مقدمة المركز

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام علىٰ نبينا محمّد وآله الطاهرين.. وبعد..

يثير الحديث عن مقومات المنهج التربوي السليم الذي تحتاجه الأُمّة ، ودور المبادئ والخلفيات الفلسفية للمناهج التربوية السائدة في واقعنا أسئلة شتّىٰ ؛ لأنّ ما أفرزته تجارب الفكر المعاصر في الحقل التربوي من مشاكل ، وما طرحه التطبيق الفعلي لبرامجه التربوية من أسئلة عديدة ونقاط فراغ لم تُملأ إلىٰ الآن ، وما قُدِّم علىٰ هذا الصعيد من حلول.. أدلة كافية علىٰ مرحلية تلك المناهج ، وعدم صلاحيتها للامتداد وإثراء المسيرة الإنسانية بما ينسجم وفطرة الإنسان وتطلعه نحو الكمال ، وعدم كفائتها في اكساب الواقع الاجتماعي قدرة علىٰ النمو والتطور ، مما أدّىٰ إلىٰ ظهور أصوات عديدة تدعو إلىٰ ضرورة إعادة النظر في تلك البرامج ولزوم تعديلها.

وللأسف الشديد إن حال المناهج التربوية السائدة في المجتمعات الإسلامية لاسيما التي تُدرّس على مستوى الجامعات لم تكن بأوفر حظاً من تلك المناهج ، لأنها ما بين مجرّد تغطية للفكر العلماني باعتماد اُطر منهجية في ترسيخه علىٰ حساب الفكر الإسلامي ، وما بين كونها محدّدة بقرارات سياسية صارمة لا تتيح لأفراد الأمة حرية النقد والاختيار ؛ خدمة لأهداف أيديولوجية معينة تسعى السلطة لتحقيقها ، حتىٰ عاد المنهج التربوي في أكثر البلاد الإسلامية حارساً للنظام القائم في هذا القطر أو ذاك.

وهكذا أهملت المقومات الحقيقية للمنهج التربوي ، فطبيعة الإنسان ، وفطرته ، وميوله ، وغرائزه ، وحبّه لذاته ، وما يعتريه من أدوار مختلفة من الطفولة إلى الهرم ، ونوع ارتباطه مع العالم الخارجي ، وفلسفته في الوجود ، أمور خطيرة تفرض نفسها علىٰ واقع كل عملية تربوية ، الأمر الذي يُفترض معه امتلاك المُقَنِّن التربوي الصورة الواضحة للنفس البشرية ، وتشخيص مشاكلها بدقّة ، مع الاحاطة بسائر العوامل الأساسية والثانوية المؤثرة في البناء التربوي ؛ لتكون برامجه ناجعة ومتينة ، وإلّا صارت مواقع الكيان التربوي ساحة لتخبط العاملين فيها ، خصوصاً إذا ما كانت تلك المناهج قائمة علىٰ مفاهيم فلسفية أجنبية مبتنية على أساس فصل الدين عن الدولة.

والمنهج الذي لا يمتلك من سعة الأهداف الخيرة ما ينبغي ، ولا من دقّة التشخيص ما يكفي ، ولا من وضوح الرؤية لحياة الفرد والمجتمع ما يجب ، فكيف ينفذ إلى أعماق النفس البشرية حتىٰ يصير لها خلقاً وملكة ، وهو لم يتفاعل مع وجدانها ولم يتّحد مع وجودها. والمنهج الذي ينطلق من تنمية الاحساس بالقومية أو الطائفية ولم يرتكز علىٰ روحانية الإسلام ، أو من الاحتفاء بالسلطة تارة ، أو المادة أخرىٰ مع تهميش دور القيم الإنسانية النبيلة ، ولا يضع في حساباته دور المنظومة الأخلاقية في البناء التربوي ، كيف يخلق من الأمة شخصية متزنة قادرة علىٰ تشخيص أخطائها وتصحيح مسيرتها وتحمل مسؤوليتها في حاضرها ومستقبلها ؟

وفي ضوء ما تقدم يتضح أنّ المنهج التربوي الصحيح هو ما تجاوز حدود الزمان والمكان ،


مستمداً نقطة انطلاقه من الخبير العارف بما يصلح الناس جميعاً ، منسجماً مع فطرتهم وتطلعاتهم وغاية وجودهم ، لكي تتوفّر القناعة الشعبية العارمة في تطبيق برامجه بلا حاجة إلىٰ تطبيقها قسراً من سلطة أعلىٰ.

وعلى هذا الأساس فإن صياغة المنهج التربوي في مجتمعنا المسلم يجب أن تنطلق من مسلمات ايمانية ، وأسس عقلانية راسخة ليتشكل بمجموعها الاطار الأساسي لذلك المنهج. وبعبارة أدق.. إن اختيار المنهج التربوي لتطبيقه علىٰ واقع المجتمع المسلم يجب أن يلحظ مسألة التعبد بالنص المتجذرة في أعماق الأمة المسلمة ، مما يعني هذا ضرورة استنطاق النص في صياغة كل منهج ، لا سيما التربوي الذي يهدف إلىٰ حراسة الأمة وحفظها من الانهيار ، والقضاء علىٰ كل ما من شأنه أن يفسد علىٰ الناس فطرتهم أو يبعث علىٰ انحراف سلوكهم ، أو يساعد علىٰ التواء سليقتهم ، أو يعكر نظرتهم وتفكيرهم ؛ لكي تُربى الأمة ـ حينئذٍ ـ على عقيدة التوحيد الخالصة ، وتكون حركة المجتمع كلها باتجاه الحق المطلق ، وبهذا ينسجم المنهج التربوي مع فطرة الله التي فطر الناس عليها جميعاً.

ولا شك أنّ تطبيق مثل هذا المنهج سيحقق أعلى درجات الموازنة بين حب الذات كغريزة وحب الغير كضرورة إنسانية ، بين حب البقاء والتضحية في سبيل العقيدة والمبدأ ، وبين حب الدنيا والعمل للآخرة. وسيغرس بذور الشعور بالمسؤولية في ذهن الأمة وتكون أفعالها وأقوالها مستندة علىٰ أساس مقبول. وهذا ـ في الواقع ـ هو منهج الإسلام بخطوطه العريضة الواسعة ، الذي يسلّم بأهمية الفرد وأسبقيته الوجودية في المجتمع من جهة ، ولكنه من جهة أخرىٰ يعطي للمجتمع عناية خاصة مركزة باعتباره الأساس الذي تجري عليه السنن التاريخية في نشوء الحضارات وفنائها ، وفي بقاء الأمم وهلاكها.

وحقيقة كون الإسلام صالحاً لكل عصر وجيل هي التي تبرر لنا التأكيد علىٰ منهج أهل البيت : في التربية ، لأن ما تعنيه تلك الحقيقة في قيمومة الإسلام وديمومته هو استنطاق القرآن الكريم وتحكيمه في مناحي الحياة ومناهجها ، الأمر الذي يلزم تحديد المرجعية العلمية للأمة ، وقد حصرها النص ـ والتعبّد به لازم لكلّ مسلم ـ بثلة طاهرة ، وجعلها قريناً للقرآن وحليفاً له وسمّاهما ثقلين هاديين إلى الحق ، عاصمين من الضلالة ، مع بقائهما عمر الدنيا وعدم افتراقهما حتىٰ يردا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الحوض يوم القيامة.

ومَن يكون قرين القرآن فمنهجه في بناء الإنسان أحقُّ بأن يُتَّبع ، وأولىٰ بالعناية ، وأجدر بالتطبيق ، وإلّا فلن يكون استنطاق القرآن وإهمال نظيره كافياً في طرح المنهج التربوي البديل عن المناهج المستوردة السائدة في مجتمعنا المسلم !

ومن هنا انطلق الكتاب الماثل بين يدي القراء لتوضيح معالم هذا المنهج الربّاني الذي لم يبتنِ علىٰ أساس مرحلي مؤقت ليسدل التاريخ عليه ستاره بعد حين ، وإنما جاء إلينا على أساس كونه الحقيقة الربّانية الصالحة لجميع العصورٍ ، والامتداد الطبيعي لرسالة السماء. مـسـلطاً بذلك الضوء علىٰ ملامحه الأساسية ، ممهداً الطريق إلىٰ دراسات علمية تربوية أوسع في غمار هذا المنهج.. والله الهادي إلىٰ سواء السبيل.

مركز الرسالة


المُقدَّمةُ

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام علىٰ خاتم الأنبياء والمرسلين محمّد المصطفىٰ وآله الطيبين الطاهرين.

من الحقائق الثابتة انّ التربية العشوائية أو العفوية تبدّد الطاقات والجهود ، وتخلق الاضطراب والبلبلة في المجال النفسي والسلوكي ، وتحرف الأهداف والغايات التربوية عن مسارها الحقيقي ، ومن هنا كانت الحاجة إلىٰ منهج تربوي ثابت في اُصوله واضح في مقوماته وموازينه ضرورة من ضرورات الحركة التربوية ، فهو الذي يرسم للتربية مسارها السليم المتوازن ، ويحدد لها معالم طريقها ، ويوجه الجهود والنشاطات والبرامج التربوية لتقرير المفاهيم والقيم الصالحة والسامية في الواقع الانساني.

وقد بذل العلماء والباحثون والمتخصصون في شؤون التربية جهوداً كبيرة ومتواصلة للتوصل إلىٰ منهج تربوي يستندون إليه في انطلاقاتهم نحو تربية الانسان والمجتمع على اُسس سليمة وصالحة ، ولم تتوقّف هذه الجهود قديماً وحديثاً ولا زالت مستمرة ، إلّا انها لم تتفق علىٰ نقاط مشتركة يمكنها أن تكون ميزاناً ومعياراً للجميع ؛ لاختلاف العلماء والباحثين في متبنياتهم العقائدية والفكرية ، ولاختلافهم في معرفة القوى المؤثرة في حركة الكون والحياة والمجتمع والتاريخ.

وفي واقعنا الإسلامي اختلفت البحوث والدراسات أيضاً ، فمنها ما اعتمد على الدراسات الغربية النظرية والميدانية ، دون بذل جهد للبحث عن منهج يعتمد على الأسس والمفاهيم والقيم الإسلامية. ومنها ما هذّب وشذّب لكي يرتدي مظهراً شرقياً وإسلامياً ، دون الرجوع إلى أهل الاختصاص في العلوم الإسلامية ، ومنها ما زاوج بين الدراسات الغربية والدراسات الشرقية النظرية والميدانية بما يلائم النظرة الشرقية للحياة والمجتمع.

واعتمدت بعض الدراسات علىٰ خبرات أساتذة الجامعات في المجالين : النظري والتطبيقي ، فخرجت بنتائج ايجابية لاعتمادها على الواقع الإسلامي ولكنها ليست بمستوى الطموح.

وهنالك دراسات قام بها متخصصون في العلوم الإسلامية جمعت بين الدراسات الحديثة الغربية والشرقية وبين الدراسات الإسلامية ، ولكنّها لم تبحث المنهج التربوي بشكل مستقل وبمستوى الطموح. وجزى الله الجميع خيراً ما دامت نواياهم منصبة علىٰ رفد الساحة التربوية بدراسات تسهم في البناء التربوي السليم.


وقد فات الكثير من الدراسات الرجوع إلىٰ عدل القرآن وهم أئمة الهدىٰ من أهل بيت النبوة ، فانّ أحاديثهم وارشاداتهم ووصاياهم وسيرتهم العملية كفيلة بتحديد معالم متكاملة وشاملة لمنهج تربوي يصلح أن يكون مرجعاً لجميع العلماء والباحثين والمتخصصين بشؤون التربية وعلم النفس على اختلاف متبنياتهم العقائدية والفكرية ؛ لأنّه المنهج الذي لا يتقيد بزمان أو مكان بل يصلح لكل زمان ومكان ، لأنّه صادر عن أئمة الهدى وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي لا ينطق عن الهوىٰ ، ومرجعه إلىٰ الله تعالى المحيط بسكنات الإنسان وحركاته ، فهو من وضع خالق الإنسان لا من وضع الإنسان المحدود في فكره والمحدود في قواه العقلية والعلمية ، وهو منهج واقعي يراعي واقع الإنسان فلا يحمّله ما لايطيق ، وهو منهج شمولي لايتحدد بجانب معين ، ولا يبحث مجالاً دون آخر.

وفي بحثنا عن ملامح المنهج التربوي عند أهل البيت عليهم‌السلام نضع بعض القواعد التأسيسية في هذا المجال لتكون عوناً لمن يرغب أن يتوسّع في البحث والكتابة ، وقد اعتمدنا علىٰ أحاديث أهل البيت عليه‌السلام وسيرتهم في التوصل إلىٰ معالم المنهج التربوي ، مع الاستفادة من الشواهد والدراسات العلمية الحديثة ، ومن التجربة الشخصية من خلال متابعة عينات من الظواهر التربوية والنفسية.

ووزّعنا البحث علىٰ فصول : تناولنا في الفصل الأول : أثر الوراثة والمحيط في البناء التربوي ، ثم عرضنا في الفصل الثاني دور القيم المعنوية والنفسية في المجال التربوي ، وتناولنا في الفصل الثالث خصائص المربين وأساليب التربية ، وأخيراً تناولنا في الفصل الرابع خصائص ومميزات المنهج التربوي عند أهل البيت عليهم‌السلام.

وقد اخترنا الأسلوب الميسر في طرح الآراء والمتبنيات ، متجنبين استخدام المصطلحات الغامضة والعبارات المبهمة ، لتكون الاستفادة عامة وشاملة لجميع المستويات.

نسأل الله تعالىٰ أن يوفقنا لخدمة دينه ومنهجه ومن أمرنا بطاعتهم انّه نعم المولىٰ ونعم النصير.


الفصل الأوّل

أثر الوراثة والمحيط في البناء التربوي

أثبتت الدراسات التربوية والاجتماعية المستفيضة الأثر الواضح للوراثة والمحيط الاجتماعي في تكوين شخصية الإنسان ؛ حيث تنعكس علىٰ جميع جوانبها الجسدية والنفسية والروحية ، فأغلب الصفات تنتقل من الوالدين والأجداد الى الأبناء ، إما بالوراثة المباشرة أو بخلق الاستعداد والقابلية للاتصاف بهذه الصفة أو تلك ، ثم يأتي دور المحيط التربوي ليقرر النتيجة النهائية للشخصية.

أولاً : دور الوراثة

من الحقائق الثابتة أنّ الأبناء يرثون الوالدين في خصائصهم وصفاتهم الجسمية والعقلية والنفسية ، وكذلك يرثون أجدادهم في بعضها.

وقد دلت الروايات علىٰ أنّ الانسان يرث الخصائص والصفات الجسمية من جميع آبائه وأجداده ، ورد ذلك عن الامام جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام : « انّ الله تبارك وتعالىٰ إذا أراد أن يخلق خلقاً جمع كل صورة بينه وبين أبيه الىٰ آدم ، ثم خلقه علىٰ صورة أحدهم ، فلا يقولنّ أحد هذا لا يشبهني ولا يشبه شيئاً من آبائي » (١).

__________________________

(١) علل الشرايع / الشيخ الصدوق : ص ١٠٣ ، المكتبة الحيدرية ، النجف ١٣٨٥ ه‍.


وقد أثبت العلم الحديث هذه الحقيقة من أنّ ( وراثة المولود لا يحددها أبواه المباشران فقط ، بل هو يرث من جدوده وآباء جدوده وجدود جدوده وهكذا... وبديهي أنّ معظم وراثة الانسان تنحدر اليه من آبائه الأقربين وأنّ أثر الجدود الأباعد يقل كلما زاد بعدهم ، وعلى هذا نستطيع القول : بأنّ نصف الوراثة من الأبوين ، وربعها من الجدود ، وثمنها من آباء الجدود وهكذا ) (١).

والوراثة لها دور أساسي في نقل بقية الصفات ، ولهذا أكّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علىٰ حسن الاختيار في الزواج فقال : « تخيّروا لنطفكم فانّ العرق دسّاس » (٢).

ومصطلح ( العرق ) يقابله في الاصطلاح المعاصر مصطلح الجينات genes ، والتي تحملها الصبغيات ( الكروموسومات ) chromosomes التي تحتويها نواة الخلية الناجمة عن البويضة الانثوية ovum المخصّبة من الحيوان المنوي الذكري sperm (٣).

وتحذير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من العرق الدساس ناظر الىٰ الصفات النفسية والروحية والخلقية التي تنتقل بالوراثة ، أو يكون العامل الوراثي خالقاً للاستعداد في نفس الوليد للاتصاف بصفة من الصفات التي يحملها الوالدان أو الأجداد.

ويقول بيرون : ( ان ابني وهو منسوب اليّ ، ولكنّي أرىٰ أجداده الماضين

_______________________

(١) علم النفس التربوي / الدكتور فاخر عاقل : ص ٣٩ ، دار العلم للملايين ، بيروت ، ١٩٨٥.

(٢) المحجة البيضاء / الفيض الكاشاني : ٣ / ٩٣ ، جامعة المدرسين ، قم ، ط ٢.

(٣) علم نفس النمو / الدكتور حامد زهران : ص ٣٦ ، عالم الكتب ، القاهرة ، ١٩٨٢.


ينازعوني هذا الملك العزيز لدي ، فانهم يشوهون طهارة نفسه ، ويكدرون صفاء روحه بما رسب في أعماقهم من نزعات شريرة مجهولة انتقلت اليه بالوراثة » (١).

الخصائص والصفات المنقولة بالوراثة

الوراثة تؤثر في تحديد أغلب خصائص وصفات الشخصية ؛ حيث تخلق الاستعداد في النفس ، فاذا وجدت البيئة المناسبة نمت وترعرعت بالاتجاه المناسب لها.

والخصائص والصفات التي يمكن توريثها هي باختصار :

١ ـ الصفات الجسمية.

٢ ـ الصفات العقلية : كحدة الذكاء أو البلادة ، والطباع النفسية والعقلية ، وصدق النظر في الميول والاهتمامات والاتجاهات.

٣ ـ الطباع والسجايا : كالاهتمام أو عدم المبالاة ، والرعونة وحدة الطبع ، وسرعة الاجابة أو الخمول والجمود ، والاحساس أو تعب الأعصاب ، والانشراح والاكتئاب.

٤ ـ الميل في أعضاء الجسد نحو القوة أو نحو الضعف.

٥ ـ المزاج العصبي.

٦ ـ غرابة الطبع وشواذ الحالات العصبية (٢).

_______________________

(١) النظام التربوي في الاسلام / باقر شريف القرشي : ص ٥٧ ، دار التعارف للمطبوعات ، بيروت ، ١٤٠٨ ه‍.

(٢) سيكولوجية النمو والارتقاء / الدكتور عبد الفتاح دويدار : ص ٨١ ، دار النهضة العربية ، بيروت ، ١٩٩٣ م.


فالخصائص والصفات المنقولة بالوراثة إذن تنقسم الىٰ نفسية وعقلية وخلقية ، وهي إمّا أن تنتقل بصورة مباشرة أو تخلق الاستعداد للاتصاف بها.

١ ـ الخصائص والصفات النفسية والعقلية

الامراض النفسية تنتقل بالوراثة من الوالدين أو أحدهما الىٰ الأبناء ، ولهذا حذّر الامام محمد الباقر عليه‌السلام من الانجاب من المرأة المجنونة خوفاً من انتقال الجنون منها الىٰ الطفل ، فسئل عن ذلك فقال : « لا ، ولكن إن كانت عنده أمة مجنونة فلا بأس بأن يطأها ولا يطلب ولدها » (١).

وحذّر أمير المؤمنين عليه‌السلام من تزويج الحمقاء لانتقال هذه الصفة الىٰ الابناء ولعدم قدرتها علىٰ تربيتهم تربية سوية فقال : « إياكم وتزويج الحمقاء ، فانّ صحبتها بلاء ، وولدها ضياع » (٢).

وقد دلت الدراسات الحديثة علىٰ أنّ الوراثة تؤثر في النمو العقلي ، والصحة العقلية والانفعالية ، وتتوقف مكانة الانسان في الحياة الىٰ حد كبير علىٰ كفاءاته التي تحددها الوراثة الىٰ حدّ بعيد ، والمواقف والعقائد والقيم تتأثر بمكانة الانسان في الحياة ، وهكذا فإن الوراثة تؤثر ولو بصورة غير مباشرة في المواقف والعقائد والقيم (٣).

وقد أثبت كثير من العلماء دور الوراثة في تحديد الصفات النفسية والروحية والعقلية للانسان ، كوراثة الجنون ، ومرض انفصام الشخصية ، ويرى لوسين

_______________________

(١) وسائل الشيعة / الحر العاملي : ٢٠ / ٨٥ ، مؤسسة آل البيت ، قم ، ١٤١٢ ه‍ ، ط ١.

(٢) الكافي : ٥ / ٣٥٤.

(٣) علم النفس التربوي / فاخر عاقل : ص ٦٢ ، ٦٣.


أنّ الطبع هو مجموعة الاستعدادات الوراثية التي تؤلف الهيكل النفسي للانسان (١).

وفي عام ١٩٦٣ ظهرت أول دراسة عالمية ، جاء من بعدها ١١١ بحثاً في أرجاء العالم حتىٰ عام ١٩٨١ تدل هذه الدراسات علىٰ أنّ عناصر وراثية كثيرة ( جينات أو أجزاء مختلفة من الحموض النووية ) تتحد لتقرر قوة الذكاء الموروث (٢).

وللذكاء والغباء تأثير واقعي علىٰ سلوك وأخلاق الانسان ، وقد دلت الروايات علىٰ ذلك وأيدتها الدراسات العلمية والميدانية الحديثة (٣).

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام :

١ ـ من لم يكمل عقله لم تؤمن بوائقه.

٢ ـ من لم يكن له عقل يزينه لم ينبل.

٣ ـ السفه يجلب الشر.

٤ ـ الجهل معدن الشر.

٥ ـ الجهل أصل كل شر (٤).

وهنالك خصائص وصفات نفسية تتأثر بالوراثة كالشجاعة ، وهذه الصفة

_______________________

(١) الشخصية وأثر معاملة الوالدين في تكوينها / انطون رحمة : ص ٤٠ ، مطبعة الحياة ، دمشق.

(٢) الاُسس البيولوجية لسلوك الانسان / الدكتور إبراهيم الدر : ص ١٧١ ، الدار العربية للعلوم ، بيروت ، ١٩٩٤ م.

(٣) علم النفس التربوي / الدكتور علي منصور : ٢ / ٤٥٣.

(٤) تصنيف غرر الحكم : ص ٥٥ ، ٧٦.


لها تأثيرها الواضح علىٰ شخصية الانسان في أغلب جوانبها ، ومن الوقائع اللطيفة حول وراثة الشجاعة ما قاله زهير بن القين للعباس بن أمير المؤمنين عليه‌السلام : ( احدثك بحديث وعيته ؛ لمّا أراد أبوك أن يتزوج طلب من أخيه عقيل ـ وكان عارفاً بأنساب العرب ـ أن يختار له امرأة ولدتها الفحولة من العرب ليتزوجها فتلد غلاماً شجاعاً ينصر الحسين بكربلاء ، وقد ادخرك أبوك لمثل هذا اليوم ) (١).

٢ ـ الخصائص والصفات الخلقية

لا تقتصر الوراثة علىٰ الخصائص والصفات النفسية والعقلية ، التي تنتقل بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، بل تتعداها الىٰ الخصائص والصفات الخلقية والسلوكية ، إمّا بالمباشرة وإما بخلق القابلية والاستعداد للاتصاف بها ، وقد يصعب تشخيص الوراثة عن المحيط في أجواء الاسرة ، فالطفل ينشأ ويترعرع في ظل الخصائص والصفات الخلقية التي يتصف بها والداه أو أحدهما بالتقليد وبالمحاكاة.

وقد حذّر أهل البيت عليهم‌السلام من الاقتران بالمنحرفين لتحصين العائلة والاطفال من الانحراف ، قال الامام جعفر الصادق عليه‌السلام : « لا تتزوجوا المرأة المستعلنة بالزنا ، ولا تزوجوا الرجل المستعلن بالزنا إلّا أن تعرفوا منهما التوبة » (٢).

وحذّر عليه‌السلام من تزويج شارب الخمر فقال : « من زوّج كريمته من شارب

_______________________

(١) مقتل الحسين / المقرّم : ص ٢٠٩ ، عن أسرار الشهادة : ص ٣٨٧.

(٢) مكارم الأخلاق / الطبرسي : ص ٣٠٥ ، منشورات الشريف الرضي ، ١٤١٠ ه‍.


خمر فقد قطع رحمها » (١).

وقد دلت الدراسات الحديثة علىٰ هذه الحقائق ، وتنسب الىٰ ديوجن هذه الكلمة حين التقىٰ بأبْلَهٍ : ( يا فتىٰ كان أبوك سكران حين حملت بك أمك.

وكتب الطبيب الفرنسي Le Grand : أنّ أولاد السكيرين يشكلون متحفاً للأمراض ، من سوء نمو الجهار العظمي ، ومن السل الىٰ الصرع الىٰ الهستيريا ، ومن ضعف الملكات العقلية وانحلالها تماماً الىٰ ميول أخلاقية فاسدة واستعداد عجيب للاجرام ) (٢).

ويقول الدكتور كاريل : ( ان سكر الزوج أو الزوجة حين الاتصال الجنسي بينهما يعتبر جريمة عظيمة ، لأنّ الأطفال الذين ينشأون في ظروف كهذه يشكون في الغالب من عوارض عصبية ونفسية غير قابلة للعلاج ) (٣).

ويرىٰ أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّ الاصل الكريم والعرق الصالح يؤثر تأثيراً واضحاً علىٰ الانسان ، فمن كان ينتمي الىٰ نسب عريق في المكارم والفضائل ستكون المكارم والفضائل صفة ملازمة له في جميع جوانب حياته ، فللوراثة دورها وتأثيرها الواضح في أخلاق وسلوك الانسان ، حيث تخلق في نفسه الاستعداد والقابلية للاتصاف بالمكارم والفضائل إذا كان ينحدر من اُصول متصفة بها ، وكذا الحال في من ينحدر من اُصول تتصف بالرذائل والمفاسد ، فانّه يرثها أو يكون قابلاً للاتصاف بها.

_______________________

(١) الكافي : ٥ / ٣٤٧.

