


الشيخ الصدوق ـ مؤلف الكتاب
بقلم العلامة الجليل السيد محمد مهدي الخراسان
هو أبو جعفر
محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي.
ولم ترفع كتب
التراجم نسبه إلى ما فوق (بابويه) الامر الذي يدلنا
على أنه الشخصية الأولى من آبائه الذي تمتع بشهرة حتى صارت النسبة إليه ،
كما يترك المجال مفتوحا لاحتمال نسبة عدة من المحدثين والعلماء المشهورين
ينسبون إلى مثل هذا الاسم (بابويه) ، أنهم من لحمة الشيخ الصدوق وأبناء
عمومته ، فإنهم أيضا لم ترفع أنسابهم أيضا إلى من فوق بابويه إلا في واحد
كما سيأتي ، ونظرا لتقارب عصورهم مع عصر الصدوق فيبدو احتمال أنهم
جميعا من أسرة واحدة ، ويرجعون إلى جد واحد وهو بابويه ، وقد ذكرت
ذلك في رسالتي (التنويه بأسماء المختومين بويه) عند ذكر أسماء الاعلام
من المحدثين المنسوبين إلى بابويه وإن لم أجزم به.
أما الاشخاص
المشار إليهم آنفا ممن نسب إلى بابويه ولم يرفع نسبه إلى من فوقه إلا في واحد وهو :
١ ـ محمد بن
سليمان بن بابويه بن مهرويه المخرمي ـ كما في الاكمال ـ وفي رواية الخطيب أنه
بابويه بن فهرويه بن عبد الله ، سمع عثمان بن عبد اللهابن عمرو بن عثمان العثماني
وغيره ، حدث عنه ابنه عبيد الله – الآتي ذكره ـ وغيره ، توفى سنة ٣٠٧ ه.
٢ ـ عبيد الله
بن محمد بن سليمان ـ الآنف الذكر ـ أبو محمد الدقاق ، حدث
عن أبيه وجعفر الفريابي ، وإبراهيم بن عبد الله بن أيوب المخرمي وغيرهم.
٣ ـ أبو القاسم
محمد بن عبيد الله بن بابويه ـ الرجل الصالح ـ وهو ممن
يروي عنه أبو نصر أحمد بن الحسين بن أحمد بن عبيد الله الضبي ، وهذا من
مشايخ المؤلف شيخنا الصدوق ، روى عنه كما في أسانيد كتبه.
٤ ـ الحسين بن
إبراهيم بن بابويه ، عده سماحة السيد الوالد دام ظله
من جملة مشايخ الصدوق في مقدمة الفقيه ص ٢٣ وص ٧٥ استنادا إلى ما
ذكره المحدث النوري في خاتمة المستدرك ، ولم نجد ذكره في أسانيد الصدوق
في كتبه ، نعم وردت رواية الصدوق عنه بواسطة في إسناد حديث في بشارة
المصطفى حيث ذكر أن الصدوق يروي عن الحسين بن موسى عن الحسين
ابن إبراهيم بن بابويه عن علي بن إبراهيم بن هاشم القمي.
٥ ـ أبو الحسن علي بن عبد الله بن
أحمد بن بابويه المذكر ، وهو من
شيوخ الصدوق ، روى عنه في معاني الأخبار ص ٤٠٨.
٦ ـ أبو الحسن
علي بن محمد بن بابويه الأسواري الأصبهاني ، قال ابن
مندة هو آخر الأغنياء الأتقياء ، ورع دين ، دخل شيراز وسمع من جماعة ،
وكتب. مات سنة ٣٥٨ ه.
٧ ـ أحمد بن
الحسن بن علي بن بابويه الحنائي ، حدث عن يوسف
ابن موسى القطان ، وحدث عنه عمر بن أحمد بن شاهين في معجم شيوخه
وابن شاهين هذا ولد سنة ٢٩٧ وأول ما سمع الحديث سنة ٣٠٥ وله إحدى
عشرة سنة ، وتوفى سنة ٣٨٥.
__________________
٨ ـ أبو الحسن
علي بن بابويه قتيل القرامطة في الطواف بالمسجد الحرام
ذكره القطبي في كتابه الاعلام بأعلام بيت الله الحرام ص ٧٥ ـ ٧٦ ، أن القرامطة
لما أغاروا على الحجاج في سنة ٣١٧ ه ودخلوا المسجد الحرام أيام الموسم ، وراثت
خيولهم في المسجد ، وقتلوا خلقا كثيرا في المطاف قدرهم بألف وسبعمائة طائف
محرم ، وكان علي بن بابويه ممن يطوف فلم يقطع طوافه ، وجعل يقول :
ترى المحبين
صرعى في ديارهم
|
|
كفتية الكهف
لا يدرون كم لبثوا
|
والسيوف تقفوه إلى أن سقط ميتا رحمهالله تعالى .
٩ ـ أبو الحسن
علي بن الحسين بن بابويه الرازي ، خرج لنفسه أربعين
حديثا رواها عنه أبو المجد محمد بن الحسين بن أحمد القزويني المتوفى سنة ٦٢٢
بسماعه منه .
__________________
ومن الواضح أن هؤلاء كلهم إلا الأخير
منهم ممن يقارب عصرهم عصر
الصدوق أو عصر والده كتقارب بلدانهم ، فيا هل ترى وجاهة احتمال أنهم
من ذرية بابويه جد المؤلف ، أو أنهم من بابويه آخر أو آخرين.
ومهما يكن
الواقع فان بني بابويه ـ أسرة المؤلف ـ من بيوتات القميين
المشتهرة بالعلم والفضيلة ، وقد تبوأ رجال منهم مكان الصدارة والمرجعية كما
كان بيتهم حتى القرن السادس بيت علم وحديث ، ذكرت المعاجم الرجالية
منهم عدة علماء ومحدثين أحصينا منهم ما يقرب من عشرين عالما من بينهم
شيخ الاسلام وثقة الدين ، كما فيهم من تسمى باسم جدهم الأعلى (بابويه)
إحياء لذكره.
