وأشعارهم طافحة
بذلك.
(وَارْتابَتْ
قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) عطف على لا يؤمنون وارتابت قلوبهم فعل وفاعل أي شكت في
الدين ، فهم الفاء عاطفة وهم مبتدأ وفي ريبهم جار ومجرور متعلقان بيترددون وجملة
يترددون خبر.
(وَلَوْ أَرادُوا
الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً) كلام معطوف أيضا ولك أن تجعله مستأنفا ولو شرطية
وأرادوا الخروج فعل وفاعل ومفعول به واللام واقعة في جواب لو وأعدوا فعل وفاعل وله
متعلقان بأعدوا وعدة مفعول به. (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ
انْبِعاثَهُمْ) الواو عاطفة على محذوف كأنه
قيل ما خرجوا ولكن كره الله انبعاثهم. (فَثَبَّطَهُمْ
وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) الفاء عاطفة وثبطهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به وقيل فعل
ماض مبني للمجهول لأن القائل محتمل أن يكون عائدا الى الله ويحتمل أن يكون عائدا
الى ما ركز في أنفسهم من الشقاء وسوء المصير واقعدوا فعل أمر وفاعل ومع ظرف متعلق
باقعدوا والقاعدين مضاف إليه وسيرد في باب البلاغة سر قوله مع القاعدين. (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ
إِلَّا خَبالاً) كلام مستأنف مسوق لتقرير المفاسد المترتبة على خروجهم
وخرجوا فعل وفاعل وفيكم متعلقان بخرجوا وجملة ما زادوكم لا محل لها لأنها جواب شرط
غير جازم وزادوكم فعل وفاعل ومفعول به وإلا أداة حصر وخبالا مفعول به ثان
والاستثناء هنا متصل لا منقطع لأن الاستثناء المنقطع هو أن بكون المستثنى من غير جنس
المستثنى منه كقولك : ما زادوكم خيرا إلا خبالا والمستثنى منه غير مذكور في الآية
وإذا لم يذكر وقع الاستثناء
من أعم العام
الذي هو الشيء فكان استثناء متصلا لأن الخبال بعض أعمّ العام كأنه قيل ما زادوكم
شيئا إلا خبالا ، والخبال الفساد والشر وذلك بتخذيل المؤمنين وإدخال الوهن في
قلوبهم.
(وَلَأَوْضَعُوا
خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) ولأوضعوا معطوف على ما زادوكم واللام واقعة في جواب لو
وخلالكم منصوب على الظرفية ومتعلق بأوضعوا أي سعوا بينكم بالنمائم والإغراء ،
وجملة يبغونكم حال من فاعل أوضعوا أي لأسرعوا فيما بينكم باغين فتنتكم ، والفتنة
مفعول يبغونكم والكاف منصوب بنزع الخافض أي يبغون لكم الفتنة.
(وَفِيكُمْ
سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) الواو للحال وفيكم خبر مقدم وسماعون مبتدأ مؤخر ولهم
متعلقان بسماعون والمعنى وفيكم عيون لهم يتجسسون عليكم وينقلون إليهم أخباركم
ويكشفون لهم خططكم ، والله مبتدأ وعليم خبر وبالظالمين متعلق بعليم.
البلاغة :
في الآية
التميم بذكر مع القاعدين وعدم الاكتفاء بذكر اقعدوا ، لأنه لو اقتصر على الأمر لم
يفد سوى القعود ، ولكنه أراد أن ينظمهم في سلك الزمنى والمرضى وأصحاب العاهات
والمعتوهين والنساء والصبيان الذين من شأنهم الجثوم في البيوت بأنهم الموصوفون عند
الناس بالتخلف والتقاعد والموسومون بسمة التلكؤ والجبانة. وسيرد المزيد من هذا
الفن العجيب.
(لَقَدِ ابْتَغَوُا
الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ
وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ (٤٨) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي
وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ
بِالْكافِرِينَ (٤٩) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ
يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ
(٥٠) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى
اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١))
الاعراب :
(لَقَدِ ابْتَغَوُا
الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ) اللام جواب لقسم
محذوف وابتغوا الفتنة فعل وفاعل ومفعول به ومن قبل متعلقان بابتغوا وبنيت
على الضم لقطعها عن الإضافة لفظا لا معنى أي من قبل غزوة تبوك ، وقلبوا لك الأمور
: عطف على ما سبقه وتقليب الإمر تصريفه على أوجه شتى لتدبير الحيلة والمكيدة ،
ويقال للرجل المتصرف في وجوه الحيل : حول وقلب. (حَتَّى جاءَ الْحَقُّ
وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ) حتى حرف غاية وجر أي واستمروا على تقليب الأمور وحوك
الدسائس وتبييت المكائد ، وجاء الحق فعل وفاعل وظهر أمر الله فعل وفاعل أيضا وهم
كارهون الواو للحال وهم كارهون مبتدأ وخبر والجملة نصب على الحال. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي
وَلا تَفْتِنِّي) الواو عاطفة ومنهم خبر مقدم ومن موصول مبتدأ مؤخر وجملة
يقول صلة وائذن فعل أمر ولي جار ومجرور متعلقان به والواو عاطفة ولا ناهية وتفتني
مجزوم بلا والنون للوقاية والياء مفعول به. (أَلا فِي الْفِتْنَةِ
سَقَطُوا) ألا أداة تنبيه وفي الفتنة متعلقان بسقطوا وجمع الضمير
والقائل واحد مراعاة للمعنى. (وَإِنَّ جَهَنَّمَ
لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) الواو عاطفة وان واسمها واللام المزحلقة ومحيطة خبر إن
وبالكافرين متعلقان بمحيطة ، والكلام معطوف على الجملة السابقة داخل في نطاق
التنبيه. (إِنْ تُصِبْكَ
حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) إن شرطية وتصبك فعل الشرط والكاف مفعول به وحسنة فاعل
وتسؤهم جواب الشرط.
(وَإِنْ تُصِبْكَ
مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ) عطف على ما تقدم ومعنى أخذنا أمرنا أي تلافينا وتفادينا
كل خطأ وأخذنا بأسباب الحيطة والحذر والتوقي والحزم. (وَيَتَوَلَّوْا
وَهُمْ فَرِحُونَ) ويتولوا عطف على يقولوا أي ويعرضوا عن مجلس النبي
والواو للحال وهم فرحون مبتدأ وخبر والجملة الاسمية حالية من الضميرين في يقولوا
ويتولوا لا من الأخير فقط لمقارنة الفرح لهما معا. (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا
إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا) جملة لن يصيبنا مقول القول وإلا أداة حصر وما فاعل
وجملة كتب الله
لنا صلة أي قل لهم ذلك للإطاحة بما بنوا عليه مسرتهم وغبطتهم من اعتقاد
مزيف (هُوَ مَوْلانا) مبتدأ وخبر ، والجملة حال من الله (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ) الفاء للتعليل وعلى الله جار ومجرور متعلقان بيتوكل
واللام لام الأمر ويتوكل مجزوم باللام والمتوكلون فاعل.
البلاغة :
المجاز المرسل
في قوله تعالى «ألا في الفتنة سقطوا» والعلاقة الحالية أي في جهنم فأطلق الحال
وأريد المحل لأن الفتنة لا يسقط فيها الإنسان لأنها معنى من المعاني وإنما يحل في
مكانها فاستعمال الفتنة في مكانها مجاز أطلق فيه الحالّ وأريد المحل.
الفوائد :
روى التاريخ أن
النبي صلى الله عليه وسلم لما تجهز الى غزوة تبوك قال للجد بن قيس : يا أبا وهب هل
لك في جلاد بني الأصفر ، وهم ملوك الروم ، فقال الجد : قد علمت الأنصار أني مستهتر
بالنساء فلا تفتني ببنات الأصفر يعني نساء الروم ، ولكن أعينك بمالي فاتركني.
(قُلْ هَلْ
تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ
يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا
مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ
يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣) وَما مَنَعَهُمْ
أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا
بِاللهِ
وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ
إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤))
الاعراب :
(قُلْ هَلْ
تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) هل حرف استفهام وتربصون فعل مضارع حذفت إحدى تاءيه أي
تنتظرون وبنا متعلقان بتربصون وإلا أداة حصر وإحدى الحسنيين مفعول به. (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ
يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا) الواو عاطفة أو حالية ونحن مبتدأ وجملة نتربص خبر وبكم
متعلقان بنتربص وأن وما في حيزها مفعول به والله فاعل وبعذاب متعلقان بيصيبكم ومن
عنده صفة لعذاب أو بأيدنيا عطف على من عنده أي بعذاب بأيدينا.
(فَتَرَبَّصُوا إِنَّا
مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) الفاء الفصيحة وتربصوا فعل أمر أي إذا أردتم أن تعلموا
النتائج وما يلقاه كل منا ومنكم فتربصوا وإن واسمها ومعكم ظرف متعلق بمتربصون
ومتربصون خبر إنا. (قُلْ أَنْفِقُوا
طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) جملة أنفقوا مقول القول والواو فاعل وطوعا وكرها مصدر
ان نصبا على الحال أي طائعين أو مكرهين. (لَنْ يُتَقَبَّلَ
مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ) لن حرف نفي ونصب واستقبال ويتقبل بالبناء للمجهول مضارع
منصوب بلن ومنكم متعلقان بيتقبل وان واسمها وجملة كنتم قوما من كان واسمها وخبرها
خبر إن وفاسقين صفة قوما (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ
تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ) الواو عاطفة وما نافية ، منعهم فعل ومفعول به وأن تقبل
أن وما في حيزها مفعول منع
الثاني ومنهم متعلقان بتقبل ونفقاتهم نائب فاعل وإلا أداة حصر وأن وما في
حيزها فاعل منع أي ما منعهم قبول نفقاتهم شيء من الأشياء إلا كفرهم وما عطف عليه. (وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ
كُسالى) الواو عاطفة ولا نافية ويأتون الصلاة فعل مضارع وفاعل
ومفعول به وإلا أداة حصر وهم كسالى مبتدأ وخبر والواو للحال والجملة حالية.
(وَلا يُنْفِقُونَ
إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) عطف على ما تقدم.
البلاغة :
فن التعطف أو المشاركة :
وهو أن يعلق
المتكلم لفظة من الكلام بمعنى ، ثم يردها بعينها ويعلقها بمعنى آخر ، وهما
مفترقتان كل لفظة منهما في طرف من الكلام وهو في قوله تعالى : «قل هل تربصون بنا
إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده فتربصوا إنا معكم
متربصون» فقد أتى التعطف من صدر الآية في قوله : «تربصون بنا» ومن عجزها في قوله :
«فتربصوا إنا معكم متربصون» مع تجنيس الازدواج ووقع مع التعطف مقابلة معنوية خرج
الكلام فيها مخرج إيجاز الحذف فإن مقتضى البلاغة أن يكون تقدير ترتيب اللفظ قل هل
تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين : أن يصيبنا الله بعذاب من عنده أو بأيديكم ونحن
نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا ، فحذف لتوخي الإيجاز تفسير
الحسنيين من الجملة الأولى ، وأثبت في الجملة الثانية فرارا من تكرار اللفظ
وتكثيره ، كما حذف الحسنيين من الجملة الثانية استغناء بذكرها أولا ، فحصل في الآية
التعطف والمقابلة والإيجاز والتفسير فاكتملت فيها أربعة أضرب من البديع
وهذا هو السحر الحلال ، وإن من البيان لسحرا.
(فَلا تُعْجِبْكَ
أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥) وَيَحْلِفُونَ
بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ
(٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ
وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ
أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨)
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ
سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ (٥٩)
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها
وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ
وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠))
اللغة :
(تُعْجِبْكَ) الإعجاب بالشيء أن يسرّ به سرور راض به متعجب
من حسنة. والمعنى فلا تستحسن ولا يستهويك ما أوتوا من زينة الدنيا وبهارجها
، وفي المصباح : ويستعمل التعجب على وجهين : أحدهما ما يحمده الفاعل ومعناه
الاستحسان والإخبار عن رضاه به ، والثاني ما يكرهه ومعناه الإنكار والذم له ، ففي
الاستحسان يقال : أعجبني ، وفي الذم والإنكار : عجبت وزان تعبت.
(يَفْرَقُونَ) يخافون ، وفي المختار : فرق فرقا من باب تعب خاف ويتعدى
بالهمزة فيقال أفرقته.
(مَغاراتٍ) جمع مغارة وهي المكان المنخفض في الأرض أو في الجبل.
والغور بالفتح من كل شيء قعره ، والغور المطمئن في الأرض ، وغار الرجل غورا أتى
الغور وهو المنخفض من الأرض ، وأغار بالألف مثله ، والغار والمغار والمغارة كالكهف
في الجبل ، والكهف كالبيت في الجبل والجمع كهوف ، ثم انظر الى الدقة في الترتيب
مما يتناهى فيه نظم الكلام الى أسمى الحدود ، ذكر أولا الأمر الأعم وهو الملجأ من
أي نوع كان ثم ذكر الغيران التي يختفى فيها في أعلى الأماكن وهي الجبال ، ثم
الأماكن التي يختفى فيها في الأماكن السافلة وهي التي عبر عنها بالمدخل.
(يَجْمَحُونَ) يسرعون إسراعا لا يردهم شيء ، من الفرس الجموح وهو الذي
إذا حمل لم يرده اللجام ، وفي المصباح : جمح الفرس براكبه يجمح بفتحتين من باب خضع
جماحا بالكسر وجموحا استعصى حتى غلبه فهو جموح بالفتح وجامح يستوي فيه المذكر
والمؤنث.
(يَلْمِزُكَ) يعيبك في قسمة الصدقات ويطعن عليك وفي المصباح :«لمزه
لمزا من باب ضرب عابه وقرأ بها السبعة ، ومن باب قتل لغة ، وأصله الإشارة بالعين
ونحوها» فهو أخص من الغمز إذ هو الإشارة
بالعين ونحوها سواء أكان على وجه الاستنقاص أولا ، وأما اللمز فهو خاص
بكونه على وجه العيب ، وفي المصباح : غمزه غمزا من باب ضرب أشار اليه بعين أو
حاجب.
الاعراب :
(فَلا تُعْجِبْكَ
أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) الفاء عاطفة وسيأتي سر استعمالها ولا ناهية وتعجبك
مضارع مجزوم بلا الناهية والفاعل مستتر تقديره أنت ، والخطاب وإن كان منصرفا الى
النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن المراد به جميع المؤمنين ، وأموالهم فاعل ولا
أولادهم عطف عليه (إِنَّما يُرِيدُ
اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) إنما كافة ومكفوفة ويريد الله فعل مضارع وفاعل واللام
للتعليل ويعذبهم منصوب بأن مضمرة وأورد اللام للتقوية والأصل يريد أن يعذبهم ،
وبها متعلقان بيعذبهم وفي الحياة الدنيا حال. (وَتَزْهَقَ
أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) عطف «تزهق» على «ليعذبهم» وأنفسهم فاعل والواو حالية
وهم مبتدأ وكافرون خبر. (وَيَحْلِفُونَ
بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ) الواو استئنافية ويحلفون فعل مضارع وفاعل وبالله جار
ومجرور متعلقان بيحلفون وإن واسمها واللام المزحلقة ومنكم خبرها والواو للحال وما
نافية حجازية وهم اسمها ومنكم خبرها والجملة حالية (وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ
يَفْرَقُونَ) الواو عاطفة ولكن واسمها وقوم خبرها وجملة يفرقون صفة.
(لَوْ يَجِدُونَ
مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ) لو شرطية ويجدون ملجأ فعل مضارع وفاعل ومفعول به أو
مغارات أو مدخلا معطوفان على ملجأ. لولوا اللام واقعة في جواب لو وإليه
متعلقان بولوا وهم الواو للحال وهم مبتدأ وجملة يحجمون خبر والجملة حالية
وجملة لولوا لا محل لها. (وَمِنْهُمْ مَنْ
يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) الواو عاطفة ومنهم خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وجملة يلمزك
صلة وفي الصدقات جار ومجرور متعلقان بيلمزك. (فَإِنْ أُعْطُوا
مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) الفاء عاطفة وإن شرطية وأعطوا فعل ماض مبني للمجهول في
محل جزم فعل الشرط ومنها في محل نصب مفعول به ثان لأن الواو وهي نائب الفاعل
مفعوله الأول وإن لم يعطوا منها عطف على الجملة الأولى وإذا فجائية وهم مبتدأ
وجملة يسخطون خبر وجملة إذا هم يسخطون في محل جزم جواب الشرط لأن «إذا» تخلف الفاء
(وَلَوْ أَنَّهُمْ
رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) أن وما في حيزها فاعل لفعل محذوف أي لو ثبت رضاهم ، وما
مفعول به وجملة آتاهم الله ورسوله صلة. (وَقالُوا حَسْبُنَا
اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ) حسبنا مبتدأ والله خبر أو بالعكس والجملة مقول القول ،
سيؤتينا الله فعل مضارع ومفعول به وفاعل ومن فضله جار ومجرور متعلقان بيؤتينا
ورسوله عطف على الله. (إِنَّا إِلَى اللهِ
راغِبُونَ) إن واسمها والى الله جار ومجرور متعلقان براغبون
وراغبون خبر إنا. (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ
لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ
قُلُوبُهُمْ) إنما كافة ومكفوفة وهي للقصر قصرت الصدقات على الأصناف
المعدودة والصدقات مبتدأ وللفقراء خبر والمساكين عطف على الفقراء والعاملين عليها
عطف أيضا وأراد بهم السعاة الذين يقبضونها من جاب وقاسم وكاتب وحاشر وحاسب ،
والمؤلفة قلوبهم عطف على ما تقدم أيضا ، وقلوبهم نائب فاعل. (وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي
سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ) وفي الرقاب معطوف على قوله للفقراء أي ومصروفة في
الرقاب ولا بد من تقدير مضاف أي وفي فك الرقاب والغارمين عطف أيضا أي الذين فدحتهم
الديون إن استدانوا لغير معصية أو لإصلاح ذات البين وفي سبيل الله عطف أيضا
أي القائمين بالجهاد وابن السبيل عطف أيضا وهو المنقطع فهو فقير حيث هو غني حيث
ماله. (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ
وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) مفعول مطلق لفعل محذوف أي فرض الله ذلك فريضة ويجوز
إعرابها حالا من الفقراء ومن بعدهم أي إنما الصدقات كائنة لهم حال كونها فريضة وهي
فعيلة بمعنى مفروضة وإنما دخلتها التاء وحقها أن يستوي فيها المذكر والمؤنث
لجريانها مجرى الأسماء كالنطيحة ، ومن الله صفة والله مبتدأ وعليم خبر أول وحكيم
خبر ثان.
البلاغة :
مخالفة الحروف :
في قوله تعالى «إنما
الصدقات للفقراء» الى آخر الآية فن طريف من فنون البلاغة لطيف المأخذ ، دقيق
المغزى ، قلّ من يتفطن إليه فقد عدل عن اللام الى في ، في الأربعة الأخيرة وذلك
لسرّ يخفى على المتأمل السطحي ، وهو أن الأصناف الأربعة الأوائل وهم الفقراء
والمساكين والعاملون عليها والمؤلفة قلوبهم ملاك لما عساه يدفع إليهم فكان دخول
اللام لائقا بهم ، وأما الأربعة الأواخر فلا يملكون ما يصرف نحوهم بل ولا يصرف
إليهم ولكن في مصالح تتعلق بهم فالمال الذي يصرف في الرقاب إنما يتناوله السادة
المكاتبون والبائعون فليس نصيبهم مصروفا الى أيديهم حتى يعبر عن ذلك باللام
المشعرة بتملكهم لما يصرف نحوهم
وإنما هم محالّ
لهذا الصرف ، والمصلحة المتعلقة به ، وكذلك العاملون إنما يصرف نصيبهم لأرباب
ديونهم تخليصا لذممهم لا لهم وأما سبيل الله فواضح فيه ذلك ، وأما ابن السبيل
فكأنه كان مندرجا في سبيل الله وإنما أفرد بالذكر تنبيها على خصوصيته مع أنه مجرد
من الحرفين جميعا وعطفه على المجرور باللام ممكن ولكنه على القريب منه أقرب ، إذا
تفرر هذا تبين لك ما تميز به الأئمة الأربعة من رهافة ذوق وإصابة حدس في استنباط
الأصول الفقهية من مخالفة الحروف ، ووجه آخر أشار اليه الزمخشري وذكره ابن الأثير
في كتابه الممتع «المثل السائر» نلخصه فيما يلي : إنما عدل عن اللام الى «في» في
الثلاثة الأخيرة للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصديق عليهم ممن سبق ذكره باللام
لأن «في» للوعاء ، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات كما يوضع الشيء في
الوعاء ويجعلوا مظنة لها ، وذلك لما في فك الرقاب وفي الغرم من التخليص والانقاذ ،
وتكرير «في» في قوله «وفي سبيل الله» دليل على ترجيحه على الرقاب وعلى الغارمين ،
وسياق الكلام أن يقال : وفي الرقاب والغارمين وسبيل الله وابن السبيل فلما جيء ب «في»
مرة ثانيه وفصل بها بين الغارمين وبين سبيل الله علم أن سبيل الله أوكد في استحقاق
النفقة فيه وهذه لطائف ودقائق لا توجد إلا في هذا الكلام الشريف.
الفوائد :
وفيما يلي فصل
ممتع كتبه عالم جليل من علماء الأزهر نثبته لأصالته في الصدقات والزكوات قال :
«تدفع الزكاة لثمانية أصناف :
١ ـ الفقير :
وهو الذي لا مال ولا كسب لائق يقع موقعا من كفايته بأن ينقص عن نصف ما يحتاجه كمن
يحتاج الى عشرة لا يملك ولا يكسب إلا درهمين أو ثلاثة.
٢ ـ المسكين :
من له مال أو كسب لا يكفيه كمن يحتاج الى عشرة دراهم وعنده سبعة.
٣ ـ العاملين
عليها : الساعين في تحصيلها كالكاتب لأموال الزكاة.
٤ ـ المؤلفة
قلوبهم : وهم الذين أسلموا وإسلامهم ضعيف أو كان قويا ولكن يتوقع بإعطائهم إسلام
غيرهم.
٥ ـ الرقاب :
وهم المكاتبون من الأرقاء لغير المزكي كتابة صحيحة.
٦ ـ الغارم :
وهو الذي تداين دينا لنفسه وحل الدين ولا قدرة له على وفائه وقصد صرفه في مباح أو
صرفه فيه أو تداين لإصلاح ذات البين إن حل الدين ولم يوفه من ماله ولو كان غنيا ،
أو تداين لضمان إن أعسر هو والمضمون.
٧ ـ وأهل سبيل
الله : وهم الغزاة المتطوعون بالجهاد وإن كانوا أغنياء إعانة على الجهاد.
٨ ـ وابن
السبيل : وهو المسافر سفرا مباحا من بلد الزكاة ولو مجتاز الى وطنه أو غيره فيعطى
من مال الزكاة ما يوصله الى مقصده إن احتاج.
(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ
يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ
يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا
مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦١)
يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ
يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ
اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ
الْعَظِيمُ (٦٣))
اللغة :
(أُذُنٌ) بضمتين الجارحة المعروفة عضو السماع مؤنثة والجمع آذان
، وأذن الكوز عروته وتصغيرها أذينة ، وفلان أذن من الآذان إذا كان يسمع مقال كل
أحد وتكون بلفظ واحد مع الجميع ويقال :جاء لابسا أذنيه أي غافلا وسيأتي مزيد تفصيل
عنها في باب البلاغة والفوائد.
(يُحادِدِ) يشاقق وفي القاموس وغيره : حادّه عاداه وغاضبه.
الاعراب :
(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ
يُؤْذُونَ النَّبِيَّ) كلام مستأنف مسوق للحديث عن فرقة من المنافقين كما
سيأتي في باب الفوائد ومنهم خبر مقدم والذين مبتدأ مؤخر وجملة يؤذون النبي صلة. (وَيَقُولُونَ : هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ
خَيْرٍ لَكُمْ) ويقولون عطف على يؤذون وجملة هو أذن من
المبتدأ والخبر مقول القول وقل فعل أمر وأذن خبر والمبتدأ محذوف وخير مضاف
إليه ولكم صفة. (يُؤْمِنُ بِاللهِ
وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) جملة يؤمن بالله تفسيرية لكونه أذن خير لهم ويؤمن
للمؤمنين عطف على يؤمن بالله وعدى الإيمان إلى الله بالباء لتضمنه معنى التصديق
ولموافقة ضده وهو الكفر في قوله «من كفر بالله» وعداه للمؤمنين باللام لتضمنه معنى
الانقياد وموافقته لكثير من الآيات كقوله «وما أنت بمؤمن لنا» وقوله «أفتطمعون أن
يؤمنوا لكم» ويمكن أن يجاب بأنه عدى فعل الإيمان إلى الله بالباء وإلى المؤمنين
باللام لأن إيمان الأمان من الخلود في النار وهو المقابل للكفر حقه أن يعدى بالباء
وأما الايمان بمعنى التصديق والتسليم فانه يعدي باللام للتفرقة بينهما وإن كان حقه
أن يعدى بنفسه كالتصديق حيث يقال صدقتك. ورحمة للذين آمنوا عطف على اذن خير وللذين
آمنوا صفة لرحمة ومنكم حال من الضمير في آمنوا (وَالَّذِينَ
يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) الذين مبتدأ وجملة يؤذون رسول الله صلة ولهم خبر مقدم
وعذاب مبتدأ مؤخر وأليم صفة والجملة الاسمية خبر الذين. (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ
لِيُرْضُوكُمْ) الجملة خبر ثان للذين ولكم متعلقان بيحلفون واللام
للتعليل ويرضوكم منصوب بأن مضمرة والواو فاعل والكاف مفعول به ولام التعليل ومجرورها
متعلقان بيحلفون أيضا. (وَاللهُ وَرَسُولُهُ
أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ) الواو للحال والله مبتدأ ورسوله عطف على الله وأحق خبر
مقدم وأن وما في حيزها مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر الله ووحد الضمير لتلازم
الرضاءين وإفراد الضمير في يرضوه إما للتعظيم للجناب الإلهي بإفراده بالذكر ولكونه
لا فرق بين إرضاء الله وإرضاء رسوله فإرضاء الله إرضاء لرسوله ، أو المراد الله
أحق أن يرضوه ورسوله كذلك كما قال سيبويه ورجحه النحاس ، أو لأن الضمير موضوع
موضع اسم الإشارة فإنه يشار به إلى الواحد والمتعدد ، أو الضمير راجع الى
المذكور وهو يصدق عليهما ، وقال الفراء : المعنى ورسوله أحق أن يرضوه والله افتتاح
كلام كما تقول ما شاء الله وشئت. وإن شرطية وكانوا فعل الشرط ومؤمنين خبر كانوا
والجواب محذوف أي فالله ورسوله أحق ، ويجوز أن يكون الكلام جملتين حذف خبر إحداهما
لدلالة الثاني عليه والتقدير والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك. (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ
يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ) الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي ولم حرف نفي وقلب
وجزم ويعلموا مجزوم بلم وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي يعلموا وأن واسمها ومن
شرطية مبتدأ ويحادد فعل الشرط ولفظ الجلالة مفعوله ورسوله عطف على اللام. (فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً
فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) الفاء رابطة وإن حرف مشبه بالفعل وله خبرها المقدم ونار
جهنم اسمها المؤخر وخالدا حال من الضمير المجرور باللام وفيها متعلقان بخالدا
وجملة اسم الشرط وفعله وجوابه خبر انه الأولى وذلك مبتدأ والخزي خبره والعظيم صفة.
البلاغة :
المجاز المرسل :
في قوله تعالى «هو
أذن» مجاز مرسل كما يراد بالعين الرجل إذا كان ربيئة لأن العين هي المقصودة منه
فصارت كأنه الشخص كله ، وهو من إطلاق اسم الجزء على الكل للمبالغة والعلاقة تسمى
الجزئية قال الشاعر :
كم بعثنا
الجيش جرّا
|
|
را وأرسلنا
العيونا
|
وفي رد الله
تعالى عليهم بقوله «قل أذن خير» إطماع لهم بالتسليم أولا ثم إيذان باليأس ثانيا
ولا شيء أبلغ من الرد عليهم بهذا الوجه يكر على طمعهم بعد الموافقة في الظاهر عليه
بالحسم ويعقبه باليأس منه ، ويسمى «القول بالموجب» والموجب بكسر الجيم لأن المراد
به الصفة الموجبة للحكم فهو اسم فاعل من أوجب ويحتمل فتح الجيم إن أريد بالقول
الحكم الذي أوجبته الصفة فيكون اسم مفعول والمعنيان صحيحان ، وهو قسمان :
١ ـ أن تقع صفة
في كلام الآخر كناية عن شيء أثبت له حكم فتثبت في كلامك تلك الصفة من غير تعرض
لثبوت ذلك الحكم وانتفائه عنه كقوله تعالى : «يقولون لئن رجعنا الى المدينة
ليخرجنّ الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين» فالأعز صفة وقعت في كلام
المنافقين كناية عن فريقهم والأذل كناية عن المؤمنين وقد أثبتوا لفريقهم ، المكنى
عنه بالأعز ، الإخراج فأثبت الله تعالى في الرد عليهم صفة العزة لغير فريقهم وهو
الله ورسوله والمؤمنون ولم يتعرض لثبوت ذلك الحكم الذي هو الإخراج للموصوفين بالعز
، أعني الله ورسوله والمؤمنين ولا لنفيه عنهم ومنه قول القبعثرى للحجاج لما توعده
فقال : لأحملنك على الأدهم يعني القيد فرأى القبعثرى أن الأدهم يصلح صفة للقيد
والفرس فحمل كلامه على الفرس فقال مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب فقال الحجاج
: إنه أي الأدهم حديد فقال القبعثرى : لأن يكون حديدا خير من أن يكون بليدا فحمل
الحديد على خلاف مراده أيضا.
٢ ـ حمل لفظ
وقع في كلام الآخر على خلاف مراده بما يحتمله
يذكر متعلقه وقد شاع هذا الضرب على ألسنة الشعراء وتداولوه في أشعارهم
كثيرا قال ابن حجاج :
قال : ثقلت
إذ أتيت مرارا
|
|
قلت : ثقلت
كاهلي بالأيادي
|
قال : طوّلت
قلت أوليت طولا
|
|
قال : أبرمت
قلت : حبل ودادي
|
وقد أوردنا في
أواخر سورة الإنعام أبياتا لصفي الدين الحلي كرر فيها هذا الضرب ويصح حمل الآية
الكريمة على هذا الضرب بذكر متعلق الأذن وهو خير.
الفوائد :
روى التاريخ
أنه اجتمع ناس من المنافقين فيهم الجلاس بن سويد ووديعة بن ثابت فوقعوا في رسول
الله صلى الله عليه وسلم وذموه ، وقال الجلاس بن سويد وهو بوزن غراب كما في
القاموس : نقول ما شئنا ثم نأتيه فننكر ما قلنا ونحلف فيصدقنا فيما نقول فإنما
محمد أذن ، وكان عندهم غلام يقال له عامر بن قيس فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره
فدعاهم وسألهم فأنكروا وحلفوا أن عامرا كذاب وحلف عامر أنهم كذبة فجعل عامر يدعو
ويقول : اللهم صدق الصادق وكذب الكاذب فأنزل الله هذه الآية.
(يَحْذَرُ
الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي
قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (٦٤) وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما
كُنَّا
نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ
(٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ
طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦))
الاعراب :
(يَحْذَرُ
الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي
قُلُوبِهِمْ) جملة مستأنفة مسوقة لبيان ما يضطرم في صدور المنافقين
من حسد وعداوة للمؤمنين فهم يخشون أن تنزل عليهم تخبرهم بما تنطوي عليه نفوس
المنافقين ، ولا تقل : إن الضمائر متفككة فما أسهل إرجاع كل ضمير الى أصحابه ،
ويحذر المنافقون فعل مضارع وفاعل وأن تنزل عليهم مفعول به ناصبه يحذر فإنه يتعدى
بنفسه خلافا للمبرد الذي زعم أن حذر لا يتعدى ، وقال : انه من هيئات النفس كفزع
والرد عليه من أوجه :
آ ـ ان ذلك غير
لازم ولا مضطرد فكثير من هيئات النفس متعد كخاف وخشى.
ب ـ قوله تعالى
: «ويحذركم الله نفسه» فلو لا أنه متعد في الأصل لواحد لما اكتسب بالتضعيف مفعولا
ثانيا.
ج ـ أجمعت
معاجم اللغة على أنه يتعدى بنفسه وبالحرف.
وعليهم متعلق
بتنزل وسورة نائب فاعل وجملة تنبئهم صفة لسورة وبما في موضع المفعول الثاني
لتنبئهم وفي قلوبهم متعلق بمحذوف صلة ما. (قُلِ اسْتَهْزِؤُا
إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) استهزئوا فعل أمر يراد به التهديد وإن واسمها وخبرها
وما موصول مفعول مخرج لأنه اسم فاعل وجملة تحذرون صلة ما. (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ
إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) مقول القول وجملة نخوض خبر كنا. قل : أبالله وآياته
ورسوله كنتم وهو في محل جزم فعل الشرط وليقولن اللام واقعة في جواب القسم ويقولن
فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال والواو فاعل
والنون المشددة للتوكيد وجملة إنما كنا نخوض ونلعب مقول القول وجملة نخوض خبر كنا.
(قُلْ : أَبِاللهِ
وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي وبالله متعلقان
بتستهزءون وآياته ورسوله عطف على الله وكنتم تستهزئون كان واسمها والجملة الفعلية
خبرها. (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ
كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) لا ناهية وتعتذروا مضارع مجزوم بلا الناهية وقد حرف
تحقيق وكفرتم فعل وفاعل وبعد متعلق بكفرتم وإيمانكم مضاف إليه. (إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ
نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) إن شرطية ونعف فعل الشرط وعن طائفة متعلقان بنعف ومنكم
صفة ونعذب جواب الشرط وطائفة مفعول به وبأنهم متعلقان بنعذب والباء للسببية وان
واسمها وجملة كانوا مجرمين خبرها وكان واسمها وخبرها.
(الْمُنافِقُونَ
وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ
عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ
الْمُنافِقِينَ
هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧) وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ
نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ
عَذابٌ مُقِيمٌ (٦٨) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً
وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ
بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ
وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا
وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٩))
اللغة :
(الخلاق) بفتح
الخاء النصيب وهو ما خلق للإنسان أي قدر من خير.
الاعراب :
(الْمُنافِقُونَ
وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) المنافقون مبتدأ والمنافقات عطف عليه وبعضهم مبتدأ ومن
بعض خبر أي متشابهون كأبعاض الشيء الواحد. (يَأْمُرُونَ
بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) الجملة خبر ثان للمنافقون والأول هو الجملة
الاسمية وينهون عن المعروف عطف على الجملة السابقة ويقبضون أيديهم عطف أيضا
وسيأتي معناها في باب البلاغة. (نَسُوا اللهَ
فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) نسو الله فعل وفاعل ومفعول به فنسيهم عطف على نسوا
وسيأتي بحث هذا المجاز المرسل ، وإن واسمها وهم مبتدأ ثان أو ضمير فصل والفاسقون
خبر «هم» أو خبر إن والجملة الاسمية خبر إن. (وَعَدَ اللهُ
الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ) وعد الله المنافقين فعل وفاعل ومفعول والمنافقات عطف
وكذلك الكفار ونار جهنم مفعول به ثان ، ووعد يستعمل في الخير والشر (خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ) خالدين حال من المفعول الأول وهي مبتدأ وحسبهم خبر
والجملة حالية (وَلَعَنَهُمُ اللهُ
وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) الواو عاطفة ولعنهم الله فعل ومفعول به وفاعل ولهم خبر
مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر ومقيم صفة. (كَالَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً) الكاف اسم بمعنى مثل خبر لمبتدأ محذوف أي أنتم مثل
الذين ويجوز أن تكون الكاف حرف جر والجار والمجرور خبرا للمبتدأ المقدر ومن قبلكم
صلة الذين وكانوا أشد كان واسمها وخبرها ومنكم جار ومجرور متعلقان بأشد وقوة
تمييز. (وَأَكْثَرَ أَمْوالاً
وَأَوْلاداً) عطف على أشد منكم قوة.
(فَاسْتَمْتَعُوا
بِخَلاقِهِمْ) الفاء عاطفة واستمتعوا فعل وفاعل وبخلاقهم متعلقان
باستمتعوا. (فَاسْتَمْتَعُوا
بِخَلاقِهِمْ) عطف على ما تقدم.
(كَمَا اسْتَمْتَعَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ) الكاف محلها النصب على المفعولية المطلقة والذين فاعل
ومن قبلكم صلة الذين وبخلاقهم جار ومجرور متعلقان باستمتع (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) الكاف ومدخولها في محل نصب على المفعولية المطلقة. (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي
الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أولئك مبتدأ وجملة حبطت خبر وأعمالهم فاعل وفي الدنيا
جار ومجرور متعلقان بحبطت. (وَأُولئِكَ هُمُ
الْخاسِرُونَ) مبتدأ وخبر وهم ضمير فصل أو مبتدأ ثان.
البلاغة :
في هذه الآيات
فنون من البلاغة :
١ ـ الكناية في
قوله تعالى (وَيَقْبِضُونَ
أَيْدِيَهُمْ) كناية عن الشح والأصل في هذه الكناية أن المعطي يمد يده
ويبسطها بالعطاء فقيل لمن منع وبخل قد قبض يده.
٢ ـ المجاز
المرسل في قوله تعالى «نسوا الله فنسيهم» لأن النسيان هنا غير وارد فهو بالنسبة
إليهم مسقط التكليف عنهم ، وهو بالنسبة إليه تعالى محال ، ولذلك لا بد من حمل
الكلام على المجاز المرسل والعلاقة اللازمية فالمراد لازم النسيان وهو الترك أي
أنهم أغفلوا ذكر الله فتركهم من رحمته وفضله أو يقال فيه فن المشاكلة لأن النسيان
الحقيقي لا يصح إطلاقه على الله سبحانه وإنما أطلق عليه هنا من باب المشاكلة أي
تركوا ما أمرهم به فتركهم من رحمته وفضله.
٣ ـ التكرير في
ترديد استمتعوا ، ذلك انه شبه حالهم بحال الأولين ففي التكرير تأكيد ومبالغة في ذم
المخاطبين وتقبيح حالهم واستهجان أمرهم.
٤ ـ الاستعارة
التصريحية في خضتم شبّه الباطل بماء وحذف المشبه وأبقى المشبه به وهو الماء على طريق
الاستعارة التصريحية التبعية.
٥ ـ التنكيت في
قوله تعالى : «المنافقون والمنافقات» إلى آخر الآية ثم قوله بعد ذلك «والمؤمنون
والمؤمنات» الى آخر الآية فإن لقائل أن يقول : ما النكتة التي أوجبت وصف المنافقين
والمنافقات بالتلاحم الشديد دون المؤمنين والمؤمنات بحيث لا يجوز التبديل في
الخبرين فيجعل التلاحم بين المؤمنين وغيره بين المنافقين؟ فيقال في الجواب : لما
كان المنافقون والمنافقات كلهم يهود وهم من بني إسرائيل كان اتصال بعضهم ببعض
اتصال نسب أو ما نطلق عليه العنصرية والجنس ، ولما كان المؤمنون من شعوب متفرقة وأمم
شتى كان اتصالهم اتصال سبب وهو جعل الإسلام بينهم من التحاب في الله والولاء فيه
والتناحر في سبيله ، ومن هاهنا لم يجز التبديل بين الخبرين بأن يجعل اتصال النسب
للمؤمنين واتصال السبب للمنافقين.
(أَلَمْ يَأْتِهِمْ
نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ
إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ (٧٠) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ
يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ
وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ
اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١) وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ
تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ
عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢))
اللغة :
(الْمُؤْتَفِكاتِ) مدائن قوم لوط وقيل قريات قوم لوط وهود وصالح وائتفاكهن
انقلاب أحوالهن من الخير الى الشر أو المنقلبات التي جعل الله عاليها سافلها ،
ويقال : أفكه إذا قلبه وبابه ضرب ، ويقال :أفكته فائتفك فهو مطاوعه أي قلبته
فانقلب والمادة تدل على التحول والصرف.
(عَدْنٍ) إقامة ، وهي هنا علم على الجنة ، وأصلها من عدن القوم
بالبلد أقاموا فيه ، وطال عدنهم فيه وعدونهم ، وفلان في معدن الخير والكرم ، وهو
من مراكز الخير ومعادنه ، وعليه عدنيات أي ثياب كريمة وأصلها النسبة إلى عدن
بفتحتين ، ومن أقوالهم : «مرت جوار مدنيات عليهن رباط عدنيات» وكثر حتى قيل للرجل
الكريم الأخلاق عدني كما قيل للشيء العجيب من كل فن عبقري ، قال ابن جابر المحاربي
:
سرت ما سرت
من ليلها ثم عرّست
|
|
إلى عدنيّ ذي
غناء وذي فضل
|
إلى ابن حصان
لم تخضرم جدودها
|
|
كريم النثا
والخيم والعقل والأصل
|
الاعراب :
(أَلَمْ يَأْتِهِمْ
نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم
ويأتهم مجزوم بلم والهاء مفعول به ونبأ فاعل والذين مضاف إليه ومن قبلهم صلة (قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ
إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ) قوم بدل من الذين بدل بعض من كل وقوله وعاد الى آخر
المعطوفات كلها معطوفة على قوم نوح غير ان الأخير وهو المؤتفكات على حذف مضاف أي
قريات قوم لوط وإنما افتصر القرآن الكريم هذه الطوائف الست لأن آثارهم باقية
وبلادهم بالشام واليمن والعراق وكل ذلك قريب من أرض العرب في شبه حزيرتهم فكانوا
يعرجون بها ويتنسمون أخبار أهلها. (أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّناتِ) الجملة استئنافية لبيان أخبارهم وأحاديثهم ، ورسلهم
فاعل.
(فَما كانَ اللهُ
لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) الفاء عاطفة وما نافية كان الله كان واسمها واللام
للجحود ويظلمهم منصوب بأن مضمرة بعد لام الجحود والجار والمجرور متعلقان بالخبر أي
مريدا ليظلمهم ، ولكن الواو عاطفة ولكن مخففة مهملة وكان واسمها وأنفسهم مفعول
مقدم ليظلمون وجملة يظلمون خبر كانوا وقدم المفعول به اهتماما به مع مراعاة
الفاصلة. (وَالْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) المؤمنون مبتدأ وبعضهم مبتدأ ثان وأولياء خبر والجملة
خبر المؤمنون وقد مرت مقابلتها مع الإشارة الى فن التنكيت بين الجملتين في الخبر.
(يَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) الجملة خبرية وقد تقدم إعرابها.
(وَيُقِيمُونَ
الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) عطف على ما تقدم. (وَيُطِيعُونَ اللهَ
وَرَسُولَهُ) عطف أيضا. (أُولئِكَ
سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أولئك مبتدأ وجملة سيرحمهم الله خبر وإن واسمها
وخبراها.
(وَعَدَ اللهُ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) وعد الله المؤمنين فعل وفاعل ومفعول به وجنات مفعول به
ثان وجملة تجري صفة والأنهار فاعل ومن تحتها جار ومجرور متعلقان بتجري.
(خالِدِينَ فِيها
وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) خالدين فيها حال من المؤمنين ومساكن عطف على جنات وطيبة
صفة وفي جنات عدن صفة ثانية.
(وَرِضْوانٌ مِنَ
اللهِ أَكْبَرُ) مبتدأ ساغ الابتداء به لأنه وصف بقوله من الله وأكبر
خبره ولم يسلكه في نظام الموعود به لأنه متحقق في ضمن كل موعود ولأنه قصارى ما
ترقى إليه آمال النفوس. (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ) ذلك مبتدأ وهو مبتدأ ثان والفوز خبر هو والجملة خبر اسم
الاشارة والعظيم صفة.
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ
وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣) يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا
وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا
بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ
فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ
اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ
مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٧٤))
الاعراب :
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) جاهد فعل أمر والكفار مفعول به والمنافقين عطف (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) واغلظ عطف على جاهد أي لا تأخذك هوادة فيهم وحاربهم
بالسيف وأقم زيفهم بالمنطق والحجة.
(وَمَأْواهُمْ
جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) قال أبو البقاء في إعرابه : «إن قيل كيف حسنت الواو هنا
والفاء أشبه بهذا الموضع ففيه ثلاثة أجوبة : أحدها أن الواو واو الحال والتقدير
افعل ذلك في حال استحقاقهم جهنم وتلك الحال حال كفرهم ونفاقهم. والثاني أن الواو
جيء بها تنبيها على إرادة فعل محذوف تقديره واعلم أن جهنم مأواهم. والثالث أن
الكلام قد حمل على المعنى ، والمعنى أنه قد اجتمع لهم عذاب الدنيا بالجهاد والغلظة
وعذاب الآخرة بجعل جهنم مأواهم» ولا حاجة إلى هذا كله لأن الواو استئنافية والجملة
مستأنفة مسوقة لبيان مآل أمرهم بعد بيان عاجله ، وبئس المصير الواو عاطفة وبئس
المصير فعل وفاعل والمخصوص بالذم محذوف للعلم به أي مصيرهم. (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا) جملة مستأنفة مسوقة لبيان ما صدر عنهم من الأعمال
المنكرة الموجبة للأمر بجهادهم والغلظة عليهم ، وبالله جار ومجرور متعلقان بيحلفون
وما نافية وقالوا فعل وفاعل وجملة ما قالوا جواب القسم.
(وَلَقَدْ قالُوا
كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) الواو عاطفة واللام جواب للقسم المحذوف وقالوا فعل
وفاعل وكلمة الكفر مفعول قالوا ، قيل هي كلمة الجلاس بن سويد الآنفة الذكر وقد قيل
هي كلمة عبد الله بن أبي بن سلول حيث قال : «لئن رجعنا الى المدينة ليخرجن الأعز
منها الأذل» ، وكفروا عطف على قالوا وبعد ظرف متعلق بكفروا (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) عطف على ما تقدم وبما متعلقان بهموا وجملة
لم ينالوا صلة وسيأتي نبأ هذا الهم وهو الفتك برسول الله في باب الفوائد. (وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ
اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) الواو عاطفة وما نافية ونقموا فعل وفاعل وإلا أداة حصر
وأن وما في حيزها مفعول نقموا وأغناهم الله فعل ومفعول به وفاعل ورسوله عطف على
الله ومن فضله متعلقان بأغناهم. (فَإِنْ يَتُوبُوا
يَكُ خَيْراً لَهُمْ) الفاء عاطفة وإن شرطية ويتوبوا فعل الشرط ويك جواب
الشرط مجزوم بالسكون على النون المحذوفة للتخفيف وقد تقدمت قاعدتها في خصائص كان ،
واسم بك مستتر أي المتاب وخيرا خبر ولهم متعلقان ب «خيرا». (وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ
اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) الواو عاطفة وإن شرطية ويتولوا فعل الشرط ويعذبهم جواب
الشرط والهاء مفعول به والله فاعل وعذابا مفعول مطلق وأليما صفة وفي الدنيا
متعلقان بيعذبهم والآخرة عطف على الدنيا. (وَما لَهُمْ فِي
الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) الواو عاطفة وما نافية ولهم خبر مقدم وفي الأرض حال ومن
حرف جر زائد وولي مبتدأ مؤخر محلا ولا نصير عطف على ولي.
البلاغة :
في هذه الآية «وما
نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله» تأكيد المدح بما يشبه الذم ، وقد تقدم مبحث
هذا الفن في المائدة ، كأنه قال ليس له صفة تعاب وتكره إلا أنه ترتب على قدومه
إليهم وهجرته عندهم إغناء الله إياهم بعد الخصاصة والفاقة وشدة الحاجة وهذه ليست
صفة ذم فحينئذ ليس له صفة تذم أصلا.
الفوائد :
محاولة الفتك بالنبي (صلى الله عليه وسلم):
روى التاريخ
أنهم قرروا فيما بينهم الفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة عند عوده من
تبوك ، وهم بضعة عشر رجلا ، وقد اجتمع رأيهم على أن يدفعوه عن راحلته ليقع في
الوادي فيموت ، فلما وصل الى العقبة نادى مناديه بأمره : إن رسول الله يريد أن
يسلك العقبة فلا يسلكها أحد غيره ، واسلكوا يا معشر الجيش بطن الوادي فإنه أسهل
لكم وأوسع ، فسلك الناس بطن الوادي ، وسلك النبي صلى الله عليه وسلم العقبة ، وكان
ذلك في ليلة مظلمة ، فجاء المنافقون وتلثموا وسلكوا العقبة ، وكان النبي قد أمر
عمار بن ياسر أن يأخذ بزمام ناقته ويقودها ، وأمر حذيفة أن يسوقها من خلفها فبينما
النبي يسير في العقبة إذ غشيه المنافقون ، فنفرت ناقته حتى سقط بعض متاعه فصرخ بهم
، فولوا مدبرين وعلموا أنه اطلع على مكرهم فانحطوا من العقبة مسرعين الى بطن
الوادي ، واختلطوا بالناس ، فرجع حذيفة يضرب الناقة ، فقال له النبي : هل عرفت
أحدا منهم؟ قال : لا كانوا متلثمين ، والليلة مظلمة ، قال : هل علمت مرادهم؟ قال :
لا ، قال النبي : انهم مكروا وأرادوا أن يسيروا معي في العقبة فيزحمونني عنها وإن
الله خبرني بهم وبمكرهم ، فلما رجع جمعهم ، وأخبرهم بما مكروا به فحلفوا بالله ما
قالوا ولا أرادوا. وهناك روايات أخرى لا تخرج عن هذا المعنى يرجع إليها في
المطولات.
(وَمِنْهُمْ مَنْ
عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ
الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا
وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ
يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أَلَمْ
يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ
الْغُيُوبِ (٧٨) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي
الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ
سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٩) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ
اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٨٠))
الاعراب :
(وَمِنْهُمْ مَنْ
عاهَدَ اللهَ) استئناف مسوق لبيان قصة ثعلبة بن حاطب وهو نموذج مجسّد
للنفاق وسيأتي حديثه في باب الفوائد ، ومنهم خبر مقدم ومن موصول مبتدأ مؤخر وجملة
عاهد الله صلة. (لَئِنْ آتانا مِنْ
فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) اللام موطئة للقسم وإن شرطية وآتانا فعل ماض ونا مفعول
به وهو فعل الشرط ولنصدقن جواب القسم وجواب الشرط محذوف واللام في لنصدقن واقعة في
جواب القسم ولا يمتنع الجمع بين القسم واللام الموطئة له. ولنكونن عطف على
لنصدقن ومن الصالحين خبر نكونن والاسم مستتر تقديره نحن (فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ
بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) الفاء عاطفة ولما ظرفية حينية أو رابطة وآتاهم فعل
وفاعل مستتر ومفعول به ومن فضله جار ومجرور متعلقان بآتاهم وجملة بخلوا به لا محل
لها وتولوا عطف على بخلوا والواو حالية وهم مبتدأ ومعرضون خبر. (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ
إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) الفاء عاطفة وأعقبهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول
ونفاقا مفعول به ثان وفي قلوبهم صفة نفاقا أي متمكنا راسخا في قلوبهم والى يوم حال
أي ممتدا وجملة يلقونه مضاف إليها الظرف. (بِما أَخْلَفُوا
اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) الباء حرف جر للسببية وما مصدرية أي بسبب إخلافهم الله
الوعد والله مفعول أخلفوا وما مصدرية وهي وما في حيزها مفعول أخلفوا وبما كانوا
يكذبون عطف على ما تقدم مماثل له في الإعراب. (أَلَمْ يَعْلَمُوا
أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) الهمزة للاستفهام الإنكاري ويعلموا مضارع مجزوم بلم وأن
وما في حيزها سدت مسد مفعولي يعلموا وسرهم مفعول يعلم ونجواهم عطف على سرهم وأن
الله علام الغيوب أن واسمها وخبرها وهي معطوفة على أن الاولى (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ) الذين في محل خبر لمبتدأ محذوف أي هم أو مبتدأ ويلمزون
صلة والمطوعين مفعول به ومن المؤمنين حال وفي الصدقات متعلقان بيلمزون أي يعيبونهم
فيها.
(وَالَّذِينَ لا
يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) عطف على الذين يلمزون وإلا أداة حصر وجهدهم مفعول
يجدون. (فَيَسْخَرُونَ
مِنْهُمْ) عطف على يلمزون ومنهم متعلقان بيسخرون. (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ) جملة سخر الله منهم خبر الذين ولهم خبر مقدم وعذاب
مبتدأ مؤخر وأليم
صفة. (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ
أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) أمر يراد به الخبر كأنه قيل لن يغفر الله لهم أستغفرت
لهم أم لم تستغفر لهم ، وأو للتخبير والعطف ولا ناهية وتستغفر مجزوم بلا ولهم
متعلقان بالفعل وسيأتي مزيد بحث عنه في باب البلاغة. (إِنْ تَسْتَغْفِرْ
لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) إن شرطية وتستغفر فعل الشرط ولهم متعلق بتستغفر وسبعين
ظرف خلافا لأبي البقاء إذ أعربها مفعولا مطلقا ولكن ورود مرة بعدها وهي ظرف أكدت
حتمية كونها ظرفا ومرة تمييز والسبعون جار مجرى المثل في كلامهم للتكثير ، قال علي
بن أبي طالب :
لأصبحن
العاصي وابن العاصي
|
|
سبعين ألفا
عاقدي النواصي
|
والفاء رابطة
ولن حرف ناصب ويغفر منصوب بلن والله فاعل ولهم متعلق بيغفر. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ
وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) ذلك مبتدأ وبأنهم خبر وأن وما في حيزها مصدر مجرور
بالباء وجملة كفروا خبر أن وبالله متعلقان بكفروا ورسوله عطف على الله والله مبتدأ
وجملة لا يهدي خبر والقوم مفعول به والفاسقين نعت.
البلاغة :
في قوله تعالى
: «استغفر لهم أو لا تستغفر لهم» خروج الأمر والنهي عن معناهما الأصلي إلى معنى
آخر وهو التسوية كقول كثير عزة :
أسيئي بنا أو
أحسني لا ملومة
|
|
لدينا ولا
مقلية إن تقلت
|
كأنه يقول لها
امتحني محلك عندي وقوة محبتي لك وعامليني بالإساءة والإحسان وانظري هل يتفاوت حالي
معك مسيئة أو محسنة وكذلك معنى الآية استغفر لهم أو لا تستغفر لهم وانظر هل يغفر
لهم في حالتي الاستغفار وتركه وهو من أبلغ الكلام.
الفوائد :
قصة ثعلبة بن
حاطب :
١ ـ وهذه قصة
رائعة يتجسد فيها النفاق ونلخصها لطولها ولعل القارئ يرجع إليها في المطولات ، روى
التاريخ أن ثعلبة بن حاطب سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له أن يرزقه الله
مالا ويؤدي منه كل ذي حق حقه فدعا له فوسع عليه وكان ثعلبة صحيح الإسلام في ابتداء
أمره وكان ملازما لمسجد رسول الله حتى لقب بحمامة المسجد فلما تم له الرزق الوفير
انقطع عن الجمعة والجماعة ومنع الزكاة إلى آخر تلك القصة الفريدة في التاريخ.
٢ ـ قاعدة هامة
: قد يوضع الطلب موضع الخبر للرضاء بالواقع حتى كأنه مطلوب ، وعليه قول كثير :
أسيئي بنا أو
أحسني لا ملومة
|
|
لدينا ولا
مقلية إن تقلّت
|
أي لا ملومة
أنت لدينا ولا مبغوضة فذكر لفظ الأمر ثم عطف عليه بلفظ أو ، فالأمر يفيد الإساءة
والمعنى على
الإخبار أي نحن
راضون بما تفعلين لا نلومك أسأت أم أحسنت ولا نبغضك إن أبغضت ففيه تنبيه على إظهار
مزيد الرضا بكل ما اختارته عزة في حقه وتنبيه على عدم
تفاوت جواب كثير بتفاوت ما اختارت عزة وعليه الآية الكريمة الآنفة الذكر
فإنه لا يتفاوت عدم غفران الله لهم بتفاوت استغفار الرسول عليه السلام وقوعا وعدم
وقوع ، فإن مقتضى المقام هاهنا هو الإخبار لا الأمر لأنه لا يصح أن يحمل هاهنا على
حقيقة الأمر وهو طلب شيء مع ضده.
وقد شاع
استعمال السبعة والسبعين والسبعمائة ونحوها في التكثير لاشتمال السبعة على جملة
أقسام العدد وكأنه العدد بأسره ، وتوضيح هذا الكلام أن السبعة أول عدد كامل حيث
جمعت العدد كله لأن العدد أزواج وأفراد ، فالأزواج والأفراد منها أول وثان
فالاثنان أول الأزواج والأربعة زوج ثان والثلاثة أول الافراد والخمسة فرد ثان فإذا
جمعت الزوج الأول مع الفرد الثاني أو الفرد الأول مع الزوج الثاني كانت سبعة ،
وهذه الخاصة لا توجد في عدد قبل السبعة ، وقيل : إن العرب تبالغ في العدد بالسبعة
لأن التعديل في نصف العقد وهو خمسة ، إذا زيد عليه واحد كان لأدنى المبالغة ، وإذا
زيد عليه اثنان كان لأقصى المبالغة ، ولا زيادة على ذلك ، ولذلك قالوا للأسد سبع
لأنه قد ضوعفت قوته سبع مرات ، ثم سبعون غاية الغايات لأن غاية الآحاد العشرات
فمعنى الآية أنه تعالى لا يغفر لهم وإن استغفرت بكل الأعداد دائما.
(فَرِحَ
الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا
بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي
الْحَرِّ قُلْ نارُ
جَهَنَّمَ
أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً
وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢))
الاعراب :
(فَرِحَ
الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ) فرح المخلفون فعل وفاعل وهم الذين خلفهم الكسل وأقعدهم
عن الإسهام في واجباتهم المقدسة بعد أن استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في
القعود ، وبمقعدهم متعلق بفرح وخلاف رسول الله أي خلفه منصوب على أنه مفعول لأجله
أو حال أي قعدوا لمخالفته أو مخالفين له ويجوز أن ينتصب على المصدر بفعل مقدر
مدلول عليه بقوله مقعدهم لأنه في معنى تخلفوا أي تخلفوا خلاف رسول الله ويجوز أن
ينتصب على الظرف أي بعد رسول الله وإلى هذا ذهب أبو عبيدة وعيسى بن عمر والأخفش
واقتصر عليه أبو البقاء (وَكَرِهُوا أَنْ
يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) عطف على فرح المخلفون وأن وما في حيزها مفعول كرهوا أي
وكرهوا الخروج الى الجهاد. (وَقالُوا لا
تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا
يَفْقَهُونَ) الواو عاطفة ولا ناهية وتنفروا فعل مضارع مجزوم بلا
والواو فاعل وفي الحر جار ومجرور متعلقان بتنفروا وقل فعل أمر ونار جهنم مبتدأ
وأشد خبر وحرا تمييز ولو شرطية وكان واسمها وجملة يفقهون خبرها وجواب لو محذوف
تقديره ما تخلفوا.
(فَلْيَضْحَكُوا
قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) الفاء الفصيحة واللام لام الأمر ويضحكوا مجزوم بها
وقليلا مفعول مطلق أو ظرف زمان بمعنى ضحكا قليلا أو وقتا قليلا وليبكوا كثيرا عطف.
(جَزاءً بِما كانُوا
يَكْسِبُونَ)
جزاء مفعول لأجله أو مفعول مطلق لفعل محذوف وبما متعلق بجزاء أو بمحذوف صفة
له وما مصدرية أو موصولة وكان واسمها وجملة يكسبون خبرها.
البلاغة :
١ ـ الطباق بين
الضحك والبكاء وبين قليل وكثير فهو مقابلة.
٢ ـ إخراج
الخبر مخرج الإنشاء لأن معناه فسيضحكون قليلا وسيبكون كثيرا ولكنه أخرج الخبر مخرج
الأمر للدلالة على أنه أمر حتمي لا بد منه.
(فَإِنْ رَجَعَكَ
اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ
تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ
بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣) وَلا تُصَلِّ
عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا
بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ
وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا
وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥))
اللغة :
(رَجَعَكَ) ردّك الله الى المدينة ورجع يستعمل لازما ومتعديا فاللازم من
باب جلس والمتعدي من باب قطع ، ومعنى الرجع تصيير الشيء الى المكان الذي كان فيه
يقال رجعته رجعا كقولك رددته ردّا.
الاعراب :
(فَإِنْ رَجَعَكَ
اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ) الفاء تفريعية للأمر وإن شرطية ورجعك الله فعل ومفعول
به وفاعل والفعل فعل الشرط والى طائفة متعلق برجعك وهم المنافقون ومنهم صفة فاستأذنوك
عطف على رجعك وللخروج متعلق باستأذنوك. (فَقُلْ لَنْ
تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً) الفاء رابطة لجواب الشرط ولن حرف نفي ونصب واستقبال
وتخرجوا مضارع منصوب بلن والواو فاعل ومعي ظرف مكان متعلق بتخرجوا وأبدا ظرف زمان
متعلق بتخرجوا أيضا. (وَلَنْ تُقاتِلُوا
مَعِيَ عَدُوًّا) عطف على لن تخرجوا وإعرابها مماثل لما تقدم (إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ
أَوَّلَ مَرَّةٍ) إن واسمها وجملة رضيتم خبرها وبالقعود متعلق برضيتم
وأول مرة ظرف زمان واستبعد أبو البقاء ذلك وقال : «ومرة مصدر كأنه قيل أول خرجة
دعيتم إليها لأنها لم تكن أول خرجة خرجها الرسول للغزاة فلا بد من تقييدها إذ
الأولية تقتضي السبق ، وقيل :التقدير أول خرجة خرجها الرسول لغزوة الروم بنفسه ،
وقيل : أول مرة قبل الاستئذان» فعلى هذا تعرب أول مرة مصدرا لمحذوف. (فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) الفاء عاطفة واقعدوا فعل أمر والواو فاعل ومع ظرف متعلق
باقعدوا أو بمحذوف حال من فاعل اقعدوا والخالفين مضاف اليه وهم المتخلفون فاللام
للعهد ، وهم مجموعة الزمنى والنساء والأطفال والمقعدون (وَلا تُصَلِّ عَلى
أَحَدٍ
مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً) الواو استئنافية ولا ناهية وتصلّ فعل مضارع مجزوم بلا
وفاعله أنت وعلى أحد متعلق بتصل ومنهم صفة لأحد وجملة مات صفة ثانية وأبدا ظرف
زمان متعلق بتصل. (وَلا تَقُمْ عَلى
قَبْرِهِ) عطف على ولا تصل وعلى قبره متعلقان بتقم. (إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ
وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) إن واسمها وجملة كفروا خبرها وبالله متعلق بكفروا
ورسوله عطف عليه وماتوا عطف على كفروا والواو حالية وهم مبتدأ فاسقون خبر والجملة
نصب على الحال وجملة إنهم تعليلية لا محل لها. (وَلا تُعْجِبْكَ
أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ) الواو عاطفة ولا ناهية وتعجبك مضارع مجزوم بلا والكاف
مفعول به وأموالهم فاعل وأولادهم عطف على أموالهم. (إِنَّما يُرِيدُ
اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا) إنما كافة ومكفوفة ويريد الله فعل مضارع وفاعل وأن وما
في حيزها مفعول يريد والجملة تعليلية لا محل لها وبها متعلق بيعذبهم وفي الدنيا
حال.
(وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ
وَهُمْ كافِرُونَ) وتزهق عطف على يعذبهم وأنفسهم فاعل والواو للحال وهم
مبتدأ وكافرون خبر والجملة حالية.
البلاغة :
المخالفة
والفرق بين الألفاظ في قوله تعالى : «ولا تعجبك أموالهم وأولادهم» إلخ وفي الآية
التي سبق ذكرها وهي «فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في
الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون» فأما سر التكرار والحكمة فيه فهو أن تجدد
النزول له شأن في تقرير ما نزل أولا وتأكيده ، كأنما يريد أن يكون المخاطب به على
بال ولا يغفل عنه ولا ينساه ، وأن يعتقد أن العمل به مهم وإن أعيد
هذا المعنى لقوته فيما يجب أن يحذر منه ، وهو أن أشد الأشياء جذبا للقلوب
واستهواء لها هو الاشتغال بالأموال والأولاد ، وما كان بهذه المثابة من التغرير
والإغواء يجب التحذير منه مرة بعد مرة ، وأما سر سر المخالفة والفرق بين بعض ألفاظ
الآيتين فنبين وجهه فيما يلي :
١ ـ قال تعالى
في الآية الأولى «فلا تعجبك» بالفاء وقال هنا :«ولا تعجبك» بالواو ، والفرق بينهما
أنه عطف الآية الأولى على قوله : «ولا ينفقون إلا وهم كارهون» وصفهم بكونهم كارهين
للإنفاق لشدة المحبة للأموال والأولاد فحسن العطف عليه بالفاء تعقيبا وترتيبا ،
وأما هذه الآية فلا تعلق لها بما قبلها فلهذا أتى بالواو.
٢ ـ وقال تعالى
في الآية الأولى : «فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم» وأسقط حرف لا في الثانية فقال «وأولادهم»
والسبب أن حرف لا دخل هناك لزيادة التأكيد فيدل على أنهم كانوا معجبين بكثرة
الأموال والأولاد وإعجابهم بأولادهم أكثر وفي إسقاط حرف لا هنا دليل على أنه لا
تفاوت بين الأمرين.
٣ ـ وقال تعالى
في الآية الأولى : «إنما يريد الله ليعذبهم» بحرف اللام وقال هنا : «أن يعذبهم»
بحرف أن والفائدة فيه التنبيه على أن التعليل في أحكام الله محال وإنه وإن ورد فيه
حرف اللام فمعناه «أن» كقوله : «وما أمروا إلا ليعبدوا الله» فإن معناه : وما
أمروا إلا بأن يعبدوا الله.
٤ ـ وقال تعالى
في الآية الأولى : «في الحياة الدنيا» وقال هنا :«في الدنيا» والفائدة في إسقاط
لفظ الحياة التنبيه على أن الحياة الدنيا بلغت في الخسة والمهانة الى حيث أنها لا
تستحق أن تذكر ولا تسمى حياة بل يجب الاقتصار عند ذكرها على لفظ الدنيا تنبيها على
كمال ذمها.
(وَإِذا أُنْزِلَتْ
سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا
الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَنْ
يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٨٧)
لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
(٨٨) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ
فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩))
الاعراب :
(وَإِذا أُنْزِلَتْ
سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ) الواو استئنافية وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط
وأنزلت فعل ماض مبني للمجهول وسورة نائب فاعل ويجوز أن يراد بالسورة تمامها وأن
يراد بعضها ، وأن مفسرة لأن في الانزال معنى القول دون حروفه ويجوز أن تكون مصدرية
فتكون مع مدخولها في محل نصب بنزع الخافض أي بأن آمنوا ، وبالله جار ومجرور
متعلقان بآمنوا ، وجاهدوا مع رسوله عطف على آمنوا بالله. (اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ
مِنْهُمْ) جملة استأذنك جواب إذا والكاف مفعول به وأولو الطول
فاعل وهم الأغنياء وأصحاب البسطة في الجاه والقوة ، ومنهم حال. (وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ
مَعَ
الْقاعِدِينَ) ذرنا فعل أمر أمات العرب ماضية فلم يأت منه إلا المضارع
والأمر ، ونا مفعول به ونكن جواب الطلب فلذلك جزم واسم نكن ضمير مستتر تقديره نحن
ومع القاعدين ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر نكن (رَضُوا بِأَنْ
يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) جملة رضوا استئنافية مسوقة لبيان سوء صنيعهم وبأن
يكونوا متعلق برضوا والواو اسم يكونوا ومع الخوالف خبر. (وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا
يَفْقَهُونَ) عطف على رضوا وعلى قلوبهم متعلق بطبع فهم الفاء عاطفة
وهم مبتدأ وجملة لا يفقهون خبر. (لكِنِ الرَّسُولُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) لكن مخففة مهملة والرسول مبتدأ والذين عطف عليه وجملة
آمنوا صلة ومعه ظرف متعلق بآمنوا وجملة جاهدوا بأموالهم وأنفسهم خبر الرسول. (وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ
وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أولئك مبتدأ ولهم خبر مقدم والخيرات مبتدأ مؤخر وجملة
لهم الخيرات خبر أولئك ، وأولئك هم المفلحون عطف على ما تقدم وقد سبق إعرابها. (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) جملة مستأنفة لبيان مآلهم الطيب وأعد فعل ماض والله
فاعله ولهم متعلق بأعد وجنات مفعول به وجملة تجري صفة. (خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ) خالدين حال وفيها متعلق بخالدين وذلك مبتدأ والفوز
العظيم خبره.
(وَجاءَ
الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا
اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٠)
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ
ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ
وَرَسُولِهِ
ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى
الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ
عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ
يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢))
اللغة :
(الْمُعَذِّرُونَ) اسم فاعل من عذر في الأمر إذا قصر فيه وتوانى ولم يجد ،
وحقيقته أن يوهم أن له عذرا فيما يفعل ولا عذر له ، أو المعتذرون بإدغام التاء في
الذال ونقل حركتها الى العين.
(الْأَعْرابِ) سكان البادية وهم أخص من العربي إذ العربي من تكلم
باللغة العربية سواء كان يسكن البادية أو الحاضرة.
الاعراب :
(وَجاءَ
الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة للشروع في بيان
أحوال سكان البادية وجاء المعذرون فعل وفاعل ومن الأعراب حال وليؤذن تعليل مضارع
منصوب بأن مضمرة ولهم متعلق بيؤذن. (وَقَعَدَ الَّذِينَ
كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) عطف على جاء والذين فاعل وكذبوا صلة الذين ولفظ الجلالة
مفعول كذبوا ورسوله عطف عليه. (سَيُصِيبُ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) السين
حرف استقبال ويصيب فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو والذين مفعول به وجملة
كفروا صلة ومنهم حال وعذاب فاعل يصيب وأليم صفة. (لَيْسَ عَلَى
الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما
يُنْفِقُونَ حَرَجٌ) ليس فعل ماض ناقص وعلى الضعفاء خبر ليس المقدم ولا على
المرضى عطف على الضعفاء ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون عطف أيضا وحرج اسم ليس. (إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما
عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الظرف متعلق بمعنوي مقتبس من النفي ، أي انتفى عنهم
الحرج إذا نصحوا فلا يخرجون حينئذ ، وجملة نصحوا في محل جر بإضافة الظرف إليها
ورسوله عطف على الله وما نافية وعلى المحسنين خبر مقدم ومن زائدة وسبيل مبتدأ مؤخر
محلا والله مبتدأ وغفور خبر أول ورحيم خبر ثان. (وَلا عَلَى الَّذِينَ
إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) الواو عاطفة ولا نافية وعلى الذين معطوف على قوله على
الضعفاء فهو بمثابة خبر مقدم والمبتدأ محذوف أي حرج وجملة إذا ما أتوك صلة الذين
وإذا ظرف مستقبل وما زائدة وجملة أتوك مضاف إليها الظرف ولتحملهم علة الإتيان أي
لتحملهم معك الى الغزو وهم كما يروي التاريخ سبعة من الأنصار وقيل هم أصحاب أبي
موسى الأشعري كما في البخاري. (قُلْتَ لا أَجِدُ ما
أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) جملة قلت حالية من الكاف في أتوك بتقدير وقد قبلها أي
إذا ما أتوك قائلا لا أجد وما مفعول أجد وجملة أحملكم صلة وعليه متعلق بأحملكم. (تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ
الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) جملة تولوا جواب إذا ويجوز أن تكون جملة قلت لا أجد
جواب إذا الشرطية وإذا وجوابها في موضع الصلة وعلى هذا فيكون قوله تولوا جوابا
لسؤال مقدّر كأن قائلا قال : ما كان حالهم وقت
أن أجيبوا بهذا الجواب فأجيب بقوله تولوا ، وأعينهم مبتدأ والواو للحال
وجملة تفيض خبر ومن الدمع تمييز أي تفيض دمعا وهو أبلغ من يفيض دمعها لأن العين
جعلت كأنها كلها دمع فائض وقد تقدم القول في هذه الجملة في المائدة مع بسط لم يسبق
إليه فجدد به عهدا ، وحزنا مفعول لأجله أو حال وأن لا يجدوا أن وما في حيزها مفعول
لأجله والعامل فيه حزنا ويجوز أن نعرب حزنا مفعولا مطلقا فيكون العامل في أن لا
يجدوا تفيض وما مفعول يجدوا وجملة ينفقون صلة.
وقد اعترض أبو
البقاء على إعراب الزمخشري من الدمع تمييزا فقال : «لا يجوز ذلك لأن التمييز الذي
أصله فاعل لا يجوز جره بمن وأيضا فإنه معرفة ولا يجوز إلا على رأي الكوفيين الذين
يجيزون مجيء التمييز معرفة.
البلاغة :
فن التلميح أو التمليح :
في قوله : «ما
على المحسنين من سبيل» فن من فنون البديع يسمى «التلميح» وهو أن يشار في فحوى
الكلام الى مثل سائر أو شعر نادر أو قصة مشهورة أو ما يجري مجرى المثل ، ومنه قول
يسار ابن عدي حين بلغة قتل أخيه وهو يشرب الخمر :
اليوم خمر
ويبدو في غد خبر
|
|
والدهر من
بين إنعام وإيئاس
|
ويسميه قوم «التمليح»
بتقديم الميم كأن الشاعر أتى في بيته
أو الناثر في فقرته بنكتة حسنة زادت الكلام ملاحة ، كقول ابن المعتز :
أترى الجيرة
الذين تداعوا
|
|
عند سير
الحبيب وقت الزوال
|
علموا أنني
مقيم وقلبي
|
|
راحل فيهم
أمام الجمال
|
مثل صاع
العزيز في أرحل القنو
|
|
م ولا يعلمون
ما في الرحال
|
وهذا التمليح
فيه إشارة الى قصة يوسف عليه السلام حين جعل الصاع في رحل أخيه وإخوته لم يشعروا
بذلك ، ومن لطائف التلميح قول أبي فراس :
فلا خير في
رد الأذى بمذلة
|
|
كما رده يوما
بسوءته عمرو
|
وهذا التمليح
أو التلميح فيه إشارة الى قصة عمرو بن العاص مع الإمام علي بن أبي طالب رضي الله
عنه في يوم صفين حين حمل عليه الإمام ، ورأى عمرو أن لا مخلص منه فلم يسعه غير كشف
العورة.
ومن لطائف
التلميح قصة الهذلي مع منصور بني العباس فإنه حكى أن المنصور وعد الهذلي بجائزة
ونسي ، فحجا معا ومرا في المدينة النبوية ببيت عاتكة ، فقال الهذلي : يا أمير
المؤمنين هذا بيت عاتكة التي يقول فيها الأحوص :
يا بيت عاتكة
الذي أتعزل
|
|
حذر العدا
وبه الفؤاد موكل
|
فأنكر عليه
أمير المؤمنين لأنه تكلم من غير أن يسأل ، فلما رجع الخليفة نظر في القصيدة إلى
آخرها ليعلم ما أراد الهذلي بإنشاد ذلك البيت من غير استدعاء فإذا فيها :
وأراك تفعل
ما تقول وبعضهم
|
|
مذق اللسان
يقول ما لا يفعل
|
فعلم أنه أشار
الى هذا البيت بتلميحه الغريب ، فتذكر ما وعده به وأنجزه له واعتذر إليه من
النسيان.
ومثله ما حكي
أن أبا العلاء المعري كان يتعصب للمتنبي فحضر يوما مجلس الشريف المرتضى فجرى ذكر
أبي الطيب فهضم المرتضى من جانبه فقال له أبو العلاء : لو لم يكن له من الشعر إلا
قوله : «لك يا منازل في القلوب منازل» لكفاه ، فغضب المرتضى وأمر به فسحب وأخرج ،
وبعد إخراجه قال المرتضى : هل تدرون ما عنى بذكر البيت؟ فقالوا : لا والله ، فقال
: عنى به قول أبي الطيب في قصيدته :
وإذا أتتك
مذمتي من ناقص
|
|
فهي الشهادة
لي بأني كامل
|
ومن هذا القبيل
قصة السّرّي الرفاء مع سيف الدولة بسبب المتنبي أيضا ، فإن السري الرفاء كان من
مداح سيف الدولة ، وجرى يوما في مجلسه ذكر أبي الطيب فبالغ سيف الدولة في الثناء عليه
فقال له السري : أشتهي أن الأمير ينتخب لي قصيدة من غرر قصائده لأعارضها له ويتحقق
بذلك أنه أركب المتنبي في غير سرجه ، فقال له سيف الدولة على الفور : عارض لنا
قصيدته القافية التي مطلعها :
لعينيك ما
يلقى الفؤاد وما لقي
|
|
وللحب ما لم
يبق مني وما بقي
|
قال السري :
فكتبت القصيدة واعتبرتها في تلك الليلة فلم أجدها من مختارات أبي الطيب لكن رأيته
يقول في آخرها عن ممدوحه :
إذا شاء أن
يلهو بلحية أحمق
|
|
أراه غباري
ثم قال له : الحق
|
فقلت : والله
ما أشار سيف الدولة إلا الى هذا البيت وأحجمت عن معارضة القصيدة.
وألطف من هذا
ما حكاه ابن الجوزي في كتاب الأدباء فإنه من غرائب التلميح قال : قعد رجل على جسر
بغداد فأقبلت امرأة بارعة في الجمال من جهة الرصافة الى الجانب الغربي فاستقبلها
شاب ، فقال لها : رحم الله علي بن الجهم فقالت له : رحم الله أبا العلاء المعري ،
وما وقفا بل سارا مغربا ومشرقا ، قال الرجل فتبعت المرأة فقلت لها : والله إن لم
تقولي ما أراد بابن الجهم فضحتك قالت أراد به :
عيون المها
بين الرصافة والجسر
|
|
جلبن الهوى
من حيث أدري ولا أدري
|
وأردت بأبي
العلاء قوله :
فيا دارها
بالكرخ إن مزارها
|
|
قريب ولكن
دون ذلك أهوال
|
الفوائد :
أورد ابن هشام
هذه الآية شاهدا على خروج إذا عن الاستقبال وذلك على وجهين أحدهما أن تجيء للماضي
كما جاءت إذ للمستقبل في قول بعضهم ، والثاني أن تجيء للحال وذلك بعد واو القسم
نحو «والليل إذا يغشى والنجم إذا هوى» قيل لأنها لو كانت للاستقبال لم
تكن ظرفا لفعل القسم لأنه إنشاء لا إخبار عن قسم يأتي ، لأن قسم الله
سبحانه قديم ولا لكون محذوف هو حال من الليل والنجم ، لأن الحال والاستقبال
متنافيان ، وإذا بطل هذان الوجهان تعين انه ظرف لأحدهما على أن المراد به الحال
اه.
والصحيح أنه لا
يصح التعليق بأقسم الانشائي لأن القديم لا زمان له لا حال ولا غيره ، بل هو سابق
على الزمان وانه لا يمتنع التعليق بكائنا مع بقاء إذا على الاستقبال بدليل صحة
مجيء الحال المقدرة باتفاق كمررت برجل معه صقر صائدا به غدا ، أي مقدرا الصيد به
غدا ، كذا يقدرون ، وأوضح منه أن يقال مريدا به الصيد غدا كما فسر قمتم في «إذا
قمتم الى الصلاة» بأردتم.
وقال القاضي
محب الدين شارح التسهيل : يمكن أن المراد حكاية حالهم حين ابتدءوا هم في الفعل
فإذا في محلها ، ورده الدماميني بأن الحكاية إنما تحقق الحال ولا تكون إذا في
محلها إلا إذا تحقق الاستقبال ، وأجاب الشمني بأن الحالية في مبدأ الفعل تستلزم
الاستقبال بالنظر لتمامه فبهذا الثاني تكون إذا واقعة محلها ولعلك تقول كلام
القاضي على الابتداء في فعل الإتيان ولا شك أن التولي أو القول العامل في إذا على
ما سبق مستقبل إذ ذاك فتدبر.
(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى
الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ
الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣)
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ
نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا
اللهُ
مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى
عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤)
سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا
عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً
بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥))
الاعراب :
(إِنَّمَا السَّبِيلُ
عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ) إنما كافة ومكفوفة قيل هي للتوكيد والمبالغة فيه وقيل
هي للحصر ، والسبيل مبتدأ وعلى الذين خبر وجملة يستأذنونك صلة وهم : الواو للحال
وهم مبتدأ وأغنياء خبر والجملة حالية (رَضُوا بِأَنْ
يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) جملة مستأنفة أو حالية بتقدير قد ، بأن يكونوا متعلقان
برضوا والواو اسم يكونوا والظرف خبرها. (وَطَبَعَ اللهُ عَلى
قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الجملة معطوفة على ما تقدم والفاء عاطفة وهم مبتدأ
وجملة لا يعلمون خبر. (يَعْتَذِرُونَ
إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ) جملة مستأنفة مسوقة لبيان ما يبررون به موقفهم المتخاذل
، روي انهم كانوا بضعة وثمانين رجلا فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءوا
يعتذرون إليه بالباطل وإليكم جار ومجرور متعلقان بيعتذرون وإذا ظرف مستقبل متعلق
بجوابه المحذوف أي يعتذرون وجملة رجعتم مضاف إليها وإليهم جار ومجرور متعلقان
برجعتم. (قُلْ لا تَعْتَذِرُوا
لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) جملة
لا تعتذروا مقول القول وجملة لن نؤمن لكم مستأنفة كأنها تعليل للنهي ولكم
جار ومجرور متعلقان بنؤمن. (قَدْ نَبَّأَنَا
اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ) قد حرف تحقيق ونبأنا نصبت هنا مفعولين أولهما نا
والثاني الجار والمجرور أو جملة من أخباركم فهو في الحقيقة صفة للمفعول المحذوف
أما المفعول الثالث فقد حذف اختصارا للعلم به والتقدير نبأنا الله من أخباركم كذبا
وأراجيف. (وَسَيَرَى اللهُ
عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) السين حرف استقبال ويرى فعل مضارع والله فاعل ، والرؤية
هنا بمعنى العلم ، وعملكم مفعول يرى الأول والثاني محذوف تقديره واقعا ورسوله عطف
على الله. (ثُمَّ تُرَدُّونَ
إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) ثم عطف للترتيب مع التراخي وتردون فعل مضارع ونائب فاعل
والى عالم الغيب جار ومجرور متعلقان بتردون (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الفاء عاطفة وينبئكم فعل وفاعل مستتر والكاف مفعوله
الأول وبما كنتم مفعوله الثاني وجملة تعملون خبر كنتم والعائد محذوف أي تعملونه ،
وما هنا موصولة أو مصدرية. (سَيَحْلِفُونَ
بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) السين للتأكيد مع الاستقبال ويحلفون فعل مضارع والواو
فاعل وبالله جار ومجرور متعلقان به والجملة بدل من يعتذرون ولكم حال والمحلوف
عليه محذوف
اعتمادا على فهم القارئ أي انهم معذرون في تخلفهم ، وإذا ظرف متعلق بيحلفون وإليهم
جار ومجرور متعلقان بانقلبتم ولتعرضوا : اللام للتعليل وتعرضوا منصوب بأن مضمرة
بعدها والجار والمجرور متعلقان بيحلفون ، وقد امتنع نصب المفعول لأجله لاختلاف
الفاعل أي لتتركوا معاتبتهم وعنهم جار ومجرور متعلقان بتعرضوا. (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ) الفاء الفصيحة وأعرضوا فعل أمر والواو فاعل وعنهم جار
ومجرور متعلقان بأعرضوا وان واسمها وخبرها. (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ
جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) الواو
استئنافية ومأواهم مبتدأ وجهنم خبر وجزاء مفعول لأجله أو مفعول مطلق لفعل
محذوف أي يجزون جزاء وبما متعلقان بجزاء وما مصدرية وكان واسمها وجملة يكسبون
خبرها.