(٢) دراسات معمقة في الفقه الجنائي المقارن / الدكتور عبد الوهاب حمود : ص ٣٤ ، جامعة الكويت ، ١٩٨٣ م.

(٣) الطفل بين الوراثة والتربية : ص ٧٨ ، عن طريق الحياة : ص ٩١.


قال أمير المؤمنين عليه‌السلام :

١ ـ إذا كرم أصل الرجل كرم مغيبه ومحضره.

٢ ـ جميل المقصد يدلّ علىٰ طهارة المولد.

٣ ـ من خبث عنصره ساء محضره.

٤ ـ من كرم محتده حسن مشهده.

٥ ـ منزع الكريم أبداً إلىٰ شيم آبائه. (١)

ويستدل عليه‌السلام علىٰ كرم الاعراق من خلال حسن الاخلاق ، فحسن أخلاق الأبناء كاشف عن حسن عروقه واُصوله ، قال عليه‌السلام : « حسن الاخلاق برهان كرم الاعراق » (٢).

وفي كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام دلالات واضحة علىٰ وراثة الخلق والشرف من الآباء والاُمهات والأجداد ، وفي كلامه تشجيع علىٰ طلب الحوائج من ذوي الاصول الطيبة حيث قال عليه‌السلام : « عليكم في قضاء حوائجكم بكرام الأنفس والاُصول ، تنجح لكم عندهم من غير مطالٍ ولا منّ ».

وقال عليه‌السلام : « عليكم في طلب الحوائج بشراف النفوس ذوي الاُصول الطيبة ، فانها عندهم أقضىٰ ، وهي لديهم أزكىٰ » (٣).

ويسوق الباحثون في علم النفس والتربية أمثلة علىٰ تأثير الوراثة علىٰ الخصائص والصفات الخلقية ، ومنها دراسة عائلة كالليكاك حين كان جندياً في عهد الثورة الأمريكية حيث اقترن مع فتاة ضعيفة العقل كانت خادمة في خان ،

_______________________

(١) تصنيف غرر الحكم : ص ٤٠٩.

(٢) المصدر السابق نفسه : ص ٢٥٤.

(٣) تصنيف غرر الحكم : ص ٢١٤.


ثم اقترن عن طريق زواج شرعي بفتاة مدنية ذات ذكاء سوي تزوجها بعد عودته من الحرب.

ففي السلسلة الناتجة عن زواجه الشرعي لوحظ أنّ السواد الأعظم من نسله كان سوياً امّا في السلسلة الثانية التي نشأت عن علاقة كالليكاك بفتاة الخان ، فقد لوحظ عدد كبير جداً من ضعاف العقول ومدمني الخمر والمومسات والمجرمين. (١)

ولتأثير الوراثة علىٰ الخصائص والصفات الخلقية نسوق مثالاً من تاريخنا الاسلامي نقارن فيه بين اسرتين : اسرة بني هاشم واسرة بني أمية ، ففي الاسرة الاولىٰ كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنين عليه‌السلام والأئمة من ولده ، وفي الأسرة الثانية كان أبوسفيان ومعاوية ويزيد ومروان وعبد الملك ، والاختلاف بين الاسرتين واضح المعالم ، حيث القمة في الخلق والسمو في المثل في قبال الانحراف الكلّي والانحطاط التام في أغلب جوانب الشخصية.

ثانياً : دور المحيط التربوي

تشترك الوراثة مع المحيط في البناء التربوي بحيث لا يمكن فصل بعضهما عن بعض ؛ لأنهما متكاملان متكاتفان ؛ حيث تخلق الوراثة القابلية والاستعداد للاتصاف بهذه الصفة أو تلك إن وجدت المحيط التربوي المناسب ، وتشترك الوراثة مع المحيط في خلق الشخصية بما في ذلك المتبنيات العقائدية والقيم ، ومع هذا التكامل والتكاتف يبقىٰ للمحيط التربوي دور متميز في البناء التربوي ،

_______________________

(١) علم النفس / الدكتور فاخر عاقل : ص ٢٦٤ ، دار العلم للملايين ، بيروت ، ١٩٨٧ م ، ط ١٠.


وهذا واضح من خلال النظرة الىٰ الواقع ، ومن خلال متابعة مسيرة الانسانية التي لا تخلو من نبي مرسل أو وصي نبي ، يقومان بمهمة خلق المحيط التربوي المناسب لاصلاح النفس الانسانية والمجتمع الانساني.

والمحيط التربوي يشمل جميع مواقع التأثير في الواقع الاجتماعي وأهمها : الاسرة ، الاصدقاء ، حلقات الذكر ، المسجد ، علماء الدين ، المدرسة ، الدولة.

١ ـ الاسرة

الاسرة هي المحيط التربوي الأساسي المسؤول عن إعداد الطفل للدخول في الحياة الاجتماعية ، ليكون عنصراً صالحاً فعالاً في إدامتها علىٰ أساس الصلاح والخير والبناء الفعّال ، والاسرة نقطة البدء التي تزاول انشاء وتنشئة العنصر الانساني ؛ وتؤثر في كلّ مراحل الحياة ايجاباً وسلباً ، وهي مسؤولة بالدرجة الاولى عن النشأة والترعرع ، وهي التي تحدد مسار الانسان السلوكي ان كانت التنشئة الاجتماعية خارجها ملائمة ومتشابهة.

ولاهمية الاسرة في البناء التربوي أبدىٰ أهل البيت عليهم‌السلام أهمية خاصة بها ، وكانت ارشاداتهم تؤكد علىٰ اختيار شريك الحياة الصالح والمتدين ليقوم بالتعاون مع شريكه في اعداد الاطفال اعداداً ينسجم مع المنهج السلوكي في الاسلام ، وحثّ أهل البيت الوالدين علىٰ القيام بمسؤوليتهما في التربية وخصوصاً الوالد حيث تقع عليه كامل المسؤولية.

قال الامام زين العابدين عليه‌السلام : « وأما حق ولدك فتعلم أنه منك ومضاف اليك في عاجل الدنيا بخيره وشره ، وأنك مسؤول عما وليته من حسن الأدب والدلالة علىٰ ربه والمعونة له علىٰ طاعته فيك وفي نفسه ، فمثاب


علىٰ ذلك ومعاقب ، فاعمل في أمره عمل المتزين بحسن أثره عليه في عاجل الدنيا ، المعذر الىٰ ربه فيما بينك وبينه بحسن القيام عليه والأخذ له منه » (١).

وقال أيضاً : « وأمّا حق الصغير فرحمته وتثقيفه وتعليمه والعفو عنه والستر عليه والرفق به والمعونة له والستر علىٰ جرائر حداثته فانه سبب للتوبة ، والمداراة له وترك مماحكته فان ذلك أدنىٰ لرشده » (٢).

ودور الاسرة لا يحدد سلوك أفرادها فحسب بل يحدد جميع مقومات الشخصية : الفكرية والعاطفية والنفسية ، حيث ينعكس التعامل مع الأبناء علىٰ اتزانهم النفسي والانفعالي ، ولهذا يختلف الوضع النفسي من فرد لآخر في اسرة واحدة أو في اسر متعددة تبعاً لنوع المعاملة معه من حيث الرعاية أو الاهمال.

٢ ـ الأصدقاء والأصحاب

يتأثر الانسان وخصوصاً في مراحل حياته الاولىٰ بأصدقائه وأصحابه ؛ حيث تنعكس آراؤهم ومشاعرهم وممارساتهم علىٰ مقوّمات شخصيته عن طريق الاحتكاك والتلقين والاستهواء ، والتي تهيأ العقول للتلقي ، والقلوب للاستجابة ، والارادات للممارسة.

ويتأثر الانسان باصدقائه من حيث متبنياته الفكرية ونظرته الىٰ الكون والحياة ، ومن ثم مواقفه العملية وممارساته السلوكية ؛ ولهذا جاءت روايات أهل البيت عليهم‌السلام لتؤكد اختيار الاصدقاء الصالحين وتجنب الطالحين.

_______________________

(١) تحف العقول / الحرّاني : ص ١٨٩.

(٢) المصدر السابق نفسه : ص ١٩٤.


فمن كتاب لأمير المؤمنين عليه‌السلام كتبه الى الحارث الهمداني جاء فيه : « واحذر صحابة من يفيل رأيه ، ويُنكر عملُه ، فإنّ الصّاحب معتبر بصاحبه... وإيّاك ومصاحبة الفسّاق ، فإنّ الشرّ بالشرّ ملحق » (١).

وحذّر عليه‌السلام من مصادقة المنحرفين فقال : « إيّاك ومصادقة الأحمق فانه يريد أن ينفعك فيضرّك ، وإيّاك ومصادقة البخيل ، فانّه يقعد عنك أحوج ما تكون إليه ، وإيّاك ومصادقة الفاجر ؛ فإنّه يبيعك بالتافه ، وإيّاك ومصادقة الكذّاب ؛ فانّه كالسّراب يقرّب عليك البعيد ، ويبعّد عليك القريب » (٢).

ومعاشرة الفساق والسفهاء خصوصاً تؤدي الىٰ فساد الاخلاق كما ورد في حديث الامام محمد الجواد عليه‌السلام : « فساد الأخلاق بمعاشرة السفهاء » (٣).

وفي مقابل هذه التحذيرات حثّ أهل البيت عليهم‌السلام علىٰ مصادقة ومجالسة الصالحين والاتقياء ؛ لانّها وسيلة من وسائل اصلاح الفكر وإصلاح السلوك ؛ لانّ الانسان يتأثر بأفكار وسلوك المحيطين به ، وخصوصاً اذا كانوا أكثر علماً أو تجربة منه ، أو اكثر وجاهة منه ؛ لان الانسان يتأثر بالأعلىٰ منه ويقتدي بمن فوقه من ذوي المواقع الاجتماعية المتقدّمة.

قال الامام زين العابدين عليه‌السلام : « مجالسة الصالحين داعية إلى الصلاح » (٤).

وقال عليه‌السلام : « جالسوا أهل الدين والمعرفة ، فان لم تقدروا عليهم فالوحدة

_______________________

(١) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد : ١٨ / ٤٢.

(٢) المصدر السابق نفسه : ١٨ / ١٥٧.

(٣) كشف الغمة / الاربلي : ٢ / ٣٤٩.

(٤) تحف العقول / الحرّاني : ص ٢٠٥.


آنس وأسلم ، فان أبيتم إلّا مجالسة الناس ، فجالسوا أهل المروّات ؛ فانهم لا يرفثون في مجالسهم » (١).

وحثّ الامام محمد الباقر عليه‌السلام علىٰ مصاحبة واتباع الناصحين فقال : « اتّبع من يبكيك وهو لك ناصح ، ولا تتّبع من يضحكك وهو لك غاشّ... » (٢).

٣ ـ المجالس وحلقات الذكر

المجالس وحلقات الذكر بيئة اجتماعية متكاملة تترك آثارها الملموسة علىٰ الانسان تأثراً بالجماعة التي تتألف منها المجالس وحلقات الذكر ؛ حيث تخلق أجواءً تربوية فكرية وسلوكية تؤثّر تدريجياً علىٰ المشاركين فيها ، وقد أطلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علىٰ مجالس الذكر وحلقات الذكر مصطلح « رياض الجنّة ».

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « بادروا إلىٰ رياض الجنّة » ، قالوا : يا رسول الله ، وما رياض الجنّة ؟ قال : « حلق الذكر » (٣).

وسئل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أين رياض الجنّة ؟ فقال : « مجالس الذكر ، فاغدوا وروّحوا في ذكر الله » (٤).

وتتنوع مجالس وحلقات الذكر بتنوّع الظروف والأوضاع ، كمجالس العلماء ، ومجالس الصالحين ، وجلسات حفظ القرآن الكريم وتلاوته ، ومجالس العزاء علىٰ الإمام الحسين عليه‌السلام ، ويلحق بها الاحتفالات والمهرجانات التي تُقام

_______________________

(١) مستدرك الوسائل / النوري : ٨ / ٣٢٨.

(٢) الكافي / الكليني : ٢ / ٦٣٨.

(٣) من لا يحضره الفقيه / الصدوق : ٤ / ٤٠٩.

(٤) مكارم الأخلاق / الطبرسي : ص ٣١٢.


علىٰ مدار السنة في الأعياد ومناسبات ولادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام ، ويوم المبعث ، ويوم الغدير وغير ذلك.

ومجالس الصالحين لها أثر كبير في الاصلاح والتغيير ، وكما ورد عن الامام زين العابدين عليه‌السلام : « مجالس الصالحين داعية إلىٰ الصلاح » (١).

ومن مجالس الصالحين المجالس التي تعقد أثناء الزيارات المتبادلة في المنازل ، قد حثّ أهل البيت عليهم‌السلام عليها لدورها في التربية والاصلاح.

قال الامام جعفر الصادق عليه‌السلام : « تزاوروا فانّ في زيارتكم إحياء لقلوبكم وذكراً لأحاديثنا ، وأحاديثنا تعطف بعضكم علىٰ بعض ؛ فإن أخذتم بها رشدتم ونجوتم ، وإن تركتموها ضللتم وهلكتم ، فخذوا بها وأنا بنجاتكم زعيم » (٢).

وحذّر أهل البيت عليهم‌السلام من الاشتراك في مجالس الانحراف لتأثيرها السلبي علىٰ المشاركين ، قال الامام جعفر الصادق عليه‌السلام : « لا ينبغي للمؤمن أن يجلس مجلساً يُعصىٰ الله فيه ولا يقدر علىٰ تغييره » (٣).

وقال أيضاً : « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعدنّ في مجلس يغتاب فيه إمام أو ينتقص فيه مؤمن » (٤).

٤ ـ المساجد

المساجد من أهم الأجواء الايمانية والتربوية ، التي تسهم بشكل فعّال في

_______________________

(١) مجموعة ورّام : ٢ / ٣٥.

(٢) الكافي / الكليني : ٢ / ١٨٦.

(٣) و (٤) مجموعة ورّام : ٢ / ٢١٠.


تربية الانسان واصلاحه وتغييره ، والمسجد خير محيط للانسان للارتباط بالله سبحانه وتعالىٰ وبعالم الغيب ، حيث يجعل الانسان يعيش أجواءً معنوية وروحية يتعالىٰ فيها علىٰ أثقال الحياة ويتسامىٰ فيها فكراً وعاطفة ثمّ سلوكاً.

قال الامام الحسن عليه‌السلام : « من أدام الاختلاف إلىٰ المسجد أصاب إحدىٰ ثمان : آية محكمة ، وأخاً مستفاداً ، وعلماً مستطرفاً ، ورحمة منتظرة ، وكلمة تدلّه علىٰ الهدىٰ أو تردّه عن ردىٰ ، وترك الذنوب حياءً أو خشية » (١).

ولأهمية المسجد في بناء الشخصية الرسالية تضافرت الروايات عن أهل البيت عليهم‌السلام علىٰ استحباب بناء المساجد ، واستحباب الصلاة فيها ، ووضعوا برنامجاً متكاملاً في المستحبات والمكروهات التي ينبغي مراعاتها داخل المساجد ، وهي الحصن الواقي الذي يدفع الانسان للحركة نحو السمو والتكامل.

٥ ـ العلماء

للعلماء سلطان علىٰ الناس وخصوصاً علماء الدين ؛ لأنّ لهم قدسية خاصة يؤثرون من خلالها علىٰ الأفكار والعواطف والارادات ، ولهم دور فعّال في بناء الانسان والتصدي لجميع ألوان الانحراف الذي يهدد فكر المجتمع وسلوكه ومسيرته التاريخية ، وهم ليسوا مجرد وعاظ ومعلمين لطقوس دينية أو فروض منطقية ؛ انهم قادة روحيون يتحملون مسؤولية الهداية والاصلاح والتغيير الشامل.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في وصفه للعلم : « ... يرفع الله به أقواماً يجعلهم في

_______________________

(١) تحف العقول / الحرّاني : ص ١٦٦.


الخير أئمة يقتدىٰ بهم ، ترمق أعمالهم ، وتقتبس آثارهم » (١).

ولمقام العلماء ودورهم في التأثير أثر واضح في صلاح الناس أو فسادهم تبعاً لصلاح العلماء أو فسادهم.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إنّ كلام الحكماء إذا كان صواباً كان دواءً ، وإذا كان خطأً كان داءً » (٢).

وقال أيضاً : « زلة العالم كانكسار السفينة تغرق ويغرق معها خلق » (٣).

وقال أيضاً : « زلة العالم تفسد عوالم » (٤).

٦ ـ الدولة

من الحقائق التاريخية أنّ المجتمعات تتأثر بحكامها ، حيث تنعكس أفكار وأخلاق الحاكم وأجهزة الحكم على الناس خيراً أم شراً ، فالحاكم حريص علىٰ تغيير المجتمع طبقاً لمتبنياته الفكرية والعاطفية والسلوكية ، ويستطيع تحقيق ما يحرص عليه لامتلاكه لمصادر القوة والتأثير ومنها : المال والاعلام.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « السلطان الفاضل هو الذي يحرس الفضائل ويجود بها لمن دونه ، ويرعاها من خاصته وعامته حتىٰ تكثر في أيّامه ، ويتحسن بها من لم تكن فيه » (٥).

_______________________

(١) بحار الأنوار / المجلسي : ١ / ١٦٦.

(٢) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد : ١٩/ ٢٧١.

(٣) شرح نهج البلاغة : ٢٠ / ٣٤٣.

(٤) تصنيف غرر الحكم : ص ٤٧.

(٥) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد : ٢٠ / ٢٨٢.


وجعل الامام الصادق عليه‌السلام مقدمات الاصلاح واجبة علىٰ السلطان وعلىٰ دولته فقال : « ثلاثة تجب على السلطان للخاصة والعامة : مكافأة المحسن بالاحسان ليزدادوا رغبة فيه ، وتغمد ذنوب المسيء ليتوب ويرجع عن غيّه ، وتألفهم جميعاً بالاحسان والانصاف » (١).

والرعية تتأثر بحاكمها وكما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « قلوب الرعية خزائن راعيها ، فما أودعها من عدلٍ أو جورٍ وجده » (٢).

ومثّل عليه‌السلام الملك بالنهر والناس بالجداول فقال : « الملك كالنهر العظيم تستمد منه الجداول ، فان كان عذباً عذبت ، وإن كان ملحاً ملحت » (٣).

أثر الغرائز في التربية

الغريزة في اللغة هي : الطبيعة والقريحة والسجيّة ، وقال اللحياني : هي الأصل والطبيعة (٤).

وفي الاصطلاح هي : استعداد فطري نفسي جسمي يدفع الفرد الى أن يدرك وينتبه الى أشياء من نوع معيّن ، وأن يشعر بانفعال خاص عند إدراكها ، وأن يسلك نحوها مسلكاً خاصاً (٥).

_______________________

(١) تحف العقول / الحرّاني : ص ٢٣٦.

(٢) تصنيف غرر الحكم : ص ٣٤٦.

(٣) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد : ٢٠ / ٢٧٩.

(٤) لسان العرب / ابن منظور : ٥ / ٣٨٦.

(٥) منهج التربية أساسياته ومكوّناته / الدكتور علي أحمد مدكور : ص ٥٩ ، الدار الفنية ، القاهرة ، ١٩٩٣ م.


والغريزة كما هو المستفاد من معناها أمر مغروز في داخل الذات يتفاعل مع المحيط الخارجي لينطلق نحو الاستجابة والاشباع ، وهي قوة لا نلاحظها مباشرة بل نستنتجها من الاتجاه العام للسلوك الصادر منها في الواقع.

ومن هنا فللغريزة مظاهر ثلاثة : ١ ـ مثير خارجي. ٢ ـ سلوك عملي. ٣ ـ هدف يراد تحقيقه. وبعبارة اُخرىٰ أنّ الغريزة تتفاعل مع الشعور بمظاهره الثلاثة : الادراك والانفعال والرغبة للتحقيق.

فهي تتفاعل مع المثير الخارجي وتنفعل مع مظاهره المتنوعة ، وتنطلق لتحقيق هدفها وهو الاشباع والارتواء ، وهذا التفاعل والانطلاق هو أمر فطري لا يختلف ولا يتخلف من فرد لآخر ، وأمّا السلوك الصادر عن الغريزة ، فهو أمر تتحكم به ارادة الانسان وما يحمله من متبنيات فكرية وعاطفية وخلقية ؛ من حيث نظرته للكون وللحياة والمجتمع ، فيكون منسجماً معها مطابقاً للأسس والقواعد التي تبناها في رسم منهجه في الحياة ، ولهذا يختلف سلوك الانسان وممارساته العملية اندفاعاً وانكماشاً من انسان لآخر تبعاً لدرجات ايمانه واعتقاده بمتبنياته.

وتتنوع الغرائز بتنوع تركيبة الانسان وكينونته ، فهو جسد وروح ولكلّ منهما وظائفه الخاصة المترتبة على الحاجات الأساسية العضوية والوجدانية في آن واحد.

والتقسيم الثنائي للغرائز يرجعها الى العقل والشهوة ، وهما الأساس الذي تتفرع وتتنوع منهما سائر الغرائز والدوافع والحاجات.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « انّ الله ركَّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة ، وركّب في البهائم شهوة بلا عقل ، وركّب في بني آدم كلتيهما ، فمن غلب عقله


شهوته فهو خير من الملائكة ، ومن غلبت شهوته عقله ، فهو شرّ من البهائم » (١).

ومصطلح الشهوة يطلق على القوة التي تشتهي ، وعلى الأمر المشتهى (٢).

فمن العقل تتفرع غريزة التديّن وغريزة التكامل أو حب الكمال ، وغريزة الأمن والاستقرار ، ومن الشهوة تتفرع غريزة الجوع والغريزة الجنسية وبقية الغرائز ذات الطابع الجسماني.

عن الامام جعفر الصادق عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « انّ أول ما عصي الله به ستة أشياء : حبّ الدنيا ، وحب الرئاسة ، وحب الطعام ، وحبّ النوم ، وحب الراحة ، وحب النساء » (٣).

وقد أيّد العلم الحديث ما قاله الامام علي عليه‌السلام في نظرته للانسان حيث انّ المفهوم السائد في هذا العصر ( انّ الانسان لا هو حيوان ولا هو من السماء ، ولكنّه بين الاثنين ، وتطوره يعتمد علىٰ تمييزه المضبوط لطبيعة إمكاناته المحدودة ) (٤).

فالانسان في رأي أمير المؤمنين تتجاذبه قوتان : الشهوة والعقل ، وهذه القوىٰ تبكّر لديه في الظهور واليقظة ، وتسرع عنده في النمو والتأثير ، وهي

_______________________

(١) علل الشرايع / الشيخ الصدوق : ١ / ١٠٢ ، المكتبة الحيدرية ، النجف ، ١٣٨٥ ه‍.

(٢) مفردات ألفاظ القرآن / الراغب : ص ٢٧٠.

(٣) مجموعة ورّام : ٢ / ٢٠٥.

(٤) الشخصية بين النجاح والفشل / الدكتور عباس مهدي : ص ٩١ ، عن :

Colin wilson, Beyond the Outsider p.١٥٩.


المؤثرة في بنائه الخلقي والنفسي ، فاذا نمت قوة الشهوة وتغلبت علىٰ قوة العقل فانّ الانسان سيكون مستسلماً لهواه وملذّاته وسيشبعها دون قيود أو شروط في أجواء المثيرات والمغريات الخارجية الى أن يصبح كالحيوان همّه بطنه وفرجه ، أو يقف الواقع حائلاً دون اشباعها ؛ فيؤدي ذلك الى اختلال التوازن النفسي والانفعالي في كيانه فيصاب بالاضطراب النفسي والروحي ، وإذا غلبت قوة العقل قوة الشهوة ، فإنّ الانسان سيشبعها في وجهها الايجابي ، فهو لا يوقف الشهوة ولا يعطلها بل يوجهها وجهة عقلانية ويقيدها بقيود الشريعة أو يؤجل إشباعها الى ظرفها المناسب المشروع.

ودور العقل هو تعديل الشهوة وتهذيبها واستبدال مثيراتها الطبيعية بمثيرات اخرى تتجه بها الى السمو والكمال ، وتدع بها سلوكها الفطري الى سلوك فيه النضج والقوة للفرد والصلاح للمجتمع.

والعقل يقدّم التسامي على اللذات الفانية ، ويوجه الانسان الىٰ طاعة ربّه ويقدمها علىٰ غيرها.

ويصف الامام محمد الباقر عليه‌السلام أهل التقوى قائلاً : « أخّروا شهواتهم ولذّاتهم خلفهم ، وقدّموا طاعة ربّهم أمامهم » (١).

فالامام لم يقل : الغوا شهواتهم ولذاتهم أو عطّلوها بل قال : أخّروا ، لأنّ منهج أهل البيت عليهم‌السلام هو منهج التوازن ، ولهذا نجد انّ أمير المؤمنين عليه‌السلام يعاتب عاصم ابن زياد حينما لبس العباءة وتخلّىٰ عن الدنيا فيقول له : « يا عديَّ نفسه لقد استهام بك الخبيث ! أما رحمت أهلك وولدك ! أترى الله أحلَّ لك الطيّبات ،

_______________________

(١) تحف العقول / الحرّاني : ص ٢٠٩.


وهو يكره أن تأخذها ! أنت أهون على الله من ذلك » (١).

ومنهج أهل البيت عليهم‌السلام يدعو الى أن يكون العقل حاكماً على الشهوات ، لأنّ الانسياق وراء الشهوات يؤدي إلىٰ وقوع الانسان في مهاوي الرذيلة ، ومن آثارها ما ورد في أقوال أمير المؤمنين عليه‌السلام :

١ ـ قرين الشهوة مريض النفس معلول العقل.

٢ ـ غلبة الشهوة تبطل العصمة وتورد الهُلْك.

٣ ـ من زادت شهوته قلت مروّته.

٤ ـ إنكم ان ملّكتم شهواتكم نزت بكم الى الأشر والغواية (٢).

وخلاصة القول : ان غلبة العقل على الشهوة بمعنىٰ تحكمه فيها ، يجعل الانسان في قمة السمو والتكامل ، وإنّ غلبة الشهوة علىٰ العقل تجعل الانسان في المستنقع الآسن وفي ركب الطالحين.

قال الامام جعفر الصادق عليه‌السلام : « لا تدع النفس وهواها ، فإنّ هواها رداها ، وترك النفس وما تهوىٰ أذاها ، وكفّ النفس عمّا تهوىٰ دواها » (٣).