وبالرغم من
كثرة البحث في تاريخ هذه الأسرة الكريمة الباسقة أفنانها
والناضجة ثمارها لم نقف على مبدء سكناهم في قم الحاضرة الاسلامية ومهد العلم
في ذلك العصر ، لكن الذي لا نشك فيه أن والد المؤلف وهو الشيخ أبو الحسن
علي بن الحسين كان في قم ، ومن أبرز أصحاب الشيوخ الأجلة سعد بن عبد الله
ابن أبي خلف الأشعري وأبي العباس عبد الله بن جعفر الحميري صاحب قرب الإسناد، وأبي
الحسن علي بن إبراهيم بن هاشم القمي المفسر وطبقتهم.
كما كانت له
مكانة مرموقة في وسطه ، بل يعد من علية رجالات
بلده وفي الطليعة بين أعلامهم الطائري الصيت إن لم يكن هو الأول المشار
إليه من بينهم وقد أثنى عليه علماء الرجال ووصفوه بكل جميل مما يكشف
عن عظيم قدره ، وعلو كعبه.
كما ذكروا أن
الإمام الحسن العسكري عليهالسلام المتوفى سنة ٢٦٠ كتب إليه كتابا فيه ما يغني عن سرد جمل الثناء العاطر ،
وآيات التعظيم ، جاء فيه :
__________________
(اعتصمت بحبل
الله ، بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين
والعاقبة للمتقين ، والجنة للموحدين ، والنار للملحدين ، ولا عدوان إلا على
الظالمين ولا إله إلا الله أحسن الخالقين والصلاة على خير خلقه محمد وعترته
الطاهرين)
وفيه : (أما بعد ، أوصيك يا شيخي ومعتمدي وفقيهي أبا الحسن علي بن
السين القمي وفقك الله لمرضاته وجعل من صلبك أولادا صالحين برحمته).
وفيه : (فاصبر
يا شيخي يا أبا الحسن علي ، وأأمر جميع شيعتي بالصبر
فان الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين والسلام عليك وعلى
جميع شيعتنا ورحمة الله وبركاته).
والذي يلفت
النظر في فقرات هذا الكتاب خطاب الإمام عليهالسلام لأبي الحسن
ابن بابويه بالشيخ ، ولابد أن يكون من باب شيخه تشييخا دعاه شيخا تبجيلا
وتعظيما وإلا فلا مجال للقول بأن ابن بابويه كان حين صدور
الكتاب شيخا
في السن ، أي من الخمسين إلى الثمانين كما هو معنى الشيخ على ما حكاه
ابن سيده في المخصص وغيره.
ولو كان شيخا
لعد من المعمرين ، إذ أن وفاة الإمام العسكري عليهالسلام
كانت سنة ٢٦٠ ، وعاش أبو الحسن ابن بابويه بعد الإمام عليهالسلام ما يقرب من
سبعين عاما حيث كانت وفاته سنة ٣٢٨ ه ، ولم يذكر أنه كان من المعمرين
الذين تجاوزوا المائة وناهزوا المائة وخمسين مثلا ، ولم يذكر في ترجمته ما يشير
إلى ذلك ولو من بعيد على أنه لو كان من المعمرين الذين تجاوزوا المائة
وناهزوا المائة وخمسين مثلا لأشار ولده الشيخ الصدوق إلى ذلك في كتابه
إكمال الدين في باب التعمير والمعمرين وما يناسب ذلك من أبواب الكتاب
فلا بد إذن من أن يكون المعني بالشيخ هو التبجيل والتعظيم ، ولعل في مخاطبته
بالكنية ما يشعر بذلك مضافا إلى وصفه بالمعتمد والفقيه ، فهو من الشيوخ
شأنا ، وإن لم يكن منهم سنا.
__________________
ومما يسترعي
الانتباه أن هذا الكتاب لم يروه ولد الصدوق في تضاعيف
كتبه التي وصلت إلينا على كثرة الأبواب المناسبة لذكره ، كما لم يذكره
القدماء من أصحابنا.
وأقدم مصدر حكى
عنه ـ فيما أعلم ـ هو كتاب الاحتجاج لأبي منصور
أحمد بن علي الطبرسي أستاذ الحافظ ابن شهرآشوب السروي ، المتوفى سنة
٥٨٨ ، حكاه عنه البحراني في لؤلؤة البحرين ص ٣٨٤ ، ولم أجده في
مطبوع الاحتجاج.
ورواه بصورة
مختصرة الحافظ ابن شهرآشوب في المناقب ج ٣ ص ٥٢٧
وذكره مفصلا القاضي المرعشي في مجالس المؤمنين ج ١ ص ٤٥٣ ، والخوانساري
في الروضات ص ٣٧٧ ، والنوري في خاتمة المستدرك ج ٣ ص ٥٢٧ وغيرهم
من المتأخرين.
ذكر الشيخ
النجاشي في رجاله ص ١٨٤ أبا الحسن ـ والد المؤلف ـ ووصفه بقوله :
شيخ القميين في
عصره ومتقدمهم وفقيههم وثقتهم ، كان قدم العراق
واجتمع مع أبي القاسم بن روح رحمهالله وسأله مسائل ثم كاتبه بعد ذلك
على يد علي بن جعفر الأسود يسأله أن يوصل رقعة إلى الصاحب عليهالسلام
ويسأله فيها الولد ، فكتب إليه : قد دعونا لك بذلك ، وسترزق ولدين
ذكرين خيرين.
وذكر الشيخ
الطوسي في كتاب الغيبة ص ٢٠١ أن علي بن الحسين بن
موسى بن بابويه كانت تحته بنت عمه محمد بن موسى بن بابويه فلم يرزق منها
ولدا ، فكتب إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح رضياللهعنه أن يسأل
الحضرة أن يدعو الله أن يرزقه أولادا فقهاء ، فجاء الجواب أنك لا ترزق من
هذه وستملك جارية ديلمية وترزق منها ولدين فقيهين.
