الفهرس

مقدّمة.......................................................................... ٧

المقدّمة......................................................................... ٩

تمهيد في البراهين على تجرد النفس الناطقة ، وبيان أنّ النفس ذات أطوار وشئون‏.... ١٠

الباب الأوّل : من الحجج البالغة على تجرّد النفس الناطقة على الإطلاق‏............ ١٣

الباب الثاني : من الحجج البالغة على تجرّد القوة الخياليّة اي المدرك للصور المتخيّلة لا بدّ أن يكون مجرّدا ١٧

الف) الحجة الأولى على تجرّد القوّة الخياليّة..................................... ١٩

ب) الحجة الثانية على تجرّد الخيال‏............................................. ٣١

ج) الحجة الثالثة على تجرّد الخيال هي :........................................ ٣٤

د) الحجة الرابعة على تجرّد الخيال :........................................... ٤٥

الباب الثالث : من الحجج البالغة على تجرّد القوّة العاقلة.......................... ٤٩

الف) ومن الأدلّة على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليا :..................... ٥١

ب) ومن الأدلّة على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا :....................... ٥٣

ج) ومن الأدلّة على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا :....................... ٥٥

د) ومن الأدلّة على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا.......................... ٥٦


هـ) ومن الأدلّة على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا........................ ٥٧

و) ومن الأدلّة على تجرّد النفس النّاطقة تجرّدا تامّا عقليّا.......................... ٥٨

ز) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّاً عقليّاً.......................... ٦٤

ح) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا......................... ٧٠

ط) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا......................... ٨٢

ى) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا :..................... ١٤٣

يا) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليا؛ هذا هو البرهان الثالث من نفس الشفاء في أنّ قوام النفس الناطقة غير منطبعة في مادة جسمانية :......................................................... ١٥٨

يب) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا؛ وهو البرهان......... ١٦١

يج) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا ، وهو البرهان......... ١٦٣

يد) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا ، وهو البرهان.......... ١٨١

يه) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا ، وهو البرهان السابع... ٢٢٣

يو) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا ، وهو البرهان.......... ٢٣٦

يز) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا ، وهو البرهان التاسع... ٢٥٢

يح) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا....................... ٢٦٣

يط) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا :..................... ٢٦٤

الباب الرابع : من الحجج البالغة على أنّ للنفس الناطقة مقام فوق التجرّد العقلي. ٢٦٧

الباب الخامس : في التبرّك بالتمسّك بطائفة من آيات وروايات في تجرّد النفس الناطقة وفوق تجرّدها العقلي‏       ٢٧٥


مقدّمة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

الحمد للّه ربّ العالمين

قال سبحانه : «إليه يصعد الكلم الطيّب والعمل الصّالح يرفعه» ؛ وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله : «من مات وميراثه الدّفاتر والمحابر وجبت له الجنّة» ؛ وقال الوصيّ الإمام علي المرتضى عليه السّلام في الحثّ على معرفة النفس : «نال الفوز الاكبر من ظفر بمعرفة النفس».

ثمّ قد وفّقنا اللّه سبحانه بتصنيف عدة كتب قيّمة ورسائل نفيسة بالفارسية والعربيّة في معرفة النفس منها هذا السفر العظيم المسمّى بـ «الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة»

نهدى جزيل شكرنا المتواتر إلى ساحة أصدقائي العالمين المكرّمين في مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي الذين قد بذلوا سعيهم المشكور في طبع كثير من مصنّفاتي ونشرها بأحسن أسلوب مرغوب وأتمّ وجه مطلوب ـ جزاهم اللّه عن الإسلام والمسلمين خير جزاء العلماء العالمين ـ قوله سبحانه : «إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً».

قم ـ حسن حسن زاده الآملي

٢١ صفر ١٤٢٢ هـ ق ـ ٢٥ / ٢ / ١٣٨٠ هـ ش



المقدّمة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم‏

الحمد للّه المتعالي عن التجريد والتنزيه ، والمتنزه عن التخليط والتشبيه. والصلاة والسلام على سفرائه أولى النفوس المكتفية ، الكاملين في القوتين النظرية والعملية ، والمكمّلين عقول الخلائق وأخلاقهم بالمعارف العقلية والمحاسن الخلقية. سيما على خاتمهم المخاطب بقوله (عز شأنه) : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)‏ وقوله (علت كلمته) : (إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ)‏ وعلى عترته المعصومين الهادين ، وعلى جميع عباد الله الصالحين.

وبعد ، فيقول العبد الآمل ربّه الغني المغني ، الحسن بن عبد الله الطبرى الآملي ـ المدعوّ بـ حسن زاده آملي ـ : هذه بضاعتنا المزجاة في تحقيق طائفة من البراهين القاطعة على أنّ النفس الناطقة الإنسانية جوهر غير مخالط للمادة ، بري‏ء عن الأجسام ، منفرد الذات بالقوام والعقل ، روحاني النسج والسوس ، لا يفسد بفساد بدنه العنصرى ، بل باق ببقائه الأبدي ، وسمّيناها الحجج البالغة على تجرّد النفس الناطقة.