(يَحْلِفُونَ لَكُمْ
لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ
الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦) الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ
أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً
وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ (٩٨))
اللغة :
(الْأَعْرابُ) : مر الحديث عنها ونضيف هنا أن اللام فيها للجنس أي
جنسهم لا كل واحد منهم لأنه سيستثنى منهم كما سيأتي ، وهو اسم جمع جاء على صورة
الجمع وليس جمعا لعرب لئلا يلزم كون الجمع أخص من مفرده لأن الأعراب سكان البادية
خاصة ، والعرب المتكلمون باللغة العربية سواء كانوا من سكان البادية أو الحاضرة
وفي المصباح :«وأما الأعراب فأهل البدو من العرب ، الواحد أعرابي بالفتح أيضا وهو
الذي يكون صاحب نجعة وارتياد للكلأ وزاد الأزهري فقال :
سواء كان من العرب أو من مواليهم قال : فمن نزل البادية وجاور البادين وظعن
بظعنهم فهم أعراب ، ومن نزل بلاد الريف واستوطن المدن والقرى العربية وغيرها ممن
ينتمي الى العرب فهم عرب وان لم يكونوا فصحاء» وقال غيره : عرب لسانه عرابة وما
سمعت أعرب من كلامه وأعرب وهو من العرب العرباء. والعاربة وهم الصرحاء الخلّص
وفلان من المستعربة وهم الدخلاء فيهم وفيه لوثة أعرابية قال :
وإني على ما
فيّ من عنجهيتي
|
|
ولوثة
أعرابيتي لأديب
|
وقال الكميت :
لا ينقض
الأمر إلا ريث يبرمه
|
|
ولا تعرّب
إلا حوله العرب
|
أي لا تعز
وتتمنع عزة الأعراب في باديتها إلا عنده وسيأتي مزيد من بحثه.
(الدَّوائِرَ) : دوائر الزمان دوله وعقبه وهي جمع دائرة والدائرة ما
يحيط بالإنسان من مصيبة ونكبة أخذا من الدائرة المحيطة بالشيء وأصله داورة لأنها
من دار يدور فقلبت الواو همزة ، وقد اختلف اللغويون فيها فقال قوم هي فاعلة كقائمة
وقال قوم هي مصدر كالعاقبة.
الاعراب :
(يَحْلِفُونَ لَكُمْ
لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) يحلفون بدل من سيحلفون ولكم جار ومجرور متعلقان بيحلفون
أو بمحذوف حال ولام التعليل متعلقة مع مجرورها بيحلفون وعنهم متعلقان بترضوا. (فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ
اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) الفاء الفصيحة والجواب
محذوف أي إن ترضوا عنهم فلا ينفعهم رضاكم ، فإن الفاء للتعليل وان واسمها
وجملة لا يرضى عن القوم الفاسقين خبرها. (الْأَعْرابُ أَشَدُّ
كُفْراً وَنِفاقاً) الأعراب مبتدأ وأشد خبر وكفرا تمييز ونفاقا عطف عليه
وذلك لجفائهم وقسوتهم وابتعادهم عن معالم الحضارة وهو من باب وصف الجنس بأحد
أفراده أو بعضهم كما في قوله تعالى «وكان الإنسان كفورا» إذ ليس كلهم كما ذكر
وسيأتي بحث «أل المعرفة» في باب الفوائد مع ذكر أقسامها. (وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ
ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) وأجدر عطف على أشد وأن وما في حيزها منصوبة بنزع الخافض
أي بأن لا يعلموا وهي متعلقة بأجدر وحدود مفعول يعلموا وما مضاف اليه وجملة أنزل
الله صلة. (وَاللهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ) مبتدأ وخبراه. (وَمِنَ الْأَعْرابِ
مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً) من الاعراب خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وجملة يتخذ صلة
وفاعل يتخذ مستتر تقديره هو وما مفعول به أول وجملة ينفق صلة ومغرما مفعول يتخذ
الثاني أي خسارة لأنه لا يرجو الثواب بل يخشى العقاب. (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) ويتربص الواو للحال ويجوز أن تكون عاطفة فتكون يتربص
داخلة في حكم الصلة وبكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال والدوائر مفعول به. (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الجملة دعائية لا محل لها وعليهم خبر مقدم ودائرة السوء
مبتدأ مؤخر والله مبتدأ وسميع خبره الأول وعليم خبره الثاني.
الفوائد :
حكم أل :
(أل) كلها حرف
تعريف على الأصح وهي إما أن تكون لتعريف
الجنس وتسمى «الجنسية» وإما لتعريف حصة معهودة منه وتسمى «العهدية».
أل العهدية : تكون على ثلاثة أقسام :
آ ـ اما أن
تكون للعهد الذكري وهي ما سبق لمصحوبها ذكر في الكلام كقولك : جاءني ضيف فأكرمت
الضيف ، أي المذكور ومنه قوله تعالى : «كما أرسلنا الى فرعون رسولا فعصى فرعون
الرسول».
ب ـ وإما أن
تكون للعهد الحضوري ، وهي ما يكون مصحوبها حاضرا مثل : جئت اليوم أي اليوم الحاضر
الذي نحن فيه.
ج ـ وإما أن
تكون للعهد الذهني ، وهي ما يكون مصحوبها معهودا ذهنا فينصرف الفكر إليه بمجرد
النطق به مثل حضر الرجل أي الرجل المعهود ذهنا بينك وبين من تخاطبه.
أل الجنسية وهي قسمان :
آ ـ إما أن
تكون لاستغراق جميع أفراد الجنس وهي ما تشمل جميع أفراده كقوله تعالى : «وخلق
الإنسان ضعيفا».
ب ـ وإما
لاستغراق جميع خصائصه مثل أنت الرجل ، أي اجتمع فيك كل صفات الرجال.
تنبيهات هامة :
١ ـ علامة أل
الاستغراقية أن يصح وقوع «كل» موقعها.
٢ ـ أل التي
لبيان حقيقة الجنس وماهيته وطبيعته بقطع النظر عما يصدق عليه من أفراده ولذلك لا
يصح حلول «كل» محلها تسمى «لام الحقيقة والماهية والطبيعة» وذلك مثل : الإنسان
حيوان ناطق أي حقيقته أنه عاقل مدرك وليس كل إنسان كذلك ، ومثل : الرجل أصبر من
المرأة ، فليس كل رجل كذلك ، وقد يكون بين النساء من تفوق بصبرها وجلدها كثيرا من
الرجال ، فأل هنا لتعريف الحقيقة غير منظور بها الى أفراد الجنس بل الى ماهيته من
حيث هي وعلى هذا تحمل أل الداخلة على «الأعراب» فليسوا جميعا بهذه المثابة من شدة
الكفر والنفاق والنبو عن استماع الكلام الطيب.
أل الزائدة :
وقد تزاد أل
فلا تفيد التعريف ، وزيادتها إما أن تكون لازمة فلا تفارق مصحوبها كزيادتها في
الأعلام التي قارنت وصفها كاللات والعزى والسموأل ، وكزيادتها في الأسماء الموصولة
كالذي والتي ونحوهما ، لأن تعريف الموصول بالصلة لا بأل على الأصح ، وإما أن تكون
زيادتها غير لازمة كزيادتها في بعض الأعلام المنقولة عن أصل للمح المعنى الأصلي
كالفضل والحارث والنعمان والوليد والرشيد ونحوها ، وزيادتها سماعية فلا يقال
المحمد والمحمود ، فما ورد عن العرب من ذلك يسمع ولا يقاس عليه غيره.
أل الموصولية :
وقد تكون أل
اسم موصول بلفظ واحد مطلقا ، وهي الداخلة على اسم الفاعل والمفعول بشرط ألا يراد
بها العهد أو الجنس نحو أكرم
المكرم ضيفه ، والمكرم ضيفه أي الذي يكرم ضيفه والذي يكرم ضيفه ، وإذا كانت
الصفة الواقعة صلة لأل الموصولية في قوة الفعل ومرفوعه حسن عطف الفعل ومرفوعه
عليها كقوله تعالى «والعاديات ضبحا فالموريات قدحا فالمغيرات صبحا فأثرن به نقعا
فوسطن به جمعا» وسيأتي بحث ذلك في حينه.
(وَمِنَ الْأَعْرابِ
مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ
عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ
اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩) وَالسَّابِقُونَ
الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ
بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ
تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ (١٠٠))
الاعراب :
(وَمِنَ الْأَعْرابِ
مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ومن الأعراب خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وجملة يؤمن بالله
صلة واليوم الآخر عطف على الله. (وَيَتَّخِذُ ما
يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ) ويتخذ عطف على يؤمن وفاعله هو وما اسم موصول مفعول به
وجملة ينفق صلة وقربات مفعول به ثان وعند الله ظرف في محل نصب صفة وصلوات
الرسول فيها وجهان أظهرهما أنها معطوفة على قربات والمعنى أن ما ينفقه سبب
لحصول القربات عند الله وصلوات الرسول لأن الرسول كان يدعو للمتصدقين بالخير
والبركة ويستغفر لهم ، وثانيهما أنها عطف على ما ينفق وتقديره وصلوات الرسول قربات
، وقربات مفعول ثان ليتخذ. (أَلا إِنَّها
قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ألا حرف تنبيه والجملة مستأنفة مؤكدة بألا وانها لثبات
الأمر. وإن واسمها وخبرها ولهم صفة لقربة وسيدخلهم السين حرف استقبال ويدخلهم الله
فعل مضارع ومفعول به وفاعل وفي رحمته جار ومجرور متعلقان بيدخلهم وإن واسمها
وخبراها. (وَالسَّابِقُونَ
الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ
بِإِحْسانٍ) السابقون مبتدأ والأولون صفة ومن المهاجرين والأنصار
حال والذين عطف على السابقون واتبعوهم صلة وبإحسان جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال.
(رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) الجملة خبر السابقون وهناك وجهان في الخبر ذكرهما أبو
البقاء وتبعه أكثر المفسرين لا أعلم كيف استساغهما ، الأول أن الخبر هو الأولون
وهو ظاهر التهافت والثاني أنه من المهاجرين والأنصار وهو أشد تهافتا. (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي
تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) تقدم إعراب نظائر هذه الجملة كثيرا فلا حاجة للإعادة.
(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ
مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى
النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ
يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ
خَلَطُوا عَمَلاً
صالِحاً
وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (١٠٢) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها
وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣) أَلَمْ
يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ
الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤))
اللغة :
(مَرَدُوا) : تمرنوا عليه ولجوا فيه يقال : تمرد فلان إذا عتا
وتجبر ومنه الشيطان : المارد ، وتمرد في معصيته أي ثبت عليها واعتادها ولم يتب
عنها ، وأصل مرد وتمرد اللين والملاسة والتجرد ، فكأنهم تجردوا للنفاق ، ومنه غصن
أمرد لا ورق فيه عليه وفرس أمرد لا شعر فيه وغلام أمرد لا شعر بوجهه وأرض مرداء لا
نبات فيها وصرح ممرد مجرد. فالمعنى أنهم أقاموا على النفاق وثبتوا عليه ولم ينثنوا
عنه.
(سَكَنٌ) : السكن : الطمأنينة فعل بمعنى مفعول كالقبض بمعنى
المقبوض.
الاعراب :
(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ
مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ) جملة مستأنفة مسوقة لبيان حال منافقي أهل المدينة ومن
حولها من الأعراب بعد بيان حال
أهل البادية ، وممن خبر مقدم وحولكم الظرف صلة الموصول ومن الأعراب حال
ومنافقون مبتدأ مؤخر. (وَمِنْ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) ومن أهل المدينة يجوز أن يكون معطوفا على من المجرورة
بمن فيكون المجروران مشتركين في الإخبار بهما عن المبتدأ وهو منافقون كأنه قيل
المنافقون من قوم حولكم ومن أهل المدينة ويجوز أن يكون الكلام تم عند قوله منافقون
ويكون قوله ومن أهل المدينة خبرا مقدما والمبتدأ بعده محذوف قامت صفته مقامه وحذف
الموصوف وإقامة صفته مقامه مطرد نحو منا ظعن ومنا أقام ونحو قوله :
أنا ابن جلا
وطلاع الثنايا
|
|
متى أضع
العمامة تعرفوني
|
والتقدير ومن
أهل المدينة قوم مردوا على النفاق (لا تَعْلَمُهُمْ
نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) الجملة في محل رفع صفة لمنافقون أو مستأنفة ونحن مبتدأ
وجملة نعلمهم خبر ومفعول نعلمهم الثاني محذوف تقديره منافقين وكذلك مفعول تعلمهم
الثاني ، سنعذبهم السين حرف استقبال ونعذبهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به
ومرتين ظرف (ثُمَّ يُرَدُّونَ
إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) الجملة معطوفة ، ويردون فعل ونائب فاعل والجار والمجرور
متعلقان بيردون وعظيم صفة. (وَآخَرُونَ
اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) وآخرون عطف على منافقون أو مبتدأ وجملة اعترفوا بذنوبهم
صفته وجملة خلطوا خبره وعملا مفعول خلطوا وصالحا صفة وآخر عطف على عملا وسيئا صفة
وسيأتي في باب الفوائد كيفية هذا الخلط وما فيه من أسرار. (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ
إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) عسى من أفعال المقاربة وتفيد الرجاء
والله اسمها وأن وما في حيزها خبر وعليهم جار ومجرور متعلقان بيتوب وإن
واسمها وخبراها. (خُذْ مِنْ
أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) خذ فعل أمر وفاعله أنت ومن أموالهم جار ومجرور متعلقان
بخذ ويكون معنى «من» التبعيض وصدقة مفعول به ويجوز أن تتعلق بمحذوف حال لأنها كانت
في الأصل صفة لصدقة فلما قدمت نصبت حالا منها وجملة تطهرهم حال من فاعل خذ إذا
كانت التاء في تطهرهم خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم أو صفة لصدقة إذا كانت التاء
للغيبة وتزكيهم بها عطف على تطهرهم. (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ
إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وصلّ عطف على خذ وعليهم متعلقان بصلّ وإن واسمها وخبرها
ولهم صفة لسكن والله مبتدأ وسميع عليم خبراه.
(أَلَمْ يَعْلَمُوا
أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم
ويعلموا مضارع مجزوم بلم وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي يعلموا وأن واسمها ، وهو
مبتدأ وجملة يقبل خبره ، والجملة خبر أن ، ولا يجوز أن يكون هو فصلا لأن ما بعده
لا يلتبس بالوصفية ، وعن عباده متعلقان بيقبل. (وَيَأْخُذُ
الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) عطف نسق على ما تقدم ويجوز في «هو» هنا أن يكون ضمير
فصل وأن يكون مبتدأ.
الفوائد :
١ ـ حذف المنعوت واقامة النعت مقامه :
يجوز بكثرة حذف
المنعوت إن علم وكان النعت صالحا لمباشرة العامل نحو قوله تعالى : «أن اعمل سابغات»
أي دروعا سابغات ، أو كان النعت جملة أو شبهها وكان المنعوت مرفوعا وبعض
اسم متقدم عليه مخفوض ب «من» أو «في» فالاول كقولهم : منا ظعن ومنا أقام ،
فظعن وأقام جملتان في موضع رفع وهما نعتان لمنعوتين محذوفين مرفوعين على الابتداء
أي منا فريق ظعن ومنا فريق أقام ، والثاني كقول أبي الأسود الحماني يصف امرأة :
لو قلت ما في
قومها لم تيثم
|
|
يفضلها في
حسب وميثم
|
أصله لو قلت ما
في قومها أحد يفضلها لم تأثم في مقالتك فحذف الموصوف وهو أحد وأقام جملة يفضلها
مقامه.
هذا ويجوز حذف
النعت إن علم كقوله تعالى : «وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا» أي كل سفينة
صالحة وقول عباس ابن مرداس :
وقد كنت في
الحرب ذا تدرأ
|
|
فلم أعط شيئا
ولم أمنع
|
فحذف النعت
وأبقى المنعوت أي شيئا طائلا والذي أحوج الى تقدير هذا النعت تحري الصدق فإن
الواقع أنه أعطي شيئا بدليل قوله ولم أمنع ولكنه لم يرتضه فيحتاج الى تقدير صفة
يكتسي بها الكلام جلباب الصدق ويتحلى بزنة الحق وقول المرقش الأكبر :
ورب أسيلة
الخدين بكر
|
|
مهفهفة لها
فرع وجيد
|
أي فرع فاحم
وجيد طويل بدليل أن حسن التغزل يستدعي إثبات الفرع والجيد موصوفين بصفتين
محبوبتين.
بقي أنه يجوز
حذف المنعوت والنعت معا كقوله تعالى : «لا يموت فيها ولا يحيا» أي حياة نافعة ،
وقد يحذفان إذا قام مقام النعت معموله
كما قالوا في «والله ما هي بنعم الولد» أي والله ما هي بولد مقول فيه نعم
الولد «ونعم السير على بئس العير» أي على عير مقول فيه بئس العير.
٢ ـ أيهما المخلوط والمخلوط به؟
في قوله تعالى «خلطوا
عملا صالحا وآخر سيئا» جعل كلا منهما مخلوطا فما المخلوط به؟والجواب أن كل واحد
مخلوط ومخلوط به لأن المعنى خلط كل واحد منهما بالآخر كقولك : خلطت الماء واللبن
تريد خلطت كل واحد منهما بصاحبه وفيه ما ليس في قولك خلطت الماء باللبن لأنك جعلت
الماء مخلوطا واللبن مخلوطا به وإذا قلته بالواو جعلت الماء واللبن مخلوطين
ومخلوطا بهما كأنك قلت خلطت الماء باللبن واللبن بالماء.
ومن جهة ثانية
كان العدول عن الباء لتضمين الخلط معنى العمل كأنه قيل عملوا عملا صالحا وآخر سيئا
ثم انضاف الى العمل معنى الخلط فعبر عنهما معا به.
(وَقُلِ اعْمَلُوا
فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى
عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ
عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ
(١٠٦) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ
الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ
وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ
لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى
مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ
يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ
بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ
بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا
رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ (١١٠))
اللغة :
(مُرْجَوْنَ) : اسم مفعول من أرجيته أي أخرته ويقال أرجأته بالهمز
أيضا ومنه المرجئة.
(وَإِرْصاداً) : وإعدادا وارتقابا.
(شَفا) : طرف وحرف.
(جُرُفٍ) : بضم الراء وسكونها جانب البئر التي لم تطو وقيل
:الهوّة وما يجرفه السيل من الأودية. قال أبو عبيدة وقيل هو المكان الذي يأكله
الماء فيجرفه أي يذهب به.
(هارٍ) : فيه ثلاثة أقوال : أحدهما وهو المشهور أنه مقلوب
بتقديم لامه على عينه وذلك أن أصله هاور أو هاير بالواو أو الياء لأنه سمع فيه
الحرفان قالوا هار يهور ويهار ، وهار يهير ، وتهوّر البناء وتهيّر ، فقدمت اللام
وهي الراء على العين وهي الواو أو الياء فصار كغاز ورام فأعلّ بالنقص كإعلالهما
فوزنه بعد القلب فالع ثم نزله بعد الحذف على فال ، والقول الثاني أنه حذفت عينه
اعتباطا أي لغير موجب وعلى هذا فتجري وجوه الإعراب على لامه فيقال هذا هار ورأيت
هارا ومررت بهار ووزنه أيضا فال والقول الثالث أنه لا قلب فيه ولا حذف وأن أصله
هورا وهير فتحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فقلب ألفا فتجري وجوه الاعراب أيضا
كالذي قبله كما تقول هذا باب ورأيت بابا ومررت بباب وهذا أعدل الوجوه لاستراحته من
ادعاء القلب والحذف اللذين هما على خلاف الأصل ولكنه غير مشهور عند أهل التصريف
ومعنى هار متداع وساقط ومنهال.
الاعراب :
(وَقُلِ اعْمَلُوا
فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) جملة اعملوا مقول القول والفاء الفصيحة والسين بالنظر
للمجازاة لا للعلم لأن العلم حاصل غير متقيد بزمان والله فاعل يرى وعملكم مفعوله
ورسوله والمؤمنون معطوفان على الله. (وَسَتُرَدُّونَ إِلى
عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) عطف على سيرى والى عالم جار ومجرور متعلقان بتردون
والغيب مضاف اليه
والشهادة معطوف على الغيب (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الفاء عاطفة وبما متعلقان بينبئكم وجملة كنتم تعملون
صلة ما. (وَآخَرُونَ
مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) عطف نسق على ما تقدم أي وآخرون اعترفوا ومرجون صفته
ولأمر الله متعلقان بمرجون يعني وآخرون من المتخلفين موقوف أمرهم.
(إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ
وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) إما حرف شرط وتفصيل ويعذبهم فعل مضارع وفاعل مستتر
ومفعول به والجملة نصب على الحال أي هم مؤخرون إما معذبين وإما متوبا عليهم وإما
هنا للشك بالنسبة للمخاطب وإما للابهام بالنسبة لله تعالى بمعنى أنه تعالى أبهم
أمرهم ومصيرهم على المخاطبين ويجوز أن نعرب آخرون مبتدأ ومرجون صفته وجملة إما
يعذبهم خبر آخرون وإما يتوب عليهم عطف والله مبتدأ وعليم حكيم خبراه. (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً
ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) لك في الذين وجهان : النصب على الاختصاص بالذم ومثله
قوله تعالى «والمقيمين الصلاة» على الاختصاص بالمدح والرفع على الابتداء والخبر
محذوف معناه فيمن وصفنا الذين اتخذوا كقوله تعالى «والسارق والسارقة» وهذا الوجه
ارتضاه سيبويه وقد تقدم قوله وافيا فيه وتقديره : فيما يتلى عليكم الذين فحذف
الخبر وأبقى المبتدأ. والواو استئنافية على كل حال وجملة اتخذوا صلة ومسجدا مفعول
به وضرارا مفعول ثان لاتخذوا أو مفعول لأجله أو مفعول مطلق أي يضارون بذلك ضرارا
أو حال أي مضارين لإخوانهم ، وكل هذه الأوجه متساوية الرحجان ، وكفرا وتفريقا عطف
على ضرارا وبين ظرف متعلق بتفريقا. (وَإِرْصاداً لِمَنْ
حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ) وارصادا عطف أيضا ولمن حارب الله متعلقان بإرصادا وجملة
حارب الله صلة ومن قبل جار ومجرور متعلقان بحارب. (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ
أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى) اللام واقعة في جواب قسم
مقدر وإن نافية وأردنا فعل وفاعل والجملة جواب القسم وإلا أداة حصر والحسنى
مفعول أردنا. (وَاللهُ يَشْهَدُ
إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) الواو عاطفة والله مبتدأ وجملة يشهد خبر وإن وما في
حيزها مفعول يشهد وان واسمها واللام المزحلقة وكاذبون خبرها وستأتي قصة مسجد
الضرار في باب الفوائد. (لا تَقُمْ فِيهِ
أَبَداً) لا ناهية وتقم فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وفيه جار
ومجرور متعلقان بتقم وأبدا ظرف متعلق بتقم أيضا أي لا تصل فيه أبدا. (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى
مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) اللام للابتداء ومسجد مبتدأ وجملة أسس على التقوى صفة
لمسجد وعلى التقوى جار ومجرور متعلقان بأسس وأحق خبره ومن أول يوم جار ومجرور
متعلقان بمحذوف حال أو بأسس وأن تقوم مصدر منصوب بنزع الخافض أي بأن تقوم فيه وهو
متعلق بأحق وفيه متعلقان بتقوم. (فِيهِ رِجالٌ
يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) فيه خبر مقدم ورجال مبتدأ مؤخر وجملة يحبون صفة لرجال
وان وما في حيزها مفعول يحبون أي يحبون الطهارة من الذنوب والحوبات والمعاصي وقيل
من الذنوب طهارة الباطن ومن الأحداث طهارة الظاهر والله مبتدأ وجملة يحب المطهرين
خبر (أَفَمَنْ أَسَّسَ
بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ) الهمزة للاستفهام التقريري والفاء عاطفة على مقدر أي
أبعد ما علم حالهم أفمن أسس بنيانه على تقوى إلخ ، ومن مبتدأ وجملة أسس بنيانه صلة
وعلى تقوى جار ومجرور متعلقان بأسس ومن الله صفة لتقوى ورضوان عطف على تقوى وخير
خبر لمن (أَمْ مَنْ أَسَّسَ
بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ) أم حرف عطف ومن معطوفة على من الأولى وخبرها محذوف
تقديره خير وعلى شفا جرف هار متعلقان بأسس (فَانْهارَ بِهِ فِي
نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الفاء عاطفة وانهار عطف على أسس وفاعله إما ضمير
البنيان وإما ضمير الجرف وهو أولى لأن انهياره يترتب عليه انهيار الشفا والبنيان
جميعا
ولا يلزم من انهيارهما أو انهيار أحدهما انهياره وبه متعلقان بانهار إذا
كانت الباء للتعدية وبمحذوف حال إن كانت للمصاحبة وكلاهما جائز والله مبتدأ وجملة
لا يهدي القوم الظالمين خبر. (لا يَزالُ
بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ) بنيانهم اسم لا يزال والذي صفة بنيانهم وجملة بنوا صلة
وريبة خبر لا يزال وفي قلوبهم صفة لريبة. (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ
قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) استثناء من أعم الأزمنة فالمستثنى منه على هذا محذوف أي
لا يزال بنيانهم ريبة في كل وقت من الأوقات إلا وقت تقطيع قلوبهم وأن مصدرية وتقطع
أصلها تتقطع منصوب بها وقلوبهم فاعل والله مبتدأ وعليم حكيم خبراه.
البلاغة :
اشتملت هذه
الآيات على فنون من البلاغة ندرجها فيما يلي :
١ ـ فن الترديد
وهو أن يعلق المتكلم لفظة من الكلام بمعنى ثم يردها بعينها ويعلقها بمعنى آخر
كقوله تعالى «ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، يعلمون ظاهرا من الحياة» فيعلمون الأولى
منفية والثانية مثبتة ولكل من المعنيين مناسبة اقتضت ذلك المعنى وقوله الذي نحن
بصدده «لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه ، فيه رجال يحبون أن
يتطهروا» ففيه الاولى متعلقة بتقوم وفيه الثانية خبر مقدم ولكل منهما معنى.
ومن أمثلة
الترديد في الشعر بيت ورد في أبيات قالها سيف الدولة وذلك انه كانت له جارية من
بنات الروم لا يرى الدنيا إلا بها ويشفق عليها من الريح الهابة فحسدتها سائر
حظاياه على لطف محلها منه وأزمعن إيقاع مكروه بها من سم أو غيره وبلغ سيف الدولة
ذلك فأمر بنقلها الى بعض الحصون احتياطا على روحها وقال في ذلك :
راقبتني العيون فيك فأشفقت ولم أخل قط من إشفاق ورأيت العذول يحسدني فيك
مجدّا يا أنفس الأعلاق
فتسنيت أن
تكوني بعيدا
|
|
والذي بيننا
من الود باق
|
رب هجر يكون
من خوف هجر
|
|
وفراق يكون
خوف فراق
|
٢ ـ الاستعارة : في قوله تعالى «أفمن
أسس بنيانه على تقوى من الله» أي على قاعدة راسخة ثابتة وطيدة هي التقوى من الله
فشبه التقوى والرضوان بقاعدة يعتمد عليها البناء تشبيها مضمرا في النفس ، وأسس
بنيانه تخييل على قاعدة الاستعارة التصريحية.
٣ ـ الاستعارة
التمثيلية في انهيار البناء القائم على شفا جرف هار. شبّه عدم القيام بأمور الدين
بمن بني بنيانه على شفا فهو يسقط به فالمشبه به البناء على محل آيل للسقوط والمشبه
هو ترتيب أحكام الدين وأعماله على الكفر والنفاق.
الفوائد :
قصة مسجد الضرار :
روى التاريخ أن
بني عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء بعثوا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يأتيهم فأتاهم فصلى فيه فحسدتهم أخوتهم بنو غنم بن عوف وقالوا نبني مسجدا ونرسل
الى رسول الله بصلي فيه ، ويصلي فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام ليثبت لهم
الفضل والزيادة على إخوتهم وهو الذي سماه رسول الله الفاسق وقال لرسول الله يوم
أحد : لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم ،
فلم يزل يقاتله الى يوم حنين فلما انهزمت هوازن خرج هاربا الى الشام وأرسل
الى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح فاني ذاهب الى قيصر وآت بجنود
ومخرج محمدا وأصحابه من المدينة فبنوا مسجدا بجنب مسجد قباء وقالوا للنبي صلى الله
عليه وسلم بنينا مسجدا لذوي العلة والحاجة والليلة المطيرة والشاتية ونحن نحب أن
تصلي لنا فيه وتدعوا لنا بالبركة فقال النبي : إني على جناح سفر وحال شغل وإذا
قدمنا إن شاء الله صلينا فيه فلما قفل من غزوة تبوك سألوه إتيان المسجد فنزلت عليه
فدعا بمالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشيا فقال لهم انطلقوا الى هذا
المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه ففعلوا وأمر أن يتخذ مكانه كناسة تلقى فيها
الجيف والقمامة ومات أبو عامر بالشام بقنسرين.
(إِنَّ اللهَ اشْتَرى
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ
يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ
حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ
مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ
السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ
الْمُؤْمِنِينَ (١١٢))
الاعراب :
(إِنَّ اللهَ اشْتَرى
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) جملة مستأنفة مسوقة لترغيب المؤمنين بالجهاد وذلك ببيان
فضيلته وما يترتب على الاستشهاد في سبيل الله وإن واسمها وجملة اشترى خبرها ومن
المؤمنين جار ومجرور متعلقان باشترى وأنفسهم مفعول به وأموالهم عطف على أنفسهم. (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) الباء ومدخولها متعلقة باشترى وسيأتي المزيد من حقيقة
هذه الشروى في البلاغة ولهم خبر ان المقدم والجنة اسمها المؤخر. (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) جملة مستأنفة لا لبيان نفس الاشتراء لأن قتالهم في سبيل
الله ليس باشتراء من الله أنفسهم وأموالهم بل لبيان البيع الذي يستدعيه الاشتراء
المذكور كأنه قيل كيف يبيعونها بالجنة فقيل يقاتلون ، وفي سبيل الله جار ومجرور
متعلقان بيقاتلون. (فَيَقْتُلُونَ
وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ
وَالْقُرْآنِ) الفاء عاطفة ويقتلون بالبناء للمعلوم ويقتلون بالبناء
للمجهول معطوفان على يقاتلون ووعدا وحقا مصدران منصوبان بفعلهما المحذوف أي وعدهم
وعدا وحق ذلك الوعد حقا وفي التوراة جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لوعدا أي وعدا
كائنا ومذكورا في التوراة ويجوز أن يعلق باشتروا ، والإنجيل والقرآن معطوفان على
التوراة.
(وَمَنْ أَوْفى
بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) الواو استئنافية أو عاطفة ومن اسم استفهام مبتدأ وأوفى
خبره وبعهده ومن الله متعلقان بأوفى. (فَاسْتَبْشِرُوا
بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الفاء الفصيحة واستبشروا فعل أمر وفاعل وببيعكم جار
ومجرور متعلقان باستبشروا والذي صفة وبايعتم به صلة وذلك مبتدأ وهو ضمير فصل أو
مبتدأ ثان والفوز خبر ذلك أو خبر هو والعظيم صفة. (التَّائِبُونَ
الْعابِدُونَ
الْحامِدُونَ
السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ
الْمُؤْمِنِينَ) أخبار لمبتدأ محذوف أي هم التائبون العابدون إلخ أي على
المدح وجوز الزجاج أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي التائبون العابدون من أهل الجنة
أيضا وان ثم يجاهدوا وقيل هو رفع على البدل من الواو في يقاتلون وحاصل ما ذكر
أوصاف تسعة : الستة الاولى تتعلق بمعاملة الخالق والسابع والثامن يتعلق بمعاملة
المخلوقين والتاسع يعم القبيلين. وبشر المؤمنين الواو عاطفة وبشر فعل أمر وفاعل
مستتر والمؤمنين مفعول به.
البلاغة :
انطوت هذه
الآيات على أنواع من البلاغة نوردها فيما يلي :
١ ـ الاستعارة
المكنية التبعية في قوله تعالى : «إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن
لهم الجنة» فقد استعار الشراء لقبول الله تعالى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم التي
بذلوها في سبيله وإثابته إياهم بمقابلتها بالجنة ثم جعل المبيع الذي هو العمدة
والمقصد في العقد أنفس المؤمنين وأموالهم وجعل الثمن الذي هو الوسيلة في الصفقة
الجنة.
٢ ـ الالتفات
بقوله «فاستبشروا» زيادة في سرورهم والفاء الفصيحة لترتيب الأمر به على ما قبله
وجعله بمثابة الشرط له والسين ليست للطلب بل للمطاوعة كاستوقد.
٣ ـ التذييل
وهو أن يذيل المتكلم كلامه بعد تمام معناه بجملة تحقق ما قبلها وتلك الزيادة على
ضربين :
آ ـ ضرب لا
يزيد على المعنى الأول وإنما يؤكده ويحققه.
ب ـ وضرب يخرجه
المتكلم مخرج المثل السائر ليشتهر المعنى لكثرة دورانه على الألسنة وقد جاء في هذه
الآية الكريمة الضربان :
آ ـ قوله : «وعدا
عليه حقا» فإن الكلام قد تم وكمل قبل ذلك ثم أتت جملة التذييل لتحقق ما قبلها
وتؤكده.
ب ـ قوله : «ومن
أوفى بعهده من الله» مخرجا ذلك مخرج المثل فسبحان المتكلم بمثل هذا الكلام.
الفوائد :
١ ـ واو
الثمانية : عدّد الله تسعة أوصاف ولم ينسقها بالواو حتى إذا كان الثامن أدخل الواو
وذلك لسر في كلامهم وهو أن للعرب واوا سموها واو الثمانية وهي تدخل على ما كان
ثامنا ، كذا قرر بعض العلماء ورد عليهم آخرون وأكثروا وأطالوا ولما كان الكلام في
هذا الصدد لا يخلو من متعة وفائدة نرى من الأولى تلخيصه بما يلي : استدل المثبتون
لهذه الواو بقوله تعالى «وسيق الذين اتقوا ربهم الى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها
وفتحت أبوابها» فأتى بالواو هنا ولم يأت بها في ذكر جهنم لأن للنار سبعة أبواب
وللجنة ثمانية ، وفي قوله تعالى «ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم» وقد منع بعض المحققين
هذا وقال : إنما تقع بين المتضادين لأن الثيّبات غير الأبكار في قوله تعالى «ثيبات
وأبكارا» ولأن الآمرين ضد الناهين في الآية التي نحن بصدد الحديث عنها. قال أبو
حيان : والصفات إذا تكررت وكانت للمدح أو الذم أو الترّحم جاز فيها الاتباع
للمنعوت والقطع في كلّها أو بعضها ، وإذا تباين ما بين الوصفين جاز العطف ، ولما
كان الأمر مباينا للنهي ،
إذ الأمر طلب فعل ، والنهي ترك فعل ، حسن العطف في قوله والناهون ، ودعوى
الزيادة أو واو الثمانة ضعيف وقال في قصة أهل الكهف : إنه إنما أتى بالواو مع
الثمانية لأن القول الثالث أقرب الى الحق أو هو الحق لأنه قال في القولين «رجما
بالغيب» وفي الثالث قال : «قل ربي أعلم بعدتهم» وقال في قصة أهل الجنة واثبت الواو
لأن أبواب جهنم لا تفتح إلا عند دخول أهلها زيادة في الضيق على من بها وأما أبواب
الجنة فتفتح لأهلها قبل دخولهم إليها إكراما لهم لقوله تعالى «جنات عدن مفتحة لهم
الأبواب» قال الشيخ جمال الدين بن الحاجب رحمة الله : ان القاضي الفاضل كان يعتقد
زيادة الواو في هذه الآية يعني «ثيبات وأبكارا» ويقول هي واو الثمانية الى أن ذكر
ذلك بحضرة الشيخ أبي الجود المقري فبين له أنه وهم وأن الضرورة تدعو الى دخولهاهنا
وإلا فسد المعنى بخلاف واو الثمانية فإنه يؤتى بها لا لحاجة فقال : أرشدتنا با أبا
الجود.
نقول وممن
اعترف بواو الثمانية الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير وقال : إن الواو في
قوله تعالى «وثامنهم كلبهم» هي واو الثمانية.
وسيأتي مزيد
بحث عنها عند الكلام على هذه الآيات في مواضعها.
السائحون :
اختلف العلماء
في الصفة الثالثة وهي السائحون وأصح الأقوال انهم الصائمون شبّهوا بذوي السياحة في
الأرض في امتناعهم من شهواتهم وقيل هم طلبة العلم يطلبونه في مظانه ويضربون في
مناكب الأرض لتحصيله وفي القاموس : والسياحة بالكسر الذهاب في الأرض للعبادة ومنه
المسيح بن مريم. والسائح الصائم الملازم للسياحة.
(ما كانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي
قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما
كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ
إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤) وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ
إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ
وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦))
اللغة :
(الأواه) فعال
من أوه كلآلّ من اللؤلؤ وهو الذي يكثر التأوه ومعناه أنه لفرط حبه لأبيه وترحمه
ورقته وحلمه كان يتعطف على أبيه الكافر ويستغفر له مع شكاسته عليه هذا ما قاله
الزمخشري وقد استدرك عليه أبو حيان فقال : «وتشبيه أواه من أوه بلآل من اللؤلؤ ليس
بجيد لأن مادة أوه موجودة في صورة أواه ومادة لؤلؤ مفقودة في لآل لاختلاف التركيب
إذ لآل ثلاثي ولؤلؤ رباعي وشرط الاشتقاق التوافق في الحروف الأصلية». وفي المختار
وقد أوّه الرجل تأويها وتأوه تأوها إذا قال أوّه. وجميل قول الزجاج وننقله بنصه : «قال
أبو عبيدة هو المتأوه شفقا وفرقا ، المتضرّع يقينا ولزوما للطاعة وقد انتظم
في قول أبي عبيدة جميع ما قيل في الأواه وأصله من التأوه وهو أن يسمع للصدر صوت
يتنفس الصعداء» وقيل الكلمة حبشية ومعناها الموقن قال ابن النقيب في كتابه خصائص
القرآن : «إن القرآن احتوى على جميع لغات العرب وأنزل فيه بلغات غيرهم من الروم
والفرس والحبشة شيء كثير» وسترد معنا الألفاظ غير العربية التي فطن الأقدمون لها
عند الكلام على لغة القرآن.
الاعراب :
(ما كانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) ما نافية وكان فعل ماض ناقص وللنبي خبر كان المقدم
والذين عطف على النبي وجملة آمنوا صلة وان وما في حيزها اسم كان المؤخر ويستغفروا
فعل مضارع منصوب بأن وللمشركين جار ومجرور متعلقان بيستغفروا (وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ
بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) الواو حالية ولو وصلية وكانوا كان واسمها وأولي خبرها
وقربى مضاف اليه ومن بعد متعلقان بما في النفي من معنى الفعل أي انتفى الاستغفار
من بعد ، وما مصدرية وهي وما في حيزها مضافة لبعد أي من بعد تبيان ولهم جار ومجرور
متعلقان بتبين وأنهم أن وما في حيزها فاعل تبين وأصحاب الجحيم خبر أن. (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ
لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) الجملة مستأنفة مسوقة لتقرير ما سبق ودعمه بشواهد
وقرائن ودفع ما يرد من إيهام بحسب ما يبدو في الظاهر بالمخالفة ، وكان واسمها
وابراهيم مضاف اليه ولأبيه جار ومجرور متعلقان باستغفار وإلا أداة حصر وعن موعدة
خبر كان فالاستثناء
مفرّغ من أعم العلل أي لم يكن استغفار ابراهيم لأبيه ناشئا إلا عن موعدة
وعدها إياه أي لأجلها. (فَلَمَّا تَبَيَّنَ
لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ
حَلِيمٌ) الفاء عاطفة ولما حينية أو رابطة وله متعلقان بتبين وأن
وما في حيزها فاعل تبين وجملة تبرأ منه لا محل لها لأنها جواب لما وإن واسمها
واللام المزحلقة وأواه خبر إن الاول وحليم خبرها الثاني (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً
بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) الواو عاطفة وما نافية وكان واسمها واللام للجحود ويضل
منصوب بأن مضمرة بعد لام الجحود وهي مع مدخولها خبر كان وقد تقدمت كثيرا وقوما
مفعول به وبعد ظرف متعلق بيضل وهو مضاف والظرف إذ مضاف اليه وجملة هداهم مضاف
إليها الظرف وقد تقدم القول فيه في آل عمران ان فيه وجهين أحدهما أن «إذ» بمعنى «أن»
والثاني أنها ظرف بمعنى وقت أي بعد أن هداهم أو بعد وقت هدايتهم. (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ
إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) حتى حرف غاية وجر ويبين فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد
حتى ولهم جار ومجرور متعلقان بيبين وما مفعول به وجملة يتقون صلة وان واسمها
وخبرها وبكل شيء متعلقان بعليم. (إِنَّ اللهَ لَهُ
مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ) إن واسمها وله خبر مقدم وملك السموات والأرض مبتدأ مؤخر
وجملة يحيي خبر ثان لإن والخبر الأول جملة له ملك السموات ويميت عطف على يحيي (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ
وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) الواو عاطفة وما نافية ولكم خبر مقدم ومن دون الله جار
ومجرور متعلقان بمحذوف حال ومن زائدة وولي مبتدأ مؤخر محلا ولا نصير عطف على من
ولي.
(لَقَدْ تابَ اللهُ
عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي
ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ
تابَ عَلَيْهِمْ
إِنَّهُ
بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا
ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ
وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ
لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨))
الاعراب :
(لَقَدْ تابَ اللهُ
عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي
ساعَةِ الْعُسْرَةِ) سيأتي في باب الفوائد معنى توبة الله على النبي والجملة
استئنافية مسوقة لبيان التوبة وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إليها واللام جواب
للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وتاب الله فعل وفاعل وعلى النبي جار ومجرور متعلقان
بتاب والمهاجرين والأنصار عطف على النبي والذين نعت وجملة اتبعوه صلة الموصول وفي
ساعة العسرة جار ومجرور متعلقان باتبعوه وسيأتي ذكر ساعة العسرة في باب الفوائد.
(مِنْ بَعْدِ ما كادَ
يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) من بعد متعلقان بمحذوف حال لبيان الشدة وبلوغها الحد
الأقصى واسم كاد ضمير الشأن وجملة يزيغ خبر وقلوب فاعل وفريق مضاف اليه ومنهم صفة.
(ثُمَّ تابَ
عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) ثم حرف عطف للتراخي وتاب عطف على تاب الأولى وفائدة
التكرير التنبيه على انه تاب عليهم لما كابدوه في ساعة العسرة وإنه إن واسمها وبهم
متعلقان برءوف ورءوف رحيم خبران لإن.
(وَعَلَى الثَّلاثَةِ
الَّذِينَ خُلِّفُوا) وعلى الثلاثة عطف على ما تقدم والمراد بهم
كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية ، والذين صفة وجملة خلفوا صلة
وخلفوا بالبناء للمجهول والواو نائب فاعل أي عن الغزو.
(حَتَّى إِذا ضاقَتْ
عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) حتى حرف غاية وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة
ضاقت مضاف إليها وعليهم جار ومجرور متعلقان بضاقت والأرض فاعل وبما رحبت أي برحبها
فالباء حرف جر للمصاحبة وما مصدرية ومعنى الباء هنا المصاحبة وعلامتها أن يصح حلول
«مع» محلها أو أن يغني عنها وعن مصحوبها الحال وهنا تصح فيها «مع» أي مع رحبها أما
مثال ما يغني عنها وعن مصحوبها الحال فقوله تعالى «وقد دخلوا بالكفر» أي كافرين
وعلى كل هي ومصحوبها في محل نصب على الحال أي حالة كونها رحيبة وضاقت عليهم أنفسهم
عطف على ما تقدم وهو مثل للحيرة في أمرهم كأنهم لا يجدون مكانا يقرون فيه (وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ
إِلَّا إِلَيْهِ) وظنوا عطف على ضاقت والظن هنا بمعنى اليقين وأن مخففة
من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف ولا نافية للجنس وملجأ اسمها ومن الله خبرها
وإلا أداة حصر واليه جار ومجرور متعلقان بملجأ. (ثُمَّ تابَ
عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) ثم حرف عطف وتاب فعل ماض وعليهم جار ومجرور متعلقان
بتاب وليتوبوا اللام قيل هي للتعليل أي وفقهم للتوبة ليحصلوا عليها وينشئوها فحصلت
المغايرة وصح التعليل وأرى أنه لا مانع من أن تكون لام العاقبة أو الصيرورة أي
فكانت عاقبتهم التوبة ، وان واسمها وهو مبتدأ أو ضمير فصل والتواب الرحيم خبر ان
لإن أو هو.
الفوائد :
١ ـ تنطوي
هاتان الآيتان على كثير من الفوائد وقبل الشروع فيها نتحدث عن إشكال ورد فيها وهو
جواب إذا وعطف «ثم تاب
عليهم» وقد أجاب العلماء عن ذلك بجوابين أولهما أن تكون إذا زائدة فلا
تحتاج الى جواب ويستقيم المعنى والثاني أن تكون ثم زائدة فتكون جملة تاب عليهم هي
الجواب ولا يمكن حل الإشكال إلا بافتراض زيادة إحداهما وممن قال بزيادة «ثم» زكريا
في حاشيته على البيضاوي ، أو غيره فاختاروا زيادة إذا.
وهذا ما قاله
أبو حيان : «وجاءت هذه الجمل في كنف إذا في غاية الحسن والترتيب فذكر أولا ضيق
الأرض عليهم وهو كناية عن استيحاشهم ونبوة الناس عن كلامهم وثانيا وضاقت عليهم
أنفسهم وهو كناية عن تواتر الهم والغم على قلوبهم حتى لم يكن فيها شيء من الانشراح
والاتساع فذكر أولا ضيق المحل ثم ثانيا ضيق الحال فيه لأنه قد يضيق المحل وتكون
النفس منشرحة «سم الخياط مع الأحباب ميدان» ثم ثالثا لما يئسوا من الخلق عذقوا
أمورهم بالله وانقطعوا اليه وعلموا انه لا يخلص من الشدة ولا يفرجها إلا هو تعالى «ثم
إذا مسكم الضر فإليه تجأرون» وإذا إن كانت شرطية فجوابها محذوف تقديره تاب عليهم
ويكون قوله ثم تاب عليهم نظير قوله ثم تاب عليهم بعد قوله «لقد تاب الله على النبي»
الآية ودعوى أن ثم زائدة وجواب إذا ما بعد ثم بعيد جدا وغير ثابت من لسان العرب
زيادة ثم ومن زعم أن إذا بعد حتى قد تجرد من الشرط وتبقى لمجرد الوقت فلا تحتاج
الى جواب بل تكون غاية للفعل الذي قبلها وهو قوله خلفوا أي خلفوا الى هذا الوقت ثم
تاب عليهم ليتوبوا ثم رجع عليهم بالقبول والرحمة كرة أخرى ليستقيموا على توبتهم
وينيبوا أو ليتوبوا أيضا فيما يستقبل إن فرطت منهم خطيئة علما منهم أن الله تواب
على من تاب ولو عاد في اليوم مائة مرة».
معنى التوبة :
كما اختلف
العلماء في معنى توبة الله على النبي وسنورد أهم الأوجه التي ارتآها أقطاب
المفسرين وعلماء اللغة.
أما الزمخشري
فنظمها في سلك قوله تعالى «ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر» وقوله «واستغفر
لذنبك» وقال : وهو بعث للمؤمنين على التوبة وانه ما من مؤمن إلا وهو محتاج الى
التوبة والاستغفار حتى النبي ومن معه من المهاجرين والأنصار ، وهذا ما جرينا عليه
نحن باعتباره منطقيا ومقيسا.
أما الجلال
وشارحو تفسيره فقد ذهبوا الى معنى الديمومة في التوبة أي أدام توبته عليهم وقال
الشارحون في تعليقهم على ما ذهب اليه الجلال : «وهذا جواب عما يقال إن النبي معصوم
من الذنب وإن المهاجرين والأنصار لم يقترفوا ذنبا في هذه القضية فبين أن المراد
بالتوبة في حق الجميع دوامها لا أصلها» وهذا الرأي بادي الاضطراب.
أما الخازن فقد
ارتأى رأيا كدنا نؤثره حتى على الرأي الأول وهو قوله «ومعنى توبته على النبي عدم
مؤاخذته بإذنه للمؤمنين في التخلف عنه في غزوة تبوك وهو كقوله : «عفا الله عنك لم
أذنت لهم» فهو من باب ترك الأفضل لا أنه ذنب يوجب عقابا».
وهناك رأي لا
يقل وجاهة عما تقدم عبر عنه أصحاب المعاني بقولهم : وهو كلام للتبرك فهو كقوله
تعالى : «فأن لله خمسه» ومعنى هذا أن ذكر النبي بالتوبة عليه تشريف للمهاجرين
والأنصار في ضم
توبتهم الى توبة النبي صلى الله عليه وسلم كما ضم اسم الرسول الى اسم الله
في قوله «فأن لله خمسه وللرسول».
ساعة العسرة :
المراد وقتها
لا الساعة الفلكية فالساعة مستعملة في معنى الزمن المطلق كما استعملت الغداة
والعشية واليوم كقول زفر بن الحارث الكلابي :
وكنا حسبنا
كل بيضاء شحمة
|
|
عشية قارعنا
جذام وحميرا
|
فلما قرعنا
النبع بالنبع بعضه
|
|
ببعض أبت
عيدانه أن تكسرا
|
فالمراد مطلق
الوقت لا العشية على حقيقتها وكقول حاتم الطائي :
إذا جاء يوما
وارثي يبتغي الغنى
|
|
يجد جمع كف
غير ملأى ولا صفر
|
يجد فرسا مثل
العنان وصارما
|
|
حساما إذا ما
هزّ لم يرض بالهبر
|
وأسمر خطّيا
كأن كعوبه
|
|
نوى القسب قد
أربى ذراعا على العشر
|
المراد باليوم
مطلق الزمان ، وهكذا غالب استعمال العرب ،
ويلاحظ انه جزم ب «إذا» تشبيها لها بالأدوات التي تجزم فعلين وقد نص النحاة
على ورودها كقوله :
استغن ما
أغناك ربك بالغنى
|
|
وإذا تصبك
خصاصة فتجمل
|
ولساعة العسرة
التي وقعت في غزوة تبوك حوادث نكتفي برواية لعمر بن الخطاب عنها قال : «خرجنا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم الى تبوك في قيظ شديد فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش
شديد حتى ظننا أن رقابنا ستقطع وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل
ما بقي على كبده وحتى إن الرجل كان يذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته
ستقطع فقال أبو بكر الصديق : يا رسول الله إن الله عز وجل قد عوّدك في الدعاء خيرا
فادع الله قال : أتحب ذلك؟
فقال الصديق :
نعم. فرفع صلى الله عليه وسلم يديه فلم ترجعا حتى قالت السماء فأظلمت ثم سكبت
فملئوا ما معهم من الأوعية ثم ذهبنا ننظرها فلم نجدها جاوزت العسكر» ومعنى قالت
السماء :مالت وسقطت.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩) ما كانَ
لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا
عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ
بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ
وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا
يَنالُونَ
مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا
يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا
كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ
أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١))
اللغة :
(مَخْمَصَةٌ) : جوع وفي فعله ثلاث لغات فهو خمص بفتح الميم وكسرها
وضمها ومصدره خمص ومخمصة وهو خميص البطن وهي خميصة البطن وهو خمصان وهي خمصانة وهم
خماص وهن خمائص ومن المجاز زمن خميص أي ذو مجاعة قال :
كلوا في بعض
بطنكم تعفّوا
|
|
فإن زمانكم
زمن خميص
|
وكل شيء كرهت
الدنو منه فقد تخامصت عنه ، قال الشماخ :
تخامص عن برد
الوشاح إذا مشت
|
|
تخامص جافي
الخيل في الأمعز الوجي
|
وتخامص الليل :
رقت ظلمته عند وقت السحر ، قال الفرزدق :
فما زلت حتى
صعدتني حبالها
|
|
إليها وليلي
قد تخامص آخره
|
(يَنالُونَ) : في معاجم اللغة : نال خيرا ينال نيلا أصاب ، وأصله
نيل ينيل من باب فهم والأمر منه نل وإذا أخبرت عن نفسك كسرت النون فتقول :
نلت وفي المصباح : نال من عدوه من باب تعب نيلا بلغ منه مقصوده ومنه قيل نال من
امرأته ما أراد.
(وادِياً) : الوادي كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذا للسيل وهو
في الأصل فاعل من ودى إذا سال ومنه الودي وقد شاع استعمال العرب بمعنى الأرض
يقولون : لا تصلّ في وادي غيرك وهو المراد هنا وفي المصباح «وودى الشيء إذا سال
ومنه اشتقاق الوادي وهو كل منفرج بين جبال أو آكام يكون منفذا للسيل والجمع أودية»
، وفي القاموس وغيره : ودى يدي وديا ودية القاتل القتيل أعطى وليه ديته وودى الأمر
قرّبه وودى الشيء سال ومنه اشتقاق الوادي لأن الماء يدي فيه أي يسيل ويجري والجمع
أودية وأوادية وأوداء وأوداه. فما شاع على ألسنة الكتاب من جمعه على وديان خطأ
ظاهر.
الاعراب :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا) تقدم إعرابها كثيرا. (اتَّقُوا اللهَ
وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) اتقوا الله فعل وفاعل ومفعول به وكونوا عطف على اتقوا
والواو اسم كان ومع الصادقين متعلقان بمحذوف خبر كونوا ، قالوا أتت بمعنى من أي من
الصادقين والذي حملهم على ذلك أنه قرىء شذوذا «وكونوا من الصادقين» ولا داعي لهذا
التكلف لأن بقاء مع على معناها أولى والمعنى : كونوا مع المهاجرين والأنصار
ووافقوهم وانتظموا في سلكهم. (ما كانَ لِأَهْلِ
الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ
اللهِ) ما نافية وكان فعل ماض ناقص ولأهل المدينة خبر كان
المقدم ومن عطف على أهل وحولهم ظرف متعلق
بمحذوف صلة الموصول ومن الأعراب حال وأن وما في حيزها اسم كان المؤخر وعن
رسول الله متعلقان بيتخلفوا (وَلا يَرْغَبُوا
بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) الواو عاطفة ويرغبوا يجوز فيه النصب على العطف على أن «لا»
نافية والجزم على أن «لا» ناهية ، وبأنفسهم متعلقان بيرغبوا والباء للتعدية فقوله
رغبت عنه معناه أعرضت عنه والمعنى ولا يجعلوا أنفسهم راغبة عن نفسه ، وعن نفسه حال
أي عليهم أن يصحبوه على كل حال ، وفي البأساء والضراء وأن يكابدوا معه الأهوال
ويحتملوا المشاق والمكاره وأن يلقوا أنفسهم من الشدائد ما تلقاه نفسه فكأنه لم يصن
نفسه ولم يربأ بها عند ما ناهز الشدائد ، وكابد الأهوال فما أجدرهم بالحذو حذوه
واقتفاء آثار خطاه. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا
يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ) ذلك مبتدأ وبأنهم خبر ولا يصيبهم ظمأ فعل مضارع مرفوع
ومفعول به وفاعل ولا نصب ولا مخمصة عطف على ظمأ ، وفي سبيل الله حال من الهاء أو
صفة لمخمصة. (وَلا يَطَؤُنَ
مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ) ولا يطئون عطف على لا يصيبهم وموطئا إما اسم مكان فيعرب
مفعولا به أي يدوسون مكانا وإما ظرف فيعرب مفعولا مطلقا وجملة يغيظ الكفار صفة
لموطئا.
(وَلا يَنالُونَ مِنْ
عَدُوٍّ نَيْلاً) عطف على ما تقدم ومن عدو جار ومجرور متعلقان بينالون (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ
صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) إلا أداة حصر وجملة كتب في موضع نصب على الحال فالاستثناء
مفرغ من أعم الأحوال وكتب فعل ماض مبني للمجهول ولهم جار ومجرور متعلقان بكتب
وكذلك به وعمل نائب فاعل وصالح نعت وإن واسمها وجملة لا يضيع أجر المحسنين خبر إن (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً
وَلا كَبِيرَةً) عطف على لا ينالون ونفقة مفعول به أي ولو تمرة فما فوق.
(وَلا يَقْطَعُونَ
وادِياً) عطف على ما تقدم. (إِلَّا كُتِبَ
لَهُمْ) الجملة استثنائية من أعم الأحوال كما تقدم ونائب الفاعل
محذوف لأنه سبق ذكره أي عمل صالح. (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ
أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) اللام للتعليل ويجزي فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد
اللام والهاء مفعول به أول والله فاعل وأحسن مفعول به ثان أو مفعول مطلق بمعنى أي
يجزيهم أحسن جزاء ، وما موصول مضاف لأحسن وكان واسمها وجملة يعملون خبرها.
(وَما كانَ
الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ
مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا
رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ
فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ
كافِرُونَ (١٢٥) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً
أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦))
اللغة :
(يَلُونَكُمْ) يقربون منكم وفي المصباح : «الولي مثل فلس :القرب وفي
الفعل لغتان أكثرهما وليه يليه بكسرتين والثانية من باب وعد وهي قليلة الاستعمال
وجلست مما يليه أي يقاربه» وكأن الآية جاءت على اللغة الثانية وأصله يليون بوزن
يعدون فنقلت ضمة الياء الى اللام بعد سلب حركتها ثم حذفت الياء لالتقائها ساكنة مع
الواو.
الاعراب :
(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ
لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) الواو عاطفة ليتناسق الكلام فإنهم لما وبخوا بقوله
تعالى : «ما كان لأهل المدينة إلخ» وأرسل النبي سرية نفروا جميعا فنزل «وما كان
المؤمنون إلخ» وما نافية وكان فعل ماض ناقص والمؤمنون اسمها ولينفروا اللام للجحود
أي لتأكيد النفي وينفروا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام الجحود واللام
ومدخولها خبر كان وكافة حال. (فَلَوْ لا نَفَرَ
مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) الفاء الفصيحة ولو لا حرف تحضيض أي هلّا ونفر فعل ماض
ومن كل فرقة جار ومجرور متعلقان بنفر ومنهم حال لأنه كان في الأصل صفة لطائفة
وليتفقهوا اللام للتعليل ويتفقهوا منصوب بأن مضمرة وفي الدين جار ومجرور متعلقان
بيتفقهوا فالمعنى على الطلب كأنه قال لتخرج طائفة وتبقى أخرى. (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا
رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) ولينذروا عطف على ليتفقهوا والواو فاعل وقومهم مفعول به
وإذا رجعوا جملة رجعوا مضاف إليها وإليهم جار ومجرور متعلقان برجعوا ولعل واسمها
وجملة يحذرون خبرها.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) قاتلوا فعل أمر وفاعل والذين مفعول به وجملة يلونكم صفة
ومن الكفار حال.
(وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ
غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) الواو عاطفة واللام لام الأمر ويجدوا فعل مضارع مجزوم
بلام الأمر والواو فاعل وفيكم جار ومجرور متعلقان بيجدوا وغلظة مفعول به واعلموا
عطف على الأمر السابق وان وما في حيزها سدت مسد مفعولي اعلموا وان واسمها ومع
المتقين ظرف متعلق بمحذوف خبرها. (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ
سُورَةٌ) الواو استئنافية وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وما
زائدة وجملة أنزلت مضاف إليها وسورة نائب فاعل. (فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ
: أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً) الفاء رابطة ومنهم خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وهي اسم
موصول أو نكرة تامة موصوفة بجملة يقول أي فريق يقول ولعلها أولى وجملة يقول صلة
وأيكم مبتدأ وجملة زادته خبر والهاء مفعول به وهذه فاعل وإيمانا مفعول به ثان. (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا
فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) الفاء تفريعية وأما حرف شرط وتفصيل والذين مبتدأ وجملة
آمنوا صلة والفاء رابطة وزادتهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به والجملة في محل رفع خبر
الذين وإيمانا مفعول به ثان أو تمييز.
(وَأَمَّا الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) وأما عطف على أما الأولى والذين مبتدأ وفي قلوبهم خبر
مقدم ومرض مبتدأ مؤخر والجملة صلة فزادتهم الفاء رابطة وجملة زادتهم خبر الذين
ورجسا مفعول به ثان والى رجسهم صفة أي مضموما الى رجسهم. (وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) عطف على زادتهم والواو للحال وجملة كافرون من المبتدأ
والخبر حالية. (أَوَلا يَرَوْنَ
أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) الهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي والواو عاطفة على
مقدر ويرون فعل مضارع وفاعل وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي فعل الرؤية
القلبي وجملة يفتنون خبر ان وفي كل عام متعلقان بيفتنون ومرة ظرف متعلق
بيفتنون وأو حرف عطف ومرتين عطف على مرة. (ثُمَّ لا يَتُوبُونَ
وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) ثم حرف عطف وتراخ وجملة لا يتوبون عطف على يفتنون
والواو حرف عطف وهم مبتدأ وجملة يذكرون خبر.
الفوائد :
١ ـ وجوب
القتال :
قال المفسرون
وعلماء الفقه : يتعين القتال على أحد فريقين : إما من نزل بهم عدو وفيهم قوة عليه
ثم على من قرب منهم حتى يكتفوا ، وإذا أوجب الله على هذه الأمة القتال وإزعاج
العدو من دياره وإخراجه من أرضه وقراره فوجوبه ـ وقد نزل العدو بدار الإسلام واحتل
أماكنهم المقدسة وانتهك حرماتها وعاث فيها فسادا ـ أجدر.
٢ ـ مصدر
بالحركات الثلاث :
الغلظة أصلها
في الإجرام ثم استعيرت للشدة والصبر والجلادة في القتال ومن عجيب هذا المصدر أنه
قرىء بالحركات الثلاث فهو الغلظة بالكسر وهي لغة أسد والغلظة بالفتح وهي لغة أهل
الحجاز والغلظة بالضم وهي لغة تميم ويقال غلظ يغلظ من بابي تعب وظرف والمصدر غلظ
بكسر الغين وغلظه وغلظة وغلظه بالحركات الثلاث كما تقدم وغلاظة بالكسر خلاف دقّ أو
رقّ أو لان.
(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ
سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ
انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧)
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ
عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ
حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ
الْعَظِيمِ (١٢٩))
اللغة :
(عَزِيزٌ) : شديد.
(العنت) :
المشقة واللقاء المكروه.
الاعراب :
(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ
سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) عطف على ما تقدم وجملة نظر بعضهم جواب إذا لا محل لها
وإلى بعض جار ومجرور متعلقان بنظر أي تغامزوا بالعيون من غيظهم. (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ) الجملة في محل نصب مقول قول محذوف أي قائلين وجملة
القول نصب على الحال ويراكم فعل مضارع ومفعول به ومن زائدة وأحد فاعل محلا. (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ
قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ)
ثم انصرفوا عطف على نظر بعضهم وجملة صرف الله قلوبهم يصح أن تكون إخبارية
حالية ويصح أن تكون إنشائية دعائية فتكون لا محل لها وبأنهم متعلقان بصرف والباء
للسببية وأن واسمها وجملة لا يفقهون خبرها. (لَقَدْ جاءَكُمْ
رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) اللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وجاءكم رسول
فعل ومفعول به وفاعل ومن أنفسكم صفة أي من جنسكم ومن نسبكم عربي مثلكم.
(عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما
عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) عزيز صفة ثانية لرسول وفي النحاة من يمنع تقدم الوصف
غير الصريح على الوصف الصريح ويمكن أن يجاب بأن «من أنفسكم» جار ومجرور متعلقان
بجاءكم وعليه متعلقان بعزيز وما مصدرية أو موصولة وعلى كلا التقديرين فهي ومدخولها
أي هي وصلتها فاعل عزيز الذي هو صفة مشبهة ويجوز أن يكون عزيز خبرا مقدما ، وما
عنتم في تأويل مصدر مبتدأ مؤخر والجملة صفة لرسول وحريص صفة ثالثة أو ثانية وعليكم
جار ومجرور متعلقان بحريص وبالمؤمنين متعلقان برءوف ورءوف رحيم صفتان رابعة وخامسة
أو ثالثة ورابعة لرسول.
(فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ) الفاء عاطفة وتولوا فعل وفاعل في محل جزم فعل الشرط
والفاء رابطة وحسبي الله خبر مقدم ومبتدأ مؤخر والجملة مقول القول. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) تقدم إعرابها مستوفى فجدد به عهدا والجملة حالية. (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ
الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) عليه جار ومجرور متعلقان بتوكلت وهو مبتدأ ورب العرش
خبر والعظيم صفة للعرش.
سورة يونس
مكية وآياتها تسع
ومائة
(الر تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ
مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ
صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢) إِنَّ
رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ
ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ
بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣)
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ
ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ
بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤))
اللغة :
(الر) : تقدم القول فيها مفصلا فجدد به عهدا.
(الآية) :
العلامة التي تنبىء عن مقطع الكلام من جهة مخصوصة.
(الْحَكِيمِ) : هاهنا بمعنى المحكم فعيل بمعنى مفعل قال الأعشى :
وغريبة تأتي
الملوك حكيمة
|
|
قد قلتها
ليقال : من ذا قالها؟
|
وقيل الحكيم
بمعنى الحاكم ودليله قوله تعالى «ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه» وسيأتي القول
في باب الفوائد عن الحكمة وشيوعها في القرآن.
(قَدَمَ صِدْقٍ) : القدم بفتحتين الشيء الذي تقدمه أمامك ليكون لك عدة
حتى تقدم عليه وقال أبو عبيدة والكسائي : كل سابق خير أو شر فهو عند العرب قدم وهو
مؤنث ، يقال قدم حسنة ، قال حسان ابن ثابت :
لنا القدم
العليا إليك وخلفنا
|
|
لأولنا في
طاعة الله تابع
|
وقال ذو الرمة
:
لكم قدم لا
ينكر الناس أنها
|
|
مع الحسب
العادي طمت على البحر
|
وسيأتي في باب
البلاغة المزيد من بحثها.
(القسط) العدل
وهي بكسر القاف ومنه القسط أي النصيب ، والقسط بفتح القاف الجور ، والسين اعوجاج
في الرجلين.
(الحميم) :
الماء الذي أسخن بالنار أشد اسخان ، قال المرقش الأصغر :
في كل يوم
لها مقطّرة
|
|
فيها كباء
معد وحميم
|
الاعراب :
(الر ، تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ الْحَكِيمِ) الر تقدم إعرابها في سورة البقرة فجدد به عهدا وتلك
مبتدأ وآيات الكتاب خبر والحكيم صفة للكتاب. (أَكانَ لِلنَّاسِ
عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) الهمزة للاستفهام الإنكاري المشوب بالتعجب وكان فعل ماض
ناقص وللناس جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال لأنه تقدم على الصفة وعجبا خبر كان
مقدم وأن أوحينا مصدر في محل رفع اسم كان والى رجل جار ومجرور متعلقان بأوحينا
ومنهم صفة لرجل. (أَنْ أَنْذِرِ
النَّاسَ) أن مفسرة وهي الواقعة بعد جملة فيها معنى القول دون حروفه
أو مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وجملة أنذر الناس مقول قول محذوف هو في محل
رفع خبر إن على معنى أن الشأن قولنا أنذر الناس.
(وَبَشِّرِ الَّذِينَ
آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) وبشر معطوف على أنذر والذين مفعول به وجملة آمنوا صلة
وأن حرف مشبه بالفعل وهي وما في حيزها نصب بنزع الخافض أي بأن ، ولهم خبرها المقدم
وقدم صدق اسمها المؤخر وعند ربهم الظرف متعلق بمحذوف صفة لقدم صدق. (قالَ الْكافِرُونَ : إِنَّ هذا لَساحِرٌ
مُبِينٌ) الجملة مستأنفة كأنه قيل : ماذا صنعوا بعد التعجب ،
وقال الكافرون فعل وفاعل وإن واسمها وخبرها واللام المزحلقة ومبين صفة لساحر
والجملة مقول القول (إِنَّ رَبَّكُمُ
اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) إن واسمها وخبرها والذي صفة لله وجملة خلق السموات
والأرض صلة وفي ستة أيام متعلقان بخلق. (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى
الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) ثم حرف عطف وتراخ واستوى عطف على خلق وعلى العرش جار
ومجرور متعلقان باستوى وجملة يدبر الأمر خبر ثان لإن ويجوز أن تكون حالية ويجوز
أن تكون مستأنفة لا محل لها من الاعراب. (ما مِنْ شَفِيعٍ
إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) ما نافية حجازية ومن زائدة وشفيع مجرور لفظا اسم ما
محلا وإلا أداة حصر ومن بعد إذنه متعلقان بمحذوف خبر. (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا
تَذَكَّرُونَ) ذلكم مبتدأ والله بدل وربكم خبر ذلكم والفاء الفصيحة
واعبدوه فعل أمر وفاعل ومفعول به والهمزة للاستفهام الانكاري المراد به الحث على
التفكر والتذكر والفاء عاطفة على محذوف ولا نافية وتذكرون فعل مضارع أصله تتذكرون.
(إِلَيْهِ
مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) إليه خبر مقدم ومرجعكم مبتدأ مؤخر وجميعا نصب على الحال
(وَعْدَ اللهِ حَقًّا) وعد الله منصوب على المصدر لأن قوله إليه مرجعكم معناه
الوعد بالرجوع وحقا منصوب على المصدرية والتقدير حق ذلك حقا. (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ
يُعِيدُهُ) ان واسمها وجملة يبدأ خبرها والخلق مفعول به ثم يعيده
عطف على يبدأ الخلق والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل وجود الخلق ومرجعهم إليه (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ) اللام للتعليل ويجزي مضارع منصوب بأن مضمرة والذين
مفعول يجزي وجملة آمنوا صلة وعملوا الصالحات عطف على آمنوا وبالقسط جار ومجرور
متعلقان بيجزي أي بسبب قسطهم وعدلهم ويجوز أن يكون حالا إما من الفاعل وإما من
المفعول أي يجزيهم ملتبسا بالقسط أي عادلا أو ملتبسين به. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ
مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) والذين مبتدأ وجملة كفروا صلة ولهم خبر مقدم وشراب
مبتدأ مؤخر ومن حميم صفة لشراب وعذاب عطف على شراب وجملة لهم شراب خبر الذين وأليم
صفة لعذاب وبما الباء حرف جر سببية وما مصدرية وكانوا كان واسمها وجملة يكفرون
خبرها أي بسبب كفرهم والجار والمجرور صفة ثانية لعذاب ويجوز أن يكون خبرا لمبتدأ
محذوف ، أي ذلك بسبب كفرهم.
البلاغة :
١ ـ المجاز
المرسل في قوله : «أن لهم قدم صدق» فقد أطلق لفظ القدم على السعي والسبق لأنهما لا
يحصلان إلا بالقدم فسمى المسبب باسم السبب كما سميت النعمة يدا لأنها تعطى باليد
فالعلاقة هنا السببية وقد تقدم بحثه ، ونزيد هنا ان المجاز لا يكون مطردا فلا يصح
أن يقال قدم سوء ، وهذه خاصة عجيبة من خصائص المجاز يكاد الحكم فيها مرده الى
الذوق.
٢ ـ المناسبة
اللفظية بين حميم وأليم والمناسبة ضربان : مناسبة في المعاني ومناسبة في الألفاظ
وقد مر ذكر المناسبة المعنوية في الأنعام ، أما هنا فالمناسبة لفظية وهي عبارة عن
الإتيان بلفظات متزنات مقفاة وغير مقفاة فهو تام وناقص وقد وقعت الناقصة في الكلام
الفصيح أكثر لأن التقفية غير لازمة فيها.
الفوائد :
١ ـ الحكمة في
القرآن :
شاعت لفظة
الحكمة في القرآن ووصف القرآن بالحكيم وقد مر معنا الكثير من ذلك وسيمر أكثر منه ،
وسنجد لفظ الكتاب مقترنا بلفظ الحكمة معطوفة عليه. قال تعالى «وأنزل الله عليك
الكتاب والحكمة» ويرى الأستاذ مصطفى عبد الرزاق في أبحاثه عن الفلسفة الاسلامية «إن
من الممكن أن تكون كلمة «حكمة» في اللغة العربية مرادفة لكلمة «فلسفة» اليونانية ،
وتتبّع هذه الكلمة يهدينا الى أصل
التفكير الممتاز عند العرب ، وقد وجدت الكلمة في الجاهلية والشواهد عليها
كثيرة جدا ومعنى الحكمة في القرآن ، في أكثر الأحيان ، سنة النبي ولا خلاف في
تقرير هذا المعنى ، وقال اللغويون الحكمة والحكم من مادة واحدة ، ويرى بعض
المستشرقين أن الكلمة عبرية ومعناها في هذا اللسان : القضاء أي الحكم أيضا ، والحكمة
في معناها العام تدل على السّداد وإتقان الرأي والفعل قال تعالى : «ومن يؤت الحكمة
فقد أوتي خيرا كثيرا» ، وهذا القول من الوجاهة الى حد كبير وقد سبق الامام الشافعي
الى تقرير شيء من ذلك فقال : «إن المقصود بالحكمة سنة النبي صلى الله عليه وسلم».
٢ ـ إضافة الموصوف
الى الصفة وبالعكس : الأصل أن لا يضاف موصوف الى صفته كرجل فاضل ولا تضاف صفة
لموصوفها كفاضل رجل وما ورد من ذلك يؤول كقوله تعالى «قدم صدق» ومسجد الجامع وصلاة
الأولى وحب الحصيد وحبة الحمقاء وتأويله أن يقدر موصوف أضيف إليه المضاف المذكور
والتقدير في هذه الأمثلة قدم سعي صدق ، ومسجد المكان الجامع ، وصلاة الساعة الأولى
، وحبة البقلة الحمقاء ، وإنما وصفوها بالحمق لأنها تنبت في مجاري السيول فيمر
السيل بها فيقطعها فتطؤها الأقدام ، ومن أمثلة اضافة الصفة الى موصوفها قولهم جرد
قطيفة بفتح الجيم وسكون الراء وفتح القاف وكسر الطاء ، وسحق عمامة بفتح السين
وسكون الحاء وكسر العين وتأويله أن يقدر موصوف أيضا ويقدر إضافة الصفة الى جنسها
ويجر جنسها بمن لأن الاضافة بمعنى من أي شيء جرد من نفس القطيفة وشيء سحق من جنس
العمامة فشيء موصوف وجردا وسحق صفته والصفة فيهما مضافة الى جنسها معنى.
٣ ـ ابن هشام
وتعليق «للناس» : وأجاز ابن هشام أن يتعلق قوله «للناس» بكان في بحثه المتعلق
بالتعليق بالفعل الناقص قال :«هل يتعلقان بالفعل الناقص؟ من زعم أنه لا يدل على
الحدث منع من ذلك وهم المبرد فالفارسي فابن جني فالجرجاني فابن برهان ثم الشلوبين
، والصحيح أنها كلها دالة عليه إلا ليس» أي ف «كان» تدل على حدث وهو كون مطلق
والمقيد له خبرها فمعنى كان زيد :حصل زيد ، وقولك قائما أفاد أن المراد حصول قيام
زيد وتدل أيضا على زمن خاص وهو الزمن الماضي وأما خبرها وهو قائم فيدل على زمن
مطلق فيقيد ويعين بالزمن في كان أو يكون فتحصل ان «كان» تدل على حدث مطلق يقيد
بالخبر والخبر يدل على زمن مطلق يقيد بالزمن المستفاد من كان فتعاوضا وأما بقية
الأفعال ك «صار» الدالة على الانتقال و «أصبح» الدالة على الدخول في الصباح إلخ
فدلالتها على حدث لا يدل عليه الخبر في غاية الظهور وقد استدل على بطلان القول
بأنها لا تدل على الحدث بأمور منها : أن الأصل في الفعل الدلالة على الحدث والزمان
إذ الدال على الحدث وحده مصدر وعلى الزمان وحده اسم زمان ولا يخرج الفعل عن أصله
إلا بدليل ، ومنها : أن الأفعال المتساوية في الزمان إنما تمتاز بالأحداث فإذا زال
ما به الافتراق وبقي ما به التساوي فلا فرق بين كان زيد غنيا وصار زيد غنيا والفرق
حاصل فبطل ما يوجب خلافه ، ومنها : أنه لو كان معناها الزمن لجاز أن ينعقد جملة
تامة من بعضها ومن اسم معنى كما ينعقد منه ومن اسم زمان ثم قال ابن هشام :«واستدل
لمثبتي ذلك التعلق بقوله تعالى : «أكان للناس عجبا أن أوحينا» فإن اللام لا تتعلق
بعجبا لأنه مصدر مؤخر ولا بأوحينا
لفساد المعنى ولأنه صلة لأن ، ويجوز أيضا أن تكون متعلقة بمحذوف هو حال من
عجبا على حد قوله :
لمية موحشا
طلل
|
|
يلوح كأنه
خلل
|
وعبارة ابن
يعيش : «فقوله للناس متعلق بكان وذلك انه لا يخلو إما أن يكون متعلقا بعجبا أو
بأوحينا أو بكان فلا يجوز أن يتعلق بعجبا نفسها لأنه مصدر ومعموله من صلته فلا
يتقدم عليه ولا يكون صفة لعجبا على أنه يتعلق بمحذوف لتقدمه عليه والصفة لا تتقدم
على الموصوف ولا يجوز أن يتعلق بأوحينا لأنه في صلته ولا يجوز تقديمه عليه وإذا
بطل تعلقه بما ذكرنا تعين أن يكون متعلقا بكان نفسها تعلق الظرف بالفعل».
ولا أدري كيف
منع ابن يعيش تقديم الصفة على الموصوف وقد أجمع النحاة على أنها إذا تقدمت عليه
أعربت حالا وأنشدوا البيت الآنف الذكر.
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ
الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ
السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ
الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ
وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦))
اللغة :
(الضياء) :
يجوز أن يكون جمع ضوء كسوط وسياط وحوض وحياض ويجوز أن يكون مصدر ضاء يضوء ضياء
وضوءا مثل عاذ يعوذ عياذا وعوذا وعلى أي الوجهين فالمضاف محذوف وتقديره جعل الشمس
ذات ضياء والقمر ذا نور ويكون جعل الضياء والنور لكثرة ذلك فيهما وقد تقدم في سورة
البقرة الفرق الدقيق بين الضوء والنور فارجع إليه.
الاعراب :
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ
الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) هو مبتدأ والذي خبره وجملة جعل صلة وإن كان الجعل بمعنى
التصيير كانت الشمس مفعولا أولا وضياء مفعولا ثانيا وان كان الجعل بمعنى الخلق
كانت الشمس مفعولا به وضياء حال والقمر نورا عطف عليهما. (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا
عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) وقدره فعل وفاعل مستتر ومفعول به ومنازل أي في منازل
فهو منصوب على الظرفية ويجوز أن يكون التقدير ذا منازل ، وقدّر على هذا متعدية الى
مفعولين لأن معناه جعل وصيّر فيكون مفعولا ثانيا ويجوز أن يكون قدّر متعديا الى
واحد بمعنى خلق وهو الهاء ومنازل حال أي متنقلا وارتأى أبو البقاء وجها طريفا لا
يخلو من وجاهة وهو أن يكون الضمير منصوبا بنزع الخافض فحذف حرف الجر أي قدر له
منازل ومنازل مفعول به واللام للتعليل وتعلموا منصوب بأن مضمرة وعدد مفعول به
والسنين مضاف إليه والحساب معطوف على عدد ، سئل أبو عمرو عن الحساب أننصبه
أم نجره فقال : ومن يدري عدد الحساب ومعنى جوابه أنه سئل هل نعطفه على عدد
فنصبه أم على السنين فنجره؟ فكأنه قال : لا يمكن جره إذ يقتضي ذلك أن يعلم عدد
الحساب ، ولا يقدر أحد أن يعلم عدده. (ما خَلَقَ اللهُ
ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ما نافية وخلق الله ذلك فعل وفاعل ومفعول به وإلا أداة
حصر وبالحق حال فالاستثناء المفرغ من أعم الأحوال أي ما خلق ذلك إلا ملتبسا بالحق
والحكمة البالغة ولم يخلقه عبثا وجملة يفصل الآيات حال أيضا والآيات مفعول به
ولقوم متعلقان بيفصل وجملة يعلمون صفة لقوم.