__________________
وفي لفظ الصدوق
ـ مؤلف الكتاب ـ قال حدثنا أبو جعفر محمد بن علي
ابن الأسود قال : سألني علي بن الحسين بن موسى بن بابويه رحمهالله بعد
موت محمد بن عثمان العمري رضياللهعنه (وكانت وفاته سنة ٣٠٥) أن أسأل
أبا القاسم الروحي أن يسأل مولانا صاحب الزمان عليهالسلام أن يدعو
الله عزوجل أن يرزقه ولدا ذكرا ، قال : فسألته فأنهى ذلك ، فأخبرني
بعد ذلك
بثلاثة أيام إنه قد دعا لعلي بن الحسين وأنه سيلد له ولد مبارك ـ كذا ـ ينفعه الله عزوجل به وبعده أولاد.
قال أبو جعفر
محمد بن علي بن الأسود رضياللهعنه وسألته في
أمر نفسي أن يدعو الله لي أن يرزقني ولدا ذكرا فلم يجبني إليه وقال : ليس إلى هذا
سبيل ، قال : فولد لعلي بن الحسين رضياللهعنه محمد بن علي (مؤلف الكتاب) وبعده أولاد ولم يلد لي شئ.
وهكذا تم للشيخ
ـ والد المترجم له ـ ما كان يصبو إليه من الدعاء
بالولد الصالح ، كما تم له بعد ذلك حصول الأثر ، فملك الجارية ورزق
منها أول مولود ذكر كان هو شيخنا ـ المترجم له ـ أبا جعفر محمد بن علي
الصدوق ولعل في اختيار والده لاسمه ما يشعر بأنه من بركات دعاء صاحب
هذا الاسم وهو صاحب الامر (عج) وكانت ولادته بعد سنة ٣٠٥ ه التي
هي سنة وفاة العمري وأولى سني سفارة الوحي ، ولعلها كانت سنة ٣٠٦
كما استقربها السيد الوالد دام ظله واستدل عليها ، وأيا ما كان فقد ولد
شيخنا الصدوق ببركة دعوة الناحية المقدسة.
ومن الطبيعي أن
يكون لتلك الدعوة أثرها في تقويم شخصيته وتكوين
مؤهلاته العلمية ، حتى توقع الناس ظهور أثرها بينا في تاريخه ، فكان
الامر كما أملوا ، وكانوا بعد ولادته ونشأته يرجعون جل تلك الظواهر
من مميزاته إلى أثر تلك الدعوة الصالحة التي بارك بها الإمام عليهالسلام وليد
أبي الحسن علي بن موسى بن بابويه ، كما كان المؤلف نفسه يفتخر بذلك
ويقول : أنا ولدت بدعوة صاحب الامر (عج).
وقال في ذيل
حديثه الآنف عن ابن الأسود : وكان أبو جعفر محمد بن
علي بن الأسود رحمهالله كثيرا ما يقول إذا رآني أختلف إلى مجلس
شيخنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضياللهعنه ، وأرغب في كتب
العلم وحفظه ليس بعجب أن تكون لك هذه الرغبة في العلم وأنت ولدت
بدعاء الإمام عليهالسلام .
قال أبو عبد
الله بن سورة رحمهالله : كلما روى أبو جعفر ـ مؤلف
الكتاب ـ وأبو عبد الله الحسين ابني علي بن الحسين شيئا يتعجب الناس
من حفظهما ، ويقولون لهما : هذا الشأن خصوصية لكما بدعوة الامام
لكما ، وهذا أمر مستفيض في أهل قم .
ومن الغريب ما
ذكره دوايت م رونلد سن في كتابه عقيدة الشيعة ص ٢٨٤
أن المؤلف ولد بخراسان أثناء زيارة والده لمشهد الرضا ، ولم نقف على مستند
يثبته. وقد تابعه على ذلك صاحب المنجد في الأدب والعلوم ص ٥٦.
وأغرب من ذلك
ما ذكره الدكتور محمد مصطفى حلمي (أستاذ
الفلسفة الاسلامية والتصوف بكلية الآداب بجامعة القاهرة) في تعليقه على
كتاب توفيق التطبيق ص ١٦٨ حيث قال : وقد ترك في صباه خراسان
عام سنة ٣٥٥ ه ـ ٩٦٦ م إلى بغداد الخ.
فمع الاغماض
عما ذكر من كونه بخراسان ، إلا أن الدكتور زعم
أنه ترك خراسان في صباه سنة ٣٥٥ إلى بغداد ، ولو بحث قليلا عن
ولادته لعلم أنه حين ورد بغداد سنة ٣٥٥ كان قد ناهز الخمسين من عمره
فكيف يصح قوله في صباه؟! نشأ المترجم له تحت رعاية أبيه الذي سبق أن وقفنا على شئ
من
__________________
مكانته والذي اشتهر بعلمه وتمسكه بدينه وعرف بورعه وتقواه ، ورجعت
إليه الشيعة في كثير من الأقطار ، وأخذوا عنه أحكامهم ، ولم يمنعه سمو
مقامه في العلم من اتخاذ وسيلة لمعاشه ، وركائز تضمن له الرفعة عما في
أيدي الناس ، شأن الأحرار في الدنيا ، فكانت له تجارة يديرها غلمانه
ويشرف عليهم بنفسه ، فيعتاش مما يرزقه الله من فضله ، ولم يشأ أن يثري
على حساب الغير ، أو يكون اتكاليا في رزقه .
وليس من شك أن
أباه أولاه عناية كبيرة ، ورعاه رعاية صالحة ، لأنه
أمله في هذه الحياة الدنيا ، ورسالته الباقية بعده ، نتيجة البشارة التي حبي
بها من الناحية المقدسة ، فكان الفتى الكامل آية في الحفظ والذكاء يحضر مجالس
الشيوخ ويسمع منهم ويروي عنهم ، فقد اختلف إلى مجلس شيخه محمد بن الحسن
ابن الوليد ـ وكان من أكابر الشيوخ وأعاظم العلماء ـ وهو حدث السن.
وأدرك من أيام أبيه
أكثر من عشرين عاما اقتبس خلالها من أخلاقه
وآدابه ومعارفه وعلومه ما سما به على أقرانه ، حتى روى عنه جميع
مصنفاته وهي مائتا كتاب فيما يذكره ابن النديم في فهرسته ص ٢٧٧.