ولا يخفى على من لم يهمل نفسه ولم ينسها أنّ أفضل المعارف هو معرفة الإنسان نفسه فإنّ معرفتها هي إحدى الطرق بل كلها لإثبات الواجب بذاته على ما تحقّق في محله ، وإنّ الإيقان بالمعاد المفضي إلى تحصيل السعادة الأبدية معلّق باثباتها.

ومن أخلد إلى الأرض يتوهم بفطانته البتراء أنّ المادة هي الأصل ، وأنّ الإنسان هو هذه البنية المحسوسة والجثّة الملموسة فقط؛ فإذا تلاشت واضمحلّت لم يبق منه شي‏ء ، فينكر الأصل الأصيل الذي هو فوق الطبيعة ووراءها ، ولا يعلم أنّ جوهر الإنسان ليس من الجواهر المركبة الممنوّة بالكون والفساد.


ففي هذه الصحيفة المكرّمة حجج بالغة ناطقة على بقاء النفس من مآثر السلف الصالح. وقد بذلنا جهدنا بتصحيح عبارات الحجج أوّلا ، ثمّ التحقيق والتنقيب في بيان كلّ واحدة منها ثانيا؛ لعلّها توقظ من أخذت الفطانة بيده فأراد أن يفحص عن معرفة ذاته وتحصيل سعادته لبقائه الأبدى. والله سبحانه وليّ التوفيق وبيده أزمّة التحقيق.

واعلم أنّ هاهنا أدلّة تدلّ على أنّ النفس غير الجسمية والمزاج ، وأخرى على أنّها جوهر ، ولمّا كانت العينان : الخامسة والسادسة من كتابنا عيون مسائل النفس وشرحها سرح العيون في هذين الأمرين ، فالصواب أن نكتفى بهما ولم نتعرض بهما في هذا الكتاب.

وقد بيّنا في سائر مسفوراتنا أنّ المباحث الأصيلة عن النفس بنظر ستة ، وإن كنّا بنظر آخر أنهيناه إلى عشرين مبحثا ، بل في عيون مسائل النفس إلى ستّ وستين عينا ، على أنّ بعض العيون يتضمن مسائل في معرفة النفس. وأمّا الستة الأولى فأنّ النفس ذات وحدة شخصية؛ وأنّها تغاير بدنها تغايرا لا تباين وحدتها الشخصية؛ وأنّ لها تجرّدا مثاليا برزخيا؛ وأنّ لها تجردا تامّا عقليا؛ وأنّ لها فوق مقام تجرّدها العقلي؛ وأنّ هذا الشخص الواحد إنسان طبيعي وإنسان مثالي وإنسان عقلي وإنسان لاهوتي. وهذه الصحيفة النورية المكرّمة ناظرة إلى تجرّدها الإطلاقي والمثالي والعقلي وفوق مقام تجرّدها في أبواب ، وناطقة بشر ذمة من أدلّتها النقلية تبرّكا في باب واحد وهو آخر الأبواب. واللّه سبحانه مفتّح الأبواب واليه المرجع والمآب.

تمهيد في البراهين على تجرد النفس الناطقة ، وبيان أنّ النفس ذات أطوار وشئون‏

أدلّة تجرّد النفس الناطقة الإنسانية على ما حصّلناها من الصحف القيمة النورية بعضها عقلية وبعضها نقلية.

أمّا النقلية فسيأتي نقل طائفة منها بعد الفراغ عن العقلية.

وأمّا العقلية فبعضها ناظر إلى أنّها جوهر غير جسم على الإطلاق.

وبعضها ناظر إلى تجرّدها البرزخي. وهي أدلّة قد اعتبر فيها الأشكال والأشباح والمقادير ونظائرها ، لكن تلك الأشباح والأشكال والمقادير ونحوها عارية عن التجدّد الماديّ والتصرّم الطبيعي العيني الخارجي ، وعالية عن الإمكان الاستعدادي والجهات العنصرية؛


لأنّها فوق هذه النشأة ووراءها. والأشباح المثالية هي من المجرّدات والمفارقات بالحكم البتيّ من ألسنة الحجج البالغة الآتية على ذلك؛ والمقارن هو الجسم والجسماني الطبيعيان ، وهو قابل للإشارة فله الوضع. ولا تنافي بين كون تلك الأشباح البرزخيّة أي الأجسام المثالية ذات أشكال ومقادير ، وبين كونها من المفارقات. وقد توصف المفارقات بالعقلية تمييزا عن المفارقات المثالية. فتبصّر.

وبعضها ناظر إلى تجرّدها التام العقلي. وهي أدلّة اعتبر فيها إدراك الحقائق البسيطة الكلّية. وإطلاق التامّ عليه أنّما هو بالنسبة إلى التجرّد الأوّل البرزخي.