(إِنَّ فِي اخْتِلافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ
لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) الجملة مستأنفة لتعليل تعاقب الليل والنهار وتفاوتهما
بالزيادة والنقصان وإن حرف مشبه بالفعل وفي اختلاف خبر مقدم لإن وما اسم موصول
معطوف على اختلاف ويجوز أن تكون مصدرية والمصدر معطوفا على اختلاف ، وفي السموات
والأرض جار ومجرور متعلقان بخلق ولآيات اللام المزحلقة وآيات اسم إن المؤخر ولقوم
متعلقان بصفة لآيات وجملة يتقون صفة لقوم.
(إِنَّ الَّذِينَ لا
يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها
وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا
يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ
رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ
تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها
سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠))
اللغة :
(الرجاء) : له
معنيان صالحان في هذه الآية فالأول الخوف ومنه قول الشاعر :
إذ لسعته
النحل لم يرج لسعها
|
|
وخالفها في
بيت نوب عواسل
|
والثاني الطمع
ومنه قول الشاعر :
أترجو بنو
مروان سمعي وطاعتي
|
|
وقومي تميم
والفلاة ورائيا
|
فالمعنى على
الأول : لا يخافون عقابا وعلى الثاني : لا يطمعون في ثواب وقيل المراد بالرجاء هنا
التوقع فيدخل تحته الخوف والطمع.
الاعراب :
(إِنَّ الَّذِينَ لا
يَرْجُونَ لِقاءَنا) ان واسمها وجملة لا يرجون صلة ولقاءنا مفعول به. (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا
وَاطْمَأَنُّوا بِها) عطف على لا يرجون لقاءنا فهو داخل في حكم الصلة ويحتمل
أن تكون الواو للحال وقد مقدرة وكذلك يقال في واطمأنوا بها. (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا
غافِلُونَ) والذين عطف على الذين المتقدمة فيكون قسما مباينا للذين
لا يرجون وقد أخبر عن الصنفين فيما يأتي وهم مبتدأ وعن آياتنا جار ومجرور متعلقان
بغافلون وغالفون خبر هم والجملة صلة
الموصول. (أُولئِكَ مَأْواهُمُ
النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أولئك مبتدأ ومأواهم مبتدأ ثان والنار خبر الثاني
والثاني وخبره خبر أولئك وأولئك وخبره خبر إن وبما كانوا يكسبون تقدم في إعراب بما
كانوا يكفرون.
(إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) إن واسمها وجملة آمنوا صلة وعملوا عطف على آمنوا
والصالحات مفعول وجملة يهديهم ربهم خبر إن. (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ
الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) الجملة خبر ثان لإن أو حال من مفعول يهديهم أو مستأنفة
وفي جنات النعيم خبر ثالث أو حال ثانية أو متعلقان بتجري. (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ
وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) دعواهم مبتدأ وفيها جار ومجرور متعلقان بدعواهم أو
بمحذوف حال وسبحانك مفعول مطلق لفعل محذوف والجملة المؤلفة منه خبر دعواهم والمعنى
أن دعاءهم هو هذا اللفظ فالخبر هو نفس المبتدأ واللهم منادى مفرد علم والميم
المشددة عوض عن حرف النداء وتحيتهم مبتدأ وفيها متعلقان بتحيتهم أو بمحذوف حال
وسلام خبر تحيتهم والمصدر يعني التحية مضاف لمفعوله والفاعل مستتر أي تحية الله
لهم أو تحية الملائكة إياهم أو مضاف لفاعله أي ويحيي بعضهم بعضا. (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) الواو عاطفة وآخر مبتدأ ودعواهم مضاف إليه وأن مخففة من
الثقيلة واسمها ضمير الشأن والحمد مبتدأ ولله خبر ورب العالمين صفة أو بدل من الله
وجملة الحمد لله خبر ان.
(وَلَوْ يُعَجِّلُ
اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ
أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ
(١١) وَإِذا
مَسَّ
الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا
كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ
زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢))
الاعراب :
(وَلَوْ يُعَجِّلُ
اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ
أَجَلُهُمْ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتصوير حالة
الناس وتجسيد ما انطوى عليه كيانهم من مطاوعة لنوازع النفس التي تغضب وتتبرم
بسواها فتبدر منها في حالات الأزمات النفسية أدعية يتمنون فيها الموت لأولادهم
وذويهم ولكن الله يتجاوز عن الاستجابة لأنه لو استجاب لكل ما يصدر عنهم لفرغ من
هلاكهم ، ولو حرف شرط للامتناع ويعجل فعل مضارع والله فاعل وللناس جار ومجرور
متعلقان بيعجل والشر مفعول به واستعجالهم مفعول مطلق وبالخير متعلقان بالمصدر الذي
هو استعجالهم ، اللام واقعة في جواب لو وقضي فعل ماض بالبناء للمجهول وإليهم
متعلقان بقضي وأجلهم نائب فاعل ، والمعنى لفرغ من أجلهم ومدتهم المضروبة وسيرد في
باب البلاغة المزيد من النكت الرائعة في هذا التعبير الرشيق وهذا هو المشهور في
الاعراب على أن سيبويه أعرب استعجالهم حالا وان التقدير عنده استعجالا مثل
استعجالهم ثم حذف الموصوف وهو استعجال وأقيمت صفته مقامه وهي مثل فبقي ولو يعجل
مثل استعجالهم ثم حذف المضاف
وأقيم المضاف اليه مقامه فأعرب حالا من ذلك المصدر المقدر ، والأول أسهل
كما سيأتي ويجوز أيضا أن يعرب منصوبا بنزع الخافض على إسقاط كاف التشبيه والتقدير
كاستعجالهم (فَنَذَرُ الَّذِينَ
لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) الفاء عاطفة ونذر عطف على مفهوم النفي لأن لو يعجل
متضمن معنى النفي للتعجيل كأنه قيل ولا نعجل لهم الشر ولا نقضي إليهم أجلهم فنذر ،
والفاعل مستتر تقديره نحن والذين مفعول به وجملة لا يرجون لقاءنا صلة وفي طغيانهم
جار ومجرور متعلقان بيعمهون وجملة يعمهون حال أي مترددين في عماهم متخبطين في
دجنات آثامهم. (وَإِذا مَسَّ
الْإِنْسانَ الضُّرُّ) الواو للاستئناف والجملة استئنافية مسوقة لتقرير ضعف
الإنسان ونهاية عجزه ، وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وجملة مس مضاف إليها والإنسان
مفعول به والضر فاعل. (دَعانا لِجَنْبِهِ
أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً) جملة دعانا لا محل لها لأنها جواب إذا ولجنبه في محل
نصب حال من فاعل دعانا بدليل ما عطف عليه من الحالين الآتيين أو حرف عطف وقاعدا
معطوف على محل لجنبه وكذلك أو قائما ومعنى هذه الأحوال أن المضرور لا يزال لاهجا
بالدعاء لا يفتر عنها في مطلق الأحوال كلها سواء أكان منبطحا عاجزا عن النهوض أو
كان قاعدا متخاذلا لا يقدر على القيام أو كان قائما لا يطيق المشي. (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ
كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) الفاء عاطفة ولما حينية أو رابطة وكشفنا فعل وفاعل وعنه
متعلقان بكشفنا وجملة مر لا محل لها لأنها جواب لما وكأن مخففة من الثقيلة واسمها
ضمير الشأن وجملة لم يدعنا خبرها والى ضر جار ومجرور متعلقان بيدعنا وجملة مسه صفة
لضر. (كَذلِكَ زُيِّنَ
لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) كذلك مفعول مطلق أي مثل ذلك التزيين وزين
بالبناء للمجهول وللمسرفين جار ومجرور متعلقان بزين وما موصول نائب فاعل
وجملة كانوا صلة والواو اسم كان وجملة يعملون خبر كان.
البلاغة :
١ ـ التنكيت في
قوله تعالى «ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير» فقد كان سياق الكلام يقضي
أن يأتي بالمصدر المناسب لفعله وهو التعجيل ولكنه عدل الى الاستعجال وهو مصدر
لاستعجال لنكتة تدق على الافهام وتكاد تذهل عنها الخواطر إذ لا يكاد وضع المصدر مؤكدا
ومقارنا لغير فعله في الكتاب العزيز يخلو من نكتة وقصارى ما يقوله النحاة في ذلك
أنه أجرى المصدر على الفعل مقدرا عدم الزيادة وإذا تسوّر القارئ الفطن بفكر مراقي
البيان علم أن وراء الجنوح الى هذا المصدر بدلا عن المصدر الملائم للفعل سرا إذ
وضع الاستعجال موضع التعجيل إيذانا وإشعارا بسرعة اجابته لهم واسعافه بطلبتهم حتى
كأن استعجالهم بالخير تعجيل لهم ومثل ذلك قوله «والله أنبتكم من الأرض نباتا» في
التنبيه على حتمية نفوذ القدرة في المقدور وسرعة إمضاء الحكم وسيأتي في حينه.
٢ ـ التقسيم أو
صحة الأقسام وهو عبارة عن استيفاء المتكلم جميع أقسام المعنى الذي هو آخذ فيه بحيث
لا يغادر منه شيئا وقوله :«دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما» استوفى جميع الهيئات
التي يكون عليها الإنسان وقد تردد التقسيم في آل عمران فارجع اليه.
(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا
الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ
الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ
لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ
قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ
قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ
إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ
عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ
فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦) فَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا
يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧))
اللغة
: (الْقُرُونَ) : جمع قرن بفتح القاف ، وهو أهل كل عصر ، سموا بذلك
لمقارنة بعضهم لبعض ومنه قرن الكبش لمقارنته آخر بإزائه والقرن بكسر القاف هو
المقام لقرينه في الشدة ويؤخذ من المعاجم أيضا أن القرن بفتح القاف هو مائة سنة
وأمة بعد أمة والوقت المطلق من الزمان والقرون الخالية الأمة المتقدمة على التي
بعدها.
(خَلائِفَ) : جمع خليفة وهو من يخلف غيره ويقوم مقامه والإمام الذي
ليس فوقه إمام وهو مذكر فيقال هذا خليفة آخر وربما أنث مراعاة للفظ فيقال خليفة
أخرى ويجمع على خلفاء وخلائف والعدد مع الجمع الأول مذكر فيقال ثلاثة خلفاء ومع
الثاني يجوز أن يكون مذكرا ومؤنثا فيقال ثلاثة وثلاث خلائف.
(القرآن) :
هناك خمسة أقوال في لفظ القرآن نلخصها بما يلي :
١ ـ ما ذهب
اليه الشافعي من أنه ليس مهموزا ولا مشتقا بل وضع علما على الكلام المنزل.
٢ ـ ما نقل عن
الأشعري وغيره من أنه مشتق من قرنت الشيء بالشيء إذا ضممته اليه ثم جعل علما على
اللفظ المنزل وسسي بذلك لقران السور والآيات والحروف فيه بعضها ببعض.
٣ ـ ذهب الفراء
الى أنه مشتق من القرائن لأن الآيات فيه يصدق بعضها بعضا وجعل علما على اللفظ
المنزل لذلك وهو على هذين غير مهموز أيضا كالذي قبلهما ونونه أصلية.
٤ ـ قال الزجاج
: هو وصف على وزن فعلان وهو مهموز مشتق من القرء بمعنى الجمع ومنه قرأت الماء في
الحوض إذا جمعته وسمي الكلام المنزل على النبي المرسل به قرآنا لأنه جمع السور أو
جمع ثمرات الكتب السابقة.
٥ ـ ما ذهب
اليه اللحياني وجماعة من أنه مصدر مهموز بوزن الغفران سمي به المقروء من تسمية
المفعول بالمصدر.
وينقل السيوطي
في الإتقان عن الجاحظ أن الله سمى كتابه اسما مخالفا لما سمى العرب كلامهم ، سمى
جملة قرآنا كما سمى العرب جملة كلامهم ديوانا وسمى بعضه سورة كقصيدة ، وسمى بعض
السورة آية كالبيت وسمى آخر السورة الفاصلة كالقافية.
أما دائرة
المعارف الاسلامية فتبدأ بحثها في ماده قرآن بذكر اختلاف المسلمين في نطق واشتقاق
ومعنى كلمة قرآن فبعضهم يقول القرآن بغير همز ويذهب الى أنها كلمة وضعت كما وضعت
كلمة توراة وإنجيل وهو كما ترى قول الشافعي ، ثم تمضي الدائرة في ذكر بقية الأقوال
الخمسة الآنفة الذكر وتضيف إليها قولا سادسا وهو ما ذهب اليه شفالي ، ولهاوزن من
أن الكلمة عبرية أو سريانية ومعناها ما يقرأ ، وتجنح دائرة المعارف مع هذين
العالمين ، الى رأيهما الذي يقول بأن قرأ بمعنى تلا ليست كلمة عربية النسب ولكنها
دخيلة على اللغة.
هذا وسيرد المزيد
من هذا البحث الطريف في مواقع أخرى يتبين فيها أرجع الأقوال.
الاعراب :
(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا
الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ) الواو استئنافية واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف
تحقيق وأهلكنا القرون فعل وفاعل ومفعول ومن قبلكم جار ومجرور متعلقان بأهلكنا ولا
يجوز أن يكون حالا من القرون لأنه ظرف زمان فلا يقع حالا عن الجثة كما لا يقع خبرا
لها وقد تقدم بحثه. (لَمَّا ظَلَمُوا
وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) لما حينية متعلّقة بأهلكنا أو رابطة وظلموا فعل وفاعل
وجاءتهم الواو واو الحال
بإضمار قد وقد تقدم بحث واو الحال وقيل الواو للعطف على ظلموا ولعل الأول
أولى ، وجاءتهم رسلهم فعل ومفعول به وفاعل وبالبينات متعلق بجاءتهم. (وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ
نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) عطف على ظلموا واللام في ليؤمنوا للجحود ويؤمنوا منصوب
بأن مضمرة وهي مع مدخولها خبر كانوا ، وكذلك في محل نصب صفة لمصدر محذوف ونجزي
القوم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به والمجرمين صفة للقوم. (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي
الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ) ثم حرف عطف وجعلناكم عطف على أهلكنا وخلائف مفعول به
ثان وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لخلائف ومن بعدهم متعلقان بجعلناكم. (لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) اللام للتعليل وننظر منصوب بأن مضمرة بعدها وكيف اسم
استفهام في محل نصب مفعول به لتعملون أي لننظر أي عمل تعملونه ، لا لننظر لأن لها
الصدارة فلا يعمل فيها ما قبلها ، ولا يبعد أن تكون في محل نصب على الحال أي على
أي حالة تعملون الأعمال اللائقة بالاستخلاف.
(وَإِذا تُتْلى
عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة
تتلى مضاف إليها وتتلى فعل مضارع بالبناء للمجهول وعليهم متعلقان بتتلى وآياتنا
نائب فاعل وبينات حال.
(قالَ الَّذِينَ لا
يَرْجُونَ لِقاءَنَا : ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) الجملة لا محل لها لأنها جواب إذا والذين فاعل وجملة لا
يرجون صلة ولقاءنا مفعول يرجون وجملة ائت مقول القول وبقرآن متعلقان بائت وغير صفة
لقرآن وهذا مضاف لغير وأو حرف عطف وبدله عطف على ائت.
(قُلْ : ما يَكُونُ
لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) ما نافية ويكون فعل مضارع ناقص ولي خبرها المقدم وأن
وما في حيزها اسمها المؤخر ويجوز أن تكون تامة والمصدر فاعل ومن تلقاء نفسي
متعلقان بأبدله
ونفسي مضافة لتلقاء وقد تقدم القول في التلقاء. (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) إن نافية وأتبع فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا وإلا
أداة حصر وما مفعول به وجملة يوحى إلي صلة. (إِنِّي أَخافُ إِنْ
عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) إن واسمها وجملة أخاف خبرها وإن شرطية وعصيت فعل ماض في
محل جزم فعل الشرط والتاء فاعل ربي مفعول به وعذاب مفعول به لأخاف ويوم مضاف اليه
وعظيم صفة. (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ
ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) لو شرطية وشاء الله فعل وفاعل وجملة ما تلوته عليكم
جواب لو وعليكم جار ومجرور متعلقان بتلوته ، ولا الواو عاطفة ولا نافية وأدراكم
فعل ماض وفاعله مستتر والكاف مفعول به وبه متعلقان بأدراكم. (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ
قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) الفاء تعليلية وقد حرف تحقيق ولبثت فعل وفاعل وفيكم جار
ومجرور متعلقان بمحذوف حال وعمرا ظرف زمان متعلق بلبثت ومن قبله متعلقان بلبثت
أفلا الهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على مقدر ولا نافية وتعقلون معطوف
على المقدر. (فَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) الفاء عاطفة ومن اسم استفهام للنفي مبتدأ وأظلم خبره
وممن متعلقان بأظلم وجملة افترى صلة الموصول وعلى الله متعلقان بافترى وكذبا مفعول
به ، وأو حرف عطف وكذب عطف على افترى وبآياته متعلقان بكذب ، والمعنى : لا أحد
أظلم ممن افتري على الله الكذب ، وزيادة كذبا مع أن الافتراء لا يكون الا كذبا
لبيان أن هذا مع كونه افتراء على الله هو كذب في نفسه فربما يكون الافتراء كذبا في
الاسناد فقط كما إذا أسند ذنب زيد الى عمرو.
(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ
الْمُجْرِمُونَ) الجملة تعليل لكونه لا أظلم ممن افترى على الله كذبا أو
كذب بآياته ، وان واسمها وجملة لا يفلح خبرها والمجرمون فاعل.
(وَيَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا
عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا
فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨) وَما كانَ النَّاسُ
إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ
لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩) وَيَقُولُونَ لَوْ لا
أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ
فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠))
الاعراب :
(وَيَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة لحكاية جناية أخرى من
جناياتهم ويعبدون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل ومن دون الله متعلقان
بمحذوف حال من فاعل يعبدون أي متجاوزين الله لا بمعنى ترك الله بالكلية بل بمعنى
عدم الاكتفاء بها وضم عبادة الأوثان إليها للشفاعة والتقرب وما موصول مفعول به وهي
راجعة الى الأصنام ولكنه راعى لفظها فأفرد في قوله ما لا يضرهم ولا ينفعهم وراعى
معناها في قوله هؤلاء شفعاؤنا فجمع ، وجملة لا يضرهم صلة الموصول ولا ينفعهم عطف.
وقيل ما موصوفة. (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ
شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) الواو
عاطفة ويقولون معطوف على يعبدون وهؤلاء مبتدأ وشفعاؤنا خبر وعند الله ظرف
متعلق بمحذوف حال. (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ
اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) قل فعل أمر وجملة أتنبئون مقول القول والمقصود بالأمر
التبكيت والهمزة للاستفهام الانكاري كأنه يؤنبهم وينكر عليهم أن يخبره بما لا يعلم
لها وجودا في السموات والأرض وهو الشفيع ولو أنه كان ثمة شفيع لعلمه. وربما الباء
حرف جر وما موصولة أو نكرة موصوفة وعلى كلا التقديرين العائد محذوف أي يعلمه
والجار والمجرور متعلقان بتنبئون وفي السموات حال من العائد المحذوف في يعلم وجملة
لا يعلم صلة ما. (سُبْحانَهُ وَتَعالى
عَمَّا يُشْرِكُونَ) سبحانه تقدم أنه مفعول مطلق لفعل محذوف وتعالى فعل ماض
وعما يشركون متعلقان بتعالى وما موصولة أو مصدرية.
(وَما كانَ النَّاسُ
إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لبيان أن الفطرة
والتشريع تتطلب وحدة البشر ولكنهم نزوعا منهم الى أهواء النفس ومتطلباتها اختلفوا
وقد أفاض المفسرون في كيفية ذلك والرجوع اليه في المطولات. وما نافية وكان الناس
كان واسمها وإلا أداة حصر وأمة خبر كان وواحدة صفة فاختلفوا عطف على المعنى أي كان
الناس جميعا على الحق فاختلفوا. (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) الواو عاطفة ولو لا حرف امتناع لوجود وكلمة مبتدأ محذوف
الخبر وجملة سبقت صفة لكلمة ومن ربك متعلقان بسبقت ولقضي اللام جواب لو لا وجملة
قضي لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ونائب الفاعل مستتر تقديره الأمر وبينهم
متعلقان بقضي أي لفصل بينهم ولميز المحق من المبطل ولكن كلمته سبقت بالتأخير لتكون
هذه الدار دار تكليف وتلك دار ثواب أو عقاب وفيما متعلقان بقضي أيضا وفيه متعلقان
بيختلفون
وجملة يختلفون صلة الموصول. (وَيَقُولُونَ لَوْ لا
أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) الواو عاطفة ويقولون فعل مضارع وفاعل ولو لا حرف تحضيض
وأنزل فعل ماض مبني للمجهول وعليه متعلقان بأنزل وآية نائب فاعل ومن ربه صفة لآية.
وأتى بالمضارع لاستحضار صورة ما قالوه.
(فَقُلْ إِنَّمَا
الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) الفاء واقعة في جواب لو لا وإنما كافة ومكفوفة والغيب
مبتدأ ولله خبر فانتظروا الفاء الفصيحة وانتظروا فعل أمر وفاعل واني ان واسمها ومن
المنتظرين خبرها ومعكم ظرف متعلق بالمنتظرين.
(وَإِذا أَذَقْنَا
النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي
آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ
(٢١) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ
فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها
رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ
بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ
لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ
فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى
أَنْفُسِكُمْ
مَتاعَ
الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ (٢٣))
اللغة :
(الْفُلْكِ) : السفن وسميت فلكا لدورانها في الماء وأصله الدور ومنه
فلكة المغزل ، وتفلّك ثدي الجارية إذا استدار والفلك يكون جمعا وواحد وهو هنا جمع.
(رِيحٌ) : في المصباح : الريح الهواء المسخر بين السماء والأرض
وأصلها الواو لكن قلبت لانكسار ما قبلها والجمع أرواح ورياح وبعضهم يقول أرياح
بالياء على لفظ الواحد وغلّطه أبو حاتم. والريح مؤنثة على الأكثر فيقال هي الريح
وقد تذكر على معنى الهواء فيقال هو الريح نقله أبو زيد ، وقال ابن الأنباري :
الريح مؤنثة لا علامة فيها وكذلك سائر أسمائها إلا الإعصار فهو مذكر وراح اليوم
يروح روحا من باب قال وفي لغة من باب خاف إذا اشتدت ريحه فهو رائح.
(عاصِفٌ) : عصفت الريح فهي عاصف وعاصفة قال :
حتى إذا عصفت
ريح مزعزعة
|
|
فيها قطار
ورعد صوته زجل
|
ويقال أعصفت
الريح فهي معصفة ومعصف والجمع معاصف ومعاصيف.
الاعراب :
(وَإِذا أَذَقْنَا
النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي
آياتِنا) الواو استئنافية وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن خافض
لشرطه منصوب بجوابه وجملة أذقنا في محل جر بالاضافة إليها وجوابها في إذا الثانية
الفجائية وانما جعلت جوابا لكونها بمعنى المفاجأة كأنه قال وإذا رحمناهم من بعد
ضراء فاجئوا وقوع المكروه منهم وسارعوا اليه وقد يقدم القول في إذا الفجائية وهل
هي حرف أم ظرف زمان أم ظرف مكان ، ورحمة مفعول به ثان ومن بعد صفة لرحمة وضراء
مضافة ترجمة وجملة مستهم صفة لضراء وإذا الفجائية ولهم خبر مقدم ومكر مبتدأ مؤخر
وفي آياتنا صفة لمكر. (قُلِ اللهُ أَسْرَعُ
مَكْراً) الله مبتدأ وأسرع خبر ومكرا تمييز. (إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما
تَمْكُرُونَ) ان واسمها وجملة يكتبون خبرها وما موصول مفعول به وجملة
تمكرون صلة والجملة تعليلية لسرعة مكره تعالى وتعجيله العقوبة. (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) جملة مستأنفة مسوقة لبيان جريمة أخرى من جرائمهم قائمة
على اختلاف ما يعتريهم من تقلب بالنسبة لما يصيبهم من سراء وضراء ، وهو مبتدأ
والذي خبره وجملة يسيركم صلة والكاف مفعول به وفي البر والبحر جار ومجرور متعلقان
بيسيركم. (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ
فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها) حتى حرف غاية وجر وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وجملة كنتم
مضافة إليها والتاء اسم كان وفي الفلك خبرها وجرين عطف على كنتم على طريق الالتفات
كما سيأتي في باب البلاغة والنون للنسوة فاعل جرين وبهم جار ومجرور متعلقان بجرين
وبريح طيبة حال أي مسوقين وطيبة صفة وفرحوا بها عطف على وجرين ويجوز أن تكون جملة
حالية من الضمير بهم وقد مضمرة.
(جاءَتْها رِيحٌ
عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) جملة جاءتها لا محل لها لأنها جواب إذا وريح فاعل
جاءتها وعاصف صفة وجاءهم الموج عطف على جاءتها ومن كل مكان متعلقان بجاءهم أو
بمحذوف
حال من الموج أي منحدرا. (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ
أُحِيطَ بِهِمْ) عطف على جاءهم وان وما في حيزها سدت مسد مفعولي ظنوا
وجملة أحيط بهم خبر أنهم ويلاحظ القارئ أنه جعل الشرط أمورا ثلاثة وهي الكون في
الفلك والجري بهم بريح طيبة والفرح بها وجعل الجواب أمورا ثلاثة أيضا وهي مجيء
الريح العاصف ومجيء الموج وظنهم الإحاطة بهم.
(دَعَوُا اللهَ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) جملة دعوا الله بدل من ظنوا بدل اشتمال لما بينهما من
الملابسة والتلازم ذلك لأن دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك فهو ملتبس به ، أو
استئنافية مبنية على سؤال يخطر للذهن وهو فماذا صنعوا فقيل دعوا الله ، ودعوا الله
فعل وفاعل ومفعول ومخلصين حال وله جار ومجرور متعلقان بمخلصين والدين مفعول به (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ
لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) اللام موطئة للقسم وان شرطية ونجيتنا فعل وفاعل ومفعول
به وهي فعل الشرط ومن هذه متعلقان بأنجيتنا والاشارة للاهوال وما وقعوا فيه من
مشارفه الهلاك في البحر ولنكونن جوابه وجواب الشرط محذوف لتقدم القسم ، والقسم
وجوابه في محل نصب بقول مقدر وذلك القول المقدر في محل نصب حال والتقدير : دعوا
الله قائلين لئن أنجيتنا من هذه الأهوال لنكونن من الشاكرين. (فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ
فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) الفاء عاطفة ولما حينية أو رابطة وأنجاهم فعل وفاعل
مستتر ومفعول به وإذا فجائية وهم مبتدأ وجملة يبغون خبرهم وفي الأرض جار ومجرور
متعلقان بيبغون وبغير الحق حال. (يا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) إنما كافة ومكفوفة وبغيكم مبتدأ وعلى أنفسكم خبر. (مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) قرأ حفص وابن اسحق والمفضل بنصب متاع على المفعولية
المطلقة بفعل محذوف أي تتمتعون متاع الحياة الدنيا أو على أنه مفعول به لفعل محذوف
أي تبتغون متاع الحياة الدنيا وقرأ الباقون بالرفع على أنه
خبر لمبتدأ محذوف أي هو متاع الحياة الدنيا وقيل غير ذلك والأرجح ما
ذكرناه. (ثُمَّ إِلَيْنا
مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ثم حرف عطف وتراخ وإلينا خبر مقدم ومرجعكم مبتدأ مؤخر
فننبئكم الفاء عاطفة وننبئكم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وربما كنتم تعملون
متعلقان بننبئكم وجملة كنتم صلة ما وجملة تعملون خبر كنتم.
البلاغة :
في هذه الآيات
ضروب متعددة من البلاغة تقدم ذكر بعضها واحتاج بعضها الآخر الى مزيد من البسط ومن
أهم فنونها :
١ ـ الالتفات
من الخطاب الى الغيبة ثم العودة الى الغيبة وذلك في قوله تعالى «هو الذي يسيركم في
البر والبحر» الى آخر الآية وقد تقدم القول في الالتفات ونوضحه هنا فنقول : لما
كان قوله هو الذي يسيركم خطابا ينطوي على الامتنان واظهار نعمة المخاطبين ولما كان
المسيرون في البر والبحر مؤمنين وكفارا والخطاب شامل لهم جميعا حسن خطابهم بذلك
ليستديم الصالح الشكر ولعل الطالح يتذكر هذه النعمة فيتهيأ قلبه لتذكر وشكر مسديها
ولما كان في آخر الآية ما يقتضي أنهم إذا نجوا بغوا في الأرض عدل عن خطابهم بذلك
الى الغيبة لئلا يخاطب المؤمنين بما لا يليق صدوره منهم وهو البغي بغير الحق هذا
من جهة ومن جهة ثانية ذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها كالمخبر لهم ويستدعي منهم
الإنكار عليهم والتقبيح لما اقترفوه ، ففي الالتفات فائدتان وهما المبالغة والمقت
والتبعيد ، قال الرازي «الانتقال من مقام الخطاب الى مقام الغيبة في هذا المقام
دليل المقت والتبعيد كما أن عكس ذلك في قوله إياك نعبد دليل الرضا والتقريب».
٢ ـ المجاز
المرسل : في قوله «بغيكم على أنفسكم» لأن البغي لا يقع على الأنفس وانما هو الوبال
ولما كان البغي هو سببه ، ذكره على طريق المجاز المرسل والعلاقة السببية.
٣ ـ المشاكلة :
أفرد لفظ الريح للمشاكلة لوجهين لأنه في مقابلة قوله سبحانه : جاءتهم ريح عاصف
ولأن الرحمة تقتضي هنا وحدة الريح فإن السفينة إنما تسير بريح واحدة ولو اختلفت
عليها الرياح هلكت ولذا أكد بوصف الطيبة.
وفي تسمية
عقوبة الله سبحانه مكرا فن المشاكلة وقد تقدم بحثها.
٤ ـ الاشارة :
وفي قوله : قل الله أسرع مكرا فن الاشارة لأن أفعل التفضيل دلّ على أن مكرهم كان
سريعا ولكن مكر الله أسرع منه وإذا الفجائية يستفاد منها السرعة والمعنى أنهم
فاجئوا المكر أي أوقعوه على جهة الفجاءة والسرعة.
الفوائد :
في قوله تعالى
: «هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم ...» فائدة منقطعة النظير ترتبت
عليها أحكام فقهية نشير إليها وهي ما ذكره الزمخشري في كشافه قال : «فان قلت : كيف
جعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر والتسيير في البحر انما هو بعد الكون في
الفلك؟ قلت : لم يجعل الكون في الفلك غاية للتسيير ولكن مضمون الجملة الشرطية
الواقعة بعد حتى بما في حيزها كأنه قيل يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة وكان كيت
وكيت من مجيء الريح
العاصف وتراكم الأمواج وظن الهلاك والدعاء بالانجاء» الى آخر هذا الفصل.
وقد سبق مثل هذه الآية وفاتنا أن نشير الى هذا السر في حينه وهي قوله تعالى في
سورة النساء «وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا
إليهم أموالهم» فقد استدل الزمخشري بها لأبي حنيفة في أن الصغير يبتلى قبل البلوغ
أن يسلم اليه قدر من المال يمتحن فيه خلافا لما لك فانه لا يرى الابتلاء قبل
البلوغ أما الشافعي فله قولان أحدهما يوافق أبا حنيفة والآخر يوافق مالكا ،
وللأئمة في هذا الصدد مناقشات تخرج عن صدد الكتاب وإنما أشرنا الى مكان الفائدة
البيانية والنحوية والرجوع لمعرفة الاحكام الفقهية الى المظان.
(إِنَّما مَثَلُ
الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ
الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ
زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها
أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ
كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤) وَاللهُ يَدْعُوا إِلى
دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥))
اللغة :
(الزخرف) :
بالضم الذهب وكمال حسن الشيء ومن القول حسنه ومن الأرض ألوان نباتها.
(ازَّيَّنَتْ) : أصله تزينت فأدغمت التاء في الزاي وسكنت الزاي
فاجتلبت لها همزة الوصل.
(تَغْنَ) : مضارع غني بالمكان أقام به والمغاني المنازل قال
النابغة :
غنيت بذلك إذ
هم لك جيرة
|
|
منها بعطف
رسالة وتودّد
|
وفي القاموس ما
يقتضى أن غني يأتي بمعنى كان ووجد كقوله :غنيت دارنا بتهامة أي كانت بها.
الاعراب :
(إِنَّما مَثَلُ
الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ) كلام مستأنف مسوق لبيان حال الدنيا وسرعة تقضيها وأنها
بعد أن تستهوي الأعين برونقها تحمل أهلها على أن يسفك بعضهم دم بعض ويمتشقوا
الحسام فيما بينهم لتعكير صفو السلم الذي يجب أن يسود بينهم وضرب لذلك مثلا من
التشبيه المركب. وإنما كافة ومكفوفة ومثل مبتدأ والحياة مضاف اليه والدنيا صفة ،
كماء : الجار والمجرور خبر مثل أو هي اسم فهي الخبر وجملة أنزلناه صفة لماء ومن
السماء متعلقان بأنزلناه.
(فَاخْتَلَطَ بِهِ
نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ) الفاء عاطفة
واختلط عطف على أنزلناه وبه متعلقان باختلط ونبات الأرض فاعل اختلط ومما
يأكل الناس الجار والمجرور حال من نبات الأرض وجملة يأكل الناس صلة والانعام عطف
على الناس. (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ
الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ) حتى حرف غاية وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن متعلق
بالجواب وهو أتاها وجملة أخذت مضافة إليها والأرض فاعل وزخرفها مفعول به وازينت
عطف على أخذت. (وَظَنَّ أَهْلُها
أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) وظن عطف أيضا وأهلها فاعل ظن وأن وما في حيزها سدت مسد
مفعولي ظن وقادرون خبر أن وعليها جار ومجرور متعلقان بقادرون. (أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً) أتاها جواب إذا والهاء مفعول به وأمرنا فاعل وليلا ظرف
متعلق بأتاها وأو حرف عطف ونهارا معطوف على ليلا. (فَجَعَلْناها
حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) الفاء عاطفة وجعلناها فعل وفاعل ومفعول به أول وحصيدا
مفعول به ثان وكأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وجملة لم تغن خبرها وبالأمس
جار ومجرور متعلقان بتغن وأراد بالأمس مطلق الزمان الماضي لا خصوص اليوم الذي قبل
يومك ولذلك أعربه وأدخل عليه «أل» ولو قال أمس للزم البناء على الكسر والتجرد من
أل.
(كَذلِكَ نُفَصِّلُ
الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) كذلك جار ومجرور متعلقان بمحذوف مفعول مطلق ونفصل
الآيات فعل وفاعل مستتر ومفعول به والجار والمجرور متعلقان بنفصل وجملة يتفكرون
صفة لقوم. (وَاللهُ يَدْعُوا
إِلى دارِ السَّلامِ) والله مبتدأ وجملة يدعو خبر والى دار السلام متعلقان
بيدعو وسيأتي الفرق بين الدعاء والأمر في باب الفوائد.
(وَيَهْدِي مَنْ
يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ويهدي عطف على يدعو ومن مفعول به وجملة يشاء صلة والى
صراط متعلقان بيهدي ومستقيم صفة.
البلاغة :
١ ـ في هذه
الآية تشبيه تمثيلي ومركب وهو هنا يحتمل شيئين :
آ ـ انه شبه
الحياة الدنيا بالماء فيما يكون به من الانتفاع ثم الانقطاع.
ب ـ انه شبهها
بالنبات في جفافه وذهابه حطاما بعد ما التف وتكاثف وزين الأرض بخضرته ورفيفه.
٢ ـ وفي قوله «أخذت
الأرض زخرفها» استعارة مكنية حيث جعلت الأرض في زينتها بما عليها من أصناف النبات
كالعروس التي أخذت من أنواع الزينة والثياب فتزينت بها.
الفوائد :
الفرق بين
الدعاء والأمر أن الأول طلب الفعل بما يقع لأجله والداعي الى الفعل خلاف الصارف
عنه وهو لا يكون إلا من الأدنى الى الأعلى أما الأمر فهو ترغيب في الفعل وزجر عن
تركه وهو يقتضي أن المأمور دون الآمر في الرتبة.
(لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ
أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُوا
السَّيِّئاتِ
جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ
عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً
أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧))
اللغة :
(يَرْهَقُ) وجوههم أي يغشاها والرهق الغشيان يقال رهقه يرهقه من
باب طرب أي غشيه بسرعة ومنه «لا ترهقني من أمري عسرا» و «فلا يخاف بخسا ولا رهقا»
يقال رهقته وأرهقته مثل ردفته وأردفته ففعل وأفعل بمعنى ، ومنه أرهقت الصلاة إذا
أخرتها حتى غشي وقت الأخرى أي دخل وقال بعضهم الرهق المقاربة ومنه غلام مراهق أي
قارب الحلم وقال آخرون : الرهق لحاق الأمر ومنه راهق الغلام إذا لحق بالرجال ورهقه
في الحرب أدركه وقال الأزهري : الرهق اسم من الارهاق وهو أن يحمل الإنسان على ما
لا يطيقه ومنه سأرهقه صعودا. وللراء مع الهاء خاصة غريبة فهما لا تفيدان معنى
واحدا وانما تفيدان إحداث التأثير وقد أحصيناها فلم تختل هذه القاعدة المطردة ،
فرهيأ الحمل جعل أحد العدلين أثقل من الآخر ، وترهيأت السحابة تمخضت بالمطر ،
ورهبته خفت منه وفي قلبي منه رهبة وهو رجل مرهوب ، عدوه منه مرعوب قالت ليلى :
وقد كان
مرهوب السنان وبيّن الل
|
|
سان ومجذام
السّرى غير فاتر
|
وهو راهب بين
الرهبانية وهؤلاء رهبان ورهبة ورهابين ورهابنة قال رجل من الضبّاب :
قد أدبر
الليل وقضّى أربه
|
|
وارتفعت في
فلكيها الكوكبة
|
كأنها مصباح
دير الرهبة ورماه فأصاب رهابته وهي عظيم في الصدر مطلّ على البطن كأنه طرف لسان
الكلب. ومن المجاز أرهب الإبل عن الحوض :ذادها ، وأرهب عنه الناس بأسه ونجدته ،
قال رجل من جرم :
إنّا إذا
الحرب نساقيها المال
|
|
وجعلت تلقح
ثم تحتال
|
يرهب عنا
الناس طعن إيغال
|
|
شزر كأفواه
المزاد الشلشال
|
أي ننفق عليها
المال وهو من فصيح الكلام وانما فصّحه ملح الاستعارة ، والرهج الغبار ولا يخفى ما
يحدثه من أثر ، وأرهج الغبار :أثاره وأرهجت حوافر الخيل ومن المجاز أرهج فلان نار
الفتنة بين القوم ، وله بالشر لهج ، وله فيه رهج ، ورهز وارتهز لأمر كذا تحرك له
واهتز ونشط ، ونشط من الرهز وهو الحركة في الجماع وغيره ومن أقوالهم : فلان للطمع
مرتهز ولفرصه منتهز ، ورهص أصلح باحكام وإذا بنيت جدارا فأحكم رهصه وهو عرقه
الأسفل ومن المجاز أرهص الشيء أثبته وأسسه ، وكان ذلك إرهاصا للنبوة ، ورهصه لامه
وهو من الرّهصة وتقول فلان ما ذكر عنده أحد إلا غمصه ،
وقدح في ساقه ورهصه ، وفلان أسد رهيص أي لا يبرح مكانه كأنما رهص ، والرهط
من الثلاثة الى العشرة وأثرهم واضح في اجتماع الشمل ، وانتظام العمل ، وإحراز
النصر قال الوليد بن عقبة أخو عثمان ابن عفان حين قتل وبويع علي بن أبي طالب وأمر
بقبض ما في الدار من السلاح وغيره :
بني هاشم إنا
وما كان بيننا
|
|
كصدع الصّفا
لا يرأب الدهر شاعبه
|
ثلاثة رهط :
قاتلان وسالب
|
|
سواء علينا
قاتلاه وسالبه
|
ورهف سيفه رقّ
حده وسيف رهيف ومرهف الحد ورجل مرهف الجسم دقيقه وقد شحذت علينا لسانك وأرهفته ،
وفيه رهل أي انتفاخ ، وروضه مرهومة ممطورة قال ذو الرمة :
أو نفحة من
أعالي حنوة معجت
|
|
فيها الصّبا
موهنا والروض مرهوم
|
والرهن معروف
وقبض الرّهن والرّهون والرّهان والرّهن واسترهنني فرهنته ضيعتي ومن المجاز فيه :
جاءا فرسي رهان أي متساويين وإني لك رهن بكذا أي أنا ضامن له ورجلي رهينة أي مقيدة
قال السمهري بن أسد العكلي :
لقد طرقت
ليلي ورجلي رهينة
|
|
فما راعني في
السجن إلا سلامها
|
وفلان رهن بكذا
ورهين ورهينة ومرتهن به : مأخوذ به ، قال تعالى «كل امرئ بما كسب رهين» و «كل نفس
بما كسبت رهينة» والرهو السكون قال تعالى «واترك البحر رهوا» أي ساكنا وعيش راه أي
ساكن ، ومر باعرابي فالج فقال : سبحان الله رهو بين سنامين ، ويقال طلع رهوا ورهوة
وهو نحو التل قال ذو الرمة :
يجلّي كما
جلّى على رأس رهوة
|
|
من الطير
أقنى ينفض الطلّ أزرق
|
وجاءت الخيل
رهوا أي متتابعة وأتاه بالشيء رهوا سهوا أي عفوا سهلا لا احتباس فيه قال :
يمشين رهوا
فلا الأعجاز خاذلة
|
|
ولا الصدور
على الاعجاز تتكل
|
وهذا من عجيب
أمر هذه اللغة الشريفة.
(القتر) :
والقترة الغبار معه سواد يقال قتر كفرح ونصر وضرب ومنه قول الفرزدق :
متوح برداء
الملك يتبعه
|
|
موج ترى فوقه
الرايات والقترا
|
وفيل القتر :
الدخان ومنه غبار القدر وقيل القتر القدر القليل والاقتار في المعيشة ويقال قترت
الشيء واقترته أي قللته ومنه «وعلى المقتر قدره».
(القطع) : جمع
قطعة من الليل فيها ظلمة والقطع بكسر القاف وسكون الطاء الجزء من الليل الذي فيه
ظلمة وقد قرىء بهما.
الاعراب :
(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا
الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) للذين خبر مقدم وجملة أحسنوا صلة والحسنى مبتدأ مؤخر
وزيادة عطف على الحسنى أي ما يزيد على المثوبة. (وَلا يَرْهَقُ
وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ) يجوز في الواو أن تكون مستأنفة لتعدد النعميات على
المحسنين ويجوز أن تكون عاطفة وجملة يرهق وجوههم معطوفة على الحسنى ولا بد حينئذ
من تقدير أن فإن شئت نصبت وان شئت رفعت على حد قول ميسون :
ولبس عباءة
وتقر عيني
|
|
أحب إليّ من
لبس الشفوف
|
ولا نافية
ويرهق وجوههم فعل مضارع ومفعول به وقتر فاعل ولا ذلة عطف على قتر (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ
فِيها خالِدُونَ) أولئك مبتدأ وأصحاب خبر والجنة مضاف اليه ، وهم مبتدأ
وفيها متعلقان بخالدون وخالدون خبر والجملة حالية. (وَالَّذِينَ كَسَبُوا
السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) يجوز أن تكون الواو عاطفة والذين معطوفة نسقا على الذين
الأولى أي للذين أحسنوا الحسنى وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها فيتعادل
التقسيم وهذا أسهل الوجوه التي ذكرها المعربون والنحاة ويجوز أن تكون الواو
استئنافية والذين مبتدأ خبره جزاء سيئة بمثلها وهو قول سهل أيضا لا تكلف فيه وهناك
أقوال
أضربنا عنها لأنها تكلف لا حاجة اليه. وكسبوا السيئات الجملة من الفعل
والفاعل والمفعول به صلة الموصول وجزاء مبتدأ ثان وسيئة مضاف اليه وبمثلها خبر
جزاء أي مقدر بمثلها. (وَتَرْهَقُهُمْ
ذِلَّةٌ) قيل هذه الجملة عطف على كسبوا وفيه ضعف من وجهين أولهما
أن المستقبل لا يعطف على الماضي وثانيهما أنه فصل بينهما بجملة مطولة ، وقيل الواو
حالية وجملة ترهقهم ذلة حالية ولا يخفى ما فيه من تكلف ، وقيل الواو معترضة
والجملة اعتراضية ، ولكن الاعتراض غير وارد هنا لأنه بصدد تعداد أحوال عذابهم ،
ونرى أن تكون الواو مستأنفة والجملة استئنافية ، كأنما هو يعدد أصناف العذاب لهم
تهويلا ، وكذلك قوله : (ما لَهُمْ مِنَ اللهِ
مِنْ عاصِمٍ) ما نافية أو حجازية ولهم خبر مقدم ومن الله جار ومجرور
متعلقان بعاصم ومن زائدة وعاصم مبتدأ مؤخر أو اسم ما مؤخر عند من يجيز تقدم خبرها.
(كَأَنَّما أُغْشِيَتْ
وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً) وهذه جملة مستأنفة استوفت المصائر الثلاثة لهم وهي
الجزاء المعادل والذلة التي رهقتهم وغشيان وجوههم قطعا من الليل ، وكأنما كافة
ومكفوفة وأغشيت فعل ماض مبني للمجهول ووجوههم نائب فاعل وقطعا مفعول به ثان ومن
الليل صفة لقطع ومظلما صفة ثانية لقطعا بكسر القاف وسكون الطاء. وعلى قراءة قطعا
يشكل أن تكون مظلما صفة فتعرب حالا من الليل والعامل فيه إما أغشيت من قبل من أن
الليل صفة لقوله قطعا فكان افضاؤه الى الموصوف كإفضائه الى الصفة وإما أن يكون
معنى الفعل في قوله من الليل. (أُولئِكَ أَصْحابُ
النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) وهذه جملة مستأنفة رابعة تتم فيها المصائر المحتومة لهم
، وأولئك مبتدأ وأصحاب النار خبر وهم فيها خالدون جملة اسمية حالية منهم.
الفوائد :
قول ابن هشام في «والذين كسبوا» :
قال ابن هشام
في هذه الآية : جملة «وترهقهم ذلة» معطوفة على «كسبوا السيئات» فهي من الصلة وما
بينهما اعتراض بيّن به قدر جزائهم وجملة «ما لهم من الله من عاصم» خبر قاله ابن
عصفور وهو بعيد لأن الظاهر أن «ترهقهم» لم يؤت به لتعريف «الذين» فيعطف على صلته
بل جيء به للاعلام بما يصيبهم جزاء على كسبهم السيئات ثم انه ليس بمتعين لجواز أن
يكون الخبر «جزاء سيئة بمثلها» فلا يكون في الآية اعتراض ويجوز أن يكون الخبر جملة
النفي كما ذكر وما قبلها جملتان معترضتان وأن يكون الخبر «كأنما أغشيت» فالاعتراض
بثلاث جمل أو «أولئك أصحاب النار» فالاعتراض بأربع جمل ويحتمل وهو الأظهر ان «الذين»
ليس مبتدأ بل معطوف على «الذين» الأولى أي «للذين أحسنوا الحسنى وزيادة» وللذين
كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها ، فمثلها هنا في مقابلة الزيادة هناك ونظيرها في
المعنى قوله تعالى «من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين
عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون» وفي اللفظ قولهم في الدار زيد والحجرة عمرو
وذلك من العطف على معمولي عاملين مختلفين عند الأخفش وعلى إضمار الجار عند سيبويه
والمحققين ، ومما يرجح هذا الوجه أن الظاهر أن الباء في «بمثلها» متعلقة بالجزاء
فإذا كان «جزاء سيئة» مبتدأ احتيج الى تقدير الخبر أي واقع ، قاله أبو البقاء أو «لهم»
قاله الخوفي وهو أحسن لإغنائه عن تقدير رابط بين هذه الجملة ومبتدئها وهو الذين
وعلى ما اخترناه يكون «جزاء»
عطفا على «الحسنى» فلا يحتاج الى تقدير آخر ، وأما قول أبي الحسن وكيسان أن
«بمثلها» هو الخبر وأن الباء زيدت في الخبر كما زيدت في المبتدأ في «بحسبك درهم»
فمردود عند الجمهور ، وقد يؤنس قولهما بقوله «وجزاء سيئة سيئة».
(وَيَوْمَ
نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ
وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا
تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ
عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ
وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا
يَفْتَرُونَ (٣٠))
اللغة :
(زيلنا) :
فرقنا.
(تَبْلُوا) تختبر.
الاعراب :
(وَيَوْمَ
نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) الظرف متعلق بمحذوف مفهوم من الآية السابقة أي نفعل ذلك
كله يوم نحشرهم ، وجملة نحشرهم مضاف إليها
وجميعا نصب على الحال (ثُمَّ نَقُولُ
لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ) ثم حرف عطف وتراخ ونقول معطوف على متعلق الظرف أي نفعل
ذلك كله ثم نقول أو معطوف على نحشرها وللذين متعلقان بنقول وجملة أشركوا صلة
ومكانكم اسم فعل أمر معناه الزموا وسيأتي بحثها في باب الفوائد ، وأنتم ضمير منفصل
في محل رفع تأكيد للضمير في مكانكم ، وشركاؤكم عطف عليه (فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ
شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) الفاء استئنافية وزيلنا فعل وفاعل وبينهم ظرف متعلق
بزيلنا وقال شركاؤهم فعل وفاعل وما نافية وكنتم كان واسمها وإيانا ضمير منفصل
مفعول مقدم لتعبدون وجملة تعبدون نصب خبر كنتم. (فَكَفى بِاللهِ
شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) الفاء استئنافية وكفى فعل ماض والباء حرف جر زائد والله
فاعل محلا ، وشهيدا : قال الزجاج منصوب على التمييز إن شئت وإن شئت على الحال فإن
كان الاسم جامدا فالنصب على التمييز كقول بشار :
ومن ذا الذي
ترضى سجاياه كلها
|
|
كفى بالمرء
نبلا أن تعدّ معايبه
|
(إِنْ
كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) إن مخففة من الثقيلة وليست نافية كما قال أحد الأئمة
وهي مهملة كما تقدم وكنا كان واسمها وعن عبادتكم متعلقان بغافلين واللام الفارقة
وهي التي أبعدت إن النافية ، وغافلين خبر كنا. (هُنالِكَ تَبْلُوا
كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) هنالك اسم إشارة في محل نصب على الظرفية المكانية وهو
متعلق بتبلو واللام للعبد والكاف للخطاب وتبلو كل نفس فعل مضارع وفاعل وما اسم
موصول مفعول به وجملة أسلفت صلة. (وَرُدُّوا إِلَى
اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ) الواو عاطفة
وردوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل والى الله جار ومجرور متعلقان
بردوا ومولاهم صفة أو بدل من الله والحق صفة لأنهم كانوا يتولون ما ليس لربوبيته
حقيقة. (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما
كانُوا يَفْتَرُونَ) وضل الواو عاطفة وضل معطوف على ردوا وعنهم متعلقان بضل
وما اسم موصول فاعل وكانوا كان واسمها وجملة كانوا يفترون صلة وجملة يفترون خبر
كانوا.
الفوائد :
(مَكانَكُمْ) كلمة جرت مجرى الوعيد والعرب تتوعد فتقول مكانك
وانتظرني والصحيح عند المحققين أن مكانك ودونك من أسماء الأفعال ونقول أن أسماء
الأفعال قسمان مرتجلة ومنقولة فالمرتجلة هي ما وضعت من أول أمرها أسماء أفعال وهي
ثلاثة أقسام : اسم فعل ماض كهيهات ، واسم فعل مضارع كأف ، واسم فعل أمر كآمين ،
وقد تقدمت الاشارة الى ذلك. والمنقولة هي ما استعملت في غير اسم الفعل ثم نقلت
اليه والنقل يكون :
١ ـ إما عن جار
ومجرور مثل : عليك نفسك أي الزمها وإليك عني أي تنح.
٢ ـ وإما عن
ظرف مثل : دونك الكتاب أي خذه ومكانك وقد تقدمت.
٣ ـ وإما عن
مصدر مثل : رويد أخاك أي أمهله وبله الشر أي دعه واتركه.
٤ ـ وإما عن
تنبيه مثل : ها الكتاب أي خذه و «هاؤم اقرءوا كتابيه».
٥ ـ وإما
معدولة كنزال وحذار.
تنبيهات :
١ ـ الكاف التي
تلحق اسم الفعل المنقول تتصرف بحسب المخاطب إفرادا وتثنية وجمعا وتذكيرا وتأنيثا
وهي حرف خطاب لا محل لها من الاعراب لأنها بمثابة جزء من الكلمة لا إعراب له.
٢ ـ اسم الفعل
المنقول والمعدول لا يأتي إلا للأمر ولا يأتي لغيره بعكس المرتجل كما تقدم.
٣ ـ المرتجل
والمنقول سماعيان لا يقاس عليهما.
٤ ـ المعدول
قياسي وهو بني على وزن فعال من كل فعل ثلاثي مجرد تام متصرف.
وسيأتي مزيد
منه في أثناء هذا الكتاب.
(قُلْ مَنْ
يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ
وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ
مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا
تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ
إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ
عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣))
الاعراب :
(قُلْ مَنْ
يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) من اسم استفهام مبتدأ وجملة يرزقكم خبر ومن السماء جار
ومجرور متعلقان بيرزقكم والأرض معطوفة. (أَمَّنْ يَمْلِكُ
السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) أم حرف عطف وهي منقطعة لأنها ليست مسبوقة بهمزة
الاستفهام ولا بالتسوية ومن اسم استفهام مبتدأ وجملة يملك خبر والسمع مفعول به
والابصار عطف على السمع. (وَمَنْ يُخْرِجُ
الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ
الْأَمْرَ) عطف أيضا وما بعده عطف. (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) الفاء استئنافية ويقولون فعل وفاعل والله خبر لمبتدأ
محذوف أي هو الله أو مبتدأ والخبر محذوف والتقدير يفعل هذه الأشياء كلها والجملة
مقول القول. (فَقُلْ أَفَلا
تَتَّقُونَ) الفاء الفصيحة وقل فعل أمر والهمزة للاستفهام والفاء
حرف عطف ولا نافية وتتقون فعل مضارع وفاعل. (فَذلِكُمُ اللهُ
رَبُّكُمُ الْحَقُّ) الفاء عاطفة وذلكم مبتدأ والله خبر وربكم بدل من الله
أو صفة والحق صفة لربكم ويجوز أن يعرب الله مبتدأ ثانيا وربكم خبره والجملة خبر
اسم الاشارة. (فَما ذا بَعْدَ
الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) الفاء عاطفة وماذا تقدم أن فيها وجهين الأول أن تكون
كلها اسما واحدا لتركبهما وغلب الاستفهام على اسم الاشارة وصار معنى الاستفهام هنا
النفي ولذلك أتى بعده بإلا وهو في محل رفع مبتدأ والثاني أن يكون ذا موصولا خبرا
لما الاستفهامية وبعد ظرف متعلق بمحذوف حال وإلا أداة حصر والضلال بدل من ذا
والاستفهام بمعنى النفي أيضا ، والفاء عاطفة وأنى اسم استفهام بمعنى كيف في محل
نصب حال من فاعل تصرفون وتصرفون بالبناء للمجهول فعل مضارع ونائب فاعل (كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى
الَّذِينَ فَسَقُوا
أَنَّهُمْ
لا يُؤْمِنُونَ) الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف والاشارة بذلك الى
المصدر المفهوم أي مثل صرفهم عن الحق بعد الإقرار به في قوله «فسيقولون الله» أو
الاشارة الى الحق ، وحقت كلمة ربك فعل وفاعل وعلى الذين جار ومجرور متعلقان بحقت
وجملة فسقوا صلة وأن وما في حيزها بدل من كلمة ربك أي حقيق عليهم أنهم لا يؤمنون
وجملة لا يؤمنون خبر ان.
(قُلْ هَلْ مِنْ
شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا
الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ
مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى
الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما
لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ
الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ
(٣٦))
الاعراب :
(قُلْ هَلْ مِنْ
شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) هل حرف استفهام ومن شركائهم خبر مقدم ومن موصول مبتدأ
مؤخر وجملة يبدأ الخلق صلة وثم حرف عطف على يبدأ. (قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا
الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) الله مبتدأ وجملة يبدأ الخلق خبره والجملة الاسمية مقول
القول ثم يعيده عطف على يبدأ والفاء عاطفة وأنى اسم
استفهام بمعنى كيف في محل نصب على الحال وتؤفكون فعل مضارع بالبناء للمجهول
والواو نائب فاعل. (قُلْ هَلْ مِنْ
شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) احتجاج آخر على ما ذكر ومن شركائكم خبر مقدم ومن مبتدأ
مؤخر ويهدي فعل مضارع يتعدى الى اثنين ثانيهما إما باللام أو بإلى وقد يحذف حرف
الجر تخفيفا وقد جمع في هذه الآية بين التعديتين بحرف الجر فعدى الأول والثالث
بإلى وعدى الثاني باللام وحذف المفعول به الاول من الأفعال الثلاثة والتقدير هل من
شركائكم من يهدي غيره الى الحق قل الله يهدي من يشاء للحق أفمن يهدي غيره الى الحق؟
وسيأتي السر في مخالفة حروف الجر في باب البلاغة.
(قُلِ اللهُ يَهْدِي
لِلْحَقِّ) تقدم اعراب نظيرها. (أَفَمَنْ يَهْدِي
إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ) الهمزة للاستفهام الانكاري وهو ثامن سؤال لم يذكر جوابه
وهو هنا الله ومن مبتدأ وأحق خبره وأن حرف مصدري ونصب ويتبع بالبناء للمجهول
والمصدر المؤول مضاف لأحق بعد نصبه بنزع الخافض أي أحق بالاتباع. (أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى) أم عاطفة ومن مبتدأ وجملة لا يهدي صلة وإلا أداة حصر
وأن وما في حيزها نصب بنزع الخافض والجار والمجرور في محل نصب حال فالاستثناء
مفرّغ من أعم الأحوال أي لا يهدي أو يهتدي في حال من الأحوال إلا في حال اهدائه أي
إهداء الآخرين إياه والخبر محذوف تقديره أحق ولك أن تنسق من على الاولى فلا تحتاج
الى الخبر. (فَما لَكُمْ كَيْفَ
تَحْكُمُونَ) الفاء استئنافية وما استفهامية مبتدأ ولكم خبره أي فأي
شيء ثبت لكم في اتخاذ هؤلاء العاجزين عن هداية أنفسهم فكيف تحكمون بالباطل وتجعلون
لله أندادا وشركاء؟ (وَما يَتَّبِعُ
أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) كلام مستأنف مسوق لبيان السر في عدم اكتناههم الحق
وفهمهم لمضمون البرهان وما نافية ويتبع أكثرهم فعل وفاعل وإلا أداة حصر
وظنا مفعول به. (إِنَّ الظَّنَّ لا
يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) كلام مستأنف مسوق لبيان العلة في إخفاقهم في الفهم وعدم
الاكتناه ، وإن واسمها وجملة لا يغني خبرها ومن الحق حال مقدمة وشيئا مفعول مطلق
أي شيئا من الإغناء أو مفعول به بتضمين يغني معنى يدفع. (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) ان واسمها وخبرها وبما متعلقان بعليم وجملة يفعلون لا
محل لها لأنها صلة ما سواء كانت موصولة أو مصدرية.
البلاغة :
مخالفة حروف الجر :
وهذا باب تقدمت
الاشارة اليه في الأنفال وهو ينطوي على السر في مخالفة حروف الجر وأكثر الناس
يضعون هذه الحروف في غير مواضعها ويجهلون الدقائق الكامنة في وضعها حيث وضعت وهنا
عدى فعل هدى الى الحق بإلى مرتين وفي الثلاثة عداه باللام ، والنحاة يغفلون عن هذا
السر ويقولون إن ما يصح جره بإلى يجوز جره باللام التي تفيد الغاية مثلها ولا عكس
فلا يقال في قلت له : قلت اليه ، ويقولون الماء في الكأس لأن في للظرفية ويجيزون
التعدي بالباء لأنها تخلفها في الظرفية ولا يجوز أن يقال في مررت به : مررت فيه ،
إذا تقرر هذا نقول ، والله أعلم ، ان هناك سرا وراء الصورة فالهداية لمّا أسندت
إليهم وجبت تعديتها بإلى التي تفيد البعد كأنها ضمنا بعيدة عنهم ولكنها لما أسندت
الى الله تعالى وجب تعديتها باللام التي تفيد القرب كأنها من خصائصه وحده وملك
يمينه وهو المنفرد بها على وجه الديمومة والكمال وستأتي نماذج من هذه المخالفة
السامية.
(وَما كانَ هذَا
الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ
يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِما
لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩)
وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ
أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠))
الاعراب :
(وَما كانَ هذَا
الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ) الواو استئنافية وما نافية وكان واسمها والقرآن بدل من
هذا وان وما في حيزها خبر كان أي افتراء. (وَلكِنْ تَصْدِيقَ
الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) الواو عاطفة ولكن مخففة مهملة وتصديق معطوف على افتراء
المؤولة ووقعت لكن أحسن موقع لأنها بين نقيضين وهما الكذب والصدق ولهذا لا حاجة
الى الاوجه التي تكلفها بعض الأئمة وهي سائغة ومقبولة ولكن ما أوردناه أولى
بالتقديم والذي مضاف لتصديق وبين ظرف متعلق بمحذوف صلة
الموصول ويديه مضاف لبين بمعنى أمامه. (وَتَفْصِيلَ
الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) وتفصيل عطف على تصديق ولا نافية للجنس وريب اسمها مبني
على الفتح وفيه خبر لا ومن رب العالمين حال وجملة لا ريب فيه معترضة وهو الظاهر
بين تفصيل ومن رب العالمين والتقدير ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب كائنا
من رب العالمين وجنح الزمخشري الى جعل لا ريب فيه حالا داخلا في حيز الاستدراك
كأنه قيل ولكن كان تصديقا وتفصيلا منتفيا عنه الريب كائنا من رب العالمين ولك أن
تعلق من رب العالمين بتفصيلا ويكون لا ريب فيه اعتراضا.
(أَمْ يَقُولُونَ
افْتَراهُ) أم عاطفة منقطعة فهي بمعنى بل حتى لقد وردت قراءة شاذة
بها فهي للاضراب الانتقالي ، والهمزة للاستفهام الانكاري للواقع واستبعاده ويجوز
أن تكون متصلة وحينئذ فلا بد من حذف جملة ليصح التعادل والتقدير أيقرون به أم
يقولون افتراه وجملة افتراه مقول القول. (قُلْ فَأْتُوا
بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) الفاء الفصيحة أي قل تبكيتا لهم إن كان الأمر كما
تقولون فأتوا وأتوا فعل أمر وفاعل وبسورة جار ومجرور متعلقان بأئتوا ومثله صفة. (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ
دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) وادعوا عطف على فأتوا والواو فاعل ومن اسم موصول مفعول
به وجملة استطعتم صلة ومن دون الله حال وإن شرطية وكنتم فعل الشرط والتاء اسم كان
وصادقين خبر كان وجواب الشرط محذوف أي فأتوا وادعوا. (بَلْ كَذَّبُوا بِما
لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) بل حرف إضراب وعطف وكذبوا فعل وفاعل وبما متعلقان
بكذبوا وجملة لم يحيطوا صلة ما والواو للحال ويجوز أن تكون عاطفة أي بل كذبوا بما
لم يحيطوا بعلمه وبما لم يأتهم تأويله ، أو هذه الجملة في محل نصب على الحال أي
كذبوا به حال كونهم لم يفهموا ما كذبوا به ولا بلغة عقولهم ، ولما حرف جازم ويأتهم
مضارع مجزوم بلما والهاء
مفعول به وتأويله فاعل يأتهم ويجوز أن تكون الواو للعطف والجملة معطوفة على
لم يحيطوا فتكون داخلة في حكم الصلة ولمجيء «ما» سر ستقف عليه في باب البلاغة. (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) الكاف نعت لمصدر محذوف أي كذلك التكذيب كذبوا رسلهم ،
وكذب الذين فعل وفاعل ومن قبلهم صلة الذين ، فانظر : الفاء عاطفة على محذوف أي
فأهلكنا فانظر وكيف اسم استفهام في موضع نصب على أنه خبر كان ولا يصح أن يعمل فيه
الفعل فانظر لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل فيه وعاقبة اسمها والظالمين مضاف اليه. (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ
وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) ومنهم خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وجملة يؤمن به صلة وجملة
ومنهم من لا يؤمن عطف على الجملة السابقة وربك مبتدأ وأعلم خبر وبالمفسدين جار
ومجرور متعلقان بأعلم.
البلاغة :
ل «لما» في قوله
تعالى «بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله» سر عجيب أفاد الكلام معنى
لم يكن ليتأتى لو لا دخولها لأنها تفيد التوقع بعد نفي الإحاطة بعلمه فقد أفادت
الأمور التالية :
١ ـ انهم كذبوا
على البديهة قبل أن يتدبروه ويكتنهوا مطاويه.
٢ ـ الإصرار
على التقليد الأعمى ومساوقة آبائهم الذين طبعوا على اللجاج والسفسطة وإنكار الحق
رغم ظهوره ونصاعته.
٣ ـ ان التكذيب
قبل الإحاطة بالعلم ربما يوهم لهم عذرا فجاءت كلمة «لما» حاسمة مشعرة بأنهم قد
أحاطوا بعلمه قطعا لحججهم وتحقيقا لشقائهم.
(وَإِنْ كَذَّبُوكَ
فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ
وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ
تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ
إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣) إِنَّ
اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
(٤٤))
الاعراب :
(وَإِنْ كَذَّبُوكَ
فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) الواو عاطفة وإن شرطية وكذبوك فعل وفاعل ومفعول به وهو
في محل جزم فعل الشرط ، فقل الفاء رابطة لأن ما بعدها جملة طلبية وقل فعل أمر ولي
خبر مقدم وعملي مبتدأ مؤخر ولكم عملكم عطف وجملة لي عملي في محل نصب مقول القول. (أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ) أنتم مبتدأ وبريئون خبر ومما متعلقان ببريئون وجملة
أعمل صلة الموصول. (وَأَنَا بَرِيءٌ
مِمَّا تَعْمَلُونَ) عطف على ما تقدم والاعراب ظاهر. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) الواو عاطفة ومنهم خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر ويستمعون
صفة لمن إذا كانت نكرة موصوفة أي ناس يستمعون وصلة إذا كانت موصولة وأعاد الضمير
جمعا مراعاة لمعنى من والأكثر مراعاة لفظه كقوله «ومنهم من ينظر إليك» وقد تقدمت
الاشارة الى ذلك مرارا وإليك
متعلقان بيسمعون. (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ
الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ) الهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة للتعقيب وفيه
الوجهان المشهوران من اعتبار الحذف للمعطوف عليه أو اعتبار التقديم والتأخير وقد
تقدمت الاشارة إليهما والواو عاطفة ولو وصلته وكانوا كان واسمها وجملة لا يعقلون
خبرها. قال الزجاج : معنا ولو كانوا جهالا بالاضافة الى الصمم وإذا اجتمع سلب
السمع والعقل فقد تم الأمر وفقد الإنسان كل خصائص انسانية. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) عطف على سابقتها ومثيلتها ولكنه حمل الضمير هنا على لفظ
من والفرق بين الموضعين أن الغالب على المستمعين أن يكونوا جماعة والغالب على
الناظر أن يكون مفردا. (أَفَأَنْتَ تَهْدِي
الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) عطف على ما تقدم والمعنى ولو انضم الى عدم البصر عدم
البصيرة وجواب لو في الجملتين محذوف لدلالة قوله أفأنت تسمع الصم وقوله أفأنت تهدي
العمي وكل منهما معطوف على جملة مقدرة مقابلة لها وكلتاهما في موضع الحال من مفعول
الفعل السابق أي أفأنت تسمع الصم لو كانوا يعقلون ولو كانوا لا يعقلون ، أفأنت
تهدي العمي لو كانوا يبصرون ولو كانوا لا يبصرون أي لا تسمعهم ولا تهديهم على كل
حال وسيأتي المزيد من هذا التشبيه في باب البلاغة. (إِنَّ اللهَ لا
يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) إن حرف مشبه بالفعل والله اسمها وجملة لا يظلم خبرها
والناس مفعول به وشيئا مفعول مطلق أي شيئا من الظلم ويجوز أن يكون مفعولا ثانيا
ليظلم بمعنى لا ينقص الناس شيئا من أعمالهم.
(وَلكِنَّ النَّاسَ
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) الواو حالية ولكن حرف استدراك ونصب والناس اسمها
وأنفسهم مفعول مقدم ليظلمون وجملة يظلمون خبر لكن.
البلاغة :
١ ـ الاستعارة التمثيلية :
في قوله تعالى «ومنهم
من يستمعون إليك» الى آخر الآية استعارة تمثيلية وقدم تقدم القول ان الاستعارة
التمثيلية هي تركيب استعمل في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة فقد شبههم في عدم
الاهتداء بالصم والعمي بل هم أعظم فانها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في
الصدور ولأن الأصم العاقل ربما استعان بالفراسة على الاستدلال والأعمى الذي له في
قلبه بصيرة وقد يحدس ويتظنّن وقد جاء المشبه به مركبا لأن المشبه مركب أيضا ولو
أنه لجأ الى التشبيه لضؤل الأثر الفني ولم تكن له تلك القيمة التي نلاحظها في
الاستعارة لان الاستعارة وان تكن مبنية على المشاهدة إلا أن تركيبها يحملنا على
تناسي التشبيه ويدعونا لتخيل صورة جديدة وهي من ناحية اللفظ ـ كما ترى في الآية ـ تترك
التعبير الثنائي أي المشبه والمشبه به وتستعمل التعبير الآحادي الذي يدعي أن ليس
هناك إلا شيء واحد نتحدث عنه ويبقى للابتكار أثره في عقد الاستعارة الموفقة وفي
هذا المضمار تتجلى عبقرية الفنانين والمبدعين.
هذا وقد رمق
أبو الطيب سماء هذه البلاغة بقوله :
وإذا خفيت
على الغبي فعاذر
|
|
أن لا تراني
مقلة عمياء
|
يريد أنه إذا
خفي مكانه على الغبي وهو الجاهل الذي لا يعرف شيئا ولم يعرف قدري ولم يقر بفضلي
فأنا أعذره لأن الجاهل كالأعمى ،
والمقلة العمياء إن لم تر فهي في عذر لعماها وكذلك الجاهل الذي يجهلني
ويجهل قدري ومن قبل المتنبي قيل :
وقد بهرت فما
أخفى على أحد
|
|
إلا على أكمه
لا يعرف القمرا
|
٢ ـ التهذيب :
وفي هذه الآيات
المتقدمة فن بديعي يقال له فن التهذيب وقد أطال فيه علماء هذا الفن ويمكن تلخيصه
بأنه وصف يعم كل كلام منتخل وهو ترداد النظر في الكلام بعد عمله ، وإمعان الفكر في
تهذيبه وتنقيحه نظما كان أو نثرا ، وكشف ما يشكل من عويص معانيه وغريب إعرابه وطرح
ما يتجافى عن مواطن الرقة من لفظ قاس وكلمة نابية جافية وقد عبر عنه أبو تمام في
وصيته للبحتري ، نقل عن أبي عبادة قال : «كنت في حداثتي أروم الشعر وأرجع فيه الى
طبع سليم ولم أكن وقفت له على تسهيل مأخذ ووجوه اقتضاب حتى قصدت أبا تمام وانقطعت
اليه فكان أول ما قال لي : يا أبا عبيدة تخير الأوقات وأنت قليل الهموم ، صفر من
الغموم ، واعلم أن العادة في الأوقات إذا قصد الإنسان تأليف شيء أو حفظه أن يختار
وقت السحر ولا تعمل نظما ولا نثرا عند الملل فإن الكثير منه قليل والخواطر ينابيع
إذا رفقت بها جمت ، وإذا عنفت عليها نزحت ، وترنم بالشعر وقت عمله فإنه يعين عليه
وقد يتخيل الشاعر الشعر الجيد فيمكنه مرة ولا يمكنه أخرى وإياك وتعقيد المعاني
واجعل المعنى الشريف في اللفظ اللطيف لئلا يتلف أحدهما الآخر ومتى عصى الشعر اتركه
ومتى طاوعك عاوده وروّح الخاطر إذا كلّ واعمل في أحب المعاني إليك وفي كل ما
يوافقه طبعك فالنفوس تعطي على الرغبة ولا تعطي على الإكراه واعمل الأبيات
متفرقة على ما يجود به الخاطر ثم انظمها في الآخر وحصل المبدأ والمقطع
والمخرج فهو أصعب ما في القصيدة وميّز بفكرك محطّ الرسالة ومصبّ القصيدة فإنه أسهل
عليك وانظمها أولا وهذبها آخرا».
التهذيب في الآية :
أما الآية التي
نحن بصدد البحث فيها ، فهي قوله تعالى «ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو
كانوا لا يعقلون ، ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون» فإن
لقائل أن يقول : ما فائدة الفاصلتين وقد أغنى عنهما ما قبلهما؟ فيقال في الكلام
تقديم وتأخير إذا علم سقط معه السؤال وهو أن يقال : «ومنهم من ينظر إليك ولو كانوا
لا يبصرون أفأنت تهدي العمي» والاخرى كذلك ، ويرد على ذلك قول من يقول : فما
الداعي الى وضع الكلام على التقديم والتأخير الذي هو أحد أسباب التعقيد؟ قلت :
الداعي اليه توخي الإتيان بمقاطع الكلام متماثلة مع ما قبلها ومع ما بعدها من
الفواصل فإن قبلها : «وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا
بريء مما تعملون». وبعدها «إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم كانوا
يظلمون» ومعظم فواصل السورة على هذه الزنة والتقفية.
(وَيَوْمَ
يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ
بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا
مُهْتَدِينَ (٤٥) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ
فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ
شَهِيدٌ
عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ
قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٤٧))
الاعراب :
(وَيَوْمَ
يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ) الظرف متعلق بيتعارفون على أصح الأقوال وجملة يحشرهم
مضاف إليها وكأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وجملة لم يلبثوا خبر كأن
وجملة كأن لم يلبثوا جملة حالية من الهاء في يحشرهم وإلا أداة حصر وساعة ظرف متعلق
بيلبثوا ومن النهار صفة لساعة. (يَتَعارَفُونَ
بَيْنَهُمْ) الجملة حالية من الواو في يلبثوا فتكون حالا متداخلة أو
من الضمير في يحشرهم فتكون حالا مترادفة ، وبينهم ظرف متعلق بيتعارفون والمعنى بعد
هذا الاعراب إن الخلق يعرف بعضهم بعضا في ذلك الوقت كما كانوا في الدنيا وكأنهم لم
يمكثوا في الدنيا إلا ساعة من النهار ثم تنقطع المعرفة إذا عاينوا العذاب ويتبرأ
بعضهم من بعض ، وهناك أعاريب أخرى يضيق عن استيعابها المجال وما أوردناه أقربها. (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) قد حرف تحقيق وخسر الذين فعل وفاعل وجملة كذبوا صلة
وبلقاء الله جار ومجرور متعلقان بكذبوا وجملة قد خسر مستأنفة والواو عاطفة وما
نافية وكان واسمها ومهتدين خبرها وهي معطوفة على قد خسر أو على صلة الذين لأن من
كذب بالله غير مهتد. (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ
بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) إن شرطية وما زائدة ونرينك فعل مضارع مبني على الفتح في
محل جزم فعل
الشرط والفاعل ضمير مستتر تقديره نحن والكاف مفعول به وبعض مفعول ثان والذي
مضاف اليه وجملة نعدهم صلة وأو حرف عطف ونتوفينك عطف على نرينك. (فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ
شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) الفاء رابطة وإلينا خبر مقدم ومرجعهم مبتدأ مؤخر
والجملة جواب الشرط ثم حرف عطف لا للترتيب الزماني بل لترتيب الأخبار والله مبتدأ
وشهيد خبر وعلى ما يفعلون متعلقان بشهيد وجملة يفعلون صلة. (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ) لكل خبر مقدم وأمة مضاف لكل ورسول مبتدأ مؤخر (فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ
بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) الفاء عاطفة على صفة رسول أي يبعث إليهم فإذا ، وإذا
ظرف مستقبل وجملة جاء رسولهم مضاف إليها وجملة قضي لا محل لها وبينهم ظرف متعلق
بقضي وبالقسط حال من فاعل قضى وهم الواو حرف عطف أو حالية وهم مبتدأ وجملة لا
يظلمون خبر.
(وَيَقُولُونَ مَتى
هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا
وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ
فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ
أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ
(٥٠) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ
تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ
ظَلَمُوا
ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢))
الاعراب :
(وَيَقُولُونَ مَتى
هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الواو استئنافية ويقولون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون
والواو فاعل ومتى استفهام عن الزمان متعلق بمحذوف خبر مقدم وهذا مبتدأ مؤخر والوعد
بدل وهذا التعبير بمثابة استبعاد لما وعدوه من عذاب وان شرطية وكنتم فعل الشرط
والتاء اسم كان وصادقين خبرها والجواب محذوف أي فمتى هذا الوعد؟ (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا
نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللهُ) جملة لا أملك مقول القول ولنفسي متعلقان بأملك وضرا
مفعول به ولا نفعا عطف على ضرا وإلا أداة استثناء أو حصر لوجود النفي وما اسم
موصول مستثنى قيل الاستثناء متصل وقيل منقطع وإذا كانت «إلا» حصرا فما بدل من ضرا
ونفعا وجملة شاء الله صلة. (لِكُلِّ أُمَّةٍ
أَجَلٌ) تتمة مقول القول ولكل خبر مقدم وأمة مضاف اليه وأجل
مبتدأ مؤخر. (إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ
فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) إذا ظرف مستقبل وجملة جاء مضاف إليها وأجلهم فاعل جاء
والفاء رابطة ولا نافية وجملة يستأخرون لا محل لها لأنها جواب إذا وساعة ظرف متعلق
بيستأخرون ولا يستقدمون عطف على فلا يستأخرون. (قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً) قل فعل أمر وفاعله أنت أي محمد وجملة أرأيتم مقول القول
وقد تقدم الكلام في سورة الأنعام على أرأيتم وقلنا هناك أن العرب تضمن أرأيت معنى
أخبرني وانها تتعدى إذ ذاك الى مفعولين وان المفعول الثاني يكون غالبا جملة
استفهام ينعقد منها
مع ما قبلها مبتدأ وخبر تقول العرب أرأيت زيد ما صنع والمعنى أخبرني عن زيد
ما صنع ، إذا ذكرت هذا فأرأيتم هنا المفعول الاول لها محذوف ولا يصح أن تقع جملة
الشرط موقعه والمسألة من باب التنازع تنازع أرأيتم وإن أتاكم في قوله عذابه وإعمال
الثاني هو المختار فلما أعمل حذف من الاول والمعنى قل لهم يا محمد أخبروني عن عذاب
الله إن أتاكم أي شيء تستعجلون منه وليس شيء من العذاب يستعجله عاقل لأن العذاب
كله مرّ المذاق سيء المغبة موجب للنفور منه ، وإن شرطية وأتاكم فعل ماض في محل جزم
فعل الشرط والجواب جملة الاستفهام على تقدير الفاء في الجملة الاسمية وبياتا منصوب
على الظرف متعلق بأتاكم ، أو نهارا عطف عليه. (ما ذا يَسْتَعْجِلُ
مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) ما يجوز أن يكون في موضع رفع وذلك إذا كان ذا بمعنى
الذي والمعنى ما الذي يستعجل منه
المجرمون فيكون
ما مبتدأ والذي خبره ويجوز أن يكون في موضع نصب وذلك إذا جعلت ما وذا اسما واحدا
والمعنى أي شيء يستعجل منه المجرمون فيكون مفعول يستعجل والمجرمون فاعل يستعجل. (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ
وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) أتم الهمزة للاستفهام الانكاري وثم حرف عطف وإذا ظرف
مستقبل وما زائدة وجملة وقع في محل جر بالاضافة إليها وجملة آمنتم به صلة والظرف
متعلق بآمنتم وآلآن الهمزة للاستفهام الانكاري والآن ظرف متعلق بمحذوف يفهم من
سياق الكلام تقديره آلآن به تؤمنون والواو حالية وقد حرف تحقيق وكنتم كان واسمها
وبه جار ومجرور متعلقان بتستعجلون وجملة تستعجلون خبر كنتم. (ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا
ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) ثم حرف عطف وقيل فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل
مستتر وللذين متعلقان بقيل وجملة ظلموا صلة وجملة ذوقوا مقول القول وعذاب
مفعول به والخلد مضاف اليه وهل حرف استفهام وتجزون فعل مضارع ونائب فاعل
وإلا أداة حصر وبما متعلقان بتجزون وجملة كنتم صلة وجملة تكسبون خبر كنتم.
البلاغة :
في قوله :
بياتا ونهارا ، وضرا ونفعا طباق تكرر فسمي مقابلة ، واستعارة مكنية في قوله ذوقوا
عذاب الخلد وقد تقدمت الاشارة الى ذلك كله.
(وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ
هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣) وَلَوْ
أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا
النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ (٥٤) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ
وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحيِي
وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦))
اللغة :
(الاستنباء) :
طلب النبأ الذي هو الخبر.
(الافتداء)
إيقاع الشيء بدل غيره لدفع المكروه به يقال فداه يفديه فدية وفداء وافتداه وفاداه
مفاداة ، وافتدي يجوز أن يكون متعريا وأن يكون لازما فإذا كان مطاوعا لمتعدّ كان
لازما تقول فديته فافتدى وإن لم يكن مطاوعا يكون بمعنى فدى فيتعدى لواحد والفعل
هنا يحتمل الوجهين فإن جعلناه متعديا فمفعوله محذوف تقديره لافتدت به نفسها.