قال : قرأت بخط
ابنه محمد بن علي على ظهر جزء ، (قد أجزت لفلان
ابن فلان كتب أبي علي بن الحسين وهي مائتا كتاب ، وكتبي وهي
ثمانية عشر كتابا) ، ومع الأسف الشديد ضياع تلك الثروة العلمية
الضخمة فلم نعثر إلا على أسماء ما يقارب من عشرين كتابا ذكرها
الشيخ النجاشي والشيخ الطوسي في فهرستيهما ولم يبق منهما إلا كتاب
الاخوان الذي يعرف بمصادقة الاخوان ونسب اشتباها إلى ولده مؤلف
هذا الكتاب ونصوصا من رسالته التي كتبها إلى ابنه.
__________________
فمما يكشف عن
مزيد عناية الأب بتربية ابنه رسالته التي كتبها
لأجله لخص له فيها كثيرا من الأصول الحديثية ، فاختصر الطريق بطرح
الأسانيد والجمع بين النظائر ، والاتيان بالخبر مع قرينه حتى قيل أنه أول
من ابتكر ذلك في رسالته إلى ابنه ، وكثير ممن تأخر عنه يحمد طريقته
فيها ، ويعول عليها في مسائل لا يجد النص عليها ، لثقته وأمانته وموضعه
من الدين والعلم وهذه الرسالة من مصادر كتاب (من لا يحضره
الفقيه) نقل عنها المؤلف كثيرا ، وصرح بذلك.
والذي يسترعي
الانتباه كثرة مرويات المؤلف عن طريق أبيه كثرة
تفوق مروياته عن كل من شيوخه الآخرين ، مما يدلنا على مدى
استعداده الذهني والنبوغ المبكر الذي كان له أكبر الأثر في قابليته
الجيدة لكل ما يقرأ ويسمع.
ولا غرابة في
نتائج الاحصاء والمقارنة التي تثبت أن الأب ـ وهو المنبع
الأول من منابع ثقافة وليده المرجى ـ بذل أقصى جهده في سبيل تثقيف ولده
وإسماعه أكبر عدد من مروياته ، حتى كان أكثر ما يرويه الولد هو عن
طريق شيخه الأول ومربيه الأكمل والده أبي الحسن رحمهالله.
وللتدليل على
ذلك خذ مثلا كتابا من كتب المؤلف رحمهالله ،
ونظم إحصاءا شاملا لمروياته عن كل من شيوخه فستخرج بنتيجة أن
للأب السهم الأوفر من تلك الروايات.
وهذا كتابه (من
لا يحضره الفقيه) لما كان هو أكبر كتبه وأكثرها
رواية فقد اختصر أسانيده مقتصرا على ذكر من ينتهي إليه سند الرواية ،
وكان هو الراوي الأول ، ووضع في آخره مشيخة ذكر فيها إسناده إلى
أولئك الرواة الذين ورد الحديث عنهم في الكتاب ولم يعرف طريق المصنف
إليهم ، ومن هذه المشيخة يستطيع الباحث كشف حقيقة ما قلناه عن كثرة
رواياته عن أبيه على قصر المدة التي عايشه فيها حتى فاقت رواياته ما يرويه
عن أشهر شيوخه الآخرين وأكثرهم ملازمة زمنية ، لتأخر وفاته عن وفاة
والد المؤلف المذكور ، كابن الوليد مثلا الذي مات سنة ٣٤٣ أي بعد
وفاة علي بن الحسين بن بابويه بنحو خمسة عشر عاما.
فالباحث يجد
المؤلف ذكر في المشيخة ٢١٥ راويا روى عنهم في كتابه
من طريق أبيه ، بينما روى عن ١٢٤ راويا من طريق شيخه محمد بن الحسن بن
أحمد بن الوليد ، وعن ٥٠ راويا من طريق محمد بن علي ماجيلويه ، وعن ٣٩
راويا ، من طريق محمد بن موسى بن المتوكل ، وهؤلاء من أشهر شيوخه الذين
اشتهر بالتلمذة عليهم والاخذ عنهم وعرف بشدة الاتصال بهم.
وهكذا تتضاءل
النسبة في مروياته عن سائر شيوخه الآخرين الذين
هم دون هؤلاء شهرة أو أقل اتصالا بهم.
وكذلك تكون
نتائج الاحصاء عند المقارنة بين مروياته في سائر كتبه
الأخرى ، فهذان كتابا (معاني الأخبار والأمالي) نجد المؤلف يكثر الرواية
عن طريق أبيه فيهما حتى فاق ما يرويه عن طريقه سائر ما يرويه عن باقي
شيوخه فله في كتاب المعاني ما يناهز المائتين ، وفي كتاب الأمالي ما يقرب
من ١٦٠ حديثا ، بينما نجد جميع ما يرويه عن طريق شيخه محمد بن الحسن
ابن أحمد بن الوليد في الكتابين معا لا يبلغ ما يرويه عن أبيه في كتاب
المعاني وحده ، أما إذا نظرنا إلى الأحاديث التي يرويها عن شيخه محمد
ابن موسى بن المتوكل فجميع ما ورد عن طريقه في الكتابين معا لا يبلغ
١٢٠ حديثا ، وعلى هذا القياس تتضاءل أيضا نسبة مروياته عن سائر
شيوخه الآخرين في هذين الكتابين .
__________________
وثمة ظاهرة في
مؤلفات هذا الشيخ الجليل لها قيمتها هي توريخه
السماع غالبا مع ذكر المكان مما يزيد في قيمة السند والرواية.
فإنا إذا رجعنا
إلى كتب المؤلف رحمهالله نجده يمتاز في أسانيده
عن شيوخه الكثيرين بتحديد زمان سماعه ، والمكان الذي سمع فيه غالبا
وهذه الظاهرة كما أوقفتنا على منهج المؤلف دلتنا على ما أنار لنا جوانب
من تاريخه أهملها مؤرخوه.
فهو لم يقتصر
في أخذه عن مشايخ بلده فحسب بل رحل إلى كثير
من البلدان طلبا للحديث واستزادة في العلم ، وسمع الكثير من شيوخ
العلم في مختلف الحواضر العلمية ، وربما حدث هو في بعض تلك البلاد
فسمع منه أشياخ البلد على حداثة سنة.