وبعضها ناظر إلى فوق تجرّدها العقلي ، بمعنى أن ليس للنفس الإنسانية مقام معلوم في الهويّة ، ولا لها درجة معيّنة في الوجود. وبعبارة أخرى ليس لها حدّ تقف إليه ومقام تنتهى إليه. ويعبّرون عن هذا المعنى أيضا بأنّها ليس لها وحدة عدديّة ، بل لها وحدة حقّة حقيقيّة ظلّية.

وببيان آخر : أنّ النفس لمّا كانت ذات أطوار وشئون فتارة يبحث عنها في مقامها الطبيعي وأحكامها العنصرية من حيث إنّ البدن مرتبتها النازلة؛ وتارة يبحث عنها من حيث تجرّدها الإطلاقى أي أنّها غير جسم على الإطلاق؛ وتارة يبحث عنها في مقامها الخيالى وأحكامها البرزخية والمثالية أي يبحث عن تجرّدها البرزخى؛ وتارة يبحث عنها في مقامها العقلانى ، ومن أحكامها في هذا المقام تجرّدها العقلى؛ وتارة يبحث عنها في مقامها الذي هو فوق التجرّد العقلانى ، ومن أحكامها في هذا المقام أنّ النفس لا تقف في حدّ.

وتلك الأدلّة قد يكون مفاد بعضها قريبا من الآخر كأنّهما دليل واحد بتقريرين؛ أو أنّ أحدهما مستفاد من الآخر ومستنبط منه يمكن جمعهما في تقرير واحد. ثمّ من تلك الأدلّة القريبة المضامين يفيد بعضها تجرّد النفس تجرّدا برزخيا مثاليا ، وبعضها تجرّدا تاما عقليا بإضافة بعض القيود والاعتبارات في دليل ذلك ، وإضافة بعض آخر في دليل هذا؛ وسنشير إلى طائفة منها في تضاعيف نقل الأدلّة وبيانها. وأمّا الأدلّة على تجردها فهي ما نتلوها عليك على الترتيب المذكور أعنى ادلّة تجرّدها على الإطلاق ، ثمّ تجرّدها البرزخى ثمّ تجرّدها التام العقلى ، ثمّ فوق تجرّدها العقلى ، ثمّ نقل الأدلّة النقلية :



الباب الأوّل :

من الحجج البالغة على تجرّد النفس الناطقة على الإطلاق‏



أمّا الأدلّة على تجرّد النفس الناطقة على الإطلاق فخمسة منها هي ما نأتي بها أوّلا من كتاب الفصل الآتي ذكره. ونعنى بذلك الإطلاق أنّ الدليل يثبت كونها جوهرا غير جسم فقط ، وأما أنّ ذلك الجوهر له درجات من التجرّد : التجرّد البرزخى ، والتجرّد العقليّ ، والتجرّد الذي فوق التجرّد العقلى؛ فعلى عهدة البراهين الأخرى التي سيأتي نقلها وبيانها.

وتلك الأدلّة الخمسة على التجرّد الإطلاقى ننقلها من كتاب الفصل بين الروح والنفس تأليف الفيلسوف قسطا بن لوقا ، حيث قال بعد إثبات كون النفس جوهرا ما هذا لفظه :

وإذ قد بيّنّا أنّ النفس جوهر ، فلنبيّن أنّ النفس لا جسم ، فنقول :

١. إنّ كل جسم كيفياته محسوسة ، وكيفيات النفس غير محسوسة ، فهي لا جسم.

وكيفيات النفس الفضائل والرذائل ، والفضائل والرذائل غير محسوسة ، فاذن النفس لا جسم.

٢. وأيضا فإنّ كل جسم لا يخلو أن يقع تحت الحواس إما كلّها وإما بعضها ، والنفس لا تقع تحت الحواس لا كلّها ولا بعضها ، فإذن النفس لا جسم.

٣. وأيضا كل جسم إمّا أن يكون متنفّسا أو غير متنفّس ، فإن كانت النفس جسما فهي إمّا متنفسة وإمّا غير متنفّسة؛ فلا يمكن أن تكون النفس غير متنفسة إن كانت جسما لأنه يقع محال ، وذلك أنّ النفس تكون لا نفس. وإن قلنا أنّها حيوان أي متنفسة رجع القول علينا في نفس النفس أجسم هي أم لا جسم؟ فيترقّى ذلك دائما بلا نهاية ، فإذن ليست النفس جسما.

٤. وأيضا إن كانت النفس جسما لطيفا فليس يخلو ذلك الجسم من أن يكون إمّا


روحا لطيفة تنتشر في البدن كلّه ، وإما نارا. فإن كانت كذلك فلا يخلو تلك النار والروح من أن يكون لهما نوع خاصّى وقوة خاصيّة ، وذلك أنّه إن لم يكن لهما نوع خاصّى وقوة خاصيّة لكان إذن كلّ نار روحا ، أو كلّ روح نفسا. وإن كان لهما نوع خاصّى فذلك النوع هو النفس.