(أَسَرُّوا
النَّدامَةَ) : قيل أسر من الأضداد يستعمل بمعنى أظهر ويستعمل بمعنى
أخفى وهو المشهور في اللغة وهو في الآية يحتمل الوجهين.
الاعراب :
(وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ
هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي) ويستنبئونك فعل مضارع وفاعل ومفعول به وأحق : الهمزة
للاستفهام الانكاري المشوب بالاستهزاء وحق خبر مقدم وهو مبتدأ مؤخر والجملة في محل
نصب مفعول به لستنبئونك وقيل الجملة في محل نصب بيقولون وتكون يستنبئونك متعدية
لواحد وأصل استنبأ أن يتعدى الى مفعولين أحدهما ب «عن» تقول استنبأت زيدا عن عمرو
أي طلبت منه أن ينبئني عن عمرو. وقل فعل أمر وإي حرف جواب وسترد أحرف الجواب في
باب الفوائد وربي الواو للقسم وربي مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل
القسم المحذوف. (إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما
أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) إن واسمها واللام المزحلقة والواو حرف عطف على جواب
القسم أو استئنافية مسوقة لبيان عدم خلوصهم من عذاب الله بوجه من الوجوه وما
حجازية وأنتم اسمها والباء حرف جر زائد ومعجزين خبرها في
محل نصب محلا ومجرور بالياء الزائدة لفظا. (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ
نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ) الواو استئنافية ولو شرطية امتناعية على ما هو الكثير
فيها وأن حرف مشبه بالفعل ولكل خبر أن المقدم ونفس مضاف اليه وجملة ظلمت صفة لنفس
وما اسم موصول في محل نصب اسم أن وأن وما في حيزها فاعل لفعل محذوف أي لو ثبت ذلك
، وفي الأرض صلة ما واللام واقعة في جواب لو وافتدت به جملة فعلية لا محل لها
لأنها جواب شرط غير جازم. (وَأَسَرُّوا
النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) الواو عاطفة وأسروا الندامة فعل وفاعل ومفعول به ولما رابطة أو حينية وجملة
رأوا مضاف إليها أو صلة والواو فاعل والعذاب مفعول به والمعنى أنهم بهتوا وشدهوا
لرؤيتهم ما لم يكن يدور لهم بخلد أو يخطر لهم على بال فانطووا على مضض وحاذروا
بوحة المتجلد ولم يملكوا سوى إسرار الندم والحسرة في القلوب وقيل أسروا الندامة
أظهروها من قولهم أسر الشيء وأشره إذا أظهره قال هذا أبو عبيدة والجبائي وأنكر
الأزهري أن يكون بمعنى الإظهار وقال إنه غلط محض لأن ما يكون بمعنى الإظهار يكون
بالشين المثلثة. (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ
بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) يجوز أن يكون الكلام مستأنفا وأن يكون معطوفا ، وقضي
فعل ماض بالبناء للمجهول ونائب الفاعل مستتر وبينهم ظرف متعلق بقضي وبالقسط حال
وهم الواو عاطفة وجملة لا يظلمون خبر. (أَلا إِنَّ لِلَّهِ
ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ألا كلمة تستعمل في التنبيه ويفتتح بها الكلام فتسمى
استفتاحية وأصلها لا ، دخل عليها حرف الاستفهام تقريرا وتذكيرا فصارت تنبيها وكسرت
إن بعد ألا لأن ألا يستأنف ما بعدها لينبه بها على معنى الابتداء ولذلك يقع بعدها
الأمر والدعاء كقول امرئ القيس :
ألا عم صباحا
أيّها الطّلل البالي
|
|
وهل يعمن من
كان في العصر الخالي
|
ولله خبر إن
المقدم وما اسمها المؤخر وفي السموات والأرض صلة (أَلا إِنَّ وَعْدَ
اللهِ حَقٌّ) ألا تأكيد لألا الأولى وقد صدرت الجملتان بحرفي التنبيه
للدلالة على التحقيق والتسجيل لمضمونهما وإن واسمها وحق خبرها. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الواو حالية أو استئنافية ولكن واسمها وجملة لا يعلمون
خبرها. (هُوَ يُحيِي
وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) هو مبتدأ وجملة يحيي خبر وجملة يميت عطف واليه جار
ومجرور متعلقان بترجعون.
الفوائد :
حروف الجواب :
حروف الإيجاب
أو الجواب أو التصديق هي : نعم وبلى وأجل وجير وإي وإن ، وقد تقدم القول في بعضها
ونتكلم هنا عن إي وإن ؛ فأما إي فحرف إيجاب لا يستعمل إلا في القسم قال الله تعالى
«قل إي وربي لتبعثن» وهمزتها مكسورة والياء فيها ساكنة قال الزمخشري : «وسمعتهم
يقولون إيو فيصلونه بواو القسم ولا ينطقون به وحده» وقال غيره : «ومنه قول الناس
في الجواب إي والله وقولهم «إيوه» فالواو للقسم والهاء مأخوذة من الله» فقول
العامة «إيوه» صحيح لا غبار عليه.
حروف التنبيه :
هي : ها وألا
وأما ، ومعنى هذه الحروف تنبيه المخاطب الى
ما تحدثه به فإذا قلت هذا عبد الله منطلقا فالتقدير انظر اليه منطلقا أو
انتبه عليه منطلقا فأنت تنبه المخاطب لعبد الله حال انطلاقه وقال النابغة :
ها إنّ تا
عذره إن لم تكن نفعت
|
|
فإن صاحبها
قد تاه في البلد
|
فأدخل ها التي
للتنبيه على إن والعذر والمعذرة والعذرى واحد والعذرة بالكسر كالركبة والجلسة
بمعنى الحالة قال آخر :
تقبّل عذرتي
وحبا بدهم
|
|
يصمّ حنينها
سمع المنادي
|
وأكثر ما تدخل
ها على أسماء الاشارة والضمائر كقولك هذا وهذه وهأنذا وها أنت ذا وها هي ذه وما
أشبه ذلك وإنما كثر التنبيه في هذه الأسماء المبهمة لتحريك النفس على طلب بعينه إذ
لم تكن علامة تعريف في لفظه والفرق بين ألا وأما أن أما للحال وألا للاستقبال
فتقول أما ان زيدا عاقل تريد أنه عاقل على الحقيقة لا على المجاز فأما قول الهذلي
:
أما والذي
أبكى وأضحك والذي
|
|
أمات وأحيا
والذي أمره الأمر
|
فأدخل أما على
حرف القسم كأنه ينبه المخاطب على استماع قسمه وتحقيق المقسم عليه وقد يحذفون الألف
عن أما فيقولون أم والله وفي كلام هجرس بن كليب «أم وسيفي وزريه ، ورمحي ونصليه ،
وفرسي وأذنيه ، لا يدع الرجل قاتل أبيه وهو ينظر اليه».
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً
وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ
فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما
أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ
آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ (٥٩) وَما ظَنُّ الَّذِينَ
يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ
عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٦٠) وَما تَكُونُ فِي
شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ
كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ
مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ
وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦١))
الاعراب :
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) قد حرف تحقيق وجاءتكم موعظة فعل ومفعول به وفاعل ومن
ربكم صفة لموعظة وتكون من للتبعيض ، أو متعلقة بجاءتكم فتكون للابتداء. (وَشِفاءٌ لِما فِي
الصُّدُورِ
وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) وشفاء عطف على موعظة وشفاء هو في الأصل مصدر جعل وصفا
للمبالغة أو هو اسم لما يشفى به ويتداوى ، ولما في الصدور يجوز أن يكون صفة لشفاء
فيتعلق بمحذوف وان تكون اللام زائدة في المفعول به وفي الصدور صلة ما ، وهدى ورحمة
معطوفان أيضا وللمؤمنين صفة. (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ
وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) الباء متعلقة بمحذوف وأصل الكلام ليفرحوا بفضل الله
وبرحمته فبذلك ثم قدم الجار والمجرور على الفعل لإفادة الحصر ثم أدخلت الفاء
لإفادة معنى السببية فصار بفضل الله وبرحمته فليفرحوا ثم قال فبذلك فليفرحوا
للتأكيد والتقرير ثم حذف الفعل الأول لدلالة الثاني عليه والفاء الأولى جزائية
والثانية للسببية ثم قالوا الفاء الداخلة على بذلك زائدة وبذلك بدل من بفضل
والأولى أن تكون عاطفة وبذلك عطف على بفضل الله وذلك أصح من جعلها زائدة أما الفاء
الداخلة على فليفرحوا فهي الفصيحة لأنها داخلة لمعنى الشرط كأنه قيل إن فرحوا بشيء
فليخصوها بالفرح فانه ليس ثمة ما هو أدعى الى الفرح وأثلج للصدور منهما وهو مبتدأ
وخير خبر ومما متعلقان بخير ويجمعون صلة ما. (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما
أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ) أرأيتم تقدم القول انها بمعنى أخبروني وما أنزل الله :
ما اسم موصول مفعول لأرأيتم أو لأنزل وجملة أنزل صلة والعائد محذوف أي أنزله الله
ويجوز أن تكون ما استفهامية في محل نصب بأنزل وهي حينئذ معلقة لأرأيتم عن العمل
ويجوز أن تكون استفهامية في محل رفع بالابتداء وجملة آلله أذن لكم خبر ولكم
متعلقان بأنزل ومن رزق حال.
(فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ
حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) فجعلتم عطف على أنزل وجعلتم فعل وفاعل ومنه متعلقان
بجعلتم وحراما مفعول جعلتم وحلالا عطف ، آلله الهمزة للاستفهام الانكاري والله
مبتدأ وجملة أذن خبره ولكم متعلقان بأذن ، أم منقطعة بمعنى بل أو متصلة أي
آلله أذن لكم أم تكذبون عليه ولعل اتصالها أظهر وعلى الله جار ومجرور متعلقان
بيفترون. (وَما ظَنُّ الَّذِينَ
يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ) الواو عاطفة وما استفهامية مبتدأ وظن خبرها والذين مضاف
اليه وجملة يفترون صلة وعلى الله متعلقان بيفترون والكذب مفعول به ويوم القيامة
ظرف متعلق بالظن والمعنى أي شيء ظن المفترين في ذلك اليوم أنه صانع بهم فمفعولا
الظن سدت مسدهما أن المقدرة وما بعدها. (إِنَّ اللهَ لَذُو
فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) إن واسمها واللام المزحلقة وذو فضل خبرها وعلى الناس
متعلقان بفضل ولكن الواو حالية أو استئنافية ولكن واسمها وجملة لا يشكرون خبرها. (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا
مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ) الواو عاطفة وما نافية وتكون فعل مضارع ناقص واسمها
مستتر أي أنت ، وفي شأن خبر تكون ، وما : الواو عاطفة وما نافية تتلو فعل مضارع
وفاعله مستتر تقديره أنت ومنه متعلقان بتتلو والضمير يعود الى القرآن أو الى الشأن
فتكون من تعليلية أي من أجل الشأن الذي كنت مسترسلا فيه ومن زائدة وقرآن مفعول به
محلا أي وما تتلون من التنزيل من قرآن لأن كل جزء منه قرآن والإضمار قبل الذكر
تفخيم.
(وَلا تَعْمَلُونَ
مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) ولا تعملون عطف على ما تقدم ومن حرف جر زائد وعمل مفعول
به محلا أو مفعول مطلق وإلا أداة حصر وكنا كان واسمها وعليكم متعلقان بقوله شهودا
أي شاهدين وشهودا خبر كنا ، وشهود جمع شاهد وكذلك إشهاد ، وإذ ظرف لما مضى متعلق
بشهودا وجملة تفيضون مضافة للظرف وفيه متعلقان بتفيضون. (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ
مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) الواو حرف عطف وما نافية وعن ربك
جار ومجرور متعلقان بيعزب ومن حرف جر زائد ومثقال ذرة فاعل يعزب محلا وفي
الأرض حال من مثقال ذرة أو صفة ولا في السماء عطف. (وَلا أَصْغَرَ مِنْ
ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير ما تقدم
ولا نافية للجنس وأصغر اسمها ومن ذلك متعلقان بأصغر ولا أكبر عطف على ولا أصغر
وإلا أداة حصر وفي كتاب مبين خبر لا ومبين صفة لكتاب.
وعبارة ابن
هشام في المغني : «وأما قوله تعالى : وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا
في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر» فظاهر الأمر جواز كون أصغر وأكبر معطوفين على
لفظ مثقال أو على محله وجوز كون لا مع الفتح تبرئة ومع الرفع مهملة أو عاملة عمل
ليس ويقوي العطف انه لم يقرأ في سورة سبأ في قوله سبحانه وتعالى : «عالم الغيب لا
يعزب عنه مثقال ذرة» الآية إلا بالرفع لما لم يوجد الخفض في لفظ مثقال ولكن يشكل
عليه ثبوت العزوب عند ثبوت الكتاب كما انك إذا قلت ما مررت برجل إلا في الدار كان
إخبارا بثبوت مرورك برجل في الدار وإذا امتنع هذا تعين ان الوقف على السماء وان
وما بعدها مستأنف وإذا ثبت ذلك في سورة يونس قلنا به في سورة سبأ وان الوقف على
الأرض وانه انما لم يجيء فيه الفتح اتباعا للنقل وجوز بعضهم العطف فيهما على أن لا
يكون معنى يعزب يخفى بل يخرج الى الوجود.
البلاغة :
في قوله تعالى
: «وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء» تقديم الأرض في الذكر
على السماء ومن حقها التأخير
لأن الأرض جزء من السماء وما فيها من أفلاك ونجوم سوابح وهو جزء ضئيل جدا
من حقه التأخير ولكنه جنح الى تقديمه لأنه في معرض حديثه عن الأرض وذكر شهادته على
شئون أهل الأرض وأحوالهم وأعمالهم ومعايشهم ووصل ذلك بقوله وما يعزب ، لاءم بينهما
ليلي المعنى المعنى فإن قيل قد جاء تقديم الأرض على السماء في الذكر في مواضع
كثيرة من القرآن قلنا : إذا جاءت مقدمة في الذكر فلا بد لذلك من سبب اقتضاه وإن
خفي ذلك السبب وقد يستنبطه بعض الباحثين دون بعض وسيأتي من غرائب التقديم والتأخير
ما يدهش العقول في مواضعه من هذا الكتاب.
الفوائد :
في قوله تعالى «إلا
في كتاب مبين» إشكال واضح ، إذ ما حقيقة هذا الاستثناء؟ وهل هو متصل أو منقطع؟ إن
في جعله متصلا إشكالا لأنه يصير المعنى إلا في كتاب فيعزب وهو فاسد فالأولى جعله
منقطعا وإلا بمعنى لكن والمعنى لا يعزب عن ربك شيء لكن جميع الأشياء في كتاب وقد
حاول الفخر الرازي جعله متصلا بعبارة طويلة محصلها أنه جعله استثناء مفرغا من أعم
الأحوال فقال وهو حال من أصغر وأكبر وهو في قوة المتصل ولا يقال فيه متصل ولا
منقطع.
(أَلا إِنَّ
أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ
آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي
الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤)
وَلا
يَحْزُنْكَ
قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥))
اللغة :
(الولي) ضد
العدو فهو المحب ومحبة العباد لله طاعتهم له ومحبته لهم إكرامه إياهم وعلى الأولى
يكون فعيل بمعنى فاعل وعلى الثاني بمعنى مفعول فهو مشترك بينهما ، هذا وقد تقصينا
جميع التراكيب في الكلمات التي فاؤها وعينها ولامها واو ولاما وياء ، فرأيناها
تنحصر في الدلالة على معنى القرب والدنو يقال وليه وليا : دنامنه وأوليته إياه :
أدنيته منه وكل مما يليك وجلست مما يليه وسقط الوليّ وهو المطر الذي يلي الوسمي
وقد وليت الأرض وهي موليّة وولي الأمر وتوّلاه وهو وليه ومولاه وهو وليّ اليتيم
ووليّ القتيل وهم أولياؤه وولي ولاية ، وهو والي البلد وهم ولاته ، ورحم الله ولاة
العدل ، واستولى عليه وهذا مولاي : ابن عمي ، وهم مواليّ ، ومولاي : سيدي وعبدي ،
ومولى بيّن الولاية سيد ناصر وهو أولى به ووالاه موالاة ، ووالى بين الشيئين وهما
على الولاء وتقول العرب : وال غنمك من غنمي أي اعزالها وميزها وإذا كانت الغنم
ضأنا ومعزى قيل والها قال ذو الرمة :
يوالي إذا
اصطكّ الخصوم أمامه
|
|
وجوه القضايا
من وجوه المظالم
|
وولاه ركنه «فولّ
وجهك شطر المسجد الحرام» وتوليته :جعلته وليا «ومن يتولهم منكم فإنه منهم» وتولاك
الله بحفظه ووضع الوليّة على الراحلة وهي البرذعة قال أبو زبيد :
كالبلايا
رؤسها في الولايا
|
|
ما نحات
السّموم حرّ الخدود
|
وولّى عني
وتولى و «أولى لك» ويل لك ، واستولى على الغاية وهذا من الغريب بمكان.
الاعراب :
(أَلا إِنَّ
أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ألا حرف تنبيه يستفتح بها الكلام مركبة من الهمزة ولا
النافية مغيرة عن معناها الأول إلى التنبيه ، وإن أولياء الله إن واسمها ولا نافية
خوف مبتدأ وساغ الابتداء به لنفيه وعليهم خبر ولا الواو حرف عطف ولا نافية وهم
مبتدأ وجملة يحزنون خبر.
(الَّذِينَ آمَنُوا
وَكانُوا يَتَّقُونَ) الذين آمنوا يحتمل موضعه ثلاثة أوجه متساوية الأرجحية
الأول النصب على أنه صفة أولياء الله والثاني الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي
هم الذين آمنوا والثالث الرفع على الابتداء والخبر جملة لهم البشرى الآتية ، وجملة
آمنوا صلة وكانوا يتقون عطف على الصلة وجملة يتقون خبر كانوا.
(لَهُمُ الْبُشْرى فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا) لهم خبر مقدم والبشرى مبتدأ مؤخر وفي الحياة متعلق
بمحذوف حال من البشرى والعامل في الحال الاستقرار في لهم والدنيا صفة للحياة وجملة
لهم البشرى إما مستأنفة وإن جعلت الذين مبتدأ كانت في محل رفع خبر.
(وَفِي الْآخِرَةِ لا
تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) وفي الآخرة عطف على في الحياة الدنيا ولا نافية للجنس
وتبديل اسمها ولكلمات الله خبر لا.
(ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ) ذلك مبتدأ وهو مبتدأ ثان والفوز خبر هو والجملة خبر ذلك
والعظيم صفة الفوز والجملتان معترضتان (وَلا يَحْزُنْكَ
قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) الواو حرف عطف ولا ناهية ويحزنك فعل مضارع مجزوم بلا
والكاف مفعول به وقولهم فاعل وإن واسمها وكسرت همزتها لأن الجملة مستأنفة بمعنى
التعليل لعزة الله ولا يجوز أن تكون كسرت لأنها وقعت بعد القول لأنه يصير حكاية
عنهم وان النبي صلى الله عليه وسلم تحزّن لذلك وهذا كفر ولله خبر إن وجميعا حال من
العزة ويجوز أن يكون توكيدا ولم يؤنث بالتاء لأن فعيلا يستوي فيه المذكر والمؤنث
وهو مبتدأ والسميع خبره الأول والعليم خبره الثاني.
(أَلا إِنَّ لِلَّهِ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ
يَخْرُصُونَ (٦٦) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ
وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧))
اللغة :
(يَخْرُصُونَ) أصل معنى الخرص الحزر أي التخمين والتقدير ويستعمل
بمعنى الكذب لغلبته في مثله وفي المصباح : خرصت النخل خرصا من باب قتل حزرت ثمره
والاسم الخرص بالكسر وخرص الكافر خرصا كذب فهو خارص وخرّاص.
الاعراب :
(أَلا إِنَّ لِلَّهِ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) ألا حرف تنبيه وقد تقدمت الاشارة إليه وإن حرف مشبّه
بالفعل ولله خبرها المقدم ومن اسمها المؤخر وخص العقلاء بالذكر تضخيما لأنهم إذا
كانوا له وداخلين في ملكه فما وراءهم مما لا يعقل أولى أن لا يكون له ندا وشريكا
وفي السموات صلة من ومن في الأرض عطف على من في السموات.
(وَما يَتَّبِعُ
الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ) ما نافية ويتبع الذين فعل مضارع وفاعل وجملة يدعون صلة
ومن دون الله حال من شركاء لتقدمه عليه وشركاء مفعول به ليتبع ومفعول يدعون محذوف
لفهم المعنى والتقدير وما يتبع الذين من دون الله آلهة شركاء أي وما يتبعون حقيقة
الشركاء وان كانوا يسمّونها شركاء لأن شركة الله في الربوبية محال إن يتبعون إلا
ظنهم أنهم شركاء ، ويجوز أن تكون ما استفهامية وتكون حينئذ منصوبة بما بعدها أي ما
يتبع والى هذا الاعراب جنح أبو البقاء ويجوز أن تكون ما موصولة معطوفة على من كأنه
يقول والله ما يتبعه الذين يدعون من دون الله شركاء أي وله شركاؤهم ويجوز أن تكون
ما الموصولة هذه في محل رفع بالابتداء والخبر محذوف تقديره والذي يتبعه المشركون
باطل فهذه أربعة أوجه أوردناها لتقاربها في الأرجحية وإن كان الأول أسهلها.
(إِنْ يَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) إن نافية ويتبعون فعل وفاعل وإلا أداة حصر والظن مفعول
به وإن نافية أيضا وهم مبتدأ وإلا أداة حصر وجملة يخرصون خبرهم.
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) هو مبتدأ والذي خبر وجملة جعل صلة الموصول ثم الجعل إن
كان بمعنى الإبداع والخلق نصب مفعولا واحدا وان كان بمعنى التصيير نصب مفعولين
وعلى كل لكم متعلق بجعل والليل مفعول به لتسكنوا اللام للتعليل وتسكنوا منصوب بأن
مضمرة والجار والمجرور إما مفعول لاجله أو مفعول به ثان وفيه متعلق بتسكنوا
والنهار عطف على الليل ومبصرا إما حال وإما مفعول به ثان كما تقدم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يَسْمَعُونَ) إن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبر مقدم لإن واللام
المزحلقة وآيات اسم ان المؤخر ولقوم صفة لآيات وجملة يسمعون صفة القوم.
البلاغة :
في قوله «والنهار
مبصرا» مجاز عقلي فان إسناد الابصار الى النهار غير حقيقي وقد تقدم أن المجاز
العقلي هو اسناد الفعل أو شبهه إلى غير ما هو له على حد قول أبي تمام :
تكاد عطاياه
يجنّ جنونها
|
|
إذا لم
يعوذها بنغمة طالب
|
ويجوز أن يجري
على أنه استعاره مكنية إذا قصد التشبيه ، ومنه قول جرير :
لقد لمتنا يا
أم غالب في السّرى
|
|
ونمت وما ليل
المطيّ بنائم
|
(قالُوا
اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما
فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما
لا
تَعْلَمُونَ
(٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩)
مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ
الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠))
الاعراب :
(قالُوا اتَّخَذَ
اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ) قالوا فعل وفاعل واتخذ الله ولدا فعل وفاعل ومفعول به
والجملة مقول القول وسبحانه مفعول مطلق الفعل محذوف.
(هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ
ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) هو مبتدأ والغني خبره وله خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وفي
السموات صلة وما في الأرض عطف على ما في السموات.
(إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ
سُلْطانٍ بِهذا) إن نافية وعندكم ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم ومن حرف جر
زائد وسلطان مبتدأ مؤخر مرفوع محلا مجرور لفظا وبهذا صفة لسلطان (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا
تَعْلَمُونَ) الهمزة للاستفهام الانكاري وتقولون فعل مضارع وفاعل
وعلى الله متعلق بتقولون وما مفعول به وجملة لا تعلمون صلة.
(قُلْ إِنَّ الَّذِينَ
يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) قل فعل أمر وفاعله أنت وإن الذين إن واسمها وجملة
يفترون صلة الذين وعلى الله متعلق بيفترون والكذب مفعول به وجملة لا يفلحون خبر
إن.
(مَتاعٌ فِي الدُّنْيا
ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا
يَكْفُرُونَ) متاع خبر لمبتدأ محذوف أي ذاك أو هو وفي الدنيا صفة
ويجوز أن يكون متاع مبتدأ وخبره محذوف والتقدير لهم متاع وساغ الابتداء به لوصفه
وثم حرف عطف وتراخ وإلينا خبر مقدم ومرجعهم مبتدأ مؤخر ثم حرف عطف أيضا ونذيقهم
فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول والعذاب مفعول به ثان والشديد صفة وبما الباء حرف
جر للسببية وما مصدرية أي بسبب كونهم كافرون والجار والمجرور متعلقان بنذيقهم.
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي
وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ
وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا
إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (٧١) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ
أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
(٧٢) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ
خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ
عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣))
اللغة :
(فَأَجْمِعُوا) يقال أجمع الأمر وأزمعه إذا نواه وعزم عليه قال
المؤرج : أجمعت الأمر أفصح من أجمعت عليه وقال أبو الهيثم أجمع أمره إذا
جعله جمعا بعد ما كان متفرقا (الغمة) ضيق الأمر من غمة إذا ستره ومنها قوله (صلى
الله عليه وسلم) : «ولا غمة في فرائض الله» وغم الهلال إذا حال من دونه غيم يحجب
رؤيته.
الاعراب :
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) واتل فعل أمر مبني على حذف حرف العلة وفاعله أنت وعليهم
متعلقان باتل ونبأ مفعول به ونوح مضاف اليه وإذ ظرف لما مضى من الزمن في محل نصب
بدل من نبأ بدل اشتمال أو متعلق به ، ولا معنى لقول أبي البقاء انه حال من نبأ كما
لا يجوز تعليقه بالفعل وهو اتل لفساد المعنى لأن أتل مستقبل والظرف ماض وجملة قال
لقومه مضافة للظرف (يا قَوْمِ إِنْ كانَ
كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) يا حرف نداء وقوم منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة وقد
تقدم بحثه وان شرطية وكان فعل الشرط واسمها ضمير الشأن المحذوف وجملة كبر عليكم
مقامي خبرها والمراد بتكبير المقام تعاظم الشقة ، والمقام بالفتح المنزلة والمكانة
قال تعالى : «ولمن خاف مقام ربه جنتان» والمقام بالضم الاقامة والقيام على الدعوة
خلال مدة اللبث لأنه مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، وتذكيري عطف على مقامي
وبآيات الله متعلقان بتذكيري فعلى الله الفاء رابطة والجار والمجرور متعلقان
بتوكلت.
(فَأَجْمِعُوا
أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) الفاء الفصيحة وأجمعوا فعل أمر والواو فاعل وأمركم
مفعول به لأنه يتعدى بنفسه وبالحرف كما
تقدم في باب اللغة وشركاءكم الواو للمعية وشركاءكم مفعول معه نص على ذلك
سيبويه وأنشد :
فكونوا أنتم
وبني أبيكم
|
|
مكان
الكليتين من الطحال
|
وقال النحاس :
في نصب الشركاء على قراءة الجمهور ثلاثة أوجه :
الأول : بمعنى
وادعوا شركاءكم قاله الكسائي والفراء أي ادعوهم لنصرتكم فهو على هذا منصوب بفعل
مضمر.
الثاني : وقال
محمد بن يزيد المبرد هو معطوف على المعنى كما قال الشاعر :
يا ليت زوجك
في الوغى
|
|
متقلدا سيفا
ورمحا
|
والرمح لا
يتقلد به لكنه محمول كالسيف.
الثالث : وقال
الزجاج : المعنى مع شركائكم فالواو على هذا واو مع وأما على قراءة أجمعوا بهمزة
وصل فالعطف ظاهر أي أجمعوا أمركم واجمعوا شركاءكم وأما توجيه قراءة الرفع فعلى عطف
الشركاء على الضمير المرفوع في أجمعوا وحسن هذا العطف مع عدم التأكيد بمنفصل كما
هو المعتبر في ذلك.
(ثُمَّ لا يَكُنْ
أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) ثم حرف عطف وتراخ ولا ناهية ويكن مجزومة بلا وأمركم اسم
يكن ويكن حال لأنه كان صفة في الأصل وتقدمت وغمة خبر يكن (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ) ثم حرف عطف كما تقدم واقضوا فعل أمر وفاعل وإلي متعلق
به ولا : الواو
عاطفة ولا ناهية وتنظرون أصله تنظرونني مجزوم بلا حذفت النون للجازم وحذفت
ياء المتكلم للفواصل أي لا تمهلوني.
(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ
فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) الفاء استئنافية وإن شرطية وتوليتم فعل وفاعل في محل
جزم فعل الشرط والفاء رابطة وما نافية وسألتكم فعل وفاعل ومن زائدة وأجر مفعول به
محلا.
(إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا
عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) إن نافية وأجري مبتدأ وإلا أداة حصر وعلى الله خبر ،
وأمرت : الواو عاطفة وأمرت فعل ماض مبني للمجهول والتاء نائب فاعل ، وأن أكون : أن
وما في حيزها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض أي بأن أكون.
(فَكَذَّبُوهُ
فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ) الفاء عاطفة على ما تقدم وكذبوه فعل وفاعل ومفعول به ،
فنجيناه عطف على كذبوه ومن اسم موصول معطوف على الهاء والظرف متعلق بمحذوف هو
الصلة أي استقروا معه في السفينة وفي الفلك جار ومجرور متعلقان بنجيناه أو في
الاستقرار الذي هو الصلة أي والذين استقروا معه في الفلك وجعلناهم خلائف فعل وفاعل
ومفعولاه. (وَأَغْرَقْنَا
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) وأغرقنا عطف على نجيناه ونا فاعل والذين مفعول به وجملة
كذبوا بآياتنا صلة وبآياتنا متعلقان بكذبوا. (فَانْظُرْ كَيْفَ
كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) الفاء استئنافية وانظر فعل أمر وفاعله مستتر وكيف اسم
استفهام خبر كان مقدم وعاقبة اسمها والمنذرين مضاف اليه.
البلاغة :
١ ـ المجاز
العقلي في قوله تعالى «كبر عليكم مقامي» فقد أسند الكبر الى المقام والمقام هو
كناية عن النفس لأن المكان من لوازمه.
٢ ـ الاستعارة
المكنية في قوله تعالى «ثم اقضوا إلي» أي نفذوا ذلك الأمر أو أدوا الى ذلك الأمر ،
شبه الأمر المحذوف بالدين ثم حذف المشبه به وأخذ شيئا من خصائصه وهو القضاء يقال
قضى فلان دينه أي أداه.
(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ
بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا
لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ
الْمُعْتَدِينَ (٧٤) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى
فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ
(٧٥) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ
(٧٦) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا
يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا
عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ
لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨))
الاعراب :
(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ
بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ) عطف على قصة نوح ، وبعثنا وفاعل ومن بعده حال ورسلا مفعول
به والى قومهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة. (فَجاؤُهُمْ
بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا
لِيُؤْمِنُوا
بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) الفاء عاطفة وجاءوهم فعل وفاعل ومفعول به وبالبينات
متعلقان بجاءوهم والفاء عاطفة وما نافية وكان واسمها واللام لام الجحود ويؤمنوا
منصوب بأن مضمرة بعدها واللام ومدخولها خبر كان وبما متعلقان بيؤمنوا وجملة كذبوا
صلة وبه متعلقان بكذبوا ومن قبل حال وبنيت قبل على الضم لانقطاعها عن الاضافة لفظا
لا معنى. (كَذلِكَ نَطْبَعُ
عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) الكاف في محل نصب صفة لمصدر محذوف أي مثل ذلك الطبع
نطبع وعلى قلوب المعتدين جار ومجرور متعلقان بنطبع. (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ
بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا) عطف قصة على قصة أيضا من باب عطف الخاص على العام ، ومن
بعدهم حال وموسى مفعول به لبعثنا وهارون معطوف على موسى والى فرعون متعلقان ببعثنا
وملئه عطف على فرعون وبآياتنا متعلقان بمحذوف حال أي ملتبسين بآياتنا التسع التي
سيصرّح بها في سورة «الإسراء» وهي قوله تعالى : «ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات»
وقد تقدم منها ثمانية في سورة «الأعراف» اثنتان في قوله «فألقى موسى عصاه» وقوله :
«ونزع يده» وواحدة في قوله «ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين» وخمسة في قوله «فأرسلنا
عليهم الطوفان» وستأتي التاسعة في هذه السورة في قوله «ربنا اطمس على أموالهم» أي
امسخها حجارة كما سيأتي في حينه.
(فَاسْتَكْبَرُوا
وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) الفاء عاطفة واستكبروا فعل وفاعل وكانوا كان واسمها
وقوما خبرها ومجرمين صفة. (فَلَمَّا جاءَهُمُ
الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا) الفاء عاطفة ولما حينية أو رابطة وجملة جاءهم مضافة أو
لا محل لها والحقّ فاعل ومن عندنا متعلقان بجاءهم. (قالُوا : إِنَّ هذا
لَسِحْرٌ مُبِينٌ) جملة قالوا لا محل وإن واسمها واللام المزحلقة وسحر خبر
إن ومبين صفة. (قالَ مُوسى : أَتَقُولُونَ
لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ)
قال موسى فعل وفاعل والهمزة للاستفهام وتقولون فعل مضارع وفاعل وللحق جار
ومجرور متعلقان بتقولون ولما حينية وجملة جاءكم مضافة ، أسحر الهمزة للاستفهام
الانكاري التوبيخي وسحر خبر مقدم وهذا مبتدأ مؤخر والجملة مقول القول ولا الواو
للحال ولا نافية ويفلح الساحرون فعل مضارع وفاعل والجملة حالية. (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا
وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) قالوا فعل وفاعل والهمزة للاستفهام البياني الذي يستفرغ
فيه المكابر المعاند حججه المتهافتة ليبرر إصرار على اللجاج والمواربة والعناد
وجملة أجئتنا مقول القول وهو فعل وفاعل ومفعول به ولتلفتنا اللام للتعليل وتلفت
فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل وعما متعلقان بتلفتنا وجملة وجدنا صلة
وعليه متعلقان بمحذوف حال تقديره عاكفين وآباءنا مفعول به. (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي
الْأَرْضِ) الواو عاطفة وتكون فعل مضارع ناقص ولكما خبرها المقدم
والكبرياء اسمها المؤخر وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أي ممتدة والكبرياء
مصدر على وزن فعلياء ومعناها العظمة وقيل الملك لأن الملوك موصوفون بالكبر ولذلك
قيل للملك الجبار ، قال بشار بن برد :
إذا الملك
الجبار صعّر خده
|
|
مشينا إليه
بالسيوف نعاتبه
|
ووصفوا بالصيد
والشوس ولذلك وصف ابن الرقيات مصعبا في قوله :
ملكه ملك رأفة
ليس فيه
|
|
جبروت منه
ولا كبرياء
|
ينفي ما عليه
الملوك من ذلك.
(وَما نَحْنُ لَكُما
بِمُؤْمِنِينَ) الواو عاطفة وما حجازية ونحن اسمها وبمؤمنين الباء
زائدة ومؤمنين خبر ما محلا.
الفوائد :
قال ابن هشام
في صدد حديثه عن حذف المفعول : «ومن غريبه حذف المقول وبقاء القول نحو : قال موسى
: أتقولون للحق لما جاءكم ، أي هو سحر بدليل أسحر هذا».
وهذا القول فيه
شيء كثير من الغموض وقد تعقبه الدسوقي فقال : «ما ذكره المصنف أحد أوجه ذكرها في
الكشاف وعبارته : فإن قلت : هم قطعوا بقولهم : إن هذا لسحر مبين على أنه سحر فكيف
قيل لهم أتقولون أسحر هذا؟ قلت فيه أوجه أن يكون معنى قوله أتقولون للحق : أتعيبونه
وتطعنون فيه وكان عليكم أن تذعنوا له وتعظموه ، من قولهم فلان يخاف القالة وبين
الناس تقاول إذا قال بعضهم لبعض ما يسوءه ونحو القول الذكر في قوله : سمعنا فتى
يذكرهم ثم قال : أسحر هذا فأنكر ما قالوه في عيبه والطعن عليه وان يحذف مفعول أتقولون
وهو ما دل عليه قولهم إن هذا لسحر مبين كأنه قيل : أتقولون ما تقولون يعني قولهم
أن هذا لسحر مبين ثم قيل أسحر هذا وان يكون جملة قوله أسحر هذا ولا يفلح الساحرون
حكاية لكلامهم كأنهم قالوا أجئتما بالسحر تطلبان به الفلاح» انتهى ما قاله
الزمخشري وقد تصرف به الدسوقي تصرفا مخلا ولهذا آثرنا نقل ما قاله الزمخشري بنصه
من الكشاف ومع ذلك لا يخلو من غموض ، وإيضاحه : ان القول على الوجه الاول وقع
كناية عن العيب فلا يتقاضى مفعولا وفي الثاني على انه يطلب مفعولا والذي نراه أن
سؤال ابن هشام غير وارد واعتراض الزمخشري وتكلفه الاجابة عنه
غير وارد أيضا ولهذا ضربنا صفحا في الاعراب عن هذا كله وأحسن من الجميع
عبارة أبي السعود وهي : «قال موسى : أي قال جملا ثلاثا الأولى أتقولون للحق لما
جاءكم والثانية أسحر هذا والثلاثة ولا يفلح الساحرون وقوله للحق أي في شأنه ولأجله
وقوله : لما جاءكم أي حين مجيئه إياكم من أول الأمر من غير تأمل وتدبّر هذا مما
ينافي القول المذكور وقوله : انه لسحر هذا مقول القول فحذف لدلالة ما قبله عليه
واشارة الى انه لا يتفوه به وقوله : أسحر هذا مبتدأ وخبر وهو استفهام إنكار مستأنف
من جهته عليه السلام تكذيبا لقولهم وتوبيخا إثر توبيخ وتجهيلا بعد تجهيل وقوله ولا
يفلح الساحرون جملة حالية من ضمير المخاطبين والرابط هو الواو بلا ضمير كما في قول
من قال : «جاء الشتاء ولست أملك عدة» أي أتقولون للحق إنه لسحر والحال انه لا يفلح
فاعله أي لا يظفر بمطلوب ولا ينجو من مكروه فكيف يمكن صدوره عن مثلي من المؤيدين
من العزيز الحكيم».
(وَقالَ فِرْعَوْنُ
ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ
مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما
جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ
الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ
الْمُجْرِمُونَ (٨٢))
الاعراب :
(وَقالَ فِرْعَوْنُ
ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) الواو عاطفة لتتساوق
فصول القصة وقال فرعون فعل وفاعل وائتوني فعل أمر وفاعل ومفعول به وبكل
متعلقان بائتوني وساحر مضاف اليه وعليم صفة. (فَلَمَّا جاءَ
السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) الفاء عاطفة على محذوف أي فأتوا بالسحرة ، وجملة قال
لهم موسى لا محل لها وألقوا فعل أمر وفاعل وما اسم موصول مفعول به وأنتم مبتدأ
وملقون خبر والجملة الاسمية صلة الموصول وجملة ألقوا مقول القول. (فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما
جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) ما اسم موصول مبتدأ وجملة جئتم به صلة والسحر خبر وفي
قراءة آلسحر بهمزتين همزة استفهام وهمزة أل فتكون ما استفهامية في محل رفع مبتدأ
وجئتم به الخبر والتقدير أي شيء جئتم به كأنه استفهام انكار وتقليل لما جاءوا به
والسحر بدل من اسم الاستفهام لذلك أعيدت معه أداته أو يكون السحر خبرا لمبتدأ
محذوف أي أهو السحر (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ
إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) إن واسمها وجملة سيبطله خبرها وإن واسمها وجملة لا يصلح
خبرها وإن الثانية للتعليل وعمل المفسدين مفعول به. (وَيُحِقُّ اللهُ
الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) الواو عاطفة ويحق الله فعل وفاعل والحق مفعول به
وبكلماته متعلقان بيحق ولو الواو حالية ولو وصلية وكره المجرمون فعل وفاعل.
(فَما آمَنَ لِمُوسى
إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ
يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ
الْمُسْرِفِينَ (٨٣) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ
فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ
مُسْلِمِينَ
(٨٤) فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦))
الاعراب :
(فَما آمَنَ لِمُوسى
إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) الفاء عاطفة على محذوف يفهم من السياق ومما فصّل في
مواضع أخر أي فألقى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون وما نافية وآمن فعل ماض ولموسى
متعلق به وإلا أداة حصر وذرية فاعل ومن قومه صفة. (عَلى خَوْفٍ مِنْ
فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ) على بمعنى مع وهي مع مجرورها في محل نصب على الحال ،
ومن فرعون جار ومجرور متعلقان بخوف وملئهم عطف على فرعون وانما أعاد الضمير اليه
جمعا لأنه بمعنى آل فرعون كما يقال ربيعة ومضر ، أو لأنه ذو أصحاب يأتمرون بأمره ،
وأن يفتنهم أن وما في حيزها بدل اشتمال من فرعون أي على خوف من فتنة فرعون أو
مفعول لأجله بعد حذف اللام. (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ
لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) الواو اعتراضية وهذه الجملة والتي بعدها اعتراض تذييلي
وان واسمها واللام المزحلقة وعال خبر ان مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة على
الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بعال وانه الواو
اعتراضية أيضا وان واسمها واللام المزحلقة ومن المسرفين خبر إن. (وَقالَ مُوسى : يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ
آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) يا قوم يا حرف نداء وقوم منادى مضاف لياء المتكلم وقد
تقدم حكمه ونزيد هنا أن حذف الياء أقوى من إثباتها لقوة النداء على التغيير وإن
شرطية وكنتم في محل جزم فعل الشرط والتاء اسم كان
وجملة آمنتم خبر كنتم وبالله جار ومجرور متعلقان بآمنتم ، فعليه :الفاء
رابطة لجواب الشرط وعليه متعلقان بتوكلوا وتوكلوا فعل أمر وفاعل وإن شرطية وكنتم
مسلمين كان واسمها وخبرها وجواب الشرط محذوف وكرر الجملة توكيدا وسيأتي في باب
الفوائد تحقيق تعليق الحكم بشرطين. (فَقالُوا عَلَى اللهِ
تَوَكَّلْنا) الفاء للعطف وقالوا فعل وفاعل وعلى الله جار ومجرور
متعلقان بتوكلنا وتوكلنا فعل وفاعل (رَبَّنا لا
تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ربنا منادى مضاف وحرف النداء محذوف ولا ناهية وتجعلنا
فعل مضارع مجزوم بلا ونا مفعول به أول وفتنة مفعول به ثان وللقوم صفة والظالمين
صفة لقوم. (وَنَجِّنا
بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) الواو عاطفة ونج فعل أمر مبني على حذف حرف العلة ونا
مفعول به وبرحمتك متعلقان بمحذوف حال ومن القوم متعلقان بنجنا والكافرين صفة لقوم.
الفوائد :
متى لم يترتب الشرطان
في الوجود فالشرط الثاني شرط في الأول ولذلك لم يجب تقديمه على الاول وقد بنى
الفقهاء على ذلك حكما طريفا وهو أن يقول الرجل لامرأته : إن دخلت الدار فأنت طالق
إن كلمت زيدا فمجموع قوله إن دخلت الدار فأنت طالق مشروط بقوله :إن كلمت زيدا
والمشروط متأخر عن الشرط وذلك يقتضي أن يكون المتأخر في اللفظ متقدما في المعنى
وأن يكون المتقدم في اللفظ متأخرا في المعنى فكأنه يقول لامرأته حالما كلمت زيدا
إن دخلت الدار فأنت طالق فلو حصل هذا المعلق قبل إن كلمت زيدا لم يقع الطلاق وفي
الآية التي نحن بصددها قوله : إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين ،
يقتضي أن يكون كونهم مسلمين شرطا لأن يصيروا مخاطبين
بقوله إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا فكأنه تعالى يقول للمسلم حال
إسلامه إن كنت من المؤمنين بالله فعلى الله توكل والأمر كذلك لان الإسلام عبارة عن
الاستسلام وهو الانقياد لتكاليف الله وترك التمرد والايمان عبارة عن معرفة القلب
بأن واجب الوجود لذاته واحد وما سواه محدث تحت تدبيره وقهره فاذا حصلت هاتان
الحالتان فعند ذلك يفوض العبد جميع أموره الى الله تعالى ويحصل في القلب نور
التوكل على الله.
(وَأَوْحَيْنا إِلى
مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا
بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧) وَقالَ
مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى
أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا
الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا
تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩))
اللغة :
(تَبَوَّءا) : تبوّأ المكان : اتخذه مباءة كقولك توطنه إذا اتخذه
وطنا وبوأت له بيتا أي اتخذته وقال أبو علي : إن تبوأ فعل يتعدى الى
مفعولين.
(اطْمِسْ) : الطمس : إزالة أثر الشيء بالمحو وطمست الريح آثار
الديار والطمس تغير الى الدثور والدروس قال كعب بن زهير :
من كل نضّاخة
الذّفرى إذا عرقت
|
|
عرضتها طامس
الأعلام مجهول
|
الاعراب :
(وَأَوْحَيْنا إِلى
مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً) الواو استئنافية وأوحينا فعل وفاعل والى موسى جار
ومجرور متعلقان بأوحينا وأخيه عطف على موسى وأن يجوز أن تكون مفسرة لأنه قد تقدمها
ما هو بمعنى القول دون حروفه وهو الإيحاء ويجوز أن تكون مصدرية على بابها وهي مع
مدخولها في موضع نصب مفعول أوحينا أي أوحينا إليهما التبوّء ولقومكما متعلقان
بتبوءا وباعتبارها مفعولا ثانيا وبمصر حال وبيوتا مفعول تبوأا وجوز أبو البقاء أن
يتعلق بتبوءا. (وَاجْعَلُوا
بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) واجعلوا عطف على تبوأا وبيوتكم مفعول اجعلوا الاول
وقبلة مفعول اجعلوا الثاني وأقيموا الصلاة عطف وهو فعل أمر وفاعل ومفعول به وبشر
المؤمنين عطف أيضا وسيأتي في باب البلاغة سر تنويع الخطاب. (وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ
فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) قال موسى فعل وفاعل وربنا منادى مضاف حذف منه حرف
النداء وإن وسمها وجملة آتيت خبر إن وفرعون مفعول به وملأه عطف على فرعون وزينة
مفعول
به ثان وأموالا عطف على زينة وفي الحياة الدنيا صفة لزينة (رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) ربنا منادى مضاف وأعيد للتوكيد واللام لام الصيرورة
والعاقبة أي آتيتهم النعم المذكورة ليشكروها ويتبعوا سبيلك فكان عاقبة أمرهم أنهم
كفروها وضلوا عن سبيلك ويجوز أن تكون لام العلة والمعنى أنك آتيتهم ما آتيتهم على
سبيل الاستدراج فكان الإيتاء لهذه العلة وقال الحسن البصري : هي لام الدعاء عليهم
بأن يبقوا على ما هم عليه من الضلال ، وعن سبيلك جار ومجرور متعلقان بيضلوا (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ
وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) اطمس فعل أمر وفاعله أنت وعلى قلوبهم جار ومجرور
متعلقان باطمس واشدد على قلوبهم عطف على اطمس على أموالهم. (فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا
الْعَذابَ الْأَلِيمَ) يحتمل يؤمنوا النصب والجزم فالنصب بأن مضمرة بعد فاء
السببية العاطفة أو العطف على قوله ليضلوا فلا يؤمنوا واختاره المبرد وعلى هذا
يكون قوله : ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم اعتراضا ، والجزم على وجه
الدعاء عليهم على أن لا التي بسميها النحاة ناهية وهي بالنسبة الى الله تعالى لام
الدعاء ومثله بيت الأعشى.
فلا ينبسط من
بين عينيك ما انزوى
|
|
ولا تلقني
إلا وأنفك راغم
|
وحتى حرف غاية
وجر ويروا مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والواو فاعل والعذاب مفعول به والأليم
صفة. (قالَ قَدْ أُجِيبَتْ
دَعْوَتُكُما) جملة قد أجيبت مقول القول ودعوتكما نائب فاعل.
(فَاسْتَقِيما وَلا
تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) الفاء الفصيحة واستقيما فعل أمر والالف فاعل ولا تتبعان
الواو عاطفة ولا ناهية وتتبعان فعل
مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون وألف الاثنين فاعل والنون المشددة
هي نون التوكيد الثقيلة وكسرت لوقوعها بعد ألف الاثنين وقرأ حفص تتبعان بتخفيف
النون مكسورة مع تشديد التاء فتحتمل أن تكون لا للنفي وأن تكون للنهي فإن كانت
للنفي كانت النون نون رفع والجملة اسمية أي وأنتما لا تتبعان أو انه خبر محض
مستأنف لا تعلق له بما بعده ، وإن كانت للنهي كانت النون للتوكيد وهي الخفيفة ،
وسبيل مفعول به والذين مضاف اليه وجملة لا يعلمون صلة.
البلاغة :
التنويع في
الخطاب ، فقد نوع سبحانه في خطابهم فثنى أولا ثم جمع ثم وحد آخرا والسر في ذلك أن
موسى وهارون خوطبا بأن يتبوأا لقومهما بيوتا ويختاراها للعبادة ثم سيق الخطاب عاما
لهما ولقومهما باتخاذ المساجد للصلاة فيها لأن ذلك واجب على الجمهور ثم خص آخرا
موسى بالبشارة التي هي الغرض الاسمى تعظيما لها وللمبشر بها.
(وَجاوَزْنا بِبَنِي
إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً
حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي
آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ
عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ
بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ
آيَةً
وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢))
اللغة :
(وَجاوَزْنا) : هو من جاوز المكان إذا تخطاه وخلفه وراءه.
(فَأَتْبَعَهُمْ) : في المختار تبعه من باب طرب وسلم إذا مشى خلفه أو مرّ
به فمضى معه وكذا اتّبعه وهو افتعل وأتبعه على أفعل إذا كان قد سبقه فلحقه. وقال
الأخفش : تبعه وأتبعه مثل ردفه وأردفه وحكى أبو عبيدة عن الكسائي : أنه قال : إذا
أريد بهم انه اتبعهم خيرا أو شرا قالوا بقطع الهمزة وإذا أريد به أنه اقتدى بهم
واتبع أثرهم قالوا بتشديد التاء ووصل الهمزة.
(بَغْياً) : البغي : طلب الاستعلاء بغير الحق.
(عَدْواً) : في الصحاح للجوهري : عدا عدوا وعدوّا وعداء ، وفي القاموس
والتاج وعدوانا وعدوانا وعدوى عليه ظلمه ويقال :«ما عدا مما بدا» أي ما الذي صرفك
عني بعد ما بدا منك.
(نُنَجِّيكَ) : من النجوة وهي الأرض التي لا يعلوها السيل وأصلها من
الارتفاع.
الاعراب :
(وَجاوَزْنا بِبَنِي
إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة
مسوقة لبيان ما آل اليه أمر فرعون وقومه ، وجاوزنا فعل وفاعل وببني إسرائيل
متعلقان بجاوزنا والباء للتعدية أي جعلناهم مجاوزين البحر والبحر مفعول به. (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ
بَغْياً وَعَدْواً) فأتبعهم الفاء عاطفة وأتبعهم فعل ومفعول به وفرعون فاعل
وجنوده عطف على فرعون وبغيا مفعول لأجله وعدوا معطوف عليه ويجوز أن يكونا مصدرين
في موضع الحال أي باغين معتدين. (حَتَّى إِذا
أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ
بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) حتى حرف غاية لاتباعه وإذا ظرف مستقبل وأدركه الغرق فعل
ومفعول به وفاعل والجملة في محل جر بالاضافة وجملة قال لا محل لها لأنها جواب شرط
غير جازم وجملة آمنت مقول القول وأن وما في حيزها في موضع نصب بنزع الخافض والجار
والمجرور صلة آمنت ولا إله إلا الذي تقدم القول فيها مشبعا وجملة آمنت صلة الذي
وبه متعلقان بآمنت وبنوا إسرائيل فاعل آمنت وأنا الواو عاطفة وأنا مبتدأ ومن
المسلمين خبر (آلْآنَ وَقَدْ
عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) آلآن الهمزة للاستفهام والآن ظرف متعلق بمحذوف وتقديره
آلآن آمنت ، وقد الواو للحال وقد حرف تحقيق وعصيت فعل وفاعل وقبل ظرف مبني على
الضم لانقطاعه عن الاضافة لفظا لا معنى وكنت من المفسدين عطف على عصيت وكنت كان
واسمها ومن المفسدين خبرها. (فَالْيَوْمَ
نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) الفاء استئنافية واليوم ظرف متعلق بننجيك وببدنك حال من
الكاف أي مصاحبا لبدنك وسيأتي مزيد بحث عنها في باب البلاغة ولتكون اللام للتعليل
وتكون منصوب بأن مضمرة واسم تكون مستتر تقديره أنت وآية خبرها ولمن خلفك حال
والظرف متعلق بالاستقرار الذي هو صلة الموصول. (وَإِنَّ كَثِيراً
مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) الواو اعتراضية والجملة اعتراض تذييلي
جيء به عقب الحكاية وان واسمها ومن الناس صفة لكثيرا وعن آياتنا متعلقان
بغافلون واللام المزحلقة وغافلون خبر إن.
البلاغة :
في الآية تورية
إذا فسر البدن بالدرع أما إذا فسر بالجسم فيكون المعنى ننجيك في الحال التي لا روح
فيك وانما أنت بدن أو ببدنك كاملا سويا لم ينقص منه شيء أما تفسير البدن بالدرع
فيدل عليه قول عمرو بن معدي كرب :
أعاذل شكتي
بدني وسيفي
|
|
وكل مقلّص
سلس القياد
|
وكانت لفرعون
درع من ذهب يعرف بها ، وعندئذ صح في البدن التورية وهي ان البدن في القريب الظاهر
بمعنى الجسم وفي البعيد الخفي بمعنى الدرع ومراده البعيد الخفي فان نجاة فرعون أي
خروجه من البحر بعد الغرق بدرعه أعجب آية من خروجه مجردا والتورية في القرآن قليلة
وسترد مواضعها في حينها ونتحدث عنها هنا باختصار فنقول : تعريف التورية : التورية
هي أن يذكر المتكلم لفظا مفردا له معنيان : قريب ظاهر غير مراد وبعيد خفي هو
المراد. وتنقسم الى أربعة أقسام :
١ ـ التورية
المجردة وسميت بذلك لتحردها من اللوازم وهي قسمان أيضا :
آ ـ المجردة
التي ذكر معها لازم المورّى به وهو المعنى القريب ولازم المورّى عنه وهو المعنى
البعيد كقول مجير الدين بن تميم :
وليلة بتّ
أسقى في غياهبها
|
|
راحا تسلّ
شبابي من يد الهرم
|
ما زلت
أشربها حتى نظرت الى
|
|
غزالة الصبح
ترعى رجس الظلم
|
فالصبح من
لوازم الغزالة الشمسية والرعي من لوازم الغزالة الوحشية.
ب ـ المجردة
التي لم يذكر معها لازم من لوازم المورّى به ولا لازم من لوازم المورّى عنه كقول
بعضهم في سنة كان فيها شهر كانون معتدلا فأزهرت الأرض :
كأن نيسان
أهدى من ملابسه
|
|
لشهر كانون
أنواعا من الحلل
|
أو الغزالة
من طول المدى خرفت
|
|
فما تفرق بين
الجدي والحمل
|
فالتورية هنا
مجردة إذ لم يذكر الشاعر شيئا من لوازم المورى به أو لوازم المورى عنه.
٢ ـ التورية
المرشحة : وهي التي ذكر فيها لازم من لوازم المورى به كقول القائل :
يا سيدا حاز
لطفا
|
|
له البرايا
عبيد
|
أنت الحسين
ولكن
|
|
جفاك فينا
يزيد
|
فإن ذكر الحسين
لازم لكون يزيد اسما علما بعد احتماله للفعل المضارع الذي هو معناه المقصود
المورّى عنه ولابن خطيب داريا في حمص :
مدينة حمص
كعبة الحسن أصبحت
|
|
يطوف بها دان
ويسعى بها قاصي
|
له حلة من
نبتها سندسية
|
|
تعلق في
أذيال أستارها العاصي
|
فإن ذكر التعلق
بأذيال الكعبة هنا على سبيل الاستعارة ترشيح للعاصي من العصيان كما سبق ، وقد رد
بعضهم على ابن خطيب داريا فقال :
مدينة حمص لم
تكن قط كعبة
|
|
يطوف بها دان
ويسعى بها قاصي
|
ولكنها للهو
والقصف حانة
|
|
ألم تنظروها
كيف جاورها العاصي
|
٣ ـ التورية المبينة : هي التي ذكر
فيها لازم من لوازم المورى عنه ومن أمثلتها ما يحكى أن نقيب الأشراف ببغداد كان
يهوى غلاما اسمه صدقة أخذه ابن المنير الطرابلسي يوما وأضافه وجلسوا في طبقة وإذا
بالشريف أتى إليهم مستخفيا وقال لهم :
يا من هم في
الطبقة
|
|
هل عندكم من
شفقة؟
|
قد جاءكم
متيّم
|
|
يطلب منكم «صدقه»
|
فأجابه ابن
المنير في الحال :
يا من أتانا
سرقه
|
|
بمهجة محترقة
|
جدّك يا ذا
لم يجز
|
|
أخذك منا «صدقه»
|
فخجل وذهب
عنهما والشاهد في قول الشريف «متيم» يرشح المعنى المورى عنه في صدقة وهو اسم
محبوبه والمعنى الثاني ظاهر وهو الصلة للفقراء.
٤ ـ التورية
المهيئة : وهي التي لا يتهيأ معها في الكلام تورية إلا باللفظ قبله أو الذي بعده
كقول الدماميني :
يا عذولي في
مغن مطرب
|
|
حرّك الأوتار
لما سفرا
|
لم تهز العطف
منه طربا
|
|
عند ما تسمع
منه وترا
|
فإن لفظة تسمع
هيأت قوله «وترا» للتورية بالرؤية وهو المعنى البعيد وأما المعنى القريب فأحد
الأوتار للطنبور.
الفوائد :
(الآن) ظرف
زمان للوقت الذي أنت فيه مبني على الفتح ويجوز أن يدخله من حروف الجر من والى وحتى
ومذ ومنذ مبنيا معهن على الفتح ويكون في موضع الجر.
(وَلَقَدْ بَوَّأْنا
بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا
اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ
مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ
الَّذِينَ
يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا
تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ
عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ
حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧))
اللغة :
(مُبَوَّأَ صِدْقٍ) اسم مكان أي مكان صدق والمعنى وأنزلناهم منزلا محمودا
ويجوز أن يكون مصدرا.
(الامتراء) طلب
الشك مع ظهور الدليل وهو من مرى الضرع وهو مسحه ليدرّ.
الاعراب :
(وَلَقَدْ بَوَّأْنا
بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لبيان النعم
التي أفاضها الله على بني إسرائيل بعد انجائهم واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف
تحقيق وبوأنا فعل وفاعل وبني إسرائيل مفعول به ومبوأ صدق مفعول به ثان لبوأ أو
مفعول مطلق إن كانت مبوأ مصدرا (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ
الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) ورزقناهم عطف على بوأنا وهو فعل وفاعل ومفعول به ومن
الطيبات متعلقان برزقناهم ، فما : الفاء عاطفة وما نافية واختلفوا
فعل وفاعل وحتى حرف غاية وجر وجاءهم العلم فعل ومفعول به وفاعل والمراد
بالاختلاف ما تعاورهم من شكوك بعد مجيء الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وتضافر
معجزاته (إِنَّ رَبَّكَ
يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) إن واسمها وجملة يقضي خبرها وبينهم متعلقان بيقضي ويوم
القيامة ظرف متعلق بيقضي أيضا وفيما متعلقان بمحذوف حال أي فاصلا فيما ، وجملة
كانوا صلة ما وكان والواو اسمها وفيه متعلقان بيختلفون وجملة يختلفون خبر كانوا (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا
أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) الفاء استئنافية وإن شرطية وكنت كان واسمها والفعل في
محل جزم فعل الشرط وفي شك خبرها ومما متعلقان بمحذوف صفة لشك وجملة أنزلنا إليك
صلة ما (فَسْئَلِ الَّذِينَ
يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) الفاء رابطة واسأل فعل أمر وفاعله أنت والذين مفعول به
وجملة يقرءون الكتاب صلة ومن قبلك حال (لَقَدْ جاءَكَ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) اللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وجاءك الحق فعل ومفعول
به وفاعل ومن ربك متعلقان بجاءك والفاء عاطفة ولا ناهية وتكونن مجزوم بلا محلا
لأنه مبني واسمها مستتر تقديره أنت ومن الممترين خبرها (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) تقدم اعرابها (فَتَكُونَ مِنَ
الْخاسِرِينَ) الفاء سببية وتكون مضارع ناقص منصوب بأن مضمرة بعد فاء
السببية ومن الخاسرين خبرها وسيأتي في باب الفوائد ما قاله العلماء في هذه الآية (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ
كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) إن واسمها وجملة حقت صلة وعليهم متعلقان بحقت وكلمة
فاعل وربك مضاف لكلمة وجملة لا يؤمنون خبر إن (وَلَوْ جاءَتْهُمْ
كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) الواو حالية ولو شرطية وجاءتهم كل آية فاعل وحتى غاية
النفي ويروا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والواو فاعل والعذاب مفعول به
والرؤية
عينية ولذلك نصبت مفعولا واحدا فقط والأليم صفة وجواب لو محذوف أي فلا
ينفعهم ايمانهم حينئذ كما لم ينفع فرعون.
الفوائد :
قال الزجاج :
إن هذه الآية قد كثر سؤال الناس عنها وخوضهم فيها وفي السورة ما يدل على بيانها
فان الله سبحانه يخاطب النبي وذلك الخطاب شامل للخلق فالمعنى فان كنتم في شك
فاسألوا ، والدليل عليه قوله في آخر السورة : «يا أيها الناس إن كنتم في شك من
ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم» الآية فأعلم
الله سبحانه أن نبيه ليس في شك ومثل هذه قوله «يا أيها النبي إذا طلقتم النساء»
فقال طلقتم والخطاب للنبي (صلى الله عليه وسلم) وحده قال أبو عمرو ومحمد بن عبد
الواحد الزاهد : سمعت الإمامين ثعلبا والمبرد يقولان : معنى فإن كنت في شك أي قل
يا محمد للكافر فإن كنت في شك.
وقال الفراء :
إن الخطاب لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) وان لم يشك وعلم الله أنه غير شاك ولكن
الكلام خرج مخرج التقرير والإفهام كما يقول الابن لأبيه ، إن كنت والدي فتعطف علي
أو لولده إن كنت ابني فأطعني يريد بذلك المبالغة وربما خرجوا في المبالغة الى ما
يستحيل كقولهم : بكت السماء لموت فلان أي لو كانت السماء تبكي على ميت لبكت عليه
وكذلك يكون هاهنا المعنى لو كنت ممن يشك فشككت فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك.
وقال الزمخشري
: إن أمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل وهم يعرفونه
كما يعرفون أبناءهم
فأراد أن يؤكد علمهم بصحة القرآن وحجة نبوة محمد عليه السلام ويبالغ في ذلك
فقال : فإن وقع لك شك فرضا وتقديرا ـ وسبيل من خالجته شبهة في الدين أن يسارع الى
حلها واماطتها اما بالرجوع الى قوانين الدين وأدلّته وإما بمقادحة العلماء المنبّهين
إلى الحق ـ فسل علماء أهل الكتاب.
وقال أبو حيان
: «والذي أقوله : أنّ إن الشرطية تقتضي تعليق شيء على شيء ولا تستلزم تحتيم وقوعه
وإمكانه بل قد يكون ذلك في المستحيل عقلا كقوله تعالى : «قل إن كان للرحمن ولد
فأنا أول العابدين» ومستحيل أن يكون له ولد فكذلك هذا مستحيل أن يكون في شك وفي
المستحيل عادة كقوله : «فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء
فتأتيهم بآية» أي فافعل ، لكن وقوع «إن» للتعليق على المستحيل قليل وهذه الآية من
ذلك ولما خفي هذا الوجه على أكثر الناس اختلفوا في تخريج هذه الآية».
(فَلَوْ لا كانَتْ
قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا
كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى
حِينٍ (٩٨) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ
تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ
تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا
يَعْقِلُونَ (١٠٠))
الاعراب :
(فَلَوْ لا كانَتْ
قَرْيَةٌ آمَنَتْ) الفاء استئنافية ولو لا تحضيضيّة وهذا التحضيض فيه معنى
التوبيخ والنفي وقد تقدمت الاشارة الى حروف التحضيض ، وكانت قرية فعل وفاعل لأن
كان هنا تامة وجملة آمنت صفة لقرية (فَنَفَعَها إِيمانُها
إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) الفاء عاطفة ونفعها معطوف على الصفة عطف المسبب على
السبب وإيمانها فاعل نفعها والجملة قد تقوم مقام الصفة للنكرة وإلا قوم يونس
استثناء متصل واقع على المعنى لا على ظاهر اللفظ فكأنه قال : هلّا آمن أهل قرية
والجميع مشتركون في العقاب وقوم يونس مستثنى من الجميع ومثل هذا الاستثناء قوله
تعالى : «فلو لا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا
قليلا ممن أنجينا منهم» وقال الزجاج إلا قوم يونس استثناء منقطع وتقديره لكن قوم
يونس لما آمنوا ومثله قول النابغة :
وقفت فيها
أصيلا كي اسائلها
|
|
عيّت جوابا
وما بالربع من أحد
|
إلا الأواري
لأيا ما أبيّنها
|
|
والنؤي
كالحوض بالمظلومة الجلد
|
ويونس مضاف
اليه ممنوع من الصّرف للعلمية والعجمية (لَمَّا آمَنُوا
كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى
حِينٍ) لما حينية أو رابطة وآمنوا فعل وفاعل وجملة كشفنا لا
محل لها وعنهم متعلقان بكشفنا وعذاب الخزي مفعول به وفي الحياة متعلقان بمحذوف حال
والدنيا صفة ومتعناهم عطف على كشفنا وإلى حين متعلقان بمتعناهم (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي
الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) الواو استئنافية ولو شرطية وشاء ربك فعل وفاعل لآمن
وللام واقعة في جواب لو وجملة
آمن لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ومن فاعل آمن وفي الأرض صلة من
وكلهم توكيد لمن وجميعا نصب على الحال من «من» (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ
النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) الهمزة للاستفهام والفاء عاطفة وأنت مبتدأ والجملة بعده
خبر وقد مر معنا أن الهمزة مقدمة على العاطف أو ثم جملة محذوفة ، وحتى حرف تعليل
وجر ويكونوا منصوب بأن مضمرة بعد حتى ومؤمنين خبر يكونوا (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ
إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) الواو عاطفة وما نافية وكان فعل ماض ناقص ولنفس خبرها
المقدم وأن المصدرية وما في حيزّها اسمها المؤخر وإلا أداة حصر وبإذن الله متعلقان
بتؤمن (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ
عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) ويجعل معطوفة على مقدر كأنه قيل فيأذن لبعضهم في
الايمان ويجعل ، ويجعل مضارع والرجس مفعوله وعلى الذين متعلقان بيجعل وجملة لا
يعقلون صلة.
(قُلِ انْظُرُوا ما ذا
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا
يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا
مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢)
ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ
الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣))
اللغة :
(النظر) : طلب
الشيء من جهة الفكر كما يطلب إدراكه بالعين والمعنى تأملوا تأمل اعتبار.
(النُّذُرُ) : جمع نذير وهو صاحب النذارة.
الاعراب :
(قُلِ انْظُرُوا ما ذا
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قل فعل أمر وجملة انظروا مقول القول وما ذا يحتمل أن
تكون ما استفهامية مبتدأ وذا اسم موصول خبر وتكون الجملة في محل نصب لتعليق العامل
وهو انظروا عنها بالاستفهام ويحتمل أن تكون ماذا بتمامها استفهاما في محل رفع
مبتدأ وفي السموات خبره وعلى الأول يكون الجار والمجرور متعلقين بمحذوف هو الصلة
للموصول أي ما الذي استقر في السموات والأرض. (وَما تُغْنِي
الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) هذه الجملة إما حالية من الواو في انظروا كأنه قيل
انظروا والحال أن النظر لا ينفعكم ، وإما معترضة وما نافية أو استفهامية في محل
نصب على أنها مفعول مطلق لتغني أي : أي غناء تغني ، والآيات فاعل والنذر عطف على
الآيات وعن قوم جار ومجرور متعلقان بتغني وجملة لا يؤمنون صفة لقوم. (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ
أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) الفاء استئنافية وهل حرف استفهام وينتظرون فعل مضارع
مرفوع بثبوت النون والواو فاعل وإلا أداة حصر ومثل مفعول ينتظرون وأيام مضاف اليه
والذين مضاف لأيام وجملة خلوا صلة ومن قبلهم متعلقان بخلوا أو بمحذوف حال. (قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ
مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) قل فعل
أمر والفاء الفصيحة وانتظروا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وإن
واسمها ومن المنتظرين خبرها والظرف متعلق بمحذوف حال.
(ثُمَّ نُنَجِّي
رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) ثم حرف عطف للترتيب والتراخي وننجي فعل مضارع وفاعله
مستتر تقديره نحن والجملة عطف على كلام محذوف تقديره نهلك الأمم ثم ننحي رسلنا على
حكاية الأحوال الماضية ورسلنا مفعول به والذين عطف على رسلنا وجملة آمنوا صلة. (كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ
الْمُؤْمِنِينَ) الكاف في محل نصب صفة لمصدر محذوف أي إنجاء مثل ذلك
الانجاء فهي مفعول مطلق والعامل فيه ننجي المؤمنين ولك أن تجعل الكاف في محل رفع
خبر لمبتدأ محذوف وقدّروه بقولهم الأمر كذلك ، وحقا نصب على المصدر أي يحق حقا
ويجوز أن يعرب نصبا على الحال وإن كان لفظه لفظ المصدر وأورد جامع العلوم الضرير
النحوي وجها طريفا وهو أن ينصب على البدلية من كذلك وعلينا متعلقان بحقا وننجي فعل
مضارع والمؤمنين مفعول به.
البلاغة :
التشبيه
التمثيلي في قوله كذلك ننجي إلخ فقد شبه نجاة من بقي من المؤمنين بنجاة من مضى في
أنه واجب لهم وحق على الله. ووجه الشبه استحقاق كل منهم بالنجاة.
(قُلْ يا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ
وَأُمِرْتُ أَنْ
أَكُونَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا
تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ
وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ
يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ
فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ (١٠٧) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ
رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما
يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى
إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩))
الاعراب :
(قُلْ يا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) قل فعل أمر ويا أيها الناس تقدم إعرابها كثيرا وإن
شرطية وكنتم فعل الشرط وهي كان واسمها وفي شك خبرها ومن ديني صفة لشك. (فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ) الفاء رابطة لجواب الشرط ولا نافية وأعبد فعل مضارع
فاعله أنا والذين مفعول أعبد وجملة تعبدون صلة ومن دون الله حال. (وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي
يَتَوَفَّاكُمْ) الواو عاطفة ولكن حرف استدراك لا عمل لها وأعبد فعل
مضارع وفاعله أنا ولفظ الجلالة مفعوله والذي صفة وجملة يتوفاكم صلة. (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ)
الواو عاطفة وأمرت فعل ماض مبني للمجهول والتاء نائب فاعل وأن وما في حيزها
في موضع نصب بنزع الخافض أي بأن أكون والجار والمجرور متعلقان بأمرت واسم أكون
مستتر تقديره أنا ومن المؤمنين خبر أكون. (وَأَنْ أَقِمْ
وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) الواو عاطفة وأن وما في حيزها عطف على ما قبلها كأنه
قيل : وقيل لي وأقم ، ولكن يشكل اعراب المصدر لأن عطفه على أن أكون فيه إشكال
لامتناع عطف الإنشاء على الخبر ولكن سيبويه سوغ أن توصل أن بالأمر والنهي وشبه ذلك
بقولهم أنت الذي تفعل على الخطاب لأن الغرض وصلها بما تكون معه بمعنى المصدر ،
والأمر والنهي دالان على المصدر دلالة غيرهما من الأفعال. وقد لخص البيضاوي ما
أفاض فيه سيبويه قال : «وان أقم عطف على أن أكون غير أن صلة أن محكية بصيغة الأمر
ولا ضير في ذلك لأن مناط جواز وصلها بصيغ كل الأفعال دلالتها على المصدر وذلك لا
يختلف بالخبرية والطلبية ووجوب كون الصلة خبرية في الموصول الاسمي إنما هو للتوصل
الى وصف المعارف بالجمل وهي لا توصف إلا بالجمل الخبرية وليس الموصول الحر في كذلك»
وهو تلخيص لما قاله الزمخشري أيضا وجرى عليه أبو السعود أما غيرهما فاختار أن «أن»
المصدرية وما في حيزها في محل رفع بفعل مقدر أي : وقيل لي ، ولا نرى هذا الرأي.
أما السمين شهاب الدين الحلبي فقال ما نصه : «قوله وأن أقم يجوز أن يكون على إضمار
فعل أي وأوحي إليّ أن أقم ثم لك في أن وجهان أحدهما أن تكون تفسيرية لتلك الجملة
المقدّرة وفيه نظر لأن المفسر لا يجوز حذفه والثاني أن تكون مصدرية فتكون هي وما
في حيزها في محل رفع بذلك الفعل المقدر.
وأقم فعل أمر
ووجهك مفعول به وللدين متعلقان بأقم وحنيفا حال من الدين أو من الوجه. (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الواو عاطفة ولا ناهية وتكونن فعل مضارع مبني لاتصاله
بنون التوكيد في محل جزم بلا واسم تكونن مستتر تقديره أنت ومن المشركين خبرها.
(وَلا تَدْعُ مِنْ
دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ) الواو عاطفة ولا ناهية وتدع مضارع مجزوم بلا والفاعل
أنت ومن دون الله حال وما موصول مفعول به وجملة لا ينفعك صلة وجملة ولا يضرك عطف
على لا ينفعك.
(فَإِنْ فَعَلْتَ
فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) الفاء عاطفة وان شرطية وفعلت في محل جزم فعل الشرط
والفاء رابطة وان واسمها واذن حرف جواب وجزاء مهمل ومن الظالمين خبر إن. (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا
كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) الواو عاطفة وان شرطية ويمسسك فعل الشرط والكاف مفعول
به والله فاعل وبضر جار ومجرور متعلقان بيمسسك والفاء رابطة ولا نافية للجنس وكاشف
اسمها مبني على الفتح وله متعلقان بكاشف والخبر محذوف ويجوز أن يكون له هو الخبر
أي كائن له وإلا أداة حصر وهو بدل من الخبر المحذوف على ما تقدم في «لا إله إلا
الله».
(وَإِنْ يُرِدْكَ
بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) الواو عاطفة وان شرطية ويردك فعل الشرط مجزوم والكاف
مفعول به وبخير متعلقان بيردك والفاء رابطة ولا نافية للجنس وراد اسمها ولفضله
متعلقان براد والخبر محذوف ويجوز أن يكون الجار والمجرور هو الخبر كما تقدم. (يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ
وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) جملة يصيب استئنافية والفاعل هو وبه جار ومجرور متعلقان
بيصيب ومن مفعول يصيب وجملة يشاء صلة ومن عباده حال ، وهو الواو استئنافية وهو
مبتدأ والغفور خبر أول والرحيم خبر ثان. (قُلْ يا أَيُّهَا
النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) قد جاءكم الحق فعل ومفعول به وفاعل ومن ربكم متعلقان
بجاءكم.
(فَمَنِ اهْتَدى
فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) الفاء الفصيحة ومن شرطية أو موصولية مبتدأ واهتدى فعل
الشرط والجملة صلة الموصول والفاء رابطة وانما كافة ومكفوفة ويهتدي فعل مضارع
والفاعل هو ولنفسه متعلقان بيهتدي. (وَمَنْ ضَلَّ
فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) تقدم اعراب مماثلتها.
(وَما أَنَا
عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) الواو استئنافية وما نافية حجازية وأنا اسمها وعليكم
متعلقان بوكيل ووكيل خبر ما الحجازية محلا. (وَاتَّبِعْ ما يُوحى
إِلَيْكَ) الواو استئنافية لاستبعاد عطف الإنشاء على الخبر واتبع
فعل أمر وفاعله أنت وما مفعول به وجملة يوحى صلة وإليك متعلقان بيوحى. (وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ
خَيْرُ الْحاكِمِينَ) واصبر فعل أمر معطوف على اتبع وحتى حرف غاية وجر ويحكم
الله منصوب بأن مضمرة بعد حتى والله فاعله وهو الواو استئنافية وهو مبتدأ وخير
الحاكمين خبره.
سورة هود
مكية وآياتها ثلاث
وعشرون ومائه
(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ
آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا
إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا
رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ
مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ
عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤))
اللغة :
(أُحْكِمَتْ آياتُهُ) : نظمت نظما رصينا محكما لا يعتوره نقض ولا خلل كأنه
البناء المحكم المرصف ويجوز أن يكون نقلا بالهمزة من حكم بضم الكاف أي صار حكيما
وقيل معناه منعت من الفساد
من قولهم أحكمت الدابة إذا وضعت فيها الحكمة لتمنعها من الجماع قال جرير :
أبني حنيفة
أحكموا سفهاءكم
|
|
إني أخاف
عليكم أن أغضبا
|
وقد تقدم بحث
مسهب عن الحكمة في القرآن وسيرد المزيد منها أيضا.
الاعراب :
(الر ، كِتابٌ
أُحْكِمَتْ آياتُهُ) الر تقدم القول فيها وكتاب خبر مبتدأ محذوف أي هذا كتاب
وجملة أحكمت آياته صفة لكتاب وآياته نائب فاعل. (ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ
لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وفصت فعل ماض مبني
للمجهول ومن حرف جر ولدن ظرف مبني على السكون في محل جر وهما متعلقان بفصلت أو
بمحذوف صفة لكتاب وهذا أولى لأنه وصف أولا بإحكام آياته وتفصيلها الدالين على علو
رتبته من حيث الذات ثم وصف بهذه الصفة الدالة على علو شأنه من حيث الاضافة ، وحكيم
مضاف الى لدن وخبير صفة لحكيم. (أَلَّا تَعْبُدُوا
إِلَّا اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) يجوز أن تكون أن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن
ولا ناهية وتعبدوا مجزوم بلا والجملة خبر أن المخففة ، ويجوز أن تكون أن حرفا
مصدريا ناصبا ولا نافية والفعل بعدها منصوب بأن وأن وما في حيزها مفعول لأجله
بتقدير اللام على معنى لئلا تعبدوا ويجوز أن تكون تفسيرية لأن في تفصيل الآيات
معنى القول كأنه قيل : قال لا تعبدوا إلا الله أو أمركم أن لا تعبدوا إلا الله
ولعل هذا أسهل من الوجهين السابقين وإن كانت
الأوجه الثلاثة متساوية في الرجحان ، وإلا أداة حصر ولفظ الجلالة مفعول به
وإن واسمها ونون الوقاية بينهما ولكم جار ومجرور متعلقان بنذير وبشير ومنه حال
ونذير خبر إن وبشير عطف على نذير. (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا
رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) الواو عاطفة وأن معطوفة على أن الأولى عطف علة على أخرى
وتجري مجراها في الاعراب وربكم مفعول استغفروا ثم حرف عطف وتوبوا عطف على أن
استغفروا فهو علة ثالثة وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون «وأن استغفروا» وما بعده
كلاما مبتدأ منقطعا عما قبله على لسان النبي صلى الله عليه وسلم إغراء منه على
اختصاص الله بالعبادة ويدل عليه قوله : إنني لكم منه نذير وبشير. (يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى
أَجَلٍ مُسَمًّى) يمتعكم فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب وهو قوله إن
استغفروا ربكم والكاف مفعول به ومتاعا مفعول مطلق وحسنا صفة والى أجل متعلقان
بيمتعكم ومسمى صفة لأجل. (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي
فَضْلٍ فَضْلَهُ) الواو عاطفة ويوت عطف على يمتعكم مجزوم مثله وعلامة
جزمه حذف حرف العلة والفاعل هو أي الله وكل مفعول به أول وذي فضل مضاف اليه وفضله
مفعول به ثان. (وَإِنْ تَوَلَّوْا
فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) الواو عاطفة وإن شرطية وتولوا فعل مضارع أصله تتولوا
مجزوم لأنه فعل الشرط والواو فاعل والفاء رابطة وان واسمها وجملة أخاف عليكم خبر
إن وجملة فإني أخاف عليكم في محل جزم جواب الشرط وعذاب مفعول به ويوم مضاف اليه
وكبير صفة ليوم ويوم القيامة وصف بالكبر كما وصف بالعظم والثقل. (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الى الله خبر مقدم ومرجعكم مبتدأ مؤخر وهو مبتدأ وعلى
كل شيء جار ومجرور متعلقان بقدير وقدير خبر هو.
سورة الهود
مكية وآياتها ثلاث وعشرون ومائة
بسم الله الرحمن
الرحيم
(أَلا إِنَّهُمْ
يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ
يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥)
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ
مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦) وَهُوَ الَّذِي
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى
الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ
مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ
سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ
مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ
مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨))
اللغة :
(يَثْنُونَ) : الثني : العطف تقول ثنيته عن كذا أي عطفته ومنه
الاثنان لعطف أحدهما على الآخر في المعنى ومنه الثناء لعطف المناقب في المدح ومنه
الاستثناء لأنه عطف عليه بالإخراج منه ، وأصل يثنون يثنيون لأنه من باب يرمي
فالمصدر الثني نقلت ضمة الياء الى النون قبلها ثم حذفت لالتقاء الساكنين فوزنه
يعفون لأن الياء المحذوفة هي لام الكلمة
وقال الزمخشري : يثنون عنه : يزورون عن الحق وينحرفون عنه لأن من أقبل على
الشيء استقبله بصدره ومن ازورّ عنه وانحرف ثنى عنه صدره وطوى عنه كشحه.