* * *

_______________________

(١) نهج البلاغة : ص ٣٢٤.

(٢) تصنيف غرر الحكم : ص ٣٠٥.

(٣) الكافي / الكليني : ٢ / ٣٣٦.



الفصل الثاني

دور القيم المعنوية والنفسية في المجال التربوي

قال سبحانه وتعالى : ( وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * الّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) (١).

الانسان والمجتمع في تدهور واضطراب وخسران في جميع مقومات الحياة وميادينها ، باستثناء من تكون المفاهيم والقيم الدينية هي الحاكمة علىٰ مسيرته وحركته ، حيث تحرر تلك القيم الإنسان والمجتمع معاً من جميع العبوديات الفكرية والاجتماعية والتربوية ، وتزرع في الضمير وخلجات النفس وفي الواقع الاستقرار والطمأنينة التي هي أساس الصحة النفسية والخلقية ، وتدفع الى العمل الايجابي البناء في اصلاح وتغيير النفس والمجتمع ، وأساس القيم المعنوية والنفسية الايمان بالله تعالى وباحاطته التامة بالانسان في حركاته وسكناته ، وهو الذي يجعل الضمير طامعاً في ثواب الله ، وخائفاً من غضبه وعقابه.

وأثبتت حركة التاريخ وسننه المتتابعة انّ الابتعاد عن الدين فكراً وسلوكاً هو أساس جميع الوان الانحراف والانحطاط الفردي والاجتماعي ، ابتداءً بفقدان الصحة النفسية والروحية ، وانتهاءً بالممارسات المنحرفة ، ولهذا نجد انّ الانحراف يتزايد في المجتمعات غير الدينية التي لا تؤمن بمفاهيمه أو لا تتبناه منهجاً لها في

_______________________

(١) سورة العصر : ١٠٣ / ١ ـ ٣.


الحياة. قال تعالىٰ : ( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) (١).

والضنك هو الضيق في كلّ شيء ، وهو لازم لمن أعرض عن ذكر الله ، والاعراض يبعد القلب عن الهدوء ، والنفس عن الطمأنينة ، ويجعل الانسان يعيش الانفلات من الرقابة الذاتية فلا كابح لشهواته ورغباته ونزواته ، فيكون همّه اشباعها بأيّ طريق أمكن دون النظر الى الآثار الوخيمة المترتبة علىٰ ذلك.

وبعد هذه المقدمة نوزّع الفصل علىٰ مبحثين :

المبحث الأول : دور القيم المعنوية في التربية من خلال ارشادات أهل البيت عليهم‌السلام

القيم المعنوية تشمل : الايمان بالله ، والايمان بالثواب والعقاب ، وذكر الله ، وذكر الموت ، والاعتراف بالذنب ، والاستغفار ، والتوبة ، والرضا بالقضاء. وفيما يلي نستعرضها تباعاً :

١ ـ الايمان بالله تعالىٰ

الانسان مجبول بفطرته على الايمان بالله تعالىٰ ، حيث يبدأ منذ الطفولة بالتساؤل عن نشوئه ونشوء الكون ، وعن العلة من وراء ذلك ، والايمان بالله من ( أهم القيم التي يجب غرسها في الطفل ... ممّا سوف يعطيه الأمل في الحياة

_______________________

(١) سورة طه : ١٢٣ و ١٢٤.


والاعتماد على الخالق ويوجد عنده الوازع الديني الذي يحميه من اقتراف الآثام ) (١).

والايمان بالله حاجة ضرورية ، وفي هذا الصدد قال باسكال : ( كل شيء غير الله لا يشفي لنا غليلاً ) (٢).

ويرى الفيلسوف المعاصر الدوس هكسلي انّه ( لا تستريح البشرية حتىٰ يتجرّد الانسان من عوائقه ونزعاته ، ولا يكون متجرّداً إلّا إذا ارتبط برباط آخر ألا وهو الله ) (٣).

ويرىٰ عالم النفس السويسري كارل يونج ( ان انعدام الشعور الديني يسبب كثيراً من مشاعر القلق والخوف من المستقبل ، والشعور بعدم الأمان ، والنزوع نحو النزعات المادية البحتة ، كما يؤدي إلىٰ فقدان الشعور بمعنىٰ ومغزىٰ هذه الحياة ، ويؤدي ذلك إلى الشعور بالضياع ) ، وقد استخدم هذا العالم الدين في علاج كثير من مرضاه النفسيين (٤).

وهذه المشاعر وما يرافقها من نزوع نحو النزعات المادية هي أساس الانحراف الفكري والعاطفي والسلوكي وأساس الشرور والآثام ، ولا وقاية إلّا بالايمان بالله تعالىٰ ، ولا علاج إلّا بتعميق الايمان في النفوس.

_______________________

(١) قاموس الطفل الطبي : ص ٢٩٤.

(٢) دائرة معارف القرن العشرين : ١ / ٤٨٢.

(٣) نحو إنسانية سعيدة / الدكتور محمد المبارك : ص ١٣٥ ، دار الفكر ، بيروت ، ١٣٨٩ ه‍.

(٤) دراسات في تفسير السلوك الانساني / الدكتور عبدالرحمن العيسوي : ص ١٩٣ ، دار الراتب الجامعية ، بيروت ، ١٤١٩ ه‍.


والايمان له آثار إيجابية في جميع مقوّمات النفس والحياة ، ومنها : الصحة النفسية والعقلية والخلقية ، ومن أقوال أمير المؤمنين عليه‌السلام في هذا الصدد :

١ ـ « من عرف الله سبحانه لم يشقَ أبداً ».

٢ ـ « التوحيد حياة النفس ».

٣ ـ « الإيمان أمان ».

٤ ـ « من عدم الفهم عن الله سبحانه لم ينتفع بموعظة واعظٍ ».

٥ ـ « بالإيمان يستدلّ على الصالحات » (١).

والايمان بالله تعالىٰ باعث للسلوك القويم ، حيث يجعل الخير والصلاح أصيلاً ثابتاً لا عارضاً مزعزعاً ، ومن آثار الايمان علىٰ نفس الفرد هي : التفاؤل ، التفتح ، الطمأنينة ، التمتع باللذات المعنوية ، مقاومة الانحراف ، الصبر على المصائب ، التنافس علىٰ عمل الصالحات وغيرها من مقومات الاستقامة وحسن السيرة والسريرة.

ومن آثاره الاجتماعية : احترام القوانين والضوابط الاجتماعية ، تقديس العدالة ، الشعور بالاخوة والمحبة بين الافراد ، الثقة المتبادلة ، الاحساس بالمسؤولية الاجتماعية ، التقوى ، الايثار ، نكران الذات ، تقبل النصيحة والنقد البنّاء.

ومن هنا فتعميق الايمان بالله ضروري جداً في تربية الانسان وخصوصاً في مرحلة الطفولة ، وهو وحده الذي يحصنه من الانحراف ويوجه ضميره وارادته وسلوكه نحو الاستقامة والصلاح لايمانه بوجود قوة غيبية تتابعه في حركاته

_______________________

(١) تصنيف غرر الحكم : ص ٨٢ ، ٨٤ ، ٨٨.


وسكناته.

والايمان كما جاء في قول الامام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام : « الإيمان أداء الفرائض واجتناب المحارم ، والايمان هو معرفة بالقلب واقرار باللسان وعمل بالأركان » (١).

والايمان التزام واستشعار للرقابة الآلهية ، قال رجل للإمام الصادق عليه‌السلام : أوصني ، فقال له : « لا يراك الله حيث نهاك ، ولا يفقدك حيث أمرك » (٢).

فقال الرجل : زدني ، فقال عليه‌السلام : « ما أجد لك مزيداً » (٣).

وقال عليه‌السلام : « خف الله كأنك تراه ، وإن كنت لا تراه فإنّه يراك » (٤).

٢ ـ الايمان بالثواب والعقاب

الايمان بالثواب والعقاب واستشعاره في العقل والضمير هو الزمام الذي يكبح الشهوات والنزوات ، وهو اكثر ايقاظاً للعقل والقلب والارادة ؛ حين يوجه الكيان الانساني الى اليوم الخالد الذي يقف فيه الانسان أمام من لا تخفىٰ عليه خافية وأمام من يحيط بالانسان والحياة والكون.

والايمان بالحياة الاخرىٰ حافز علىٰ اصلاح النفس والضمير ، وحافز للتسامي والارتقاء في جميع مقوّمات الشخصية الانسانية ، ومقومات الحياة الانسانية.

_______________________

(١) تحف العقول / الحرّاني : ص ٣١٥.

(٢) مجموعة ورّام : ٢ / ٢٤٦.

(٣) المصدر السابق نفسه.

(٤) بحار الأنوار / المجلسي : ٦٧ / ٢٥٥.


ومن أقوال أمير المؤمنين عليه‌السلام في هذا المجال :

١ ـ « من أحبّ الدار الباقية لهي عن اللّذات ».

٢ ـ « من اشتاق إلى الجنّة سلا عن الشهوات ».

٣ ـ « من خاف العقاب انصرف عن السيئات » (١).

وجعل الآخرة هماً للانسان يسهم مساهمة فعالة في اصلاح النفس واصلاح الضمير واصلاح السلوك ، والتفكير المتواصل بالآخرة يحصن الانسان من المعصية ، وهذه حقيقة ملموسة وواقعية.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام :

١ ـ « اجعل همك لمعادك تصلح ».

٢ ـ « من اكثر من ذكر الآخرة قلّت معصيته » (٢).

والايمان بالثواب والعقاب في دار الدنيا يحرك الانسان نحو عمل الخير ويوجهه نحو التكامل ، ويردعه عن الباطل والانحراف ، وقد وردت عدة روايات حول السنن المرتبطة بالثواب والعقاب ، نذكر منها علىٰ سبيل المثال : قول الامام محمد الباقر عليه‌السلام : « صلة الارحام تزكي الأعمال ، وتنمي الأموال ،   وتدفع البلوىٰ ، وتيسر الحساب ، وتنسيء في الأجل » (٣).

وقال عليه‌السلام : « ما من نكبة تصيب العبد إلّا بذنب » (٤).

وقال الامام جعفر الصادق عليه‌السلام : « انّ الذنب يحرم الرزق » (٥).

_______________________

(١) تصنيف غرر الحكم : ص ١٤٦.

(٢) المصدر السابق نفسه : ص ١٤٤ و ١٤٥.

(٣) الكافي / الكليني : ٢ / ١٥٠.

(٤) الكافي / الكليني : ٢ / ٢٦٩.

(٥) الكافي / الكليني : ٢ / ٢٧١.


وقال عليه‌السلام : « من عيّر مؤمناً بذنب لم يمت حتىٰ يركبه » (١).

وقال عليه‌السلام : « من استشار أخاه فلم يمحضه محض الرّأي سلبه الله عزّوجلّ رأيه » (٢).

وعن الامام محمد الباقر عليه‌السلام قال : « وجدنا في كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اذا ظهر الزنا من بعدي كثر موت الفجأة ، وإذا طفّف المكيال والميزان أخذهم الله بالسنين والنقص ، وإذا منعوا الزكاة منعت الأرض بركتها من الزّرع والثمار والمعادن كلّها ، واذا جاروا في الأحكام تعاونوا على الظلم والعدوان ، وإذا نقضوا العهد سلّط الله عليهم عدوّهم ، واذا قطعوا الأرحام جعلت الأموال في أيدي الأشرار ، واذا لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر ولم يتبعوا الأخيار من أهل بيتي سلّط الله عليهم شرارهم فيدعو خيارهم فلا يستجاب لهم » (٣).

والايمان بوجود تقييم موضوعي للناس علىٰ أساس الثواب والعقاب يسهم في البناء التربوي السليم ، وهو تشجيع للمحسن وردع للمسيء.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « لا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء ، فانّ ذلك تزهيد لأهل الاحسان في الاحسان ، وتدريب لأهل الاساءة على الاساءة ، فالزم كلّاً منهم ما ألزم نفسه أدباً منك ينفعك الله به وتنفع به أعوانك » (٤).

_______________________

(١) الكافي / الكليني : ٢ / ٣٥٧.

(٢) الكافي / الكليني : ٢ / ٣٦٣.

(٣) الكافي / الكليني : ٢ / ٣٧٤.

(٤) تحف العقول / الحرّاني : ص ٨٧.


وقال عليه‌السلام : « ازجر المسيء بثواب المحسن » (١).

٣ ـ ذكر الله تعالى

قال تعالىٰ : ( الا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) (٢).

اطمئنان القلب يحقق التوازن النفسي والانفعالي داخل النفس الانسانية ، وهو أحد أعمدة الصحة النفسية التي تسهم مساهمة فعّالة في ارتقاء الانسان سلم الكمال والمسيرة الصالحة.

وذكر الله يصدّ عن فعل القبيح لاستشعار الرقابة الالهية المطبقة علىٰ حركات الانسان وسكناته ، فلا يقدم علىٰ أي ممارسة مخالفة للموازين الالهية في السلوك والعلاقات الاجتماعية ، ولا يقدم علىٰ أي عمل لا يحرز فيه رضا الله تعالىٰ.

وأول ثمار ذكر الله تعالى الابتعاد عن الشيطان الذي يوسوس للانسان ويزيّن له الانحراف ، والابتعاد عن الشيطان أو ابعاده عن التأثير مقدمة لاصلاح خلجات النفس ثم الممارسات العملية.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « ذكر الله مطردة الشّيطان » (٣).

وقال عليه‌السلام : « ذكر الله دعامة الإيمان وعصمة من الشيطان » (٤).

ولذكر الله تعالىٰ تأثير في علاج الأمراض النفسية ، وهي عامل مساعد للانحراف ، وعلاج النفس يسهم في تقبل منهج الاستقامة والصلاح.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « ذكر الله دواء أعلال النفوس » (٥).

_______________________

(١) نهج البلاغة : ص ٥٠١.

(٢) سورة الرعد : ١٣ / ٢٨.

(٣) و (٤) تصنيف غرر الحكم : ص ١٨٨.

(٥) تصنيف غرر الحكم : ص ١٨٨.


وذكر الله تعالىٰ يسمو بسلوك الانسان بعد صلاح قلبه ومحتواه الداخلي ، وهو صلاح له في السر والعلن.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أصل صلاح القلب اشتغاله بذكر الله » (١).

وقال أيضاً : « من عمّر قلبه بدوام الذكر حسنت أفعاله في السرّ والجهر » (٢).

والذاكر لله يذكره الله ، وهذا الذكر له تأثيراته العملية علىٰ الشخصية الانسانية في جميع مقوماتها ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « من ذكر الله سبحانه أحيىٰ الله قلبه ونوّر عقله ولبّه » (٣).

ومصاديق الذكر متعددة ومتنوعة لا حدود لها ، وقد وردت عدة روايات تؤكد علىٰ : التسبيح ، والتهليل ، والتحميد ، والتكبير ، وقول : لا حول ولا قوة إلّا بالله ، ولكل واقعة أو حدث أو قضية ذكر معين ، كالحمد لله ، حسبي الله ،   أتوكل على الله ، وغير ذلك.

وهنالك مصاديق عملية وواقعية لذكر الله ولتعميق صلة العبد بربّه تسهم في ردع الانسان عن الانحراف والشرور وتدفعه الى الاستقامة والصلاح ، ومن هذه المصاديق :

أولاً : قراءة القرآن الكريم

القرآن الكريم أحد وسائل الارتباط بالله تعالىٰ ، وهو نور يستضيء به الإنسان ، ففيه منهاج شامل للبشرية جمعاء يعين الانسان علىٰ الاستقامة

_______________________

(١) تصنيف غرر الحكم : ص ١٨٨.

(٢) و (٣) المصدر السابق : ص ١٨٩.


والتقيد بالموازين الصالحة والضوابط السلوكية السليمة.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « كفى بالقرآن داعياً » (١).

وقال عليه‌السلام : « القرآن أفضل الهدايتين ».

وقال عليه‌السلام : « ما جالس أحد هذا القرآن إلّا قام بزيادة أو نقصان ؛ زيادة في هدىً ، أو نقصان في عمىً » (٢).

والقرآن الكريم شفاء من جميع الأمراض والعلل النفسية التي تؤدي غالباً الى الانحراف كالوسوسة والقلق والحيرة ؛ لأنّه يوصل القلب بمنعم الرحمة والرأفة فيسكن ويطمئن ويستشعر الحماية والأمن.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أحسنوا تلاوة القرآن فانّه أنفع القصص واستشفوا به فانّه شفاء الصدور » (٣).

وقال الامام موسىٰ الكاظم عليه‌السلام : « في القرآن شفاء من كل داء » (٤).

وقراءة القرآن تجعل أجواء المنزل وأجواء الأسرة أجواءً روحانية تتسامىٰ فيها النفوس وتتوجه نحو الاستقامة والصلاح.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « البيت الذي يقرأ فيه القرآن ويذكر الله عزّوجلّ فيه ، تكثر بركته ، وتحضره الملائكة ، وتهجره الشياطين ، ويضيء لأهل السماء كما تضيء الكواكب لأهل الأرض ، وإنّ البيت الذي لا يقرأ فيه القرآن ولا يذكر الله عزّوجلّ فيه ، تقلّ بركته ، وتهجره الملائكة ، وتحضره

_______________________

(١) تصنيف غرر الحكم : ص ١١٠.

(٢) المصدر السابق : ص ١١١.

(٣) المصدر السابق : ص ١١٢.

(٤) مكارم الأخلاق / الطبرسي : ص ٣٦٣.


الشياطين » (١).

ثانياً : الدعاء

الدعاء يجعل الانسان مستشعراً للارتباط بمنعم الوجود والرحمة والرعاية ، وبه تطمئن النفس ويستريح القلب ، ويبقىٰ في علاقة متواصلة مع القوة المهيمنة علىٰ الحياة بأسرها ، والتي تحيط به وتراقبه باستمرار.

وبالدعاء يرتقي الانسان في سلم الصلاح والاستقامة ويبتعد عن الانحراف ، وخصوصاً حينما يتمرّن علىٰ طلب العون من الله تعالى لاصلاح نفسه وانقاذها من الانحراف والرذيلة.

والدعاء بنيّة خالصة كفيل بتسامي الانسان وتكامله الروحي والخلقي ، وهذا الأمر لايحتاج إلىٰ برهان ، لأنّ فيه تجتمع جميع العوامل المساهمة في السمو والتكامل ومنها :

١ ـ الرغبة في الصلاح والسمو والتكامل.

٢ ـ طلب العون من الله تعالىٰ.

٣ ـ استجابة الله تعالىٰ لطلب عبده ، لاخلاصه في الطلب ، وانسجام طلبه مع المنهج الالهي.

قال الإمام محمد الباقرعليه‌السلام : « لا والله لايلحّ عبد مؤمن على الله عزّوجلّ في حاجته إلّا قضاها له » (٢).

والدعاء شفاء من كل داء ، وخلو النفس من الداء يسهم في اصلاحها

_______________________

(١) الكافي ٢ : ٦١٠.

(٢) الكافي ٢ : ٤٧٥.


وتقبلها للارشاد والتوجيه الصالحين.

قال الإمام الصادق عليه‌السلام : « عليك بالدعاء ، فإنّ فيه شفاءً من كلّ داء » (١).

وأكّد أهل البيت عليهم‌السلام على المداومة على الدعاء فهو بنفسه اصلاح للنفس والضمير وتهذيبهما ، وقد اثبتت التجارب التربوية انّ الأحداث الذين ترعرعوا في أجواء مليئة بذكر الله بالدعاء وغيره أكثر استقامة من غيرهم وأقل انحرافاً.

ثالثاً : العبادة

العبادة رابطة روحية تربط الانسان بالمطلق وعالم الغيب والمعنويات ، وبها يتصل القلب بمنعم الوجود اتصالات متنوعة ، وهذه الاتصالات تجعله يستشعر الرقابة الالهية فلا يجرأ علىٰ الانحراف ، ويتوجه نحو الاستقامة.

وأبرز مصاديق العبادة الصلاة وهي حصن حصين من الانحراف بعد اندحار الشيطان بواسطتها.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « الصلاة حصن الرحمن ، ومدحرة الشيطان ».

وقال عليه‌السلام : « الصلاة حصن من سطوات الشيطان » (٢).

والصلاة باركانها تحرك الانسان نحو الصلاح والاستقامة ، كما ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « والسجود النفساني فراغ القلب من الفانيات ، والاقبال بكنه الهمّة على الباقيات ، وخلع الكبر والحميّة ، وقطع العلائق الدنيوية ، والتحليّ بالخلائق النبوية » (٣).

وهي كما قال عليه‌السلام : « الصلاة صابون الخطايا » (٤).

_______________________

(١) مكارم الأخلاق : ص ٢٧١.

(٢) و(٣) تصنيف غرر الحكم : ص ١٧٦.

(٤) شرح نهج البلاغة / لابن أبي الحديد : ٢٠ / ٣١٣.


وهي تمنح الانسان فرصة العودة إلىٰ الاستقامة ، وخصوصاً صلاة الليل ، قال الامام جعفر الصادق عليه‌السلام : « صلاة المؤمن بالليل تذهب بما عمل من ذنب بالنهار » (١).

والصلاة من أفضل العبادات التي تنهىٰ عن الفحشاء والمنكر كما أكد الكتاب الكريم والروايات ، ثم يأتي دور الصوم ثم الحج الىٰ آخره من ألوان العبادات ، وجميعها تسهم في التربية الصالحة السليمة ، ولهذا حث أهل البيت عليهم‌السلام علىٰ أدائها وخصوصاً العبادات المستحبة المنصوصة من قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٤ ـ ذكر الموت

ذكر الموت له دور هام في ضبط النفس والردع عن عمل القبيح ، فانّ ذكره الدائم باللسان بعد استشعاره بالوجدان يوجه الأنظار الىٰ تلك الحقيقة التي تنهدم فيها الشهوات واللذات ، ويصبح الانسان من خلالها رهين القبر بانتظار الثواب والعقاب ، فيتوجه الانسان بجميع جوارحه نحو المثل والقيم العليا ليجسدها في واقعه السلوكي والخلقي.

ومن آثار ذكر الموت كما وردت عن أمير المؤمنين عليه‌السلام :

١ ـ « من ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير ».

٢ ـ « من ذكر المنية نسي الأمنية ».

٣ ـ « أبلغ العظات النظر إلىٰ مصارع الأموات والاعتبار بمصاير الآباء والأمهات » (٢).

والترفّع عن أمور الدنيا المادية يجعل الانسان يعيش في أجواء المعنويات

_______________________

(١) من لا يحضره الفقيه / الشيخ الصدوق : ١ / ٢٩٩.

(٢) تصنيف غرر الحكم : ص ١٤٦ ، ١٦٢.


والمثل الصالحة ، فلا تنافس علىٰ حطام الدنيا ولا صراع من أجل اشباع الرغبات ، ولا اعتداء علىٰ ممتلكات الناس ، وله دور في إزالة أسباب الحسد والطمع والانانية والحقد وغير ذلك من الأمراض النفسية والخلقية.

قال الامام جعفر الصادق عليه‌السلام : « ذكر الموت يميت الشهوات في النفس ، ويقطع منابت الغفلة ، ويقوّي القلب بمواعد الله ، ويرق الطبع ، ويكسر أعلام الهوى ، ويطفي نار الحرص ويحقر الدنيا » (١).

وحثّ أمير المؤمنينعليه‌السلامعلى الاكثار من ذكر الموت لدوره في اصلاح النفس وسموها ولكي تستعد لما بعده فقال : « اكثر ذكر الموت وما تهجم عليه وتفضي إليه بعد الموت حتّىٰ يأتيك وقد أخذت له حذرك ، وشددت له أزرك ، ولا يأتيك بغتة فيبهرك ».

وقال عليه‌السلام : « رحم الله امرءاً بادر الأجل ، واكذب الأمل ، وأخلص العمل » (٢).

وقد أثبتت الدراسات الميدانية انّ الأجواء الاجتماعية التي يكثر فيها ذكر الموت وما بعده من أهوال وصعاب أو ثواب ونعيم ، أقرب للصلاح والاستقامة من غيرها من الأجواء ، ولا غرابة ان نجد المجتمعات غير الاسلامية مبتلاة بالكثير من الانحرافات والجرائم لابتعادها عن هذه المفاهيم والقيم.

٥ ـ الاعتراف بالذنب

الاعتراف بالذنب له دور كبير في تهذيب النفس واصلاحها وفي تشخيص

_______________________

(١) المحجة البيضاء / الفيض الكاشاني : ٨ / ٢٤٢.

(٢) تصنيف غرر الحكم : ص ١٦٢.


أسباب القلق والاضطراب النفسي ، ولا تبقىٰ تلك الأسباب ضاغطة على العقل والقلب والارادة ، وبه يشكو الانسان من نفسه الأمارة بالسوء طلباً لما يلي :

١ ـ إزالة مشاعر الذنب والاثم.

٢ ـ التخفيف من عذاب تأنيب الضمير.

٣ ـ اعادة الاطمئنان للنفس المضطربة.

٤ ـ التصميم علىٰ عدم تكرار الذنب.

٥ ـ التفكير في الاستقامة من جديد.

وقد استخدم العلاج النفسي اسلوب الاعتراف للوصول الىٰ الصحة النفسية للمريض بعد الاطلاع علىٰ الامور المكبوتة والمخزونة في اللاشعور ، وفي أثناء جلسات العلاج يسترخي المريض ويطلق العنان لذكرياته كي تفيض وتطفو فوق سطح الشعور ، ومن طرق العلاج طريقة التطهير النفسي أو التفريغ الانفعالي وهي ( تصريف الشحنة الانفعالية الحبيسة داخل صدر الانسان أو الافصاح عمّا يجثم علىٰ صدر المرء من الهموم والآلام والمشاعر والمشاكل والصراعات والتوترات والضغوط ، وهذه العملية تسبب للفرد الشعور بالارتياح... وتؤدي إلىٰ إزالة أو اضعاف العقد النفسية أو الىٰ تقليل التوترات الانفعالية الناجمة من الصراعات ... ) (١).