٥. وأيضا إن كانت النفس جسما لا يخلو جسم أن يكون إما بسيطا وإما مركّبا : فإن كانت جسما بسيطا فهي لا محالة نار أو ماء أو أرض أو هواء. وإن كانت النفس أحد هذه الأركان مجردا أعني بلا قوة ولا نوع خاصّي يفارق به ما شاركه في جنسه ، فإنّ كل ما هو من جنسه نفس ، فإن كانت النفس نارا كان كل نار نفسا ، وإن كانت هواء كان كل هواء نفسا ، وكذلك في باقي الأركان؛ فإن كان كذلك فكل جسم يحوى ذلك الأسطقس فهو متنفّس أعني أنه ذو نفس. فإن كان الهواء هو النفس كانت الرية والعروق الضوارب والزق المنفوخ حيوانا. وإن كانت النفس ماء كانت الآنية المملوة حيوانا ، وهذا من القول شنع قبيح. وإن كانت النفس جسما مركبا فالبدن إذن نفس ، فإذن النفس لا جسم. انتهى.

تبصرة : كتاب الفصل بين الروح والنفس وقوى النفس ومائية النفس تأليف الفيلسوف قسطا بن لوقا اليوناني معاصر الكندى وثابت بن قرّة ، قد صحّحناه وصدّرناه بمقدّمة ، ثمّ ادرجناه في كتابنا سرح العيون في شرح عيون مسائل النفس تجده في آخر شرح العين الحادية عشرة في الفرق بين الروح البخارى والروح الانسانى؛ والفيلسوف قسطا أراد أيضا في ذلك الكتاب المستطاب الفصل أي الفرق بين الروح البخارى والنفس الناطقة الانسانيّة.


الباب الثاني :

من الحجج البالغة على تجرّد القوة الخياليّة اي المدرك للصور المتخيّلة لا بدّ أن يكون مجرّدا



الف) الحجة الأولى على تجرّد القوّة الخياليّة

وهي التي عوّل عليها أفلاطون الإلهي وقرّرها بعض أهل التحقيق من الإسلاميين :

أنا نتخيل صورا لا وجود لها في الخارج كبحر من زيبق وجبل من ياقوت ، ونميز بين هذه الصور الخيالية وبين غيرها فهذه الصور أمور وجودية وكيف لا يكون كذلك ونحن إذا تخيّلنا زيدا ثمّ شاهدناه حكمنا أن بين الصورتين المحسوسة والمتخيّلة فرقا البتة ، ولو لا أنّ تلك الصور موجودة لم يكن الأمر كذلك ، ومحلّ هذه الصورة يمتنع أن يكون شيئا جسمانيا أي من هذا العالم المادي فان جملة بدننا بالنسبة إلى الصور المتخيلة لنا قليل من كثير فكيف تنطبع الصور العظيمة على المقدار الصغير؟. وليس يمكن أن يقال : إن بعض تلك الصور منطبعة في أبداننا وبعضها في الهواء المحيط بنا إذ الهواء ليس من جملة أبداننا ، ولا أيضا آلة لنفوسنا في أفعالها وإلّا لتألمت نفوسنا بتفرقها وتقطّعها ، ولكان شعورنا بتغيرات الهواء كشعورنا بتغيرات أبداننا فبان أنّ محلّ هذه الصور أمر غير جسمانى وذلك هو النفس الناطقة فثبت أنّ النفس الناطقة مجردة. انتهى تقرير الحجة التي عوّل عليها افلاطن.

وأقول :

هذه الحجة أتى بها الفخر الرازى في الفصل الأوّل من الباب الخامس من المباحث المشرقية وهو الدليل العاشر فيه على تجرّد النفس وقال وهو الذي عوّل عليه أفلاطن وقرّره بعض أهل التحقيق من المتأخرين (ج ٢ ، ص ٣٧٣ ، ط حيدرآباد).

ونقلها كذلك أيضا بعده صدر المتألّهين في الفصل السادس من الطرف الثانى من المسلك الخامس «المرحلة العاشرة» من الأسفار وهي الحجة الثانية فيه في أنّ المدرك‏


للصور المتخيلة أيضا لا بدّ أن يكون مجرّدا عن هذا العالم. (ج ١ ، ص ٣١٧ ، ط ١).

ومراد صاحب الأسفار في هذا الفصل هو تجرّد النفس المثالى البرزخى الخيالى وهو التجرّد غير التام بالنسبة إلى تجرّدها التام العقلى.

واعلم أنّ الخيال يطلق على الحسّ المشترك ، وعلى خزانته وعلى المتصرفة والمراد هاهنا هو الأوسط والأخير منها كما نصّ به في نفس الأسفار حيث قال في الثانى من الباب العاشر : اعلم أنّ سعادة كلّ قوة بنيل ما هو مقتضى ذاتها من غير عائق وحصول كمالها من غير آفة ولا شك أنّ كمال كلّ شي‏ء ما هو من باب نوعه وجنسه فكمال الشهوة هو حصول مشتهاها ، وكمال القوة الغضبيّة هو الغلبة والانتقام ـ إلى قوله : ـ وللخيال تصوّر المستحسنات وهي إما مثل المحسوسات المرتفعات إلى الخيال ، أو حكايات المعقولة المتنزلة إليه ويمكن ارادة الحس المشترك أيضا ، لأنّ المتصرفة تصوّر مثل المحسوسات في لوح الحسّ المشترك أيضا. على أنّ تلك القوى من شئون النفس والتجرّد الخيالى يوجب تجرّد المتصرفة والحس المشترك أيضا فافهم وتبصّر.