(لِيَسْتَخْفُوا) : الاستخفاء : طلب خفاء الشيء قال استخفى وتخفّى.
(يَسْتَغْشُونَ) : يطلبون الغطاء قالت الخنساء.
أرعى النجوم
وما كلفت رعيتها
|
|
وتارة أتغشّى
فضل اطماري
|
وفي القاموس :
واستغشى ثوبه تغطّى به كيلا يسمع ولا يرى.
(الدابة) :
الحي الذي من شأنه أن يدب ، وقد صار في العرف مختصا بنوع من الحيوان ، وفي المصباح
: دب الصغير يدّب من باب ضرب ، إذا مشى ودب الجيش دبيبا سار سيرا لينا ، وكل حيوان
في الأرض دابة.
الاعراب :
(أَلا إِنَّهُمْ
يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) ألا أداة استفتاح وتنبيه وإن واسمها وجملة يثنون صدورهم
خبرها واللام للتعليل ويستخفوا مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام. (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ
يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) ألا تأكيد للتنبيه وحين ظرف والعامل فيه مقدر وهو
يستخفون ويجوز أن يكون ظرفا ليعلم أي ألا يعلم سرهم وعلنهم حين يفعلون كذا وجملة
يستغشون مضافة للظرف وثيابهم منصوب بنزع الخافض ويعلم فعل مضارع وفاعله هو الله
وما مفعول به وجملة يسرون صلة وما يعلنون عطف عليه. (إِنَّهُ
عَلِيمٌ
بِذاتِ الصُّدُورِ) إن واسمها وخبرها وبذات الصدور متعلقان بعليم. (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ
إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان كونه تعالى محيطا بجميع
الكائنات عالما بكل ما هب ودب ، وما نافية ومن زائدة ودابة مبتدأ محلا مجرور بمن
لفظا وإلا أداة حصر وعلى الله خبر مقدم ورزقها مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر
دابة. (وَيَعْلَمُ
مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها) الواو حرف عطف ويعلم فعل مضارع وفاعله هو ومستقرها
مفعول يعلم ومستودعها عطف على مستقرها وهما اسما مكان أي يعلم مواضع استقرارها
ومساكنها ومواطن استيداعها من صلب أو رحم أو بيضة. (كُلٌّ فِي كِتابٍ
مُبِينٍ) كل مبتدأ وساغ الابتداء به لما فيه من معنى العموم أي
كل واحد من الدواب وستأتي أحكام «كل» في باب الفوائد ، وفي كتاب خبر ومبين صفة. (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) الواو عاطفة وهو مبتدا والذي خبر وجملة خلق السموات
والأرض صلة وفي ستة أيام متلقان بخلق. (وَكانَ عَرْشُهُ
عَلَى الْماءِ) كان واسمها وعلى الماء خبرها وفي الصورة تجسيد للاحاطة.
(لِيَبْلُوَكُمْ
أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) اللام للتعليل ويبلوكم مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام
التعليل ولام التعليل الجارة ومدخولها متعلقان بخلق وأيكم مبتدأ وأحسن خبر وعملا
تمييز والجملة في محل نصب معمولة ليبلوكم وعلق عنها بأي الاستفهامية ، وقد أحسن
الزمخشري في تقريره إذ قال : «فإن قلت كيف جاز تعليق فعل البلوى؟ قلت لما في
الاختبار من معنى العلم لأنه طريق اليه فهو ملابس له كما تقول انظر أيهم أحسن وجها
واستمع أيهم أحسن صوتا لأن النظر والاستماع من طرق العلم. (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ
مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم ولا يجوز أن تكون
للابتداء لأنها دخلت على إن التي هي للجزاء ولام
الابتداء من خصائص الاسم أو ما يضارع الاسم وإن حرف شرط جازم وقلت فعل ماض
في محل جزم فعل الشرط وإن واسمها ومبعوثون خبرها ومن بعد الموت متعلقان بمبعوثون. (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ
هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) اللام جواب القسم وجواب الجزاء مستغنى عنه بجواب القسم
لأنه إذا جاء في صدر الكلام غلب عليه وقد تقدم ذلك ، ويقولن فعل مضارع مبني على
الفتح لاتصاله بنون التوكيد والجملة لا محل لها لأنها جواب القسم كما تقدم وإن
نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وسحر خبر ومبين صفة وسيأتي بحث اللام وأقسامها في
باب الفوائد. (وَلَئِنْ أَخَّرْنا
عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) لئن عطف على ما تقدم وقد تقدم إعراب لئن وعنهم متعلقان
بأخرنا والعذاب مفعول به والى أمة متعلقان بأخرنا والمراد بالأمة الطائفة من
الأزمنة وهي في الأصل للطائفة من الناس ومعدودة صفة الأمة. (لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ) اللام جواب القسم ويقولن فعل مضارع مرفوع لأنه مفصول عن
نون التوكيد بفاصل وهو واو الجماعة المحذوفة لالتقاء الساكنين والأصل ليقولوننّ
حذفت إحدى النونات لتوالي الأمثال وحذفت الواو لالتقاء الساكنين والضمة على اللام
دليل عليها وقد تقدم تحقيق ذلك وأعدناه للتذكير وما اسم استفهام مبتدأ وجملة يحبسه
خبر والاستفهام للانكار والاستهزاء والسخرية حسب اعتقادهم. (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ
مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) ألا أداة استفهام وتنبيه وهي داخلة على ليس في المعنى
ويوم يأتيهم نصب على الظرف وهو معمول لخبر ليس واسمها مستتر فيها يعود على العذاب
ومصروفا خبر ليس وعنهم جار ومجرور متعلقان بمصروفا وستأتي الاشارة إلى جواز تقديم
خبر ليس عليها في باب الفوائد. (وَحاقَ بِهِمْ ما
كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) الواو عاطفة وجملة حاق عطف على جملة ليس فهو في حيز ألا
وبهم متعلقان
بحاق وما فاعل حاق وجملة كانوا صلة والواو اسم كان وبه متعلقان بيستهزئون
وجملة يستهزئون خبر كانوا.
الفوائد :
١ ـ (كُلٌّ) اسم موضوع لاستغراق أفراد المتعدد أو لعموم أجزاء
الواحد ولا تستعمل إلا مضافة لفظا أو تقديرا وتقيد التكرار بدخول ما المصدرية
الظرفيّة عليها نحو كلما أتاك أكرمه وقد تقدم في كلما عند قوله «كلما رزقوا منها
من ثمرة رزقا» وأنها منصوبة على الظرفية باتفاق وناصبها الفعل الذي هو جواب في
المعنى والجملة بعدها لا محل لها لانها صلة موصول حرفي وتكون «كل» نعتا لنكرة أو
معرفة فتدل على أنه كامل بلغ الغاية فيما تصفه به نحو هو العالم كل العالم وتكون
توكيدا لمعرفة أو نكرة نحو «فسجد الملائكة كلهم» وأقمنا حولا كاملا كله ولفظة كل
حكمها الافراد والتذكير ومعناها بحسب ما تضاف اليه فإن أضيف إلى مذكر وجب مراعاة
معناها وجاء الضمير بعدها مفردا مذكرا «وكل شيء فعلوه في الزبر» أو مفردا مؤنثا
نحو «كل نفس ذائقة الموت» أو مثنى كقول الفرزدق :
وكل رفيقي كل
رحل وإن هما
|
|
تعاطى القنا
قوما هما اخوان
|
ولابن هشام
تعسف وخبط في إعراب هذا البيت نكتفي بالاشارة إليه ليرجع اليه من شاء في مغني
اللبيب.
أو مجموعا
مذكرا كقول لبيد :
وكل أناس سوف
تدخل بينهم
|
|
دويهية تصفر
منها الأنامل
|
أو مجموعا
مؤنثا كقول الآخر :
وكل مصيبات
الزمان وجدتها
|
|
سوى فرقة
الأحباب هينة الخطب
|
وإن أضيفت إلى
معرفة جاز مراعاة لفظها ومراعاة معناها فيقال :كل القوم حضر وكل القوم حضروا وإن
قطعت عن الاضافة لفظا فقيل تجوز مراعاة اللفظ ومراعاة المعنى نحو كل حضر وكل حضروا
وقيل إذا كان المقدر مفردا نكرة فيجب الإفراد وان كان جمعا معرفا فيجب الجمع ،
والتنوين في المنقطعة عن الإضافة لفظا عوض عن المضاف اليه والتقدير في المثال
الأول كل أحد وفي الثاني كلهم وإن وقعت كل بعد النفي ثابتا لبعض الأفراد نحو ما
جاء كل القوم وإن وقع النفي بعدها ثبت لكل فرد نحو كلهم لم يقوموا ولا تدخلها أل
إلا إذا كانت عوضا عن المضاف اليه أو أريد لفظها كما يقال الكل لا حاطة الأفراد.
٢ ـ اللام :
اللام على ثلاثة أقسام : عاملة للجر وعاملة للجزم وغير عاملة.
وأقسامها :
ا ـ اللام
الجارة : تكون مكسورة مع الاسم الظاهر نحو لزيد إلا مع المستغاث المباشر ل «يا»
فهي مفتوحة نحو يا لله وتكون مفتوحة مع الضمير إلا مع الياء فهي مكسورة نحو لك
ولي.
واللام الجارة
قسمان :
آ ـ اللام
الداخلة على الاسم ولها معان كثيرة مذكورة في كتب النحو المطولة وأشهرها الاختصاص
نحو «الجنة للمؤمن» والاستحقاق نحو «العزة لله» والملك نحو «لله ما في السموات وما
في الأرض» والتبليغ نحو «قلت له» والتعدية نحو «ما أشد حب زيد لعمرو» والقسم نحو «لله
لأفعلن هذا» أي والله والصيرورة نحو «ولد
الإنسان لحياة أبدية» وتأتي أيضا بمعنى الى وعلى وعند وفي وبعد ، وقد تكون
زائدة نحو ضربت لزيد.
ب ـ أما اللام
الداخلة على الفعل فإن الفعل بعدها ينصب بأن المصدرية مضمرة وتكون أن وما في حيزها
في تأويل مصدر مجرور باللام وهذه تكون أما للتعليل نحو «جئتك لتعلمني» وإما
للصيرورة نحو «فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا» وأما لتوكيد النفي وهي
المسبوقة بكون منفي وتسمى لام الجحود نحو ما كان زيد ليكذب.
٢ ـ اللام
الجازمة : وهي لام الأمر وتسمى لام الطلب وتكون مكسورة نحو «لينفق ذو سعة من سعته»
وقد تفتح ، وإسكانها بعد الفاء والواو أكثر من تحريكها نحو «فليستجيبوا لي
وليؤمنوا بي» وقد تسكن بعد ثم نحو «ثم ليقض».
٣ ـ غير
العاملة : وتكون مفتوحة أبدا وهي :
آ ـ لام
الابتداء نحو «لزيد قائم» و «إن زيدا لقائم» وتسمى بعد إن : اللام المزحلقة.
ب ـ لام الجواب
بعد لو ولو لا والقسم نحو «لو عدتم لعدنا» و «لو لا زيد لهلكنا» و «والله لزيد
كريم».
ج ـ اللام
الزائدة كما في قوله «أراك لشاتمي».
د ـ لام البعد
اللاحقة لأسماء الاشارة وأصلها السكون كما في تلك وإنما كسرت مع ذلك لالتقاء
الساكنين.
٣ ـ ليس واسمها
وخبرها :
تختص ليس من
بين أخوات كان بأمور :
١ ـ ليس فعل لا
يتصرف بحال لأنها وضعت موضع الحرف في أنها لا يفهم معناها إلا مع متعلقها.
٢ ـ لا يجوز أن
يتقدم خبرها عليها عند جمهور النحاة وأجازه بعضهم من قدماء البصريين والفراء وابن
برهان والزمخشري من المتأخرين بقوله تعالى «ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم»
وتقرير الحجة منه أن يوم يأتيهم معمول لمصروفا وقد تقدم على ليس وتقديم المعمول لا
يصح إلا حيث يصح تقديم عامله فلو لا أن الخبر وهو مصروفا يجوز تقديمه على ليس لما
جاز تقديم معموله عليها وأجيب بأن المعمول ظرف فيتسع فيه ما لا يتسع في غيره أو
بأن يوم معمول المحذوف تقديره يعرفون يوم يأتيهم ، وليس مصروفا جملة حالية مؤكدة
أو مستأنفة وقال أبو حيان «وقد تتبعت جملة من دواوين العرب فلم أظفر بتقديم خبر
ليس عليها ولا بتقديم معموله إلا ما دل عليه ظاهر الآية».
٤ ـ تعقيب لابن
هشام على الزمخشري في تعليقه على قوله تعالى :«ليبلوكم أيكم أحسن عملا» وقد اضطرب
كلام الزمخشري ثم أورد ما نقلناه عنه وقال : «ولم أقف على تعليق النظر البصري
والاستماع إلا من جهته».
وذكر الرضي أن
أفعال الحواس تعلق لأنها طرق للعلم وقال عبد القادر البغدادي في شرح شواهده على
الكافية : إن كتاب الرضي لم ينقل للقاهرة إلا بعد موت ابن هشام فكذلك قال ولم أقف
إلخ ...
(وَلَئِنْ أَذَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ
(٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ
السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١))
الاعراب :
(وَلَئِنْ أَذَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً) تقدم القول في لئن وأذقنا فعل ماض في محل جزم فعل الشرط
ونا فاعل والإنسان مفعول به ومنّا حال لأنه كان في الأصل صفة لرحمة وتقدمت عليها
ورحمة مفعول به ثان.
(ثُمَّ نَزَعْناها
مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ) ثم حرف عطف للترتيب والتراخي ونزعناها فعل وفاعل ومفعول
به ومنه جار ومجرور متعلقان بنزعناها وان واسمها واللام المزحلقة ويئوس خبر إن
وكفور خبر ثان لإن.
(وَلَئِنْ أَذَقْناهُ
نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) تقدم اعراب مثيلتها وبعد ظرف متعلق بمحذوف صفة لنعماء
وضراء مضاف اليه ومنع من الصرف لانتهائه بألف التأنيث الممدودة وجملة مسته صفة. (لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ
عَنِّي) اللام جواب القسم وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم
ويقولن فعل مضارع مبني على الفتح وجملة ذهب السيئات مقول القول وعني متعلقان بذهب.
(إِنَّهُ لَفَرِحٌ
فَخُورٌ) إن واسمها واللام المزحلقة وفرح خبر أول وفخور خبر ثان
لإن. (إِلَّا الَّذِينَ
صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) إلا أداة
استثناء والذين مستثنى من الإنسان لأن اللام فيه للجنس فهو متصل ويجوز أن
يكون استثناء منقطعا إذ المراد شخص معين وعلى كل حال هو في محل نصب وجملة صبروا
صلة وعملوا الصالحات معطوفة ، وأولئك مبتدأ ولهم خبر مقدم ومغفرة مبتدأ مؤخر
والجملة الاسمية خبر أولئك.
البلاغة :
١ ـ في الاذاقة
استعارة مكنية لأنه في الأصل تناول الشيء بالفم لإدراك الطعام ثم استعير للذات
تشبيها لها بما يذاق ثم يزول بسرعة كما تزول الطعوم.
٢ ـ بين
النعماء والضراء طباق وجميع هذه الأبحاث تقدم البحث فيها.
الفوائد :
السراء
والنعماء والضراء قيل انها مصادر بمعنى المسرة والنعمة والمضرة والصواب انها أسماء
للمصادر وليست أنفسها فالسراء الرخاء والنعماء النعمة والضراء الشدة فهي أسماء
لهذه المعاني فإذا قلنا إنها مصادر كانت عبارة عن نفس الفعل الذي هو المعنى وإذا
كانت أسماء لها كانت عبارة عن المحصّل لهذه المعاني.
(فَلَعَلَّكَ تارِكٌ
بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ
عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى
كُلِّ
شَيْءٍ
وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ
مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ
بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤))
اللغة :
(ضائِقٌ) : اسم فاعل من ضاق وهو أولى بالآية من ضيق لوجهين
أحدهما انه عارض وليس على جهة الثبوت وثانيهما أنه أشبه بتارك.
الاعراب :
(فَلَعَلَّكَ تارِكٌ
بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) الفاء استئنافية. ولعل على بابها من الترجي بالنسبة
للمخاطب وقيل هي للاستفهام الانكاري كقوله صلى الله عليه وسلم لعلنا أعجلناك
وسيأتي القول في لعل في باب الفوائد ، والكاف اسمها وتارك خبرها وبعض مفعول به
لتارك وما اسم موصول مضاف لبعض وجملة يوحى صلة وإليك متعلقان بيوحى أو بمحذوف حال
وضائق عطف على تارك وبه متعلقان بضائق وصدرك فاعل لضائق ويجوز أن يكون ضائق خبرا
مقدما وصدرك مبتدأ مؤخرا والجملة خبر ثان للعلك فيكون قد أخبر بخبرين أحدهما مفرد
والثاني جملة عطفت على مفرد لأنها بمعناه.
(أَنْ يَقُولُوا لَوْ
لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) أن وما في حيزها
مصدر في موضع نصب مفعول من أجله أي مخافة قولهم وأعربه بعضهم بدلا من الهاء
في قوله وضائق به صدرك وليس ببعيد ولو لا تحضيضية وأنزل فعل ماض مبني للمجهول
وعليه جار ومجرور متعلقان به وكنز نائب فاعل ، أو حرف عطف وجاء فعل ماض ومعه ظرف
متعلق بجاء وملك فاعل. (إِنَّما أَنْتَ
نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) إنما كافة ومكفوفة وأنت مبتدأ ونذير خبره والله مبتدأ
وعلى كل شيء متعلقان بوكيل ووكيل خبر الله. (أَمْ يَقُولُونَ
افْتَراهُ) أم منقطعة بمعنى بل ويقولون فعل مضارع مرفوع بثبوت
النون وجملة افتراه مقول القول وهو تقرير في صورة الاستفهام والتقدير بل أيقولون
افتراه.
(قُلْ فَأْتُوا
بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) الفاء الفصيحة وأتوا فعل أمر وفاعل وبعشر متعلقان به
وسور مضاف اليه ومثله صفة ، ومثل وان كانت بلفظ الافراد فانها يوصف بها المثنى
والمجموع والمؤنث كقوله تعالى «أنؤمن لبشرين مثلنا» وتجوز المطابقة ، قال تعالى : «وحور
عين كأمثال اللؤلؤ المكنون». (وَادْعُوا مَنِ
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) وادعوا عطف على فأتوا والواو فاعل ومن مفعول به وجملة
استطعتم صلة ومن دون الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وإن شرطية وكنتم كان
واسمها وهو فعل الشرط وصادقين خبر كنتم وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي
فأتوا وادعوا. (فَإِلَّمْ
يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) الفاء عاطفة وإن شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم ويستجيبوا
مجزوم بلم وهو فعل الشرط والواو فاعل والضمير يعود على من استطعتم ولكم متعلقان بيستجيبوا
والفاء رابطة واعلموا فعل أمر وفاعل وأنما كافة ومكفوفة وقد سدت مع مدخولها مسد
مفعولي اعلموا وأنزل فعل ماض مبني للمجهول وبعلم الله حال أي متلبسا بعلم الله
فالباء للملابسة. (وَأَنْ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ فَهَلْ
أَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ) وأن الواو عاطفة وأن مخففة من الثقيلة وهي منسوقة على
أن قبلها ولا إله إلا هو تقدم إعرابه مستوفى والفاء عاطفة وهل حرف استفهام وأنتم
مبتدأ ومسلمون خبر.
الفوائد :
(لعل) هي
للتوقع وعبر عنه قوم بالترجي في الشيء المحبوب نحو لعل الحبيب قادم وقوله تعالى «لعل
الله يحدث بعد ذلك أمرا» والإشفاق في الشيء المكروه نحو «فلعلك باخع نفسك» أي قاتل
نفسك والمعنى أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة على ما فاتك من اسلام قومك فتوقع
المحبوب يسمى ترجيا وتوقع المكروه يسمى إشفاقا وقال الأخفش والكسائي : وتأتي لعل
للتعليل نحو «افرغ من عملك لعلنا نتغدى» ومنه قوله تعالى : «لعله يتذكر» أي ليتذكر
وقال الكوفيون تأتي لعل للاستفهام ، قال في المغني ولهذا علق به الفعل نحو «لا
تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا» وقوله تعالى «وما يدريك لعله يزكى» وبعض العرب
يجرون بها ويستشهدون على ذلك بقوله :
فقلت ادع
أخرى وارفع الصوت جهرة
|
|
لعل أبي
المغوار منك قريب
|
إذا عرفت ما
قرره النحاة فأي من معاني لعل ينطبق على الآية التي نحن بصددها؟ إذا كانت للتوقع
فتوقع ترك التبليغ لا يليق بمقام النبوة وأجابوا عن هذا الاعتراض بأننا لا نسلم أن
لعل على بابها من الترجي بل هي هنا للتبعيد فانها تستعمل لذلك أيضا وجواب آخر وهو
أن
تكون هنا للاستفهام الانكاري كما تقدم والمعنى انك بلغ الجهد في تبليغهم
انهم يتوقعون منك ترك التبليغ لبعضه وهو جميل جدا.
(مَنْ كانَ يُرِيدُ
الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ
فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ
إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦))
اللغة :
(وَزِينَتَها) الزينة تحسين الشيء بغيره من لبسة أو حلية أو هيئة ،
يقال زانه يزينه زينة وزيّنه يزينه تزيينا.
(نُوَفِّ) : التوفية تأدية الحق على التمام.
(يُبْخَسُونَ) : البخس نقصان الحق وكل ظالم باخس وفي المثل «تحسبها
حمقاء وهي باخس».
الاعراب :
(مَنْ كانَ يُرِيدُ
الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ
فِيها لا يُبْخَسُونَ) من اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ واسم كان ضمير مستتر
يعود على من وجملة يريد الحياة الدنيا خبر كان وكان فعل الشرط مجزوم محلا وزينتها
عطف على الحياة ونوفّ جواب الشرط مجزوم بحذف حرف العلة وإليهم جار ومجرور متعلقان
بنوفّ وأعمالهم
مفعول به وفيها متعلقان بمحذوف حال وهم الواو حالية وهم مبتدأ وفيها
متعلقان بيبخسون وجملة لا يبخسون خبر هم ، وقال الفراء : كان هنا زائدة وتقديره من
يرد الحياة الدنيا ، وهو قول جميل وضريف لو لا أنه غير مطرد ولا يسوغ حمل القرآن
عليه. (أُولئِكَ الَّذِينَ
لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) اسم الاشارة مبتدأ والذين خبره وجملة ليس صلة ولهم خبر
مقدم لليس وفي الآخرة حال وإلا أداة حصر والنار اسم ليس المؤخر. (وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما
كانُوا يَعْمَلُونَ) الواو عاطفة وحبط فعل ماض وما فاعله وجملة صنعوا صلة
ويجوز أن تكون ما مصدرية وهي مع مدخولها في تأويل مصدر فاعل حبط ، وفيها متعلقان
بصنعوا أو بحبط وباطل الواو عاطفة وباطل خبر مقدم وما اسم موصول مبتدأ مؤخر ويجوز
أن تكون ما مصدرية وهي مع مدخولها في تأويل مصدر مبتدأ مؤخر وكانوا كان واسمها
وجملة يعملون خبرها.
(أَفَمَنْ كانَ عَلى
بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى
إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ
الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧) وَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى
رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا
لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ
وَيَبْغُونَها
عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا
مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ
يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا
يُبْصِرُونَ (٢٠) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما
كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ
(٢٢))
اللغة :
(البينة) :
الحجة الفاصلة بين الحق والباطل.
(مِرْيَةٍ) : المرية بالكسر والضم الشك ففيها لغتان أشهرهما الكسر
وهي لغة أهل الحجاز والضم لغة بني أسد.
(لا جَرَمَ) : قال السيوطي في الإتقان : «وردت في القرآن في خمسة
مواضع متلوة بأن واسمها ولم يجىء بعدها فعل واختلف فيها فقيل لا نافية لما تقدم
وقيل زائدة».
هذا وفي هذه
اللفظة خلاف طويل بين النحاة ويتلخص ذلك الخلاف فيما يلي :
الأول : ما ذهب
اليه الخليل وسيبويه وهو انها مركبة من لا النافية وجرم ، بنيتا على تركيبهما
تركيب خمسة عشر وصار معناهما معنى فعل وهو حق فعلى هذا يرتفع ما بعدهما بالفاعلية
فقوله تعالى :
«لا جرم أن لهم النار» أي حق وثبت كون النار لهم أو استقرارها لهم.
الثاني : ان لا
جرم بمنزلة لا رجل في كون لا نافية للجنس وجرم اسمها مبني على الفتح وهي واسمها في
موضع رفع بالابتداء وما بعدهما خبر لا وصار معناها لا محالة ولا بد في أنهم في
الآخرة أي في خسرانهم وهذا مذهب الفراء.
الثالث : ان لا
نافية لكلام متقدم تكلم به الكفرة فرد الله عليهم ذلك بقوله لا ، كما ترد هذه قبل
القسم في قوله «لا أقسم» ثم أتى بعدها بجملة فعلية وهي جرم أن لهم كذا وجرم فعل
ماض معناه كسب وفاعله مستتر يعود على فعلهم المدلول عليه بسياق الكلام وأن وما في
حيزها في موضع المفعول به لأن جرم يتعدى إذا كان بمعنى كسب وعلى هذا فالوقف على لا
ثم يبتدأ بجرم بخلاف ما تقدم.
الرابع : ان
معناها لا حد ولا منع ويكون جرم بمعنى القطع تقول : جرمت أي قطعت فيكون جرم اسم لا
مبنيا معها على الفتح كما نقدم وخبرها أن وما في حيزها على حذف حرف الجر أي لا منع
من خسرانهم.
وفي هذه اللفظة
لغات : لا جرم بكسر الجيم ولا جرم بضمها ولا جر بحذف الميم ولا ذا جرم ولا ذو جرم
وغير ذلك وعلى كل فإن هذا التعبير يستعمل في أمر يقطع عليه ولا يرتاب فيه.
الاعراب :
(أَفَمَنْ كانَ عَلى
بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) الهمزة للاستفهام التقريري والفاء
استئنافية ومن موصولية مبتدأ خبره محذوف تقديره كغيره أو كمن ليس كذلك
وجواب الاستفهام محذوف أيضا تقديره : لا يستويان وكان فعل ماض ناقص واسمها مستتر
يعود على من وعلى بينة خبرها ومن ربه صفة لبينة. (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ
مِنْهُ) الواو عاطفة ويتلوه شاهد فعل مضارع ومفعول به وفاعل
ومنه صفة لشاهد. (وَمِنْ قَبْلِهِ
كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً) الواو عاطفة أيضا ومن قبله حال من كتاب موسى المعطوف
على شاهد عطف المفردات ، هذا ما أعربه معظم المفسرين وأرى أن الحق مع البيضاوي
الذي أعرب من قبله جارا ومجرورا متعلقين بمحذوف خبر مقدم وكتاب موسى مبتدأ مؤخرا
ففي هذا الاعراب سلامة من المعاظلة الناشئة عن الفصل بين حرف العطف والمعطوف عليه
وإماما حال من كتاب موسى ورحمة عطف على إماما. (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ
بِهِ) أولئك مبتدأ وجملة يؤمنون به خبر. (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ
فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) الواو عاطفة ومن شرطية مبتدأ ويكفر فعل الشرط وبه
متعلقان بيكفر ومن الأحزاب حال والفاء رابطة والنار مبتدأ وموعده خبر والجملة
الاسمية جواب الشرط. وفي جعل النار موعدا إشعار بأن فيها ما لا يحيط به الوصف من
أفانين العذاب ، وقد تعلق حسان بأهداب هذا التعبير فقال :
أوردتموها
حياض الموت ضاحية
|
|
فالنار
موعدها والموت لا قيها
|
(فَلا
تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) الفاء الفصيحة ولا ناهية وتك فعل مضارع مجزوم وعلامة
جزمه السكون المقدرة على النون المحذوفة للتخفيف واسم تك مستتر تقديره أنت وفي
مرية خبر ومنه صفة لمرية (إِنَّهُ الْحَقُ
مِنْ
رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) إن واسمها والحق خبرها ومن ربك متعلقان بمحذوف حال
والواو حالية ولكن واسمها والناس مضاف اليه وجملة لا يؤمنون خبر لكن. (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى
اللهِ كَذِباً) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لذكر أوصافهم
الأربعة عشر والتي أولها افتراء الكذب وآخرها كونهم في الآخرة أخسر من غيرهم ، ومن
استفهامية مبتدأ والاستفهام هنا معناه النفي أي لا أحد أظلم وممن متعلقان بأظلم
وجملة افترى صلة وعلى الله متعلقان بافترى وكذبا مفعول به. (أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ) أولئك مبتدأ وجملة يعرضون خبره والواو نائب فاعل وعلى
ربهم متعلقان بيعرضون.
(وَيَقُولُ
الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى
الظَّالِمِينَ) ويقول عطف على يعرضون والأشهاد فاعل وهؤلاء مبتدأ
والذين خبره وجملة كذبوا على ربهم صلة الموصول وألا أداة تنبيه ولعنة الله مبتدأ
وعلى الظالمين خبر. (الَّذِينَ يَصُدُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً) الذين بدل من الظالمين وجملة يصدون صلة وعن سبيل الله
متعلقان بيصدون ويبغونها عطف على يصدون وهو فعل وفاعل ومفعول وعوجا حال أي معوجة. (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) الواو عاطفة وهم مبتدأ وبالآخرة متعلقان بكافرون وهم
الثانية تأكيد لهم الأولى وكافرون خبر «هم» الأولى. (أُولئِكَ لَمْ
يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أولئك مبتدأ وجملة لم يكونوا خبر ومعجزين خبر يكونوا
وفي الأرض حال أي أنهم لا يخرجون عن قبضته على كل حال. (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ
أَوْلِياءَ) الواو عاطفة وما نافية وكان فعل ماض ناقص ولهم خبر كان
المقدم ومن دون الله حال ومن حرف جر زائد وأولياء اسم كان محلا. (يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا
يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) يضاعف فعل مضارع مبني للمجهول ولهم متعلقان به
والعذاب نائب فاعل والجملة مستأنفة ، وما نافية وكانوا كان واسمها وجملة
يستطيعون السمع خبر كان والسمع مفعول به وجملة ما كانوا يستطيعون السمع تعليل
لمضاعفة العذاب وجملة وما كانوا يبصرون عطف على ما كانوا يستطيعون السمع وسيرد في
باب البلاغة معنى هذا الكلام. (أُولئِكَ الَّذِينَ
خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أولئك مبتدأ والذين خبر وجملة خسروا أنفسهم صلة وضل عنهم
عطف وما فاعل ضل وجملة كانوا يفترون صلة (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ
فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) لا نافية وجرم فعل ماض وأنهم : أن وما في حيزها في محل
رفع فاعل جرم وقد تمشينا على مذهب سيبويه والخليل وانظر باب اللغة وفي الآخرة حال
وهم ضمير فصل أو مبتدأ والأخسرون خبر أن أو خبرهم والجملة خبر أن ، وقد تقدمت
لضمير الفصل نظائر.
البلاغة :
في قوله تعالى «ما
كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون» تشبيه تمثيلي لأنه تشبيه مركب بمركب شبههم
في فرط تصامهم عن استماع الحق ونبو أسماعهم عنه بمن لا يستطيع السمع وذلك لوجوه عديدة
:
أولها : يضاعف
لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع فلا يسمعون وبما كانوا يستطيعون الابصار فلا
يبصرون عنادا واصرارا منهم على الخطل والصدوف عن الحق وهذا يقضي أن تكون ما مصدرية
والمصدر المؤول منصوب بنزع الخافض وهو الباء على حد قول الشاعر :
نغالي اللحم للأضياف
نيا
|
|
وتبذله إذا
نضج القدور
|
أراد نغالي
باللحم وقد ذهب إلى هذا المذهب الفراء.
وثانيها : انه
لاستثقالهم استماع آيات الله وكراهتهم تذكرها وتفهمها جروا مجرى من لا يستطيع
السمع وان أبصارهم لم تنفعهم مع اعراضهم عن نذر الآيات فكأنهم لم يبصروا. ومما
يجري هذا المجرى قول الأعشى في مطلع معلقته :
ودّع هريرة
إنّ الرّكب مرتحل
|
|
وهل تطيق
وداعا أيّها الرّجل
|
ومن المعلوم أن
الأعشى كان يقدر على الوداع وإنما نفى الطاقة عن نفسه من حيث الكراهية والاستثقال.
وثالثها ـ ان
ما هنا ظرفية مصدرية تجري مجرى سأذكرك ما حييت والمعنى أنهم معذبون ما داموا
أحياء.
(إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ
الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى
وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا
تَذَكَّرُونَ (٢٤))
اللغة :
(أَخْبَتُوا) سكنوا واطمأنوا وأنابوا ، والإخبات الطمأنينة وأصله
الاستواء من الخبت وهو الأرض المطمئنة المستوية الواسعة فكأن الإخبات خشوع
مستمر على استواء فيه وهو يتعدى بالى وباللام فإذا قلت أخبت فلان إلى كذا فمعناه
اطمأن اليه وإذا قلت أخبت له فمعناه خشع وخضع. وللخاء والباء فاء وعينا للكلمة
خاصة غريبة إذ أن الكلمة تدل على معنى التغطية والستر والخفاء أو ما هو قريب من
ذلك أو بيت إليه بصلة ، فقولهم خبأ الشيء ستره وأخفاه وله خبيئة خبأها ليوم حاجة
ومن أمثالهم «لا مخبأ لعطر بعد عروس» والله يخرج الخبء وخبّات الجارية وجارية
مخبّاة ونساء مخبآت وخبّ الرجل نزل المنهبط من الأرض ليجهل منزله وخبّ الفرس خبا
وخبيبا راوح في عدوه بين يديه ورجليه ، والخب بكسر الخاء الخداع وهو إخفاء المكر
وفي حديث عمر بن الخطاب «ما تكلم أحد بالفارسية إلا خبّ وما خبّ إلا ذهبت مروءته»
وخبث فلان ضد طاب والخبيث يضمر خلاف ما يظهر وخبر الشيء علمه عن تجربة أي نفذ إلى
دخائله واستوضحها ، وخبز الخبز معروف وإيداعه إلى اخفائه فيه ، واختبس الشيء
تناوله وغنمه ، وخبش الأشياء جمعها من هاهنا وهاهنا. وخبص الشيء بالشيء خلطه به ،
وخبط البعير بيده الأرض ، وبات يختبط الظلماء وهو خابط عشوة للجاهل ، وخبع في
المكان دخل فيه ويقال جارية خبعة طلعة أي تخبأ نفسها مرة وتبديها مرة.
وخبله أفسده أو
أفسد عقله وفساد العقل ذهابه قال :
أرى المال
أفياء الظلال فتارة
|
|
يؤوب وأخرى
يخبل المال خابله
|
وخبن الثوب
عطفه وخاطه ، وخبن الشاعر أتى بالخبن في شعره وهو حذف ثاني الجزء ساكنا وخبت النار
خمدت وسكنت واستخبأ
الخباء دخله ولو شئنا أن نستقيض في النقل من هذه المادة لأريناك العجب
العجب وحسبك من القلادة ما أحاط بالجيد.
الاعراب :
(إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) إن واسمها وجملة آمنوا صلة وجملة وعملوا الصالحات عطف
على آمنوا وكذلك جملة وأخبتوا الى ربهم. (أُولئِكَ أَصْحابُ
الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أولئك مبتدأ وأصحاب الجنة خبر وهم مبتدأ وفيها متعلقان
بخالدون وخالدون خبر هم وجملة أولئك أصحاب الجنة خبر إن وجملة هم فيها خالدون خبر
ثان لان (مَثَلُ
الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) مثل مبتدأ والفريقين مضاف اليه وكالاعمى خبر أو الكاف
اسم بمعنى مثل خبر وما بعده عطف عليه. (هَلْ يَسْتَوِيانِ
مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ) هل استفهام معناه النفي ويستويان فعل مضارع مرفوع بثبوت
النون ومثلا تمييز محول عن الفاعل والأصل هل يستوي مثلهم ، أفلا تذكرون :
الاستفهام للانكار والتوبيخ.
البلاغة :
في قوله تعالى «مثل
الفريقين إلخ» تشبيه تمثيلي أي مثل فريق المسلمين كالبصير والسميع ومثل فريق
الكافرين كالأعمى والأصم وقد زادت الآية على جميع أمثلة التشبيه التمثيلي كقول
امرئ القيس :
كأن قلوب
الطير رطبا ويابسا
|
|
لدى وكرها
العناب والحشف البالي
|
وقول بشار :
كأن مثار
النقع فوق رءوسنا
|
|
وأسيافنا ،
ليل تهاوى كواكبه
|
ففي البيت
الاول تشبيه قلوب الطير الرطبة بالعناب وتشبيه قلوب الطير اليابسة بالحشف البالي
وفي البيت الثاني تشبيه الغبار القاتم والسيوف الملتمعة فيه بالليل الذي تنقض فيه
الشهب والكواكب.
أما الآية فقد
زادت بتشبيه اثنين بأربعة كما هو واضح فقد شبهت كل واحد من الكافر والمؤمن
تشبيهين.
هذا ولو جاءت
الآية على وجه الطباق خلاف نظمها بأن يقال : كالأعمى والبصير والأصم والسميع لفسد
المعنى وان حصل الطباق في اللفظ لأنه سبحانه قسم المشبه به الى قسمين كالمشبه لأنه
قسمان مبتلى ومعافى وضاد بينهما ليصح السؤال بينهما على قصد التوبيخ.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا
إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقالَ
الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا
وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما
نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧) قالَ يا قَوْمِ
أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي
رَحْمَةً
مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها
كارِهُونَ (٢٨))
اللغة :
(أَراذِلُنا) أسافلنا وفيه وجهان أحدهما أنه جمع الجمع فهو جمع أرذل
بضم الذال جمع رذل بسكونها ككلب وأكلب وأكالب وثانيهما أنه جمع مفرد وهو أرذل
كأكبر وأكابر وأبطح وأباطح وأبرق وأبارق والأرذل المرغوب عنه لرداءته ، واختار
الزمخشري الوجه الثاني ورجحه صاحب القاموس.
(بادِيَ الرَّأْيِ) ظاهر الرأي وقد يهمز فيقال بادىء الرأي فمن لم يهمز
أراد : أنت فيما بدا من الرأي ، ومن همز أراد :أنت أول الرأي ومبتداه ، ولأبي علي
بحث طريف في هذا التعبير ننقله بنصه لفائدته : «المعنى فيمن قال بادي الرأي بلا
همز فجعله من بدا إذا ظهر أي ما اتبعك إلا الأراذل فيما ظهر لهم من الرأي إن لم
يتعقبوه بنظر فيه وروية ، وهاتان الكلمتان تتقاربان في المعنى لأن الهمزة في اللام
معناها ابتداء الشيء وأوله واللام إذا كانت واوا كان المعنى الظهور ، وابتداء
الشيء يكون ظهورا فلذلك يستعمل كل منهما مكان الآخر وجاز في اسم الفاعل أن يكون
ظرفا كما جاز في فعيل نحو قريب ومليء لأن فاعلا وفعيلا يتعاقبان على المعنى نحو
عالم وعليم وشاهد وشهيد وحسن ذلك إضافته الى الرأي وقد أجروا المصدر أيضا في
إضافته اليه في قولهم اما جهد رأيي فإني منطلق فهذا لا يكون إلا ظرفا» الى آخر هذا
البحث الممتع وسيرد المزيد في الاعراب.
(الرَّأْيِ) : مصدر رأى رأيا ويجمع على آراء والرأي هو التفكر في
مبادئ الأمور والنظر في عواقبها والعلم بما تئول اليه من الخطأ والصواب ، وأصحاب
الرأي عند الفقهاء هم أصحاب القياس والتأويل وقد أجمع الشعراء على امتداح الرأي
فقال أبو فراس الحمداني :
ولا أرضى
الفتى ما لم يكمل
|
|
برأي الكهل
أقدام الغلام
|
وقال أبو الطيب
المتنبي :
الرأي قبل
شجاعة الشجعان
|
|
هو أول وهي
المحل الثاني
|
فإذا هما
اجتمعا لنفس حرة
|
|
بلغت من
العلياء كل مكان
|
الاعراب :
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) جملة مستأنفة مسوقة للشروع في ذكر عدد من القصص تسلية
للنبي صلى الله عليه وسلم واعتبارا بها ، وتأسيا بما لاقاه أصحابها وقد احتوت هذه
السورة على سبع قصص واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وأرسلنا فعل وفاعل ونوحا
مفعول به والى قومه جار ومجرور متعلقان بأرسلنا وإني بكسر الهمزة على إرادة القول
وكثيرا ما يضمر وهو غني عن الشواهد وان واسمها ولكم متعلقان بنذير ونذير خبر إن
ومبين صفته.
(أَنْ لا تَعْبُدُوا
إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) أن مفسرة ولا ناهية وتعبدوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو
فاعل وإلا أداة حصر ولفظ الجلالة مفعول به وإن واسمها وجملة أخاف خبرها وعليكم
متعلقان بأخاف وعذاب يوم مفعول أخاف وأليم صفة ليوم. (فَقالَ
الْمَلَأُ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) الفاء عاطفة وقال الملأ فعل وفاعل والذين صفة للملأ
وجملة كفروا صلة ومن قومه حال. (ما نَراكَ إِلَّا
بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ
الرَّأْيِ) الجملة مقول القول وما نافية ونراك فعل مضارع وفاعل
مستتر ومفعول به وإلا أداة حصر والرؤية تحتمل القلبية والبصرية فبشرا مفعول به ثان
على الأولى وحال على الثانية ومثلنا صفة وما نراك عطف على ما نراك الأولى وهي أيضا
تحتمل القلبية والبصرية فجملة اتبعك إما مفعول به ثان واما حال وإلا أداة حصر
والذين فاعل اتبعك وهم أراذلنا مبتدأ وخبر والجملة صلة وبادي الرأي منصوب على
الظرفية أي أول الرأي والعامل فيه اتبعك وقد تقدم القول مسهبا فيه ، وقيل انتصب
حالا من ضمير نوح في اتبعك أي وأنت مكشوف الرأي لا حصافة لك. (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ
بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) وما نرى عطف على ما تقدم ولكم متعلقان بنرى وعلينا
متعلقان بفضل ومن حرف جر زائد وفضل مجرور لفظا مفعول به منصوب محلا وبل حرف إضراب
وعطف ونظنكم عطف على ما نرى والكاف مفعول به أول وكاذبين مفعول به ثان. (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ
كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ) الجملة مستأنفة مسوقة للتلطف بهم في الخطاب ومنا صفتهم
ويا قوم منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة وأرأيتم تقدم الكلام عليه مفصلا ورأيتم
فعل وفاعل أي اخبروني وهنا يتطلب البينة مفعولا به ، وكنت تتطلب البينة مجرورة
بعلى فأعمل الثاني وأضمر في الأول والتقدير أرأيتم البينة من ربي إن كنت عليها أنلزمكموها
فحذف المفعول الأول والجملة الاستفهامية هي المفعول الثاني وجواب الشرط محذوف
للدلالة عليه ، وإن شرطية وكنت فعل الشرط والتاء اسمها وعلى بينة خبر كنت ومن ربي
صفة ومعنى على هنا الاستعلاء لأن
صاحب البينة يكون مستعليا على سواه وقيل هي للمصاحبة بمعنى مع وليس ببعيد ،
وآتاني الواو عاطفة وآتاني فعل وفاعل مستتر ومفعول به ورحمة مفعول به ثان ومن عنده
صفة لرحمة. (فَعُمِّيَتْ
عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) الفاء عاطفة وعميت فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل
مستتر تقديره هي وعليكم جار ومجرور متعلقان بعميت وسيأتي بيان حقيقة هذا التعبير
في باب البلاغة وأ نلزمكموها الهمزة للاستفهام أي أنكرهكم عليها وفي هذا الفعل
ثلاثة ضمائر الأول مستتر تقديره نحن وهو الفاعل والثاني ضمير المخاطب أي الكاف وهو
المفعول الأول والثالث ضمير الغائب أي الهاء وهو المفعول الثاني ، والميم علامة
جمع الذكور والواو لإشباع حركة الضم على الميم وليست ضميرا وقد روعي الترتيب فيها
لأن المتكلم أخص بالفعل ثم ضمير المخاطب ثم ضمير الغائب ، وأنتم الواو للحال وأنتم
مبتدأ ولها متعلقان بكارهون وكارهون خبر والجملة حالية وتقدم القول في جملة أنلزمكموها.
البلاغة :
١ ـ في إسناد
العمى الى البينة مجاز عقلي تنزيلا لها منزلة من يعقل وحقيقته أن الحجة والبينة
جعلت بصيرة ومبصرة جعلت عميا لأن الأعمى لا يهتدي ولا يهدي غيره فعميت عليكم
البينة فلم تهدكم كما لو عمي على القوم رائدهم الذي يسير بهم في المتاهات المظلمة
والبوادي المتشعبة فبقوا حائرين يتخبطون ويلتمسون النجاة من حيرتهم وجملة بعضهم من
باب القلب أي أنهم هم الذين عموا فيكون من باب أدخلت الخاتم في إصبعي وأدخلت
القلنسوة في رأسي وقال الشاعر :
ترى الشوك
فيها مدخلا ظل رأسه
|
|
وسائره باد
الى الشمس أجمع
|
٢ ـ التعريض في قوله «قال الملأ
الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا
بادي الرأي» وقد تقدم القول في التعريض وغرضهم هنا منه التعريض بأنهم أحق منه
بالنبوة وأن الله لو أراد أن يجعلها في أحد لجعلها فيهم وقد زعم هؤلاء أن يحجوا
نوحا من وجهين أحدهما أن المتبعين أراذل ليسوا قدوة ولا أسوة والثاني انهم مع ذلك
لم يترووا في اتباعه ولا أمعنوا الفكرة في صحة ما جاء به وإنما بادروا الى ذلك
ارتجالا ومن غير فكر ولا روية.
(وَيا قَوْمِ لا
أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً
تَجْهَلُونَ (٢٩) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا
تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ
الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي
أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي
أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١))
اللغة :
(بِطارِدِ) : الطرد : الإبعاد ، وتطارد الأقوال حمل بعضها على بعض.
(تَزْدَرِي) : الإزدراء : الاحتقار والعيب افتعال من الزراية يقال
زريت عليه إذا عبته وأزرت به إذا قصرت ، قال الشاعر :
رأوه فازدروه
وهو خرق
|
|
وينفع أهله
الرجل القبيح
|
ولم يخشوا
مقالته عليهم
|
|
وتحت الرغوة
اللبن الصريح
|
الاعراب :
(وَيا قَوْمِ لا
أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً) عطف على ما تقدم ولا نافية وأسألكم فعل وفاعل مستتر
ومفعول به وعليه حال ومالا مفعول به ثان. (إِنْ أَجرِيَ إِلَّا
عَلَى اللهِ) إن نافية وأجري مبتدأ وياء المتكلم مضافة وإلا أداة حصر
وعلى الله خبر. (وَما أَنَا بِطارِدِ
الَّذِينَ آمَنُوا) الواو عاطفة وما حجازية تعمل عمل ليس وأنا اسمها والباء
حرف جر زائد وطارد مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما والذين مضاف اليه وجملة
آمنوا صلة. (إِنَّهُمْ مُلاقُوا
رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) إن واسمها وملاقوا خبرها وربهم مضاف اليه ولكني الواو
حالية أو عاطفة ولكن واسمها وجملة أراكم خبرها والكاف مفعول أول لأراكم وقوما
مفعول به ثان وجملة تجهلون صفة. (وَيا قَوْمِ مَنْ
يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) عطف على ما قبله ومن اسم استفهام مبتدأ وجملة ينصرني
خبر من الله جار ومجرور متعلقان بينصرني وإن شرطية وطردتهم فعل الشرط وهو فعل ماض
وفاعل ومفعول به والجواب محذوف دل عليه ما قبله أي فمن ينصرني ، وأفلا تذكرون
الهمزة
للاستفهام الانكاري وهي اما داخلة على مقدر تقديره أتأمروني بطردهم فلا
تذكرون وإما مقدمة من تأخير والأصل فألا تذكرون وقدمت الهمزة على الفاء لأن لها
الصدارة وقد تقدم تقرير ذلك وتذكرون مضارع حذفت منه إحدى التاءين وأصله تتذكرون. (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ
اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) الواو عاطفة ولا نافية وأقول فعل مضارع فاعله أنا ولكم
متعلقان بأقول وعندي ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم وخزائن الله مبتدأ مؤخر ولا
أعلم الغيب معطوف على عندي خزائن الله أي ولا أقول لكم إني أعلم الغيب ولكن يشكل
على هذا العطف أنه يترتب عليه أن يكون معمولا لأقول المنفية فيصير التقدير ولا
أقول لا أعلم الغيب وهو غير صحيح والأحوط أن يكون معطوفا على لا أقول لا على
مقولها فيزول الاشكال ، ولا أعلم كيف غرب هذا عن الزمخشري وغيره من كبار المعربين.
(وَلا أَقُولُ إِنِّي
مَلَكٌ) نسق على لا أقول الأولى أيضا وان واسمها وخبرها مقول
القول.
(وَلا أَقُولُ
لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً) عطف أيضا وللذين متعلقان بأقول وجملة تزدري أعينكم لة
ولن حرف نفي ونصب واستقبال ويؤتيهم منصوب بها والهاء مفعول يؤتي الأول والله فاعل
وخيرا مفعول يؤتي الثاني. (اللهُ أَعْلَمُ بِما
فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) الله مبتدأ وأعلم خبر وبما متعلقان بأعلم وفي أنفسهم
صلة الموصول وان واسمها واذن حرف جواب وجزاء مهمل واللام المزحلقة ومن الظالمين
خبر إن والجملة تعليلية لا محل لها.
البلاغة :
في هذه الآيات
فن رفيع من فنون البديع وهو الجمع مع التقسيم وهو أن يجمع المتكلم بين شيئين أو
أكثر ثم يقسم ما جمع وفي هذه
الآيات رد على ما أوردوه من شبه حيث قالوا «ما نراك إلا بشرا مثلنا وما
نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم
كاذبين» فرد عليهم ردا يمكن ارجاعه الى ما أوردوه من شبه فكأنه يقول : إن كان
نفيكم الفضل عني متعلقا بفضل المال والجاه فأنا لم أدعه ولم أقل لكم إن خزائن الله
عندي حتى تنازعوني في ذلك وتنكروه. وقد رمق أبو فراس هذه السماء بقوله :
إنّا إذا
اشتد الزما
|
|
ن وناب خطب
واد لهم
|
ألفيت حول
بيوتنا
|
|
عدد الشجاعة
والكرم
|
للقا العدا
بيض السيو
|
|
ف وللندى حمر
النعم
|
هذا وهذا
دأبنا
|
|
يودى دم
ويراق دم
|
(قالُوا
يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ
كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ
وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ
أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ
فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥))
اللغة :
(الجدال)
والمجادلة : المقابلة بما يفتل الخصم من مذهبه بحجة أو شبهة وهو الجدل أي شدة
الفتل يقال : جدل الحبل فتله ، وزمام مجدول وهو الجديل ويقولون : كأن في الجديل ،
إحدى بنات جديل ، وطعنه فجدّله أي ألقاه على الجدالة وهي الأرض قال :
قد أركب
الآلة بعد الآله
|
|
وأترك العاجز
بالجداله
|
ويقال للصقر
أجدل لأنه من أشد الجوارح ويقولون : إن وقفن فجادل وإن مررن فأجادل ، أي إن وفقن
فقصور ، وان مررن فصقور ، قال الأعشى :
في مجدل شيّد
بنيانه
|
|
يزلّ عنه ظفر
الطائر
|
ومن المجاز :
امرأة مجدولة الخلق : قضيفة ، ودرع مجدولة وجدلاء أي محكمة ، وعمل على جديلته أي
على شاكلته التي جدل عليها واستقام جدول القوم إذا انتظم أمرهم كالجدول إذا اطّرد
وتتابع جريه ، ونظر أعرابي الى قافلة الحاج متتابعة فقال : أما الحاج فقد استقام
جدولهم. ومن متابعة اشتقاق هذه المادة تبين أن كل ما كانت فاؤه وعينه جيما ودالا
دل على الشدة والفتل والمرة فجدب المكان جدوبة وجدب وأجدب ضد أخصب ولا يخفى ما في
ذلك من شدة وبلاء على الذين تجدب أرضهم ، والجدث القبر ومن أقوالهم «شر الأحداث ،
نزول الأجداث» وجدح السويق واللبن بالمجدح وهو عود في رأسه عودان معترضان يخاض به
حتى يختلط وأرسلت السماء مجاديح الغيث ، والمجاديح جمع المجدح أي الدّبران ونوءه
غزير
وفي حديث عمر بن الخطاب : «لقد استسقيت بمجاديح السماء» أراد الاستغفار ،
ورجل مجدود وليس في الدنيا أقوى من أفاعيل الجد بفتح الجيم أي الحظ والجد بالكسر
الجهد والتعب ومشى على الجادّة وامشوا على الجوادّ وهو جمع الجادة وأجد المسير
وجدّ قال :
أشوقا ولما
يمض لي غير ليلة
|
|
فكيف إذا جدّ
المطي بنا عشرا
|
وجدره ناداه من
وراء الجدار وهو جدير بكذا أي قوي ينهض به قال زهير :
بخيل عليها
جنّة عبقرية
|
|
جديرون يوما
أن ينالوا فيستعلوا
|
وجدر الصبي
وجدّر ، وهو مجدور الوجه ومجدّر ومن أماليح ابن المعتز :
بي قمر جدّر
لما استوى
|
|
فزاده حسنا
وزالت هموم
|
أظنه غنى
لشمس الضحى
|
|
فنقطته طربا
بالنجوم
|
وجدع أنفه
وأذنه فهو مجدوع وإذا لزم النعت قيل أجدع وهي جدعاء وجادع صاحبه شارّه وشاتمه
وجّدعه إذا قال له جدعا لك ، وجدف الملّاح السفينة إذا دفعها بالمجداف قال أعشى
همدان :
لمن الظّعائن
سيرهنّ تزحّف
|
|
عوم السفين
إذا تقاعس تجدف
|
وخفق الطائر
بمجدافيه أي بجناحيه وهما قوته ، والجدا والجذوى العطاء وما أقواه ، واستجديته
سألته وجدوته واجتديته مثله قال :
جدوت أناسا
موسرين فما جدوا
|
|
ألا الله
أجدوه إذا كنت جاديا
|
وقد فطن أحد
أدبائنا القدامى إلى هذه المادة وسر اجتماع الجيم والدال فأحصى ذلك نظما نورده
فيما يلي :
عظمة والقطع
حظ جدّ
|
|
والاجتهاد ضد
هزل جدّ
|
وجانب وجاء
جمعا جدّ
|
|
واسم لما بين
الكلا من بئر
|
أمّ أب وأمّ
أمّ جدّه
|
|
ومصدر الشيء
الجديد جدّه
|
مدينة أي
بالحجاز جدّه
|
|
والضمّ
والكسر لشط النهر
|
للنبت
والحائط قيل جدر
|
|
وللنبات قيل
أيضا جدر
|
وجمع جدر أي
جدار جدر
|
|
وآفة الأطفال
داء الجدري
|
والسنة
الشديدة الجداع
|
|
أما الجدال
فاسمه جداع
|
والكلأ
الذّاوي هو الجداع
|
|
كذا وضيم
الكلم المضرّ
|
الفتل والصرع
وعود جدل
|
|
والصدر
بالفتح وكسر جدل
|
جمع جديل أي
زمام جدل
|
|
وجمع جدلاء
لدرع الكر
|
وهذا من
الغرابة بمكان.
الاعراب :
(قالُوا يا نُوحُ قَدْ
جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) قالوا فعل وفاعل ويا أداة نداء ونوح منادى مفرد علم
مبني على الضم وقد حرف تحقيق
وجادلتنا فعل وفاعل ومفعول به فأكثرت عطف على جادلتنا وجدالنا مفعول به. (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ
مِنَ الصَّادِقِينَ) الفاء الفصيحة أي ان كنت صادقا فأتنا ، وبما متعلقان
بالفعل وجملة تعدنا صلة والعائد محذوف ويصح أن تكون ما مصدرية أي بوعدك إيانا وان كنت
من الصادقين شرط جوابه دل عليه ما قبله أي فأتنا ومن الصادقين خبر كنت. (قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ
إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) إنما كافة ومكفوفة ويأتيكم فعل مضارع ومفعول به وبه
متعلقان بيأتيكم والله فاعل وإن شاء شرط وفعله والجواب محذوف وما الواو حالية وما
حجازيه وأنتم اسمها وبمعجزين خبرها منصوب محلا بسبب حرف الجر الزائد. (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ
أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) الواو عاطفة ولا نافية وينفعكم نصحي فعل ومفعول به
وفاعل وإن أردت شرط وفعله وأن وما في حيزها مفعول أردت ولكم متعلقان بأنصح ، وإن
كان شرط وفعله أيضا والله اسم كان وجملة يريد خبر كان وأن يغويكم أن وما في حيزها
مفعول يريد ووجه ترادف الشرطين أن جواب الشرط الثاني وهو إن كان الله يريد أن
يغويكم جوابه ما دل عليه قوله لا ينفعكم نصحي ويكون الشرط الثاني وجوابه جواب
الأول وسيأتي تفصيل ذلك ومعناه في باب الفوائد. (هُوَ رَبُّكُمْ
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) هو مبتدأ وربكم خبر واليه متعلقان بترجعون وترجعون
بالبناء للمجهول والواو نائب فاعل. (أَمْ يَقُولُونَ
افْتَراهُ) أم منقطعة ويقولون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون وجملة
افتراه مقول القول. (قُلْ إِنِ
افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) إن شرطية وافتريته فعل وفاعل ومفعول به وهو فعل الشرط
والفاء رابطة وعلي خبر مقدم واجرامي مبتدأ مؤخر وأنا مبتدأ وبريء خبر ومما متعلقان
ببريء وجملة تجرمون صلة.
الفوائد :
إذا اجتمع في
الكلام شرطان وجواب يجعل الشرط الثاني شرطا في الأول فلا يقع الجواب إلا ان حصل
الشرط الثاني ووجد في الخارج قبل وجود الأول ونظير هذه الآية من مسائل الفقهاء قول
القائل : «أنت طالق إن شربت إن أكلت» وهي المترجمة بمسألة اعتراض الشرط على الشرط
فالمنقول انها ان شربت ثم أكلت لم يحنث وان أكلت ثم شربت حنث ، وقد قرر المفسرون
في الآية انه إذا طرأ شرط على شرط كان الثاني مقدما على الأول في المعنى وإن كان
مؤخرا في اللفظ ، والتقدير ولا ينفعكم نصحي ان كان الله يريد أن يغويكم إن أردت أن
أنصح لكم وقال البيضاوي : «هكذا تقرير الكلام إن كان الله يريد أن يغويكم فإن أردت
أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي لذلك ولو قال أنت طالق ان دخلت الدار ان كلمت زيدا
فدخلت ثم كلمت زيدا لم تطلق.
وقال ابن هشام
في المغني :
ذكروا أنه إذا
اعترض شرط على آخر نحو إن أكلت إن شربت فأنت طالق فإن الجواب المذكور للسابق منهما
، وجواب الثاني محذوف مدلول عليه بالشرط الأول وجوابه (أي والشرط الأول وجوابه
متأخر معنى لكونه دليل الجواب) كما قالوا في الجواب المتأخر عن القسم والشرط ولهذا
قال محققو الفقهاء في المثال المذكور انها لا تطلق حتى تقدم المؤخر وتؤخر المقدم
وذلك لأن التقدير حينئذ إن شربت إن أكلت فأنت طالق وهذا كله حسن ولكنهم جعلوا منه
قوله تعالى : ولا ينفعكم
نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم ، وفيه نظر إذ لم
يتوال شرطان وبعدهما جواب كما في المثال وكما في قول الشاعر :
إن تستغيثوا
بنا إن تذعروا تجدوا
|
|
منّا معاقل
عزّ زانها كرم
|
وقول ابن دريد
:
فإن عثرت
بعدها إن وألت
|
|
نفسي من هاتا
فقولا : لا لعا
|
إذ الآية
الكريمة لم يذكر فيها جواب وإنما تقدم على الشرطين ما هو جواب في المعنى للشرط
الأول فينبغي أن يقدر إلى جانبه ويكون الأصل إن أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي
إن كان الله يريد أن يغويكم وأما أن يقدر الجواب بعدهما ثم يقدر بعد ذلك مقدما إلى
جانب الشرط فلا وجه له.
وقال في الدرر
: وإذا دخل شرط على شرط فتارة يكون بعطف وتارة يكون بغيره فإن كان بعطف فأطلق ابن
مالك أن الجواب لا ولهم لسبقه ، وفصل غيره فقال إن كان العطف بالواو فالجواب لهما
لأن الواو لمطلق الجمع نحو «إن تأتني وإن تحسن الي أحسن إليك» وان كان العطف بأو
فالجواب لأحدهما لأن «أو» لأحد الشيئين نحو ان جاء زيد أو إن جاءت هند فأكرمه أو
فأكرمها وإن كان العطف بالفاء فالجواب للثاني والثاني وجوابه جواب للأول وإن كان
بغير عطف فالجواب لأولهما والشرط الثاني مقيد للأول كتقييده بحال واقعة موقعه كما
في بيت الشاهد وإذا دخل الاستفهام على الشرط فعن يونس ان الجواب للاستفهام لتقدمه
على الشرط قياسا على مسألة تقدم القسم على الشرط نحو إن قام زيد تقوم؟
خلاصة مفيدة :
توضيح المسألة
: إنه قد وجد في هذه الصورة شرطان وليس فيها ما يصلح للجواب إلا شيء واحد فلا يخلو
إما أن يجعل جوابا لهما معا ولا سبيل إليه لما يلزم عليه من اجتماع عاملين على
معمول واحد وهو باطل.
وإما أن لا
يجعل جوابا لهما ولا سبيل إليه لما يلزم عليه من الآيتان بما لا مدخل له في الكلام
وترك ما له مدخل وهو عبث.
وإما ان يجعل
جوابا للآخر دون الأول وهذا لا سبيل اليه لأنه يلزم عليه ان يكون الثاني وجوابه
جوابا للأول فيجب الإتيان بالفاء الرابطة ولا فاء فتعين القسم الرابع وهو ان يكون
جوابا للاول دون الثاني ويكون الأول وجوابه دليل جواب الثاني فالأصل إن شربت فإن
أكلت فانت طالق وهو لو قال هذا الكلام لم تطلق حتى تشرب ثم تأكل فكذلك ما هو
بمعناه.
(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ
أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما
كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا
تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) وَيَصْنَعُ
الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ
إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما
تَسْخَرُونَ
(٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ
عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩))
اللغة :
(الابتئاس) حزن
في استكانة قال :
ما يقسم الله
اقبل غير مبتئس
|
|
منه واقعد
كريما ناعم البال
|
وهو افتعال من
البؤس وفي المختار «ولا تبتئس أي لا تحزن ولا تشتك والمبتئس الكاره الحزين».
(الْفُلْكَ) الجمهور على أنه بضم الفاء وسكون اللام وقيل انه يقال
فلك بضمتين أيضا وأشار الرضي في شرح الشافية الى جواز أن يكون بصمتين هو الأصل وان
ضم الأول وتسكين الثاني لعله تخفيف منه كعنق ، وأطال في توجيهه وفي القاموس «والفلك
بالضم السفينة ويذكر وهو للواحد والجميع ، أو الفلك التي هي جمع تكسير للفلك التي
هي واحد» وهذا بعينه ورد في الصحاح أيضا والعباب قال ابن بري صوابه الفلك الذي هو
واحد لأنك إذا جعلت الفلك واحد فهو مذكر لا غير وان جمعته جمعا فهو مؤنث لا غير
وقيل إن الفلك يؤنث وان كان واحدا قال تعالى : «قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين»
وعليه فلا تصويب.
الاعراب :
(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ
أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) الواو عاطفة واوحي فعل ماض مبني للمجهول وأن وما في
حيزها نائب الفاعل
وجملة لن يؤمن خبر أن وإلا اداة حصر ومن فاعل يؤمن وجملة قد آمن صلة. (فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا
يَفْعَلُونَ) الفاء عاطفة ولا ناهية وتبتئس مجزوم بلا وبما متعلقان
بتبتئس وجملة كانوا صلة وجملة يفعلون خبر كانوا. (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ
بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) واصنع عطف على ما تقدم والفلك مفعول به وبأعيننا في
موضع نصب على الحال أي مكلوءا بأعيننا وحقيقته ملتبسا كأن لله معه أعينا تكلؤه
ووحينا عطف على أعيننا. (وَلا تُخاطِبْنِي فِي
الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) لا ناهية وتخاطبني مجزوم بها والياء مفعول به وفي الذين
متعلقان بتخاطبني وجملة ظلموا صلة وانهم مغرقون ان واسمها وخبرها والجملة تعليلية
لعدم الخطاب. (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ
وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) حكاية حال ماضية فالجملة ابتدائية مسوقة لهذا الغرض
والتقدير وجعل يصنع الفلك ، والفلك مفعول به والواو حالية وكلما ظرف زمان متضمن
معنى الشرط متعلق بسخروا منه وقد مر القول في كلما ، ومر عليه ملأ فعل وفاعل وعليه
متعلقان بمرّ وجملة سخروا منه لا محل لها لانها جواب شرط غير جازم. (قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا
نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ) قال فعل ماض وإن شرطية وتسخروا فعل الشرط ومنا متعلقان
بتسخروا والفاء رابطة وان واسمها وجملة نسخر منكم خبر ان وكما تسخرون الكاف صفة
لمصدر محذوف وقد مرت له نظائر كثيرة. (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) الفاء استئنافية وسوف حرف ينقل الفعل من الحال الى
الاستقبال والفرق بينها وبين السين ان في سوف معنى من التسويف وهو تعليق النفس بما
يكون من الأمور التي يمكن أن تحدث ، وتعلمون فعل مضارع وفاعل ومن يجوز أن تكون
موصولة في محل نصب بتعلمون وتعلمون بمعنى العرفان فتنصب مفعولا واحدا ، ويجوز أن
تكون استفهامية وتكون
أيضا مفعولا به ، ويجوز أن تكون تعلمون يقينية فيكون المفعول الثاني محذوفا
ويأتيه فعل ومفعول به وعذاب فاعل وجملة يخزيه صفة عذاب. (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) ويحل معطوف على يأتيه وعليه متعلقان بيحل وعذاب فاعل
ومقيم صفة.
البلاغة :
في قوله «انهم
مغرقون» مجيء الخبر إنكاريا مؤكدا بإن تأكيدا للكلام وتنزيلا للسامع منزلة المتردد
لأنه للنفس اليقظى مظنة التردد في حكم الخبر ومؤونة الطلب له فقال أولا : ولا
تخاطبني في الذين ظلموا أي لا تدعني يا نوح في استدفاع العذاب عنهم ثم قال : انهم
مغرقون لأن الكلام مظنة أن يتردد نوح بأنه هل يصيبهم بأس بل بأنهم هل هم مغرقون
بملاحظة ما تقدم من قوله واصنع الفلك فأورد الخبر مؤكدا فقال انهم محكوم عليهم
بالإغراق.
(حَتَّى إِذا جاءَ
أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ
اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما
آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها
وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ
كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا
وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢) قالَ
سَآوِي
إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ
إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣))
اللغة :
(فارَ) الفور الغليان وأصله الارتفاع وفي المصباح «فار الماء
يفور فورا نبع وجرى وفارت القدر فورا وفوراتا غلت» ومنه قولهم فعل ذلك من فوره أي
من قبل أن يسكن ، وشرب فورة العقار وهي طفاوتها وما فار منها.
(التَّنُّورُ) قيل وزنه تفعول فقلبت الواو الأولى همزة لانضمامها ثم
حذفت تخفيفا ثم شدّدت النون للعوض عن المحذوف قال هذا ثعلب وقال أبو علي الفارسي
وزنه فعول وقيل هو أعجمي والمشهور أنه مما اتفقت فيه لغة العرب والعجم كالصابون
وقال في القاموس والتاج : التنور الكانون يخبز فيه وصانعه تنّار ووجه الأرض وكل
مفجر ما ومحفل ماء الوادي وعقبه التاج بقوله يقال هو في جميع اللغات كذلك وقال
الليث التنور عمت بكل لسان قال أبو منصور وهذا يدل على أن الاسم في الأصل أعجمي
فعربته العرب فصار عربيا على بناء فعول ، ثم قيل هو تنور معروف فالكلام حقيقي ،
وقيل هو مجاز ومعنى قولهم فار التنور اشتد به الغضب كما يقولون حمي الوطيس إذا
اشتدت الحرب وفار قدر القوم إذا اشتدت حربهم قال الشاعر :
تفور علينا
قدرهم فنديمها
|
|
ونفثؤها عنا
إذا حميها غلا
|
(الاثنان)
الوجه في قراءة حفص بالتنوين «ومن كلّ زوجين اثنين» ان الاثنين زوجان قال تعالى «ومن
كل شيء خلقنا زوجين» والمرأة زوج الرجل والرجل زوجها وقد يقال للاثنين هما زوج قال
لبيد :
من كل محفوف
يظلّ عصيّه
|
|
زوج عليه كلة
وقرامها
|
ومعنى البيت :
الهوادج محفوفة بالثياب فعيدانها تحت ظلال ثيابها والمضر بعد القرام للعصي أو
للكلة.
الاعراب :
(حَتَّى إِذا جاءَ
أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ) حتى متعلقة بقوله واصنع الفلك بأعيننا أي الى هذا الوقت
فهي حرف غاية وجر وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وجملة جا أمرنا في محل جر بالاضافة
وجملة وفار التنور معطوفة على جملة جاء أمرنا. (قُلْنَا احْمِلْ
فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) الجملة لا محل لها لأنها جواب إذا واحمل فعل أمر وفيها
متعلقان باحمل ومن كل حال من زوجين لأنه كان في الأصل صفة له وزوجين مفعول به
واثنين صفة للتأكيد والتشديد كما قال : «لا تتخذوا إلهين اثنين». (وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ
الْقَوْلُ) وأهلك عطف على زوجين وإلا أداة استثناء ومن مستثنى متصل
وجملة سبق عليه القول صلة.
(وَمَنْ آمَنَ وَما
آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) ومن آمن عطف على أهلك وما الواو عاطفة وما نافية وآمن
فعل ماض ومعه ظرف متعلق بآمن والا أداة حصر وقليل فاعل آمن. (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ
مَجْراها وَمُرْساها) الواو عاطفة وقال فعل ماض وجملة اركبوا فيها مقول القول
وفيها
متعلقان باركبوا ، باسم الله خبر مقدم ومجراها مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية
حال من الواو أو الهاء أي اركبوا فيها مسمين الله أو قائلين باسم الله ومرساها عطف
على مجراها وهما مصدران ميميان الأول من جرى ولذلك جاء مجرى والثاني من أرسى ولذلك
جاء مرسى بضم الميم وقرىء الاثنان بالضم على أنهما مصدران ميميان أيضا ، ويجوز أن
يكونا اسمين للزمان أو المكان أي وقت جريانها وارسائها وبسم الله حال أي متبركين
باسم الله ويتعلق الظرفان بهذا المحذوف فهو من باب خفوق النجم ومقدم الحاج وهنا
أقوال أخرى للمعربين ضربنا عنها صفحا. (إِنَّ رَبِّي
لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) إن واسمها واللام المزحلقة وغفور خبر إن الأول ورحيم
خبر إن الثاني. (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ
فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ) حال من محذوف أي فركبوا فيها والحال انها تجري بهم
ويجوز أن تكون مستأنفة ، وهي مبتدأ وجملة تجري خبر وبهم متعلقان بمحذوف حال وفي
موج متعلقان بتجري والكاف صفة لموج (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ
وَكانَ فِي مَعْزِلٍ) الواو عاطفة ونادى نوح ابنه فعل وفاعل ومفعول ، وكان
الواو حالية وكان فعل ماض ناقص واسمها مستتر تقديره هو يعود على الابن وهو كنعان
وفي معزل خبر كان.
(يا بُنَيَّ ارْكَبْ
مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) يا حرف نداء وبني منادى مضاف لياء المتكلم وأصله بثلاث
ياءات الأولى ياء التصغير والثانية ياء الكلمة والثالثة ياء المتكلم فحذفت ياء
المتكلم تخفيفا وأدغمت ياء التصغير في لام الكلمة فيقرأ بكسر الياء وفتحها فمن قرأ
بالكسر جعل الكسرة دالة على الياء المحذوفة ومن فتح فقد أراد الاضافة كما أرادها
في قوله يا بني إذا كسر الياء التي هي لام الفعل كأنه قال يا بنيي بإثبات باء
الاضافة ثم أبدل من الكسرة الفتحة ومن الياء الألف فصار يا بنيا ثم حذف الألف كما
كان حذف الياء والقراءتان سبعيتان واركب فعل أمر ومعنا
ظرف متعلق باركب ولا ناهية وتكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلا واسمها مستتر
تقديره أنت ومع الكافرين ظرف متعلق بمحذوف خبر. (قالَ سَآوِي إِلى
جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) جملة سآوي مقول القول والى جبل جار ومجرور متعلقان بآوي
وجملة يعصمني صفة لجبل ومن الماء متعلقان بيعصمني. (قالَ لا عاصِمَ
الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) لا نافية للجنس وعاصم اسمها مبني على الفتح واليوم ظرف
متعلق بأمر الله لأنه بمعنى المصدر ، وأحسن من ذلك أن يكون خبر «لا» محذوفا لأنه
إذا علم كهذا الموضع التزم حذفه بنو تميم وكثر حذفه عند أهل الحجاز لأنه لما قال
سآوي الى جبل يعصمني من الماء قال له نوح : لا عاصم أي لا عاصم موجود ويكون اليوم
منصوبا على إضمار فعل يدل عليه عاصم أي لا عاصم يعصم اليوم من أمر الله ومن أمر
جار ومجرور متعلقان بذلك الفعل المحذوف ولا يجوز أن يكون اليوم منصوبا بقوله لا
عاصم ولا أن يكون «من أمر الله» متعلقا به لأن اسم لا إذ ذاك كان يكون مطولا وإذا
كان مطولا لزم تنوينه وإعرابه ؛ ومن أمر الله خبر لا وإلا أداة استثناء أو حصر
والاستثناء إما متصل فيكون من مستثنى وجملة رحم صلة. وإما منقطع وإلا بمعنى لكن
ومن مبتدأ وجملة رحم صلة والخبر محذوف تقديره هو المعصوم ومن المفيد أن نورد هنا
ما قاله أبو البقاء : «قوله تعالى لا عاصم اليوم فيه ثلاثة أوجه أحدها انه اسم
فاعل على بابه فعلى هذا يكون قوله إلا من رحم فيه وجهان أحدهما هو استثناء متصل
ومن رحم بمعنى الراحم أي لا عاصم إلا الله والثاني انه منقطع أي لكن من رحمه الله
يعصم ، الوجه الثاني أن عاصما بمعنى معصوم مثل ماء دافق أي مدفوق فعلى هذا يكون
الاستثناء متصلا أي إلا من رحمه الله والثالث إن عاصما بمعنى ذا عصمة على النسب
مثل حائض
وطالق فالاستثناء على هذا متصل أيضا فأما خبر لا فلا يجوز أن يكون اليوم
لأن ظرف الزمان لا يكون خبرا عن الجثة بل الخبر من أمر الله واليوم معمول من أمر الله
ولا يجوز أن يكون اليوم معمول عاصم إذ لو كان كذلك لنون». وأورد صاحب الانتصاف
كلاما جميلا نورده فيما يلي : «إن الاحتمالات الممكنة هنا أربعة : لا عاصم إلا
راحم ولا معصوم إلا مرحوم ولا عاصم إلا مرحوم ولا معصوم إلا راحم فالأولان استثناء
من الجنس والآخران استثناء من غير الجنس فيكون منقطعا. (وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ
مِنَ الْمُغْرَقِينَ) الواو عاطفة وحال فعل ماض وبينهما متعلقان بحال والموج
فاعل فكان عطف على حال واسم كان مستتر ومن المغرقين خبر كان.
(وَقِيلَ يا أَرْضُ
ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ
وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤))
اللغة :
(البلع) معروف
والفعل منه مكسور العين ومفتوحها بلع وبلع حكاهما الكسائي والفراء وفي المصباح :
بلعت الطعام بلعا من باب تعب والماء والريق بلعا ساكن اللام وبلعته بلعا من باب
نفع لغة وابتلعته ، ومن مجاز هذا الفعل : أبلعني ريقي أي أمهلني حتى أقول أو أفعل.
قال الزمخشري
في أساس البلاغة : وقلت لبعض شيوخي : ابلعني ريقي فقال : قد أبلعتك الرافدين.
(الاقلاع)
إذهاب الشيء من أصله حتى لا يرى له أثر يقال :أقلعت السماء إذا ذهب مطرها حتى لا
يبقى منه شيء وأقلع عن الأمر إذا تركه رأسا.
(غِيضَ) مبني للمجهول إذ يستعمل لازما ومتعديا والغيض النقصان
وفعله لازم ومتعد فمن اللازم قوله تعالى «وما تغيض الأرحام» أي تنقص ومن المتعدي
الآية التي نحن بصددها لأنه لا يبنى للمجهول من غير واسطة حرف جر إلا المتعدي
بنفسه وفي المختار : غاض الماء : قلّ ونضب وبابه باع وانغاض مثله وغيض الماء فعل
به ذلك وغاضه الله يتعدى ويلزم ، وأغاضه الله أيضا ، وغيّض الدمع تغييضا نقصه
وحبسه ويقال : غاض الكرام أي قلّوا وفاض اللئام أي كثروا.
(الْجُودِيِّ) : جبل بأرض الجزيرة استوت عليه السفينة عند انتهاء
الطوفان.
الاعراب :
(وَقِيلَ : يا أَرْضُ
ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) الواو عاطفة وقيل فعل ماض مبني للمجهول ويا حرف نداء
وأرض منادى نكرة مقصودة مبني على الضم وابلعي فعل أمر والياء فاعل وماءك مفعول به
ويا سماء أقلعي عطف على يا أرض ابلعي. (وَغِيضَ الْماءُ
وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) جمل معطوفة بعضها على بعضها الآخر وسيأتي في البلاغة من
أسرارها ما يدهش العقول. (وَقِيلَ : بُعْداً
لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) بعدا منصوب على المصدر بفعل مقدر أي وقيل بعدوا بعدا
فهو مصدر
بمعنى الدعاء عليهم وللقوم جار ومجرور متعلقان بمحذوف والتقدير إرادتي
ونحوه أو بقيل أي قيل لأجهلم هذا القول والظالمين صفة للقوم.
البلاغة :
في هذه الآية
من أفانين البلاغة وبدائع الفصاحة ما يذهل اللب ويشده العقول وسنورد أهم الفنون
التي تلفت النظر وتستهوي الموهوب ليحذو حذوها وينسج على منوالها.
١ ـ المساواة :
ونبدأ بالفن
الذي يتناول الآية عموما وقد عرفوه بأن يكون اللفظ مساويا للمعنى لا يزيد عليه ولا
ينقص عنه وهو من أعظم أبواب البلاغة بل هو البلاغة عينها كما وصف بعض الوصاف بعض
البلغاء فقال : كانت أوصافه قوالب لمعانيه وكما قال العتابي : «الألفاظ أجساد
والمعاني أرواح» وهو ميزة كل لغة ، قال إميل فاكيه في وصف فيكتور هيغو «هيغو من
الخالدين لأن الذي يخلد هو جمال الأسلوب» وجمال الأسلوب هو الملاءمة بين اللفظ
والمعنى والآية التي نحن بصددها خير مثال لهذه المساواة فإنه سبحانه أراد اقتصاص
من هذه القصة بأوجز لفظ وأبلغه فجاء بها مرتبة الألفاظ والجمل على حسب ما وقع في
صور لا تفصل عن معانيها لا وتقصر عنها فإن قيل : لفظة «القوم» زائدة تمنع الآية من
أن توصف بالمساواة لأنها إذا طرحت استقلّ الكلام بدونها بحيث يقال : «وقيل بعدا
للظالمين» قلت : لا يستغني الكلام عنها وذلك انه لما قال في أول القصة «وكلما مر
عليه
ملأ من قومه سخروا منه» وقال بعد ذلك «ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم
مغرقون» جاءت لفظة القوم في آخر القصة ، ووصفهم بالظلم ليرتد عجز الكلام على صدره.
٢ ـ رد العجز على الصدر :
وهو الفن
الثاني من فنون هذه الآية ، وليعلم أن القوم الذين هلكوا بالطوفان هم الذين كانوا
يسخرون من نوح فهم مستحقون للعقاب لئلا يتوهم ضعيف أن الطوفان لعمومه ربما أهلك من
لا يستحق الهلاك فأخبر الله سبحانه أن الهالكين هم الذين تقدم ذكرهم وما كانوا
يفعلونه مع نبيه من السخرية التي استحقوا بها الهلاك ، وانهم الذين وصفهم بالظلم
ووعد نبيه باغراقهم ونهاه عن مخاطبته فيهم ليرفع ذلك الاحتمال فيعلم أن الله
سبحانه قد أنجز نبيه ما وعده وأهلك القوم الظالمين الذين قدم ذكرهم ووصفهم ووعد
باغراقهم.
٣ ـ الاشارة :
الفن الثالث من
فنون هذه الآية فن الاشارة وقد تقدم بحثه وعرفه قدامة فقال : هو أن يكون اللفظ
القليل دالا على الكثير من المعاني حتى تكون دلالة اللفظ بمثابة الإشارة باليد أو
الايماءة بالحاجب والعين فانها تشير بحركة واحدة سريعة الى أشياء كثيرة تستوعب
العبارات الطويلة ومن أمثلتها في الآية التي نحن بصددها قوله «وغيض الماء» فإن غيض
الماء يشير الى انقطاع مادة الماء من نبع الأرض ومطر السماء ولو لا ذلك لما غاض
الماء.