وإذا كان المذنب أو المنحرف لا يعترف لانسان مثله بذنبه أو انحرافه إلّا بصعوبة بالغة ؛ فإنه يعترف أمام الله تعالىٰ بها دون حرج أو حياء لأنه يقف أمام واهب الرحمة والمحيط بسكنات النفس وخفاياها ، وهذا الاعتراف يكون مقدمة لصلاح النفس ثم صلاح السيرة العملية ، فلا تلاحقه بعدها الهموم

_______________________

(١) فن الارشاد والعلاج النفسي : ص ١٠٠ ، ١٠١.


والضغوطات النفسية.

ومن الآثار الايجابية للاعتراف كما ذكرها أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث قال :

١ ـ « شافع المذنب اقراره ، وتوبته اعتذاره ».

٢ ـ « من اعترف بالجريرة استحقّ المغفرة ».

٣ ـ « عاصٍ يقرّ بذنوبه خير من مطيع يفتخر بعمله ».

٤ ـ « من أحسن الاعتذار استحقّ الاغتفار » (١).

٦ ـ الاستغفار

الاستغفار مفهوم اسلامي ينتقل بالانسان من مرحلة الوقوع في الانحراف إلىٰ مرحلة تجاوزه والعودة إلىٰ الهداية والاستقامة ، وهو نقلة نوعية في مسيرته وحركته الفردية والاجتماعية ، فالنفس الانسانية حين ترتكب الخطيئة يختل توازنها وتماسكها ، وتصبح عرضة للوساوس والهواجس ، فيجد الشيطان طريقه إلىٰ هذه النفس فيقودها الىٰ الانحراف تلو الانحراف ، ولكن الاستغفار يردها إلىٰ الاستقامة ويقوي صلتها بالله تعالى.

والاستغفار علاج واقعي للانحراف ويسهم في اجتثاث آثاره السلبية على القلب والارادة ، وهو الدواء كما جاء في عبارات أهل البيت عليهم‌السلام.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « الاستغفار دواء الذنوب ».

وقال عليه‌السلام : « الذنوب الداء ، والدواء الاستغفار ، والشفاء أن لا تعود » (٢).

وقال الامام جعفر الصادق عليه‌السلام : « من أذنب من المؤمنين ذنباً ، أجّل من

_______________________

(١) تصنيف غرر الحكم : ص ١٩٥.

(٢) تصنيف غرر الحكم : ص ١٩٤ ، ١٩٥.


غدوة إلى الليل ، فإن استغفر لم يكتب له ».

وقال عليه‌السلام : « إذا أكثر العبد من الاستغفار ، رفعت صحيفته وهي تتلألأ » (١).

وقال عليه‌السلام : « لا صغيرة مع الاصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار » (٢).

والاستغفار الحقيقي هو العمل الايجابي المتسلسل لاقتلاع جميع جذور وآثار الانحراف ، وهو يمرّ بمراحل وخطوات عملية.

سمع أمير المؤمنين عليه‌السلام رجلاً يقول : استغفر الله ، فقال : « ثكلتك اُمّك أو تدري ما حدّ الاستغفار ؟ الاستغفار درجة العلّيين ، وهو اسم واقع علىٰ ستّة معان :

أولها : الندم علىٰ ما مضىٰ.

والثاني : العزم علىٰ ترك العود إليه أبداً.

والثالث : أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتىٰ تلقى الله عزّوجلّ أملس ليس عليك تبعة.

والرابع : أن تعمد إلىٰ كل فريضة ضيّعتها فتؤدي حقّها.

والخامس : أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت والمعاصي فتذيبه بالأحزان حتىٰ تلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد.

والسادس : أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية.

فعند ذلك تقول : أستغفر الله » (٣).

_______________________

(١) مكارم الأخلاق / الطبرسي : ص ٣١٣ ، ٣١٤.

(٢) المحجة البيضاء / الفيض الكاشاني : ٧ / ٥٨.

(٣) إرشاد القلوب : ص ٤٧.


والاستغفار عموماً فرصة جديدة لاصلاح النفس والعودة إلىٰ الاستقامة ، بعد التغلب على اليأس والقنوط من الاصلاح والتهذيب ، وبهذه الفرصة يجد الانسان الأمل والتفاؤل لكي يسمو ويتكامل ضمن التعاليم والارشادات الصالحة.

٧ ـ التوبة

التوبة عودة إلىٰ الاستقامة والنزاهة وحسن السيرة ، وهي باب من أبواب الهداية والاصلاح ، فبها يرجع الإنسان سوياً يستشعر الرحمة والطمأنينة ، فلا آلام ولا عقد نفسية ولا حجب ضبابية عن الاستقامة والاعتدال ، وبدون التوبة يبقى المذنب يعيش القلب والاضطراب والازدواجية بين الفكر والسلوك ، وقد يتمادىٰ في ذنوبه وانحرافاته إن شعر بعدم علاجها إلىٰ أن يصل إلىٰ الانحطاط التام ، ولهذا جاءت التوبة لمحو الذنوب والعودة إلىٰ الاستقامة باستشعار الرحمة والرأفة الإلهية.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « التوبة تطهر القلوب ، وتغسل الذنوب » (١).

وقال عليه‌السلام : « لا تيأس لذنبك وباب التوبة مفتوح » (٢).

وقال عليه‌السلام : « إن الندم على الشر يدعو إلىٰ تركه » (٣).

وللتوبة تأثير ايجابي علىٰ قلب الانسان وخلجات نفسه ، قال الامام جعفر الصادق عليه‌السلام : « إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء ، فإن تاب انمحت ،

_______________________

(١) تصنيف غرر الحكم : ص ١٩٥.

(٢) تحف العقول / الحرّاني : ص ١٤٩.

(٣) الكافي / الكليني : ٢ / ٤٢٧.


وإن زاد زادت حتىٰ تغلب علىٰ قلبه ، فلا يفلح بعدها أبداً » (١).

والتوبة تغيير حقيقي نحو الأفضل والأصلح ، ولذا فهي تتم عبر مقومات ودعائم وأركان نابعة من جميع خلجات وجوارح الانسان ، قال الإمام محمد الجواد عليه‌السلام : « التوبة علىٰ أربع دعائم : ندم بالقلب ، واستغفار باللسان ، وعمل بالجوارح ، وعزم أن لا يعود » (٢).

ومن مظاهر التوبة البكاء من خشية الله تعالىٰ ، وهو عامل ايجابي في التخفيف من القلق والاضطراب الناشئين من الذنوب ، وله دور في رقة القلب ، وله دور في اعادة الأمل للتسامي والتكامل والفوز بالنعيم الخالد.

قال الامام جعفر الصادق عليه‌السلام : « إنّ الرجل ليكون بينه وبين الجنّة أكثر ممّا بين الثرىٰ والعرش لكثرة ذنوبه ، فما هو إلّا أن يبكي من خشية الله عزّوجلّ ندماً عليها ، حتىٰ يصير بينه وبينها أقرب من جفنته إلىٰ مقلته » (٣).

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « البكاء من خشية الله ينير القلب ويعصم من معاودة الذنب » (٤).

ومن أروع ما في التوبة آثارها الايجابية ، فكفارة الذنوب تتجسد في أعمال وممارسات صالحة ونافعة للمجتمع.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « من كفارات الذنوب العظام إغاثة الملهوف ، والتنفيس عن المكروب » (٥).

_______________________

(١) الكافي / الكليني : ٢ / ٢٧١.

(٢) كشف الغمّة / للاربلي : ٢ / ٣٤٩.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام / الشيخ الصدوق : ٢ / ٣.

(٤) تصنيف غرر الحكم : ص ١٩٢.

(٥) شرح نهج البلاغة / لابن أبي الحديد : ١٨ / ١٣٥.


٨ ـ الرضا بالقضاء

إنّ الحياة لا تمضي جزافاً ، بل هنالك سنن وقوانين تتحكم بها ، فحينما توجد الأسباب تتبعها النتائج ، وهذه السنن حاكمة علىٰ الانسان لا تختلف ولا تتخلف ، وأحياناً تكون خارجة عن ارادة الانسان واختياره ، بمعنىٰ انّه لا يملك الحول والقوة في تغييرها وتبديلها مهما بذل من جهد وطاقة ، فقد تطبق عليه الظروف ليبقىٰ فقيراً مستضعفاً محروماً أو لا ينجح في أعماله ومشاريعه ، أو لا توافق رغباته رغبات الآخرين ، وفي جميع ذلك فان الارتباط بالله تعالىٰ والرضا بقضائه كفيل بتهوين الآلام والمآسي وإبعاد آثارها السلبية عن العقل والقلب والضمير ، وعن ردود أفعالها السلبية تجاه النفس والمجتمع.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « نعم الطارد للهمّ الرضا بالقضاء ».

قال عليه‌السلام : « الرضا بقضاء الله يهوّن عظيم الرزايا ».

وقال عليه‌السلام : « من رضي بالقضاء طابت عيشته » (١).

وينبغي أن يدرك الانسان ان قضاء الله هو خير للمؤمن بجميع مظاهره وحالاته وألوانه ، قال الامام محمد الباقر عليه‌السلام : « في كل قضاء الله خير للمؤمن » (٢).

وقال الامام موسىٰ بن جعفر الكاظم عليه‌السلام : « ينبغي لمن عقل عن الله أن لا يستبطئه في رزقه ، ولا يتهمه في قضائه » (٣).

_______________________

(١) تصنيف غرر الحكم : ص ١٠٣ ، ١٠٤.

(٢) تحف العقول / الحرّاني : ص ٢١٤.

(٣) الكافي / الكليني : ٢ / ٦١.


ومن ايجابيات الرضا بالقضاء الاستسلام للأمر الواقع وللحالة المطبقة بالانسان ، وهذا الاستسلام يمنعه من ردود الأفعال المتشنجة والصاخبة ضد الأفراد وضد المجتمع ككل ، فاذا عاش الفقر والحرمان فلا يحسد ولا يحقد ولا يعتدي علىٰ أموال الآخرين ، وإذا عاش الاهمال والحرمان فلا ينتقم لذاته ، وإذا عاش الفشل في مشاريعه فلا يلقي باللائمة علىٰ غيره بل هو في جميع هذه الحالات يميل إلى السعي والكدح لأجل تغيير حاله بطرق سليمة أقرّها الشرع ، والرضا بالقضاء يمنعه من الاستسلام للقلق والاضطراب وهما المرتع الخصب للخلق غير السوي وغير المستقيم.

المبحث الثاني : طرق تقييم النفس ودورها في التربية

١ ـ تنمية الحياء

الحياء عبارة عن الشعور بالانفعال والانكسار النفسي نتيجة للخوف من اللوم والتوبيخ من الآخرين ، وهو شعور تراعىٰ فيه المثل والقيم والضوابط الاجتماعية ، ويسهم بشكل فعّال في ضمان تنفيذ القوانين والمنع من الاقدام على التجاوز والاعتداء ، وهو الذي يحصن الانسان من جميع ألوان الانحراف والرذيلة.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « الحياء لباس سابغ ، وحجاب مانع ، وستر من المساوئ واقٍ ، وحليف للدين ، وموجب للمحبة ، وعين كالئة تذود عن الفساد ، وتنهى عن الفحشاء » (١).

_______________________

(١) شرح نهج البلاغة / لابن أبي الحديد : ٢٠ / ٢٧٢.


وللحياء آثار تربوية ايجابية جاءت في حديث أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث قال :

١ ـ « الحياء مفتاح كل خير ».

٢ ـ « الحياء يصدُّ عن فعل القبيح ».

٣ ـ « ثمرة الحياء العفّة ».

٤ ـ « من كساه الحياء ثوبه خفي عن الناس عيبه » (١).

وقال الامام جعفر الصادق عليه‌السلام : « فلولاه لم يقرَ ضيف ، ولم يوف بالعداة ، ولم تقض الحوائج ، ولم يتحر الجميل ، ولم يتنكب القبيح في شيء من الأشياء ، حتىٰ أنّ كثيراً من الأمور المفترضة أيضاً انما يفعل للحياء ، فانّ من الناس من لولا الحياء لم يرع حق والديه ، ولم يصل ذا رحم ، ولم يؤدّ أمانة ، ولم يعفّ عن فاحشة » (٢).

والحياء الايجابي هو الحياء من : الله تعالىٰ ، والنفس ، والمجتمع ، والقانون ، والذي يحقق آثاراً صالحة في الفكر والسلوك ، قال الامام موسى الكاظم عليه‌السلام : « استحيوا من الله في سرائركم كما تستحيون من الناس في علانيتكم » (٣).

وقال عليه‌السلام : « رحم الله من استحيا من الله حقّ الحياء ؛ فحفظ الرأس وما حوىٰ ، والبطن وما وعىٰ ، وذكر الموت والبلىٰ ، وعلم انّ الجنّة محفوفة بالمكاره ، والنار محفوفة بالشهوات » (٤).

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « غاية الأدب أن يستحي الانسان من نفسه » (٥).

_______________________

(١) تصنيف غرر الحكم : ص ٢٥٧.

(٢) بحار الأنوار / المجلسي : ٢ / ٢٥.

(٣) تحف العقول / الحرّاني : ص ٢٩٣.

(٤) المصدر السابق نفسه : ص ٢٩١.

(٥) شرح نهج البلاغة / لابن أبي الحديد : ٢٠ / ٢٦٥.


فالحياء من الله تعالىٰ ومن النفس يردع الانسان عن الانحراف الخفي وغير المعلن ، والحياء من المجتمع والقانون يردعه عن الانحراف العلني والمخفي معاً خوفاً من انكشافه أمام الملأ.

والحياء له دوران : الأول الصد عن العمل القبيح والشائن ، والثاني التخلق بالأخلاق الحسنة والصالحة وخصوصاً في العلاقات الاجتماعية ، وبه ترعىٰ حقوق الآخرين.

٢ ـ تنمية الضمير

الضمير هو الرادع الداخلي الذي يقدر ما هو حسن وما هو قبيح ، فيساعد الانسان على اتخاذ السلوك والقرار الصالح والسليم ، والتخلي عن السلوك والقرار المخالف للقواعد الصالحة والضوابط الاجتماعية السليمة.

ويرى الباحثون في حقول التربية وعلم النفس أنه ( لا الفكر ولا المنطق يأمران الانسان بالتصرف ، هما أداتان تمكنان الانسان من الوصول الىٰ هدف ما ، الضمير هو الآمر ، والفكر هو المنفّذ... ويرىٰ نيومن انّ الانسان يفضل التصرّف الخاطئ علىٰ الصواب إذا رضي ضميره ؛ ولو دلّه المنطق إلىٰ خطأ عمله وأرشده إلىٰ الصواب ) (١).

وانّ الضمير عند « فروم » هو ( المستودع الرئيسي للميراث الاجتماعي والثقافي في تكوين الشخصية. وهو القوة المحركة التي تدفع الانسان الىٰ أداء سلوك معين أو عدم أدائه لهذا السلوك حسب متطلبات المجتمع ، ويتكون

_______________________

(١) الأسس البيولوجية لسلوك الانسان : ص ٢٧١ ، ٢٧٣.


الضمير من خلال التأثيرات الاجتماعية والثقافية وتجارب الطفولة مع الآخرين ، فالضمير يتكون علىٰ شاكلة ضميري الأب والأم ، ولا يوجد ضمير واحد للفرد ، فهو يمتلك مجموعة من الضمائر تؤلف الضمير الكلي للفرد ) (١).

والضمير هو الواعظ الداخلي للانسان الذي يردعه عن القبيح ويدفعه إلىٰ عمل الحسن والصالح ، وهو الرقيب عليه في جميع الأحوال والظروف سرية كانت أم علنية.

قال الامام محمد الباقر عليه‌السلام : « من لم يجعل الله له من نفسه واعظاً فانّ مواعظ الناس لن تغني عنه شيئاً » (٢).

وقال الامام زين العابدين عليه‌السلام : « ابن آدم إنّك لا تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك ، وما كانت المحاسبة لها من همّك » (٣).

وقال الإمام محمد الجواد عليه‌السلام : « المؤمن يحتاج إلىٰ توفيق من الله وواعظ من نفسه وقبول ممّن ينصحه » (٤).

والضمير ينمو باتجاه الاستقامة من خلال التربية المتواصلة والتوجيه الدائم من قبل الوالدين والمعلمين وعلماء الدين ، ومن خلال توجيه الانظار إلىٰ احترام القواعد السلوكية للمجتمع ، وينمو عن طريق الايحاء والتلقين ، ومن خلال ملاحظة القدوة الحسنة ، فاعتراف الكبار بالخطأ الذي يرتكبونه يقوّي في أعماق الطفل القدرة علىٰ ضبط سلوكه وسيرته.

_______________________

(١) التحليل النفسي للشخصية : ص ١٨٠.

(٢) تحف العقول / الحرّاني : ص ٢١٤.

(٣) الأمالي / الشيخ المفيد : ص ١١٠.

(٤) تحف العقول / الحرّاني : ص ٣٤٠.


ومن العوامل المساعدة علىٰ تنمية الضمير أن يتعامل مع الطفل علىٰ أساس انّه شخصية مستقلة ، لأن ذلك ينمي في داخله الاحساس بالمسؤولية ومعرفة الخطأ والصواب وتمييز الانحراف عن الاستقامة.

والأهم من جميع ذلك فانّ الارتباط بالغيب هو الأساس في تنمية الضمير ليؤدي دوره في التوجيه والتهذيب والردع ، لأنّه يشعر بالرقابة الغيبية التي تراقبه وتتابعه وتحصي عليه سكناته وحركاته.

وفي جميع الظروف والأحوال لابدّ من تمكين الانسان وخصوصاً في مرحلة الطفولة من تكوين ضمير سليم لا متزمت ولا متساهل بل ضمير معتدل متوازن.

٣ ـ اثارة الوجدان

ادراك الفرد لحقائق السنن التي تتحكم في العلاقات والمسيرة الاجتماعية وآثارها الايجابية والسلبية التي تسهم في تجنب الموبقات والتوجه للكمال والسمو.

ومن السنن المؤثرة في الوجدان الانساني سنة الصيانة أو التعرض لأعراض الناس ، فمن صان نفسه عن التعرض فسيصان عرضه من الانحراف والدنس ومن اعتداء الآخرين ، ومن اعتدىٰ علىٰ أعراض الناس اعتدي علىٰ عرضه ، فاذا انغرست هذه السنن في وجدان الانسان فانها ستنتقل من مرحلة التأثر الوجداني إلىٰ مرحلة العمل الايجابي ، فلا تبقىٰ مجرد حقيقة وجدانية راكدة ومعطلة وانما ستكون ذات حيوية متحركة في الواقع بعمل وحركة وسلوك يحصن الانسان من الانحراف والاعتداء الذي يعود ضرره عليه وعلىٰ ذويه.


قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « من زنىٰ زني به » (١).

وقال عليه‌السلام : « ما زنىٰ غيور قط » (٢).

وقال الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام : « برّوا آباءكم يبرّكم أبناؤكم ، وعفّوا عن نساء الناس تعفُّ نساؤكم » (٣).

وذكر أهل البيت عليهم‌السلام كثيراً من القصص في اثارة الوجدان وبيان دوره في الاستغفار والتوبة وتجنّب الانحراف ، والتسامي نحو الكمال ، والآثار المترتبة على الانحراف تتحقق بتحقق أسبابها الطبيعية ، فالمنحرف أو المعتدي علىٰ أعراض الناس يشارك في تهيئة أجواء الانحراف لذويه ، ويكون أقل مراقبة لهم ، اضافة إلىٰ تأثرهم بسلوكه من خلال المحاكاة والمشاهدات الحسية.

٤ ـ التقييم الذاتي ومحاسبة النفس

التقييم الذاتي للنفس عمل هام وضرورة نفسية واجتماعية ، به يتعرف الانسان علىٰ صفاته وقدراته العقلية والعاطفية والخلقية ، ويرىٰ في نفسه عوامل القوة والضعف ، وفكرة المرء عن نفسه من خلال التقييم الصحيح والواقعي ، لها الأثر الأكبر في تعيين سلوكه ومستوىٰ طموحه ، وفكرة المرء عن نفسه هي ( التي توجهه في اختيار أعماله وأصدقائه وزوجته ومهنته وملابسه... كما تسهم في رسم مستوىٰ طموحه ، وهي التي تبين له ضروب السلوك التي هو جدير بها ، وتكفه عن فعل ما يمس احترامه لنفسه ... ) (٤).

_______________________

(١) شرح نهج البلاغة / لابن أبي الحديد ٢٠ : ٣٢٣.

(٢) نهج البلاغة ، الحكمة : ٣٠٥.

(٣) تحف العقول / الحرّاني : ص ٢٦٧.

(٤) اُصول علم النفس : ص ١٢٦.


وأكدت الروايات علىٰ أهمية معرفة النفس ومعرفة قدرها وطاقاتها ، ومعرفة درجة قربها وبعدها من الاستقامة والصلاح. قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « الخير كلّه فيمن عرف قدر نفسه ، وكفىٰ بالمرء جهلاً أن لا يعرف قدر نفسه » (١).

وقال عليه‌السلام : « ما هلك امرؤ عرف قدره » (٢).

وقال عليه‌السلام : « رحم الله امرءاً عرف قدره ولم يتعدّ طوره » (٣).

ومن معرفة النفس معرفة عيوبها ، وهي ظاهرة ايجابية وصحية ، فمن خلال معرفة عيوب النفس ينشغل الانسان عن عيوب غيره ، ويتوجه إلىٰ إصلاح عيوبه بالطرق والأساليب المتاحة ، ويتعاون مع غيره إن عجز بمفرده ، وقد دلّت الروايات علىٰ الآثار الايجابية لذلك.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « من عرف عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره » (٤).

وقال الإمام الصادق عليه‌السلام : « أنفع الأشياء للمرء سبقه الناس إلىٰ عيب نفسه » (٥).

وبعد التقييم الذاتي ومعرفة النفس يأتي دور المحاسبة لها ، وهي تسهم في إيقاف الانحراف ، والتوجه إلىٰ الاصلاح والتكامل والبناء التربوي الصالح للفرد نفسه ولذويه وللمجتمع.

_______________________

(١) مجموعة ورّام : ٢ / ١١٥.

(٢) عيون أخبار الرضا ٧ / الشيخ الصدوق : ٢ / ٥٤.

٣ ـ تصنيف غرر الحكم : ص ٢٣٣.

٤ ـ أعلام الدين / الديلمي : ص ١٨٦.

٥ ـ تحف العقول / الحرّاني : ص ٢٧٣.


قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « من حاسب نفسه ربح ، ومن غفل عنها خسر » (١).

وقال الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام : « حق علىٰ كل مسلم يعرفنا أن يعرض عمله في كل يوم وليلة علىٰ نفسه ، فيكون محاسب نفسه ، فاذا رأىٰ حسنة استزاد منها ، وإن رأى سيئة استغفر منها ؛ لئلا يخزىٰ يوم القيامة » (٢).

وقال الإمام موسىٰ بن جعفر عليه‌السلام : « ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كل يوم ، فإن عمل حسناً استزاد الله ، وإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه » (٣).

ومحاسبة النفس تتم علىٰ أساس عرض السيرة والممارسة علىٰ الموازين والمعايير الثابتة ، فهي الميزان والمعيار في التقييم الذاتي ومعرفة النفس ومحاسبتها.

٥ ـ التقييم الاجتماعي

معرفة النفس وتقييمها تنشأ ذاتياً من داخلها ، ولها مناشئ اخرىٰ ، وهي فكرة المجتمع عنها أو تقييم المجتمع لها ، وتنشأ أيضاً من موازنة الانسان نفسه بغيره من أفراد المجتمع سواء كانوا صالحين أم طالحين.

ومن خلال التقييم الاجتماعي يتعرف الانسان علىٰ نواحي القوة والضعف في نفسه وسلوكه ، وعلى امكانات خافية أو غير معلومة ، وعلىٰ الأغراض والدوافع التي تقوم وراء سلوكه.

_______________________

(١) نهج البلاغة : ٥٠٦.

(٢) تحف العقول / الحرّاني : ص ٢٢١.

(٣) الكافي / الكليني : ٢ / ٤٥٣.


قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « المرآة التي ينظر الإنسان فيها إلىٰ أخلاقه هي الناس ؛ لأنّه يرىٰ محاسنه من أوليائه منهم ، ومساويه من أعدائه فيهم » (١).

وقال الإمام محمد الجواد عليه‌السلام : « المؤمن يحتاج إلىٰ توفيق من الله وواعظ من نفسه وقبول ممّن ينصحه » (٢).

وقال الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام : « أحبّ اخواني إليّ من أهدىٰ إليّ عيوبي » (٣).

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ » (٤).

والتقييم الاجتماعي قد يكون علنياً أو سرّياً ، وبما أن الإنسان دائماً يعتز بنفسه ورأيه ، فانّه لا يتنازل عن رأيه أو موقفه إلا إذا اطمأنّ انّ الناصح له مخلص في نصيحته ويريد له الصلاح والخير ، وهذا الاطمئنان غالباً ما يتأتىٰ إذا كان الناصح رفيقاً به ينصحه باسلوب شيّق وجذّاب ، أو ينصحه سرّاً لا أمام الناس ، لأنّ النصح أمام الناس كشف للأخطاء وأحياناً يكون إهانة وتشهيراً له ، وبهذا الاُسلوب لا يحقّق المصلح أيّ تقدّم ملحوظ.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « النصح بين الملأ تقريع » (٥).

وقال الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام : « من وعظ أخاه سرّاً فقد زانه ، ومن

_______________________

(١) شرح نهج البلاغة / لابن أبي الحديد : ٢٠ / ٢٧١.

(٢) تحف العقول / الحرّاني : ص ٣٤٠.

(٣) المصدر السابق نفسه : ص ٢٧٣.

(٤) الكافي / الكليني : ٨ / ٢٢.

(٥) شرح نهج البلاغة / لابن أبي الحديد : ٢٠ / ٣٤١.


وعظه علانية فقد شانه » (١).

فالتقييم غير العلني يحفظ للإنسان كرامته ، بل يشعره بأنّ الناصح له مخلص وصادق في نصحه لا يريد خدش كرامته أو ترذيله أو تقبيحه ، وهذا الشعور يسهم في دخول النصيحة إلىٰ العقل والقلب بصورة يتفاعل معها المراد اصلاحه أو تغييره أو تربيته.