وقال صدر المتألهين بعد نقل الحجة المذكورة بالتقرير المذكور ما هذا لفظه :

وهي حجة برهانية قوية على ما نريده. لكن القوم زعموا أنّ هذه الحجة لبيان إثبات أنّ النفس من المفارقات العقلية ، وذلك غير ثابت بمثل هذه الحجّة ونظائرها. ولم أر في شي‏ء من زبر الفلاسفة ما يدلّ على تحقيق هذا المطلب ، والقول بتجرّد الخيال والفرق بين تجرّدها عن هذا العالم وبين تجرّد العقل والمعقول عنها وعن هذا العالم جميعا ، وهذه من جملة ما آتانى اللّه وهدانى ربّى إليه أشكره كثيرا على هذه النعمة العظيمة ونحمده عليها.

أقول : قوله قدّس سرّه : «وهي حجة برهانية قوية على ما نريد» ، يعنى بقوله ما نريده تجرّد القوة الخيالية.

قوله : « وذلك غير ثابت بمثل هذه الحجة » ، إنّما قال بمثل هذه الحجة لأنّ الحجة مأخوذة فيها صور الأشياء ، والمعقولات مجرّدة عن الصور بذلك المعنى ، فلا تصلح‏


أمثال هذه الحجة إلّا لإثبات التجرّد البرزخى المثالى للخيال فقط فتبصّر.

قوله : « ولم أر في شي‏ء من زبر الفلاسفة » إلخ. هذا كلام الناطق بالصواب كما أنّ زبره النورية سيّما الحكمة المتعالية المشتهرة بـ ـ الأسفار وهي بالنسبة إلى سائر كتبه أمّ الكتاب فاض من قلمه الشريف ، أصدق شاهد على قوله ذلك. وأنت ترى أنّ الفخر نقله في المباحث في عداد الأدلّة على تجرّد النفس من غير تفصيل في التجرّد بل زعم هو وغيره من الباحثين في الفلسفة الرائجة أنّ هذه الحجة لبيان إثبات أنّ النفس من المفارقات العقلية ، ولذلك الزعم اعترض على هذه الحجة بما أتى به صاحب الأسفار ثمّ أجاب عنه بما هو مذكور في الأسفار بعد نقل الحجة ونحن أعرضنا عن الإتيان بأكثر الاعتراضات الموردة على الحجج على تجرّد النفس لما كنّا بصدد نقل الأدلّة والايماء إلى حقائق لعلّ المتدبّر فيها يقدر على جواب الاعتراضات الواردة عليها؛ على أنّا نذكر مآخذ النقل مع جميع مشخّصاتها وبذلك يسهل الخطب على الفاحص الباحث. نعم نذكر بعضا منها مع جوابه إذا رأينا فيه مزيد فائدة وزيادة تبصرة في المقام.

قوله : وبين تجرّد العقل والمعقول عنها ، أي عن الصور الخيالية.

واعلم أن الفخر الرازى كان في العلم قائلا بالإضافة ومنشأ القول بذلك اضطرابه في فهم الحجج على تجرّد النفس ، وقصوره عن النيل بمسألة العلم. وعدّ بعض الاعتراضات إشكالا قويا جدّا حتى قال : ولم يظهر لى بعد عنه جواب يمكننى أذكره لزعمه أن الاعتراض مؤيد له في القول بالاضافة. فنذكر نموذجا من ذلك وهو ما أتى به من اعتراض وبعده من اضطراب في الجواب بعد نقله الحجة المذكورة بالتقرير المتقدم في المباحث فقال :

فإن قيل :

هذه الصور الخيالية لا بدّ وأن يكون لها امتداد في الجهات وذهاب في الأقطار وإلّا لم تكن صورا خيالية ، فإذا تخيلنا مربعا فلا بدّ وأن يتميز جانب من ذلك المربع من جانب آخر وإلّا لم يكن مربعا وذلك أنّما يكون إذا كان له شكل ووضع مخصوص فإذا حلّ هذا الشكل في النفس فإمّا أن تصير النفس مشكّلة بهذا الشكل حتى تصير


النفس مربعة ، وإمّا أن لا تصير كذلك فإن صارت مربعة مثلا فهي غير مجرّدة بل هي جسمانية ، وإن لم تصر مربعة فصورة المربع غير موجودة فيها لأنّه لا فرق بين أن يقال إنها ليست مربعة وبين أن يقال صورة المربع غير موجودة فيها. فهذا الإشكال قوى جدا ولم يظهر لى بعد عنه جواب يمكننى أن أظهره في كتابى هذا.