٤ ـ الارداف :
أما الفن
الرابع فهو فن عجب في بابه ، وهو أن يريد المتكلم معنى فلا يعبر عنه بلفظه الموضوع
له ، ولا بلفظ الاشارة الدال على المعاني الكثيرة بل بلفظ هو ردف المعنى الخاص
وتابعه قريب من لفظ المعنى قرب الرديف من الردف وهو هنا في قوله تعالى «وقضي الأمر»
وحقيقة ذلك : وهلك من قضى الله هلاكه ونجا من قضى نجاته وانما عدل عن هذه الحقيقة
الى لفظ الارداف من الإيجاز والتنبيه على أن هلاك الهالك ونجاة الناجي كان بأمر
آمر مطاع ، وقضاء من لا يرد قضاؤه ، والأمر يستلزم آمرا وقضاؤه يدل على قدرة الآمر
به وطاعة المأمور تدل على قدرة الآمر وقهره ، وان الخوف من عقابه ورجاء ثوابه
يحضّان على طاعة الآمر ، ولا يحصل ذلك كله من اللفظ الخاص.
هذا ومن أمثلة
الارداف في الشعر قول أبي الطيب المتنبي :
لو كنت حشو
قميصي فوق نمرقها
|
|
سمعت للجن في
غيطانها زجلا
|
ومراده نفسه
بقوله «حشو قميصي» ، يقول : لو كنت بدلي تحت ثيابي وفوق نمرق ناقتي وهو الذي يلقي
عليه الراكب فخذه للاستراحة ، لسمعت جلبة الجن وأصواتهم في منخفض هذه المفاوز
البعيدة لأنها مأوى الجن لبعدها عن الإنس ، والعرب تجعل المكان البعيد مسكنا للجن
تهويلا له واستيحاشا منه.
٥ ـ الاحتراس :
والفن الخامس
في هذه الآية هو الاحتراس وتعريفه أن يأتي المتكلم بمعنى يتوجه عليه فيه دخل فيفطن
لذلك حال العمل فيأتي في أصل الكلام بما يخلصه من ذلك ، ومن أمثلته قوله تعالى
فيها : «وقيل بعدا للقوم الظالمين» فإنه سبحانه لما أخبر بهلاك من هلك بالطوفان
أعقبه بالدعاء على الهالكين ووصفهم بالظلم ليعلم أن جميع من هلك كان مستحقا للعذاب
مستأهلا له احتراسا من ضعيف يتوهم أن الهلاك بعمومه قد شمل من لا يستحق العذاب
فلما دعا على الهالكين علم أن كل من هلك كان مستحقا للهلاك لأنه قد ثبت بالبرهان
أنه عادل فلا يدعو إلا على من يستحق الدعاء ووصفهم بعد الدعاء عليهم بالظلم فإن لم
يكونوا ظالمين فقد دخل خبره الخلف وخبره منزه عن ذلك فوقع هذا الدعاء وهذا الوصف
احتراسا من ذلك الذي قدر توهمه والاحتراس يبدو جملا في الشعر ومنه قول طرفة
المشهور :
فسقى ديارك
غير مفسدها
|
|
صوب الربيع
وديمة تهمي
|
فقوله «غير
مفسدها» احتراس من محو معالمها وطمس آثارها وقد جنح أبو الطيب اليه كثيرا فقال :
ويحتقر
الدنيا احتقار مجرب
|
|
يرى كل ما
فيها ، وحاشاك ، فانيا
|
فقوله «وحاشاك»
احتراس من دخوله في كل من فيها.
وقوله أيضا :
إذا خلت منك
حمص لا خلت أبدا
|
|
فلا سقاها من
الوسمي باكره
|
فقوله «لا خلت
أبدا» احتراس من توهم الدعاء عليه.
٦ ـ حسن النسق :
والفن السادس
من فنون هذه الآية العجيبة هو فن النسق وهو عبارة عن أن يأتي المتكلم بالكلمات من
النثر والأبيات من الشعر متتاليات متلاحمات تلاحما سليما مستحسنا لا معيبا مستهجنا
، والآية من أولها الى آخرها من شواهد هذا الفن فقد ترادفت الجمل منسوقة بعضها على
بعض بواو النسق على الترتيب الذي تقتضيه البلاغة لأنه سبحانه بدأ بالأهم إذ كان
المراد اطلاق أهل السفينة من سجنها ولا يحصل ذلك ولا يتأتى إلا بانحسار الماء عن
الأرض فلذلك بدأ بالأرض فأمرها بالابتلاع وثنى بالسماء فأمرها بالإقلاع لئلا يتأذى
بذلك أهل السفينة ثم أخبر بغيض الماء عند ما ذهب ماء الأرض وانقطع ماء السماء ثم
قال «وقضي الأمر» أي هلك من جفّ القلم بهلاكه ، ونجا من سبق العلم بنجاته وهذه
حقيقة المعجزة وكنه الآية ولا بد أن تكون معلومة لأهل السفينة ولا يتسنى علمهم بها
إلا بعد خروجهم منها وخروجهم موقوف على ما تقدم فلذلك اقتضت البلاغة أن تأتي هذه
الجملة رابعة الجمل وكذلك استقرار السفينة على الجودي أي استقرارها على المكان
الذي استقرت عليه استقرارا لا حركة معه لتبقى آثارها آية لمن يأتي بعد أهلها وعدل
عن لفظة استقرت الى لفظة
استوت لما يحتمله الاستقرار من الزيغ والميل ويدل عليه الاستواء من استقامة
وعدم انحراف وفي هذا طمأنينة أهل السفينة وأمنهم بعد المخافة وأفراخ روعهم إذا كان
استقرارها استقرارا فقط بحيث لا تؤمن معه الحركة لكانت حالهم في مكابدة الحركة
واضطراب القلوب ووجيفها واحدة في حال سيرها ووقوفها ثم قال أخيرا «وبعدا للقوم
الظالمين» وهذا دعاء أوجبه الاحتراس ممن يظن أن الغرق لشموله الأرض ربما أودى بمن
لا يستحق العذاب فدعا على الهالكين ووصفهم بالظلم ليعلم أن الهلاك إنما شمل من
يستحق العذاب دون سواهم احتراسا من هذا الاحتمال.
٧ ـ التنظير :
والفن السابع
فيها هو فن التنظير وقد تكلم عنه ابن الأثير في كتابه الاستدراك تحت اسم المفاضلة
بين الشعراء ليظهر الأفضل منهما وهو الى النقد أقرب منه الى فنون البديع ، وحدّه
أن ينظر الإنسان بين كلامين إما متفقي المعاني أو مختلفي المعاني ليظهر الأفضل
منهما ، والآية التي نحن بصددها تناولت قصة الطوفان التي انطوت على الكثير من
العقد والحلول والعبر فإذا نظرتها بغيرها من القصص وجدتها سامية عليها جميعا
باستقصاء جميع ما اتفق فيها وما سنح.
٨ ـ المناسبة اللفظية :
بين ابلعي
واقلعي وهي تشبه المناسبة التي مرت في قوله «لهم شراب من حميم وعذاب أليم» بسورة
يونس.
٩ ـ الجناس الناقص :
بين ابلعي
واقلعي ويسميه بعضهم المضارعة ويكون أنواعا منها أن يختلف حرف في الكلمتين بعد أن
تتفق بقية الأحرف ومثله قوله تعالى «وهم ينهون عنه وينأون عنه» وقال النبي صلى
الله عليه وسلم لرجل سمعه وهو ينشد على سبيل الافتخار وقيل بل سأله عن نسبه فقال :
إني امرؤ
حميري حين تنسبني
|
|
لا من ربيعة
آبائي ولا مضر
|
فقال النبي صلى
الله عليه وسلم : «ذلك والله ألأم لجدك ، وأضرع لخدك ، وأقل لعدك ، وأبعد لك عن
الله ورسوله».
١٠ ـ الطباق :
والفن العاشر
هو الطباق فقد طابق بين السماء والأرض.
١١ ـ الاستعارة :
والفن الحادي
عشر هو الاستعارة المكنية الكائنة في نداء الأرض والسماء بما ينادى به الحيوان
المميز على لفظ التحضيض والإقبال عليهما بالخطاب من بين سائر المخلوقات وهو قوله
يا أرض ويا سماء ثم أمرهما بما يؤمر به أهل التمييز والعقل من قوله ابلعي ماءك
واقلعي من الدلالة على الاقتدار العظيم والبلغ عبارة عن تغدير الماء وشربه في
بطنها مستعار لهذا المعنى من بلع الحيوان أي ازدراده لطعامه وشرابه والبلع هو أثر
القوة الجاذبة في المطعوم لكمال الشبه بينهما وهو
الذهاب الى مقر خفي ومع هذا فهي قرينة للاستعارة المكنية التي في الماء أي
استعارة الماء للغذاء لجامع تقوي الأرض بالماء في الإنبات تقوي الآكل بالطعام.
١٢ ـ المجاز المرسل :
وذلك في قوله «يا
سماء» فان الحقيقة : ويا مطر السماء اقلعي ، والعلاقة في هذا المجاز السببية لأن
الماء سبب المطر أو المحلية لأنها محلها بما يتجمع فيها من سحب واضافة الماء الى
الأرض مجاز أيضا تشبيها لاتصاله بها باتصال الملك بالمالك ، وفيها نكتة أخرى وهي
التنبيه على حدوث هذا الماء من الأرض أيضا لا من السماء فقط كما يدل عليه قوله
تعالى «وفار التنور».
١٣ ـ التمثيل :
وهو أن يريد
المتكلم معنى فلا يعبر عنه بلفظه الخاص ولا بلفظي الاشارة والارداف بل بلفظ هو
أبعد من لفظ الارداف قليلا يصلح أن يكون مثلا للفظ الخاص لأن المثل لا يشبه المثل
من جميع الوجوه ولو تماثل المثلان من كل الوجوه لاتحدا ، وقد تقدم تفصيل هذا الفن
في قوله «واستوت على الجودي» فإن حقيقة ذلك : وجلست على ذلك المكان فعدل عن
الحقيقة الى التمثيل لما في الاستواء من الاشعار بجلوس متمكن لا زيغ فيه ولا ميل
ولا حركة معه ولا اضطراب.
١٤ ـ الإيجاز :
فقد اقتص
سبحانه القصة بلفظها مستوعبة بحيث لم يخلّ منها بشيء في أخصر عبارة وبألفاظ غير
مطولة.
١٥ ـ التسهيم :
وهو أن يكون ما
تقدم من الكلام دليلا على ما يتأخر منه أو بالعكس والتسهيم في الآية هو أن أول
الآية يقتضي آخرها.
١٦ ـ التهذيب :
لأن مفردات
الألفاظ موصوفة بصفات الحسن ، وكل لفظة سهلة مخارج الحروف ، سلمت من التنافر
والغرابة ومخالفة القياس.
١٧ ـ التمكين :
لأن الفاصلة
مستقرة في قرارها مطمئنة في مكانها غير قلقة ولا ناشزة.
١٨ ـ الانسجام :
وهو تحديد
الكلمات بسهولة وعذوبة مع الجزالة التي يقتضيها المقام ويتطلبها مقتضى الحال.
١٩ ـ الارصاد :
وهو أن يحدس
القارئ بالفاصلة قبل أن يتلفظ بها.
٢٠ ـ ائتلاف اللفظ مع المعنى :
وهو ما يسميه
أهل الفن المزاوجة بين الألفاظ حتى لقد قال أناتول فرانس الكاتب الفرنسي : «ان بين
الألفاظ زواجا كاثوليكيا»
وكل لفظة لا يصلح في موضعها غيرها ، وقد كان أبو تمام يحرص في شعره على هذا
الفن فاستمع الى قوله :
وفي الكلمة
الوردية اللون جؤذر
|
|
من الانس
يمشي في رقاق المجاسد
|
رمته بخلف
بعد أن عاش حقبة
|
|
له رسفان في
قيود المواعد
|
وفاعل رمته في
أبيات سبقت ، وهذا أمر تعجز الألفاظ عن إيجاد حدود له وانما هو مما يستشعره الذوق
وحده على حد قول فولتير :
«ذوقك أستاذك».
٢١ ـ الاستعارة المتكررة :
فاذا أضفت إلى
ما تقدم أن الاستعارة وقعت فيها في موقعين وهما استعارة الابتلاع والإقلاع حصل لك
واحد وعشرون فنا.
هذا وقد أضاف
بعض البلاغيين إلى هذه الفنون ما يلي :
١ ـ ومنها انه
تعالى لم يصرح بفاعل غيض وقضي وقيل ، كما لم يصرح في صدر الآية بقائل قيل وكذا لم
يصرح بمن سوى السفينة تنبيها على أن تلك الأمور العظام لا يتصور وقوعها إلا من
قادر لا يكتنه وقهار لا يغالب فلا يذهب الوهم إلى فاعل غيره ولا ينشط الخيال الى
مدى أبعد من هذا المدى وقيل في وجه العدول عن تصريح الفاعل
اشارة الى أن هذه الأمور أهون عند الله تعالى من أن ينسبها الى قدرته
صراحة.
٢ ـ ومنها
إفراد الماء إشعارا بأن هذا الماء لم يحصل من اجتماع المياه وتكاثرها بل هو نوع
واحد حصل بقدرته تعالى دفعة واحدة.
٣ ـ ومنها
افراد «أرض» إشارة الى شمول هذا الماء الكل بحيث صار الكل بمثابة شيء واحد باعتبار
هذا الشمول ، وأيضا افراد «سماء» إشارة الى أن المراد بها هاهنا جهة العلو الذي لا
يكتنه مداه لا الاجرام العلوية.
٤ ـ ومنها
التعريض الذي اختتم به الكلام تنبيها لسالكي مسلكهم والجانحين جنوحهم في تكذيب
الرسل الى أن ما حل بهم من إغراق شمل العالم بأسره لم يكن إلا لظلمهم وإمعانهم في
اللجاج والتمادي في الإنكار.
٥ ـ ومنها ذكر
مفعول ابلعي لئلا يعم بالحذف ابتلاع البحار وسواكن الماء كما يقتضيه مقام
الكبرياء.
٦ ـ ومنها
تقديم أمر الأرض على السماء لابتداء الطوفان منها.
هذا وقد ذكر
السكاكي أسرارا أخرى أضربنا عنها لما فيها من تكلف قد يحيل الأمر الى العكس.
الفوائد :
١ ـ قد يقام
المصدر المؤكد مقام فعله المستعمل أو المهمل فيمتنع ذكره معه وهو نوعان :
أ ـ ما لا فعل
له أصلا من لفظه نحو ويلك وويحك وبله الأكف وسبحان الله.
ب ـ ما له فعل
مستعمل من لفظه وهو نوعان : نوع واقع في الطلب وهو الوارد في دعاء بخير أو ضده فالأول
كسقيا ورعيا والأصل سقاك الله سقيا ورعاك الله رعيا أو الوارد نهيا أو أمرا نحو
قياما لا قعودا وكذلك النوعي نحو «فضرب الرقاب» أي فاضربوا ضرب الرقاب ونوع واقع
في الخبر نحو حمدا وشكرا لا كفرا ، ولها أنواع مذكورة في المطولات والجار والمجرور
الواقعان بعد نحو سقيا لك وبعدا للقوم الظالمين متعلق بمحذوف خرج مخرج البيان
التقدير إرادتي لهم ولا تتعلق بالمصدر فنحو سقيا لك على هذا جملتان.
٢ ـ لام التبيين
ويجدر بنا هنا
أن نورد خلاصة وجيزة لهذه اللام التي شغلت النحاة كثيرا ولم يوفوها حقها من الشرح
وهي ثلاثة أنواع :
أ ـ ما تبين
المفعول من الفاعل وضابطها أن تقع بعد فعل تعجب أو اسم تفضيل مفهمين حبا أو بغضا
تقول : ما أحبني وما أبغضني فإن قلت : لفلان ، فأنت فاعل الحب والبغض وهو مفعولهما
وإن قلت : الى فلان ، فالأمر بالعكس.
ب و ج : ما
يبين فاعلية غير ملتبسة بمفعولية وما يبين مفعولية غير ملتبسة بفاعلية ومصحوب كل
منهما إما غير معلوم مما قبلها أو معلوم لكن استؤنف بيانه تقوية للبيان وتوكيدا له
واللام في ذلك كله
متعلقه بمحذوف. مثال المبينة للمفعولية : سقيا لك وجدعا لك فهذه اللام ليست
متعلقة بالمصدرين ولا بفعليهما المقدرين لأنهما متعديان بنفسيهما كالمصدرين و «لا»
هي ومجرورها صفة للمصدر فتتعلق بالاستقرار لأن الفعل لا يوصف فكذا ما أقيم مقامه
وإنما هي لام مبينة للمدعو له أو عليه والتقدير إرادتي لك ، ومثال المبينة
للفاعلية : تبا لزيد وويحا له ، فإنه في معنى خسر وهلك وحينئذ فزيد هو الفاعل
واللام متعلقة بمحذوف إرادتي كائنة لزيد.
(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ
فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ
أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ
عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ
أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ
أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ
مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ
عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ
يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها
إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ
إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩))
الاعراب :
(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ
فَقالَ : رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) الواو استئنافية والنداء على ما يبدو كان قبل سير
السفينة لأنه سؤال في نجاة ابنه ولا معنى للسؤال إلا عند إمكان النجاة ، ونادى نوح
فعل وفاعل وربه مفعول به ، فقال الفاء حرف عطف وقال فعل ماض معطوف على نادى عطف
تفسير لأن القول المذكور هو عين النداء ورب منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة وإن
واسمها ومن أهلي خبرها وإنما أورد ذلك لأن الله تعالى وعده بنجاة أهله. وللمفسرين
كلام طويل حول بنوة هذا الابن يخرج عن نطاق هذا الكتاب. (وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ
أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) الواو عاطفة وان واسمها وخبرها وأنت أحكم الحاكمين
مبتدأ وخبر والجملة معطوفة أيضا. (قالَ يا نُوحُ
إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) قال فعل ماض وضمير الله فاعله المستتر وان واسمها وجملة
ليس من أهلك خبر إن ومن أهلك خبر ليس. (إِنَّهُ عَمَلٌ
غَيْرُ صالِحٍ) ان واسمها والضمير يعود الى ابنه ولا مبرر لقول من قال
إن الضمير يعود الى سؤاله كما ذهب الجلال وغيره لأن بلاغة الكلام تستبعده وعمل خبر
إن وهو من باب إقامة الصفة مقام الموصوف عند ظهور المعنى وقد تقدمت الاشارة إليه
ومنه قول عمر بن أبي ربيعة :
أيها القائل
في غير الصواب
|
|
أخّر النصح
وأقلل من عتابي
|
وقوله أيضا :
وكم من قتيل
لا يباء به دم
|
|
ومن غلق رهنا
إذا ضمّه منى
|
ومن مالىء
عينيه من شيء غيره
|
|
إذا راح نحو
الجمرة البيض كالدمى
|
أراد أيها
الإنسان القاتل وكم من إنسان قتيل. وقول الخنساء :
ترتع ما رتعت
حتى إذا ادّكرت
|
|
فإنما هي
إقبال وإدبار
|
وغير صالح صفة
لعمل والجملة تعليل لانتفاء كونه من أهله الناجين. (فَلا تَسْئَلْنِ ما
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) الفاء الفصيحة ولا ناهية وتسأل فعل مضارع مجزوم بلا والنون
للوقاية وياء المتكلم المحذوفة للتخفيف مفعول به وما مفعول به ثان وجملة ليس صلة
واسم ليس علم ولك خبرها المقدم وبه جار ومجرور متعلقان بعلم. (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ
الْجاهِلِينَ) إن واسمها وجملة أعظك خبرها وان وما في حيزها في محل
نصب بنزع الخافض أي أخوفك من أن تكون ، والجار والمجرور متعلقان بأعظك واسم تكون
مستتر تقديره أنت ومن الجاهلين خبر تكون وسيأتي في باب الفوائد معنى تسمية سؤال
نوح جهلا (قالَ رَبِّ إِنِّي
أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) إن واسمها وجملة أعوذ خبرها وبك متعلقان بأعوذ وأن وما
في حيزها منصوب بنزع الخافض وما ليس لي به علم تقدم إعرابها. (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي
أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) الواو عاطفة وإن شرطية ولا نافية وتغفر فعل الشرط ولي
جار ومجرور متعلقان به وترحمني عطف على تغفر وأكن جواب الشرط واسمها مستتر تقديره
أنا ومن الخاسرين خبرها. (قِيلَ يا نُوحُ
اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ) اهبط فعل أمر وبسلام جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من
فاعل اهبط أي متلبسا بسلام ومنّا صفة لسلام أو بنفس سلام وبركات عطف على سلام
وعليك صفة. (وَعَلى أُمَمٍ
مِمَّنْ مَعَكَ)
وعلى أمم عطف على عليك وممن صفة لأمم ومعك ظرف مكان صلة الموصول. (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ
يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) الواو استئنافية وأمم مبتدأ وساغ الابتداء به لأنه
موصوف تقديره أي وأمم ممن معك وجملة سنمتعهم خبرها أو تجعل سنمتعهم صفة والمحذوف
هو الخبر وإنما حذف لأن قوله ممن معك يدل عليه ، ثم حرف عطف للتراخي ويمسهم فعل
مضارع ومفعول به ومنا حال لأنه كان صفة لعذاب وعذاب فاعل وأليم صفة ثانية. (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ
نُوحِيها إِلَيْكَ) تلك مبتدأ ومن أنباء الغيب خبر أول وجملة نوحيها إليك
خبر ثان وإن شئت كان في موضع الحال أي تلك كائنة من أنباء الغيب موحاة إليك. (ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا
قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) خبر ثالث وهذا أولى الأعاريب وكان واسمها وجملة تعلمها
خبر كنت و «ها» مفعول به وأنت تأكيد لفاعل تعلمها المستتر ولا قومك عطف على أنت
ومن قبل هذا حال من الهاء في نوحيها أو الكاف في إليك أي جاهلا أنت وقومك بها. (فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ
لِلْمُتَّقِينَ) الفاء الفصيحة أي ان عرفت هذه القصة ومنطوياتها وما آلت
إليه حادثة الطوفان فاصبر وجملة إن العاقبة للمتقين من إن واسمها وخبرها تعليلية
وهذا هو المقصود من قصة نوح والقصص التي ستتلوها.
الفوائد :
للمفسرين كلام
طويل في هذه الآية وتعليل وصف سؤال نوح بالجهل وهو يدل على عدم العصمة حتى لقد ذهب
الزمخشري الى أن نوحا عليه السلام صدر عنه ما يوجب نسبة الجهل اليه ومعاتبته على
ذلك ويطول بنا القول إن أردنا أن ننقل ما أوردوه أو نلخصه على الأقل وأقرب ما يقال
في ذلك انه لما صدر الوعد الى نوح بنجاة أهله إلا من
سبق عليه القول منهم ولم يكن كاشفا لحال ابنه المذكور ولا مطلعا على دخيلة
نفسه وحقيقة أمره بل معتقدا بظاهر الحال أنه مؤمن بقي على التمسك بصيغة العموم
للأهلية الثابتة ولم يعارضها يقين في كفر ابنه حتى يخرج من الأهل ويدخل في
المستثنين فسأل الله فيه بناء على ذلك فتبين له أنه في علمه من المستثنين وانه هو
لا علم له بذلك فلذلك سأل فيه وهذا بأن يكون ابانة عذر أولى منه أن يكون عتبا وأما
قوله : «إني أعظك أن تكون من الجاهلين» فالمراد منه النهي عن وقوع السؤال في
المستقبل بعد أن أعلمه الله باطن أمره وأنه إن وقع في المستقبل السؤال كان من
الجاهلين والغرض من ذلك تقديم ما يبقيه على سمة العصمة ، والموعظة لا تستدعي وقوع
ذنب وقد أشفق نوح من اقدامه على سؤال ربه فيما لم يؤذن له فخاف من ذلك الهلاك فلجأ
الى ربه وخشع له ودعاه وسأله المغفرة والرحمة لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين.
(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ
هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ
أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً
إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا
قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ
عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا
مُجْرِمِينَ (٥٢) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي
آلِهَتِنا
عَنْ
قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ
بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ
مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ
(٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ
هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦) فَإِنْ
تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ
رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ
شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا
مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عادٌ
جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ
جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ
الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ
(٦٠))
اللغة :
(فَطَرَنِي) : فطر الله الخلق وهو فاطر السموات مبتدعها وافتطر
الأمر ابتدعه «وكل مولود يولد على الفطرة» أي على الجبلة وقد فطر هذه البئر
وفطر الله الشجر بالورق فانفطر به وتفطّر ، وتفطّرت الأرض بالنبات ، وتفطرت اليد
والثوب : تشققت وفطر ناب البعير : طلع وفطرت المرأة العجين ، وهذا كلام يفطر الصوم
أي يفسده.
(مِدْراراً) : المدرار : الكثير الدرور كالمغزار ولم يؤنثه وإن كان
من مؤنث لثلاثة أسباب أحدها أن المراد بالسماء السحاب أو المطر فذكر على المعنى
والثاني أن مفعالا للمبالغة فيستوي فيه المذكر والمؤنث كصبور وشكور والثالث أن
الهاء حذفت من مفعال على طريق النسب وفي القاموس : درت السماء بالمطر درا ودرورا
فهي مدرار.
(الناصية) :
منبت الشعر من مقدّم الرأس ويسمى الشعر النابت أيضا ناصية باسم محله ونصوت الرجل
أخذت بناصيته فلامها واو ويقال له ناصاة فقلبت ياؤها ألفا فالأخذ بالناصية عبارة
عن الغلبة والقهر وإن لم يكن ثمة أخذ بناصيته ولذا كانوا إذا منّوا على أسير جزوا
ناصيته.
الاعراب :
(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ
هُوداً) عطف على قصة نوح والمعطوف محذوف أي وأرسلنا الى عاد
فيكون من عطف الجمل لا من عطف المفردات لطول الفصل وعاد اسم قبيلة وصرفها لأنه
أراد الحي ولو أراد القبيلة لم تصرف وأخاهم مفعول لأرسلنا المحذوفة وأراد إخوتهم
في النسب وهودا بدل أو عطف بيان وسيرد في باب الفوائد الفرق الدقيق بين البدل وعطف
البيان. (قالَ يا قَوْمِ
اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ)
اعبدوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به وما نافية ولكم خبر مقدم ومن حرف جر
زائد وإله مجرور لفظا مرفوع محلا لأنه مبتدأ مؤخر وغيره صفة لإله على المحل ويجوز
الجر صفة على اللفظ وقد قرىء بها.
(إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا
مُفْتَرُونَ) إن نافية وأنتم مبتدأ وإلا أداة حصر ومفترون خبر أنتم (يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ
أَجْراً) لا نافية وأسألكم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به أول
وعليه حال وأجرا مفعول به ثان.
(إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا
عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ) إن نافية وأجري مبتدأ وإلا أداة حصر وعلى الذي خبر
وجملة فطرني صلة والهمزة للاستفهام والفاء حرف عطف وقد تقدم بحث هذا التركيب
وتعقلون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل. (وَيا قَوْمِ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ
مِدْراراً) استغفروا ربكم فعل أمر وفاعل ومفعول به ، ثم توبوا اليه
عطف على استغفروا ، ويرسل فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب والسماء مفعول به
وعليكم جار ومجرور متعلقان بمدرارا ومدرارا حال من السماء وقد تقدم ذكر السبب في
عدم تأنيثها. (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً
إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) ويزدكم عطف على يرسل والكاف مفعول به أول وقوة مفعول به
ثان وإلى قوتكم صفة والى بمعنى مع ولا تتولوا لا ناهية وتتولوا مجزوم بلا ومجرمين
حال من الواو. (قالُوا يا هُودُ ما
جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ) يا حرف نداء وهود منادى مفرد علم مبني على الضم وما
نافية وجئتنا فعل وفاعل ومفعول به وببينة جار ومجرور متعلقان بجئتنا فتكون الباء
للتعدية ويجوز أن تتعلق بمحذوف على أنها حال أي مستقرا أو متلبسا ببينة.
(وَما نَحْنُ
بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ) الواو عاطفة وما حجازية ونحن اسمها والباء حرف جر زائد
وتاركي مجرور لفظا منصوب محلا على
أنه خبر ما وعن قولك حال من الضمير في تاركي كأنه قال وما نترك آلهتنا
صادرين عن قولك ويجوز أن تكون عن للتعليل والمعنى وما نحن بتاركي آلهتنا لقولك
فيتعلق بنفس تاركي. (وَما نَحْنُ لَكَ
بِمُؤْمِنِينَ) الواو عاطفة وما حجازية نحن اسمها ولك متعلقان بمؤمنين
والباء حرف جر زائد ومؤمنين مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما.
(إِنْ نَقُولُ إِلَّا
اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) إن نافية ونقول فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن وإلا
أداة حصر وجملة اعتراك معمول لنقول أي منصوبة بمصدر محذوف ، وذلك المصدر منصوب
بنقول أي : إلا قولنا اعتراك ، والكاف مفعول به وبعض آلهتنا فاعل وبسوء جار ومجرور
متعلقان باعتراك والمعنى ما نقول إلا قولنا اعتراك بعض آلهتنا بسوء وسيأتي مزيد
بحث عن هذه الفائدة في باب الفوائد.
(قالَ : إِنِّي
أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) إن واسمها وقد كسرت همزتها بعد القول وجملة أشهد خبرها
واشهدوا فعل أمر وأن المفتوحة الهمزة وما في حيزها معمول لاشهدوا أو لأشهد الله ،
على أن المسألة من باب التنازع وسيأتي بحث التنازع في باب الفوائد ، وان واسمها
وخبرها ومما متعلقان ببريء وجملة تشركون صلة ويجوز أن تكون ما مصدرية أي من
اشراككم. (مِنْ دُونِهِ
فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) من دونه حال ، فكيدوني الفاء الفصيحة وكيدوني فعل أمر
مبني على حذف النون والواو فاعل والنون للوقاية والياء المحذوفة للتخفيف مفعول به
وجميعا حال ثم حرف عطف ولا ناهية وتنظرون فعل مضارع مجزوم بلا والياء المحذوفة
للتخفيف مفعول به. (إِنِّي تَوَكَّلْتُ
عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ) اني : ان واسمها وجملة توكلت خبرها وعلى الله جار
ومجرور متعلقان بتوكلت وربي بدل أو صفة وربكم عطف على ربي.
(ما مِنْ دَابَّةٍ
إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) ما نافية ومن حرف جر زائد ودابة مبتدأ وساغ الابتداء
بالنكرة لسبقها بالنفي وإلا أداة حصر وهو مبتدأ وآخذ خبر وبناصيتها جار ومجرور
متعلقان بآخذ. (إِنَّ رَبِّي عَلى
صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) إن واسمها وعلى صراط خبرها ومستقيم صفة.
(فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ) الفاء عاطفة وإن شرطية وتولوا فعل مضارع حذفت فيه إحدى
التاءين والأصل تتولوا وهو فعل الشرط مجزوم بحذف النون والواو فاعل والفاء رابطة
وقد حرف تحقيق وأبلغتم فعل وفاعل ومفعول به وما مفعول به ثان وجملة أرسلت صلة وبه
متعلقان بأرسلت وإليكم حال. (وَيَسْتَخْلِفُ
رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً) كلام مستأنف ولذلك رفعه ولم ينسقه على الجواب على أنه
قرىء بالجزم أيضا على الموضع وهو صحيح لا غبار عليه وربي فاعل وقوما مفعول به
وغيركم صفة لقوما ولا تضرونه عطف على يستخلف وشيئا مفعول مطلق أي شيئا من الضرر. (إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) إن واسمها وعلى كل شيء متعلقان بحفيظ وحفيظ خبر إن. (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا
هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) لما ظرفية حينية متعلقة بنجينا أو رابطة وجاء أمرنا فعل
وفاعل ونجينا هودا فعل وفاعل ومفعول به والذين عطف على هود وجملة آمنوا صلة ومعه
ظرف مكان متعلق بآمنوا وبرحمة متعلقان بنجينا ومنا صفة لرحمة.
(وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ
عَذابٍ غَلِيظٍ) ونجيناهم فعل وفاعل ومفعول به ومن عذاب جار ومجرور
متعلقان بنجيناهم وغليظ صفة لعذاب.
(وَتِلْكَ عادٌ
جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة سيقت لتلخيص القبائح
التي ارتكبها قوم عاد وتلك مبتدأ وعاد بدل أو عطف بيان وجملة جحدوا خبر تلك ولك أن
تجعل تلك عاد مبتدأ وخبرا ثم تستأنف ، وبآيات متعلقان بجحدوا وربهم مضاف
وعصوا رسله فعل وفاعل ومفعول به. (وَاتَّبَعُوا أَمْرَ
كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) واتبعوا عطف على جحدوا وأمر مفعول به وكل مضاف إليه
وجبار مضاف لكل وعنيد صفة لجبار. (وَأُتْبِعُوا فِي
هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) واتبعوا عطف على ما تقدم وهو فعل ماض مبني للمجهول
والواو نائب فاعل وفي هذه الدنيا متعلقان بأتبعوا والدنيا بدل من اسم الاشارة
ولعنة مفعول به ثان ويوم القيامة ظرف متعلق بفعل محذوف تقديره اتبعوا ، وأجاز
الفارسي أن يكون يوم القيامة عطفا على محل هذه لأن قوله في هذه جار ومجرور متعلقان
بأتبعوا فهو عامل في محل النصب ولا مانع من عطف الزمان على الدنيا لأنها ظرف مكان
فاشتركا في الظرفية. (أَلا إِنَّ عاداً
كَفَرُوا رَبَّهُمْ) ألا أداة تنبيه وان واسمها وكفروا فعل وفاعل وربهم
منصوب بنزع الخافض ولك أن تنصبه على المفعولية بتضمين كفروا معنى جحدوا. (أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ) ألا أداة تنبيه تأكيد للأولى وبعدا تقدم اعرابها وتقدم
معنى اللام وتعليقها مفصلا في موضع قريب فجدد به عهدا ، وقوم بدل أو عطف وهود مضاف
إليه.
البلاغة :
في قوله تعالى
: «قال إني أشهد الله واشهدوا اني بريء مما تشركون» فإنه إنما قال : أشهد الله
واشهدوا ، ولم يقل وأشهدكم ليكون موازنا له وبمعناه لأن إشهاده الله على البراءة
من الشرك صحيح ثابت وأما إشهادهم فما هو إلا تهاون بدينهم ودلالة على قلة المبالاة
بهم ولذلك عدل به عن لفظ الأول لاختلاف ما بينهما وجيء به على لفظ الأمر كقول
الرجل لمن يبس الثرى بينه وبينه اشهد عليّ اني لا أحبك تهكما
به واستهانة بحاله ، هذا من جهة ومن جهة ثانية فإن صيغة الخبر لا تحتمل سوى
الاخبار بوقوع الاشهاد منه فلما كان اشهاده لله واقعا ومحققا عبر عنه بصيغة الخبر
لأنه إشهاد صحيح وثابت وعبر في جانبهم بصيغة الأمر التي تتضمن الاستهانة بدينهم
وهو مراده في هذا المقام ومن جهة ثالثة إنما عدل الى صيغة الأمر عن صيغة الخبر
للتمييز بين خطابه لله تعالى وخطابه لهم بأن يعبر عن خطاب الله تعالى بصيغة الخبر
التي هي أجل وأشرف وأوقر للمخاطب من صيغة الأمر.
الفوائد :
١ ـ الفرق بين عطف البيان والبدل :
أوجه الشبه بينهما :
أوجه الشبه بين
عطف البيان والبدل أربعة وهي :
١ ـ ان فيه
بيانا كما في البدل للثاني.
٢ ـ انه يكون
بالأسماء الجوامد كالبدل.
٣ ـ انه يكون
لفظه لفظ الاول على جهة التأكيد.
٤ ـ كلاهما تابع.
أوجه المفارقة بينهما :
أما أوجه
المفارقة بينهما فهي :
١ ـ ان البدل
يكون هو المقصود بالحكم دون المبدل منه وأما
عطف البيان فليس هو المقصود بل ان المقصود بالحكم هو المتبوع وإنما جيء
بعطف البيان توضيحا له وكشفا عن المراد منه.
٢ ـ كل ما جاز
أن يكون عطف بيان جاز أن يكون بدل الكل من الكل إذا لم يمكن الاستغناء عنه أو عن
متبوعه فيجب حينئذ أن يكون عطف بيان فمثال عدم جواز الاستغناء عن التابع قولك :
فاطمة جاء حسين أخوها ، لأنك لو حذفت «أخوها» من الكلام لفسد التركيب.
٣ ـ ان عطف
البيان يجري على ما قلبه في تعريفه وليس كذلك البدل لأنه يجوز أن تبدل النكرة من
المعرفة والمعرفة من النكرة ولا يجوز ذلك في عطف البيان.
٤ ـ ان البدل
يكون بالمظهر والمضمر وكذلك المبدل منه ولا يجوز ذلك في عطف البيان وان البدل قد
يكون غير الاول كقولك : سلب زيد ثوبه ، وعطف البيان لا يكون غير الاول.
٢ ـ الفائدة الثانية :
«إن نقول إلا
اعتراك» إن حرف نفي لحقت نقول فنفت جميع القول إلا قولا واحدا وهو قولهم اعتراك
بعض آلهتنا بسوء والتقدير ما نقول قولا إلا هذه المقالة والفعل يدل على المصدر
وعلى الظرف وعلى الحال ويجوز أن يذكر الفعل ثم يستثنى من مدلوله ما دلّ عليه من
المصادر والظروف والأحوال فنقول اعتراك مستثنى من المصدر الذي دل عليه ، نقول
كقوله تعالى «فما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى» فنصب
موتتنا على الاستثناء لأنه مستثنى من ضروب الموت الذي دل عليه قوله بميتين
ومما جاء من ذلك في الظروف قوله «ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار»
فساعة استثناء مما دل عليه لم يلبثوا من لأوقات ، ومما جاء من ذلك في الحال قوله «ضربت
عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله» التقدير ضربت عليهم الذلة في جميع
الأحوال أينما ثقفوا إلا متمسكين بحبل أي بعهد من الله.
٣ ـ الفائدة الثالثة : التنازع :
هو أن يتقدم
فعلان متصرفان أو اسمان يشبهانهما ويتأخر عنهما معمول وهو مطلوب لكل منهما كقوله
تعالى «آتوني أفرغ عليه قطرا» ولك أن تعمل في الاسم المذكور أي العاملين شئت ، فإن
أعملت الثاني فلقربه وإن أعملت الأول فلسبقه فإن أعملت الاول في الظاهر أعملت
الثاني في ضميره مرفوعا كان أم غيره نحو : قام وقعدوا أخواك واجتهد فأكرمتهما
أخواك ووقف فسلمت عليهما أخواك وأكرمت فسرا أخويك وأكرمت فشكر لي خالدا ، ومن
النحاة من أجاز حذفه إن كان غير ضمير رفع كقوله : بعكاظ يعشي الناظرين إذا هم
لمحوا شعاعه وإن أعملت الثاني في الظاهر أعملت الأول في ضميره إن كان مرفوعا نحو
قاما وقعد أخواك واجتهدا فأكرمت أخويك ووقفا فسلمت على أخويك ومنه قول الشاعر :
جفوني ولم
أجف الأخلاء إنني
|
|
لغير جميل من
خليلي مهمل
|
وإن كان ضميره
غير مرفوع حذفته نحو أكرمت فسر أخواك وأكرمت فشكر لي خالد وأكرمت وأكرمني سعيد
ومررت ومر بي علي.
وهناك أحكام
أخرى للتنازع يرجع إليها في كتب النحو المطولة.
(وَإِلى ثَمُودَ
أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ
هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ
تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ
فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا
وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ
يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣)
وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ
وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ
تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥)
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ
مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦)
وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ
فَأَصْبَحُوا
فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ
كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (٦٨))
اللغة :
(وَاسْتَعْمَرَكُمْ) عمركم وأسكنكم فالسين والتاء زائدتان ، أو صيركم عامرين
لها فهما للصيرورة ولهذه المادة في اللغة شعاب واسعة نعرضهما فيما يلي : عمر يعمر
من باب دخل عمرا المنزل بأهله كان مسكونا وعمر المنزل سكنه فهو معمور وعمر الدار
بناها والاسم العمارة وعمر بالمكان أقام وعمره الله أبقاه ، وعمر يعمر من بابي دخل
وضرب عمورا وعمارة وعمرانا الرجل بيته لزمه وعمرته كذا جعلته له طول عمره أو عمري
واستعمره في المكان جعله يعمره واستعمر الله عباده في الأرض أي طلب منهم العمارة
فيها ولكن الكلمة تحولت في العصر الحديث الى معنى الاستعمار المشئوم الذي يسير في
طريقه الى الزوال ، والمستعمرات ما تمتلكه دولة من الدول في بلاد غير بلادها فهي
مولدة ولكنها صارت من الكلمات الدراجة التي تعبر عن معنى شائع فلا بأس باقرارها ،
أما العمر بفتح العين فهو الحياة والدين ، وفي القسم يقال : لعمري ولعمر الله وهو
مبتدأ محذوف الخبر وجوبا تقديره قسمي واللام الداخلة عليه للابتداء لا للقسم لأنه
لا يجوز دخول قسم على قسم وتقول عمر الله ما فعلت بالنصب على المصدرية وسيرد
المزيد من هذه المادة والأعاريب المستعملة فيها ونعود الى الآية التي نحن بصددها
فنقول معنى واستعمركم فيها أي أمركم بالعمارة
وقد قسم الفقهاء العمارة الى واجب وندب ومباح ومكروه والتفاصيل مذكورة في
المطولات ، وعن معاوية بن أبي سفيان : انه أخذ في احياء الأرض في آخر أمره فقيل له
ما حملك على ذلك؟ فقال : ما حملني إلا قول القائل :
ليس الفتى
بفتى لا يستضاء به
|
|
ولا تكون له
في الأرض آثار
|
وقيل المعنى
استعمركم من العمر نحو استبقاكم من البقاء وقيل هو من العمري بمعنى أعمركم فيها
دياركم ورثها منكم بعد انصرام أعماركم أو جعلكم معمرين دياركم تسكنونها مدة عمركم
ثم تتركونها نغيركم.
(فَعَقَرُوها) : ضربها قدار في رجليها فأوقعها فذبحوها واقتسموا لحمها
وقدار هذا شقي معروف أشار إليه زهير بن أبي سلمى في معلقته عند ما وصف شؤم الحرب
وما تولده من أضرار فقال :
فتنتج لكم
غلمان أشأم كلهم
|
|
كأحمر عاد ثم
ترضع فتتئم
|
أراد فتلد
الحرب لكم أبناء من خلالها كل واحد منهم يضاهي في الشؤم أحمر عاد وهو عاقر الناقة
واسمه قدار بن سالف وأراد أحمر ثمود ولكنه أطلق عليه الاسم الشائع على عاد الثانية
وهم قوم ثمود فلا معنى لمن قال أن زهيرا غلط.
(جاثِمِينَ) : في المصباح جثم الطائر والأرنب يجثم من باب ضرب جنوما
وهو كالبروك من البعير والفاعل جاثم وجثّام مبالغة.
(لَمْ يَغْنَوْا) : لم يقيموا وفي المختار وغني بالمكان أقام به.
الاعراب :
(وَإِلى ثَمُودَ
أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) ثم عطف سبحانه على ذلك قصة صالح وهي القصة الثالثة من
من قصص السورة وقد تقدم اعراب هذه الكلمات بنصها في قصة هود.
(هُوَ أَنْشَأَكُمْ
مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) هو مبتدأ وجملة أنشأكم خبر ومن الأرض جار ومجرور
متعلقان بأنشأكم واستعمركم فيها عطف على أنشأكم. (فَاسْتَغْفِرُوهُ
ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) الفاء الفصيحة واستغفروه فعل أمر وفاعل ومفعول به ثم
حرف عطف وتوبوا إليه عطف على استغفروه وان واسمها وخبراها.
(قالُوا يا صالِحُ
قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا) قد حرف تحقيق وكان واسمها ومرجوا خبرها وفينا جار
ومجرور متعلقان بمحذوف حال وقبل ظرف متعلق بمرجوا وهذا مضاف إليه والمراد لقد خيبت
رجاءنا فيك لما كنا نتوسمه من مخايل تنبىء بالرشد. (أَتَنْهانا أَنْ
نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) الهمزة للاستفهام الانكاري بزعمهم وتنهانا فعل مضارع
وفاعل مستتر ومفعول به وأن وما في حيزها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض وهما
متعلقان بتنهانا وآباؤنا فاعل يعبد. (وَإِنَّنا لَفِي
شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) الواو استئنافية وان واسمها واللام المزحلقة وفي شك خبر
إننا ومما صفة لشك. وجملة تدعونا صلة ونا مفعول تدعو واليه متعلقان به ومريب صفة
لشك. (قالَ : يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أرأيتم تقدم نظيره أكثر من مرة وهي هنا معلقة عن العمل لمجيء ما له صدر
الكلام بعدها وان شرطية وكنت فعل الشرط والتاء اسم كان وعلى بينة خبر كان ومن ربي
صفة لبينة. (وَآتانِي مِنْهُ
رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ) وآتاني عطف على كنت والياء
مفعول به أول ومنه حال ورحمة مفعول به ثان والفاء رابطة لجواب الشرط ومن
اسم استفهام مبتدأ وينصرني فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به والجملة خبر وجملة فمن
ينصرني جواب إن وإن الثانية شرطية وعصيته فعلها وجوابها محذوف دل عليه جواب الأولى
أي فمن ينصرني والاستفهام هنا معناه النفي فكأنه قال فلا ناصر لي من الله إن عصيته
وانما جاز الغاء رأيت هنا لأنها دخلت على جملة قائمة بنفسها من جهة أنها تفيد لو
انفردت عن غيرها. (فَما تَزِيدُونَنِي
غَيْرَ تَخْسِيرٍ) الفاء عاطفة وما نافية وتزيدونني فعل مضارع وفاعل
ومفعول به وغير مفعول ثان لتزيدونني قال أبو البقاء : الأقوى هنا أن تكون صفة
لمفعول محذوف أي شيئا غير تخسير. (وَيا قَوْمِ هذِهِ
ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) الواو عاطفة وهذه مبتدأ وناقة الله خبر ولكم حال لأنه
كان في الأصل صفة لآية وتقدمت ، وآية حال من ناقة الله والعامل فيها ما دل عليه
اسم الاشارة من معنى الفعل. (فَذَرُوها تَأْكُلْ
فِي أَرْضِ اللهِ) فذروها الفاء عاطفة وذروها فعل أمر ومفعول به وتأكل
جواب الطلب ولذلك جزم وفي أرض الله متعلقان بتأكل. (وَلا تَمَسُّوها
بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ) ولا تمسوها عطف على ما تقدم ولا ناهية وتمسوها مجزوم
بلا والواو فاعل والهاء مفعول به وبسوء متعلقان بتمسوها والفاء فاء السببية والكاف
مفعول به وعذاب فاعل وقريب صفة. (فَعَقَرُوها فَقالَ
تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) فعقروها الفاء عاطفة وعقروها فعل ماض وفاعل ومفعول به ،
فقال عطف على عقروها وجملة تمتعوا من فعل الأمر والفاعل مقول القول وفي داركم حال
وثلاثة أيام ظرف متعلق بتمتعوا. (ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ
مَكْذُوبٍ) اسم الاشارة مبتدأ ووعد خبر وغير مكذوب صفته ومكذوب
يجوز أن يكون مصدرا على وزن مفعول نحو المجلود والمعقول والمنشور والمغبون ويجوز
أن يكون اسم مفعول
على الأصل وفيه تأويلان أحدهما غير مكذوب فيه ثم حذف حرف الجر فاتصل الضمير
مرفوعا مستترا في الصفة والثاني انه جعل هو نفسه غير مكذوب لأنه قد وفى به وإذا
وفى به فقد صدق. (فَلَمَّا جاءَ
أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) الفاء عاطفة ولما حينية أو رابطة وجاء أمرنا فعل وفاعل
ونجينا صالحا فعل وفاعل ومفعول به والجملة لا محل لها والذين عطف على صالحا وجملة
آمنوا صلة ومعه ظرف مكان متعلق بآمنوا. (بِرَحْمَةٍ مِنَّا
وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) برحمة حال أي ملتبسين برحمة ومناصفة ومن خزي متعلقان
بمحذوف دل عليه ما قبله أي ونجيناهم من خزي ويومئذ يوم مضاف الى خزي ويوم مضاف
والظرف وهو إذ مضاف اليه ولم يفتح اليوم لاضافته الى المبني لأن المضاف منفصل من
المضاف إليه ولا يلزمه الاضافة فلما لم يلزم الاضافة المضاف لم يلزم فيه البناء
ويجوز فتح يوم بالبناء على الفتح لاضافة الى المبني ومن ذلك قوله تعالى «انه لحق
مثل ما انكم تنطقون» فمثل في موضع رفع وقد جرى وصفا للنكرة إلا انه فتح للاضافة
إلى ما وسيأتي مزيد من هذا البحث. (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) ان واسمها وهو ضمير فصل أو مبتدأ والقوي العزيز خبر ان
لإن أو لهو والجملة خبر إن (وَأَخَذَ الَّذِينَ
ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) الواو عاطفة على المعنى وأخذ فعل ماض وحذفت منه تاء
التأنيث إما لكون المؤنث وهو الصيحة مجازيا أو للفصل بالمفعول به والذين مفعول به
وجملة ظلموا صلة والصيحة فاعل فأصبحوا عطف على أخذ والواو اسم أصبح وجاثمين خبرها
وفي ديارهم جار ومجرور متعلقان بجاثمين. (كَأَنْ لَمْ
يَغْنَوْا فِيها) كأن مخففة من الثقيلة واسمها أي كأنهم ، وجملة لم يغنوا
خبرها وفيها متعلقان بيغنوا. (أَلا إِنَّ ثَمُودَ
كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) تقدم إعراب نظيره بحروفه.
الفوائد :
للأفعال التي
تنصب مفعولين ثلاثة أحكام (وهي أفعال القلوب) :
١ ـ الإعمال :
وهو الأصل فيها وهو نصب مفعولين.
٢ ـ الإلغاء :
وهو إبطال العمل لفظا ومحلا لضعف العامل بتوسطه بين المبتدأ والخبر أو تأخره عنهما
فلتوسط كزيد ظننت قائم والتأخر نحو زيد قائم ظننت.
قال منازل بن
ربيعة المنقري :
أبالأراجيز
يا ابن اللؤم توعدني
|
|
وفي الأراجيز
خلت اللؤم والخور
|
فوسط خلت بين
المبتدأ المؤخر وهو اللؤم والخبر المقدم وهو في الأراجيز.
وقال أبو سيده
الدبيري :
وإن لنا
شيخين لا ينفعاننا
|
|
غنيين لا
يجري علينا غناهما
|
هما سيدانا
يزعمان وإنما
|
|
يسوداننا إن
أيسرت غنماهما
|
وإلغاء العامل
المتأخر أقوى من إعماله والعامل المتوسط بالعكس فالإعمال فيه أقوى من إهماله.
٣ ـ التعليق :
وهو ابطال العمل لفظا لا محلا لمجيء ما له صدر الكلام بعده وهو :
لام الابتداء نحو «لقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من حلاق» فمن
مبتدأ وهو موصول اسمي وجملة اشتراه صلة من وعائدها فاعل اشتراه المستتر فيه وما
نافية وله وفي الآخرة متعلقان بالاستقرار خبر خلاق ومن زائدة وجملة ما له في
الآخرة من خلاق خبر من والرابط بينهما الضمير المجرور باللام وجملة من وخبره في
محل نصب معلق عنها العامل بلام الابتداء لأن لها الصدر فلا يتخطاها عامل.
ولام القسم
كقول لبيد :
ولقد علمت
لتأتينّ منيتي
|
|
إن المنايا
لا تطيش سهامها
|
فاللام في
لتأتين لام جواب القسم ، والقسم وجوابه في محل نصب معلق عنها العامل بلام القسم.
وما النافية
نحو «لقد علمت ما هؤلاء ينطقون» فما نافية وهؤلاء مبتدأ وينطقون خبره والجملة
الاسمية في موضع نصب بعلمت وهي معلق عنها العامل في اللفظ بما النافية.
ولا وإن النافيتان
الواقعتان في جواب قسم ملفوظ به أو مقدر فالقسم الملفوظ نحو : علمت والله لا زيد
في ولا عمرو وعلمت والله إن زيد قائم.
والاستفهام وله
صورتان :
آ ـ أن يعترض
حرف الاستفهام بين العامل والجملة بعده نحو «وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون»
فقريب مبتدأ وأم بعيد معطوف عليه وما اسم موصول في محل رفع خبر المبتدأ وما عطف
عليه وجملة توعدون صلة الموصول والعائد محذوف وجملة المبتدأ وخبره في موضع نصب
بأدري المعلق بالهمزة.
ب ـ أن يكون في
الجملة اسم استفهام عمدة كان نحو «لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا» فأي اسم
استفهام مبتدأ وأحصى خبره وهو فعل ماض وقيل اسم تفضيل من الإحصاء بحذف الزوائد
وجملة المبتدأ والخبر معلق عنها نعلم لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ولا فرق
في العمدة بين المبتدأ كما مر والخبر نحو علمت متى السفر والمضاف إليه نحو علمت
أبو من زيد أو الخبر نحو علمت صبيحة أي يوم سفرك أو فضلة نحو «سيعلم الذين ظلموا
أي منقلب ينقلبون» فأي منقلب مفعول مطلق منصوب بينقلبون مقدم من تأخير والأصل
ينقلبون أي انقلاب وليست أي مفعولا به ليعلم كما قد يتوهم لأن الاستفهام لا يعمل
فيه ما قبله وجملة ينقلبون معلق عنها العامل فهي في محل نصب.
تنبيه هام :
إنما يعطف على
محل الجملة المعلق عنها العامل مفرد فيه معنى الجملة فنقول علمت لزيد قائم وغير
ذلك من أموره ولا تقول علمت لزيد قائم وعمرو لأن مطلوب هذه الأفعال إنما هو مضمون
الجمل فإن كان في الكلام مفرد يؤدي معنى الجملة صح أن تتعلق به وإلا فلا.
قال كثير عزة :
وما كنت أدري
قبل عزة ما البكا
|
|
ولا موجعات
القلب حتى تولت
|
فعطف موجعات
بالنصب بالكسرة على محل ما البكا الذي علق عن العمل فيه قوله أدري وأبحاث الإلغاء
والتعليق تضيق عن استيعابها هذه الفوائد فحسبنا ما ذكرناه ومن شاء المزيد فليرجع
الى المطولات.
(وَلَقَدْ جاءَتْ
رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ
جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ
نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ
لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ
وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ
وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ
أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ
حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ
إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤)
إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ
هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ
مَرْدُودٍ (٧٦))
اللغة :
(العجل) : ولد
البقرة ويسمى الحسيل والخبش بلغة أهل السراة ويجمع على عجول وعجلة وعجال وعجاجيل
قيل : سمي بذلك لتعجيل أمره بقرب ميلاده.
(حَنِيذٍ) : المشوي على الحجارة المحماة في حفرة من الأرض وهو من
فعل أهل البادية وكان سمينا يسيل منه الودك وكان عامة مال ابراهيم البقر وفي
المختار حنذ الشاة شواها وجعل فوقها حجارة محماة لينضجها فهي حنيذ وبابه ضرب.
(نَكِرَهُمْ) : في المختار : نكره بالكسر نكرا بضم النون وأنكره كله
بمعنى ، وعبارة الأساس : «أنكر الشيء ونكره واستنكره وقيل نكر أبلغ من أنكر وقيل :
نكر بالقلب وأنكر بالعين. قال الأعشى :
وأنكرتني وما
كان الذي نكرت
|
|
من الحوادث
إلا الشيب والصلعا
|
وفيهم العرف
والنّكر ، والمعروف والمنكر ، وشتم فلان فما كان عنده نكير ، وهم يركبون المنكرات
والمناكير ، وهو من مناكير قوم لوط».
(أَوْجَسَ) : الإيجاس : الاحساس وحديث النفس وأصله من الدخول كأن
الخوف داخله والوجيس ما يعتري النفس أو ان الفزع ووجس في نفسه كذا أي : خطر بها
يجس وجسا ووجوسا ووجيسا.
(بَعْلِي) : البعل هو المستعلي على غيره ولما كان زوج المرأة
مستعليا عليها قائما بأمرها سمي بعلا ، ويقولون للنخل الذي يستغني بماء السماء عن
سقي الأنهار والعيون بعل لأنه قائم بالأمر في استغنائه عن تكلف السقي له ويجمع
البعل على بعول وبعال وبعولة والبعل الرب أيضا والسيد ، يقولون : من بعل هذه
الناقة أي ربها وبهذا المعنى استعملها الكنعانيون وغيرهم من عبدة الأصنام للدلالة
على أعظم آلهتهم.
(أَوَّاهٌ) : تقدمت معانيه في سورة التوبة.
الاعراب :
(وَلَقَدْ جاءَتْ
رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) ثم شرع سبحانه في القصة الرابعة من قصص السورة وهي قصة
ابراهيم توطئة لقصة لوط لا استقلالا ولهذا خولف في أسلوب القصة عن سابقاتها فلم
يقل وأرسلنا. واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وجاءت رسلنا فعل وفاعل
وابراهيم مفعول به وبالبشرى متعلقان بجاءت.
(قالُوا سَلاماً قالَ
سَلامٌ) قالوا فعل وفاعل وسلاما مصدر معمول لفعل محذوف كما تقدم
أي سلمنا سلاما وقال فعل ماض وسلام مبتدأ خبره محذوف أي عليكم وسوغ الابتداء به
معنى الدعاء وهو أولى من جعله خبرا لمبتدأ محذوف أي قولي سلام وستأتي مسوغات
الابتداء بالنكرة في باب الفوائد. (فَما لَبِثَ أَنْ
جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) الفاء عاطفة وما لبث يجوز في ما أن تكون نافية ولبث فعل
ماض فاعله أن وما في حيزها أي مجيئه أو الفاعل مستتر تقديره إبراهيم وان
وما في حيزها خبره والتقدير فلبثه أو الذي لبثه قدر مجيئه.
(فَلَمَّا رَأى
أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) الفاء عاطفة على محذوف والتقدير فقربه إليهم فلم يمدوا
أيديهم فقال ألا تأكلون فلما رأى أيديهم والرؤية هنا بصرية ، وأيديهم مفعول به
وجملة لا تصل إليه حالية وجملة نكرهم لا محل لها لأنها جواب لمّا وأوجس منهم عطف
على نكرهم وخيفة مفعول به ومنهم حال لأنه كان صفة لخيفة. (قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا
إِلى قَوْمِ لُوطٍ) لا تخف لا ناهية وتخف مجزوم بها وان واسمها وجملة
أرسلنا خبرها ونا نائب فاعل والى قوم لوط جار ومجرور متعلقان بأرسلنا. (وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ
فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) وامرأته الواو حالية أو استئنافية وامرأته مبتدأ وقائمة
خبر ، فضحكت فعل ماض وفاعله هي فبشرناها عطف أيضا وهو فعل وفاعل ومفعول به وبإسحاق
متعلقان ببشرناها ومن وراء اسحق خبر مقدم ويعقوب مبتدأ مؤخر. (قالَتْ : يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا
عَجُوزٌ) يا ويلتا كلمة تقال للتعجب من أمر عجيب خارق للعادة من
خير أو شر وهو منادى مضاف إلى ياء المتكلم المنقلبة ألفا وكذلك في يا لهفا ويا
عجبا وقيل هي ألف الندبة التي يوقف عليها بهاء السكت وسيأتي الكلام عنها في حينه ،
أألد : الاستفهام مقصود به التعجب والواو حالية وأنا مبتدأ وعجوز خبر والجملة نصب
على الحال من الضمير المستتر في أألد. (وَهذا بَعْلِي
شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) الواو حالية وهذا مبتدأ وبعلي خبر وشيخا حال والعامل
فيه ما في اسم الاشارة من معنى الفعل ، قال الزجاج : الحال هاهنا نصبها من لطيف
النحو وذلك انك إذا قلت هذا زيد قائما يصلي فإن كنت تقصد أن تخبر من لا يعرف زيدا
انه زيد لم يجز أن تقول هذا زيد قائما لأنه يكون «زيدا» ما دام قائما فإذا زال عن
القيام فليس بزيد
وانما تقول للذي يعرف زيدا : هذا زيد قائما فيعمل في الحال التنبيه والمعنى
انتبه لزيد في حال قيامه أو أشير لك الى زيد في حال قيامه.
وإن واسمها
واللام المزحلقة وشيء خبرها وعجيب صفة. (قالُوا : أَتَعْجَبِينَ
مِنْ أَمْرِ اللهِ) الهمزة للاستفهام والمقصود به النهي أي لا تعجبي ولم
ينكروا عليها لأن عجبها ليس إنكارا وانما هو دهشة بما هو خارق للعادة ، وتعجبين
فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والياء فاعل ومن أمر الله جار ومجرور متعلقان
بتعجبين. (رَحْمَتُ اللهِ
وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) رحمة الله مبتدأ وبركاته عطف على رحمة وعليكم خبر رحمة
وأهل البيت نصب على الاختصاص المراد به المدح ويجوز أن يكون منادى محذوفا منه حرف
النداء أي يا أهل البيت وان واسمها وخبراها.
وبين النصب على
المدح والنصب على الاختصاص فرق ولذلك جعلهما سيبوية في بابين وهو أن المنصوب على
المدح لفظ يتضمن بوضعه المدح كما أن المنصوب على الذم يتضمن بوضعه الذم والمنصوب
على الاختصاص لا يكون إلا لمدح أو ذم لكن لفظه لا يتضمن بوضعه المدح ولا الذم
كقوله «بنا تميما يكشف الضباب» وقوله «ولا الحجاج عيني نبت ماء» (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ
الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى) الفاء عاطفة ولما حينية أو رابطة وذهب عن ابراهيم الروع
فعل وفاعل وجاءته البشرى عطف على ذهب وجواب لما محذوف تقديره أقبل أو فطن
لمجادلتهم.
(يُجادِلُنا فِي
قَوْمِ لُوطٍ) جملة يجادلنا حالية أو مستأنفة وفي قوم لوط متعلقان
بيجادلنا (إِنَّ إِبْراهِيمَ
لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) ان واسمها واللام المزحلقة وحليم وأواه ومنيب أخبار
ثلاثة. (يا إِبْراهِيمُ
أَعْرِضْ عَنْ هذا)
الجملة مقول قول محذوف أي قالت الملائكة ، وأعرض فعل أمر وعن هذا متعلقان
به والاشارة الى الجدال. (إِنَّهُ قَدْ جاءَ
أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) ان واسمها وجملة قد جاء أمر ربك خبر وانهم ان واسمها
وآتيهم خبرها وعذاب فاعل آتيهم وغير صفة ومردود مضاف إليه.
البلاغة :
الاستعارة
التمثيلية في قوله «فلما رأى أيديهم لا تصل إليه» جعل عدم الوصول استعارة
لامتناعهم عن الأكل والمعنى لا يمدون أيديهم الى أكله فهو لا يريد أن ينفي الوصول
الناشئ عن المدّ.
الفوائد :
مسوغات الابتداء بالنكرة :
الواجب في
المبتدأ أن يكون معرفة ويسوغ الابتداء بالنكرة إذا أفادت وذلك في مواضع أهمها :
١ ـ بالاضافة
اللفظية نحو «خمس صلوات كتبهن الله» وقد تكون الاضافة بالمعنى نحو «قل كلّ يعمل
على شاكلته» أي كل أحد.
٢ ـ بالوصف لفظا
نحو «لعبد مؤمن خير من مشرك» أو تقديرا نحو : أمر أتى من ربك أي عظيم ، أو معنى
بأن تكون النكرة مصغرة نحو : رجيل عندنا أي رجل حقير.
٣ ـ بأن يكون
خبرها ظرفا أو جارا ومجرورا مقدما عليها نحو «وفوق كل ذي علم عليم» «ولكل أجل كتاب».
٤ ـ بأن تقع
بعد نفي أو استفهام أو لو لا أو إذا الفجائية نحو : ما أحد عندنا ونحو «أإله مع
الله» وقول الشاعر :
لو لا اصطبار
الأودى كل ذي مقة
|
|
لما استقلّت
مطاياهنّ للظّعن
|
ونحو : خرجت
فاذا أسد رابص.
٥ ـ بأن تكون
عاملة نحو : إعطاء قرشا في سبيل العلم ينهض بالأمة.
٦ ـ بأن تكون
مبهمة كأسماء الشرط والاستفهام وما التعجبية وكم الخبرية.
٧ ـ بأن تكون
مفيدة للدعاء بخير أو شر فالأول نحو : «سلام عليكم» والثاني : «ويل للمطففين».
٨ ـ بأن تكون
خلفا عن موصوف نحو : عالم خير من جاهل.
٩ ـ بأن تقع
صدر جملة حالية نحو :
سرينا ونجم
قد أضاء فمذ بدا
|
|
محياك أخفى
ضوءه كلّ شارق
|
١٠ ـ بأن يراد بها التنويع أي
التفصيل والتقسيم كقول امرئ القيس :
فأقبلت زحفا
على الركبتين
|
|
فثوب نسيت
وثوب أجر
|
١١ ـ بأن تعطف
على معرفة أو يعطف عليها معرفة نحو : خالد ورجل يتعلمان النحو ، أو رجل وخالد
يتعلمان النحو.
١٢ ـ بأن تعطف
على نكرة موصوفة نحو : «قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى».
١٣ ـ بأن يراد
بها حقيقة الجنس لا فرد واحد منه نحو : ثمرة خير من جرادة.
١٤ ـ بأن تقع
جوابا نحو : رجل ، في جواب من قال :من عندك؟
(وَلَمَّا جاءَتْ
رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ
(٧٧) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ
السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا
اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قالُوا
لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ
(٧٩) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠)
قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ
بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ
أَحَدٌ
إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ
أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها
سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢)
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣))
اللغة :
(سِيءَ بِهِمْ) أصله سوىء بهم من السوء فأسكنت الواو وقلبت كسرتها الى
السين ويقال : سؤته فسيء كما يقال شغلته فشغل وسررته فسرّ.
(ذَرْعاً) : من أقوالهم ضاق فلان ذرعا : والذرع يوضع موضع الطاقة
والأصل فيه أن البعير يذرع بيديه في سيره ذرعا على قدر سعة خطوه فإذا حمل عليه
أكثر من طوقه ضاق ذرعه عن ذلك وضعف ومدّ عنقه فجعل ضيق الذرع عبارة عن ضيق الوسع
والطاقة فمعنى قوله تعالى «وضاق بهم ذرعا» أي لم يجد من ذلك المكروه مخلصا ، وقال
بعض علماء اللغة : معناه وضاق بهم قلبا وصدرا ولا يعرف أصله إلا أن يقال إن الذرع
كناية عن الوسع ، والعرب تقول : ليس هذا في يدي ، يعنون ليس هذا في وسعي لأن
الذراع من اليد ، وقال آخرون : ويقال ضاق فلان ذرعا بكذا إذا وقع في مكروه ولا
يطيق الخروج منه.
وفي القاموس
والتاج ما ملخصه : «الذّرع مصدر ، بسط اليد ، وضقت بالأمر ذرعا : أي لم أقدر عليه
وهو واسع الذرع أي مقتدر وهو خالي الذرع أي قلبه خال من الهموم والغموم».
(يُهْرَعُونَ) : أي يسوق بعضهم بعضا وفي المصباح هرع وأهرع بالبناء
فيهما للمفعول إذا أعجل على الإسراع. وفي القاموس : والهرع محرك وكغراب والاهراع
مشي في اضطراب وسرعة وأقبل يهرع بالضم واهرع بالبناء للمجهول فهو مهرع مرعد من غضب
أو خوف وقد هرع كفرح ورجل هرع سريع البكاء.
(عَصِيبٌ) : العصيب الشديد في الشر خاصة وأصله من الشد يقال عصبت
الشيء شددته وعصبت فخذ الناقة لثدر وناقة عصوب ويوم عصيب وعصبصب كأنه التف على
الناس بالشر أو يكون التف شره بعضه ببعض قال الشاعر :
فإنك إن لم
ترض بكر بن وائل
|
|
يكن لك يوم
بالعراق عصيب
|
وقال الراجز :
يوم عصيب
ويعصب الأبطالا
|
|
عصب القوي
السلم الطوالا
|
(رُكْنٍ) الركن : معتمد البناء بعد الأساس وركنا الجبل جانباه
قال الراجز :
يأوي الى ركن
من الأركان
|
|
في عدد طلس
ومجد بان
|
(فَأَسْرِ) : من أسرى بمعنى سرى أي سار ليلا قال النابغة :
أسرت عليه من
الجوزاء سارية
|
|
تزجي الشمال
عليه جامد البرد
|
ويروى سرت ،
وقال امرؤ القيس :
سريت بهم حتى
تكل مطيهم
|
|
وحتى الجياد
ما يقدن بأرسان
|
(سِجِّيلٍ) : قال الزمخشري : «قيل هي كلمة معربة من سنككل بدليل
قوله حجارة من طين وقيل هي من أسجله إذا أرسله لأنها ترسل على الظالمين وقيل مما
كتب الله أن يعذب به من السجل وسجل لفلان» وقال أبو عبيدة : «هو الحجارة الشديدة»
وأنشد لابن مقبل :
ورجلة يضربون
البيض ضاحية
|
|
ضربا تواصى
به الأبطال سجينا
|
وسجين وسجيل
بمعنى واحد والعرب تعاقب بين النون واللام فقلبت النون هاهنا لاما» واكتفى صاحب
القاموس بقوله : «السجيل الطين اليابس».
(مَنْضُودٍ) : متراكب والنضد جعل الشيء بعضه فوق بعض والمراد وصف
الحجارة بالكثرة.
(مُسَوَّمَةً) : معلمة للعذاب ، والتسويم العلامة.
الاعراب :
(وَلَمَّا جاءَتْ
رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) لما ظرفية حينية أو رابطة وجاءت رسلنا لوطا فعل وفاعل
ومفعول به وجملة سيء بهم لا محل لها ونائب الفاعل يعود الى لوط وبهم جار ومجرور
متعلقان
به وذرعا تمييز محول عن الفاعل. (وَقالَ هذا يَوْمٌ
عَصِيبٌ) وقال عطف على ضاق وهذا مبتدأ ويوم خبر وعصيب صفة
والجملة مقول القول. (وَجاءَهُ قَوْمُهُ
يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ) الواو عاطفة وجاءه قومه فعل ومفعول به وفاعل وجملة
يهرعون في محل نصب على الحال واليه متعلقان بيهرعون. (وَمِنْ قَبْلُ كانُوا
يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) الواو حالية ومن قبل من حرف جر وقبل ظرف مبني على الضم
لانقطاعه عن الاضافة لفظا لا معنى والجار والمجرور متعلقان بيعملون وكان واسمها
وجملة يعملون السيئات خبر كانوا. (قالَ يا قَوْمِ
هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) هؤلاء مبتدأ وبناتي خبر وكذلك قوله هن أطهر لكم ،
وجوزوا في بناتي أن يكون بدلا أو عطف بيان ، وهن ضمير فصل لا محل له وأطهر خبر
هؤلاء ، ولكم متعلقان بأطهر لأنه اسم تفضيل ولا يرد اعتراض خلاصته ان اسم التفضيل
يعني المشاركة ليصح التفضيل فيقتضي أن يكون الذي يطلبونه من الرجال طاهرا والجواب
أن هذا جار مجرى : أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم ومعلوم أن شجرة الزقوم لا خير
فيها على الإطلاق. (فَاتَّقُوا اللهَ
وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي) الفاء الفصيحة واتقوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به ولا
تخزوني عطف على اتقوا الله ولا ناهية وتخزوني مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون
والنون للوقاية والواو فاعل والياء مفعول به وفي ضيفي جار ومجرور متعلقان بمحذوف
حال ، والضيف في الأصل مصدر ثم أطلق على الطارق ليلا إلى المضيف ولذلك يقع على
المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والجمع وقد يثنى فيقال ضيفان وقد يجمع فيقال أضياف
وضيوف وضيفان. (أَلَيْسَ مِنْكُمْ
رَجُلٌ رَشِيدٌ) الاستفهام للانكار والتوبيخ وليس فعل ماض ناقص ومنكم
خبر ليس للمقدم ورجل اسمها المؤخر ورشيد صفة. (قالُوا :
لَقَدْ
عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ) علمت معلقة عن العمل بما النافية ولنا خبر مقدم وفي
بناتك حال لأنه كان في الأصل صفة لحق وتقدمت ومن حرف جر زائد وحق مبتدأ مؤخر محلا.
(وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ
ما نُرِيدُ) الواو عاطفة وان واسمها واللام المزحلقة وجملة تعلم
خبرها ، وما :يجوز أن تكون مصدرية وأن تكون موصولة أي تعرف الذي نريد أو تعلم
إرادتنا (قالَ لَوْ أَنَّ لِي
بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) لو شرطية وأن وما في حيزها فاعل لفعل محذوف تقديره ثبت
واستقر وأما سيبويه فيرى انه مبتدأ لا خبر له وسيأتي تفصيل ذلك في باب الفوائد.
وأن حرف مشبه بالفعل ولي خبرها المقدم وبكم حال من قوة إذ هو في الأصل صفة للنكرة
وقوة اسم ان وجواب لو محذوف تقديره لفعلت بكم وصنعت وأو حرف عطف وآوي معطوف على
المعنى وتقدير الكلام أو أني آوي ، ويجوز أن تكون الجملة معطوفة على جملة ثبت
المحذوفة إذا أعربت أن وما في حيزها فاعلا لفعل محذوف ، ويجوز أن تعطف على قوة
لأنه منصوب في الأصل بتقدير «ان» فلما حذفت «أن» رفع الفعل كقوله تعالى «ومن آياته
يريكم» واستضعف أبو البقاء هذا الوجه. والى ركن متعلق بآوي وشديد صفة.
(قالُوا يا لُوطُ
إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) إن واسمها ورسل ربك خبرها ولن حرف نفي ونصب واستقبال
ويصلوا مضارع منصوب بأن وإليك متعلقان بيصلوا (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ
بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) الفاء عاطفة وبأهلك حال أي مصاحبا لهم وبقطع حال من
أهلك أي مصاحبين لقطع ، ولك أن تجعل الباء للتعدية فتعلقها بأسر والقطع هنا نصف
الليل لأنه قطعة منه مساوية لباقيه وقد تقدم الكلام على القطع في سورة يونس ، ومن
الليل صفة لقطع. (وَلا يَلْتَفِتْ
مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ
إِنَّهُ
مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ) الواو حرف عطف ولا ناهية ويلتفت فعل مضارع مجزوم بلا
ومنكم حال لأنه كان في الأصل صفة لأحد وأحد فاعل وإلا أداة استثناء وامرأتك مستثنى
من قوله فأسر بأهلك وفي قراءة بالرفع بدل من أحد وسيأتي تفصيل مسهب لهذا الاستثناء
والمعنى لا تسر بها وخلّفها مع قومها وقيل هي مستثنى من أحد وان واسمها والهاء
ضمير الشأن والحديث ومصيبها خبر مقدم وما اسم موصول مبتدأ مؤخر وجملة أصابهم صلة
والجملة خبر ان لأن ضمير الشأن يفسر بجملة مصرح بجزأيها. (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ
الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) إن واسمها والصبح خبرها والهمزة للاستفهام التقريري
وليس واسمها والباء حرف جر زائد وقريب مجرور لفظا خبر ليس محلا (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا
عالِيَها سافِلَها) لما ظرفية حينية أو رابطة وجاء أمرنا فعل وفاعل وجملة
جعلنا جواب لما ونا فاعل وعاليها مفعول جعل الاول وسافلها مفعول جعلنا الثاني. (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ
سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ) وأمطرنا عطف على جعلنا وعليها متعلقان بأمطرنا وحجارة
مفعول به ومن سجيل صفة لحجارة ومنضود صفة لسجيل ومسومة صفة ثانية لحجارة وعند ربك
الظرف متعلق بمسومة. (وَما هِيَ مِنَ
الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) ما حجازية وهي اسمها واختلف في هذا الضمير فقيل يعود
على العقوبة المفهومة السياق وقيل يعود على الحجارة وهي أقرب مذكور وقيل يعود على
القرى المهلكة وكل ما ذكروه جائز وسائغ. ومن الظالمين متعلقان ببعيد والباء حرف جر
زائد وبعيد مجرور لفظا خبر ما محلا ولم يؤنث بعيدا إما لأنه في الأصل نعت لمكان
محذوف تقديره وما هي بمكان بعيد بل قريب وإما لأن العقوبة والعقاب شيء واحد وإما لتأويل
الحجارة بعذاب.
الفوائد :
١ ـ عود إلى «لو» :
تقدم بحث لو في
البقرة وغيرها ونزيد هنا بحث الاسم الواقع بعد لو الشرطية والمعروف أنها تختص
بالفعل شرطية كانت أم مصدرية ويجوز أن يليها الاسم فيعرب فاعلا لفعل محذوف يفسره
ما بعده وعلى ذلك يتخرج قول عمر بن الخطاب لأبي عبيدة وقد كان في طريقة الى الشام
وبلغه في أثناء الطريق قبل الوصول إليها انه وقع بها وباء فاستشار في التوجه اليه
أو الرجوع الى المدينة فاختلفوا عليه ثم أجمع أمره على الرجوع بعد أن أشار به
جماعة من الصحابة فقال له أبو عبيدة ابن الجراح أفرارا من قدر الله تعالى؟ فقال له
عمر بن الخطاب : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ، نعم نفرّ من قدر الله إلى قدره.
فغيرك فاعل لفعل محذوف يفسره قالها والتقدير لو قالها غيرك وجواب لو محذوف أي
لعذرناه.
وقال الغطمش
الضبي :
أقول وقد
فاضت لعيني عبرة
|
|
أرى الأرض
تبقى والأخلاء تذهب
|
أخلاي لو غير
الحمام أصابكم
|
|
عتبت ولكن ما
على الدهر معتب
|
فغير فاعل بفعل
محذوف يفسره أصابكم والتقدير لو أصابكم غير الحمام ـ وهو بكسر الحاء الموت ـ عتبت
، ومن ملاحظات التبريزي على هذا البيت الثاني قوله : الناس ينشدون أخلاي بياء
مفتوحة وكأنهم حملوه على قصر المحدود وأجود من ذلك في حكم العربية أن ينشد
أخلاء بهمزة مكسورة ويراد يا أخلائي فحذفت ياء الاضافة وتركت الهمزة كما تقول يا
غلام ، ومن ذلك أيضا قولهم في المثل «لو ذات سوار لطمتني» أخذا من قول حاتم الطائي
حين لطمته جارية وهو مأسور في بعض أحياء العرب فذات سوار فاعل بفعل محذوف على
شريطة التفسير والتقدير لو لطمتني ذات سوار وذات السوار الحرة لأن الإماء عند
العرب لا تلبس السوار وجواب لو محذوف والتقدير لهان الأمر علي ، أو يكون منصوبا
بفعل محذوف أو خبرا لكان محذوفة فمثال الاول : لو زيدا رأيته أكرمته والثاني :نحو
التمس ولو خاتما من حديد وقد تقدم ذلك.
ويجوز أن يلي «لو»
كثيرا أن المشددة وصلتها نحو «ولو أنهم صبروا» والآية التي نحن بصددها وهي «لو أن
لي قوة» واختلف في اعراب أن وما في حيزها بعد أن اتفق الجميع على أنه مرفوع الموضع
فقال سيبويه وجمهور البصريين مبتدأ لا خبر له أو خبره محذوف والتقدير ولو صبرهم
ثابت وذهب الكوفيون والزمخشري والمبرد والزجاج من البصريين الى انه فاعل بثبت
مقدرا كما تقدم أي ولو ثبت صبرهم وسيأتي المزيد من أحكام «لو» في مواضع أخرى من
هذا الكتاب.
٢ ـ أقوال النحاة في «إلا امرأتك» :
والفائدة
الثانية هي أقوال النحاة في استثناء امرأتك قالوا :«ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك»
بالرفع في قراءة أبي عمرو وابن كثير فامرأتك بدل من أحد بدل بعض من كل والنصب عربي
جيد وقد
قرىء به في السبع لكنه خلاف المنتخب الراجح والذي قرىء به أكثر ومن هنا جعل
الزمخشري النصب على الاستثناء من أهلك ليكون من تام موجب ، والرفع على البدلية من
أحد ، واعترض بأنه يستلزم التناقض بين القراءتين فإن المرأة تكون مسريا بها على
قراءة الرفع وغير مسري بها على قراءة النصب وأجاب أنصار الزمخشري بأن إخراجها من
جملة النهي لا يدل على أنها مسري بها بل على أنها معهم وقد روي انها تبعتهم ، وقد
فنّد ابن هشام اعراب الزمخشري وقال إنه خلاف الظاهر وأسهب في الحديث عن هذا
الاستثناء في الجهة الثانية من الباب الخامس.
أقول : والأظهر
من هذا كله أن الاستثناء من جملة الأمر أي فأسر بأهلك والاستثناء منقطع على
القراءتين ووجه الرفع انه على الابتداء وخبره الجملة بعده وعندئذ تكون قراءة النصب
جيدة غير مرجوحة وتتفادى بذلك وقوع غير المرجوح في القرآن ، وقد تقدم في ابن نوح «انه
ليس من أهلك» لأن المراد بالأهل المؤمنون وعلى هذا تكون امرأته من غير أهله.