وعلى العموم فانّ التقييم الاجتماعي يؤثر في تقييم الإنسان لذاته ، ويؤثر علىٰ ممارساته العملية ، فمثلاً الطفل الذي يسمع من الآخرين ألفاظ جبان أو كذّاب أو سارق قد ينشأ علىٰ تقييم نفسه علىٰ ضوء هذه الألفاظ ، بل قد يصبح بالفعل جباناً أو كذّاباً أو سارقاً كرد فعل للتقييم الخاطئ له ، أو التقييم المتسرع الذي اعتمد علىٰ ظاهرة واحدة أو ممارسة واحدة قد تكون غير مقصودة.



* * *

_______________________

(١) ـ تحف العقول / الحرّاني : ص ٣٦٨.

الفصل الثالث

خصائص المربّين وأساليب التربية

المبحث الأول : خصائص المربّين

مسؤولية التربية من أهم المسؤوليات الملقاة علىٰ عاتق المربّين في حركتهم التكاملية التي رسمها لهم الإسلام ، والإسلام جاء لإنشاء أمة متكاملة تستهدي بنوره وتنطلق لتنظيم شؤونها واصلاح أوضاعها ، لتتربّىٰ الضمائر والأفكار والعواطف والمواقف علىٰ أساس القواعد الكلية التي حدّدها الإسلام ؛ لتكون الروابط إسلامية والأخلاق إسلامية.

والتربية ليس مجرد أوامر ونواهٍ تلقّن أو تصدر للإنسان فيستجيب لها ، وإنما هي عملية تغيير للمحتوىٰ الداخلي للإنسان ، وصياغة جديدة لأفكاره وعواطفه وممارساته ، ولهذا فلابدّ أن يتصف المربّون بصفات وخصائص تؤهلهم لتحقيق مظاهر المسؤولية في الواقع الإنساني والاجتماعي.

ومن أهم مقومات نجاح هذه المسؤولية أن يكون المربّي مخلصاً في مهمته ، متفائلاً بالنجاح ، متعاوناً مع غيره ، مندفعاً ذاتياً بلا انتظار جزاءٍ أو أجرٍ إلّا من الله تعالىٰ ، فهو المعين له في انجاح مسؤوليته.

ويمكن تصنيف خصائص وصفات المربّين إلىٰ : خصائص ذاتية وخصائص عملية.


الخصائص الذاتية للمربّين

أولاً : العلم والمعرفة

ينبغي أن يكون المربي أو المرشد أو الموجّه عالماً بقواعد وأسس المفاهيم والقيم والآداب والموازين المراد تربية الآخرين علىٰ ضوئها ، وأن يكون مطلعاً علىٰ كثير من المعارف المتعلقة بالتربية ، كعلم الأخلاق وعلم النفس وعلم الاجتماع ، والتاريخ وغيرها.

وأن يكون علىٰ معرفة واطلاع اجمالي أو مفصل بالأمور التالية :

١ ـ أحوال وظروف المجتمع الذي يعيش فيه.

٢ ـ خصائص الأفراد من حيث أفكارهم وعواطفهم وممارساتهم العملية.

٣ ـ الأحداث والمواقف والتيارات الناشطة.

٤ ـ تشخيص ما ينبغي أن يعمله تبعاً للظروف من حيث : اللين والشدة ، أو التأني والاسراع.

٥ ـ الفوارق بين بيئة واُخرى وزمان وآخر وقوم وآخرين.

وهذه المعرفة تسهم في الاسراع بانجاح العمل التربوي والاصلاحي ، وعدم المعرفة في جميع أو بعض المجالات تؤدي إلىٰ نتائج سلبية ، ولا توصل المربي أو المصلح إلىٰ تحقيق أهدافه أو تحقيق الثمار الايجابية لعمله وحركته التربوية ، بل قد تبعده عن جميع ذلك.

قال الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام : « العامل علىٰ غير بصيرة كالسائر علىٰ غير الطريق لا تزيده سرعة السير إلّا بعداً » (١).

_______________________

(١) تحف العقول / الحرّاني : ص ٢٦٩.


وعنه عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من عمل علىٰ غير علم كان ما يفسد أكثر ممّا يصلح » (١).

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كحقل تربوي يشترط فيه العلم والمعرفة ، وقد سئل الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أواجب هو علىٰ الأُمّة جميعاً ؟ فقال : « لا » ، فقيل له : ولم ؟ قال : « إنّما هو علىٰ القويّ المطاع ، العالم بالمعروف من المنكر ، لا علىٰ الضعيف الذي لا يهتدي سبيلاً إلىٰ أيّ من أيّ ، يقول من الحق إلىٰ الباطل... » (٢).

وقال عليه‌السلام : « إنّما يأمر بالمعروف وينهىٰ عن المنكر من كانت فيه ثلاث خصال : عالم بما يأمر ، عالم بما ينهىٰ... » (٣).

ومن خلال متابعة سيرة أهل البيت عليهم‌السلام نجد انّهم كانوا يحثّون علىٰ طلب العلم وعلىٰ معرفة أحوال المجتمع وعلى معرفة أحوال المخاطبين لكي يكون المربي قادراً علىٰ النجاح في تحقيق مسؤوليته.

ثانياً : القدوة

الإنسان وخصوصاً في مرحلة الحداثة والطفولة يحاول التشبه بالأشخاص الأكثر حيوية والأشد فاعلية في المجتمع ، ويتعمق التشبه في خلجات نفسه بالتدريج حتىٰ يستحكم في العقل والعاطفة ثم الارادة والسلوك ، والمربي هو من أكثر أفراد المجتمع عرضة للتشبه به ثم تقليده ثم الاقتداء به لأنّه علىٰ علاقة

_______________________

(١) الكافي / الكليني : ١ / ٤٤.

(٢) المصدر السابق نفسه : ٥ / ٦٠.

(٣) تحف العقول / الحرّاني : ص ٢٦٦.


متواصلة مع الناس والأفراد المراد تربيتهم سواء أكان والداً أم والدة أم معلماً أم عالم دين.

وإذا لم يكن المربي قدوة لغيره فإنّ عمله لا يثمر ، ولا يستطيع أن ينفذ إلىٰ القلوب ليوجّهها نحو الاستقامة والصلاح ما دام لا يطابق فعله قوله ، وعمله تصوراته ، حيث لا يبقىٰ لموعظته أيّ أثر ايجابي علىٰ ممارسات وسيرة المراد تربيتهم. قال الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام : « إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلّت موعظته عن القلوب كما يزلّ المطر عن الصفا » (١).

وإذا لم يكن المربي قدوة في سلوكه وسيرته ، فإنّ الناس لا ينتفعون بقوله ورأيه بمعنىٰ انّه لا يؤثر فيهم عملياً. قال الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام : « من لم ينسلخ عن هواجسه ، ولم يتخلص من آفات نفسه وشهواتها ، ولم يهزم الشيطان ، ولم يدخل في كنف الله وأمان عصمته ؛ لا يصلح له الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ لأنه إذا لم يكن بهذه الصفة ، فكلّما أظهر أمراً كان حجّة عليه ، ولا ينتفع الناس به » (٢).

وقد مثّل عليه‌السلام المربي والموجه باليقظان ، فانّ غيره لا يستطيع أن يوقظ الناس لأنه راقد ، فقال عليه‌السلام : « فإنّ مثل الواعظ والمتعظ كاليقظان والراقد ، فمن استيقظ عن رقدته وغفلته ومخالفاته ومعاصيه ، صلح أن يوقظ غيره من ذلك الرقاد » (٣).

وقد دعا عليه‌السلام إلىٰ أن يكون المربي والداعية مجسداً للسلوك الصالح في حركته ،

_______________________

(١) الكافي / الكليني : ١ / ٤٤.

(٢) مستدرك الوسائل / النوري : ١٢ / ٢٠٣.

(٣) المصدر السابق نفسه.


وأن يكون مربياً بسيرته قبل التربية بلسانه ، فقال عليه‌السلام : « كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم ؛ ليروا منكم الورع والاجتهاد والصبر والخير ، فانّ ذلك داعية » (١).

ومن يتغلب علىٰ نفسه فانه قادر علىٰ تربية الآخرين علىٰ التغلب علىٰ نفوسهم الامارة بالسوء ، ومن لم يمت الشر في داخله فانه لا يستطيع أن يميته في صدور الآخرين. قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « احصد الشرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك » (٢).

ودعا عليه‌السلام إلىٰ تجسيد المفاهيم والقيم الصالحة في النفس والارادة والسلوك العملي قبل دعوة الناس إليها ، فقال : « ائتمروا بالمعروف وأمروا به ، وتناهوا عن المنكر وانهوا عنه » (٣).

ويرىٰ عليه‌السلام أنّ من لم يكن قدوة صالحة فهو غاوٍ لغيره إن تبنىٰ مسؤولية التربية أو الدعوة إلى الدين والسيرة الصالحة ، قال عليه‌السلام : « كفىٰ بالمرء غواية أن يأمر الناس بما لا يأتمر به ، وينهاهم عمّا لا ينتهي عنه » (٤).

وقد جسّد أهل البيت عليهم‌السلام دور القدوة في حركتهم لتربية أبنائهم أو تربية الأمة أو تربية الموافقين والمخالفين علىٰ حد سواء ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أيّها الناس ، إنّي والله ما أحثكم علىٰ طاعة إلّا وأسبقكم إليها ، ولا أنهاكم عن معصية إلّا وأتناهىٰ قبلكم عنها » (٥).

_______________________

(١) الكافي / الكليني : ٢ / ٧٨.

(٢) تصنيف غرر الحكم : ص ١٠٦.

(٣) المصدر السابق نفسه : ص ٣٣٢.

(٤) المصدر السابق نفسه : ص ٣٣٣.

(٥) نهج البلاغة : ص ٢٥٠.


وكان أهل البيت عليهم‌السلام قدوة في كلّ شيء ، وكانوا القمة في جميع الفضائل والمحاسن والمكارم ، ولهذا استطاعوا تربية عدد كبير من المسلمين واعدّوهم ليكونوا مربين بدورهم ، فكانوا قمة في الاخلاص لله تعالىٰ ، وقمة في المعرفة ، وفي الشجاعة ، وفي العدالة ، وفي الصدق والأمانة والوفاء بالعهد ، وفي جميع مجالات ومقومات الشخصية في الفكر والعاطفة والسلوك.

ثالثاً : الانصاف والايثار

للانصاف والايثار دور كبير في خلق الأجواء الروحية والنفسية لنمو حركة التربية ، حيث يرتبط الناس روحياً وعاطفياً بمن يتصف بهاتين الصفتين ، ويشعرون بأنّ المربي أو المصلح غاية في الكمال والتسامي ، وانّه عادل في تعامله مع الآخرين وفي تقييمهم ، وانّه يتمتع بالتعالي علىٰ الأطر والمصالح الضيقة والأنانية ، وبهذا الشعور وبهذا الانشداد يمكن التأثير على أفكار وعواطف وممارسات الآخرين ، حيث يجد المربي لرأيه ولارشاده قبولاً ، وهو مقدمة أساسية للتربية والاصلاح.

يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام في هذا الصدد :

١ ـ « المنصف كثير الأولياء والأودّاء ».

٢ ـ « الانصاف يستديم المحبّة ».

٣ ـ « الانصاف يألف القلوب ».

٤ ـ « مع الانصاف تدوم الاُخوة ».

٥ ـ « من عدم انصافه لم يصحب » (١).

_______________________

(١) تصنيف غرر الحكم : ص ٣٩٤ ، ٣٩٥.


والمربي الكثير الأولياء والمحبوب من قبل الآخرين أكثر تأثيراً من غيره ، حيث تتقبل القلوب ارشاداته وتوجيهاته وتسعىٰ لتحقيقها في الواقع في ممارسات عملية.

وحول صفة الايثار قال أمير المؤمنين عليه‌السلام :

١ ـ « غاية المكارم الايثار ».

٢ ـ « بالايثار يسترق الأحرار ».

٣ ـ « بالايثار علىٰ نفسك تملك الرقاب » (١).

والمربي المتصف بالايثار له سلطان روحي وهيمنة عاطفية علىٰ الآخرين وجميع ذلك يؤثر في تقرير المفاهيم والقيم الصالحة في عقول وقلوب وارادة من يراد تربيتهم.

وقد ملك أهل البيت عليهم‌السلام قلوب الناس بالايثار ، واستطاعوا ايصالهم إلىٰ شاطئ السعادة في الدنيا والآخرة بالتزامهم بالنهج القويم الذي أرسىٰ أركانه القرآن الكريم ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام.

رابعاً : الزهد

الزهد في أموال الناس وممتلكاتهم ، والزهد الذاتي في الحياة الدنيا بزينتها وملذاتها يسهم في ازدياد ثقة الناس بالمربي والمبلّغ والداعية ، حيث يشعرون بأنّه لا يرجو من عمله وحركته دنيا ولا جاهاً ، وانما يعمل لذات المسؤولية تقرباً إلىٰ الله تعالىٰ. وبالزهد يكتسب المربي محبة الناس ، وبهذه المحبة يستطيع

_______________________

(١) المصدر السابق نفسه : ص ٣٩٦.


التأثير علىٰ عقولهم وقلوبهم وإراداتهم.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « تحبّب إلىٰ الناس بالزهد فيما بأيديهم ، تقر بالمحبّة منهم » (١).

وقال عليه‌السلام : « الزهد أقلّ ما يوجد ، وأجلّ ما يعهد ، ويمدحه الكلّ ويتركه الجلّ » (٢).

والزهد مفتاح الصلاح للمربي وللمجتمع أجمع ، وهو زين الحكمة ، كما جاء في قول أمير المؤمنين عليه‌السلام : « الزهد مفتاح صلاحٍ » وقال عليه‌السلام : « زين الحكمة الزهد في الدنيا » (٣).

خامساً : البشاشة وطلاقة الوجه ولين الكلام

البشاشة وطلاقة الوجه ولين الكلام من الممارسات المحبوبة عند جميع الناس ، وهي تسهم في جذب الناس وامتلاك عواطفهم ومشاعرهم ؛ لأنّ الناس يتأثرون بالشخص قبل التأثر بالمفاهيم والأفكار ، وهم يقيسون الانسان علىٰ ظاهره قبل باطنه ، فحينما يرونه بشوشاً طليق الوجه لين الكلام فإنهم سيتوجّهون إلىٰ أفكاره ورغباته بشوق وجاذبية.

وفي ذلك قال إمامنا أمير المؤمنين عليه‌السلام :

١ ـ « طلاقة الوجه بالبشر والعطية وفعل البرّ وبذل التحية داعٍ إلىٰ محبّة البرية ».

_______________________

(١) تصنيف غرر الحكم : ص ٤٣٧.

(٢) المصدر السابق نفسه : ص ٢٧٥.

(٣) المصدر السابق نفسه : ص ٢٧٥.


٢ ـ « عليك بالبشاشة فإنّها حبالة المودّة ».

٣ ـ « البشر يطفئ نار المعاندة ».

٤ ـ « البشر يؤنس الرفاق ».

٥ ـ « عوّد لسانك لين الكلام وبذل السّلام يكثر محبّوك ويقلّ مبغضوك ».

٦ ـ « من عذب لسانه كثر اخوانه » (١).

٧ ـ « من لانت كلمته وجبت محبّته » (٢).

٨ ـ « إنّ أحسن ما يألف به الناس قلوب أودائهم ونفوا به الضغن عن قلوب أعدائهم حسن البشر عند لقائهم والتفقّد في غيبتهم والبشاشة بهم عند حضورهم » (٣).

الخصائص العملية للمربين

أولاً : المداراة

يجد المربّي أصنافاً من الناس يختلفون في أعمارهم وأجناسهم ، ويختلفون في طاقاتهم وامكاناتهم الفكرية والعاطفية والسلوكية ، ويختلفون في انتماءاتهم وولاءاتهم الطبقية والقبلية والقومية والطائفية ، ويختلفون في درجات قربهم وبعدهم عن الدين ، ويختلفون في نظرتهم للمربي من حيث الاحترام والتقدير وعدمهما ، ومن حيث الثقة به وعدمها ، وجميع ذلك بحاجة إلىٰ المداراة.

_______________________

(١) تصنيف غرر الحكم : ص ٤٣٤ ، ٤٣٦.

(٢) تحف العقول / الحرّاني : ص ٦٠.

(٣) المصدر السابق نفسه : ص ١٥٢.


ومداراة أفراد المجتمع المتعددين في كل جوانب الشخصية من أولويات العمل والفعالية في أوساطهم لاصلاحهم وتربيتهم ، ولهذا جاءت الروايات لتؤكد علىٰ هذه الظاهرة الجميلة.

عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أمرني ربّي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض » (١).

وعنه عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ثلاث من لم يكنّ فيه لم يتمّ له عمل : ورع يحجزه عن معاصي الله ، وخلق يداري به الناس ، وحلم يردُّ به جهل الجاهل » (٢).

والمداراة كما وصفها أمير المؤمنين عليه‌السلام هي جمال الحكمة ، وسلامة الدين والدنيا ، وأحمد الخلال ، فقال عليه‌السلام :

١ ـ « جمال الحكمة الرفق وحسن المداراة ».

٢ ـ « سلامة الدين والدنيا في مداراة الناس ».

٣ ـ « المداراة أحمد الخلال » (٣).

ومن مصاديق المداراة أن يتحدث المربي بلغة مبسطة واضحة مفهومة من قبل جميع المستويات الفكرية والعلمية ، وأن يتجنب المصطلحات الغامضة والعبارات غير الواضحة التي لا تحقق أي تقدّم في المجال التربوي.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام :

١ ـ « أحسن الكلام ما زانه حسن النظام ، وفهمه الخاص والعام ».

_______________________

(١) الكافي / الكليني : ٢ / ١١٧.

(٢) المصدر السابق نفسه : ص ١١٦.

(٣) تصنيف غرر الحكم : ص ٤٤٥.


٢ ـ « أبلغ البلاغة ما سهل في الصواب مجازه ، وحسن ايجازه ».

٣ ـ « أحسن الكلام ما لا تمجّه الآذان ، ولا يتعب فهمه الأذهان » (١).

ومن المداراة اختصار الكلام وتجنّب الإسهاب المؤدّي إلىٰ الكلل والملل.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « الكلام كالدواء قليله ينفع وكثيره قاتل ».

وقال عليه‌السلام : « أقل المقال ، وقصّر الآمال ، ولا تقل ما يكسبك وزراً وينفر عنك حراً » (٢).

ومن المداراة تجنب الحديث عن الأمور التي لا يتعقلها المراد تربيتهم ولا تتحملها عقولهم.

قال الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام : « رحم الله عبداً اجتر مودة الناس إلينا ، فحدثهم بما يعرفون وترك ما ينكرون » (٣).

وعن محمد بن عبيد قال : دخلت علىٰ الرضا عليه‌السلام فقال لي : « قل للعباسي : يكف عن الكلام في التوحيد وغيره ، ويكلّم الناس بما يعرفون ، ويكفّ عما ينكرون » (٤).

ودخل عليه يونس بن عبد الرحمن فشكا إليه ما يلقىٰ من أصحابه من الوقيعة ، فقال له الإمام الرضا عليه‌السلام : « دارهم فانّ عقولهم لا تبلغ » (٥).

وينبغي أن لا تكون المداراة في ترك الحق كما ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

_______________________

(١) تصنيف غرر الحكم : ص ٢١٠.

(٢) المصدر السابق نفسه : ص ٢١١.

(٣) بحار الأنوار / المجلسي : ٢ / ٦٥.

(٤) التوحيد / الشيخ الصدوق : ص ٩٥.

(٥) رجال الكشي : ص ٤٨٨.


« رأس العقل بعد الايمان بالله مداراة الناس في غير ترك الحق » (١).

ومن مصاديق المداراة مراعاة الدوافع النفسية والعاطفية للانحراف ، وأجواء المنحرف الاجتماعية ، ولذا كان أهل البيت عليهم‌السلام يراعون الضعف البشري عند أصحابهم وعند مخالفيهم ويقابلونه بالمداراة لأنها الكفيلة بتحقيق الأهداف المتوخاة من التربية.

ثانياً : الرفق

من طبيعة الانسان انّه يأنس بآرائه وأفكاره ومواقفه ، ويحرص علىٰ عدم المساس بها لأنها جزء من شخصيته ، ويرىٰ فيها كرامته وكبرياءه ووجوده ، فينبغي لمن يريد أن يتحرك في وسط المجتمع ليربيه أو يصلحه أن يتعامل برفق مع الناس سواء في تخطئة آرائهم وأفكارهم ومواقفهم أو تبيان صحة المفاهيم والقيم المراد تقريرها في نفوسهم وواقعهم.

والرفق صفة محببة لدى الناس وبها تتيسر الصعاب وتسهل الأمور ، ويتفاعل الناس مع المربي والمبلّغ والداعية إلى الله ، كما ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « الرفق ييسّر الصعاب ويسهّل شديد الأسباب ».

وقال عليه‌السلام : « من استعمل الرفق لان له الشديد » (٢).

فبالرفق يتنازل الانسان عن رأيه الخاطئ وعن موقفه الخاطئ ، ويتقبل النصح والارشاد ، بل يتفاعل معه ليصلح نفسه علىٰ ضوء الأسس والمفاهيم المراد تقريرها في الواقع.

_______________________

(١) تحف العقول / الحرّاني : ص ٢٩.

(٢) تصنيف غرر الحكم : ص ٢٤٤.


وقال الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام : « من كان رفيقاً في أمره نال ما يريد من الناس » (١).

والمربي لا يريد من الناس أجراً أو شكراً ، وإنما يريد لهم الخير والسعادة بتربيتهم على أساس الخلق السامي والسلوك السليم ، فهو يريد لهم أن يكونوا صالحين ومصلحين ، فالمصلحة تعود لهم ولمجتمعهم ، فمن الطبيعي أن ينال ما يريده إذا كان رفيقاً معهم.

وجعل الإمام زين العابدين عليه‌السلام الرفق حقاً من حقوق المستنصح ، فقال : « وامّا حق المستنصح ، فإنّ حقّه أن تؤدي إليه النصيحة على الحق الذي ترىٰ له أنه يحمل ويخرج المخرج الذي يلين علىٰ مسامعه ، وتكلمه من الكلام بما يطيقه عقله ، فان لكل عقل طيقه من الكلام يعرفه ويجتنبه ، وليكن مذهبك الرحمة » (٢). وفي رواية اُخرى : « وليكن مذهبك الرحمة والرفق به » (٣).

ومن الرفق عدم التكلّف في طرح الأفكار والمفاهيم ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « قولوا ما قيل لكم ، وسلّموا لما روي لكم ، ولا تَكَلَّفوا ما لم تُكَلَّفوا ، فانّما تبعته عليكم فيما كسبت أيديكم ولفظت ألسنتكم ، أو سبقت إليه غايتكم » (٤).

ومن الرفق كما ورد في أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام ابداء النصيحة بمرونة ويسر

_______________________

(١) الكافي : ٢ / ١٢٠.

(٢) تحف العقول / الحرّاني : ص ١٩٤.

(٣) مكارم الأخلاق / الطبرسي : ص ٤٢٣.

(٤) تحف العقول / الحرّاني : ص ١٠٤.


وبصورة شيقة وجذّابة ، وأن لا يتحدث المربي بما يفزع الناس ويشق عليهم في مسائل عذاب الله تعالىٰ وعذاب القبر ، ومن الأفضل تقديم صفات الرحمة والرأفة والغفران علىٰ صفات الانتقام ، وفي ابداء النصيحة العامة ينبغي عدم ذكر أسماء المنحرفين أمام الملأ ، وأن تكون النصيحة سرّاً.

ومن الرفق مراعاة الأوضاع النفسية للإنسان في مجال العبادة الواجبة والمندوبة ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إنّ للقلوب إقبالاً وإدباراً ، فإذا أقبلت فاحملوها على النوافل ، وإذا أدبرت فاقتصروا بها على الفرائض » (١).

وذكر الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام قصة الكافر الذي أسلم فاصطحبه أحد المسلمين وأثقله بالصلاة وحمّله ما لا يطيق ، فقال له : انصرف عنّي ، فإنّ هذا دين شديد لا أطيقه (٢).

ثالثاً : الاحسان

بالاحسان إلى الآخرين يتمكن المربّي من التأثير علىٰ عواطفهم ، ثم عقولهم ، ثم ممارساتهم ، لأنّ النفس الإنسانية مجبولة علىٰ حبّ من أحسن إليها ، والاحسان يؤدي إلىٰ كسب ودّ الآخرين والسيطرة علىٰ كيانهم فيخضعون لإرادة المحسن ولسلطانه الروحي ، كما ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام :

١ ـ « الاحسان يسترق الانسان ».

٢ ـ « بالاحسان تملك القلوب ».

٣ ـ « سبب المحبة الاحسان ».

_______________________

(١) نهج البلاغة : ٥٣٠.

(٢) الخصال / الشيخ المفيد : ص ٣٥٤.


٤ ـ « عليك بالاحسان فانه أفضل زراعة وأربح بضاعة » (١).

فالاحسان له دور كبير في اصلاح النفوس وتوجيهها نحو الاستقامة ومن ثم التكامل والسمو ، لأنّها ستتوجه إلىٰ المحسن بكل جوارحها ، فيكون له التأثير عليها بالاستهواء ، فتتسارع النفوس للاستجابة لارشاداته قناعة أو حياءً.

وقد استطاع أهل البيت عليهم‌السلام اصلاح الكثيرين بعد الاحسان إليهم ، والأفضل من الاحسان مقابلة الاساءة بالاحسان ، وكانت هذه صفة من صفاتهم عليهم‌السلام.

روى المبرّد وابن عائشة : أنّ شامياً رأى الامام الحسن بن علي عليه‌السلام راكباً فجعل يلعنه ، والحسن لا يرد ، فلما فرغ أقبل الحسن عليه‌السلام فسلّم عليه وضحك ، وقال : « أيها الشيخ أظنك غريباً ، ولعلك شبهت ، فلو استعتبتنا أعتبناك ، ولو سألتنا أعطيناك ، ولو استرشدتنا أرشدناك ، ولو استحملتنا أحملناك ، وإن كنت جائعاً أشبعناك ، وإن كنت عرياناً كسوناك ، وإن كنت محتاجاً أغنيناك ، وإن كنت طريداً آويناك ، وإن كان لك حاجة قضيناها لك ، فلو حركت رحلك إلينا وكنت ضيفنا إلىٰ وقت ارتحالك كان أعود عليك ، لأنّ لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كثيراً ».