أقول : لعلّ صاحب المباحث لمّا كان قائلا في العلم بالإضافة وكان هذا القول أعنى الاعتراض المذكور مؤيدا له ، قال : إنّه قوى كأنّه أخبر بذلك رصانة رأيه في العلم بأنّه إضافة ، مع أنّه لا يخفى على ذوى الألباب ركاكة رأي الإضافة في العلم.

قال المحقق الطوسى في شرح الفصل السابع من النمط الثالث من الإشارات في البحث عن ماهية الإدراك ما هذا لفظه :

واعلم انّ العلماء اختلفوا في ماهية الإدراك اختلافا عظيما وطوّلوا الكلام فيها لا لخفائها بل لشدة وضوحها فمنهم من جعل الإضافة العارضة للمدرك إلى المدرك نفس الإدراك ليندفع عنه بعض الشكوك الموردة على كون الإدراك صورة وغفل عن استدعاء الإضافة ثبوت المتضائفين فلزمه أن لا يكون ما ليس بموجود في الخارج مدركا ، وأن لا يكون إدراك ما جهلا البتة لأنّ الجهل هو كون الصورة الذهنية للحقيقة الخارجية غير مطابقة إياها (ص ٧٧ ، ط شيخ رضا).

يعنى المحقق في قوله : «فمنهم من جعل الإضافة نفس الإدراك» ، الفخر الرازى ويعبّر عنه في شرح الإشارات بالفاضل الشارح. ثمّ نقل بعد نقل اختلاف الآراء في العلم أي الادراك بعض اعتراضات هذا الفاضل.

منها قوله :

فمن اعتراضات الفاضل الشارح في هذا الموضع أنّ الصورة الذهنية إن لم تكن مطابقة للخارج كانت جهلا ، وإن كانت مطابقة فلا بدّ من أمر في الخارج وحينئذ لم لا يجوز أن يكون الإدراك حالة نسبية بين المدرك وبينه.

ثمّ نقل بعض اعتراضاته الأخر وأجاب عنها. وصدر المتألهين في عدّة مواضع من الأسفار تصدّى لدفع وهم الفخر في كون العلم إضافيا.


منها في الفصل الحادى عشر من الطرف الأوّل من المسلك الخامس «المرحلة العاشرة» فقال فيه.

والعجب من هذا المسمّى بالإمام كيف زلّت قدمه في باب العلم حتى صار الشي‏ء الذي به كمال كل حيّ وفضيلة كل ذى فضل والنور الذي يهتدى به الإنسان إلى مبدئه ومعاده عنده من أضعف الأعراض وأنقص الموجودات التي لا استقلال لها في الوجود ، إلخ (ج ١ ، ط ١ ، ص ٢٨٨).

ومنها في الفصل الثالث من الطرف المذكور حيث قال : «وأما المذهب الثالث وهو كون العلم إضافة ما بين العالم والمعلوم من غير أن يكون هناك حالة أخرى وراءها فهو أيضا باطل» إلخ. ثمّ أتى بكلام المحقق الطوسى في شرحه على الموضع المذكور آنفا من الإشارات في الرّد على زعم الفخر في الإدراك فقال : «واعلم انّ القائل بكون العلم إضافة» إلخ. (ج ١ ، ط ١ ، ص ٢٧٢).

ومنها في الفصل الرابع من القسم الثالث من الجواهر والأعراض من الأسفار في البحث عن حقيقية الألم واللذة حيث قال : قال فخر المناظرين اللذّة والألم ـ إلى قول صاحب الأسفار ـ :

وأما العلم والإدراك مطلقا فليس كما زعمه هذا التحرير عبارة عن إضافة محضة بين العالم والمعلوم من غير حاجة إلى وجود صورة إلخ. (ج ٢ ، ط ١ ، ص ٣٩). ومنها في الحجة الخامسة في تجرّد النفس في الفصل الأوّل من الباب السادس من نفس الأسفار (ج ٤ ، ط ١ ، ص ٧١).

أقول : وذهب الفخر في الفصل الأوّل من الباب الخامس من الفن الثانى من المباحث المشرقية في بيان تجرّد النفس الإنسانية إلى أنّ العلم ليس بإضافة بل صفة حقيقية حيث قال :

وأما العلم فقد بيّنا أنّ حقيقته ليست مجرّد إضافة فقط بل إنّما يتم بحصول صورة مساوية لماهية المعلوم فيكون العلم صفة حقيقية. إلخ (ج ٢ ، ص ٣٥١ ، ط حيدرآباد الدكن هند).


وكم له من نظير في مثل هذا التلوّن.

ولنرجع إلى البحث عن حول الحجة المذكورة في التجرّد البرزخى فنقول : إنّ صدر المتألهين بعد نقل اعتراض الفخر على الحجة وعدّه قويا بلا جواب ، أجابه على مبناه القويم الرصين في الحكمة المتعالية بقوله :

أقول في جوابه إنّ حضور الصورة العلمية للشي‏ء العالم لا يلزم أن يكون بالحلول فيه بل بأحد أنحاء ثلاثة : إمّا بالعينية كما في علم النفس بذاتها ، أو بالحلول فيه كما في علم النفس بصفاتها وكما هو المشهور في حصول المعقولات للجوهر العاقل ، أو بالمعلولية كما في علم الله بالممكنات بصورها المفصّلة فعلم النفس بالصور الخيالية من قبيل القسم الثالث.