البلاغة :
في قوله تعالى
: «أليس الصبح بقريب» إرسال المثل أو التمثيل وهو فن يمكن تعريفه بأن يكون ما
يخرجه المتكلم ساريا مسير الأمثال السائرة وقد تقدمت الاشارة إليه وسيرد المزيد
منه وقد عني علماؤنا الأقدمون باستقصاء جميع أمثال الكتاب العزيز من السور على
ترتيبها ، أما في الشعر العربي فقد أوردنا فيما تقدم أمثالا ضمنها شاعر الخلود أبو
الطيب المتنبي أبياته فجاءت آية في الإبداع كما أوردنا قصيدة
لابن زيدون ، ويحكى انه كان بعض مشايخ الأنبار في زمن الرشيد يؤذن ويصلي في
مسجد وكان إذا حضر أوان الورد دفع مفتاح المسجد الى أهل المحلة ثم انغمس في لجة
لهوه فلم يظهر وفي الدنيا وردة وكان إذا جلس الى شرابه يغني بصوت عال ويقول :
يا صاحبي
اسقياني
|
|
من قهوة
خندريس
|
خذا من الورد
حظا
|
|
بالقصف غير حبيس
|
على وجينات
ورد
|
|
يذهبن همّ
النفوس
|
ما تنظران
فهذا
|
|
زمان حث
الكؤوس
|
فبادروا قبل
فوت
|
|
«لا عطر بعد عروس»
|
(وَإِلى
مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ
غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ
وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا
الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا
تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ
تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ
فِي
أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قالَ يا قَوْمِ
أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً
حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ
إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨) وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ
يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ
وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ
تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠) قالُوا يا شُعَيْبُ ما
نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا
رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي
أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ
رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ
إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ
كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا
نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ
الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤)
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥))
اللغة :
(يَجْرِمَنَّكُمْ) : مضارع جرم وبابه ضرب كما في المختار ويتعدى لواحد أو
اثنين ومعناه يكسبنكم.
(رَهْطِي) : الرهط : جماعة الرجل وقيل الرهط والراهط لما دون
العشرة من الرجال ولا يقع الرهط والعصبة والنفر إلا على الرجال وقال الزمخشري : من
الثلاثة الى العشرة وقيل الى التسعة ويجمع على أرهط وأرهط على أراهط. وفي القاموس
والتاج : الرّهط والرّهط : قوم الرجل وقبيلته ، وعدد يجمع من الثلاثة الى العشرة
وليس فيهم امرأة ولا واحد له من لفظه والجمع أرهط وأرهاط وجمع الجمع أراهط وأراهيط
وإذا أضيف الى الرهط عدد كان المراد به الشخص والنفس نحو : عشرون رهطا أي شخصا
ويقال : ذوو رهط أي مجتمعون.
(ظِهْرِيًّا) : منبوذا خلف ظهوركم لا تراقبونه والظهري منسوب إلى
الظهر والكسر من تغييرات النسب والقياس فتح الظاء وقد قالوا في أمس إمسيّ بكسر
الهمزة وفي الدهر دهري بضم الدال وسيأتي في باب الفوائد ما يطرأ على النسب من
تغيير وللظهر في لغتنا تعابير نوردها ملخصة من معاجم اللغة : يقال ساروا في طريق
الظهر أي
طريق البر وقرأ الكتاب على ظهر قلبه أو على ظهر لسانه أي حفظا وأعطاه عن
ظهر يد أي ابتداء بلا مكافأة وهو نازل بين ظهريهم وظهرانيهم وبين أظهرهم أي وسطهم
وفي معظمهم ورأيته بين ظهراني الليل أي بين العشاء والفجر وقلب له ظهر المجن أي
تغير عليه وعاداه وقلب الأمر ظهرا لبطن أي أنعم تدبيره وقتله ظهرا أي غيلة وهو
يأكل على ظهر يدي أي إنني أنفق عليه وهذا من غريب لغتنا ونادره وما أجمل قول عمر
بن أبي ربيعة :
وضربنا
الحديث ظهرا لبطن
|
|
وأتينا من
أمرنا ما اشتهينا
|
(مَكانَتِكُمْ) : المكانة إما بمعنى المكان يقال مكان ومكانة ومقام
ومقامة وإما مصدر من مكن فهو مكين.
الاعراب :
(وَإِلى مَدْيَنَ
أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) جرت العادة أن يستهل كل قصة من قصص هذه السورة بهذه الجملة
وهذه هي القصة السادسة وقد تقدم اعراب هذه الجملة بلفظها.
(وَلا تَنْقُصُوا
الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) الواو عاطفة ولا ناهية وتنقصوا فعل مضارع مجزوم بلا
والواو فاعل والمكيال مفعول به والميزان عطف على المكيال وان واسمها وجملة أراكم
خبرها وجملة إني أراكم تعليلية للنهي. (وَإِنِّي أَخافُ
عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) الواو عاطفة وان واسمها وجملة أخاف عليكم خبرها وعذاب
مفعول به ويوم مضاف إليه ومحيط صفة. (وَيا قَوْمِ أَوْفُوا
الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ)
أوفوا فعل أمر والواو فاعل والمكيال مفعول به والميزان عطف عليه وبالقسط
حال أي عادلين. (وَلا تَبْخَسُوا
النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) الواو عاطفة ولا ناهية وتبخسوا مضارع مجزوم بلا والواو
فاعل والناس مفعول به وأشياءهم مفعول به ثان أي لا تنقصوهم أموالهم ، ولا تعثوا في
الأرض مفسدين عطف أيضا ومفسدين حال. (بَقِيَّتُ اللهِ
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) بقية الله مبتدأ أي رزقه الباقي بعد إيفاء الكيل والوزن
، وخير خبر ولكم متعلقان بخير وان شرطية وكنتم فعل الشرط ومؤمنين خبر كنتم والجواب
محذوف أي فبقية الله خير ، وما الواو عاطفة وما نافية حجازية وأنا اسمها وعليكم
متعلقان بحفيظ والباء حرف جر زائد وحفيظ مجرور لفظا منصوب محلا. (قالُوا : يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ
تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) الهمزة للاستفهام ومعناه الهزء والسخرية وصلاتك مبتدأ
وجملة تأمرك خبر وأن وما في حيزها منصوب بنزع الخافض ومتعلقان بتأمرك أي تأمرك
بترك ، وما موصولية أو مصدرية وعلى كل حال هي مفعول الترك وجملة يعبد لا محل لها
على الحالين وآباؤنا فاعل. (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ
فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) أو حرف عطف وأن نفعل مصدر مؤول معطوف على ما في حالتيها
فالترك مسلط عليه أي هل تأمرك بتكليف لنا ترك ما يعبد آباؤنا وترك أن نفعل في
أموالنا ما نشاء.
هذا وقد أورد
ابن هشام في مغني اللبيب هذه الآية في الباب الخامس من الكتاب في الجهات التي يدخل
الاعتراض على المعرب من جهتها قال «وبعض هذه الأمثلة وقع للمعربين فيه وهم بهذا
السبب وسترى ذلك معينا فأحدها قوله تعالى : «أصلاتك تأمرك أن نترك
ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ، فإنه يتبادر الى الذهن عطف
أن نفعل على أن نترك وذلك باطل لأنه لم يأمرهم أن يفعلوا في أموالهم ما يشاءون
وانما هو معطوف على «ما» فهو معمول للترك ، والمعنى أن نترك ان نفعل» الى أن يقول
:«وموجب هذا الوهم المذكور أن المعرب يرى أن والفعل مرتبين وبينهما حرف العطف»
واختلف في «أو» فقيل هي بمعنى الواو وقيل هي على بابها للتخيير بمنزلتها في قولك
جالس الحسن أو ابن سيرين.
وما اسم موصول
نفعل وجملة نشاء صلة.
(إِنَّكَ لَأَنْتَ
الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) إما أن يكونوا قد أرادوا الهزء به الى أقصى درجة فعكسوا
ليتهكموا وإما أن يكون على حقيقته وان ما يأمرهم به لا يتفق مع ما يتسم به وإن
واسمها واللام المزحلقة وأنت مبتدأ والحليم الرشيد خبراه والجملة خبر إنك. (قالَ : يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ
كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً) أرأيتم تقدم انها بمعنى أخبروني فينصب مفعولين وقد حذفا
معا وتقدير الأول أخبروني فياء المتكلم هي المفعول الأول والثاني يقدر غالبا بجملة
استفهامية أي أفأشوب رزقي بالحرام من البخس والتطفيف ، وإن شرطية وكنت كان واسمها
وهي فعل الشرط وعلى بينة خبر كنت ومن ربي صفة لبينة وجواب الشرط محذوف يدل عليه
المفعول الثاني المحذوف ورزقني فعل وفاعل مستتر ومفعول به ورزقا مفعول به أو مفعول
مطلق وحسنا صفة. (وَما أُرِيدُ أَنْ
أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) ما نافية وأريد فعل مضارع وفاعله أنا وأن وما في حيزها
مفعول أريد وإلى ما متعلقان بأخالفكم وجملة أنهاكم عنه صلة والمعنى ما أريد أن
أسبقكم الى أهوائكم التي نهيتكم عنها ، يقال خالفه الى كذا إذا قصده وهو مول عنه. (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا
اسْتَطَعْتُ) ان نافية وأريد فعل
مضارع فاعله مستتر تقديره أنا وإلا أداة حصر والإصلاح مفعول به وما ظرفية
زمانية متعلقة بأريد. (وَما تَوْفِيقِي
إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) ما نافية وتوفيقي مبتدأ وإلا أداة حصر وبالله خبر وعليه
متعلقان بتوكلت وإليه متعلقان بأنيب والجملتان حاليتان. (وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي
أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ) لا يجرمنكم لا ناهية ويجرمنكم فعل مضارع مبني على الفتح
لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة وهو في موضع جزم بلا والكاف مفعوله الأول وشقاقي
فاعل وأن وما في حيزها مفعول يجرمنكم الثاني والكاف مفعول يصيبكم ومثل فاعل يصيبكم
وهو في الأصل صفة لفاعل محذوف أي عذاب مثل ، وما مضاف إليه أي مثل الذي وجملة أصاب
صلة وقوم نوح مفعول به. (أَوْ قَوْمَ هُودٍ
أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) أو قوم هود عطف على قوم نوح وكذلك قوم صالح وما نافية
حجازية وقوم اسمها ولوط مضاف إليه ومنكم جار ومجرور متعلقان ببعيد والباء حرف جر
زائد وبعيد مجرور بالباء لفظا خبر ما محلا وأتى ببعيد مفردا وإن كان خبرا عن جمع
لأحد أمور منها حذف مضاف تقديره وما إهلاك قوم لوط واما باعتبار زمان أي بزمان
بعيد أو مكان أي بمكان بعيد أو لأن صيغة فعيل يستوي فيها المذكر والمؤنث مما سيرد
معنا في تضاعيف هذا الكتاب الجامع. (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ
ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) واستغفروا ربكم فعل أمر وفاعل ومفعول به ثم توبوا إليه
عطف على استغفروا وان واسمها وخبراها.
(قالُوا يا شُعَيْبُ
ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ) ما نافية ونفقه فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن
وكثيرا مفعول به ومما صفة لكثيرا وجملة تقول صلة. (وَإِنَّا لَنَراكَ
فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ
عَلَيْنا
بِعَزِيزٍ) وانا ان واسمها واللام المزحلقة وجملة نراك خبر ان
والكاف مفعول به وفينا حال وضعيفا مفعول به ثان لأن الرؤية علمية وان روي انه كان
أعمى وألثغ لأنه لو قيل انا لنراك فينا أعمى لم يكن كلاما لأن الأعمى أعمى فيهم
وفي غيرهم ، ولو لا حرف امتناع لوجود ورهطك مبتدأ محذوف الخبر واللام رابطة لجواب
لو لا وجملة رجمناك لا محل لها وما نافية حجازية وأنت اسمها والباء زائدة وعزيز خبرها
وقد تقدمت نظائره كثيرا. (قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي
أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ) الهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي ورهطي مبتدأ وأعز
خبر وعليكم ومن الله متعلقان بأعز. (وَاتَّخَذْتُمُوهُ
وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) الواو حاليا بتقدير قد أي والحال انكم اتخذتموه وراءكم
واتخذ يجوز أن يتعدى لاثنين أولهما الهاء والثاني ظهريا ، ووراءكم متعلقان
باتخذتموه أو حال من ظهريا ويجوز أن يتعدى لواحد فيكون الهاء مفعوله وظهريا حال
والواو في اتخذتموه لاشباع ضمة الميم. (إِنَّ رَبِّي بِما
تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) ان واسمها وبما متعلقان بمحيط وجملة تعملون صلة ومحيط
خبر إن (وَيا قَوْمِ
اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ) اعملوا فعل أمر وفاعل وعلى مكانتكم حال أي حال كونكم
موصوفين بالمكانة العالية والقدرة البعيدة وان واسمها وخبرها. (سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ
عَذابٌ يُخْزِيهِ) سوف حرف استقبال وتعلمون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون
والجملة استئناف بياني وسيأتي المزيد منه في باب البلاغة ومن اسم موصول مفعول به
لتعلمون وهذا أرجح من جعلها استفهامية كما أعرابها بعضهم لتتساوق مع من الثانية
وهي موصولة باتفاق وجملة يأتيه صلة والهاء مفعول يأتي وعذاب فاعل يأتي وجملة يخزيه
صفة لعذاب.
(وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ
وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) ومن اسم موصول عطف
على من الأولى وهو مبتدأ وكاذب خبر والجملة صلة وارتقبوا عطف على المعنى
وارتقبوا فعل أمر وفاعل وإن واسمها ومعكم ظرف متعلق برقيب ورقيب خبر ان. (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا
شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) تقدم إعراب نظيرها تماما. (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ
ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) الذين مفعول مقدم لأخذت وجملة ظلموا صلة الموصول
والصيحة فاعل أخذت. (فَأَصْبَحُوا فِي
دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) أصبح واسمها وجاثمين خبرها وفي ديارهم متعلقان بجاثمين.
(كَأَنْ لَمْ
يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) كأن مخففة واسمها محذوف وجملة لم يغنوا خبرها وفيها
متعلقان بيغنوا وألا أداة تنبيه وبعدا مفعول مطلق لفعل محذوف ولمدين جار ومجرور
متعلقان بمحذوف وقد تقدم وكما نعت لبعد وما مصدرية أي كبعد ثمود.
البلاغة :
١ ـ التكرار :
فقد وقع
التكرار في هذه القصة من ثلاثة أوجه لأنه قال ولا تنقصوا المكيال والميزان وهذا
عين الاول وليس فيه إلا التعبير تبخسوا الناس أشياءهم والفائدة فيه أن القول لما
كانوا مصرين على ذلك العمل القبيح احتيج في المنع منه الى المبالغة في التأكيد ،
والتكرير يفيد شدة الاهتمام بالشيء وقد نهوا أولا عن القبيح الذي كانوا عليه من
نقص المكيال والميزان ثم ورد الأمر بالإيفاء مصرحا بلفظه ليكون أهيج عليه وأدعى
الى الترغيب فيه.
٢ ـ الاستئناف البياني :
إذا كان الكلام
المسوق أولى مما سبقه بالانتباه وأجدر بلفت الأسماع اليه قطع عما قبله بما يلفت
النظر اليه وذلك في قوله تعالى : «ويا قوم اعلموا على مكانتكم اني عامل سوف تعلمون»
فقد حذفت الفاء التي يتطلبها السياق لتلفت نظر السامع وانتباهه الى أن ثمة سؤالا
وهو فماذا يكون بعد ذلك وهو أبلغ في التهويل لأن قوله سوف تعلمون ينطوي على ما لا
يدرك كنهه ولا يسبر غوره من أعمال الانتقام والتهديد.
قال الزمخشري
في صدد هذا الحذف : «أي فرق بين إدخال الفاء وتركها في سوف؟» وأجاب بقوله : «إدخال
الفاء وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل وتركها وصل خفي تقديري بالاستئناف الذي هو جواب
لسؤال مقدر كأنهم قالوا : فماذا يكون إذا عملنا نحن على مكانتنا وعملت أنت على
مكانتك فقيل سوف تعلمون وأقوى الوصلين وأبلغهما الاستئناف لأنه أكمل في باب
الفصاحة والتهويل.
٣ ـ التعريض :
وفي قوله إني
عامل تعريض وقد تقدمت الاشارة الى هذا الفن فقد ذكر لهم احدى العاقبتين دون ذكر
الثانية تعريض أبلغ من التصريح وقد تقدم نظير هذا في سورة الانعام إذ قال «قل يا
قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار» فذكر هناك
إحدى العاقبتين لأن المراد بهذه العاقبة عاقبة الخير واستغنى عن
ذكر مقابلتها ، أما في آية هود فقد ذكر عاقبتهم وهي «سوف تعلمون من يأتيه
عذاب يخزيه» واستغنى بها عن عاقبته وقد لا يذكر عاقبته فتنصرف الى المخاطب كقولك
لمن تهدده : ستعلم من يهان ومن يعاقب وانما تعني المخاطب في الكلامين.
الفوائد :
النسبة المعدولة عن القياس :
نسبت العرب إلى
أشياء كثيرة فغيروا لفظ المنسوب اليه فاستعمل ذلك كما استعملته العرب ولا يقاس
عليه غيره ، وقواعد النسبة معروفة في كتب النحو ، وإنما أتت هذه النسبة معدولة عن
القياس فمن ذلك قولهم بدوي نسبة الى البادية والقياس بادي أو بادوي وقالوا بصري
بكسر الباء نسبة الى البصرة والقياس فتحها وقالوا طائي والقياس طيئي وقالوا سهلي
ودهري بضم السين والدال والقياس سهلي ودهري وقالوا بحراني في النسب الى البحرين
وصنعاني في النسب الى صنعاء وقد قسموا ذلك الى تسعة أقسام نوردها باختصار :
١ ـ بالتحريف
فقط كقولهم أموي بالفتح في الهمزة نسبة الى أمية بضمها ودهري للشيخ الكبير.
٢ ـ بالزيادة
كقولهم مروزي نسبة الى مرو وفوقاني وتحتاني ورباني نسبة الى فوق وتحت ورب.
٣ ـ بالنقص
كقولهم بدوي بحذف الألف وجلولي نسبة الى البادية وجلولاء.
٤ ـ بالحذف
والتحريف كشتوي في شتاء.
٥ ـ بالزيادة
والتحريف كأنافي في أنف.
٦ ـ بالزيادة
والحذف نحو رازي نسبة الى الري.
٧ ـ بالقلب نحو
طائي وصنعاني وروحاني نسبة الى طي وصنعاء وروحاء.
٨ ـ بالقلب
والتحريف نحو ثوب حاري نسبة الى الحيرة.
٩ ـ بتوقير ما
يستحق التغيير نحو أميتي نسبة الى أمية.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا
أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ
يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨)
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ
الْمَرْفُودُ (٩٩) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ
وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ
عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ
أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١) وَكَذلِكَ أَخْذُ
رَبِّكَ
إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢) إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ
النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ
مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ
شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها
زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ
إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا
الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ
وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨))
اللغة :
(يَقْدُمُ) : يقال قدمت القوم أقدمهم قدما إذا مشيت أمامهم واتبعوك
قال الأزهري قدم يقدم وتقدم وقدم واقدم واستقدم بمعنى.
(الْوِرْدُ) ورود الماء الذي يورد والإبل الواردة والجمع أوراد ،
والإيراد إيجاب الورود في الماء أو ما يقوم مقامه ، قال لبيد :
فوردنا قبل
فراط القطا
|
|
إن من وردي
تغليس النهل
|
وأصل الورود
الاشراف على الدخول وليس بالدخول قال زهير :
فلما وردن
الماء زرقا جمامه
|
|
وضعن عصي
الحاضر المتوسم
|
(الرِّفْدُ) : العون على الأمر يقال : رفده يرفده رفدا ورفدا بفتح
الراء وكسرها ، قال الزجاج كل شيء جعلته عونا لشيء وأسندت به شيئا فقد رفدته به ،
يقال عمدت الى الحائط وأسندته وأرفدته ورفدته بمعنى واحد يقال رفده وأرفده إذا
أعطاه والاسم الرفد لأن العطاء عون المعطي.
(الحصيد) :
بمعنى المحصود والحصد قطع الزرع من الأصل وهذا زمن الحصاد بفتح الحاء وكسرها يقال
حصدهم بالسيف إذا قتلهم.
(تَتْبِيبٍ) : من تبت يده أي خسرت وهلكت قال جرير :
عرابة من
بقية قوم لوط
|
|
ألا تبا لما
فعلوه تبا
|
(الزفير والشهيق) : الزفير ترديد
النفس حتى تتفتح منه الأضلاع والشهيق رد النفس الى الصدر وقال ابن فارس : الزفير
ضد الشهيق لأن الشهيق رد النفس والزفير إخراج النفس من شدة الحزن مأخوذ من الزفر
وهو الحمل على الظهر لشدته وقيل الشهيق النفس الممتد مأخوذ من قولهم جبل شاهق أي
عال وقال الليث : الزفير أن يملأ الرجل صدره حال كونه في الغم الشديد من النفس ،
والشهيق أن يخرج ذلك النفس. وهو قريب من قولهم : تنفس الصعداء ، وقال أبو العالية
والربيع بن أنس : الزفير في الحلق والشهيق في الصدر
وقيل الزفير للحمار والشهيق للبغل ، وقال الثعالبي في ترتيب الأصوات :إذا
أخرج المكروب أو المريض صوتا رقيقا فهو الرنين فإذا أخفاه فهو الهنين فإذا أظهره
فخرج خافيا فهو الخنين فإذا زفر به وقبح الأنين فهو الزفير فإذا مد النفس ثم رمى
به فهو الشهيق فإذا تردد نفسه في الصدر عند خروجه فهو الحشرجة.
(مَجْذُوذٍ) مقطوع والجذّ القطع يقال جذه يجذه وبابه رد كما في
المختار وجذ الله دابرهم قال النابغة :
تجذ السلوقي
المضاعف نسجه
|
|
وتوقد
بالصّفّاح نار الحباحب
|
الاعراب :
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) وهذه هي القصة السابعة والأخيرة في هذه السورة وقد
تقدمها قصة نوح وهود وصالح وابراهيم ولوط وشعيب على هذا الترتيب وهذه قصة موسى.
وبآياتنا حال أي حال كونه ملتبسا بآياتنا التسع وقد تقدمت الاشارة إليها وسلطان
عطف على آياتنا ومبين صفة. (إِلى فِرْعَوْنَ
وَمَلَائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) الى فرعون جار ومجرور متعلقان بأرسلنا وملئه عطف على
فرعون فاتبعوا عطف على أرسلنا والواو فاعل وأمر فرعون مفعول به والواو حالية وما
نافية حجازية وأمر اسمها وبرشيد خبرها على زيادة الباء وقد تقدم نظيره. (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ
فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) جملة يقدم قومه مستأنفة والفاء عاطفة وأوردهم النار فعل
وفاعل مستتر والهاء مفعول به أول والنار مفعول به ثان وجاء بلفظ الماضي وسياق
الكلام يقتضي أن
يكون مضارعا لإراءة الصورة كأنها أمر بت فيه وفرغ منه ، وبئس فعل ماض جامد
لإنشاء الذم والورد فاعل والمورود نعت والمخصوص بالذم محذوف أي وردهم. (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) اتبعوا فعل ماض بالبناء للمجهول والواو نائب فاعل وفي
هذه متعلقان باتبعوا والاشارة للحياة الدنيا ويوم القيامة عطف على موضع في هذه
والمعنى انهم الحقوا لعنة في الدنيا وفي الآخرة ، وبئس الرفد المرفود تقدم
إعرابها. (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ
الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ) ذلك مبتدأ ومن أنباء القرى خبره الاول وجملة نقصه خبره
الثاني وعليك متعلقان بنقصه ومنها خبر مقدم وقائم مبتدأ وحصيد عطف على قائم
والجملة مستأنفة أي بعضها عفا أثره وامحى رسمه وبعضها باق ماثل للعيان والاستئناف
بياني كأنه جواب لسؤال سائل عنها. وقال أبو البقاء : منها قائم ابتداء وخبر في
موضع الحال من الهاء في نقصه وحصيد مبتدأ خبره محذوف أي ومنها حصيد ورجح أبو حيان
أن تكون الجملة حالية قال «والحال أبلغ في التخويف وضرب المثل للحاضرين». (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ) الواو عاطفة وما نافية وظلمناهم فعل وفاعل ومفعول به
ولكن مهملة للاستدراك وظلموا أنفسهم فعل وفاعل ومفعول به (فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ
الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) الفاء عاطفة وما نافية وأغنت فعل ماض وعنهم متعلقان
بأغنت وآلهتهم فاعل والتي صفة وجملة يدعون صلة ومن دون الله حال ومن زائدة وشيء
مجرور لفظا منصوب محلا مفعول به. (لَمَّا جاءَ أَمْرُ
رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) لما ظرفية حينية متعلقة بأغنت أو رابطة وجاء أمر ربك
فعل وفاعل وما زادوهم عطف على ما أغنت وعبر بواو العقلاء عن الآلهة لأنهم نزلوها
منزلتهم وزادوهم فعل وفاعل ومفعول به وغير تتبيت مفعول به ثان. (وَكَذلِكَ
أَخْذُ
رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ) محل الكاف الرفع على الابتداء وأخذ ربك خبر وإذا أخذ
القرى إذا ظرف مستقبل وجملة أخذ القرى في محل جر باضافة الظرف إليها. والواو حالية
وهي مبتدأ وظالمة خبر والجملة نصب على الحال وتجدر الاشارة الى أن المسألة هنا من
باب التنازع فقد تنازع المصدر وأخذ في القرى فأعمل الفعل وحذف الضمير من المصدر
وجواب إذا الذي هو ناصبه محذوف والتقدير فلا يغني عنهم من أخذه شيء (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) إن واسمها وخبراها.
(إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ) إن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة
وآية اسمها المؤخر ولمن صفة لآية وجملة خاف عذاب الآخرة صلة (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ
وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) ذلك مبتدأ ويوم خبر ومجموع صفة وله متعلقان بمجموع
والناس نائب فاعل وذلك يوم مشهود عطف على ما تقدم ولا بد من تقدير جار ومجرور أي مشهود
فيه وسيأتي في باب البلاغة السر في ذلك. (وَما نُؤَخِّرُهُ
إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) الواو استئنافية وما نافية ونؤخره فعل مضارع وفاعل
مستتر ومفعول به وإلا أداة حصر ولأجل متعلقان بنؤخره ومعدود صفة. (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ
إِلَّا بِإِذْنِهِ) اضطربت أقوال المعربين في هذه الآية كثيرا وخبطوا في
متاهات يضل معها رائد الحقيقة والسهولة غير المتكلفة وسنختار الأجوبة التي لا معدى
عن إيرادها ضاربين صفحا عن التطويل فنقول الظرف متعلق بقوله لا تكلم أي لا تتكلم
في نفس ذلك اليوم وجملة يأتي مضافة الى الظرف وفاعل يأتي ضمير يعود على ذلك اليوم
المتقدم ذكره لا ضمير اليوم المضاف الى يأتي واختار الزمخشري أن يكون فاعل يأتي هو
الله عز وجل لأن ضمير بإذنه يعود عليه وهو قول وجيه ولكن الأول أقرب الى سياق
الكلام ، ولا نافية وتكلم مضارع أصله تتكلم فحذفت إحدى
تاءيه ونفس فاعل تكلم وإلا أداة حصر وباذنه حال. (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) الفاء للتفريع ومنهم خبر مقدم وشقي مبتدأ مؤخر وسعيد
مبتدأ خبره محذوف دل عليه ما قبله أي ومنهم سعيد. (فَأَمَّا الَّذِينَ
شَقُوا فَفِي النَّارِ) الفاء للتفريع أيضا وأما حرف شرط وتفصيل والذين مبتدأ وجملة
شقوا صلة والفاء رابطة وفي النار خبر الذين (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ
وَشَهِيقٌ) لهم خبر مقدم وفيها حال لأنه كان صفة لزفير وزفير مبتدأ
مؤخر وشهيق مبتدأ حذف خبره أيضا. (خالِدِينَ فِيها ما
دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) خالدين حال من الذين شقوا وفيها متعلقان بخالدين وما
دامت السموات ما مصدرية زمنية ودامت هنا تامة لأنها بمعنى بقيت والسموات فاعل دامت
والأرض عطف. (إِلَّا ما شاءَ
رَبُّكَ) إلا أداة استثناء وما مستثناة وسيأتي القول في هذا
الاستثناء المشكل في باب الفوائد وجملة شاء ربك صلة. (إِنَّ رَبَّكَ
فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) ان واسمها وخبرها ولما متعلقان بفعال وجملة يريد صلة (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي
الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ
رَبُّكَ) تقدم اعرابها آنفا.
قرأ ابن مسعود
وطلحة بن مصرف وابن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وحفص سعدوا بضم السين وباقي
السبعة والجمهور بفتحها وكان علي بن سليمان يتعجب من قراءة الكسائي سعدوا مع علمه
بالعربية ولا يتعجب من ذلك إذ هي قراءة منقولة عن ابن مسعود ومن ذكرنا معه وقد
احتج الكسائي بقولهم مسعود قيل ولا حجة فيه لأنه يقال مكان مسعود فيه ثم حذف فيه
وسمي به وقال الثعلبي : «سعد وأسعد بمعنى واحد» وفي الأساس : «وسعدت به وسعدت وهو
سعيد ومسعود» وفي القاموس «وقد سعد كعلم وعني فهو سعيد ومسعود ولا يقال مسعد» وقال
أبو عمرو بن العلاء : «يقال
سعد الرجل كما يقال حسن وقيل سعده لغة مهجورة وقد ضعف جماعة قراءة الأخوين»
وهي قراءة حفص وفي المصباح : سعد فلان يسعد من باب تعب في دين أو دنيا سعدا
وبالمصدر سمي والفاعل سعيد والجمع سعداء ويعدى بالحركة في لغة فيقال : سعده الله
يسعده بفتحتين فهو مسعود وقرىء في السبعة بهذه اللغة في قوله : وأما الذين سعدوا
بالبناء للمجهول والأكثر أن يتعدى بالهمزة فيقال أسعده الله وسعد بالضم خلاف شقي.
(عَطاءً غَيْرَ
مَجْذُوذٍ) عطاء نصب على المصدر المؤكد من معنى الجملة قبله لأن
قوله ففي الجنة خالدين فيها يقتضي إعطاء وإنعاما ، وغير مجذوذ صفة لعطاء.
البلاغة :
انطوت هذه
الآيات على أفانين من البلاغة ، ومجموعة من الفوائد :
١ ـ فأولها
استعمال اسم المفعول مكان فعله في قوله تعالى :«ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم
مشهود» والسر في إيثار المفعول هو وصف اليوم بمعنى الجمع والثبات المستقر
والديمومة لذلك الثبات فيه وانه يوم أعد ليكون ميعادا مضروبا لا محيد عنه ولا مساغ
لتبديله لجميع الناس على السواء ولو انه عبر بالفعل لم يقع ذلك الموقع ولأشعر
بالتجدد والتبدل ونظيره قول المتهدّد : انك لمنهوب مالك ، محروب قومك ، فيه من
ثبات الوصف وديمومته ما ليس في الفعل والاتساع في الظرف.
٢ ـ ٣ وثانيها
وثالثها الجمع مع التفريق فالجمع في قوله «لا تكلم نفس إلا بإذنه» والتفريق في
قوله «فمنهم شقي وسعيد».
٤ ـ التقسيم في
قوله «فأما الذين شقوا» الى آخر الآية. ومن أمثله الجمع مع التفريق في الشعر قول
البحتري :
ولما التقينا
والنقا موعد لنا
|
|
تعجّب رائي
الدّر منا ولاقطه
|
فمن لؤلؤ
تجلوه عند ابتسامها
|
|
ومن لؤلؤ عند
الحديث تساقطه
|
أما التقسيم
فقد طفح به الشعر العربي فقال أبو نواس مقسما الزمن الى يوم وأمس وغد :
أمر غد أنت
منه في لبس
|
|
وأمس قد فات
فاله عن أمس
|
وانما الشأن
شأن يومك ذا
|
|
فباكر الشمس
بابنة الشمس
|
وافتنوا فيه
كثيرا فأطلقه أبو الطيب على أحوال الشيء المراد تقسيمه مضافا الى كل من تلك
الأحوال ما يليق به فقال :
سأطلب حقي
بالقنا ومشايخ
|
|
كأنهم من طول
ما التثموا مرد
|
ثقال إذا
لاقوا خفاف إذا دعوا
|
|
كثير إذا
شدّوا قليل إذا عدوا
|
وله أيضا :
الدهر معتذر
والسيف منتظر
|
|
وأرضهم لك
مصطاف ومرتبع
|
للسبي ما
نكحوا والقتل ما ولدوا
|
|
والنهب ما
جمعوا والنار ما زرعوا
|
وله في الغزل :
وأغيد يهوى
نفسه كلّ عاقل
|
|
ظريف ويهوى
جسمه كل فاسق
|
سهاد لأجفان
وشمس لناظر
|
|
وسقم لأبدان
ومسك لناشق
|
وما أحلى قول
عمر بن الفارض :
يقولون لي :
صفها فأنت بوصفها
|
|
خبير أجل
عندي بأوصافها علم
|
صفاء ولا ماء
ولطف ولا هوا
|
|
ونور ولا نار
وروح ولا جسم
|
الفوائد :
الاستثناء
الموجود في قوله تعالى «إلا ما شاء ربك» تقدم بحثه في سورة الانعام فجدد به عهدا
وقد رجحنا هناك ما ذهب اليه الزجاج ونضيف اليه هنا أن الفراء ذهب الى ما ذهب اليه
الزجاج وقال كلاما لطيفا في صدده ننقله ليضاف الى ما تقدم قال : «انه استثناء في
الزيادة من العذاب لأهل النار والزيادة من النعيم لأهل الجنة والتقدير إلا ما شاء
ربك من الزيادة على هذا المقدار كما يقول الرجل لغيره لي عليك ألف دينار إلا
الألفين اللذين أقرضتكهما في وقت كذا فالألفان زيادة على الألف بغير شك لأن الكثير
لا يستثنى من القليل ورأيت لعلي بن عيسى المعروف بالرماني كلاما بهذا المعنى وحاصل
ما تقدم أن الا في
المعنى بمعنى حرف العطف والاستثناء منقطع فكأنه قيل خالدين فيها ما دامت
السموات والأرض وزيادة على هذه المدة فكأن إلا بمعنى الواو وأنشد الفراء مستدلا
على ذلك :وأرى لها دارا بأغدر السيدان لم يدرس لها رسم
إلا رمادا
هامدا رفعت
|
|
عنه الرياح
خوالد سحم
|
وهذا الوجه
الذي وقع عليه اختيارنا وذهب اليه الزجاج والفراء هو الثالث عشر فهناك اثنا عشر
مذهبا متفاوتة.
ويطول بنا
القول إذا ما حاولنا نقل هذه الأوجه فليرجع إليها من شاء في التفاسير الكبرى ليرى
كيف تتفاوت الأفهام ويطيب لنا أن ننقل هنا رأيا يحتاج الى التأويل وهو لفيلسوف
الصوفية محيي الدين ابن عربي قال : انهم يعذبون فيها مدة ثم تنقلب عليهم وتبقى
طبيعة نارية لهم يتلذذون بها لموافقتها لطبيعتهم فإن الثناء بصدق الوعد لا بصدق
الوعيد. وقال في موضع آخر : إن أهل النار إذا دخلوها لا يزالون خائفين مترقبين أن
يخرجوا منها فاذا أغلقت عليهم أبوابها اطمأنوا لأنها خلقت على وفق طباعهم.
ولبدوي الجبل
في العصر الحديث قصيدة عصماء قال فيها يصف أهل النار :
لا يألمون
ولا تشكو جسومهم
|
|
من اللظى فهي
نيران بنيران
|
وقد علق ابن
القيم على هذا القول قائلا : وهذا في طرف والمعتزلة القائلون بأن الله يجب عليه
تعذيب من توعده بالعذاب في طرف آخر
فأولئك عندهم لا ينجو من النار من دخلها أصلا وقد استرسل الزمخشري في
التشنيع على أهل السنة في هذا الصدد مما يطول بحثه وانما نقلنا هذه اللمح للاطلاع.
(فَلا تَكُ فِي
مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ
مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩) وَلَقَدْ
آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ
رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠)
وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما
يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا
تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢))
اللغة :
(مِرْيَةٍ) : المرية بكسر الميم وضمها الشك مع ظهور الدلائل للتهمة
وهي مأخوذة من مرى ضرع الناقة ليدرّ بعد دروره وامترى في الشيء شك واستمرى اللبن
ونحو استخرجه واستدره.
الاعراب :
(فَلا تَكُ فِي
مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) الفاء استئنافية والجملة مسوقة للدلالة على ما أحدثته
القصص السالفة في نفسه صلى الله عليه وسلم من أثر وان عكوف كفار قريش على عبادة
أصنامهم ليست من دواعي المثبطات لعزيمته. ولا ناهية وتك فعل مضارع مجزوم بلا
وعلامة جزمه السكون المقدرة على النون المحذوفة للتخفيف وقد سبق ذكر خصائص كان ،
واسمها ضمير مستتر تقديره أنت وفي مرية خبرها ومما صفة وجملة يعبد صلة وهؤلاء فاعل
ويجوز أن تكون ما مصدرية (ما يَعْبُدُونَ
إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ) ما نافية ويعبدون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو
فاعل وإلا أداة حصر والكاف نعت لمصدر محذوف وما يجوز أن تكون موصولة أو مصدرية ومن
قبل متعلقان بمحذوف حال. (وَإِنَّا
لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) الواو عاطفة وان واسمها واللام المزحلقة وموفوهم خبر ان
والهاء مضاف اليه ونصيبهم مفعول به وغير منقوص حال مبينة للنصيب الموفى وقيل بل
حال مؤكدة لأن التوفية تستلزم عدم نقصان الموفى كاملا كان أو ناقصا فقولك وفيته
نصف حقه تستلزم عدم نقصان فما وجه انتصابه حالا عنه والأوجه أن يقال استعملت
التوفية بمعنى الإعطاء ومن قال أعطيت فلانا حقه كان جديرا بأن يوكده بقوله غير
منقوص.
(وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) الواو استئنافية واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق
وآتينا موسى الكتاب : فعل وفاعل ومفعول به ، فاختلف : الفاء حرف عطف واختلف فعل
ماض مبني للمجهول وفيه سد مسد نائب الفاعل ومعنى في الظرفية أي من شأنه وقيل هي
سببية. (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) الواو عاطفة ولو لا
حرف امتناع لوجود وكلمة مبتدأ محذوف الخبر وجملة سبقت صفة ومن ربك جار
ومجرور متعلقان بسبقت واللام جواب لو وقضي بينهم فعل ماض مبني للمجهول ونائب
الفاعل مستتر والظرف متعلق به أي وقضي الأمر بينهم. (وَإِنَّهُمْ لَفِي
شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) الواو حالية وان واسمها وفي شك خبرها ومنه صفة لشك ومريب
صفة ثانية.
(وَإِنَّ كُلًّا
لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ) هذه الآية مشكلة جدا ويزداد الاشكال في قراءتنا وهي
تشديد إن وتثقيل لما وقد اعترف المعربون القدامى بعجزهم فقال السمين ما نصه : «هذه
الآية الكريمة مما تكلم الناس فيها قديما وحديثا وعسر على أكثرهم تلخيصها قراءة
وتخريجا وقد سهل الله تعالى ذلك فذكرت أقاويلهم وما هو الراجح منها» ثم هام في
متاهات سحيقة يضيع الطالب فيها وسنتجاوز جريا على عادتنا تلك الاوجه المتشعبة
والمسالك المتباينة ونكتفي بقراءتنا وهي قراءة حفص وأبي جعفر وابن عامر وحمزة فنقول
: إن واسمها ولمّا ذكروا فيها أوجها أربعة أسهلها وأبعدها عن التكلف ما اختاره
الزجاج انها بمعنى إلا كقولهم سألتك لما فعلت بمعنى إلا وهو وجه سهل يزول به كل
إشكال لو لا أنه يتعارض مع ما قاله الفراء : هذا لا يجوز إلا في التمني كما قال
الخليل أو بعد النفي كقوله تعالى «إن كل نفس لما عليها حافظ» ولكنه على ما فيه
أسهل من الأوجه الثلاثة الباقية وهي أن تكون بمعنى لمن ما فحذفت الميمات الثلاث
واختاره الفراء وأنشد :
وإني لمما
أصدر الأمر وجهه
|
|
إذا هو أعيا
بالسبيل مصادره
|
والثاني أن
تكون مخففة وشددت للتأكيد واختياره المازني ولكن هذا مردود لانه إنما يجوز تخفيف
المشددة عند الضرورة فأما تشديد المخففة فلا يجوز بحال ورابع الأوجه انها مصدر لم
من لمت الشيء إذا جمعته
إلا أنها بنيت فلم تصرف فكأنه قال وإن كلا جميعا ليوفينهم وفي هذا ما فيه
والله أعلم. وليوفينهم اللام جواب للقسم المقدر ويوفينهم فعل مضارع مبني على الفتح
والهاء مفعول وربك فاعل والجملة خبر ان وأعمالهم مفعول به ثان (إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) إن واسمها وبما يعملون متعلقان بخبير وخبير خبر ان (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ
مَعَكَ) الفاء الفصيحة واستقم فعل أمر وكما نعت لمصدر محذوف أي
فاستقم استقامة مثل الاستقامة التي أمرت بها على جادة الحق غير منحرف عنها ، ومن :
الواو عاطفة ومن موصول معطوف على الضمير في استقم وانما جاز العطف عليه من غير
تأكيد بالمنفصل لقيام الفاصل مقامه ومعك ظرف متعلق بمحذوف صلة للموصول ويجوز أن
يكون مفعولا معه والواو للمعية. (وَلا تَطْغَوْا
إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) لا ناهية وتطغوا مضارع مجزوم بلا والواو فاعل وان
واسمها وبما تعملون خبرها وقد تقدم نظيره.
البلاغة :
الإيجاز في
قوله تعالى «فاستقم» ذلك لأن الاستقامة هي الاستمرار في جهة واحدة وأن لا يعدل
يمينا أو شمالا ومعروف أن الخط المستقيم هو أقصر بعد بين نقطتين فأقل انحراف يخرجه
عن استقامته واذن فقد انتظم في كلمة الاستقامة جميع مكارم الأخلاق ، ومحاسن
الأحكام الأصلية والفرعية والكمالات التي ينشدها العارفون والمقربون ، والتحلل من
ذلك خطير واجتناب التحلل عسير ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث
رواه ابن عباس عند ما قال له أصحابه : لقد أسرع فيك الشيب : «شيبتني هود والواقعة
وأخواتهما».
الفوائد :
ما يقوله أبو حيان :
وقال أبو حيان
: «وأما القراءة الثانية فتشديد إن وإعمالها في كل واضح وأما تشديد لما فقال
المبرد : هذا لحن لا تقول العرب إن زيدا لما خارج ، وهذه جسارة من المبرد على
عادته وكيف تكون قراءة متواترة لحنا ، وليس تركيب الآية كتركيب المثال الذي قال
وهو إن زيدا لما خارج ، هذا المثال لحن وأما في الآية فليس لحنا ولو سكت وقال كما
قال الكسائي : ما أدري ما وجه هذه القراءة لكان قد وفق وأما غير هذين من النحويين
فاختلفوا في تخريجها».
ثم أورد أبو
حيان سيلا من التخريجات وشجبها كلها ومنها الوجه الذي اخترناه وقال أخيرا : «وهذه
كلها تخريجات ضعيفة جدا ينزه عنها القرآن وكنت قد ظهر لي فيها وجه جار على قواعد
العربية وهو ان «لما» هذه هي لما الجازمة حذف فعلها المجزوم لدلالة المعنى عليه
كما حذفوه في قولهم : قاربت المدينة ولما يريدون ولما أدخلها وكذلك هنا التقدير :
وإن كلا لما ينقص من جزاء عمله ، ويدل عليه قوله تعالى : ليوفينهم ربك أعمالهم لما
أخبر بانتفاء نقص أجزاء أعمالهم أكده بالقسم فقال ليوفينهم ربك أعمالهم وكنت
اعتقدت اني سبقت الى هذا التخريج السائغ العاري من التكلف وذكرت ذلك لبعض من يقرأ
علي فقال : قد ذكر ذلك أبو عمرو ابن الحاجب ولتركي النظر في كلام هذا الرجل لم أقف
عليه ثم رأيت في كتاب التحرير نقل هذا التخريج عن ابن الحاجب قال : «لما» هذه
هي الجازمة حذف فعلها للدلالة عليه لما ثبت من جواز حذف فعلها في قولهم :
خرجت ولما سافرت ولما ونحوه وهو سائغ فصيح فيكون التقدير لما يتركوا لما تقدم من
الدلالة عليه من تفصيل المجموعين في قوله : فمنهم شقي وسعيد ثم ذكر الأشقياء
والسعداء ومجازاتهم ثم بين ذلك بقوله : ليوفينهم ربك أعمالهم قال : ما أعرف وجها
أشبه من هذا وان كانت النفوس تستبعده من جهة أن مثله لم يقع في القرآن».
(وَلا تَرْكَنُوا
إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ
مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ
النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ
ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ
الْمُحْسِنِينَ (١١٥) فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا
بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ
أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا
مُجْرِمِينَ (١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها
مُصْلِحُونَ (١١٧))
اللغة :
(تَرْكَنُوا) : الركون الى الشيء هو السكون إليه بالمحبة له
والإنصات اليه وفي المصباح : «ركنت الى زيد اعتمدت عليه وفيه لغات احداها
من باب تعب وعليه قوله تعالى : «ولا تركنوا الى الذين ظلموا» وركن ركونا من باب قعد
قال الأزهري وليست بالفصيحة ، والثالثة ركن يركن بفتحتين وليسب بالأصل بل من باب
تداخل اللغتين لأن باب فعل يفعل يكون حلقي العين أو اللام». وقال الراغب : «والصحيح
انه يقال ركن يركن بالفتح فيهما وركن يركن بالكسر في الماضي والفتح في المضارع
وبالفتح في الماضي والضم في المضارع» ويؤخذ من القاموس وشرحه وغيره من معاجم اللغة
انه من باب دخل ومن باب تعب أما اللازم منه فبابه ركن بضم الكاف أي كان رزينا
وقورا.
(زُلَفاً) بضم الزاي وفتح اللام : جمع زلفة من الليل أي طائفة وفي
القاموس : الزلفى الطائفة من الليل والجمع زلف وزلفات كغرف وغرفات ، قال العجاج :
تاج طواه
الأين مما رجفا
|
|
طيّ الليالي
زلفا فزلفا
|
(أُتْرِفُوا) نعموا وترف كفرح تنعم وأترفته النعمة أبطرته وأطغته
الاعراب :
(وَلا تَرْكَنُوا
إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) الواو استئنافية ولا ناهية وتركنوا فعل مضارع مجزوم بلا
والواو فاعل والى الذين جار ومجرور متعلقان بتركنوا وجملة ظلموا صلة ، فتمسكم :
الفاء السببية وتمسكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء الواقعة
بعد النهي والكاف مفعول به والنار فاعل. (وَما لَكُمْ مِنْ
دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) الواو حالية أو استئنافية أيضا والجملة حالية أي تمسكم
النار حال انتفاء ناصركم أو مستأنفة وما نافية ولكم خبر مقدم ومن دون الله حال
لأنه كان في الأصل صفة لأولياء ومن حرف جر زائد وأولياء مجرور لفظا بالفتحة مرفوع
محلا لأنه مبتدأ مؤخر وثم حرف عطف ولا نافية وتنصرون فعل مضارع ولم ينصبه نسقا على
تركنوا لأنه من عطف الجمل عطف جملة فعلية على جملة اسمية (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ
وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) الواو عاطفة وأقم فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت
والصلاة مفعول به وطرفي النهار نصب على الظرفية بأقم والمراد بطرفي النهار الغداة
والعشي وزلفا منصوب على الظرفية أيضا بأقم ومن الليل صفة. (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ
السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) إن واسمها وجملة يذهبن خبرها والنون فاعل يذهبن
والسيئات مفعول به وذلك مبتدأ وذكرى خبر وللذاكرين جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة
لذكرى (وَاصْبِرْ فَإِنَّ
اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) واصبر عطف على أقم والفاء تعليلية وان واسمها وجملة لا
يضيع خبرها وأجر المحسنين مفعول به. (فَلَوْ لا كانَ مِنَ
الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي
الْأَرْضِ) الفاء استئنافية ولو لا تحضيضية ولعل اعراب كان تامة
أولى إذا المعنى فهلا وجد أو حدث فيتعلق من القرون بها أو بمحذوف حال ومن قبلكم
حال من القرون وأولو فاعلها وعلامة رفعه الواو لأنه ملحق بجمع المذكر السالم وبقية
مضاف اليه وجملة ينهون عن الفساد صفة لأولو بقية وفي الأرض جار ومجرور متعلقان
بالفساد وإذا جعلنا كان ناقصة فيكون من القرون متعلقان بمحذوف حال وتكون جملة
ينهون خبرها وأولو بقية اسمها والمصدر المقترن بأل يعمل في المفاعيل
الصريحة فيكون في المؤولة والظروف أولى ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال
من الفساد. (إِلَّا قَلِيلاً
مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ) إلا أداة استثناء وقليلا مستثنى منقطع لئلا يفسد المعنى
وننقل هنا عبارة الزمخشري وهي : «معناه ولكن قليلا ممن أنجينا من القرون نهوا عن
الفساد وسائرهم تركوا النهي» ثم قال : «فإن قلت هل لوقوع هذا الاستثناء متصلا وجه
يحمل عليه؟ قلت : ان جعلته متصلا على ما هو عليه ظاهر الكلام كان المعنى فاسدا
لأنه يكون تحضيضا لأولي البقية على النهي عن الفساد لا للقليل من الناجين منهم كما
تقول : هلا قرأ قومك القرآن إلا الصلحاء منهم ، يريد استثناء الصلحاء من المحضضين
على قراءة القرآن وإن قلت في تحضيضهم على النهي عن الفساد معنى نفيه عنهم فكأنه
قيل : ما كان من القرون أولو بقية إلا قليلا كان استثناء متصلا ومعنى صحيحا وكان
انتصابه على أصل الاستثناء وإن كان الأفصح أن يرفع على البدل» وممن صفة لقليلا
وجملة أنجينا صلة ومنهم حال. (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ
ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ) واتبع عطف على مضمر دل عليه الكلام تقديره فلم ينهوا عن
الفساد واتبع ، والذين فاعل وجملة ظلموا صلة وما مفعول به وجملة أترفوا صلة وفيه
متعلقان بأترفوا وكانوا مجرمين كان واسمها وخبرها والجملة عطف على أترفوا. (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى
بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) الواو استئنافية وما نافية وكان فعل ماض ناقص وربك
اسمها وليهلك اللام للجحود وهي المسبوقة بكون منفي ويهلك منصوب بأن مضمرة بعد
اللام والجار والمجرور متعلقان بالخبر المحذوف أي مريدا ليهلك وقد سبق تقرير ذلك
والقرى مفعول به وبظلم حال من الفاعل وأهلها الواو حالية وأهلها مبتدأ ومصلحون خبر
والجملة حالية من المفعول به أي القرى.
البلاغة :
في قوله تعالى
: «ولا تركنوا الى الذين ظلموا» الى آخر الآية فنون عديدة من البلاغة التي تتقطع
دونها الأعناق وسنبسطها بما يلي :
١ ـ ائتلاف اللفظ مع المعنى :
إذ لما كان
الركون الى الذين ظلموا دون فعل الظالمين وجب أن يكون العقاب عليه دون عقاب
الظالمين ومسّ النار في الحقيقة دون الإحراق ولما كان الإحراق عقابا للظالم أوجب
العدل أن يكون المسّ عقاب الراكن الى الظالم فلهذا عدل عز وجل عن قوله مثلا ...
فندخلوا النار
، لكون الدخول مظنة الإحراق وخصّ المسّ ليشير به الى ما يقتضي الركون من العقاب
ويميز بين ما يستحق الظالم وبين ما يستحق الراكن له من العقاب وإن كان مس النار قد
يطلق ويراد به الإحراق لكن هذا الإطلاق مجاز والحقيقة ما ذكرناه لأن حقيقة المس
أول ملاقاة الجسم حرارة النار وإذا احتمل اللفظ احتمالات صرف منها الى ما تدل عليه
القرائن والائتلاف في هذه الآية معنوي.
٢ ـ الادماج :
فقد أدمج الله
سبحانه وصفه بالعدل فتعلق فن الفخر بفن الأدب إذ ظاهر الآية التأديب ومن أجله جاءت
في هذا الباب الموعظة ووصف الحق عز وجل بالعدل.
٣ ـ البسط :
فلم يقل
الظالمين وعدل عن ذلك الى قوله «الذين ظلموا» لما يحتمل الاول من استمرار الظلم
الذي لا يلائم المساس ولا تحصل به المبالغة التي تحصل من لفظ الثاني من وقوع الظلم
على سبيل الندور ليلائم المعنى معنى الركون ومعنى المساس وتحصل المبالغة الحقة
لأنه سبحانه إذا نهى عن الركون الى من استمر منه الظلم بطريق أولى وإذا نهى عن
الركون إلى الظالم كان النهي عن فعل الظلم أحرى.
ونثبت هنا بهذه
المناسبة كتاب آية في البلاغة وهو يتناسب مع المقام : لما خالط الزهري السلاطين
كتب اليه أخ في الدين : عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن فقد أصبحت بحال ينبغي
لمن عرفك أن يدعو لك الله ويرحمك ، أصبحت شيخا كبيرا وقد أثقلتك نعم الله بما فهمك
الله من كتابه وعلمك من سنة نبيه وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء ، قال
سبحانه : «لتبيننه للناس ولا تكتمونه» واعلم أن أيسر ما ارتكبت وأخف ما احتملت انك
آنست وحشة الظالم ، وسهلت سبيل الغي ، بدنوك ممن لم يؤد حقا ، ولم يترك باطلا حين
أدناك ، اتخذوك قطبا تدور عليه رحى باطلهم ، وجسرا يعبرون عليك الى بلائهم ، وسلما
يصعدون فيك الى ضلالهم ، يدخلون الشك بك على العلماء ، ويقتادون بك قلوب الجهلاء ،
فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خرّبوا عليك ، وما أكثر ما أخذوا منك في جنب ما
أفسدوا عليك من دينك ، فما يؤمنك أن تكون ممن قال الله فيهم : «فخلف من بعدهم خلف
أضاعوا الصلاة ، واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيّا» فانك تعامل من لا يجهل ويحفظ
عليك من لا يغفل ، فدا ودينك فقد دخله سقم ،
وهيء زادك فقد حضر السفر البعيد «وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في
السماء» والسلام.
(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ
لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ
مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩) وَكُلاًّ
نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي
هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا
إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ
يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ
بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣))
الاعراب :
(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ
لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) الواو استئنافية ولو شرطية امتناعية وشاء ربك فعل وفاعل
واللام واقعة في جواب لو وجعل الناس أمة جعل ومفعوليها وواحدة صفة. (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا
مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ)
الواو عاطفة ولا يزالون فعل مضارع ناقص والواو اسمها ومختلفين خبرها وإلا
من رحم ربك قال الزجاج استثناء منقطع على معنى لكن وتقديره لكن من رحم ربك فإنه
غير مختلف واكتفى أبو البقاء بقوله هو مستثنى من ضمير الفاعل في يزالون. (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ
كَلِمَةُ رَبِّكَ) لذلك متعلق بخلقهم والاشارة الى الاختلاف والرحمة
وخلقهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به وتمت كلمة ربك فعل وفاعل والمراد بكلمته قضاؤه
الأزلي وحكمه المبرم. (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ
مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) لأملأن جهنم جواب قسم مقدر تقديره يمينا لأملأن وأملأن
فعل مضارع مبني على الفتح وجهنم مفعول به ومن الجنة جار ومجرور متعلقان بأملأن ،
والجنة هي الجن والتاء للمبالغة وأجمعين تأكيد. (وَكُلًّا نَقُصُّ
عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) يجوز أن تنصب كلا نصبا على المصدر وتقديره وكل القصص
نقص عليك وجملة نقص عليك في موضع الصفة لقوله وكلا ، ويجوز أن ينصب على المفعولية
والمضاف اليه محذوف عوض منه التنوين تقديره كل نبأ نقص عليك ومن أنباء صفة لكلا وما
اسم موصول في محل نصب بدل من كلا وقيل زائدة ، وعلى الوجه الاول تعرب مفعولا وجملة
نثبت به فؤادك صلة ومعنى تثبيت القلب زيادة يقينه وما فيه طمأنينة قلبه. (وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ
وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) وجاءك فعل ومفعول به وفي هذه متعلقان بجاءك والاشارة
الى السورة أو الأنباء المقتصة فيها والحق فاعل جاءك وما بعده عطف عليه. (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) للذين جار ومجرور متعلقان بقل وجملة لا يؤمنون صلة
واعملوا فعل أمر والواو فاعل والجملة مقول القول وعلى مكانتكم حال أي حال كونكم
ثابتين على مكانتكم وقد سبق القول في المكانة. (إِنَّا عامِلُونَ) ان واسمها
وخبرها. (وَانْتَظِرُوا إِنَّا
مُنْتَظِرُونَ) انتظروا فعل أمر والواو فاعل وإنا منتظرون ان واسمها
وخبرها والتهديد واضح. (وَلِلَّهِ غَيْبُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) لله خبر مقدم وغيب السموات مبتدأ مؤخر واليه متعلقان
بيرجع والأمر نائب فاعله وكله تأكيد. (فَاعْبُدْهُ
وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) الفاء الفصيحة واعبده فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به
وتوكل عطف على اعبده وعليه متعلقان بتوكل وما حجازية وربك اسمها والباء حرف جر
زائد وغافل مجرور لفظا منصوب محلا خبرها وعما متعلقان بغافل ويعملون صلة ما.
سورة يوسف
مكية وآياتها احدى
عشرة ومائة
(الر تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (٣)
إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ
عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ
مُبِينٌ (٥) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ
الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها
عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ (٦))
اللغة :
(الْقَصَصِ) : على وجهين : أحدهما يكون مصدرا بمعنى الاقتصاص تقول
قصّ الحديث يقصّه قصصا وثانيهما يكون فعلا بمعنى مفعول كالنفض بمعنى المنفوض
واشتقاقه من قصّ أثره إذا تبعه لأن الذي يقصّ الحديث يتبع ما حفظ منه شيئا فشيئا.
الاعراب :
(الر تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ الْمُبِينِ) الر : تقدم اعرابها والقول فيها وتلك مبتدأ وآيات خبر
والكتاب مضاف اليه والمبين صفة للكتاب.
(إِنَّا أَنْزَلْناهُ
قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ان واسمها وجملة أنزلناه خبرها وقرآنا حال من ضمير
أنزلناه أي الهاء وقيل انتصب على البدلية من الضمير ، وعربيا صفة ولعلكم تعقلون :
لعل واسمها وجملة تعقلون خبرها. (نَحْنُ نَقُصُّ
عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) نحن مبتدأ وجملة نقص خبر والفاعل مستتر تقديره نحن
وعليك متعلقان بنقص وأحسن مفعول به إذا كان القصص مصدرا بمعنى المفعول ومفعول مطلق
إذا كان القصص مصدرا غير مراد به المفعول والقصص مضاف اليه والباء للسببية وما
مصدرية وهي مع ما في حيزها مجرورة بالباء والجار والمجرور متعلقان بنقص أيضا أي
بسبب ايحائنا وإليك متعلقان بأوحينا وهذا مفعول به والقرآن بدل من اسم الاشارة. (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ
الْغافِلِينَ) الواو للحال وان مخففة من الثقيلة وكان واسمها ومن قبله
حال واللام الفارقة ومن الغافلين خبر كنت. (إِذْ قالَ يُوسُفُ
لِأَبِيهِ : يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ
عَشَرَ
كَوْكَباً) يجوز لك أن تعلق إذ الظرفية بفعل مضمر أي اذكر ولك أن
تجعله بدل اشتمال من أحسن القصص ويجوز أن يتعلق بنقص ولكن في هذا إخراجا لاذ عن
المضي ، وجملة قال يوسف مضاف إليها الظرف ولأبيه متعلقان بقال ويا حرف نداء وأبت
منادى مضاف الى ياء المتكلم التي حذفت وعوضت عنها التاء المكسورة أو المفتوحة
وسيرد المزيد عنها في باب الفوائد وكسرت همزة إن بعد القول والياء اسم ان وجملة
رأيت خبرها وأحد عشر جزءان عدديان مبنيان على الفتح في محل نصب مفعول به لرأيت
وكوكبا تمييز ورأيت من الرؤيا أي المنام وهي تنصب مفعولين. (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ
لِي ساجِدِينَ) الواو حرف عطف والشمس والقمر معطوفان على أحد عشر كوكبا
ورأيتهم فعل وفاعل ومفعول به وليست تأكيدا لرأيتهم الأولى ولي متعلقان بساجدين
وساجدين مفعول به ثان لرأيتهم وأعربها أبو البقاء حالا وقال ان الرؤية عينية
وسيأتي تحقيق هذا في باب البلاغة. (قالَ يا بُنَيَّ لا
تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ) يا بني تقدم أعربها في هود ولا ناهية وتقصص فعل مضارع
مجزوم بلا ورؤياك مفعول به وعلى إخوتك جار ومجرور متعلقان بتقصص. (فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ
الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) الفاء سببية ويكيدوا منصوب بأن مضمرة لأنه وقع جوابا
للنهي والواو فاعل ولك متعلقان بيكيدوا وكيدا يحتمل أن يكون مفعولا مطلقا مؤكدا
ويحتمل أن يكون مفعولا به أي يصنعوا لك كيدا وإن الشيطان إن واسمها وللانسان حال
وعدو خبر إن ومبين صفة.
(وَكَذلِكَ
يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) كذلك نعت لمصدر محذوف أي كما اجتباك واختارك لهذه
الرؤيا العظيمة يجتبيك لأمور عظام ، والكاف مفعول يجتبيك وربك فاعل ويعلمك ليس
عطفا على يجتبيك ولكنه كلام مستأنف كأنه قيل وهو يعلمك ويتم
نعمته ، ومن تأويل جار ومجرور متعلقان بيعلمك والأحاديث مضاف اليه. (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى
آلِ يَعْقُوبَ) عطف على يعلمك ونعمته مفعول به وعليك جار ومجرور
متعلقان بنعمته أو بيتم وعلى آل يعقوب عطف عليه. (كَما أَتَمَّها عَلى
أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) كما أنها نعت لمصدر محذوف أي إتماما مثل إتمامها على
أبويك وعلى أبويك متعلقان بأتمها ومن قبل حال وابراهيم بدل من أبويك أو عطف بيان
واسحق عطف على ابراهيم وان واسمها وخبراها.
البلاغة :
١ ـ في قوله
تعالى «رأيتهم» تكرار يظنّه الناظر أنه تأكيد لأول وهلة وليس هو بالتأكيد وانما هو
كلام مستأنف على تقدير سؤال وقع جوابا له ويجوز أن تكون للتوكيد باعتبار أن طول
الفصل بالمفاعيل استدعى ذلك فجيء برأيتهم تطرية وتنويعا للحديث.
٢ ـ في قوله
تعالى «ساجدين» أجرى الكواكب الأحد عشر والشمس والقمر مجرى العقلاء وهو الذي يسميه
النحاة تغليبا وهذا الوصف صناعي ، أما السر البياني فأمر كامن وراء هذا الوصف ذلك
لأنه لما وصف الكواكب والشمس والقمر بما هو خاص بالعقلاء وهو السجود أجرى عليها
حكمهم كأنها عاقلة وهذا كثير شائع في كلامهم وسيأتي الكثير منه في القرآن.
٣ ـ براعة
التخلص :
وهو فن مشهور
ذائع في كلام البلغاء ، وهو امتزاج ما يقدمه الكاتب أو للشاعر من البسط بأول ما
استهل به كلامه كالبيت
الاول من القصيدة والفقرة الاولى من المقالة على أن يختلس ذلك اختلاسا
رشيقا دقيق المعنى بحيث لا يشعر السامع بالانتقال من المعنى الأول إلا وقد وقع في
الثاني لشدة الممازجة والالتئام كأنهما أفرغا في قالب واحد ، أو يوطىء الكاتب فيه
بفصل لفصل يريد أن يأتي به بعده وإما بنكتة تشير الى معنى الفصل المستقبل كقوله
تعالى : «نحن نقص عليك أحسن القصص» فإنه سبحانه وطأ بهذا الفصل الى ما يأتي بعده
من سرد قصة يوسف عليه السلام فتخلص به الى ذكر القصة تخلصا بارعا فإن النكتة التي
أشارت الى وصف هذه القصة بنهاية الحسن دون سائر قصص الأنبياء المذكورة في القرآن
وهي قوله : «أحسن القصص» فإن المخاطب إذا قرع سمعه هذا الوصف للقصة تنبه الى
تأملها فيجد كل قضية فيها ختمت بخير وكل ضيق انتهى الى سعة ، وكل شدة آلت الى رخاء
وذلك أمر عجيب يستحيل أن يأتي على القصة الحديثة «العقدة» تختم بالخير أو ما يسمّى
في عرف القصة الحديثة بالحل :
١ ـ رمي يوسف
في الجب واستحكمت عقدته فنجا.
٢ ـ بيع بالثمن
البخس الذي يشير في مدلوله الى الضعة والمهانة واستحكمت العقدة ثانية فإذا الذي
اشتراه يستصفيه وينزله منه بمنزلة الولد.
٣ ـ راودته
التي هو في بيتها عن نفسه ووثبت الشهوة ، وصرخت اللذة ، وكاد العقل يقصف والرشد
يغزب واستحكمت العقدة ثالثة فإذا هو يكبح جماح نفسه ويستعصم.
٤ ـ ودخل السجن
، ورانت عليه ظلمته واقتمت معالمه واستحكمت العقدة رابعة فخرج منه ملكا.
٥ ـ وظفر
بإخوته بعد أن عرف غدرهم به ومحاولتهم إهلاكه فلم يذهب مع هوى النفس التي تثأر
وتنتقم وطأمن من غلوائه.
٦ ـ وسره الله
بلقاء شقيقه بعد اليأس فأتنس به.
٧ ـ فارقه أبوه
وحزن من أجله حتى عمي واستحكمت العقدة مرة أخرى ثم اجتمع به وسر بلقائه وارتد
الوالد بصيرا.
٨ ـ جاء الله
به من البدو وأحله بمصر على سرير الملك.
٩ ـ غضب هو وأبوه
على بقية الأولاد ثم رضيا عنهم.
١٠ ـ ثم وأخيرا
سجد له أبواه واخوته تحقيقا لرؤياه فناسب الختام البدء وكانت براعة التخلص من أجمل
ما عرف في الكتابة.
حسن التخلص في الشعر :
على أنه لا
يفوتنا أن نورد بعض ما ورد من حسن التخلص في شعرنا العربي ومن المؤسف أن ينتهي
غالبا بالمديح ونحن لا نقر هذا المديح ولا نعترف به إلا من حيث انه تقليد بحث أو
تسجيل لما جرى على يد الممدوح من نفع عام ، قال أبو تمام يمدح أبا دلف وهو بطل
عربي اشتهر بجهاده :
ودع فؤادك
توديع الفراق فما
|
|
أراه من سفر
التوديع منصرفا
|
يجاذب الشوق
طورا ثم يجذبه
|
|
جهاده
للقوافي في أبي دلفا
|
ومن ألطف
المخالص قول أبي العلاء المعري :
ولو أن
المطيّ لها عقول
|
|
وجدك لم تشد
لها عقالا
|
مواصلة لها
رحلي كأني
|
|
من الدنيا
أريد بها ان
|
فصالا سألن
فقلت مقصدنا سعيد
|
|
فكان اسم
الأمير لهن فالا
|
الفوائد :
١ ـ «رأى» من الرؤيا :
اختلف النحاة
واللغويون في «رأى» الحلمية ، والمحققون على أنها ملحقة برأى العلمية في التعدي
لاثنين بجامع ادراك الحس في الباطن كقوله تعالى : «إني أراني أعصر خمرا» فأرى عملت
في ضميرين متصلين لمسمى واحد وأحدهما فاعل والثاني مفعول أول وجملة أعصر حمرا
المفعول الثاني وكقول عمرو بن أحمر الباهلي يذكر جماعة من قومه لحقوا بالشام فرآهم
في منامه :
أراهم رفقتي
حتى إذا ما
|
|
تجافى الليل
وانخزل انخزالا
|
فالهاء مفعول
أول ورفقتي بضم الراي وكسرها مفعول ثان والرؤيا هنا حليمة بدليل قوله : حتى إذا ما
تجافى الليل وانخزل انخزالا أي انطوى وانقطع ، والى هذا أشار في الخلاصة :
ولرأى الرؤيا
الم ما لعلما
|
|
طالب مفعولين
من قبل انتمى
|
وذهب بعضهم الى
أن رأى الحلمية لا تنصب مفعولين من قبل انتمى وذهب بعضهم الى أن الحلمية لا تنصب
مفعولين وان ثاني المنصوبين حال ورد بوقوعه معرفة هنا كما هنا واعترض بأن الرفقة
وهم المخالطون والمرافقون فهو بمعنى اسم الفاعل فالاضافة فيه غير محضة.
٢ ـ حديث اليهودي وكواكب يوسف :
ونرى من المفيد
التنبيه الى ما يرويه المفسرون من أحاديث عن كواكب يوسف فقد أخرج الحاكم في
مستدركه أن يهوديا جاء الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أخبرني بأسماء الكواكب
التي رآها يوسف عليه السلام فقال : إن أخبرتك بأسمائها أتسلم؟ قال : نعم.
قال صلى الله
عليه وسلم : الذيال والوثاب والطارق والفيلق والصبح والقابس والضروح والخرثان
والكتفان والعمودان وذو الفرع. قال : صدقت يا محمد ولم يسلم» والوضع ظاهر على هذا
الحديث وفي سنده جماعة متكلم فيهم. وقال ابن الجوزي هو موضوع.
(لَقَدْ كانَ فِي
يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ
أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ
(٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ
وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا
تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ
السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠) قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا
تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ
لَناصِحُونَ
(١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢)
قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ
الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ
وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤))
اللغة :
(غَيابَتِ الْجُبِّ) : الغيابة : سدّ أو طاق في البئر قريب الماء يغيب ما
فيه عن العيون وقال الزمخشري : هي غوره وما غاب منه عن عين الناظر وأظلم من أسفله
قال المنخل :
إذا أنا يوما
غيبتني غيابتي
|
|
فسيروا بسيري
في العشيرة والأهل
|
أراد غيابة
حفرته التي يدفن فيها ، والجب : البئر التي لم تطو وسمي بذلك إما لكونه محفورا في
جيوب الأرض أي ما غلظ منها وإما لأنه قطع في الأرض ويجمع على أجباب وجباب وجببة.
(السَّيَّارَةِ) : جمع سيار أي المبالغ في السير وفي المختار والسيارة
القافلة ، فتسميتهم السيارة المعروفة اليوم صحيح لا غبار عليه لأنه مؤنث سيار.
الاعراب :
(لَقَدْ كانَ فِي
يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) اللام جواب قسم محذوف وقد حرف تحقيق وكان فعل ماض ناقص
وفي يوسف خبر
مقدم واخوته عطف على يوسف وآيات اسم كان المؤخر وللسائلين صفة لآيات. (إِذْ قالُوا : لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ
أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا) إذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بمحذوف تقديره اذكر وقيل
الظرف متعلق بكان وجملة قالوا مضاف إليها الظرف واللام للابتداء وفيها تأكيد
لتحقيق مضمون الجملة وأخوه عطف على يوسف وهو بنيامين شقيقه وأحب خبر والى أبينا
جار ومجرور متعلقان بأحب وقد تقدم أن الحب والبغض إذا بني منهما أفعل التفضيل أو
فعلا التعجب تعدى الفعل منهما الى الفاعل المعنوي بإلى والى المفعول المعنوي
باللام فاذا قلت زيد أحب إلي من بكر كان معناها أنك تحب زيدا أكثر من بكر ، ومنا
متعلقان بأحب كذلك ولم يطابق أحب في الاثنين لأن أفعل التفضيل يلزم الافراد
والتذكير إذا كان معه من ولا بد من الفرق مع ال وإذا أضيف جاز الأمران. (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي
ضَلالٍ مُبِينٍ) الواو للحال ونحن مبتدأ عصبة خبر وان واسمها واللام
المزحلقة وفي ضلال خبرها ومبين صفة. والعصبة : الجماعة ، قيل : هي ما بين الواحد
الى العشرة. (اقْتُلُوا يُوسُفَ
أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) اقتلوا فعل أمر والواو فاعل ويوسف مفعول به أو اطرحوه
عطف على اقتلوا وأرضا نصبت نصب الظروف المبهمة أي أرضا منكرة مجهولة بعيدة عن
العمران. قال الزمخشري وقال ابن عطية : «وذلك خطأ لأن الظرف ينبغي أن يكون مبهما
وهذه ليست كذلك بل هي أرض مقيدة بأنها بعيدة أو قاصية ونحو ذلك فزال بذلك ابهامها
ومعلوم أن يوسف لم يخل من الكون في أرض فتبين أنهم أرادوا أرضا بعيدة غير التي هو
فيها قريب من أبيه» وصحح أبو حيان هذا الرد.
ويجوز أن تنصب
بنزع الخافض أي في أرض وهو بمعنى الظرف ، وقيل مفعول ثان لاطرحوه المتضمنة معنى
أنزلوه ويخل جواب الأمر ولكم متعلقان بيخل ووجه فاعل وأبيكم مضاف اليه وسيأتي معنى
يخل
لكم وجه أبيكم في باب البلاغة ، (وَتَكُونُوا مِنْ
بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ) وتكونوا عطف على يخل والواو اسم كان ومن بعده حال وقوما
خبر وصالحين صفة. (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ
لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ) قال قائل فعل وفاعل ومنهم صفة ولا ناهية وتقتلوا فعل
مضارع مجزوم بلا والواو فاعل ويوسف مفعول به وألقوه فعل أمر وفاعل ومفعول به وفي
غيابة الجب متعلقان بألقوه. (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ
السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) يلتقطه جزم لوقوعه جوابا للأمر وبعض السيارة فاعل وإن
شرطية وكنتم فاعلين كان واسمها وخبرها وجواب ان محذوف أي ان كنتم على أن تفعلوا ما
يحصل به الغرض فهذا هو الرأي الصواب (قالُوا يا أَبانا ما
لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ) قالوا فعل وفاعل ويا أبانا منادى مضاف وما اسم استفهام
مبتدأ ولك خبر ما ولا نافية وتأمنا فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنت ونا مفعول
به وقد أدغمت نون تأمن بنا وقد قرىء على أشكال مختلفة وعلى يوسف متعلقان بتأمنا
وجملة لا تأمنا حال وجملة مالك لا تأمنا مقول القول والتقدير أي شيء ثبت لك منا. (وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) الواو للحال وان واسمها وله متعلقان بناصحون واللام
المزحلقة وناصحون خبر إنا والجملة حال من نا فيكون حالا من حال. (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ
وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) أرسله فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به ومعنا ظرف مكان
متعلق بأرسله ونا مضاف اليه وغدا ظرف متعلق بأرسله أيضا ويرتع مجزوم لأنه جواب
الأمر ويلعب عطف عليه وجملة إنا له لحافظون حالية وقد تقدم إعرابها. (قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ
تَذْهَبُوا بِهِ) إن واسمها واللام المزحلقة وجملة يحزنني خبر إن والياء
مفعول به وأن وما في حيزها في تأويل مصدر فاعل يحزنني وبه جار ومجرور متعلقان
بتذهبوا.
(وَأَخافُ أَنْ
يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) أن وما في حيزها مفعول أخاف والذئب
فاعل يأكله ولا يغرب عنك أنه لقّنهم العلة التي يعتلون بها على حد قول
المثل «إن البلاء موكل بالمنطق». (وَأَنْتُمْ عَنْهُ
غافِلُونَ) الواو للحال وأنتم مبتدأ وغافلون خبره وعنه متعلقان
بغافلون (قالُوا : لَئِنْ
أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) اللام موطئة للقسم وان شرطية وأكله الذئب فعل ومفعول به
وفاعل والواو حالية ونحن مبتدأ وعصبة خبر والجملة حالية وان واسمها وإذن حرف جواب
وجزاء مهمل وخاسرون خبر إنا والجملة جواب
القسم وجملة
جواب الشرط محذوفة لأن الجواب يعطى للمتقدم كما قررنا سابقا.
البلاغة :
١ ـ المجاز في
قوله تعالى «يخل لكم وجه أبيكم» وانما ذكر الوجه لأن الرجل إذا أقبل على الشيء
أقبل عليه بوجهه لأن أول ما يستقبل الإنسان الوجه فعبر به عن إقباله عليهم وعدم
الالتفات الى غيرهم وانتفاء المشارك لهم في حب والدهم.
٢ ـ وفي قوله «لخاسرون»
مجاز عن الضعف والعجز والعلاقة هي السببية.
(فَلَمَّا ذَهَبُوا
بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ
لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥) وَجاؤُ أَباهُمْ
عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا
يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ
كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى
قَمِيصِهِ
بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ
وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨) وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا
وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً
وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ
مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠))
اللغة :
(أَجْمَعُوا) : يقال أجمعوا الأمر وأجمعوا عليه يتعدى بنفسه وبالباء
أي عزموا عليه عزما مصمما.
(سَوَّلَتْ) : أصل التسويل تقدير معنى في النفس مع الطمع في إتمامه
وقال الزمخشري سولت سهلت من السول وهو الاسترخاء وفي القاموس : سولت له نفسه كذا :
زينته له وسهلته له وهوّنته وقيل هو من السول بفتحتين أي استرخاء العصب ونحوه فكأن
المسول بذله فيما حرص عليه.
(دَلْوَهُ) : في المختار الدلو التي يستقى بها ودلا الدلو نزعها
وبابه عدا وأدلاها أرسلها في البئر وفي القاموس ودلوت الدلو ودليتها أرسلتها في
البئر ودلّاها جذبها ليخرجها والدلو مؤنث وقد يذكر.
الاعراب :
(فَلَمَّا ذَهَبُوا
بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ) الفاء عاطفة والجملة معطوفة على محذوف يفهم من سياق
القصة تقديره فأرسله معهم ، ولما حينية أو رابطة وذهبوا فعل وفاعل وبه جار ومجرور
متعلقان يذهبوا وأجمعوا عطف على ذهبوا ، أو الواو للحال والجملة حالية بتقدير : قد
، وان وما في حيزها مفعول أجمعوا أو منصوب بنزع الخافض وفي غيابة الجب متعلقان
بيجعلوه وجواب لما محذوف تقديره فعلوا به ما فعلوه من الأذى. (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ
لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) اختلف في هذه الواو فقيل عاطفة وان الإيحاء الى يوسف
كان في الجب وله سبع عشرة سنة أو دونها تطمينا لقلبه ولم يكن ايحاء نبوة وقيل
زائدة وانها جواب لو أي جملة أوحينا وهو قول جيد لو ساعدت اللغة على زيادة الواو
واليه متعلقان بأوحينا ، اللام موطئة للقسم وتنبئنهم فعل مضارع مبني على الفتح
والهاء مفعول به وبأمرهم متعلقان بتنبئنهم وهذا صفة لأمرهم والواو للحال وهم مبتدأ
وجملة لا يشعرون خبر والجملة حالية. (وَجاؤُ أَباهُمْ
عِشاءً يَبْكُونَ) الواو عاطفة وجاءوا فعل وفاعل وأباهم مفعول به وعشاء
ظرف زمان متعلق بجاء وجملة يبكون حال من الواو أي وقت العشاء باكين. قيل : وانما
جاءوا عشاء ليكونوا أقدر على الاعتذار في الظلمة. (قالُوا يا أَبانا
إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) جملة إنا ذهبنا مقول القول وان واسمها وجملة ذهبنا خبر
إن وجملة نستبق حال والاستباق يكون بالعدو والترامي والتناضل (وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا
فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) وتركنا يوسف عطف على ذهبنا والظرف متعلق بتركنا فأكله
عطف والهاء مفعول به والذئب فاعل. قال ثعلب «والذئب مأخوذ من تذأبت الريح إذا هاجت
من كل وجه» قال «والذئب مهموز لأنه يجيء من كل وجه».
(وَما أَنْتَ
بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) الواو عاطفة وما نافية حجازية وأنت اسمها والباء حرف جر
زائد ومؤمن مجرور لفظا خبر ما محلا ولنا متعلقان بمؤمن ولو الواو عاطفة ولو شرطية
وهي في هذا الموضع لبيان تحقق ما يفيده الكلام السابق من الحكم الموجب أو المنفي
على كل حال مفروض من الأحوال المقارنة له على الإجمال بإدخالها على أبعدها منه وأشدها
منافاة له ليظهر بثبوته أو انتفائه معه ثبوته أو انتفاؤه مع غيره من الأحوال بطريق
الأولوية ولا يذكر معه شيء من سائر الأحوال ويكتفى عنه بذكر الواو العاطفة للجملة
على نظيرتها المقابلة لها الشاملة لجميع الأحوال المغايرة لها عند تعددها ، وكنا
كان واسمها وصادقين خبرها. (وَجاؤُ عَلى
قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) الواو عاطفة وجاءوا فعل وفاعل وعلى قميصه محله النصب
على الظرفية كأنه قيل : وجاءوا فوق قميصه بدم وهذا الظرف معمول لحال محذوفة من دم
والتقدير وجاءوا بدم كذب حال كونه كائنا فوق قميصه وقد منع ذلك الزمخشري وسترى في
باب الفوائد بحثا مفيدا ممتعا بهذا الصدد. وبدم متعلقان بجاءوا وكذب صفة وسيرد في
باب البلاغة معنى وصف الدم بالكذب. (قالَ : بَلْ
سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) بل حرف إضراب وسولت لكم أنفسكم فعل وفاعل وأمرا مفعول
به فصبر جميل خبر لمبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف وساغ الابتداء بالنكرة لوصفه. (وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما
تَصِفُونَ) الواو عاطفة والله مبتدأ والمستعان خبر وعلى ما متعلقان
بالمستعان وجملة تصفون صلة والعائد محذوف أي تصفونه. (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ
فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ) الواو استئنافية وجاءت سيارة فعل وفاعل فأرسلوا عطف على
جاءت والواو فاعل وواردهم مفعول به وهو رجل يقال له
مالك بن ذعر الخزاعي ليطلب لهم الماء لأن الوارد هو الذي يرد الماء ليستقي
للقوم فأدلى عطف ودلوه مفعول به. (قالَ يا بُشْرى هذا
غُلامٌ) يا حرف نداء وبشرى منادى نكرة مقصودة نادى البشرى حيث
كانت كأنه يقول لها تعالي فهذا وقتك وهذا مبتدأ وغلام خبر قيل عبر بالغلام للجمال
الذي بهره لما رآه وانما سمي الغلام غلاما لاشتقاقه من الغلمة لأنه بريد الشهوة
يقال اغتلم الشراب اشتدت سورته واغتلمت الأمواج اشتدت والغلامة أنثى الغلام وأبو
نواس كان يتظرف ويقول عن الفتاة الجميلة غلامية. (وَأَسَرُّوهُ
بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ) وأسروه فعل وفاعل ومفعول أي أخفوه والضمير يعود للوارد
وأصحابه وقيل لأخوة يوسف الذين عادوا وكانوا يظنون أن يوسف مات فقالوا هذا عبد أبق
منا فإن أردتم بعناه لكم فاشتراه مالك بن ذعر الخزاعي.