فلما سمع الرجل كلامه بكىٰ ثم قال : أشهد انك خليفة الله في أرضه ، الله أعلم حيث يجعل رسالته ، وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إليّ ، والآن أنت أحبّ خلق الله إليّ (٢).

_______________________

(١) تصنيف غرر الحكم : ص ٣٨٥ ، ٣٨٦ ، ٣٨٨.

(٢) بحار الأنوار / المجلسي : ٤٣ / ٣٤٤.


رابعاً : الاختلاط بالناس

من الصفات المهمة للمربي وللمصلح أن يختلط مع الناس ولا ينعزل عنهم ، لأنّ التربية والاصلاح لا تقتصر على إلقاء الخطب في المجالس العامة والخاصة ، وإنما هي حركة وعمل دؤوب في الأوساط الاجتماعية تتطلب مشاركة الناس في آمالهم وآلامهم وأن يعيش المربي معهم كواحد منهم ، يشاركهم في نشاطاتهم وفعالياتهم واحتفالاتهم وأحزانهم ، وهكذا كان أهل البيت عليهم‌السلام في وسط الأمة ، وبهذا استطاعوا تربية واصلاح الكثير من أتباعهم ومخالفيهم.

قال صعصعة بن صوحان يصف أمير المؤمنين عليه‌السلام : ( كان فينا كأحدنا ، لين جانب ، وشدة تواضع ، وسهولة قياد ، وكنّا نهابه مهابة الأسير المربوط للسياف الواقف علىٰ رأسه ). (١)

وقال نافع بن جبير للإمام زين العابدين عليه‌السلام : إنك تجالس قوماً دوناً ، فقال له : « إني أجالس من أنتفع بمجالسته في ديني ». (٢)

وكانت ارشاداتهم لأصحابهم أن يتعايشوا مع غيرهم من المخالفين ، ومن هذه الارشادات ما جاء عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « كونوا لمن انقطعتم إليه زيناً ولا تكونوا عليه شيناً ؛ صلّوا في عشائرهم ، وعودوا مرضاهم ، واشهدوا جنائزهم... ». (٣)

والاختلاط بالمجتمع يسهم مساهمة فعالة في معرفة أحوال وأوضاع الناس

_______________________

(١) شرح نهج البلاغة : ١ / ٢٥.

(٢) مناقب آل أبي طالب : ٤ / ١٧٥.

(٣) الكافي : ٢ / ٢١٩.


المختلفة ، وهي مقدمة للاصلاح والتربية ، ومن تلك الأوضاع والأحوال :

١ ـ معرفة مستويات الناس المراد تربيتهم.

٢ ـ معرفة الصالحين من الطالحين.

٣ ـ معرفة الأسباب والعوامل المساهمة في الانحراف.

ومن هنا يستطيع المربّي أن يمتلك القدرة علىٰ تشخيص الانحراف في بدايته ، وعلى اختيار الاسلوب المناسب للاصلاح والتربية ، والتعاون مع بقية المربّين لوضع البرامج والخطط التربوية المناسبة.

خامساً : الصبر والحلم

إنّ التربية والدعوة إلى الصلاح والاستقامة ( ليست أفكاراً تطرح أو خطابات تلقىٰ ، بل هي مسؤولية كبيرة مليئة بالمصاعب والمشاكل والمعوقات والعراقيل ، لأنّها تصطدم بشهوات النفس ونزواتها ، وتواجه اعتزاز الناس بمفاهيمهم وقيمهم التي أنسوا بها ، وتواجه السلطات المنحرفة التي تريد اشغال الناس بالانحراف عن المنهج القويم ، وتواجه المنحرفين الذين يكرهون الصلاح والصالحين ، ويواجه المربي ضغوطات نفسه التي تروم إلى الراحة والاسترخاء ، والوحشة من طول الطريق وقلة المربين وكثرة المنحرفين ، ويواجه المغريات التي تثنيه عن أداء مسؤوليته.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « المؤمن بين خمس شدائد : مؤمن يحسده ، ومنافق يبغضه ، وكافر يقاتله ، وشيطان يضلّه ، ونفس تنازعه » (١).

_______________________

(١) المحجّة البيضاء / الفيض الكاشاني : ٥ / ١١٥.


وأمام هذه الشدائد لابدّ من الصبر والتحمّل ، فبالصبر يتغلب المربي على جميع المصاعب ، وهو عون له للاستمرار في حركته التربوية بلا تردد ولا تراجع.

وحول أهمية الصبر وآثاره الايجابية قال أمير المؤمنين عليه‌السلام :

١ ـ « الصبر عون علىٰ كل أمر ».

٢ ـ « الصبر كفيل بالظفر ».

٣ ـ « بشر نفسك إذا صبرت بالنجاح والظفر » (١).

وينبغي أن يكون المربي الصابر حليماً حتىٰ ينال احترام وتقدير الآخرين ، ويملك أزمّة قلوبهم ومشاعرهم بحلمه.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام :

١ ـ « بالحلم تكثر الأنصار ».

٢ ـ « بالاحتمال والحلم يكون لك النّاس أنصاراً وأعواناً ».

٣ ـ « ضادّوا الغضب بالحلم تحمدوا عواقبكم في كل أمر » (٢).

سادساً : القدرة علىٰ التقييم الموضوعي

التقييم الموضوعي للأفراد والكيانات الاجتماعية ، يسهم في انجاح الأعمال والنشاطات المتعلقة بمسؤولية التربية والاصلاح والتغيير ، فينبغي لمن تحمّل هذه المسؤولية أن يكون قادراً على التقييم السليم القائم على أسس وموازين سليمة من حيث قربهم وبعدهم عن الاستقامة الفكرية والسلوكية.

_______________________

(١) تصنيف غرر الحكم : ص ٢٨٠ ، ٢٨٣.

(٢) المصدر السابق نفسه : ص ٢٨٧.


والتقييم الموضوعي يسهم في دفع الجانحين للعودة إلىٰ الاستقامة ومن ثمّ التوجّه للتكامل والسمو والوصول إلى القمة في جميع مقومات الشخصية ؛ لأنّه يستنهض الهمم ويستجيش العزائم ليتحول الإنسان من سيء إلىٰ حسن ، ومن حسن إلى أحسن.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « لا يكوننّ المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء ، فإنّ ذلك تزهيد لأهل الاحسان في الاحسان ، وتدريب لأهل الاساءة على الاساءة ، فألزم كلّاً منهم ما ألزم نفسه أدباً منك ينفعه الله به ، وتنفع به أعوانك » (١).

والمساواة في التقييم ، بمعنىٰ عدم التمييز بين المحسن والمسيء ، وبين العامل والمقصّر ، تؤدي إلىٰ تعطيل الطاقات الفعالة المثمرة ، وتميت روح المبادرة ، وتؤدي إلىٰ توقف أو بطء حركة التربية والاصلاح.

ولهذا نجد أهل البيت عليهم‌السلام يصفون أصحابهم بالوصف المناسب لهم من حيث الاخلاص والاستقامة ومن حيث قربهم وبعدهم عن منهجهم عليهم‌السلام ومن حيث ما قدموه من خدمات للدين وللأُمة.

المبحث الثاني : أساليب التربية

أولاً : اُسلوب الخطاب

اُسلوب الخطاب من الأساليب التربوية الشائعة والتي مورست من قبل

_______________________

(١) تحف العقول : ص ٨٧.


جميع التيارات والوجودات والشخصيات ، وقد مارس أهل البيت عليهم‌السلام هذا الاُسلوب في تربية أصحابهم وسائر أبناء المجتمع المسلم ، وسيرتهم حافلة بالخطابات والبيانات التي تخاطب جميع مقومات الشخصية حيث تخاطب العقل والقلب والارادة لتستجيش فيها عناصر الخير والصلاح ، وتطارد عناصر الشر والانحراف ، موجهة الأنظار إلىٰ خالق الكون والحياة والإنسان وإلىٰ رقابته علىٰ سكنات الإنسان وحركاته ، وموجهة العقول والقلوب إلىٰ يوم الحساب ويوم الثواب والعقاب وإلىٰ عذاب القبر ، ومحذرة من مزالق الشيطان والنفس الأمارة بالسوء ، ومحذرة من المغريات التي تستهوي الإنسان ليركن إليها وينشغل باللهث ورائها تاركاً مسؤوليته في الحياة ، وكانت الخطابات توجه العقول والقلوب إلىٰ سنن الله تعالى المتحكمة في الحياة والإنسان وإلىٰ آثار بعض الأعمال الصالحة والطالحة.

والخطاب أهم وسيلة لتحريك العقل الجمعي وتوجيهه نحو الصلاح والاستقامة ، وهو الوسيلة التربوية الموجهة لعدد كبير من الناس فيها اقتصاد في الوقت وتجميع للطاقات.

وقد سنحت الفرصة للإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام لالقاء خطبه بعد بسط اليد له بالبيعة العامة وتسلمه الخلافة ، وكذلك للإمام الحسن وللإمام الحسين عليهما‌السلام ، وبعض الفرص للإمام زين العابدين عليه‌السلام وللإمام جعفر الصادق عليه‌السلام وللإمام علي ابن موسى الرضا عليه‌السلام ، أمّا بقية الأئمة فكانت فرص الخطاب محدودة في كمّها ونوعها حيث كانت مقتصرة على الاتباع والأنصار والمقربين ، حيث ان المنابر العامة كانت بيد أعدائهم ومخالفيهم.

وكان للخطاب الدور الأكبر في كشف حقيقة النظام الأموي بعد اقدامه علىٰ


قتل الإمام الحسين عليه‌السلام وأهل بيته ، وبخطاب الإمام زين العابدين عليه‌السلام في الكوفة والشام والمدينة عاد عدد كبير من المسلمين إلىٰ وعيهم ورشدهم فتبنّوا منهج أهل البيت عليهم‌السلام وعاد الكثير منهم إلى الاستقامة.

وكان المنبر الحسيني وسيلة واسعة لالقاء الخطب والبيانات وتبيان الحقائق والحثّ على الطاعة ، وتبيان مظلومية أهل البيت عليهم‌السلام وكراماتهم وسيرتهم ليقتدي بها الآخرون ، وقد شجع أهل البيت عليهم‌السلام على اقامة مجالس العزاء علىٰ سيّد الشهداء ، وهي مجالس تلقى فيها الخطب سواء أكانت خطباً لأهل البيت عليهم‌السلام أم للعلماء أم للصالحين.

والمتابع لخطابات أهل البيت عليهم‌السلام يجدها خطابات موجزة ومفهومة للسامعين ومتنوعة في مفاهيمها وقيمها.

ثانياً : القصص

القصص بطبيعتها محبّبة لدى الناس ومؤثرة فيهم حيث يتوجهون إليها بعقولهم وقلوبهم ووجدانهم ، يتابعون أحداثها وفصولها ، ويتأثرون بابطالها وشخصياتها ، والقصص تبقىٰ فاعلة في الذهن أكثر من غيرها ؛ لسهولة حفظها وتذكرها ونقلها.

وحول دور القصة في التربية ورد في وصية أمير المؤمنين عليه‌السلام للإمام الحسن عليه‌السلام : « أحي قلبك بالموعظة... وأعرض عليه أخبار الماضين ، وذكّره بما أصاب من كان قبلك من الأولين... انّي وإن لم أكن عمّرت عمر من كان قبلي ، فقد نظرت في أعمالهم ، وفكّرت في أخبارهم ، وسرت في آثارهم ؛ حتىٰ عدت كأحدهم ؛ بل كأنّي بما انتهىٰ إليّ من اُمورهم قد عُمِّرت مع


أوّلهم إلىٰ آخرهم ... » (١).

وللقصة دور في تحريك العقول للتفكر ، والوصول إلى الحقيقة وتجسيدها في ممارسات ومواقف عملية ، وقد حفلت سيرة أهل البيت عليهم‌السلام بتربية أصحابهم عن طريق القصص لما فيها من مفاهيم وقيم متنوعة في مجالات النفس الإنسانية وفي مجالات المجتمع الإنساني ، وقد ذكروا عليهم‌السلام قصصاً عديدة عن تاريخ ومسيرة الأنبياء والأولياء والصالحين ودورهم في الحياة الإنسانية وخصائصهم الحميدة ومواقفهم من الأفراد ومن الوجودات ، وقصصاً عن ايمانهم وعباداتهم وعن أخلاقهم وعلاقاتهم مع الناس ، وعن زهدهم وإيثارهم وصبرهم واحسانهم إلىٰ غير ذلك من الصفات النبيلة.

كما ذكر أهل البيت عليهم‌السلام قصصاً عن الصالحين وعن التائبين وعن مواقف شريفة ونبيلة لكي تؤدي دورها في تربية النفوس والقلوب ، ومن هذه القصص : قصة نقلها الإمام زين العابدين عن امرأة نجت من سفينة فواجهها رجل يقطع الطريق وينتهك الحرمات ، فلم يكلمها حتّىٰ جلس منها مجلس الرجل من المرأة فلما أن همّ بها اضطربت ، فقال لها : ما لك تضطربين ، قالت : أفرق من هذا وأومأت بيدها إلى السماء ، قال : فصنعت من هذا شيئاً ؟ قالت : لا وعزته ، قال : فأنت تفرقين منه هذا الفرق ولم تصنعي من هذا شيئاً وإنّما استكرهتك استكراهاً ، فأنا والله أولىٰ بهذا الفرق والخوف وأحقّ منك ، فقام ولم يحدث شيئاً ورجع إلى أهله وليست له همّة إلّا التوبة والمراجعة. (٢)

وهناك قصص عديدة في جميع أصناف وألوان السلوك والممارسات ذكرها

_______________________

(١) نهج البلاغة : ٣٩٣.

(٢) الكافي / الكليني : ٢ / ٧٠.


أهل البيت عليهم‌السلام في أجواء التربية والاصلاح والارشاد للموالين وللمخالفين.

ثالثاً : الأمثال والتمثيل

استخدم أهل البيت عليهم‌السلام ضرب الأمثال كوسيلة من وسائل التربية في طريق الهداية والاستقامة بالحثّ على الالتزام بمفاهيم وقيم الإسلام.

وضرب الأمثال يقرب المعنى إلىٰ الأذهان ويجعله متحركاً في الضمير والوجدان البشري ، وهو سهل الحفظ والنقل ، وله تأثير محسوس وواقعي علىٰ جميع مقومات الشخصية ، إضافة إلى انّه يضرب باختصار وايجاز ، فلا يصيب المستمع بسماعه مللاً بل يتوجه بكل جوارحه ليستمع إليه.

وقد مثل أمير المؤمنين عليه‌السلام الدنيا بالحيّة فقال : « أما بعد فإنّ مثل الدنيا مثل الحية ، لين مسّها ، قاتل سمّها » (١).

ومثّلها الإمام الصادق عليه‌السلام بماء البحر فقال : « مثل الدنيا كمثل البحر كلما شرب منه العطشان ازداد عطشاً حتىٰ يقتله » (٢).

ومثل الإمام محمد الباقر عليه‌السلام من لم يتبع الأئمة المنصّبين من قبل الله تعالىٰ بالشاة فقال : « كل من دان الله بعبادة يجهد فيها نفسه ولا إمام له من الله ؛ فسعيه غير مقبول ، وهو ضالّ متحيّر ، والله شانئ لأعماله ، ومثله كمثل شاة ضلّت عن راعيها وقطيعها » (٣).

يلحق بضرب الأمثال التمثيل العملي فانه أسرع للانتقال من لسان

_______________________

(١) شرح نهج البلاغة : ١٨ / ٦٨.

(٢) الكافي / الكليني : ٢ / ١٣٦.

(٣) الكافي / الكليني : ١ / ٣٧٥.


لآخر ، ومن محفل لآخر. عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام قال : « ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نزل بأرض قرعاء ، فقال لأصحابه : ائتوا بحطب ، فقالوا : يا رسول الله نحن بأرض قرعاء ما بها من حطب ، قال : فليأت كل انسان بما قدر عليه ، فجاءوا به حتىٰ رموا بين يديه ، بعضه علىٰ بعض ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هكذا تجتمع الذنوب ».

ثم قال : « إيّاكم والمحقّرات من الذنوب ، فإنّ لكلّ شيء طالباً ، ألا وإنّ طالبها يكتب ما قدّموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين » (١).

رابعاً : العبرة والموعظة

يتخذ أهل البيت عليهم‌السلام من العبرة والموعظة وسيلة تربوية لتنوير العقل والقلب ، واستخلاص المفاهيم والقيم الكامنة وراء المواقف والحوادث ،  وبالعبرة والموعظة يعي الإنسان حركة الحياة من حيث الشدة والرخاء ، وأسباب التقدم والتأخر للمجتمعات والحضارات ، وبالعبرة والموعظة يقلع الإنسان عن الممارسات المنحرفة ، ثم يتوجه لاصلاح نفسه لتسمو وتتكامل.

وقد ورد في ( نهج البلاغة ) الكثير حول الاعتبار بالأنبياء والصالحين ، وبالأقوام السالفة ، والاعتبار بما أصاب الأقوام المتمردة علىٰ طول التاريخ ، والتذكير بالموت والهلاك ، والنعيم والعذاب الخالد ، والتذكير بما أصاب الأمم المتمردة من قلق واضطراب ومن نقص في الثمرات والأنفس ، والتذكير بما تنعمت به الأمم الصالحة من نعم وخيرات.

_______________________

(١) الكافي / الكليني : ٢ / ٢٨٨.


ومواعظ أهل البيت عليهم‌السلام لا تعد ولا تحصىٰ ، وكان لها دور ملموس في تربية أصحابهم ومخالفيهم.

خامساً : الاقتداء

الاقتداء وسيلة هامة من وسائل التربية ، لأنّ الناس يتأثرون بمن يقتدون به ، وغالباً ما يكون القدوة من الطبقات العليا في المجتمع كالرؤساء والقادة وعلماء الدين أو من السلف المتقدّمين ، وأهل الكرامة وأهل القدوة يكرمهم الناس وهم الذين ( يقتدي بهم عامة الشعب ) (١).

والاقتداء بالأسلاف ( أكثر من الاقتداء بالطبقة العليا ) (٢) ، لأن الناس يتأثرون بالتراث الفكري والسلوكي لأسلافهم ، وخير اُسلوب لتعميق الاقتداء هو التوجيه المستمر والترويج المتزايد لسيرة الأسلاف وممارساتهم العملية ، وهذا ما أكّد عليه أئمة أهل البيت عليهم‌السلام في منهجهم التربوي.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « اقتدوا بهدىٰ نبيكم فانّه أصدق الهدىٰ ، واستنّوا بسنّته فانها أهدى السنن ».

وقال عليه‌السلام : « طوبىٰ لمن عمل بسنّة الدين ، واقتفىٰ آثار النبيين » (٣).

وقال عليه‌السلام : « انظروا أهل بيت نبيكم فالزموا سمتهم واتبعوا أثرهم ، فلن يخرجوكم من هدىً ، ولن يعيدوكم في ردىً ، فإن لبدوا فالبدوا ، وإن نهضوا فانهضوا ، ولا تسبقوهم فتضلّوا ، ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا » (٤).

_______________________

(١) علم الاجتماع / لنقولا الحداد : ص ١٤٠.

(٢) المصدر السابق نفسه : ص ١٤٦.

(٣) تصنيف غرر الحكم : ص ١١٠.

(٤) نهج البلاغة : ص ١٤٣.


وأكّد الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام على الاقتداء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبأهل البيت عليهم‌السلام فقال : « عليكم بآثار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسنّته وآثار الأئمة الهداة من أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بعده وسنتهم ، فانه من أخذ بذلك فقد اهتدىٰ ، ومن ترك ذلك ورغب عنه ضلّ » (١).

والتربية بالقدوة مقدمة على التربية بالقول أو الخطاب أو الموعظة ، ولهذا أكد أهل البيت عليهم‌السلام على المربي أن يكون قدوة ، وأن يربي الناس بالاقتداء به.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « من نصّب نفسه للناس إماماً ، فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه » (٢).

وقال الامام جعفر الصادق عليه‌السلام : « رحم الله قوماً كانوا سراجاً ومناراً ؛ كانوا دعاة إلينا بأعمالهم ومجهود طاقاتهم » (٣).

سادساً : الحوار

الحوار من الوسائل المعمول بها في التربية والاصلاح ، فبه يطرح الإنسان متبنياته الفكرية والعاطفية والسلوكية ويرد علىٰ شبهات المحاورين ، ويطرح الأدلة والبراهين ويجيب على حجج المقابل.

وبالحوار يتمكن المحاور من معرفة الآخرين على المستوىٰ الفكري والعاطفي والسلوكي ، ويتعرف علىٰ نقاط القوة والضعف في شخصياتهم ، ويتفهم مشكلاتهم بعمق ويعيش تجربتهم بكل جوانبها ، ويتعرف علىٰ مستوى التطور

_______________________

(١) الكافي / الكليني : ٨ / ٨.

(٢) شرح نهج البلاغة / لابن أبي الحديد : ١٨ / ٢٢٠.

(٣) تحف العقول / الحرّاني : ص ٢٢١.


الطارئ أثناء وبعد الحوار ، وعلى ضوء هذه المعرفة يستطيع أن يضع لكل فرد الأسس والقواعد المناسبة لتوجيهه.

وقد استخدم أهل البيت عليهم‌السلام الحوار كوسيلة لاثبات حقهم في الإمامة ودورهم الريادي في الأُمة ، ولاثبات المفاهيم والقيم الصالحة كأُسس للتعامل وللتقييم ، وكانوا يحاورون مخالفيهم وأنصارهم حول مختلف القضايا والأمور وفي جميع مجالات العقيدة والشريعة ، فقد احتجّ الإمام أمير المؤمنين على أبي بكر وعمر وعثمان حول امامته ودوره الرسالي في الاُمة ، وناظر طلحة والزبير حينما خرجا عليه ، وحاور الخوارج ، وكانت للإمام الحسن عليه‌السلام حوارات مع معاوية وعمرو بن العاص ، ومع أتباعه وأنصاره ، وكذا الحال في سائر الأئمة عليهم‌السلام  ، وكانوا عليهم‌السلام يشجعون أنصارهم وأتباعهم على الحوار للوصول إلىٰ الحقيقة انطلاقاً من نقاط الاشتراك ، وكانوا يثنون علىٰ من يتمكّن من الحوار مع الآخرين من أصحابهم.

سابعاً : الأساليب المتداخلة

من الأساليب المتداخلة : المراسلة والشعر ، وهما متداخلان مع بقية الأساليب التربوية ، ولأهميتهما كان أهل البيت عليهم‌السلام يستخدمونهما في لغة التعبير ، لأنّ الحكمة والعبرة والموعظة والنصيحة تحقق غاياتها كلما كان الاُسلوب شيّقاً وجذّاباً.

١ ـ المراسلة

كانت لأهل البيت عليهم‌السلام مراسلات مع مواليهم ومخالفيهم ، فيها الكثير من الارشادات والنصائح والأوامر والمواعظ ، وقد حقّقت نتائج ملحوظة في حركة


التربية ، ونكتفي هنا بذكر بعض المراسلات الموجزة :

كتب أمير المؤمنين عليه‌السلام إلىٰ عبدالله بن العباس : « أمّا بعد ، فإنّك لست بسابقٍ أجلك ، ولا مرزوق ما ليس لك ، واعلم بأنّ الدّهر يومان : يوم لك ويوم عليك ، وأنّ الدنيا دار دول ، فما كان منها لك أتاك علىٰ ضعفك ، وما كان منها عليك لم تدفعه بقوّتك » (١).

وكتب رجل للإمام الحسين عليه‌السلام : عظني بحرفين ، فكتب إليه : « من حاول أمراً بمعصية الله كان أفوت لما يرجو وأسرع لمجيء ما يحذر » (٢).

وعن علي بن سويد ، عن أبي الحسن موسىٰ عليه‌السلام قال : سألته عن الضعفاء ، فكتب إليّ : « الضعيف من لم ترفع إليه حجّة ولم يعرف الاختلاف ، فاذا عرف الاختلاف فليس بمستضعف » (٣).

٢ ـ الشعر

الشعر له دور في التربية والتوجيه والتثقيف عند جميع الاُمم وفي جميع الحضارات ، وله دور في تحريك العقول والقلوب والضمائر ، وقد دلّت التجارب والدراسات علىٰ ذلك.

وأهل البيت عليهم‌السلام كمربّين لم يغفلوا اُسلوب الشعر في الجانب التربوي ، فقد تمثّلوا بأشعار كثيرة في الموعظة والارشاد ، ورويت لهم بعض الأشعار الموجزة المعبّرة عن المفاهيم والقيم الصالحة ، نكتفي بذكر نماذج منها :

فمن الشعر المنسوب إلىٰ أمير المؤمنين عليه‌السلام :

_______________________

(١) نهج البلاغة : ٤٦٢.

(٢) الكافي / الكليني : ٢ / ٢٧٣.

(٣) المصدر السابق نفسه : ص ٤٠٦.


وأفضل قَسْـم الله لـلمرء عـقله

فليـس من الخيـرات شيء يـقاربه

إذا أكمل الرحمن لـلمرء عـقله

فقد كـمـلت أخـلاقـه ومآربه

يعيش الفتىٰ في الناس بالعقل انّه

على العقل يجري علمه وتجاربه (١)

وقال عليه‌السلام :

ومن يصحب الدنيا يكن مثل قابض

على الماء خانته فروج الأصابع (٢)

* * *

ومن الشعر المنسوب إلى الإمام زين العابدين عليه‌السلام :

تخرّب مـا يبقىٰ وتـعمـر فانياً

فـلا ذاك موفـور ولا ذاك عامـر

أترضىٰ بأن تفنىٰ الحياة وتنقضي

ودينـك منقوص ومالك وافـر (٣)

* * *

نُراعُ إذا الـجنـائـز قـابـلتـنا

ونلهـو حيـن تمـضي ذاهبـات

كروعـة ثـلـة لـمغـار سبـعٍ

فلما غاب عـادت راتـعـات (٤)

* * *

ومن الشعر المنسوب للإمام جعفر الصادق عليه‌السلام :

يموت الفتـىٰ من عثرة بلسانـه

وليس يموت المرء من عثرة الرّجل

فعثرته من فيـه ترمـي برأسـه

وعثرته بالرجل تبرأ علىٰ مهل (٥)

_______________________

(١) ديوان الإمام علي : ص ٣٧.