ثمّ أفاد قدّس سرّه بقوله :

وبهذا يندفع إشكالات الوجود الذهنى من لزوم كون النفس حارة باردة مستديرة مربعة وغير ذلك ، فإنّهم ذكروا الإشكال بأنّ النفس إذا تصوّرت الكروية فإن وجدت الكروية فيها لزم أن تصير النفس كروية لأنّه لا فرق في نظر العقل بين أن يقال إنّ هذا الشي‏ء كرة ، وبين أن يقال فيه صورة الكرة.

ووجه الاندفاع أن تمثل صورة الكرة وغيرها للنفس كتمثل الأشياء التي شاهدنا في المرآة فإنّ تمثل تلك الصور المشاهدة لأجل المرآة ليس بانطباعها فيه ، ولا بوجودها في الهواء ، وليست هي عين الصورة المادية لأنّا قد برهنّا على أنّ الصور المادية ليس من شأنها أن تكون مدركة لا بالفعل ولا بالقوة فهي إذن صور معلقة غير منطبعة لا في النفس ولا في شي‏ء آخر من المواد الخارجيّة. انتهى.

أقول : قد أطلق الصور المعلّقة هاهنا على الصور المثالية البرزخية المتصلة ، وكثيرا تطلق على الصور المثالية البرزخية المنفصلة. والمعلّقة في قبال الصور الكلية النورية بالمثل الإلهية السائرة على الألسنة بالمثل الأفلاطونية لأنّ افلاطون الإلهي كان شديد العناية بإثباتها والحق معه ، كما استوفينا البحث عن المثل الإلهية والمثل المعلقة في رسالتنا المصنفة في المثل.


وهم ورجم :

ثمّ اعلم أنّ دأب صدر المتألهين في الأسفار في كل مسألة حكمية هو أنّه يأتى أولا بأقوال الحكماء فيها وعلى وتيرتهم يأخذ في البحث عنها ، ثمّ يأتى برأيه الشريف السامى في أثناء المباحث وخلالها وتضاعيفها وهو العمدة في مصنفاتها النورية ، سيما في أمّ الكتاب من مؤلفاته أعنى به الحكمة المتعالية المشتهرة بـ الأسفار. ولا يخفى على رجل البحث والتنقيب وفحل التدقيق والتحقيق أنّ الغرض الأهم من تصنيف الكتاب هو الإتيان بأمر جديد وتأسيس أصل قويم فيه إن كان صاحب الكتاب حريا بذلك وإلّا فأيّ فائدة في نقل آراء وأقوال من أوراق إلى أوراق أخرى؟

وصاحب الأسفار قدّس سرّه قد يذكر مصدر الأخذ وقائل الرأى وقد يترك لأنّ ما هو الأهم عنده إيقاظ الطالب وإرشاده إلى ما هو الحق المحقق في ذلك وما أتى به من الحقائق لا توجد في الصحف الحكمية الرائجة إلّا في الزبر العرفانية الأصلية كالفتوحات المكّية وفصوص الحكم ومصباح الأنس على نحو الإشارات والواردات من غير إقامة البرهان عليه وكانوا يقولون إنّ هذه الواردات فوق طور العقل وهو صرّح في الأسفار بأنّ ما كان عندهم فوق طور العقل فقد أقمنا البراهين العقلية عليها.

وقد أفاد في طريقته المثلى هذه أنّ البرهان لا يخالف الوجدان والشهود والعرفان ، كما أفاد في قوله الآخر أنّ البرهان والعرفان لا يخالفان القرآن حيث قال في أوّل الفصل الثانى من الباب السادس من نفس الأسفار في مسألة تجرّد النفس :

إنّ الشرع والعقل متطابقان في هذه المسألة كما في سائر الحكميات ، وحاشى الشريعة الحقة الآلهية أن تكون أحكامها مصادمة للمعارف اليقينية الضرورية ، وتبّا لفلسفة تكون قوانينها غير مطابقة للكتاب والسنّة (ج ٤ ، ط ١ ، ص ٧٥).

على أنّ صاحب الرأى إذا كان ممن يليق أن يصرّح باسمه يذكره وتأليفه مع تبجيل وتجليل كما هو الظاهر على المتدرب في الأسفار. مثلا في الفصل الخامس من الفن الخامس من الجواهر والأعراض في البحث عن الحركة في الجوهر قال :


فصل في نبذ من كلام ائمة الكشف والشهود من أهل هذه الملة البيضاء في تجدّد الطبيعة الجرميّة الذي هو ملاك الأمر في دثور العالم وزواله ، إلى قوله : وأمّا كلام أهل التصوف والمكاشفين فقد قال المحقق المكاشف محيى الدين العربى في بعض أبواب الفتوحات المكية. إلخ (ج ٢ ، ط ١ ، ص ١٧٦). وكم له من نظير.