وقد ذكر شيوخه
سماحة سيدي الوالد دام ظله فأنهى عددهم إلى
أكثر من مائتي شيخ ، اقتبسنا منهم العلويين خاصة ، فذكرناهم في مقدمة
كتابه (التوحيد) مع بسط تراجمهم فكانوا سبعة ، فراجع مقدمة كتاب
التوحيد ص ١٥ ـ ٢٥.
أما البلاد
التي رحل إليها فأولها الري ، وقد التمسه أهلها للإقامة بينهم
وزاد في إقناعه بإجابتهم ما طلبوا وجود الأمير ركن الدولة البويهي وما كان
عليه من رعاية العلماء وإكرامهم والقيام بشؤونهم ، ولم نعثر على تحديد تاريخ
هجرته إلى الري ، إلا أن في أسانيده ما يشير إلى وجوده بقم في رجب سنة
٢٣٩ حيث سمع بها من الشريف أبي يعلى حمزة بن محمد الزيدي العلوي
كما إنا نجده يحدث عن سماعه في الري من أبي الحسن محمد بن أحمد الأسدي
المعروف بابن جرادة البردعي في رجب سنة ٣٤٧ ، وأنه لم تنقطع صلته
__________________
بوطنه الأول قم ، فربما دخلها إما لزيارة المشهد فيها أو للقاء الشيوخ ،
كما
يظهر من مقدمة كتابه إكمال الدين حين صرح بوجوده بقم ، وذلك بعد
عودته من زيارته للمشهد الرضوي ، وكانت زيارته الأولى سنة ٣٥٢ فقد اجتمع
بقم بالشيخ نجم الدين أبي سعيد محمد بن الحسين بن محمد بن أحمد بن علي بن
الصلت القمي ، وكان قد ورد من بخارا فذاكره في أمر الغيبة وسأله أن يصنف
فيها كتابا (لاحظ إكمال الدين ص ٢ ـ ٣ طبع الحيدرية بتقديمنا).
وقد خرج إلى
خراسان قاصدا زيارة الإمام الرضا عليهالسلام في طوس سنة
٣٥٢ فاستأذن الأمير البويهي ركن الدولة فأذن له ، ولما خرج من عنده
استدعاه ثانيا وسأله أن يدعو له عند المشهد ، فكانت تلك الزيارة
هي أولى زياراته الثلاث ، فقد زار المشهد ثانيا سنة ٣٦٧ بعد موت
الأمير البويهي المذكور بسنة ، كما زار المشهد ثالثا في سنة ٣٦٨ في
طريقه إلى بلاد ما وراء النهر.
وفي سنة ٣٥٢ في
شعبان كان في نيسابور في طريقه إلى المشهد الرضوي
فسمع في ذلك التاريخ أبا الطيب الرازي وابن عبدوس النيسابوري
وأبا سعيد المعلم والحسين بن أحمد البيهقي ، وكان سماعه منه في داره
وقد سمع في نيسابور من شيوخ آخرين لم نعثر على تاريخ سماعه منهم ، فلا
ندري هل في سفره هذا أم في أسفاره التي بعد ذلك ، وكان منهم أبو نصر الضبي
__________________
وقال عنه : وما لقيت أنصب منه ، وبلغ من نصبه أنه كان يقول اللهم صل
على محمد فردا ويمتنع من الصلاة على آله ، ومن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب
السجزي وأحمد بن إبراهيم الخوزي .
وفي مروالروذ
سمع من رافع بن عبد الملك ومحمد بن علي بن الشاه الفقيه
المروروذي في داره ، كما سمع في سرخس أبا نصر محمد بن أحمد بن إبراهيم بن
تميم السرخسي الفقيه ، كل ذلك في طريقه إلى خراسان في أسفاره إليها.
ولما عاد من
خراسان في سنته تلك (٣٥٢) توجه إلى بغداد في طريقه إلى
الحج فدخلها في تلك السنة ، وسمع منه شيوخ الطائفة وهو حدث السن
وقد سمع ببغداد من جماعة منهم أبو الحسن علي بن ثابت الدواليبي
والشريف النسابة أبو محمد الحسن بن محمد بن يحيى العلوي المعروف بابن
أخي طاهر بداره طرف سوق العطش ، كما أجاز له مما صح عنده
من حديثه .
ويبدو أنه لم
يتجاوز بغداد في سفره هذا ، لكنه في سنة ٣٥٤ حج
بيت الله الحرام فسمع بالكوفة من محمد بن بكران النقاش ومن أحمد
__________________
ابن هارون الفامي في مسجد الكوفة .
ومن الحسن بن
محمد بن سعيد الهاشمي الكوفي ، وهؤلاء قد أرخ سماعاته منهم ، وأنها في سنة ٣٥٤.
أما الذين لم
يؤرخ سماعاته منهم وصرح بسماعه منهم في الكوفة فهم
علي بن عيسى المجاور في مسجد الكوفة ، وأبو القاسم الحسن بن محمد بن
السكوني المذكر الكوفي ، ومحمد بن علي بن الفضل الكوفي في مسجد
أمير المؤمنين عليهالسلام في الكوفة وعلي بن الحسين بن شقير الهمداني في
منزله بالكوفة وغيرهم ممن لم يسمهم ، فقد ذكر في نوادر كتابه الفقيه
ج ٤ ص ٢٦١ أنه سمع رجلا من أهل المعرفة باللغة في الكوفة.
كما سمع بعد
منصرفه من الحج بفيد ـ وهو اسم مكان منتصف الطريق
تقريبا بين مكة والكوفة ـ من أبي علي أحمد بن جعفر البيهقي ،
وسمع ممن يثق به من أهل المدينة في شأن وادي مهزور ، والظاهر أن
سماعه منه كان بها راجع الفقيه ج ٣ ص ٥٦.
ولما قفل راجعا
إلى الري ، ومر في طريقه بهمدان سمع بها من
الفضل بن الفضل بن العباس الكندي وأجازه ، ومن القاسم بن محمد
ابن أحمد بن عبدويه الزاهد السراج الهمداني .