(٢) ديوان الإمام علي : ص ١٩٤.

(٣) و (٤) مختصر تاريخ دمشق / لابن منظور : ١٧ / ٢٥٤ ، ٢٥٦.

(٥) العقد الفريد / لابن عبد ربّه : ٢ / ٣٠٣.


* * *

ومن الشعر المنسوب للإمام علي الرضا عليه‌السلام :

إني ليهجـرني الصـديق تجنّبا

فأريـه أن لهـجره أسـبابا

وأراه إن عـاتبته أغـريته

فأرىٰ له تـرك العـتاب عـتابا

وإذا بـليت بجاهل مـتحكّم

يجـد المحال من الاُمـور صـوابا

أوليتـه مـني السكـوت وربما

كان السكوت عن الجواب جوابا (١)

* * *

واُدخل الإمام علي الهادي عليه‌السلام علىٰ المتوكل والكأس في يده ، فلما رآه هابه وعظّمه وأجلسه إلىٰ جانبه... وقال له : أنشدني شعراً ، فقال الإمام عليه‌السلام : أنا قليل الرواية للشعر ، ثمّ أنشده :

باتوا علىٰ قلل الأجبال تحرسهم

غلـب الرجال فما أغنتهم القلـل

واستنزلوا بعد عزّ عن معاقلهـم

واُسكنوا حفراً يا بئس ما نـزلـوا

ناداهم صارخ من بعد دفنهـم

أين الأساور والتيجـان والحلـل

أين الوجوه التي كانت منعّمـة

من دونها تُضرب الأستـار والكلل

فأفصح القبر عنهم حين ساءلهـم

تلك الوجوه عليها الـدود يقتـتل

قـد طال ما أكلوا دهراً وما شربوا

فأصبحوا بعد طول الأكل قد اُكلوا

فبكى المتوكل حتىٰ بلّت لحيته دموع عينه وبكى الحاضرون (٢).

* * *

_______________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام / الشيخ الصدوق : ٢ / ١٧٥.

(٢) تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي : ص ٣٢٣.

الفصل الرابع

مميّزات المنهج التربوي عند أهل البيت عليهم‌السلام

اختصّ منهج أهل البيت عليهم‌السلام بخصائص امتاز بها عن غيره من المناهج ، وهي تعتبر الحجر الأساس في بناء الشخصية لمن يلتزم بها ، ومن أهمها :

١ ـ ربانيّة المنهج التربوي

أهل البيت عليهم‌السلام عنوان مضيء في حياة الإنسانية ، وعنوان شامخ في حركة التاريخ والمسيرة الإنسانية ، وهم أعلام الهدىٰ وقدوة المتقين ، عُرفوا بالعلم والحكمة والإخلاص والوفاء والصدق والحلم وسائر صفات الكمال في الشخصية الإسلامية ، فكانوا قدوة المسلمين ورواد الحركة الاصلاحية والتغييرية في المسيرة الإسلامية ، وكان لهم مقامهم الكريم ودورهم السامي عند الفقهاء والمفسرين والرواة والمؤرخين والأدباء والشعراء ، وعند العابدين والزاهدين والأولياء.

وأهل البيت عليهم‌السلام عدل القرآن وهم القرآن الناطق المتحرك وقد تظافرت وتواترت الروايات علىٰ اثبات هذا المقام ، ففي رواية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : « يا أيّها الناس إنّي قد تركت فيكم ما إن اخذتم به لن تضلّوا : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي » (١).

_______________________

(١) سنن الترمذي : ٥ / ٦٢٢.


وفي رواية اُخرى أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « إنّي تارك فيكم خليفتين ، كتاب الله... وعترتي أهل بيتي ، وإنّهما لن يتفرقا حتىٰ يردا عليّ الحوض » (١).

ومثّل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهل البيت عليهم‌السلام بسفينة نوح فقال : « ألا إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح... من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق » (٢).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس » (٣).

ووصفهم أمير المؤمنين عليه‌السلام قائلاً : « هم عيش العلم وموت الجهل ؛ يخبركم حلمهم عن علمهم ، وظاهرهم عن باطنهم ، وصمتهم عن حكم منطقهم ؛ لا يخالفون الحق ولا يختلفون فيه ، وهم دعائم الإسلام وولائج الاعتصام ، بهم عاد الحقّ إلىٰ نصابه... عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية لا عقل سماعٍ ورواية » (٤).

وقال عليه‌السلام : « نحن النمرقة الوسطىٰ ؛ بها يلحق التالي ، وإليها يرجع الغالي » (٥).

_______________________

(١) مسند أحمد بن حنبل : ٦ / ٢٣٢ ، مجمع الزوائد / الهيثمي : ٩ / ١٦٣.

(٢) المستدرك على الصحيحين / الحاكم : ٣ / ١٥١ ، مجمع الزوائد / الهيثمي : ٩ / ١٦٨ ، الجامع الصغير / السيوطي : ٢ / ٥٣٣.

(٣) المستدرك على الصحيحين / الحاكم : ٣ / ١٤٩ ، الصواعق المحرقة / ابن حجر : ص ٢٣٤.

(٤) نهج البلاغة : ص ٣٥٧ ، ٣٥٨.

(٥) نهج البلاغة : ص ٤٨٨.


وهذه الأحاديث تدل دلالة واضحة علىٰ عصمة أهل البيت عليهم‌السلام بمعنىٰ اندكاكهم الكامل بالقرآن فلا افتراق ولا اختلاف عنه ، فما يصدر منهم صادر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الله تعالى ، وبعبارة اُخرىٰ انّ منهجهم هو منهج الله تعالىٰ ، ولهذا يصح القول بأنّ منهجهم ربانيّ ، كما تدلّ أحاديثهم الشريفة على ذلك أيضاً.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أدّبه الله وهو أدّبني ، وأنا أؤدّب المؤمنين ، وأورث الآداب المكرمين » (١).

وقال الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام : « والله ما نقول بأهوائنا ، ولا نقول برأينا ، ولا نقول إلّا ما قال ربّنا » (٢).

وقال عليه‌السلام : « لو كنّا نحدث الناس أو حدّثناهم برأينا لكنّا من الهالكين ، ولكنّا نحدّثهم بآثار عندنا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » (٣).

وسأله رجل عن مسألة فأجابه فيها ، فقال الرجل : أرأيت إن كان كذا وكذا ما يكون القول فيها ؟ قال له : « مه ، ما أجبتك فيه من شيء فهو عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لسنا من ( أرأيت ) في شيء » (٤).

ووضّح عليه‌السلام سلسلة الحديث ومصادرها فأرجعها إلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلى الله تعالى فقال : « حديثي حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدّي ، وحديث جدّي حديث الحسين ، وحديث الحسين حديث الحسن ، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين ، وحديث أمير المؤمنين حديث

_______________________

(١) تحف العقول / الحرّاني : ص ١١٤.

(٢) و (٣) بحار الأنوار / المجلسي : ٢ / ١٧٣.

(٤) الكافي : ١ / ٥٨.


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحديث رسول الله قول الله عزّوجلّ » (١).

وعن سماعة عن أبي الحسن موسىٰ عليه‌السلام قال : قلت له : أكلُّ شيء في كتاب الله وسنة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ أو تقولون فيه ؟ قال : « بل كلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيّه » (٢).

وعلى ضوء ما تقدّم يمكن القول : ان منهج أهل البيت عليهم‌السلام التربوي هو منهج رباني بمعنى انه موضوع من قبل ربّ الانسان وخالقه وليس من وضع الانسان ، فقد وضعه من له احاطة تامة بالعالم كلّه وبالأرض كلّها وبالناس كلّهم ؛ يعلم سكنات النفس وما تخفي الصدور ، وهو سبحانه وتعالىٰ أودع الغرائز والرغبات في الإنسان ، ولذلك فهو أعلم بكيفية اشباعها وبكيفية التوازن بينها ، فيكون المنهج التربوي الموضوع من قبله تعالىٰ كاملاً لا نقص فيه ولا ضعف ، فيستجيب له الانسان مطمئناً بأنّه المنهج الأمثل في التربية ، أمّا المناهج الوضعية فهي صادرة من البشر الذي يتصف بالضعف وعدم الاحاطة التامة بالحياة ، ويتصف بمحدودية فكره وكثرة أخطائه اضافة إلىٰ تحكم الأهواء به ، فتكون ناقصة وقابلة للتبدّل والتغيّر لتغيّر آراء وتصورات واضعيها.

والإنسان بانتسابه إلىٰ العقيدة الربانية يرىٰ نفسه مرتبطاً بالمطلق العليم الحكيم المهيمن ، وهذه الرؤية تجعله مرتبطاً بغاية وهدف ، فلا عبث ولا لهو ؛ بل تكون جميع أفكاره وعواطفه وإرادته متجهة نحو المطلق ، ويستتبعها سلوكه في نفس الاتجاه ، فيبتعد الإنسان عن التخبّط والتغيّر السلبي والمزاجية والتمزّق والصراع النفسي ، ويستقيم علىٰ منهج واحد في عقيدته وعواطفه وسلوكه.

_______________________

(١) الكافي : ١ / ٥٣.

(٢) المصدر السابق نفسه : ١ / ٦٢.


والربانية تزرع في نفس الانسان حالة التقديس للمنهج التربوي ، لأنّه يشعر بأنّه موضوع من قبل المطلق العليم ، أو من قبل شخصيات شهد القرآن ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعصمتها ، وهذا التقديس يشجع الانسان ويدفعه إلى العمل الدؤوب لتطبيق قواعد المنهج في نفسه واُسرته ومجتمعه. ثم ان الارتباط بالله تعالىٰ يدفع الانسان للارتباط بكل ما يريده ربّه ، فيرتبط بالقرآن وما فيه من مقومات تربوية ، وبالعبادات وما فيها من قيم روحية والالتقاء بالصالحين ، والارتباط بالعلماء. وارتباط العبد بخالقه يحقّق الاستقامة في السلوك بعد شفاء الانسان من الوسوسة والقلق والاضطراب ؛ فيطمئن ويستشعر الحماية والأمن ، ويكون شفاءً من الأمراض السلوكية والاجتماعية.

وقد أثبت منهج أهل البيت عليهم‌السلام التربوي قدرته علىٰ بناء الانسان بناءً متكاملاً ، فقد تخرج علىٰ هذا المنهج مئات الشخصيات التي كانت قمة في السمو الروحي والتكامل النفسي والسلوكي ، وقدوة لجميع بني الانسان لاستشعارها بأن المنهج ربانيّ النشأة وربانيّ المصدر ، وبعد أن واكبت تعاليمه وارشاداته وقواعده منذ بداية الحياة الزوجية باختيار شريك الحياة المتديّن الصالح ، ومروراً بمرحلة الحمل والطفولة بجميع مراحلها ، وكانت تلك الشخصيات قدوة لجميع بني الإنسان.

وعلى الرغم من ابتعاد أغلب المسلمين عن المنهج التربوي لأهل البيت في تصوراتهم وممارساتهم إلّا أنّ آثاره بقيت حاكمة علىٰ كثيرٍ من المواقف والممارسات ، وكان المسلمون وخصوصاً أتباع أهل البيت عليهم‌السلام أقل انحرافاً وانحطاطاً من غيرهم من أصحاب الديانات الإلهية المحرّفة أو الوضعية ، ولا تزال كثير من العلاقات الاجتماعية قائمة على أسس صحيحة تحت تأثير ذلك


المنهج ولو قدر للإسلام أن يبقىٰ في دوره الريادي دون اقصائه من قبل المحتلّين والغزاة لانتهى الانحراف وانحسر في دائرة ضيقة.

وفي مقابل ذلك نرىٰ أنّ المناهج الوضعية في التربية لم تحقّق إلّا مزيداً من الانحراف النفسي والسلوكي ، حيث القلق والاضطراب في النفس والانحراف في السلوك الفردي والاجتماعي ، وكان من آثاره كثرة الجرائم وكثرة الفساد وبالتالي فقدان الأمن والاطمئنان ، وفيما يلي نذكر بعض الاحصائيات في ذلك.

في نيويورك وحدها يوجد أكثر من ٣٠٠ ألف مدمن على المخدرات ، وهؤلاء يحتاجون يومياً إلىٰ ( ٥٠ ـ ١٠٠ ) دولار لكل شخص لتأمين الهيروئين لأنفسهم ، وإن إحصاءات الجرائم في نيويورك تدل على انها بلغت ٣٦٨ ألف جريمة خلال العشرة أشهر الأولىٰ من عام ١٩٧٢ من أمثال القتل ، والاغتصاب ، والهجوم المسلح (١).

وفي عام ١٩٩١ بلغ عدد جرائم القتل إلىٰ ٢٤٠٠٢٠ جريمة ، وقد ازداد العدد في عام ١٩٩٢ (٢).

وتشير الاحصائيات إلىٰ ٩٦٣ حالة اغتصاب في الولايات المتحدة في أوائل التسعينات ، علماً أنّ الاباحية الجنسية منتشرة والسلوك الجنسي سهل الاشباع.

وفي مجال جرائم القتل العائلية أفادت دراسة لوزارة العدل الأمريكية في ١٠ تموز ١٩٩٤ أنّ ٨٠% من ضحايا القتل قتلوا بأيدي أفراد من عائلاتهم.

_______________________

(١) الأفكار والرغبات بين الشيوخ والشباب / محمد تقي فلسفي : ١ / ١٨٦ ، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ، بيروت ، ط ١ ، ١٤١٥ ه‍.

(٢) مجلة نور الإسلام : ٤٣ / ٩٦.


وفي عام ١٩٩٥ أعلنت وزارة الداخلية البريطانية أن نسبة الجريمة في انجلترا وويلز ارتفعت للمرة الأولىٰ في عامين ، وكانت أكبر زيادة في جرائم العنف والاعتداء والاغتصاب (١).

وأظهرت دراسة نشرها مركز مراقبة الأمراض والوقاية منها انّ نسبة جرائم قتل الأطفال الأمريكيين في عام ١٩٩٥ بلغت ٢٥٧ طفلاً بين كل مائة ألف ، وبلغت نسبة الانتحار بين الأطفال دون الخامسة عشرة ٥٥ بين كل مائة ألف (٢).

وأكدت منظمة الصحة العالمية أنّ حوالي مائة مليون من أطفال الشوارع حديثي السن يتعاطون الخمر والمخدرات وأنّ وضعهم يدعو إلى القلق.

ودلّت الاحصائيات علىٰ أنّ عدداً كبيراً من فتيات تحت سن الخامسة عشرة تظهر عليهنّ آثار الحمل كل شهر ، وبما أنّ الأطباء يخشون القيام باسقاط الجنين لصغر سنهن فانهنّ يصبحن أمهات ، ويزداد طلب اجراء عملية الاجهاض يوماً بعد يوم من المستوصفات الأمريكية (٣).

وفي احصائية اقيمت سنة ١٩٨٥ دلّت علىٰ انّ طفلاً واحداً من بين كل ستّة أطفال يولدون بصورة غير شرعية في بريطانيا ، وقد ارتفع عدد حالات الاغتصاب بنسبة ٢٧% خلال الستة شهور من سنة ١٩٨٥ (٤).

ودلّت الاحصائيات الأخيرة علىٰ قبول الناس لفكرة الانجاب غير الشرعي

_______________________

(١) العنف والجريمة / د. جليل وديع مشكور : ص ١٣ و ١٨ ، الدار العربية للعلوم ، بيروت ، ١٤١٨ ه‍.

(٢) صحيفة كيهان ، العدد ٣٨٧٦.

(٣) الأفكار والرغبات : ١ / ١٨٠.

(٤) الإسلام دين البشرية : ص ٦٢.


للأطفال ، وأكدت علىٰ أنّ ٣٤% من الأطفال الذين ولدوا أحياء في انگلترا وويلز عام ١٩٩٥ ولدوا سفاحاً دون زواج (١).

وأشارت التقارير إلىٰ وجود نصف مليون شابة يمارسن الدعارة في مدينة ساوباولو البرازيلية في عام ١٩٩٦ ، وأنّ أطفالاً بين سن السابعة والثامنة يعيشون من ممارسة الدعارة ، وأنّ موسكو تعاني من وجود أكثر من ألف طفل يتاجرون ببيع أجسادهم ، ودلّت أيضاً علىٰ وجود ثماني مئة ألف من البغايا الأطفال في تايلند ، وأربعمئة ألف في الهند وستون ألف في الفيليبين ، كما ظهرت مراكز دولية جديدة لبغاء الأطفال في فيتنام وكمبوديا ولاوس والصين ، وفي تقرير آخر أشار إلى أنّ أكثر من ٥٠% من البغايا الأطفال في تايلند مصابات بفيروس الآيدز (٢).

وفي تموز عام ١٩٩٧ تظاهر نحو ٦٠ ألفاً من الشواذ جنسياً في شوارع لندن علىٰ غرار ما يفعلون سنوياً للمطالبة بحقوقهم ، وجرىٰ لأول مرة في سويسرا حفل زواج لشابين شاذين جنسياً في كنيسة بروتستانتية بمنطقة برن.

وفي شباط ١٩٩٥ دعا البرلمان الأوروبي في قرار الدول الأعضاء إلىٰ منح الشاذين جنسياً الحقوق والواجبات نفسها التي يتمتع بها الأزواج العاديون (٣).

٢ ـ شمولية المنهج التربوي

يمتاز منهج أهل البيت عليهم‌السلام التربوي بالشمول ، فهو يراعي الانسان في جميع

_______________________

(١) مجلة نور الإسلام : ٦٥ / ٩٦.

(٢) الطفولة المنحرفة : ص ١٠٦ و ١٠٨.

(٣) مجلة نور الإسلام : ٥٩ / ٨٦.


مقوماته ، وينظر إليه من جميع جوانبه ، فهو مخلوق مزدوج الطبيعة روح وعقل وغرائز ، وجسد متعدد الجوارح ، وهو موضوع للانسان ككل فلا انفصال بين حاجات الجسد وحاجات الروح ، فهو يدعو إلى اشباع حاجات الانسان لكي يتقبل ما يلقى إليه من قواعد وأسس تربوية وتوجيهية وارشادية.

والمنهج التربوي لأهل البيت عليهم‌السلام يواكب حركة الانسان في جميع مراحلها ابتداءً باختيار شريك الحياة المناسب مروراً بمرحلة الاقتران وانعقاد الجنين ومراحل الطفولة الأخرىٰ ، ويضع لكل مرحلة تعاليم وتوجيهات منسجمة مع عمر الطفل الزمني والعقلي ، ومع حاجاته المادية والروحية ، ثم تأتي التكاليف حينما يصل الطفل إلىٰ مرحلة من النضج الجسدي والعقلي ؛ لتكون هي الموجهة له في حركته الواقعية في الحياة.

والمنهج لا يقتصر علىٰ تعاليم وارشادات خاصة في مجال معين بل انها شاملة لجميع المجالات ، وكل ما يسهم في تربية الانسان بشكل أو بآخر ، حيث يبدأ المنهج بربط الانسان وخصوصاً في مرحلة الطفولة بالمفاهيم والتصورات الإسلامية الأساسية ، كالايمان بالله تعالىٰ ، وبالثواب والعقاب ، وذكر الله عن طريق قراءة القرآن والدعاء والعبادة ، وذكر الموت ، والرضا بالقضاء.

والمنهج يتدخل في جميع المؤثرات التربوية ، فيدعو إلى اصلاح المحيط التربوي المتمثل بالأسرة والأصدقاء وحلقات الذكر والمسجد والعلماء وأجهزة الدولة.

ولا يقتصر المنهج على القاء التعاليم والارشادات ، بل يدعو إلى خلق الأجواء السليمة التي تسهم في تطبيق تفاصيل المنهج ، وهي تعميق المودة داخل الأسرة ، ومراعاة الحقوق والواجبات ، وتجنّب المشاكل والخلافات ،


واشباع حاجات الطفل إلى الحب والحنان والتكريم واشعاره بذاته ، واشباع حاجاته إلى الرفاهية وإلى اللعب وإلى الحرية وإلى السلطة الضاغطة الموجهة.

والمنهج التربوي شامل في استخدام أساليب اللين والشدة ومراعاة الحقوق والواجبات ، وهو شامل لمعرفة الأفكار وتنميتها ، وتنمية العواطف ، وتنمية الارادة ، وتربية السلوك ، ويتصاعد المنهج التربوي بتكثيف التربية والتمرين على الطاعات المختلفة حسب القدرة ودرجة التلقي وتفاوت الأعمار.

وحينما تصطدم حاجات الانسان بالواقع ويحرم من تحقيق بعضها بسبب الظروف النفسية أو الاجتماعية ، يضع المنهج التربوي برنامجاً لمقاومة حالات التصدع النفسي في شخصية الإنسان ، ومعالجة الأمراض النفسية والروحية وهي في مهدها ، ومن مصاديق هذا البرنامج الدعوة إلى الصبر لأنه سلاح المؤمن في مقاومة العقبات والهموم والآلام ، وبه يتغلب علىٰ جميع أثقال الحياة من جوع ومرض وفقر وحرمان ومن اضطهاد وظلم ، والصبر له تأثيرات ايجابية علىٰ الصحة النفسية ، والإنسان الذي يقابل الحرمان والهموم والآلام بالصبر والثبات سيكون مطمئناً مستقراً ؛ لإيمانه بأنّ الله معه يحرسه ويرعاه ويتلطّف عليه ، ويفرّج عنه الضيق والشدّة.

والصابر يكون في أعلىٰ قمم الصحة النفسية حينما يشعر بأنّ الله يعوضه عن صبره بالحب واللطف ، فلا شقاء مع حبّ الله له ، ولا قيمة لشيء أمامه وهو داخل في دائرة الحب الإلهي ، ومن مصاديقه أيضاً التفكير بالجزاء والثواب الخالد ، فإنّ لهذا التفكير تأثيراً إيجابياً علىٰ من يعيش الحرمان والمصائب والآلام ، لأنّ التفكير بالجزاء والعوض الإلهي عمّا فقده في الدنيا يجعله يعيش الأمل في نيل ذلك الجزاء ، وهذا الأمل يخفّف من معاناته ، ويجعله موصولاً


بالسعادة في الدنيا التي يؤمن بزوالها وفنائها.

والمنهج شامل في اختيار المربين والمصلحين من حيث خصائصهم الذاتية وخصائصهم العملية لكي تكون التربية ناجحة ومنسجمة مع المنهج الإلهي العام.

والمنهج شامل في اختيار الأساليب الناجحة والتي تؤثر على العقول والقلوب بعد أن تستجيب إليها لانسجامها مع ظروف وأحوال الناس.

٣ ـ واقعية المنهج التربوي

راعى المنهج التربوي لأهل البيت عليهم‌السلام واقع الانسان من جميع جوانبه ، فهو كائن ذو شطرين ذكر واُنثىٰ ، ولكلّ منهما خصائصه الفسيولوجية والسلوكية ، وهو كائن ضعيف محدود القدرة بالقياس إلىٰ خالقه ، وهو كائن ذو قدرات بالقياس لغيره من المخلوقات ، وهو كائن ذو نجدين يحمل في جوانحه نوازع الخير والشر معاً ، وهو كائن يؤثر ويتأثر بالمحيط الذي يعيشه سلباً أو ايجاباً.

وراعى المنهج التربوي لأهل البيت عليهم‌السلام واقع الانسان ناظراً إلىٰ جميع جوانبه داعياً إلى اشباعها بتوازن بحيث لا يطغىٰ جانب علىٰ جانب ، ولا ناحية علىٰ ناحية ، وقد وضع لكل جانب مقوماته وحدوده الواقعية فلا تقييد مطبق ولا اطلاق العنان دون تناهٍ.

وهو منهج تتقبله العقول والنفوس بلا حرج ولا مشقة ، والانسان حينما يلتزم بقواعده يشعر بمناغاتها له وانسجامها مع كيانه المزدوج ، وهي سهلة التطبيق لمن استعدّ لها وتهيأت له الأرضية المناسبة عن طريق الوراثة والمحيط الاجتماعي في جميع مراحله.

ومن واقعيته انّه راعىٰ دور الوراثة ودور المحيط التربوي في البناء التربوي


للإنسان ، وراعىٰ دور التقييم الذاتي والتقييم الاجتماعي في التربية ، وراعىٰ دور القدوة في التربية وجميعها أمور واقعية.

ومن واقعية المنهج التربوي تركيزه علىٰ دور القيم المعنوية في التربية ومنها الايمان بالله تعالىٰ وبالعقاب والثواب ، فهذا الايمان حاجة فطرية قبل كل شيء يمليها الواقع الانساني ، وفي ذلك قال الفيلسوف الأمريكي ويليام جيمس : ( أينما يقم حديث حول اختيار الاله وعلمه الأبدي أو حول الخير والشر ، تجد كل شخص قد أصاخ بسمعه له ) (١).

وقال الفيلسوف اليوناني ابيكتيت : ( العقيدة بالله يجب أن تكون مستمرة كاستمرار النفس ).

وقال برودون : ( الله هو الكائن الذي لا يدرك ولا يوصف ، ومع هذا فهو ضروري ).

وقال أيضاً : ( إنّ ضمائرنا قد شهدت لنا بوجود الله قبل أن تكشفه لنا عقولنا ).

وقال المسيو بوشيت : إن اعتقاد الأفراد والنوع الإنساني بأسره في الخالق كان اعتقاداً اضطرارياً قد نشأ قبل حدوث البراهين الدالة علىٰ وجوده ، ومهما صعد الإنسان بذاكرته في تاريخ طفوليته ، فلا يستطيع أن يجد الساعة التي حدثت فيها عقيدته بالخالق ، تلك العقيدة التي نشأت صامتة ، وصار لها أكبر الآثار في حياته ) (٢).

_______________________

(١) علم النفس / جميل صليبا : ١١ ، دار الكتاب اللبناني ، بيروت ، ١٤٠٤ ه‍.

(٢) دائرة معارف القرن العشرين لمحمد فريد وجدي : ٤٨٢٠١ ، ٤٨٣ ، دار المعرفة ، بيروت ، ١٩٧١.


والإيمان باليوم الآخر ينسجم مع تطلعات الانسان لما وراء الحياة ، وهذا الايمان بالمطلق وبالثواب والنعيم ، يمنح الانسان طاقة روحية متسامية ، يحافظ من خلالها علىٰ سلامته النفسية واستقامته السلوكية ، فلو أصابه الحرمان وحال الواقع دون اشباع حاجاته فانّ الايمان سيخفف من معاناة الحرمان.