وبضاعة نصب على
الحال أي أخفوه متاعا للتجارة ، والبضاعة ما بضع من المال للتجارة. (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ
مَعْدُودَةٍ) الواو عاطفة وشروه فعل وفاعل ومفعول أي باعوه وبثمن
متعلقان بشروه وبخس صفة ودراهم بدل من ثمن ومعدودة صفة ووصفها بامكان عدها كناية
عن قلتها لأن الكثيرة يتعذر عدها. (وَكانُوا فِيهِ مِنَ
الزَّاهِدِينَ) كان واسمها وفيه متعلقان بمحذوف حال وقال أبو حيان : «متعلقان
بأعني مضمرة أو بمحذوف يدل عليه من الزاهدين أو بالزاهدين لأنه يتسامح في الجار
والمجرور والظرف» ومن الزاهدين خبر كانوا. وقال ابن هشام : وقول آخر «وكانوا فيه
من الزاهدين» إن في متعلقة بزاهدين المذكور وهذا ممتنع إذا قدرت ال موصولة وهو
الظاهر لأن معمول الصلة لا يتقدم على الموصول فيجب حينئذ تعلقها بأعني محذوفة أو
بزاهدين محذوفا مدلو لا عليه بالمذكور أو بالكون المذكور الذي تعلق به من الزاهدين
وأما إن قدرت أل للتعريف فواضح.
البلاغة :
وصف الدم
بالكذب مبالغة كأنه نفس الكذب وعينه كما يقال للكذاب هو الكذب بعينه والزور بذاته
والفاعل والمفعول يسميان بالمصدر كما يقال ماء سكب أي مسكوب والفاعل كقوله «إن
أصبح ماؤكم غورا» أي غائرا كما سموا المصدر بهما قالوا للعقل المعقول وللجلد
المجلود ومنه قوله تعالى «بأيكم المفتون».
الفوائد :
هل تتقدم الحال على الجار والمجرور :
منع النحاة
تقديم الحال على صاحبها إذا كان مجرورا كمررت بهند جالسة فجالسة حال من هند ولا
يجوز تقديمها عليها. لا تقول مررت جالسة بهند وهذا تقريبا مذهب الجمهور وعللوا ذلك
بأن تعلق العامل بالحال ثان لتعلقه بصاحبه فحقه إذا تعدى لصاحبه بواسطة أن يتعدى
إليه بتلك الواسطة لكن منع من ذلك أن الفعل لا يتعدى بحرف واحد الى شيئين فجعلوا
عوضا عن الاشتراك في الواسطة التزام التأخير وخالف في هذه الفارسي وابن جني وابن
كيسان وابن برهان وغيرهم فأجازوا التقديم مستدلين بقوله تعالى «وجاءوا على قميصه
بدم كذب» قالوا في الرد على الزمخشري القائل : إنه ليس بحال لأن حال المجرور لا
يتقدم قالوا : فيه ان المعنى لا يساعد على نصبه على الظرف بمعنى لأن العامل فيه إذ
ذاك جاءوا وليس الفوق ظرفا بل يستحيل أن يكون ظرفا وبقوله تعالى «وما أرسلناك إلا
كافة للناس» فكافة حال من المجرور وهو الناس وقد تقدم على صاحبه المجرور باللام
وبنحو
قول الشاعر :
تسليت طرا
عنكم بعد بينكم
|
|
بذكراكم حتى
كأنكم عندي
|
فطرا بمعنى
جميعا حال من الكاف والميم وقد تقدم على صاحبه المجرور بعن ورد الزمخشري والمانعون
بقولهم ان هذا البيت ضرورة أو طرا حال من عنكم محذوفة مدلولا عليها بعنكم المذكورة
وإن كافة في الآية حال من الكاف في أرسلناك وان التاء للمبالغة لا للتأنيث ، هذا
ولا يحتمل هذا الباب ما استفاض فيه هؤلاء العلماء من ردود ومناقشات فحسبنا ما
تقدم.
(وَقالَ الَّذِي
اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ
نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ
مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً
وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢) وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي
بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ
اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣)
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى
بُرْهانَ
رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا
الْمُخْلَصِينَ (٢٤))
اللغة :
(مَثْواهُ) : مقامه يقال ثوى بالمكان وأثوى أقام وفلان أكرم مثواي
وطال بي الثواء وهو أبو مثواي وهي أم مثواي لمن أنت نازل به قال :
أفي كل يوم
أم مثوى تسوسني
|
|
تنفّض أثوابي
وتسألني ما اسسي
|
(أَشُدَّهُ) : في الأشد ثلاثة أقوال أحدها قول سيبويه : انه جمع
مفرده شدة نحو نغمة وأنعم ، والثاني قول الكسائي : ان مفرده شد بوزن قفل ، والثالث
انه جمع لا واحد له من لفظه وهو قول أبي عبيدة وهو من الشد وهو الربط على الشيء
والعقد عليه. وقال الراغب : وفيه تنبيه على أن الإنسان إذا بلغ هذا القدر يتقوّى
خلقه الذي هو عليه فلا يكاد يزايله ، وقيل في الأشد ثماني عشرة سنة وعشرون وثلاث ،
وثلاث وأربعون وقيل أقصاه ثنتان وستون.
(راوَدَتْهُ) المراودة مفاعلة من راد يرود إذا جاء وذهب كأن المعنى
خادعته عن نفسه أي فعلت ما يفعل المخادع لصاحبه عن الشيء الذي لا يريد أن يخرجه من
يده ، يحتال أن يغلبه عليه ويأخذه منه ، وهي عبارة عن التحيل لمواقعته إياها ومنه
الرائد لطالب الماء والكلأ وهي مفاعلة من واحد نحو مطالبة الدائن ومماطلة المدين
ومداواة الطبيب ونظائرها مما يكون من أحد الجانبين الفعل ومن الآخر سببه فإن هذه
الأفعال وإن كانت صادرة عن الجانبين لكن لما كانت أسبابها صادرة
عن الجانب الآخر جعلت كأنها صادرة عنهما وهذا باب لطيف المسلك مبني على
اعتبار دقيق تحقيقه أن سبب الشيء يقوم مقامه ويطلق عليه اسمه كما في قولهم «كما
تدين تدان» أي كما تجزي تجرى فإن فعل البادي وان لم يكن جزاء لكونه سببا للجزاء
أطلق عليه اسمها وكذلك إرادة القيام إلى الصلاة وارادة القرآن حيث كانتا سببا
للقيام والقراءة عبر عنهما بهما فقيل إذا قمتم الى الصلاة ، فإذا قرأت القرآن وهذه
قاعدة مطردة مستمرة. ويجوز أن يراد بصيغة المفاعلة مجرد المبالغة ، وقيل الصيغة
على بابها بمعنى أنها طلبت منه الفعل وهو طلب منها الترك ، ويجوز أن تكون من
الرويد وهو الرفق والتجمل وتعديتها بعن لتضمينها معنى المخادعة فالمعنى خادعه عن
نفسه أي فعلت ما يفعل المخادع بصاحبه عن شيء لا يريد إخراجه من يده وهو يحتال أن
يأخذه منه.
(هَيْتَ لَكَ) : اسم للفعل وفيه ضمير المخاطب كصه ومه ومسماه أسرع
يقال هيت إذا دعاه ، قال الشاعر :
أبلغ أمير
المؤمنين أخا
|
|
العراق إذا
أتيتا
|
أن العراق
وأهله
|
|
سلم عليك
فهيت هيتا
|
يريد أمير
المؤمنين على بن أبي طالب وهو لازم لا يتعدى الى مفعول كما أن مسماه كذلك وفيه
ثلاث لغات هيت بالفتح وهيت بالضم وهيت بالكسر ، و «لك» من قولك هيت لك تبيين
للمخاطب جيء به بعد استغناء الكلام عنه كما كان كذلك في سقيا لك ، ألا ترى أن سقيا
غير محتاجة إلى لك لأن معناه سقاك الله سقيا وإنما جيء بلك تأكيدا وزيادة فهي في
هيت لك كذلك. وقيل هيت اسم فعل ماض بمعنى تهيأت ، وفي القاموس : وهيت لك مثلثة
الآخر وقد يكسر أوله
أي هلم ، وقال العلامة الغنيمي : يحتمل أن يكون الضمير المستتر في تهيأت
تقديره هي وقرىء تهيأت بسكون التاء وهذه حكاية لكلامها كما تقول : قال زيد والله ليفعلن
، أي قال والله لأفعلن.
(مَعاذَ اللهِ) : هذا أحد مصادر عاذ يعوذ عوذا ومعاذا وعوذة وعياذة
وعياذا ومعنى أعوذ بالله أعتصم وأمتنع لله من الشيطان الرجيم وينشد للراجز زيد بن
عمرو بن نفيل أو لعبد المطلب :
أنفي لك
اللهم عان راغم
|
|
مهما تجشّمني
فإني جاشم
|
عذت بما عاذ به
ابراهم يريد به ابراهيم عليه السلام ومن العرب من يقول : ابراهام وكذلك قرأ ابن
عامر وذلك أن ابراهيم اسم أعجمي فإذا عربته العرب فانها تخالف بين ألفاظه ومنهم من
يقول إبراهم بغير ألف قال الشاعر :
نحن آل الله
في كعبته
|
|
لم يزل ذاك
على عهد إبرهم
|
وعن الفراء قال
: «العرب تقول نعوذ بالله من طئة الذليل أي أعوذ بالله من أن يطأني ذليل» وفي لسان
العرب «وطأة الذليل من استعاذته بالله».
الاعراب :
(وَقالَ الَّذِي
اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ) عطف على محذوف أي دخلوا مصر وعرضوه للبيع فاشتراه عزيز
مصر الذي كان على خزائن مصر واسمه قطفير. وقال فعل ماض والذي فاعل وجملة
اشتراه صلة ومن مصر حال ولامرأته جار ومجرور متعلقان بقال وجملة أكرمي
مثواه مقول القول وهي فعل وفاعل ومفعول وقد تقدم شرحها (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ
وَلَداً) عسى من أفعال الرجاء واسمها مستتر وان وما في حيزها
خبرها وقد تقدم القول فيها وأو حرف عطف ونتخذه فعل مضارع معطوف على ينفعنا والهاء
مفعول به أول وولدا مفعول به ثان. (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا
لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) وكذلك نعت لمصدر أي مثل ذلك التمكين ومكنا فعل ماض
وفاعل وليوسف متعلقان به فإن فعل مكن يتعدى بنفسه وباللام كما هنا وفي الأرض حال. (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ
الْأَحادِيثِ) الواو عاطفة واللام للتعليل ونعلمه فعل مضارع منصوب بأن
مضمرة بعد اللام والهاء مفعول به والجار والمجرور متعلقان بمحذوف أي ولنعلمه مكناه
وقد سبق مثيله في «ولتكملوا العدة» ومن تأويل الأحاديث متعلقان بنعلمه وأعرابها
الجلال على زيادة الواو فهي متعلقة بمكنا المذكورة. (وَاللهُ غالِبٌ عَلى
أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) والله مبتدأ وغالب خبر وعلى أمره جار ومجرور متعلقان
بغالب والواو حالية ولكن واسمها وجملة لا يعلمون خبرها. (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ
حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) لما حينية أو رابطة وبلغ أشده فعل ماض وفاعل مستتر
ومفعول به وآتيناه فعل وفاعل ومفعول به وحكما مفعول به ثان وعلما عطف عليه وكذلك
نعت لمصدر محذوف ونجزي المحسنين فعل مضارع وفاعل ومفعول به. (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها
عَنْ نَفْسِهِ) الواو عاطفة وراودته فعل ومفعول به مقدم والتي فاعل وهو
مبتدأ وفي بيتها خبر والجملة الاسمية صلة وعن نفسه جار ومجرور متعلقان براودته. (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ
هَيْتَ لَكَ) جمل معطوفة وتقدم اعراب هيت لك في باب اللغة واسم
المرأة التي راودته زليخاء بفتح الزاي وكسر اللام. ولم يقل : وراودته زليخا أو
امرأة
العزيز إما لاستهجان التصريح بالاسم في حكم المراودة والاحتيال في طلب
المواقعة وإما للإخفاء عن الآخرين لئلا يتهموها وإما لزيادة تقرير ثبوت المسند
للمسند اليه فإن كونه في بيتها وتمكنها من مشاهدة جماله حينا فحينا مما يحقق
مراودتها أو لزيادة تقرير المقصود لأن امتناعه منها مع كمال قدرتها عليه يدل على
نزاهته وطهارة ذيله ، وقيل اختار في الآية إذ يجوز الاشتراك في علمها وإرادة الجنس
في امرأة العزيز بخلاف الموصول. (قالَ مَعاذَ اللهِ
إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) معاذ الله نصب على المصدر أي أعوذ بالله معاذا وانه ربي
ان واسمها وخبرها ، والضمير يجوز أن يعود لطقفير الذي اشتراه ومعناه سيدي ومالكي
يريد قطفير ، وجملة أحسن مثواي حال ويجوز أن يعود الضمير الى الشأن والحديث ، وربي
مبتدأ وجملة أحسن مثواي خبر والجملة خبر إن ويجوز أن تكون الهاء ضمير الله تعالى
وقد استبعد بعضهم الأول وقالوا يبعد جدا أن يطلق نبي كريم على مخلوق انه ربه ولو
بمعنى السيد لأنه ليس مملوكا في الحقيقة (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ
الظَّالِمُونَ) إن واسمها وجملة لا يفلح الظالمون خبرها والضمير يعود
للشأن هنا.
(وَلَقَدْ هَمَّتْ
بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) اللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وهمت فعل ماض
وهي فاعله وبه متعلقان بهمت ، وهمّ فعل ماض وهو فاعله وبها متعلقان بهم ولو لا حرف
امتناع لوجود وأن وما في حيزها مبتدأ محذوف الخبر أي لو لا رؤيته برهان ربه ماثل
أمامه وجواب لو لا محذوف أي لواقعها واختلف في البرهان الذي رآه ، وللمفسرين فيه
كلام طويل يرجع اليه في المطولات وحسبنا أن ننقل عبارة أبي حيان. قال : «والذي
اختاره أن يوسف عليه السلام لم يقع منه هم بها البتة بل هو منفي لوجود رؤية
البرهان كما تقول : لقد قارفت لو لا أن عصمك الله ولا تقول
إن جواب لو لا متقدم عليها وإن كان لا يقوم دليل على امتناع ذلك بل صريح
أدوات الشرط العاملة مختلف في جواز تقديم أجوبتها عليها وقد ذهب الى ذلك الكوفيون
ومن أعلام البصريين أبو زيد الأنصاري وأبو العباس المبرد بل نقول إن جواب لو لا
محذوف لدلالة ما قبله عليه كما يقول جمهور البصريين في قول العرب أنت ظالم إن فعلت
فيقدرونه إن فعلت فأنت ظالم ولا يدل قوله أنت ظالم على ثبوت الظلم بل هو مثبت على
تقدير وجود الفعل وكذلك هنا التقدير : لو لا أن رأى برهان ربه لهمّ بها فكان يوجد
الهم على تقدير انتفاء رؤية البرهان لكنه وجد رؤية البرهان فانتفى الهم ، وهذا
كلام جيد يؤيد ما ذهبنا إليه في الاعراب فتدبره.
هذا ولا خلاف
في أن يوسف عليه السلام لم يأت بالفاحشة وإنما الخلاف في وقوع الهم منه فمن
المفسرين من ذهب الى أنه همّ وقصد الفاحشة وأتى ببعض مقدماتها ولقد أفرط صاحب
الكشاف في التشنيع على هؤلاء فارجع اليه. ومنهم من نزهه عن الهمّ أيضا وهو الصحيح
كما تقدم في عبارة أبي حيان وللامام الرازي في تفسيره الكبير نكتة لا بأس بإيرادها
قال : «إن الذين لهم تعلق بهذه الواقعة هم يوسف عليه السلام والمرأة وزوجها
والنسوة والشهود ورب العالمين وإبليس وكلهم قالوا ببراءة يوسف عليه السلام عن
الذنب فلم يبق لمسلم توقف في هذا الباب : أما يوسف فلقوله : هي راودتني عن نفسي
وقوله رب السجن أحب إلي مما يدعونني اليه ، وإما المرأة فلقولها ولقد راودته عن
نفسه وأما زوجها فلقوله : انه من كيدكن ان كيدكن عظيم ، وأما النسوة فلقولهن :
امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين ، وقولهن
حاشا لله ما علمنا عليه من سوء وأما
الشهود فلقوله تعالى وشهد شاهد من أهلها الى آخره وأما شهادة الله تعالى
فقوله عز من قائل : «كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين» وأما
إقرار إبليس بذلك فلقوله فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين فأقر
إبليس بأنه لا يمكن إغواء العباد المخلصين وقد قال تعالى انه من عبادنا المخلصين
فقد أقر إبليس أنه لم يغوه وعند هذا نقول : هؤلاء الجهال الذين نسبوا الى يوسف
عليه السلام الفضيحة إن كانوا من أتباع دين الله فليقبلوا شهادة الله بطهارته وان
كانوا من أتباع إبليس وجنوده فليقبلوا إقرار إبليس لطهارته.
(كَذلِكَ لِنَصْرِفَ
عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) كذلك نعت لمصدر محذوف أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه واللام
متعلقة بذلك المحذوف ويصح أن تكون في محل رفع والتقدير الأمر مثل ذلك والنصب أجود
وقد تقدمت نظائر لذلك والسوء مفعول به والفحشاء عطف على السوء.
(إِنَّهُ مِنْ
عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) ان واسمها ومن عبادنا خبر والمخلصين صفة لعبادنا.
البلاغة :
من مرجحات كون
الاسم المسند إليه اسما موصولا تقرير الغرض المسوق له الكلام وذلك في قوله تعالى :
«وراودته التي هي في بيتها عن نفسه» فإن الغرض المسوق له الكلام هو براءة يوسف
عليه السلام فلو قيل راودته امرأة العزيز أو زليخا لم يفد ما أفاده الموصول
باعتبار صلته فهو أدل على الغرض المسوق له وهو النزاهة لأنه إذا كان في بيتها
وتمكن من نيل المراد منها أي مرادها لا مراده ومع ذلك عف عنها ولم يفعل كان ذلك
غاية في النزاهة عن الفحشاء فكان في الموصول زيادة تقرير للغرض الذي هو النزاهة.
قول آخر :
وقيل : معناه
زيادة تقرير المسند أي المراودة لما فيه من فرط الاختلاط والإلفة فلو قال زليخا أو
امرأة العزيز لم يفد ما أفاده الموصول من ذكر السبب الذي هو قرينه في تقرير
المراودة باعتبار كونه في بيتها.
قول آخر :
وقيل : هو
تقرير للمسند اليه لإمكان وقوع الإبهام والاشتراك في امرأة العزيز أو زليخا ولو
ذكر إحداهما ولا يتأتى ذلك في التي هو في بيتها لأنها واحدة معنية مشخصة.
(وَاسْتَبَقَا الْبابَ
وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما
جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ
(٢٥) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ
قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ
كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧)
فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ
كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ
أَعْرِضْ
عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (٢٩))
الاعراب :
(وَاسْتَبَقَا الْبابَ
وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) الواو عاطفة والجملة متصلة بقوله تعالى ولقد همت به
وهمّ بها وقوله كذلك لنصرف إلخ اعتراض جيء به بين المتعاطفين تقريرا لنزاهته
وبراءته والمعنى ولقد همّت به وأبى هو واستبقا الى الباب الخارجي الذي هو المخلص
ولذلك وحده بعد الجمع وحذف حرف الجر وأوصل الفعل الى المجرور نحو وإذا كالوهم ،
واستبقا فعل ماض والألف فاعل والباب منصوب بنزع الخافض ، وقدّت قميصه : قدّ فعل
ماض وفاعله هي وقميصه مفعول به ومن دبر حال ويحتمل أن يكون «قدت» معطوفا على
واستبقا ، ويحتمل أن يكون حالا أي وقد قدت جذبته من خلفه بأعلى القميص من طوقه
فانخرق الى أسفله ، والقد القطع والشق وأكثر استعماله فيما كان طولا. قال النابغة
:
تقد السلوقي
المضاعف نسجه
|
|
وتوقد
بالصفاح نار الحباحب
|
والقطّ يستعمل
فيما كان عرضا. (وَأَلْفَيا سَيِّدَها
لَدَى الْبابِ) وألفيا عطف على ما تقدم والألف فاعل وسيدها أي بعلها
كانت تقول المرأة لبعلها يا سيدي لملكة التصرف فيها ، وهي مفعول به ولدي ظرف في
محل نصب مفعول به ثان. (قالَتْ ما جَزاءُ
مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ما اسم استفهام مبتدأ ويحتمل أن تكون ما نافية أي ليس
جزاؤه إلا السجن أو العذاب الأليم ، وجزاء خبر ومن
مضاف إليه وجملة أراد صلة وبأهلك جار ومجرور متعلقان بأراد وسوءا مفعول به
وإلا أداة حصر وان وما في حيزها بدل من جزاء أي إلا السجن ويجوز أن تكون ما نافية
وجزاء مبتدأ وأن يسجن خبره وأو حرف عطف وعذاب عطف على المصدر المؤول وأليم صفة ومن
يجوز فيها أن تكون موصولا أو نكرة موصوفة. (قالَ هِيَ
راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) قال فعل ماض وفاعله هو أي يوسف مدافعه عن نفسه معلنا
براءته وهي مبتدأ وجملة راودتني خبر وعن نفسي متعلقان براودتني. (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) الواو عاطفة وشهد شاهد فعل وفاعل ومن أهلها صفة شاهد
وهو ابن عمها وكان بصحبة زوجها.
(إِنْ كانَ قَمِيصُهُ
قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ) الشرط مقول قول محذوف أي فقال ، وإن شرطية وكان قميصه
كان واسمها وجملة قدّ أي شق بالبناء للمجهول خبر ومن قبل متعلقان بقدّ ، فصدقت
الفاء رابطة وصدقت فعل ماض والجملة جواب الشرط أي فقد ظهر صدقها ، وهو الواو حالية
وهو مبتدأ ومن الكاذبين خبر ولا بد من تقدير قد ليصح دخول الفاء الرابطة وإلا فلو
لم تقدر لم يصح دخول الفاء لأنه فعل ماض متصرف. (وَإِنْ كانَ
قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) عطف على الجملة الاولى وهي مماثلة لها في اعرابها.
(فَلَمَّا رَأى
قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ) الفاء عاطفة ولما حينية أو رابطة ورأى قميصه فعل وفاعل
مستتر ومفعول وجملة قدّ من دبر حالية ، قال جواب لما وان واسمها وخبرها. (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) ان واسمها وخبرها. (يُوسُفُ أَعْرِضْ
عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) يوسف منادى محذوف منه حرف النداء وأعرض فعل أمر
وفاعله أنت وعن هذا متعلقان بأعرض واستغفري فعل أمر والياء فاعله ولذنبك
متعلقان باستغفري. (إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ
الْخاطِئِينَ) ان واسمها وجملة كنت خبرها ومن الخاطئين خبر كنت
والجملة تعليل للاستغفار.
البلاغة :
لقائل أن يقول
إن الضمير وهو «هي» ليس غير مضمر باتفاق وليس هو للغائب بل لمن بالحضرة والجواب ما
قاله السراج البلقيني في رسالته المسماة «نشر العبير ، لطي الضمير» : الضمير
المفسر لضمير الغائب إما مصرح به أو مستغنى بحضور مدلوله حسا أو علما فالحس نحو
قوله «هي راودتني عن نفسي» و «يا أبت استأجره» كذا ذكر الشيخ ابن مالك وتعقبه أبو
حيان بأن قال ليس كما مثل به لأن هذين الضميرين عائدان على ما قبلهما فالضمير في
قال عائد على يوسف والضمير في هي عائد على قوله «بأهلك سوءا» ولما كنت عن نفسها
بقولها «بأهلك» ولم تقل بي كنى هو عنها بضمير الغيبة بقوله «هي راودتني» ولم
يخاطبها بقوله أنت راودتني ولا أشار إليها بقوله هذه راودتني وكل هذا على سبيل
الأدب في الألفاظ والاستحياء في الخطاب فأبرز الاسم في ضمير الغائب تأديبا مع
الملك وحياء منه وعندي أن الذي قاله ابن مالك أرجح مما قاله أبو حيان وذلك أن
الاثنين إذا وقعت منهما خصومة عند حاكم فيقول المدعي للحاكم لي على هذا كذا فيقول
المدعى عليه هو يعلم أنه لا حق له علي فالضمير في هو انما لحضور مدلوله حسا وسيأتي
مزيد من هذا البحث الممتع عند الكلام على قصة ابنه شعيب في سورة القصص.
الفوائد :
لدى :
ليست لدى من
لفظ لدن وإن كانت من معناها لأن لدى معتلة اللام ولدن صحيح اللام وقالوا فيها لدن
بفتح اللام وسكون الدال وكسر النون كأنهم استثقلوا ضم الدال فسكنوا تخفيفا كما
قالوا في عضد عضد ولما سكنت الدال والنون ساكنة كسروا النون لالتقاء الساكنين
وقالوا لدن بضم الدال وسكون اللام وكسر النون وقد حذفوا النون من لدن تخفيفا
فقالوا من لد الصلاة ولد الحائط وليس حذف النون لالتقاء الساكنين واعلم أن حكم لدن
أن يخفض ما بعدها بالإضافة كسائر الظروف لأن نونها من أصل الكلمة بمنزلة الدال من
عند كما قال تعالى «من لدن حكيم عليم» غير أن من العرب من ينصب بها غدوة خاصة قال
:
لدن غدوة حتى
ألاذ بخفها
|
|
بقية منقوص
من الظل قالص
|
وقال ذو الرمة
:
لدن غدوة حتى
إذا امتدت الضحى
|
|
وحثّ القطين
الشّحشحان المكلّف
|
يعني الحادي
والقطين جمع قاطن ، قال سيبويه في هذا الصدد :وقد نصبوا غدوة تشبيها بالمميز في
نحو عندي راقود خلا وجبة صوفا
والمفعول في نحو هذا ضارب زيدا وقاتل بكرا وقال بعضهم تنصب غدوة بعد لدن
على أنها خبر لكان المقدرة مع اسمها والتقدير لدن كان الوقت غدوة وجاز رفعها على
أنها فاعل لفعل محذوف والتقدير لدن كانت عدوة أي وجدت فكان هنا تامة والغالب في
لدن أن تجر بمن نحو «وعلمناه من لدنا علما» وإذا أضيفت الى ياء المتكلم لزمتها نون
الوقاية نحو «لدني» وهي تضاف الى المفرد كما رأيت والى الجملة نحو انتظرتك من لدن
طلعت الشمس الى أن غربت.
(وَقالَ نِسْوَةٌ فِي
الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها
حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ
أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ
مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ
وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ
مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ
راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ
لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ
إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ
أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣))
اللغة :
(نِسْوَةٌ) : جماعة من النساء وكن خمسا والنسوة اسم جمع لا واحد له
من لفظه بل من معناه وهو امرأة وتأنيثها غير حقيقي بل باعتبار الجماعة ولذلك لم
يلحق فعلها تاء التأنيث والمشهور كسر نونها ويجوز ضمها في لغة ، وقد قرىء بها وفي
القاموس وشرحه ما يفهم منه أن النسوة والنسوة والنساء والنسوان والنّسون والنسنين
جموع للمرأة من غير لفظها وقال الزمخشري : «النسوة اسم مفرد لجمع المرأة وتأنيثه
غير حقيقي ولذلك لم تلحق فعله تاء التأنيث».
(شَغَفَها) : دخل حبها شغاف قلبه وفي المصباح : «شغف الهوى قلبه
شغفا من باب نفع والاسم الشغف بفتحتين ، بلغ شغافه بالفتح وهو غشاؤه وشغفه المال
زين له فأحبه فهو مشغوف به». والشغاف حجاب القلب وقيل جلدة رقيقة يقال لها لسان
القلب قال النابغة :
وقد حال هم
دون ذلك والحج
|
|
مكان الشغاف
تبتغيه الأصابع
|
(أَعْتَدَتْ) : هيأت وأحضرت ، واعتده له هيأه وهو عتيد : معد حاضر
ومنه العتيدة التي فيها الطيب والأدهان.
(مُتَّكَأً) : ما يتكئن عليه من نمارق يستندن عليها على عادة
المتكبرين في أكل الفواكه حيث يتكىء آكلها على الوسائد ويأكلها بالسكاكين وقيل سمي
الطعام كالاترج والموز متكأ لحصول الاتكاء على الوسائد عند أكله فهو مجاز مرسل
علاقته المجاورة أو استعارة تصريحية.
(أَكْبَرْنَهُ) : أعظمنه وهبن حسنه الرائع وجماله الأخاذ الفاتن
واستولى عليهن الدهش وقيل : أكبرن بمعنى حضن والهاء للسكت يقال أكبرت المرأة إذا
حاضت وحقيقته دخلت في الكبر لأنها إذا حاضت تخرج من حد الصغر الى حد الكبر وكأن
أبا الطيب رمق هذا التفسير فقال متملحا متغزلا :
خف الله واستر
ذا الجمال ببرقع
|
|
فإن لحت حاضت
في الخدور العواتق
|
في إحدى روايات
البيت التي نقلها أبو الفتح بن جني ويقال إن المرأة إذا اشتدت شهوتها سال دم حيضها
فمعنى البيت : استر جمالك عنهن وإلا حضن ، على أن الرواية التي اختارها أبو البقاء
«ذابت».
(حاشَ لِلَّهِ) : أي حاشا وسيأتي الحديث عنها في باب الفوائد.
الاعراب :
(وَقالَ نِسْوَةٌ فِي
الْمَدِينَةِ) الواو عاطفة لتتساوق مجريات القصة ، وقال نسوة فعل
وفاعل وفي المدينة صفة لنسوة. (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ
تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا) امرأة العزيز مبتدأ وجملة تراود خبر وفتاها مفعول به
وعن نفسه جار ومجرور متعلقان بتراود وقد حرف تحقيق وشغفها فعل وفاعل مستتر ومفعول
به وحبا تمييز محول عن الفاعل وجملة قد شغفها حال من فاعل تراود أو من مفعوله
ويجوز أن تكون خبرا ثانيا لامرأة. (إِنَّا لَنَراها فِي
ضَلالٍ مُبِينٍ) إن واسمها واللام المزحلقة وجملة نراها خبر إن وفي ضلال
متعلقان بنراها ومبين صفة
لضلال. (فَلَمَّا سَمِعَتْ
بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ
كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً) الفاء عاطفة ولما حينية أو رابطة وسمعت فعل وفاعل مستتر
وبمكرهن متعلقان بسمعت وجملة أرسلت لا محل لها وإليهن متعلقان بأرسلت وأعتدت عطف
على أرسلت ولهن متعلقان بأعتدت ومتكأ مفعول به وآتت عطف أيضا وكل واحدة مفعول آتت
الأول ومنهن صفة لواحدة وسكينا مفعول آتت الثاني والسكين تذكر وتؤنث قاله الكسائي
والفراء وقال الجوهري : والغالب عليها التذكير.
(وَقالَتِ اخْرُجْ
عَلَيْهِنَّ) الواو عاطفة وجملة اخرج مقول القول وعليهن متعلقان
بمحذوف حال أي مطلا عليهن مستعليا بدلّك الفاتن وجمالك الآخذ. (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ
وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) الفاء عاطفة ولما ظرفية حينية أو رابطة حرفية ورأينه
فعل وفاعل ومفعول به وقطعن فعل وفاعل وأيديهن مفعول به ، ولا نرى رأي القائلين بأن
أكبرنه بمعنى حضن والهاء للسكت إذ هو تظرف مصنوع لا يليق بالقرآن. (وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً) وقلن فعل وفاعل وحاش اسم للتنزيه في محل نصب مفعول مطلق
ولله متعلقان بمحذوف حال وسيأتي مزيد بحث عن حاشا في باب الفوائد وما نافية حجازية
وهذا اسمها وبشرا خبرها وعبارة أبي حيان : «وقال الزمخشري وقرىء ما هذا بشرى أي
حاصل بشرى بمعنى هذا مشترى وتقول هذا لك بشرى أي بكرا وقال :واعمال ما عمل ليس هي
اللغة القدمى الحجازية وبها ورد القرآن انتهى. وانما قال القدمى لأن الكثير في لغة
الحجاز انما هو جر الخبر بالباء فتقول ما زيد بقائم وعليه أكثر ما جاء في القرآن
وأما نصب الخبر فمن لغة الحجاز القديمة حتى أن النحويين لم يجدوا شاهدا على نصب
الخبر في أشعار الحجازيين غير قول الشاعر :
وأنا النذير
بحرة مسودة
|
|
يصل الجيوش
إليكم قوادها
|
أبناؤها
متكنفون أباهم
|
|
حنقوا الصدور
وما هم أولادها
|
وقال الفراء
وهو سامع لغة حافظ ثقة : لا يكاد أهل الحجاز ينطقون إلا بالباء فلما غلب على أهل
الحجاز النطق بالباء قال الزمخشري :اللغة القدمى الحجازية فالقرآن جاء باللغتين
القدمى وغيرها».
(إِنْ هذا إِلَّا
مَلَكٌ كَرِيمٌ) إن نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وملك خبر وكريم صفة.
(قالَتْ فَذلِكُنَّ
الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) فذلك الفاء الفصيحة أي إن شئتم معرفته فذلكن واسم
الاشارة مبتدأ ولم تقل فهذا وهو حاضر وسياق الكلام يتطلب ذلك رفعا لمنزلته في
الحسن والذي خبر لمبتدأ محذوف أي هو الذي ولم يجعل الذي خبر لاسم الاشارة لأن لام
البعد التي اقترن بها اقتضت بعده عنه لما تقدم من تعظيم رتبته في الحسن والجمال ،
وفيه متعلقان بلمتنني أي في حبه أو مراودته وسيأتي تحقيق في المحذوف في باب
البلاغة. (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ
عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) الواو عاطفة واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق
وراودته فعل وفاعل ومفعول به وعن نفسه متعلقان براودته ، فاستعصم الفاء عاطفة
واستعصم فعل ماض زيدت فيه السين للمبالغة في الامتناع. (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ
لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) اللام موطئة للقسم وان شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم
ويفعل مضارع مجزوم وهو فعل الشرط وما مفعول به وجملة آمره صلة أي الذي آمره به
ويصح كونها مصدرية أي أمري والضمير في آمره عائد على الموصول أي ما آمر به فحذف
الجار كما حذف في أمرتك الخير ومفعول آمر الأول محذوف وكان التقدير ما آمره به وإن
جعلت ما مصدرية جاز فيعود الضمير على يوسف أي أمري إياه
ومعناه موجب أمري ، واللام واقعة في جواب القسم وجواب الشرط محذوف على
القاعدة في اجتماعهما دل عليه جواب القسم المذكور والتقدير ليسجنن وليكونن ، وفي
يسجنن نون التوكيد الثقيلة وفي يكون نون التوكيد الخفيفة واسم يكون مستتر تقديره
هو ومن الصاغرين خبرها. (قالَ رَبِّ السِّجْنُ
أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا وهو ما كان جوابا لمقدر
فقد قالت النسوة له بعد أن أسمعن تقرير زليخاء ألا تطيع مولاتك؟ قال إلخ ، ورب
منادى محذوف منه حرف النداء والسجن مبتدأ وأحب خبر وإلي للتبيين وهي المبينة
لفاعلية مجرورها بعد ما يفيد حبا أو بغضا من فعل تعجب أو اسم تفضيل ومما متعلقان
بأحب وجملة يدعونني صلة وهو فعل مضارع مبني على سكون الواو والنون الاولى نون
النسوة والثانية نون الوقاية فالواو ليست ضميرا بل هي لام الكلمة وليس هو من
الأفعال الخمسة التي ترفع بثبوت النون وتنصب وتجزم بحذفها وأضاف العمل إليهن لأنهن
جميعا دعونه إلى أنفسهن وقيل لأنهن لما قلن له ألا تطيع مولاتك صح إضافة الدعاء
إليهن جميعا ، واليه متعلقان بيدعونني.
(وَإِلَّا تَصْرِفْ
عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) الواو عاطفة وان شرطية ولا نافية وتصرف فعل الشرط
والفاعل مستتر تقديره أنت وعني متعلقان بتصرف وكيدهن مفعول به وأصب جواب الشرط
والفاعل مستتر تقديره أنا وإليهن جار ومجرور متعلقان بأصب وأكن عطف على أصب واسم
أكن مستتر تقديره أنا ومن الجاهلين خبر أكن.
البلاغة :
١ ـ في قوله تعالى «ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم»
فنان متداخلان
الأول ظاهر وهو التشبيه البليغ فقد شبهن يوسف بالملك
من دون ذكر الأداة وهذا واضح كما قلنا يجري على غرار التشبيهات المألوفة
المقصود منه إثبات الحسن لأنه تعالى ركب في الطبائع أن لا شيء أحسن من الملك وقد
عاين ذلك قوم لوط في ضيف ابراهيم من الملائكة ، كما ركب في الطباع أن لا شيء أقبح
من الشيطان ، وكذلك قوله تعالى في صفة جهنم «طلعها كأنه رؤوس الشيطان» فكذلك قد
تقرر أن لا شيء أحسن من الملك ، فلما أرادت النسوة وصف يوسف بالحسن شبهنه بالملك.
ولكن الأسلوب القرآني شاء أن يتجاوز المألوف من تشبيهات العرب لكل ما راعهم حسنه
من البشر بالجن فأدخل فيه فنا آخر لا يبدو للناظر للوهلة الأولى وهو فن عرفوه بأنه
سؤال المتكلم عما يعلمه حقيقة تجاهلا منه ليخرج كلامه مخرج المدح أو ليدل ـ كما
هنا ـ على شدة الوله في الحب وقد يقصد به الذم أو التعجب أو التوبيخ أو التقرير
ويسمى هذا الفن تجاهل العارف وهو على قسمين : موجب ومنفي.
أ ـ الموجب :
وهو ما يكون
فيه الاستفهام عن شيئين أحدهما واقع والآخر غير واقع وللمتكلم أن ينطق بأحدهما
ويسكت عن الآخر لدلالة الحال عليه ومن هذا الباب قوله تعالى «أبشرا منا واحدا
نتبعه» وهذا خارج مخرج التعجب وسيأتي بحثه عند الكلام على هذه الآية في سورة «القمر»
وقوله تعالى «قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يبعد آباؤنا أو أن نفعل في
أموالنا ما نشاء» وهذا خارج مخرج التوبيخ وقد مر ذكره في سورة هود وقوله تعالى : «أأنت
فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم» وهذا خارج مخرج التقرير وجميعه موجب كما رأيت.
ب ـ المنفي :
وأما الآية
التي نحن بصددها فهي من القسم المنفي فقد تجاوز التشبيه ، كما قلنا ، تشبيه العرب
كل من راعهم حسنه من البشر بالجن الى تشبيه يوسف حين كان حسنه بادي الروعة متجاوزا
في ائتلاقه ووسامته المألوف المعهود من روائع الحسن وله مع روعته البادية نور
ورأوة ، وطلاقة وتهلل ، وعليه مسحة من سكينة تؤمن ناظره من تلك الرعوة وتثبت قلبه
بما يسري إليه من سكينة وايماءة بالخير واستهواء لما فيه راحة النفس ولذتها فكان
كذلك تشبيهه بالملك الكريم.
التشبيه المصون عن الابتذال :
وما دام الكلام
انجر معنا الى هذه النواحي التي تدق فيها الصنعة وتعزب أسرارها إلا عن الملهمين
الذين تذوقوا أسرار القوم فلا ندحة لنا عن الاشارة الى أن هذا الفن انما يلجأ اليه
في التشبيه بنوع خاص للخروج من التقليد والارتفاع بالتشبيه الى أبعد الآفاق
وصيانته من الابتذال فلو لم تعرض الآية تشبيه يوسف بالملك بهذا الأسلوب المسبوق
بالنفي الموجب للغرابة لم يكن للتشبيه ذلك الوقع الحسن ومن ذلك قول شاعر الخلود
المتنبي :
لم تلق هذا
الوجه شمس نهارنا
|
|
إلا بوجه ليس
فيه حياء
|
فقد أراد تشبيه
الوجه بالشمس ولكن هذا التشبيه شائع يكاد لشيوعه يسف الى حضيض الابتذال فأراد
صيانته بأن قدم له النفي متجاهلا فقال لا حاجة الى الشمس مع ضيائك ونورك ولكنها
لوقاحتها تطلع عليك.
تجاهل العارف في الشعر :
هذا ولتجاهل
العارف وقع في النفوس كأخذة السحر ونشوة الخمر ولهذا قال السكاكي رحمة الله : «لا
أحب تسميته بالتجاهل لوروده كثيرا في كلام الله تعالى» ثم أطلق عليه تسمية أخرى
وهي «سوق المعلوم مساق غيره لنكتة» وقد طفحت أشعارنا به ولم تقتصر على المديح أو
الغزل ، كما قلنا ، بل تجاوزتهما الى أية مبالغة في أي موضوع من الموضوعات التي
تعن للخواطر فاستمع الى قول زهير ابن أبي سلمى تر العجب العجاب : قال يهجو حصن بن
حذيفة الفزاري :
وما أدري
وسوف إخال أدري
|
|
أقوم آل حصن
أم نساء
|
فانظر كيف خطر
بباله أن ينفي الدراية بحال الآل ، ثم قبل أن يكمل ذلك خطر بباله الجزم بأنه سوف
يدري ، ثم قبل أن يكمل ذلك قال إن حصول الدراية في المستقبل على سبيل التخيل والظن
فحكى حال النفس عند ترددها في شأنه.
ويطربني قول
أبي العباس النامي :
أحقا أن
قاتلتي زرود
|
|
وأن عهودها
تلك العهود
|
وقفت وقد
فقدت الصبر حتى
|
|
تبين موقفي
أني الفقيد
|
وشكك فيّ
عذالي فقالوا
|
|
لرسم الدار
أيكما العميد؟
|
وصيحة ابن الرومي
صيحة الوهل حين يرى الوجنة الحمراء الى جانب الصدع الأدعج :
يا وجنتيه
اللتين من بهج
|
|
فيّ صدغييه
اللذين من دعج
|
ما حمرة
فيكما؟ أمن خجل
|
|
أم صبغة الله
أم دم المهج
|
وقد أطرفت ليلى
بنت طريف الخارجية في رثاء أخيها :
أيا شجر
الخابور مالك مورقا
|
|
كأنك لم تجزع
على ابن طريف
|
وأراد مهيار أن
يشبه المحبوبة بالظبي وبالبدر وبغصن البان فتجاوز المألوف المعتاد وسما الى سماء
ما طاولتها سماء إذ قال :
سلا ظبية
الوادي وما الظبي مثلها
|
|
وإن كان
مصقول الترائب أكحلا
|
أأنت أمرت
البدر أن يصدع الدجى
|
|
وعلمت غصن
البان أن يتميّلا
|
ونختم هذا
الباب المستطاب بقول البهاء زهير :
رعى الله
ليلة وصل خلت
|
|
وما خالط
الصفو فيها الكدر
|
أتت بغتة
ومضت سرعة
|
|
وما قصرت بعد
ذاك القصر
|
بغير احتيال
ولا كلفة
|
|
ولا موعد
بيننا ينتظر
|
فقلت وقد كاد
عقلي يطير
|
|
سرورا بنيل
المنى والوطر
|
أيا قلب تعرف
من قد أتاك
|
|
ويا عين
تدرين من قد حضر
|
ويا قمر
الأفق عد راجعا
|
|
فقد حل في
الدار عندي القمر
|
ويا ليلتي
هكذا هكذا
|
|
وبالله قف يا
سحر
|
فكانت كما
أشتهي ليلة
|
|
وطاب الحديث
وطاب ا
|
لسهر خلونا
وما بيننا ثالث
|
|
فأصبح عند
النسيم الخبر
|
ويقول الشريف
الرضي وهو غاية الغايات :
بين الاظاعن
حاجة خلفتها
|
|
أودعتها يوم
الفراق مودعي
|
وأظنها لا بل
يقيني انها
|
|
قلبي لأني لم
أجد قلبي معي
|
٢ ـ الحذف :
وفي قوله «فذلكن
الذي لمتنني فيه» والتقدير في حبه لأن الذوات لا يتعلق بها لوم ودليل تقدير في حبه
قوله «قد شغفها حبا» في مراودته ، ولعلها أولى بدليل قوله : «تراود فتاها عن نفسه»
وإنما قلنا أولى لأنه فعلها بخلاف الحب فإنه أمر قهري لا يلام عليه إلا من حيث
تعاطي أسبابه أما المراودة فهي حاصلة باكتسابها فهي قادرة على دفعها فيتأتى اللوم
عليها بخلاف الحب فانه ليس فعلا لها ولا تقدر على دفعه لأن الحب المفرط قد يقهر
صاحبه ولا يطيق أن يدفعه وحينئذ فلا يلام عليه وعلى كل حال فهو من أسبابه.
٣ ـ وفي قوله «متكأ»
تصوير لنوع من الطعام الذي انما يقدم تفكها وتبسطا وتجميلا للمجلس وتوفيرا لأسباب
المتعة فيه حتى إن الشأن فيه أن يكون الإقبال عليه في حالة من الراحة والاتكاء ،
والكلمة بعد هذا من الألفاظ الكثيرة التي أبدع القرآن صياغتها فتعلق بها العرب
فيما بعد ولو لا ذلك لما اهتدوا إليها ولخاتنهم اللغة في هذا الباب عن تصوير ما
يريدون انظر حينما يصف القرآن دعوة امرأة العزيز
للنسوة اللائي تحدثن منتقدات عن مراودتها ليوسف عن نفسه إلى جلسة لطيفة
رائعة في بيتها لتطلعهن فيها على يوسف وجماله فيعذرنها فيما أقدمت عليه ، لقد قدمت
لهن في ذلك المجلس طعاما ولا شك ولقد أوضح القرآن هذا ولكنه لم يعبر عن ذلك بالطعام
فهذه الكلمة إنما تصور شهوة الجوع وتنتقل بالفكر الى «المطبخ» بكل ما فيه من ألوان
الطعام وروائحه وأسبابه.
الفوائد :
١ ـ (حاشا) تكون على ثلاثة أوجه :
١ ـ فعلا
متعديا متصرفا ، تقول : حاشيته بمعنى استثنيته وان سبقتها ما تكون نافية.
٢ ـ تنزيهية
نحو حاشا لله فتكون اسما مرادفا للتنزيه منصوبا على المفعولية المطلقة وقيل هي فعل
وتثبت الألف وتحذف.
٣ ـ أن تكون
للاستثناء فتكون حرفا بمنزلة إلا لكنها تجر المستثنى وهناك تفاصيل أخرى يرجع إليها
في المطولات.
٢ ـ المخالفة في نوني التوكيد :
جمهور البصريين
يرى أن نوني التوكيد الثقيلة والخفيفة أصلان لتخالفهما في بعض أحكامهما كإبدال
الخفيفة ألفا في نحو وليكونا وحذفها في نحو قوله :
ولا تهين
الفقير علك أن
|
|
تركع يوما
والدهر قد رفعه
|
وكلاهما ممتنع
في الثقيلة ، هذا ما قاله سيبويه وعورض بأن الفرع قد يختص بما ليس للأصل أحيانا وقد
قال سيبويه نفسه في أن المفتوحة انها فرع المكسورة ولها إذا خففت أحكام تخصها أما
الكوفيون فيرون أن الخفيفة فرع الثقيلة.
وذكر الخليل بن
أحمد : ان التوكيد بالثقيلة أشد من التوكيد بالخفيفة يدل له «ليسجنن وليكونن» فإن
امرأة العزيز كانت أشدّ حرصا على سجنه من كينونته صاغرا.
٣ ـ لا يخلو
اسم التفضيل المجرد من أل والاضافة غالبا من مشاركة المفضل عليه في المعنى لفظا أو
تقديرا والمراد بقولنا تقديرا مشاركته بوجه ما كقولهم في البغيضين : هذا أحب إلي
من هذا وفي الشرين هذا خير من هذا وفي التنزيل : «قال رب السجن أحب إلي مما
يدعونني إليه» وتأويل ذلك هذا أقل بغضا وأقل شرا ومن غير الغالب العسل أحلى من
الخل والصيف آخر من الشتاء.
(فَاسْتَجابَ لَهُ
رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤)
ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ
(٣٥) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ
خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ
الطَّيْرُ
مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦) قالَ لا
يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ
يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا
يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ
مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ
بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٣٨) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ
مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) ما تَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ
بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا
إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ (٤٠) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ
خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ
الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١))
اللغة :
(كَيْدَهُنَّ) : الكيد : يطلق على معان شتى منها المكر والخبث
كالمكيدة والحيلة وهو المراد هنا ويطلق على الحرب وإخراج الزند النار
والقيء واجتهاد الغراب في صياحه وكاد قاء وبنفسه جاد والمرأة حاضت ، وكاد يفعل كذا
قارب وهمّ.
الاعراب :
(فَاسْتَجابَ لَهُ
رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ) الفاء عاطفة واستجاب فعل ماض وله متعلقان به وربه فاعل
، فصرف عطف على فاستجاب وعنه متعلقان بصرف وكيدهن مفعول به. (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ان واسمها وهو ضمير فصل أو مبتدأ ثان والسميع العليم
خبر ان لإن أو لهو والجملة خبر ان. (ثُمَّ بَدا لَهُمْ
مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) ثم حرف عطف وبدا فعل ماض وفاعله مضمر يفسره ليسجننه أي
بدا لهم أن يسجنوه قال سيبويه : «وفاعل بدا لهم هو ليسجننه أي ظهر لهم أن يسجنوه»
وقال المبرد : هذا غلط لأن الفاعل لا يكون جملة ولكن الفاعل ما دل عليه بدا وهو المصدر
، قال الشاعر :
وحق لمن أبو
موسى أبوه
|
|
يوفقه الذي
نصب الجبالا
|
أي وحق الحق ،
فحذف الفاعل لدلالة الفعل عليه ، وعلى مذهب سيبويه فاعل حق هو يوفقه أي حق التوفيق
، ولهم متعلقان ببدا ومن بعد حال وما مصدرية وهي مع ما في حيزها مضافة لبعد ورأوا
فعل وفاعل والآيات مفعول به ، ليسجننه اللام جواب قسم محذوف على تقدير القول
المنصوب على الحال : أي ظهر لهم من بعد ما رأوا الآيات قائلين والله لنسجننه فجملة
القسم وما بعده مقول القول ويسجننه فعل مضارع مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي
الأمثال ، والواو
المحذوفة فاعل والنون المشددة نون التوكيد الثقيلة ولكنها لم تباشر الفعل
فأعرب ، والهاء مفعول به منصوب وحتى حرف جر وحين مجرور بحتى والجار والمجرور
متعلقان بيسجننه أي إلى أن ينقطع كلام الناس وتسكن الاشاعات والأراجيف. (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ) الواو عاطفة على محذوف ودخل فعل ماض ومعه ظرف مكان
متعلق بدخل والسجن مفعول به على السعة وفتيان فاعل أي غلامان للملك أحدهما ساقيه
والآخر صاحب طعامه وكانا قد اتهما بأنهما حاولا أن يسما الملك فأمر بهما الى السجن
فأدخلا السجن ساعة دخول يوسف. (قالَ أَحَدُهُما
إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) قال فعل وأحدهما فاعل والجملة استئناف بياني وقد تقدم ،
وان واسمها وجملة أراني خبرها والياء مفعول أراني الأول وجملة أعصر خمرا في محل
المفعول الثاني ، وعبارة أبي حيان : «ورأى الحلمية جرت مجرى أفعال القلوب في جواز
كون فاعلها ومفعولها ضميرين متحدي المعنى فأراني فيه ضمير الفاعل المستكن وقد تعدى
الفعل الى الضمير المتصل وهو رافع للضمير المتصل وكلاهما لمدلول واحد ولا يجوز أن
تقول ضربني ولا أكرمني».
(وَقالَ الْآخَرُ
إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ) وقال الآخر فعل وفاعل وان واسمها وجملة أراني خبرها
وجملة أحمل مفعول أراني الثاني وفوق رأسي ظرف متعلق بأحمل أو بمحذوف حال من خبزا
لأنه كان في الأصل صفة له فلما تقدم أعرب حالا ، وخبزا مفعول به وجملة تأكل الطير
منه صفة لخبزا. (نَبِّئْنا
بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) فعل أمر ونا مفعوله والفاعل مستتر تقديره أنت وبتأويله
متعلقان بنبئنا وان واسمها وجملة نراك خبرها ومن المحسنين متعلقان بنراك. (قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ
تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما) لا نافية ويأتيكما طعام فعل مضارع ومفعول به وفاعل
وجملة ترزقانه
صفة لطعام وإلا أداة حصر ونبأتكما فعل وفاعل ومفعول به والميم والألف حرفان
دالان على التثنية وقيل ظرف متعلق بنبأتكما وان وما في حيزها مضافة للظرف وجملة
إلا نبأتكما نعت لطعام أو حال منه لأنه وصف. (ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي
رَبِّي) اسم الاشارة مبتدأ ومما خبر وجملة علمني صلة وعلمني ربي
فعل ومفعول به وفاعل. (إِنِّي تَرَكْتُ
مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) ان واسمها وجملة تركت خبرها ، وملة قوم مفعول به وجملة
لا يؤمنون صفة لقوم وبالله متعلق بيؤمنون وهم مبتدأ وبالآخرة متعلقان بكافرون وهم
تأكيد لهم وكافرون خبر هم وجملة إني تركت ابتدائية أو تعليلية وفي كلا الحالين لا
محل لها من الاعراب. (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ
آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) واتبعت عطف على تركت والتاء فاعله وملة آبائي مفعول به
وإبراهيم بدل من آبائي واسحق ويعقوب عطف على ابراهيم. (ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ
مِنْ شَيْءٍ) ما نافية وكان فعل ماض ناقص ولنا خبرها المقدم وان وما
في حيزها اسمها المقدم وبالله متعلقان بنشرك ومن حرف جر زائد وشيء مجرور لفظا
مفعول به منصوب محلا. (ذلِكَ مِنْ فَضْلِ
اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ) ذلك مبتدأ ومن فضل الله خبر وعلينا متعلقان بفضل وعلى
الناس معطوف على علينا. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) الواو عاطفة ولكن واسمها وجملة لا يشكرون خبرها. (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ
مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) يا حرف نداء وصاحبي السجن منادى مضاف وعلامة نصبه الياء
والسجن مضاف اليه ويجوز أن تكون هذه الاضافة من باب الاضافة للظرف إذ الأصل يا
صاحبي في السجن ويجوز أن تكون من باب الاضافة الى الشبيه بالمفعول به والمعنى يا
ساكني السجن وسيأتي مزيد بحث عن معنى الاضافة في باب الفوائد ، أأرباب : الهمزة
للاستفهام التقريري وأرباب مبتدأ ومتفرقون
صفة وخير خبر وأم حرف عطف وهي هنا متصلة والله عطف على أرباب والواحد صفة
والقهار صفة ثانية. (ما تَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) ما نافية وتعبدون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو
فاعل ومن دونه حال وإلا أداة حصر وأسماء مفعول به وجملة سميتموها صفة والتاء فاعل
وأنتم تأكيد للتاء وآباؤكم عطف على التاء قال صاحب الخلاصة :
وإن على ضمير
رفع متصل
|
|
عطفت فافصل
بالضمير المنفصل
|
(ما
أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) ما نافية وأنزل الله فعل وفاعل وبها متعلقان بأنزل ومن
حرف جر زائد وسلطان مجرور لفظا مفعول به منصوب محلا والجملة نعت أو حال لأن اسماء
وصفت. (إِنِ الْحُكْمُ
إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) إن نافية والحكم مبتدأ وإلا أداة حصر ولله خبر الحكم
وجملة أمر مستأنفة أو حالية والأول أضبط وأن مصدرية ولا نافية وتعبدوا فعل مضارع
منصوب بأن وأن وما بعدها منصوب بنزع الخافض وهو متعلق بأمر أي أمركم بأن لا تعبدوا
ويجوز أن تكون مفسرة ، ولا ناهية وتعبدوا مجزوم بلا وإلا أداة حصر وإياه مفعول
تعبدوا. (ذلِكَ الدِّينُ
الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ذلك مبتدأ والدين خبر والقيم صفة ولكن الواو استئنافية
أو حالية ولكن واسمها وجملة لا يعلمون خبرها. (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ
أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً) يا صاحبي السجن تقدم اعرابها وأما حرف شرط وتفصيل
وأحدكما مبتدأ والفاء رابطة وجملة يسقي خبر أحدكما وربه مفعول به أول وخمرا مفعول
به ثان وانما أبهم الساقي لكونه مفهوما أو لكراهة التصريح للخباز بأنه الذي سيصلب.
(وَأَمَّا الْآخَرُ
فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ) وأما الآخر عطف على أما الأولى والآخر مبتدأ
والفاء رابطة وجملة يصلب خبر ، فتأكل الطير : الفاء عاطفة وتأكل عطف على
يصلب والطير فاعل وتأكل ومن رأسه متعلقان بتأكل.
(قُضِيَ الْأَمْرُ
الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) قضي الأمر فعل ماض مبني للمجهول والأمر نائب فاعل والذي
صفة للأمر وفيه متعلقان بتستفتيان.
البلاغة :
في قوله تعالى (إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) مجاز مرسل علاقته ما يكون وما يئول اليه فقد سمى العنب
خمرا لأنه يئول الى الخمر ويقال فلان يطبخ الآجر أي يطبخ اللبن حتى يصير آجرا وقيل
: الخمر هو العنب حقيقة في لغة غسان وأزد وعمان ، وعن المعتمر : لقيت أعرابيا
حاملا عنبا في وعاء فقلت ما تحمل؟ فقال خمرا وعلى هذا يكون الكلام حقيقيا لا
مجازيا والأول أرجح.
الفوائد :
معنى الاضافة :
تكون الاضافة
على معنى اللام بأكثرية لأنها الأصل وعلى معنى من بكثرة ومن ذلك اضافة العدد الى
المعدودات والمقادير الى المقدورات كثلاثة الأثواب ومائة درهم ومن ذلك اضافة عدد
الى آخر نحو ثلاثمائة وعلى معنى «في» بقلّة ، وضابط الاضافة التي تكون بمعنى في أن
يكون الثاني ظرفا للأول وهو المضاف سواء أكان زمانا أم مكانا فالزمان نحو مكر
الليل وتربص أربعة أشهر والمكان نحو «يا صاحبي السجن» فالليل ظرف للمكر والسجن ظرف
للصاحبين والتقدير مكر
في الليل وصاحبين في السجن وضابط الاضافة التي تكون بمعنى من ان يكون الاول
وهو المضاف بعض الثاني وهو المضاف اليه كخاتم فضة ألا ترى أن الخاتم بعض جنس الفضة
المضاف إليها وان يصح الاخبار بالمضاف اليه عن المضاف فانه يقال هذا الخاتم فضة.
هذا وذهب الجمهور الى أن الاضافة قسمان فقط : بمعنى اللام وبمعنى من ولا ثالث لهما
، وما أوهم معنى «في» فهو على معنى اللام مجازا ، وجعل الليل ماكرا والسجن صاحبا ،
لوقوع المكر والصحبة فيهما.
(وَقالَ لِلَّذِي
ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ
ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢) وَقالَ الْمَلِكُ
إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ
سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي
رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ
وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤) وَقالَ الَّذِي نَجا
مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ
فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ
سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ
لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) قالَ تَزْرَعُونَ
سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ
فِي
سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ
ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا
تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ
وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩))
اللغة :
(بِضْعَ سِنِينَ) : البضع : ما بين الثلاث الى التسع وأكثر الأقاويل على
انه لبث فيه سبع سنين قال أحد علماء اللغة : والبضع بالكسر والفتح ما بين واحد الى
خمسة في قول أبي عبيدة وقال غيره ما بين واحد الى عشرة والبضع بالفتح الشق والبضع
بالضم النكاح قال بعضهم :
شقّ وري
وجماع بضع
|
|
ما بين واحد
وعشر بضع
|
وفي الأساس : «وعندي
بضعة عشر من الرجال وبضع عشرة من النساء ، الذكور بالتاء والإناث بطرحها ، على سنن
حكم العدد.
وأقمت عنده بضع
سنين وهو ما بين الثلاث الى العشر» وفي القاموس والتاج : «البضع والبضع الطائفة من
الليل وما بين الثلاث الى التسع يقال بضع سنين وبضع عشرة من النساء وبضع وعشرون
امرأة ومع المذكر بضعة عشر من الرجال وبضعة وعشرون رجلا ويجب تقديم بضع فلا يقال
عشرون وبضع» وقال الحريري في درة الغواص :
«البضع أكثر ما يستعمل فيما بين الثلاث الى العشر وأسند ذلك الى النبي صلى
الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى : «وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين»
وذلك أن المسلمين كانوا يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أهل الكتاب ،
والمشركون يميلون الى أهل فارس لأنهم أهل أوثان فلما بشر الله المسلمين بأن الروم
سيغلبون سر المسلمون ثم ان أبا بكر رضي الله عنه أخبر مشركي قريش بما نزل عليهم
فقال أمية بن خلف خاطراني على ذلك فخاطره على خمس قلائص في مدة ثلاث سنين ثم أتى
النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن البضع فقال ما بين الثلاثة الى العشرة فأخبره
بخطاره مع ابن خلف فقال له : ما حملك على تقريب المدة؟ قال الثقة بالله ورسوله
فقال له : عد إليهم فزدهم في الخطر وازدد في الأجل فزادهم قلوصين وزادوه سنتين
فظفرت الروم بفارس قبل انقضاء الأجل الثاني تصديقا لتقدير أبي بكر رضي الله عنه.
(سِمانٍ) : جمع سمينة ويجمع سمين أيضا عليه يقال رجال سمان كما
يقال نساء سمان والسمن مصدر سمن يسمن فهو سمين فالمصدر والاسم جاءا على غير قياس
إذ قياسهما سمنا بالفتح فهو سمن نحو فرح فرحا فهو فرح وفي المصباح : «سمن يسمن من
باب تعب وفي لغة من باب قرب إذا كثر لحمه وشحمه ويتعدى بالهمزة وبالتضعيف» ومن
المجاز كلام غثّ وسمين ، وقد أسمنت القدر ، ودار سمينة : كثيرة الأهل ، وسمّنوا
لفلان : أعطوه عطاء كثيرا ، وسمّنت في الحمد أعطيت فيه الكثير ، قال ابن مقبل :
تركت الخنا
لست من أهله
|
|
وسمّنت في
الحمد حتى سمن
|
وسمع أعرابي
يقول لآخر : جعلت لك الدار بغير ثمن ليكون
أسمن لخطي عندك ، وانقلب بلدهم سمنة وعسلة إذا كثرتا فيه وفي مثل «سمنكم
هريق في أديمكم» أي ما لكم ينفق عليكم.
(عِجافٌ) : جمع عجفاء على غير قياس والعجف الهزال الذي ليس بعده
والسبب في وقوع عجاف جمعا لعجفاء وأفعل وفعلاء لا يجمعان على فعال حمله على سمان
لأنه نقيضه ومن دأبهم حمل النظير على النظير والنقيض على النقيض والقياس عجف نحو
حمراء وحمر.
(رُءْيايَ) : فرق أرباب العربية بين الرؤيا والرؤية فقالوا :
الرؤيا مصدر رأى الحلمية والرؤية مصدر رأى العينية وغلطوا أبا الطيب في قوله :
مضى الليل
والفضل الذي لك لم يمض
|
|
ورؤياك أحلى
في العيون من الغمض
|
وقال أبو
البقاء في شرحه لديوان المتنبي : «والرؤيا تستعمل في المنام خاصة ومنه قوله تعالى «لقد
صدق الله رسوله الرؤيا بالحق» و «لا تقصص رؤياك على إخوتك» و «إن كنتم للرؤيا
تعبرون» و «قد صدقت الرؤيا» وهذا كله في المنام ولو قال «لقياك» لكان أحسن إلا أنه
ذهب بالرؤيا الى الرؤية كقوله تعالى «وما جعلنا الرؤيا التي أريناك» فإنه لم يرد
بها رؤيا المنام وانما أريد اليقظة وكان ذلك ليلا في ليلة الاسراء».
وقال أبو الفتح
بن جني : «الرؤيا في المنام وأما في العين فلا أعرفها وإن جاءت فهي شاذة».
وقال ابن هشام
في أوضح المسالك : «ولا تختص الرؤيا بمصدر
الحلمية بل قد تقع مصدرا للبصرية خلافا للحريري وابن مالك بدليل :«وما
جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس» قال ابن عباس : هي رؤيا عين ولكن
المشهور استعمالها في الحلمية.
واقتصر صاحب
القاموس على أن الرؤيا في الحلم قال : «والرؤيا ما رأيته في منامك» وجمعه رؤى
كهدى.
(تَعْبُرُونَ) : من باب نصر ينصر ويستعمل أيضا بالتشديد كعلّم تعليما
وحقيقة عبرت الرؤيا ذكرت عاقبتها وآخر أمرها كما تقول عبرت النهر إذا قطعته حتى
تبلغ آخر عرضه وهو عبره أو نحوه أولت الرؤيا إذا ذكرت مآلها وهو مرجعها وعبرت
الرؤيا بالتخفيف هو الذي اعتمده الإثبات ورأيتهم ينكرون عبرت بالتشديد والتعبير
والمعبر وقد عثرت على بيت أنشده المبرد في كتاب الكامل لبعض الاعراب :
رأيت رؤيا ثم
عبرتها
|
|
وكنت للأحلام
عبارا
|
وفي القاموس :
العبار مبالغة العابر ومفسر الأحلام وجمل عبار قوي على السير وشاع العبر اليوم
بالفتح والكسر وهو من الوادي شاطئه وناحيته أما العبر بالضم فهو الكثير من كل شيء
والعبارة بالكسر مصدر والاسم من عبّر والألفاظ الدالة على معنى ويقال فلان حسن
العبارة أي البيان وهذا عبارة عن كذا أي بمعناه ومساوله في الدلالة.
(أَضْغاثُ أَحْلامٍ) تخاليطها وأباطيلها وما يكون منها من حديث نفس أو وسوسة
شيطان وأصل الأضغاث ما جمع من أخلاط النبات وحزم الواحد ضغث فاستعيرت لذلك
والاضافة بمعنى من أي أضغاث
من أحلام وفي المثل «ضغث على إبالة» الإبّالة بكسر الهمزة وتشديد الباء
الحزمة من الحشيش والحطب والضغث قبضة من حشيش مختلطة الرطب باليابس ومعنى المثل
بلية على أخرى ويضرب أيضا مثلا للرجل يحمّل صاحبه المكروه ثم يريده منه.
(ادَّكَرَ) : بالدال وهو الفصيح ويجوز واذّكر بالذال المعجمة
وأصلها اذتكر افتعل من الذكر فوقعت تاء الافتعال بعد الذال فأبدلت دالا فاجتمع
متقاربان فأبدل الاول من جنس الثاني وادغم.
(أُمَّةٍ) : بضم الهمزة وتشديد الميم وتاء منونة وهي المدة
الطويلة والأمة معروفة والإمة بكسر الهمزة النعمة وقرىء بها أيضا قال عدي :ثم بعد
الفلاح والملك والإمة ووارتهم هناك القبور
الاعراب :
(وَقالَ لِلَّذِي
ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) وقال عطف على ما قبله وفاعله يوسف وللذي متعلقان به
وجملة ظن صلة وفاعل ظن يوسف أيضا وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي ظن وان واسمها
وناج خبرها ومنهما حال أي حال كون الناجي من جملة الاثنين وهو الساقي وجملة اذكرني
مقول القول وعند ربك ظرف متعلق بمحذوف حال. (فَأَنْساهُ
الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) فأنساه الشيطان الفاء عاطفة وأنساه فعل ومفعول به
والضمير يعود الى الساقي والشيطان فاعل والمعنى فأنساه الشيطان أن يذكر يوسف عند
الملك وقيل فأنسي يوسف ذكر ربه حين وكل أمره الى غيرة. ذهب كثير من المفسرين الى
أن الذي أنساه الشيطان ذكر ربه هو الذي نجا
من الغلامين وهو الشرابي وقد رجح هذا بكون الشيطان لا سبيل له على الأنبياء
وأجيب بأن النسيان وقع من يوسف ونسبته الى الشيطان على طريق المجاز ، والأنبياء
غير معصومين عن النسيان إلا فيما يخبرون به عن الله سبحانه وقد صح عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قال :«إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فاذا نسيت
فذكروني» ورجح أيضا بأن النسيان ليس بذنب فلو كان الذي أنساه الشيطان ذكر ربه هو
يوسف لم يستحق العقوبة على ذلك بلبثه في السجن بضع سنين وأجيب بأن النسيان هو
الترك وانه عوقب بسبب استعانته بغير الله سبحانه ويؤيد رجوع الضمير الى يوسف ما
بعده من قوله : فلبث في السجن بضع سنين ويؤيد رجوعه الى الذي نجا من الغلامين قوله
فيما سيأتي : وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة. وذكر مفعول به ثان ، فلبث الفاء
عاطفة ولبث فعل وفاعل مستتر وفي السجن جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وبضع سنين
نصب على الظرفية متعلق بلبث.
(وَقالَ الْمَلِكُ
إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ) إن واسمها وجملة أرى خبرها وسبع بقرات مفعول به وسمان
صفة لبقرات وسيأتي في باب الفوائد لما ذا وصفت البقرات دون سبع ويأكلهن سبع فعل
مضارع ومفعول به وفاعل وعجاف صفة لسبع وجملة يأكلهن في محل نصب مفعول ثان لأرى ،
وعبر بالمضارع لاستحضار الصورة. (وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ
خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ) وسبع عطف على سبع الأولى وسنبلات مضاف اليه وخضر صفة
لسنبلات وأخر عطف على سبع وسيأتي القول في منعها من الصرف في باب الفوائد ويابسات
صفة لأخر. (يا أَيُّهَا
الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) أفتوني فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والياء
مفعول به وفي رؤياي متعلقان بأفتوني وإن شرطية وكنتم كان واسمها وهي في
محل جزم فعل الشرط وجملة تعبرون خبر كنتم والجواب محذوف دل عليه ما قبله أي
فأفتوني في رؤيا وقوله للرؤيا الجار والمجرور فيه أوجه أحدها ان اللام للبيان
كقوله وكانوا فيه من الزاهدين فهي ومجرورها في محل نصب حال وإما أن تكون للتقوية
لأن العامل إذا تقدم عليه معموله لم يكن في قوته على العمل فيه مثله إذا تأخر عنه
فعضد بها كما يعضد بها اسم الفاعل إذا قلت عابر للرؤيا لانحطاطه عن الفعل في القوة
فهي في حكم المزيدة فلا تعلق بشيء وانما زيدت لمجرد التقوية ويجوز أن تكون خبر
كنتم كما تقول كان فلان لهذا الأمر إذا كان مضطلعا به متمكنا منه وعندئذ تكون جملة
تعبرون خبرا ثانيا لكنتم. قال المبرد في الكامل : وهذه اللام تزاد في المفعول على
معنى زيادتها في الاضافة ، تقول هذا ضارب زيدا وهذا ضارب لزيد ، لأنها لا تغير
معنى الاضافة إذا قلت هذا ضارب زيد وضارب له ، وفي القرآن «وأمرت لأن أكون أول
المسلمين» وكذلك «إن كنتم للرؤيا تعبرون» (قالُوا أَضْغاثُ
أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ) قالوا فعل وفاعل وأضغاث أحلام خبر لمبتدأ محذوف أي هذه
أضغاث أحلام وتخاليط أوهام والجملة مقول القول وسيأتي سر جمعها في باب البلاغة وما
الواو عاطفة وما نافية حجازية ونحن اسمها وبتأويل متعلقان بعالمين والباء حرف جر
زائد وعالمين مجرور بالباء لفظا منصوب محلا على أنه خبر ليس. (وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما
وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) الواو عاطفة وقال الذي فعل وفاعل وجملة نجا صلة ومنهما
حال وادكر عطف على نجا وبعد أمة متعلقان بادكر ويجوز أن تكون الواو حالية وجملة
نجا حالية من الموصول أو من عائده أي فاعل نجا. (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ
بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) أنا مبتدأ وجملة أنبئكم خبر والكاف مفعوله وبتأويله
متعلقان بأنبئكم فأرسلون الفاء الفصيحة وأرسلوني فعل أمر وفاعل ومفعول به أي ان
شئتم تعبير الرؤيا فأرسلوني. (يُوسُفُ أَيُّهَا
الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ
وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ) لا بد من تقدير محذوف أي فأرسلوه فأتى يوسف في السجن
فقال ، ويوسف منادى محذوف منه حرف النداء وأيها منصوب محلا على الاختصاص لأنه مبني
على الضم والصديق بدل منه أو عطف بيان له تابع له على اللفظ وسيأتي بحث الاختصاص
في باب الفوائد وأفتنا فعل أمر مبني على حذف حرف العلة وفاعله مستتر تقديره أنت
ونا مفعول به وفي سبع جار ومجرور متعلقان بأفتنا وبقرات مضاف اليه وجملة يأكلهن
سبع عجاف صفة لبقرات وما بعده عطف عليه. (لَعَلِّي أَرْجِعُ
إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) لعل واسمها وجملة أرجح خبرها والى الناس متعلقان بأرجع
ولعلهم يعلمون مثلها. (قالَ : تَزْرَعُونَ
سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً) جملة تزرعون مقول القول وسبع سنين ظرف متعلق بتزرعون
ودأبا حال من المأمورين أي دائبين أو مصدر لفعل محذوف أي تدأبون دأبا.
(فَما حَصَدْتُمْ
فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ) الفاء عاطفة وما يجوز أن تكون شرطية أو موصولة وهي في
محل نصب مفعول مقدم لحصدتم على الحالين ، وحصدتم فعل وفاعل فذروه الفاء واقعه في
جواب الشرط أو الموصول لما فيه من رائحة الشرط وذروه فعل وفاعل ومفعول به وفي
سنبله متعلقان فذروه وإلا أداة استثناء وقليلا مستثنى واجب النصب ومما صفة لقليلا
وجملة تأكلون صلة. (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ
بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ) ثم حرف عطف وتراخ ويأتي فعل مضارع ومن بعد ذلك حال وسبع
فاعل يأتي وشداد صفة لسبع. (يَأْكُلْنَ ما
قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ) جملة يأكلن صفة ثانية لسبع والنون فاعل وما مفعول به
وجملة قدمتم صلة ما ولهن متعلقان بقدمتم وإلا أداة استثناء وقليلا مستثنى ومما صفة
لقليلا وجملة تحصنون صلة. (ثُمَّ يَأْتِي
مِنْ
بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) عطف أيضا وجملة فيه يغاث الناس صفة لعام ويعصرون عطف
على يغاث أي يعصرون الأعناب وغيرها.
البلاغة :
١ ـ المبالغة :
فقد جمعوا لفظ
الضغث فقالوا أضغاث أحلام وجعلوه خبرا للرؤيا مع ايها واحدة للمبالغة في وصف الحلم
بالبطلان أو لانطوائه على أشياء مباينة ولفظ الجمع كما يدل على كثرة الذوات يدل
أيضا على المبالغة في الاتصاف كما في قولهم فلان يركب الخيل ويلبس العمائم لمن لا
يملك إلا فرسا واحدة وعمامة فردة.
٢ ـ نفي الشيء بايجابه :
وقد تقدمت
الاشارة اليه ونزيده هنا بسطا لأنه من محاسن الكلام فإذا تأملته وجدت باطنه نفيا
وظاهره إيجابا قال امرؤ القيس :
على لا حب لا
يهتدى بمناره
|
|
إذا سافه
العود النباطي جرجرا
|
فقوله لا يهتدى
بمناره لم يرد أن له منارا لا يهتدى به ولكن أراد أنه لا منار له على الإطلاق فضلا
عن الاهتداء به وكذلك قول زهير ابن أبي سلمى :
بأرض خلاء لا
يسدّ وصيدها
|
|
علي ومعروفي
بها غير منكر
|
فأثبت لها في
اللفظ وصيدا وإنما أراد ليس لها وصيد فيسدّ علي ، ويتصل بهذا قول الزبير بن عبد المطلب
يذكر عميلة بن السباق بن عبد الدار وكان نديما له وصاحبا :
صبحت بهم
طلقا يراح الى الندى
|
|
إذا ما انتشى
لم تحتضره صاقره
|
ضعيفا يحث
الكأس قبض بنانه
|
|
كليلا على
وجه النديم أظافره
|
فظاهر كلامه
أنه يخمش وجه النديم إلا أن أظفاره كليلة وانما أراد في الحقيقة انه لا يظفّر وجه
النديم ولا يفعل شيئا من ذلك وكذلك قوله لم تحتضره مفاقره أي ليس له مفاقر فتحتضره
وسيأتي ما هو أبلغ من ذلك في حينه وهو قوله تعالى : «لا يسألون الناس إلحافا» أي
لا يسألون البتة وفي الآية التي نحن بصددها أراد البارئ تعالى نفي الأحلام الباطلة
خاصة كأنهم قالوا : ولا تأويل للأحلام الباطلة فنكون به عالمين ويزداد الحسن
اكتمالا بالمواءمة فقد قال الملك لهم أولا «إن كنتم للرؤيا تعبرون» للتدليل على
أنهم لم يكونوا في علمه عالمين بها لأنه أتى بكلمة «إن» التي تفيد التشكيك رجاء
اعترافهم بالقصور مطابقا لشك الملك الذي أخرجه مخرج الاستفهام عن كونهم عالمين
بالرؤيا أولا وقول الفتى أنا أنبئكم بتأويله الى قوله لعلي أرجع الى الناس لعلهم
يعلمون دليل على
ذلك أيضا
فسبحان قائل هذا الكلام.
الفوائد :
١ ـ أوقع
سبحانه قوله «سمان» صفة للميّز وهو بقرات دون
المميّز وهو سبع والفرق بين الأمرين وكلاهما جائز في قواعد النحو أنك لو
أوقعتها صفة لبقرات فقد أردت أن تميز السبع بنوع من البقرات وهي السمان منهن خاصة
لا بجنسهن ولو أوقعتها صفة لسبع فقد أردت أن تميز السبع بجنس البقرات لا بنوع خاص
منها ثم رجعت فوصفت المميز بالجنس بالسمن.
٢ ـ دلت كلمة
أخر على أن السنبلات اليابسات كانت سبعا كالخضر دون التصريح بالعدد ذلك لأن الكلام
مبني على انصبابه الى هذا العدد في البقرات السمان والعجاف والسنابل الخضر فوجب أن
يتناول معنى الأخر السبع ويكون قوله وأخر يابسات بمعنى وسبعا أخر.
٣ ـ أخر :
صفة معدولة عن
وزن آخر ولعدل الصفة موضعان :
آ ـ الاعداد
على وزن «فعال ومفعل» كأحاد وموحد وثناء ومثنى وثلاث ومثلث ورباع ومربع وهي معدولة
عن واحد واحد واثنين اثنين إلخ فإذا قلت جاء القوم مثنى فالمعنى أنهم جاءوا اثنين
اثنين وقد قالوا أن العدل في الأعداد مسموع عن العرب إلى الأربعة غير أن النحويين
قاسوا ذلك الى العشرة والحق انه مسموع في الواحد والعشرة وما بينهما قال أبو الطيب
:
أحاد أم سداس
في أحاد
|
|
لييلتنا
المنوطة بالتناد
|
ب ـ أخر في
قولك مررت بنساء أخر وقال تعالى «فعدة من أيام أخر» وهي جمع أخرى مؤنث آخر ، وآخر
بفتح الخاء اسم
تفضيل على وزن أفعل بمعنى مغاير وكان القياس أن يقال مررت بنساء آخر كما
يقال مررت بنساء أفضل لأن اسم التفضيل إذا كان مجردا من من أل والاضافة لا يؤنث
ولا يثنى ولا يجمع.
٤ ـ الاختصاص :
هو نصب الاسم
بفعل محذوف وجوبا تقديره أخص أو أعني ولا يكون هذا الاسم إلا بعد ضمير لبيان
المراد منه نحو : نحن العرب نكرم الضيف ، فنحن مبتدأ وجملة نكرم الضيف خبر والعرب
منصوب على الاختصاص بفعل محذوف تقديره أخص وجملة الفعل المحذوف معترضة بين المبتدأ
وخبره وليس المراد الاخبار عن نحن بالعرب بل المراد أن إكرام الضيف مختص بالعرب
ومقصور عليهم ومنه قول أبي عبادة البحتري :
نحن أبناء
يعرب ، أعرب النا
|
|
س لسانا
وأنضر الناس عودا
|
وقد يكون
الاختصاص بلفظ أيها وأيتها فيستعملان كما يستعملان في النداء فيبنيان على الضمّ
ويكونان في محل نصب بأخص محذوفا وجوبا ويكون ما بعدهما اسما محلى بأل لازم الرفع
على أنه صفة أو بدل للفظهما ولا يجوز نصبه على أنه تابع لمحلهما كما في الآية
الكريمة.
فهرس المجلد الرابع
تتمة سورة الأنفال الآية (٤١)............................................... ٥
اعراب سورة التوبة........................................................ ٤٩
اعراب سورة يونس...................................................... ٢٠٠
اعراب سورة هود....................................................... ٣٠٩
اعراب سورة يوسف..................................................... ٤٤٨
الفهرس............................................................... ٥١١
انتهى المجلد الرابع ويليه الخامس
بدءاً من الآية (٥٠) من سورة يوسف
|