وفي سنة ٣٦٧
توجه لزيارة المشهد الرضوي ثانيا ، حيث أملى
المجلس الخامس والعشرين من أماليه في يوم الجمعة ١٣ ذي الحجة من
تلك السنة ، وعاد إلى الري في سنة ٣٧٨ حيث أملى المجلس السابع
__________________
والعشرين في يوم الجمعة غرة المحرم سنة ٣٦٨ بها.
وفي شهر رجب
توجه لزيارة المشهد الرضوي ثالثا ، ومر في طريقه
بنيسابور فأملى عدة مجالس من أماليه ، منها في دار الشريف أبي محمد
يحيى بن محمد العلوي الأفطسي المعروف بشيخ العترة وسيد السادة المجلس
التاسع والثمانين في يوم الأحد غرة شعبان من تلك السنة.
وأملى بنيسابور
عدة من مجالسه ، آخرها ما أملاه يوم الجمعة ١٢
شعبان وهو المجلس الثالث والتسعون ، وسافر إلى طوس لزيارة المشهد ،
فكان بها يوم الثلاثاء ١٧ شعبان حيث أملى المجلس الرابع والتسعين ،
وهكذا بقي في المشهد الرضوي حتى ختم أماليه بالمجلس ٩٧ يوم الخميس
١٩ شعبان من سنة ٣٦٨ ه.
وتوجه إلى بلاد
ما وراء النهر فدخل بلخ وسمع بها جماعة من
شيوخ الحديث منهم الحسين بن محمد الأشناني ، وعبيد الله بن أحمد الفقيه
وقد أجازه ، وطاهر بن محمد بن يونس بن حياة الفقيه ، ومحمد بن سعيد بن
عزيز السمرقندي وغيرهم.
وورد سرخس فسمع
محمد بن أحمد بن تميم السرخسي الفقيه ،
كما دخل سمرقند وسمع بها عبد الصمد بن عبد الشهيد ، وعبدوس بن
علي الجرجاني ، ووصل إلى إيلاق ـ وهي كورة تتاخم كور الشاش وهما
من أعمال سمرقند ـ فأقام بها وسمع الحديث من محمد بن الحسن بن
إبراهيم الكرخي الكاتب ومحمد بن عمرو بن علي بن عبيد الله البصري.
وفي مدة إقامته
بها اجتمع بالشريف أبي عبد الله محمد بن الحسن
العلوي المعروف بنعمة ، وسمع كل منهما من الآخر ، ووقف الشريف
المذكور على أكثر مصنفات الصدوق التي كانت معه فنسخها ، كما سمع
منه أكثرها ، ورواها عنه كلها ، وكانت مائتي كتاب وخمسة وأربعين كتابا .
__________________
ودخل فرغانة ،
وسمع بها من محمد بن جعفر البندار الشافعي وإسماعيل
ابن منصور بن أحمد القصار وتميم بن عبد الله بن تميم القرشي وغيرهم.
وهكذا نرى
المؤلف وهو في سن الشيخوخة ـ إذ قد تجاوز الستين ـ لا يزال يطوي المسافات الشاسعة
في طلب الحديث وسماعه وإسماعه ، ومعه من مصنفاته ٢٤٥ كتابا.
وأكبر الظن أنه
لم يسافر بعد سفره إلى ديار ما وراء النهر في سنة
٣٦٨ حتى توفى سنة ٣٨١ بالري ، إذ لم نعثر على ما يشير إلى ذلك ، ولا
شك أنه كان في أخريات أيامه بالري حيث أقام بها بعد أن قطع المسافات
الشاسعة وطاف كثيرا من البلدان النائية في سبيل سماع الحديث وإسماعه
لم يتلهف لماضي تمنى رجوعه ، كما لم يتوجع لحادث يخشى وقوعه ، بالرغم
من تقدم سنه في الشيخوخة ، ومضافا إلى مكانته الاجتماعية وصلاته
الوثيقة برجال الحكم في الري فإنه لو أراد أن ينعم بظلال الحياة الوارف
كغيره من القابعين في بيوتهم لكان ذلك من أيسر ما يروم ، لكنه العالم
الذي عرف لذة العلم ، فهو لا يأنس إلا بكتابه ولا يطربه إلا صرير
قلمه ، ولا يرى الكرامة والسعادة إلا بين المحابر والدفاتر ، فلا غرابة
إذا ما أنتج عقله النتاج القيم ، وأثمر علمه الكثير الطيب ، فهو في نحو
سبعة عقود ونصف من أعوام الحياة التي عاشها غذى المكتبة الاسلامية
في فنون العلم والآداب نحوا من ثلاثمائة مصنف وقيل أكثر من ذلك.
وقد ذكر سماحة
سيدي الوالد دام ظله في رسالته حياة الشيخ الصدوق
تفصيل أسماء آثاره مع الإشارة إلى ما وصلت إلينا نسخته وهو يبلغ العشر
بالنسبة إلى ما حفظ اسمه واندثر رسمه ومجموعها (٢٢٠) كتابا ورسالة
أما ما بقي فقد استأثر به التاريخ فلم يسمح حتى باسمه.
__________________
وقد ذكرت في مقدمة كتاب التوحيد ص ٣٤ ـ ٤٥
تفصيل آثاره
الباقية مع الإشارة إلى المخطوط والمطبوع منها ، وأن فيها وفيما بقي من
أسماء كتبه الأخرى التي سجلها أصحاب الفهارس وما لم يسجلوها
لدلالة على جودة البضاعة ووفور الرصيد العلمي حتى تفجرت تلك العقلية
عن مئات من المصنفات في فنون الآداب والعلوم الاسلامية ،فألف في التفسير والفقه
والحديث والكلام والعقائد والتاريخ والرجال والأخلاق
والآداب الشرعية والدعاء والزيارات سوى ما كتبه في أجوبة المسائل الواردة إليه من
سائر البلاد الاسلامية كمصر وبغدادوالكوفة والبصرة وواسط والمدائن ونيسابور وقزوين
، أو ما كتبه في جواب مسائل شخصية كجوابه إلى أبي محمد
الفارسي في شهر رمضان وغيره
ثواب الأعمال ، عقاب
الأعمال
لقد تفنن العلماء في معالجة النفوس
واصلاحها بشتى وسائل التهذيب ،واتخذ كل فريق سبيلا يؤدي منه رسالته، ويدعو فيها
إلى ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، وكان التأليف من
السبل الناجحة التي تؤدي إلى الغاية مع طول الزمن ، ما
دام للكتاب أثر بين الناس.