والإيمان باليوم الآخر أمر واقعي ، كما هو واضح في آراء العلماء والمفكرين ، وفي ذلك يقول نورمان فنسنت بيل : ( والواقع انّ الشعور الغريزي بوجود عالم آخر بعد الموت هو من أقوىٰ الأدلة علىٰ هذا الوجود... وانّ الشوق إلىٰ خلود الحياة ـ ولو في عالم آخر ـ احساس شائع في نفوس البشر بحيث لا يمكن النظر إليه باستخفاف عام ) (١).

والاستدلال علىٰ وجود الله تعالىٰ لا يحتاج إلىٰ عناية استثنائية مثالية ، بل يعتمد على الواقع ، وكما ورد في حديث أمير المؤمنين عليه‌السلام : « بصنع الله يُستدل عليه ، وبالعقول تعتقد معرفته ، وبالفكرة تثبت حجته ، وبآياته احتج علىٰ خلقه.. وابتداؤه إيّاهم دليل علىٰ الابتداء له ؛ لعجز كل مبتدء عن إبداء غيره » (٢).

وقد دلّت التجارب والدراسات العلمية الحديثة علىٰ دور الايمان بالله وباليوم الآخر في اصلاح الفساد الأخلاقي والاجتماعي ، وقام بعض علماء النفس باستخدام العلاج الديني في علاج الأمراض النفسية والخلقية والاجتماعية.

ومن واقعية المنهج التربوي مراعاته لواقع الانسان من حيث استسلامه

_______________________

(١) روح الدين الإسلامي : ص ١١٥.

(٢) تحف العقول / الحرّاني : ص ٤٣.


لنزواته ورغبته في الاستقامة في آن واحد ، لذا جعل الاستغفار والتوبة طريقاً للعودة للاستقامة ، والتي تنسجم مع الرغبة في اصلاح النفس والندم على الأعمال القبيحة.

ومن واقعية منهج أهل البيت عليهم‌السلام التربوي انّه ثابت في أصوله واسسه متطور في أساليبه ووسائله كما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قوله : « لا تقسروا أولادكم على آدابكم ، فانّهم مخلوقون لزمان غير زمانكم » (١).

والمنهج التربوي منهج واقعي في أهدافه وغاياته ومنها :

١ ـ تعريف الانسان بنفسه وعالمه.

٢ ـ تعريف الانسان بخالقه وبثوابه وعقابه.

٣ ـ تعريف الانسان بالأنبياء والأئمة والأوصياء.

٤ ـ تعريف الانسان بأخيه الانسان وعلاقاته الاجتماعية.

٥ ـ اعداد الشخصية المتوازنة فكرياً وعاطفياً وسلوكياً.

٦ ـ توظيف الطاقات في اتجاه الخير والصلاح ، والسمو والتكامل.

٧ ـ تنمية روح الاخلاص.

٨ ـ مراعاة العواطف الانسانية.

٩ ـ تحكيم المفاهيم والقيم الصالحة في الواقع.

١٠ ـ توعية الانسان.

ومن واقعيته انّه لا كلفة فيه ولا تكلّف وان اُسسه وقواعده منسجمة مع طاقات الانسان في جميع مراحل حياته ، ولهذا راعىٰ واقع الإنسان في تكاليفه وفي ارشاداته وفي أوامره ونواهيه ، فلم يطلب منه الانقطاع للعبادة مثلاً ، فقد

_______________________

(١) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد : ٢٠ / ٢٦٧.


جعل العبادات محدودة توصله بربّه ولا تقطعه عن مجتمعه ، وراعى الظروف الطارئة للإنسان فنوّع العبادة ، في الحضر والسفر والمرض ، وجعل العبادات المندوبة منسجمة مع اختيار ورغبة الإنسان ، فراعىٰ طاقته المحدودة وتبدل الاقبال في نفسه وفي واقعه الخارجي ، وفي ذلك قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إنّ للقلوب شهوة واقبالأ وادباراً ، فاتوها من قبل شهواتها واقبالها ، فانّ القلب إذا اُكره عمي » (١).

وراعى المنهج التربوي واقع الإنسان النفسي والروحي والمعنوي وحاجاته المتنوعة ، فقد راعىٰ فطرة الإنسان في ميلها إلى الترويح عن النفس ، فسنّ لها الألعاب المنسجمة مع إنسانية الإنسان كالفروسية والسباحة والرمي وما شابه ذلك ، وأباح له الملكية الفردية في حدودها المشروعة ، ووضع له قواعد موضوعية في العلاقات والمعاملات والممارسات ، فقد جعل الضرورات تبيح المحظورات ، وجعل نظام العقوبات منسجماً مع فطرة الإنسان وواقعه مع مراعاة ظروف الانحراف والجريمة وأسبابها وعواملها.

وقد دلّت الدراسات النفسية والاجتماعية علىٰ حاجة الإنسان للعقاب من أجل اصلاح وتغيير وراحة نفسه ، فالمصاب بعقدة ذنب ( لا يستطيع أن يُخفّف مما يعانيه من شعور خفي موصول بالذنب إلّا إذا ورّط نفسه ـ عن غير قصد ظاهر منه ـ في متاعب ومشاكل.. لا يناله منها إلّا العنت والتعب والمشقة والعذاب ، بل قد يستفز عدوان الغير عليه أو عدوان المجتمع ، فإذا حلّ به العقاب هدأت نفسه وزال عنه ما يغشاه من توتّر ، فكأن هذا الفرد في حاجة موصولة إلىٰ عقاب نفسه سواء كان هذا العقاب مادياً أو معنوياً... والواقع أنّ

_______________________

(١) نهج البلاغة : ص ٥٠٣.


الحاجة إلىٰ عقاب النفس صورة خاصة من الحاجة إلى الغفران ، فالفرد يرحّب بعقاب نفسه طمعاً في التخفيف من مشاعر الذنب التي تفوق هذا العقاب إيلاماً ، أي أنه يختار أهون الشرّين ) (١).

ومكارم الأخلاق التي حثّ عليها المنهج التربوي واقعية في حدودها وألوانها وطبيعتها ، فهي منسجمة مع النفس الإنسانية ومحبّبة لديها تتقبّلها وتركن إليها وتستهدي بها ، كإقامة العدل وردّ العدوان والتعاون والإحسان والإيثار والكرم والعفو والصبر وما شابه ذلك.

وفي جميع الظروف والأحوال فإنّ المنهج التربوي راعىٰ طبيعة الإنسان من حيث ضعفه ومحدوديته ، فهو تركيب من لحم ودم وأعصاب ، ومن عقل ونفس وروح ، ومن غرائز وشهوات ، وله رغبات وأوضاع نفسية كالحب والبغض ، والرجاء والخوف ، والأنا والتنافس وما شابه ذلك ، ولهذا راعىٰ الضعف البشري والدوافع البشرية والحاجات البشرية ؛ فجاء منسجماً مع الإنسان مقبولاً لديه لا كلفة فيه ولا عناء.

٤ ـ التوازن والاعتدال

يمتاز المنهج التربوي عند أهل البيت عليهم‌السلام بالتوازن والاعتدال في جميع جوانبه المرتبطة بالإنسان ، فيضع لكل شيء حدوده وقيوده ، فلا يطغىٰ جانب على آخر ولا ناحية على اُخرىٰ ، فهو يراعي حاجات الجسد وحاجات الروح في آن واحد ، ويراعي حاجات الإنسان بشطريه : الذكر والأنثىٰ ، ويراعي حاجات الفرد والمجتمع فلا تطغىٰ حاجة على اُخرىٰ ولا جانب على آخر ولا

_______________________

(١) أصول علم النفس : ص ١٤٦.


حق على آخر.

والمنهج التربوي الموجه للإنسان والمجتمع نحو الآخرة يوازن بين طلب الدنيا وطلب الآخرة ، فلا يمنع من التمتع بالطيبات الدنيوية كالمأكل والمشرب والملبس والمسكن والاشباع العاطفي والجنسي ؛ لأنّ الحرمان منها يولد القلق والاضطراب ، وإنما يضع القيود علىٰ تلك الطيبات ، ويوجه الإنسان في نفس الوقت إلى الاعداد للدار الآخرة بالالتزام بالأوامر والنواهي الإلهية ، فلا يطغىٰ طلب الدنيا علىٰ طلب الآخرة بالانغماس بالطيبات والملذات دون قيود أو حدود ، ولايطغىٰ طلب الآخرة علىٰ طلب الدنيا بحرمان الإنسان من متعها المشروعة.

قال الإمام موسىٰ بن جعفر الكاظم عليه‌السلام : « اجتهدوا في أن يكون زمانكم أربع ساعات : ساعة لمناجاة الله ، وساعة لأمر المعاش ، وساعة لمعاشرة الاخوان والثقات الذين يعرّفونكم عيوبكم ويخلصون لكم في الباطن ، وساعة تخلون فيها للذاتكم في غير محرّم ، وبهذه الساعة تقدرون على الثلاث ساعات » (١).

وقال العلاء بن زياد لأمير المؤمنين عليه‌السلام : أشكو إليك أخي عاصم ، قال : وما له ؟ قال : لبس العباءة وتخلىٰ عن الدنيا ، قال : عَلَيّ به ، فلما جاء قال عليه‌السلام : « يا عَدِيَّ نفسه ! لقد استهام بك الخبيث ! أما رحمت أهلك وولدك ! أترى الله أحل لك الطيبات ، وهو يكره أن تأخذها ! أنت أهون على الله من ذلك ».

قال : يا أمير المؤمنين ، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك !

قال : « ويحك ، إنّي لست كأنت ، إنّ الله فرض علىٰ أئمة العدل أن يقدّروا

_______________________

(١) تحف العقول : ص ٣٠٧.


أنفسهم بضعفة الناس ، كيلا يتبيّغ بالفقير فقره » (١).

والدعوة إلى التوازن والاعتدال شاملة لجميع المرافق والميادين ، ومنها الميدان النفسي ، فالتوازن مطلوب في مختلف الظروف والأحوال المحيطة بالإنسان.

في وصية أمير المؤمنينعليه‌السلام للإمام الحسينعليه‌السلام قال : « يا بنيّ أوصيك بتقوى الله في الغنىٰ والفقر ، وكلمة الحقّ في الرضىٰ والغضب ، والقصد في الغنىٰ والفقر ، وبالعدل على الصديق والعدو ، وبالعمل في النشاط والكسل ، والرضىٰ عن الله في الشدّة والرخاء » (٢).

والمنهج التربوي متوازن في نظرته للعلاقة العملية بين الإنسان وخالقه ، فلا يدعو إلىٰ ترك العمل توكلاً على الله ، ولا الانغماس بالعمل بلا توكّل ، والتوكل يمنح الإنسان طاقة وقوّة حيوية تجعله مطمئناً سواء تحقّق ما أراده من عمله أم لم يتحقّق ، ومعوقات انجاز العمل لا تسلبه الاطمئنان وهو متوكّل على الله.

ويدعو المنهج التربوي إلى الإيمان المتوازن ابتداءً بأصل الإيمان ؛ حيث التوازن بين إيمان أصحاب الخرافة الذين يسرفون في الاعتقاد ويؤمنون بكل شيء ويصدقونه وإن كان خارجاً عن أسس الإيمان ، وبين الذين ينكرون كل ما وراء الحسّ وما وراء الطبيعة ، والتربية على الإيمان الواقعي قائمة على أساس العقل والبرهان ، وعلى النصوص المتواترة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن أهل البيت عليهم‌السلام ليستجيب لها الإنسان عن قناعة وقبول دون إكراه أو اجبار أو تزوير للحقائق ، وكذا الحال في الإيمان بالأنبياء ، فإنّ المنهج التربوي يدعو إلى التأسي

_______________________

(١) نهج البلاغة : ٣٢٤.

(٢) تحف العقول : ص ٥٨.


والاقتداء بهم ، فينفي عنهم صفة الألوهية ، وينفي عنهم الانحراف الذي تدّعيه بعض الديانات ، ويوجه الإنسان إلىٰ الإيمان الواقعي بهم.

ويوازن المنهج التربوي بين التكليف والقدرة ، فلا يكلّف الإنسان فوق طاقته البدنية والروحية ، ويتدرج في أسس التربية حسب العمر الزمني والعقلي ، فلا يأمر باسلوب شاق ولا أمر شاق ، وهذا التدرج يولد في الإنسان أُنساً وشوقاً لأداء التكليف ، فيسعىٰ لأدائه والسير على أساسه دون ضجر أو كلل أو ملل.

ويوازن المنهج التربوي بين مجالات المسؤولية ، ويجعلها موزعة على الجميع ، فالفرد مسؤول عن نفسه وعن غيره ، والمجتمع مسؤول عن نفسه وعن أفراده ، فهنالك مسؤولية فردية ، وهنالك مسؤولية اجتماعية ، والمسؤولية موزعة فالأب مسؤول عن أسرته والأم كذلك ، والكبير مسؤول عن الصغير ، والمدرسة والتجمعات الاجتماعية والعلماء والدولة مسؤولة عن الأفراد وعن المجتمع ، وتكون المسؤولية قائمة على أساس تقسيم الحقوق والواجبات ، فللفرد حقوقه وواجباته ، وللأسرة حقوقها وواجباتها ، وللمجتمع حقوقه وواجباته ، فلا يطغىٰ حق علىٰ حق ولا واجب علىٰ واجب ، ولا حق علىٰ واجب ، ولا واجب علىٰ حق.

ويوازن المنهج التربوي بين الغاية والوسيلة ، فلا يبيح للإنسان استخدام الوسيلة الضعيفة من أجل غاية سامية وشريفة ، فيحرم الكذب على الغير وإن كان إرضاءً لهم أو يحقّق له أو لهم بعض المصالح ، ويحرّم الخداع والتضليل وإن أدّى إلىٰ علاج بعض الأزمات النفسية والروحية.

ويوازن المنهج التربوي في أساليب ووسائل التربية ، حيث يبتدأ بالدعوة


لاتفاق الوالدين علىٰ تطبيق القواعد الكلية للمنهج التربوي علىٰ مصاديقها بأسلوب واحد لا اختلاف فيه ، سواء في العلاقات القائمة بينهما أو علاقاتهما مع الأطفال ، أو في مفردات الأسلوب ، ويوازن بين اللين والشدة في التعامل فلا افراط ولا تفريط ، فلا يحبّذ اللين الدائم ولا الشدة الدائمة ، ففي الوقت الذي يدعو إلى الاحسان إلى الطفل وتكريمه وإشعاره بذاته ، يدعو أيضاً إلى استخدام الشدّة في مواقعها لاشعار الطفل باحترام القوانين الموضوعة ، والتمييز بين حقوقه وحقوق الآخرين ، وفي الوقت الذي يدعو فيه إلىٰ منح الطفل الحرية في اختيار طريقة اللعب مثلاً ، يدعو للتدخل في منعه من بعض الألعاب المضرّة به وبغيره ، كما يؤكد المنهج التربوي علىٰ التوازن في التعامل مع الأطفال ، والاعتدال في إظهار المحبة لهم ، والتوازن في النظرة العاطفية إلى البنين والبنات.

التداخل بين المنهج التربوي وبقية مناهج الحياة

المنهج التربوي لأهل البيت عليهم‌السلام متداخل مع بقية المناهج التي تكوّن مجتمعة منهج الإسلام الشامل والكامل للكون والحياة والمجتمع والانسان ، فلا فصل بين المنهج التربوي وبقية المناهج ولا تصادم ولا تضاد ولا تناقض ، لأن الهدف الأساسي لأهل البيت عليهم‌السلام هو انجاح مسيرة التربية واشاعة الاخلاق الفاضلة وتقريرها في واقع الحياة ، كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق » (١).

وبهذا يكون كل ما جاء به الاسلام في القرآن والسنة يراد به اتمام مكارم الأخلاق ، فالعقيدة بجميع ابعادها تخلق الاجواء الصالحة لتتحرك فيها خطوات

_______________________

(١) كنز العمال / المتقي الهندي : ٣ / ١٦.


اصلاح النفس والمجتمع ، والمحافظة علىٰ سلامة الانسان السلوكية وصحته النفسية والروحية ، والايمان بالله تعالىٰ وباليوم الآخر يحرر الانسان من الانسياق وراء الشهوات بلا قيود ولا حدود ، والخوف من أهوال يوم القيامة يمنع الانسان من ممارسة ألوان الفسق والانحراف.

ومنهج العبادات يعمل علىٰ تعميق الايمان بالله ويجعل الرقابة الالهية حقيقة تسري في جميع جوانح الانسان ، والعبادات بكل ألوانها تغرس في نفسه المثل المعنوية التي يتعالىٰ بها علىٰ جميع ألوان الانحراف والانحطاط ، فالصلاة تمنح الانسان الطمأنينة وتنهاه عن الفحشاء والمنكر وتبعده عن جميع الآثام والانحرافات ، والمداومة على الصلاة المندوبة كفيلة بايصاله إلى السمو والتكامل الروحي والخلقي.

والصوم يعمّق التقوىٰ في ذات الانسان ، ويقيّد الغرائز والشهوات ، ويهذب سلوك الانسان ويحصنه من تلويث خلقه ، قال الامام جعفر الصادق عليه‌السلام : « إن الصيام ليس من الطعام والشراب وحده ، إنّ مريم عليها‌السلام قالت : « إنّي نذرت للرحمٰن صوماً » أي صمتاً ، فاحفظوا ألسنتكم وغضّوا أبصاركم ولا تحاسدوا ولا تنازعوا » (١) وهو أحد العبادات التي تساعد على التكافل والتراحم والتي تساعد علىٰ تعميق العلاقات الانسانية التي يتحرك من خلالها الانسان مطمئناً يشعر بالاخاء والتآزر والتعاطف.

والحج عبادة لها آثارها الايجابية علىٰ سلامة الانسان السلوكية والنفسية والروحية ، وهو يمنح الانسان فرصة جديدة لتجاوز الانحرافات والآثام السابقة ، والبدء بحياة جديدة تغمرها الاستقامة والخلق الرفيع ، قال الامام

_______________________

(١) الكافي : ٤ / ٨٩.


علي بن الحسين عليه‌السلام : « حجّوا واعتمروا تصحّ أبدانكم وتتسع أرزاقكم ، وتكفون مؤونات عيالكم... الحاج مغفور له وموجب له الجنة ، ومستأنف له العمل ، ومحفوظ في أهله وماله » (١).

والعبادات المالية كالزكاة والخمس تخلق التوازن بين الطبقات وتعمق الأواصر الاجتماعية كالتآلف والتآزر والتعاون ، وتهيء الأجواء التربوية والنفسية المانعة من الانحراف بسبب الفقر والحرمان ، والمانعة من الأمراض النفسية الناجمة من عدم اشباع الحاجات الأساسية للانسان.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجمع الطاقات لتنطلق في الاصلاح والتغيير وقلع جذور الفساد والانحراف واشاعة الأخلاق الكريمة والصفات النبيلة ، فيتكافل الجميع في المسؤولية التربوية ، فيكون الفرد رقيباً علىٰ ممارسات المجتمع ، ويكون المجتمع رقيباً علىٰ ممارسات الفرد ، وبهذه المسؤولية تتحقق خطوات المنهج التربوي في الواقع بأسرع الأوقات ، وبأقلها عناءً وكلفة.

والمنهج الاجتماعي له الدور الكبير في انجاح سير وحركة المنهج التربوي ، فقد وضع أهل البيت عليهم‌السلام برنامجاً واقعياً في العلاقات داخل الأسرة ، فلكل فرد من أفرادها حقوق وواجبات يتربىٰ من خلالها الانسان علىٰ الأخلاق الكريمة ليكون عنصراً فعّالأ في المجتمع يأمن من خلالها المجتمع من ممارسة الانحراف والانحطاط والرذيلة والجريمة.

والمنهج الاقتصادي يهيء الأجواء المناسبة لانجاح المنهج التربوي ، ويمنع من الانحراف الأخلاقي الناجم عن الفقر والحرمان والاستغلال والظلم الاقتصادي ، ويوازن بين الطبقات ليحقق التآلف ويمنع من الفقر ومن الثراء الفاحش اللذين

_______________________

(١) الكافي : ٤ / ٢٥٢.


يشكلان أساس بعض الانحرافات الخلقية.

والمنهج السياسي له دور ملموس في بناء المحتوى الداخلي للانسان وتهذيب سلوكه الاجتماعي ، والمنع من جميع ألوان الانحراف والانحطاط ، والمنهج السياسي القائم علىٰ أساس الامامة الصالحة يحقق الغاية الأساسية وهي اتمام مكارم الأخلاق ، بتهيئة أجوائها المناسبة في الواقع.

قال الامام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام : « انّ الامامة زمام الدين ، ونظام المسلمين ، وصلاح الدنيا ، وعزّ المؤمنين ، بالامام تمام الصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج ، والجهاد ، وتوفير الفيء والصدقات ، وامضاء الحدود والأحكام ، ومنع الثغور والأطراف ، ويدعو إلىٰ سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة ، الامام المطهّر من الذنوب والمبرأ من العيوب » (١).

وفي حديث آخر قال عليه‌السلام : « ... يحقن الله عزّوجلّ به الدماء ، ويصلح به ذات البين ، ويلمّ به الشعث ، ويشعب به الصدع ، ويكسو به العاري ، ويشبع به الجائع ، ويؤمن به الخائف ، ويرحم به العباد » (٢).

واشتراط العصمة في مَن يلي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واشتراط العدالة في الفقيه النائب عن الامام المهدي (عج) ضمان لنجاح حركة التربية وتطبيق قواعد المنهج التربوي وبقية المناهج الإسلامية.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

_______________________

(١) الكافي : ١ / ٢٠٠.

(٢) الكافي : ١ / ٣١٤.




المحتويات

مقدمة المركز ..........................................................................  ٥

مقدمة المؤلف .........................................................................  ٧

الفصل الأوّل : أثر الوراثة والمحيط في البناء التربوي ................................  ٩

أولاً : دور الوراثة ........................................................  ٩

الخصائص والصفات المنقولة بالوراثة .......................................  ١١

١ ـ الخصائص والصفات النفسية والعقلية ..................................  ١٢

٢ ـ الخصائص والصفات الخلقية ..........................................  ١٤

ثانياً : دور المحيط التربوي ................................................  ١٧

١ ـ الاسرة ............................................................  ١٨

٢ ـ الأصدقاء والأصحاب ...............................................  ١٩

٣ ـ المجالس وحلقات الذكر ..............................................  ٢١

٤ ـ المساجد ..........................................................  ٢٢

٥ ـ العلماء ...........................................................  ٢٣

٦ ـ الدولة ............................................................  ٢٤

أثر الغرائز في التربية .....................................................  ٢٥

الفصل الثاني : دور القيم المعنوية والنفسية في المجال التربوي ...................  ٣١

المبحث الأول : دور القيم المعنوية في التربية من خلال ارشادات أهل البيت عليهم‌السلام  ٣٢

١ ـ الايمان بالله تعالىٰ ...................................................  ٣٢

٢ ـ الايمان بالثواب والعقاب .............................................  ٣٥


٣ ـ ذكر الله تعالىٰ ......................................................  ٣٨

أولاً : قراءة القرآن الكريم ................................................  ٣٩

ثانياً : الدعاء .........................................................  ٤١

ثالثاً : العبادة .........................................................  ٤٢

٤ ـ ذكر الموت ........................................................  ٤٣

٥ ـ الاعتراف بالذنب ...................................................  ٤٤

٦ ـ الاستغفار .........................................................  ٤٦

٧ ـ التوبة .............................................................  ٤٨

٨ _ الرضا بالقضاء ....................................................  ٥٠

المبحث الثاني : طرق تقييم النفس ودورها في التربية ..............................  ٥١

١ ـ تنمية الحياء .......................................................  ٥١

٢ ـ تنمية الضمير ......................................................  ٥٣

٣ ـ اثارة الوجدان ......................................................  ٥٥

٤ ـ التقييم الذاتي ومحاسبة النفس .........................................  ٥٦

٥ ـ التقييم الاجتماعي ..................................................  ٥٨

الفصل الثالث : خصائص المربّين وأساليب التربية .................................  ٦١

المبحث الأول : خصائص المربّين ..................................................  ٦١

الخصائص الذاتية للمربّين ...............................................  ٦٢

أولاً : العلم والمعرفة .....................................................  ٦٢

ثانياً : القدوة .........................................................  ٦٣

ثالثاً : الانصاف والايثار ................................................  ٦٦

رابعاً : الزهد ..........................................................  ٦٧

خامساً : البشاشة وطلاقة الوجه ولين الكلام ...............................  ٦٨


الخصائص العملية للمربين ...............................................  ٦٩

أولاً : المداراة ..........................................................  ٦٩

ثانياً : الرفق ...........................................................  ٧٢

ثالثاً : الاحسان .......................................................  ٧٤

رابعاً : الاختلاط بالناس ................................................  ٧٦

خامساً : الصبر والحلم ..................................................  ٧٧

سادساً : القدرة على التقييم الموضوعي ....................................  ٧٨

المبحث الثاني : أساليب التربية ....................................................  ٧٩

أولاً : اُسلوب الخطاب .................................................  ٧٩

ثانياً : القصص ........................................................  ٨١

ثالثاً : الأمثال والتمثيل .................................................  ٨٣

رابعاً : العبرة والموعظة ..................................................  ٨٤

خامساً : الاقتداء ......................................................  ٨٥

سادساً : الحوار .......................................................  ٨٦

سابعاً : الأساليب المتداخلة .............................................  ٨٧

الفصل الرابع : مميّزات المنهج التربوي عند أهل البيت : .....................  ٩١

١ ـ ربانيّة المنهج التربوي .................................................  ٩١

٢ ـ شمولية المنهج التربوي ................................................  ٩٨

٣ ـ واقعية المنهج التربوي ...............................................  ١٠١

٤ ـ التوازن والاعتدال .................................................  ١٠٦

التداخل بين المنهج التربوي وبقية مناهج الحياة ............................  ١١٠

المحتويات .......................................................................... ١١٤

ملامح المنهج التربوي عند أهل البيت عليهم السلام

المؤلف: السيد شهاب الدين الحسيني العذاري
الصفحات: 116
ISBN: 964-319-408-6