وكان شيخنا الصدوق رحمهالله
ممن اختار سبيل التأليف فأكثر
فيه ، وامتاز بكثرة مؤلفاته ، وقد حالفه التوفيق في قسم منها احتفظت
الأيام بنسخته.
فما من كتاب من كتبه تلك إلا وقد تلقاه
الناس بالقبول ،
وتداولوا نسخته إقبالا عليه ، ولعل في روحية المؤلف واخلاصه في التأليف
سر ذلك القبول وهذا الاقبال.
وها نحن اليوم
على أبواب كتابين من كتبه هما كتاب (ثواب الأعمال) وكتاب (عقاب الأعمال) ويعدان من
نفائس كتب الترغيب والترهيب ألفهما شيخنا الصدوق رحمهالله على نحو النهج الذي سلكه غير واحد من العلماء ، جريا وراء التأثير على القلوب ،
واجتهادا في
امتلاك الوجدان وصيد العواطف لتصحيح سلوك الانسان واصلاحه ، وتوجيهه نحو الخير ،
والانحياش به عن الرذائل والمعاصي ، واقتراف الآثام والجرائم.
وهذا اللون من
التأليف ـ أعني موضوع الترغيب والترهيب – نجده عند جميع المسلمين مقبولا ، وقد
أكثر العلماء من التأليف فيه.
فخص بعضهم
تأليفه بالترغيب فقط فكتب في ثواب الأعمال مثلا
كتابا خاصا وجعل ذلك اسم كتابه ، وقد عثرت على أسماء اثنى عشر
كتابا في ذلك هي على النحو التالي :
١ ـ ثواب
الأعمال لأبي جعفر أحمد بن محمد بن خالد البرقي من أصحاب الإمامين الجواد والهادي عليهماالسلام ، وهو أحد كتبه المحاسن.
٢ ـ ثواب
الأعمال لأبي جعفر محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني من أصحاب الإمام الجواد عليهالسلام ، رواه عنه سعد بن عبد الله الحميري المتوفى حدود سنة
٣٠٠ ه .
٣ ـ ثواب
الأعمال لأبي الفضل سلمة بن الخطاب البراوستاني الأزدوقاني ـ نسبة إلى قرية من
سواد الري ـ رواه عنه سعد بن عبد الله الحميري الآنف الذكر وأحمد ابن إدريس
المتوفى سنة ٣٠٦ ومحمد بن الحسن الصفار وغيرهم.
__________________
٤ ـ ثواب
الأعمال لأبي عبد الله محمد بن حسان الرازي الزيدي ـ الزيني ـ رواه عنه أحمد بن
إدريس المتوفى سنة ٣٠٦ الآنف الذكر .
٥ ـ ثواب
الأعمال لأبي محمد جعفر بن سليمان القمي رواه عنه محمد ابن الحسن بن الوليد
المتوفى سنة ٣٤٣ .
٦ ـ ثواب
الأعمال لأبي حاتم محمد بن حبان البستي المتوفى سنة ٣٥٤ .
٧ ـ ثواب
الأعمال لأبي الحسن علي بن أحمد بن الحسين الطبري الآملي رواه عنه النجاشي
بواسطتين .
٨ ـ ثواب الأعمال
لأبي أحمد محمد بن علي بن محمد الكرجي القصاب
٩ ـ ثواب الأعمال لابن أبي حاتم الحنظلي الرازي صاحب الجرح والتعديل .
١٠ ـ ثواب
الأعمال لأبي عبد الله الحسين بن علي بن سفيان البزوفري ، رواه عنه ابن الغضائري
المتوفى سنة ٤١١ والشيخ المفيد المتوفى سنة ٤١٣ .
١١ ـ ثواب
الأعمال لأبي العباس الناطفي المتوفى سنة ٤٤٦ .
١٢ ـ ثواب
الأعمال لأبي جعفر الصدوق وهو الكتاب الأول من
__________________
هذين الكتابين ولم تصل نسخة من تلك الكتب العشرة إلا من الأول والأخير
وكلاهما مطبوعان مكررا.
ومن هؤلاء
العلماء من اختار جانب الترهيب أيضا فخصه بتأليف
خاص فألف في عقاب الأعمال كما صنع أبو جعفر البرقي وأبو الفضل
سلمة بن الخطاب وأبو عبد الله محمد بن حسان الرازي والقصاب وشيخنا
الصدوق رحمهمالله جميعا ، وكلهم ممن سبق له تأليف في ثواب الأعمال
كما أشرنا آنفا ، ولم تصل إلينا من كتب عقاب الأعمال إلا
كتاب البرقي وكتاب الصدوق وهو ثاني كتابينا اللذين نقدم لهما.
ومن العلماء من
خص تأليفه بجانب من الترهيب فقط فتفنن في
ذلك كما صنع الحافظ الذهبي الذي ألف كتابا جمع فيه الموبقات وسماه
(الكبائر) وقد أنهاها إلى سبعين وشرح كل واحدة منها .
وتبعه ابن حجر
في ذلك فألف كتابه الزواجر عن اقتراف الكبائر ،
وزاد على ما ذكره الذهبي فأنهى الكبائر إلى (٤٦٧) كبيرة .
وثمة كتب أخرى
خصت بثواب بعض الأعمال أو بعقاب بعض
الأعمال كثيرة يجد القارئ أسماءها مبثوثة في كتب المعاجم والفهرسة.
تقييم الكتابين معا
لما كانت مادة
الكتابين معا مجموعة من أحاديث رواها الشيخ
الصدوق رحمهالله بأسانيده المنتهية إلى الرسول صلىاللهعليهوآله وإلى الأئمة عليهمالسلام ، وقد ضم الكتاب الأول منهما ما يناهز الثمانمائة
__________________
حديث كلها مسندة إلا أربعة أحاديث مرسلة ، وضم الثاني منهما ما يناهز
الثلاثمائة وخمسين حديثا مسندا إلا خمسة منها مرسلة.
فلا بد في
تقييمها أولا من ملاحظة رجال السند ووزنهم بميزان
الجرح والتعديل ، وبعد ذلك ملاحظة المتون ، وهذا هو المقياس في اعتبار
كتب الحديث عند تقييمها.
ونحن إذا
ألقينا نظرة على أحاديث الكتابين نجدها لا تسلم جميعها
عند التمحيص شأنها في ذلك شأن سائر كتب الترغيب والترهيب التي كان
سبيل مؤلفيها على اختلاف مذاهبهم وأزمانهم هو الجمع بين الأحاديث
التي تؤلف غرضهم المقصود ، وتؤدي إلى ترغيب الناس في الخير ، أو
ترهيبهم في الشر وهو الهدف المنشود.
فتراهم جمعوا
بين ما قوي متنه وصح سنده ، وبين ما هزل متنه
وسقم سنده ، وبين ما كان مقبول المتن دون السند ، أو مردود الدلالة
مقبول السند وجلها أخبار آحاد.
وعذرهم في هذا
النوع من التساهل والتوسع في سرد الاخبار على
النهج الذي أشرنا إليه ، هو اعتمادهم على قاعدة التسامح في أدلة السنن ،
ومعناها عدم اشتراط ما ذكر من الشروط للعمل باخبار الآحاد من
الاسلام والعدالة والضبط في الروايات الدالة على السنن فعلا وتركا
فصار هذا المعنى مجمعا عليه بين الفريقين وان اخبار الفضائل
يتسامح فيها عند أهل العلم .
وقد ورد عن
الإمام أحمد بن حنبل وشيخه عبد الرحمن بن مهدي
__________________
وعبد الله بن المبارك قالوا : إذا روينا في الحلال والحرام شددنا ، وإذا روينا
في الفضائل ونحوها تساهلنا .
وللعلماء في
الاستناد إلى القاعدة المذكورة ، وبالأحرى في تأسيسها أدلة عقلية ونقلية يمكن
تلخيصها بما يلي :
١ ـ ان الاقدام
على محتمل المنفعة ومأمون المضرة عنوان لا ريب
في حسنه ولا فرق عند العقل بينه وبين الاحتراز عن محتمل الضرر.
٢ ـ الأخبار
الواردة بعنوان من بلغه عن النبي صلىاللهعليهوآله شئ من الثواب فعمله كان ذلك له ، وإن كان رسول الله صلىاللهعليهوآله لم يقله ، لكشف العمل عن الانقياد والطاعة للرسول صلىاللهعليهوآله.
٣ ـ الاجماعات المنقولة
المعتضدة بالشهرة العظيمة ، بل الاتفاق المحقق ومهما نوقشت تلك الأدلة فقد أجيب عن
المناقشات بما لا مجال
لذكره وقد كتب في الموضوع عدة بحوث ورسائل لعلها أوفاها ما كتبه
الشيخ المرتضى الأنصاري قدسسره. وقد طبعت رسالته في الموضوع
ضمن أوثق الوسائل من ص ٢٩٩ إلى ص ٣٠٧.
وبناءا على
جميع ذلك فقد اعتمد الكتابين كل من تأخر من أصحاب
الجوامع الحديثية كالشيخ الحر العاملي في الوسائل والمجلسي في بحار الأنوار
، والمحدث النوري في المستدرك سوى غيرهم ممن اعتمدهما وأخرج
عنهما في مؤلفه ، لان جل ما جاء فيهما مما كان مقبول المتن والسند معا.
فكل منهما
بجملته نافع مفيد في بابه ، فهو سلوة الحائر الجازع ،
ومصلح الخائر المائع ، فيه ترقيق القلب القاسي ، وتزهيد عن فضول الحطام
وزجر عن المعاصي والآثام تسكن إليه النفوس عند اضطرابها ، وتجد فيه
هديها وصوابها.
__________________
وبعد فكل منهما
أثر نفيس في بابه.
ونظرا لتقارب
موضوعيهما على رغم التضاد بين أسميهما فقد جمعا
في جل ما وجد من نسخهما المخطوطة كما أنهما طبعا معا مكررا ، فصارا
وكأنهما كتاب واحد.
ففي سنة ١٢٩٨ ـ
١٢٩٩ ه طبعا بإيران في تبريز طبعة حجرية في
١٠٩ ـ ٥٢ صفحة.
وفي سنة ١٣١٢ ه
طبع ثواب الأعمال طبعة حجرية في إيران.
وفي سنة ١٣٧٥
طبعا في طهران طبعة حروفية في ٢٩٤ صفحة.
وفي سنة ١٩٦٢ م
طبعا في بغداد طبعة حروفية في ٢٧٠ صفحة.
وهذه طبعة المكتبة
الحيدرية ، وقد قام مشكورا فضيلة السيد أحمد
الإشكوري سلمه الله بمقابلة الأصل قبل الطبع على نسخة خطية بمكتبة
(آية الله الحكيم العامة في النجف) برقم ٨٤٦ مخطوطات وتاريخ نسخ
الكتاب الأول (ثواب الأعمال) سنة ١٠٢٧ وتاريخ نسخ الكتاب الثاني
(عقاب الأعمال) سنة ١٠٢٨ وهي بقلم محمد خليفة الجزائري مولدا
والسمناني مسكنا ، وسجل في الهامش بعض ما وجده من فروق وتفاوت
فجزاه الله خيرا.
كما أسال
المولى جل اسمه أن يثيب الناشر الأخ الشيخ محمد كاظم
الكتبي سلمه الله على عمله ويوفقه لنشر الآثار الصالحة والكتب النافعة.
وأن يتقبل منا
هذه الخدمة اليسيرة ويجعلها خالصة لوجهه الكريم
انه سميع مجيب.
|
|
محمد مهدي السيد
حسن
الموسوي الخراسان
|
|