ثمّ عدم الإتيان باسم الشخص ومؤلفه في متن العبارة لا يدلّ على عدم الإتيان به مطلقا وذلك لأنّه يمكن أن أتى به في هامش الكتاب والناسخ لم يأت به في نسخته ، أو أسقطوه في أثناء الطبع ، والشاهد على ذلك انّ كتاب الوافي لتلميذه الفيض (رضوان الله تعالى عليه) قد طبع بدون ذكر انتقال الرواية من أيّ باب من الكتب الأربعة إلى ذلك الباب من الوافي وانّ ذكر مآخذ النقل على نحو الإجمال برموز كا ، يه ، يب ، صا؛ أي الكافي وكتاب من لا يحضره الفقيه والتهذيب والاستبصار ، وعندنا من بعض أقسام الوافي نسخة مخطوطة ذكر في هامشها أيضا الأبواب التي نقل الحديث منها والوافي المطبوع خال عنها ، فعدم ذكر الأشخاص ومؤلفاتهم في أثناء عبارة الكتاب لا يدلّ على عدم ذكرهم مطلقا. على أنّ صاحب الأسفار قد يوصف القائل بصفة يعلم الخواص من هو بذلك الوصف مثلا في الحجة التاسعة من حجج تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليا من نفس الأسفار نقل كلام صاحب المباحث ولم يصرّح باسمه بل قال :

وهذا مما أشكل الأمر على من لم يتفطن بتجرّد الخيال ، يعنى به الفخر ، وقال بعد أسطر : الإدراك لا يخلو إمّا أن يكون هو الصورة الحاصلة من الشي‏ء ، أو الإضافة التي بين المدرك والمدرك كما هو مذهب هذا القائل (ج ٤ ، ط ١ ، ص ٧٤). والفخر كان في العلم قائلا بالإضافة.

وبعد ذلك كلّه أن تحقيقاته النورية العرشية منقولة من أىّ كتاب؟ وليس ذلك إلا كما يقول هو قدّس سرّه في عدة مواضع من الأسفار يخبر على ما أفاضه الوهّاب على الإطلاق وأتى به في كتابه المستطاب كقوله في آخر الفصل الثانى من الباب العاشر من نفس الأسفار.

فإنّى أعلم من المشتغلين بهذه الصناعة من كان رسوخه بحيث يعلم من أحوال


الوجود أمورا تقصر الأفهام الذكية عن دركها ولم يوجد مثلها في زبر المتقدمين والمتأخرين من الحكماء والعلماء للّه الحمد وله الشكر.

‏وقال المتأله السبزوارى في تعليقته عليه :

قوله : «فانّى اعلم من المشتغلين ـ ا ه ـ» أراد نفسه الشريفة والحق معه وتحقيقاته الأنيقة أعدل شاهد على ما أفاده (شكر اللّه مساعيه). انتهى.

وأقول وجه أنّه أراد نفسه الشريفة ظاهر من قوله : «لله الحمد وله الشكر» وإلّا فلا معنى للحمد والشكر (ج ٤ ، ط ١ ، ص ١٣٠).

وكقوله بعد نقل تقرير الحجة المذكورة : «ولم أر في شي‏ء من زبر الفلاسفة ـ ، إلى آخر ما نقلناه عنه آنفا (ج ١ ، ص ٣١٧ ، ط ١).

وكقوله في تعليقة منه على الفصل السابع من الطرف الأوّل من المسلك الخامس من الأسفار في اتحاد العقل والعاقل والمعقول ما هذا لفظه :

كنت حين تسويدى هذا المقام بكهك من قرى قم فجئت زائرا لبنت موسى بن جعفر عليه السّلام منها وكان يوم جمعة فانكشف لى هذا الأمر بعون الله تعالى.

أقول : هذه الإفاضة والبارقة كانت ضحوة يوم الجمعة سابع جمادى الأولى لعام سبع وثلاثين بعد الألف من الهجرة النبوية وقد مضى من عمره المبارك السلام ثمان وخمسون سنة قمرية. وهي تعليقة على قوله في الفصل المذكور :

وبسط أنوار الإفاضة فأفاض علينا في ساعة تسويدى هذا الفصل من خزائن علمه علما جديدا وفتح على قلوبنا من أبواب رحمته فتحا مبينا ، إلخ.

وقد حرّرنا تفصيل ذلك في الدرس الخامس من كتابنا دروس اتحاد العاقل بالمعقول (ط ١ ، ص ١٠٦ ـ ١١٠).

وهكذا نظائر أقواله المذكورة في عدة مواضع أخرى من الأسفار. ولو لم يتفوّه هو قدّس سرّه بها لكان أعلام العلماء وأساطين الحكماء الذين جاءوا بعده قالوا بها في حقه كما قالوا. وكان معلّم العصر استاذنا العلم الآية العلامة الميرزا ابو الحسن الشعرانى (قدّس سرّه الشريف وجزاه الله تعالى عنا خير جزاء المعلّمين) يصفه باللطف الإلهي. وكان يقول‏


حينما أخذ الناس في التوغل في المادة والتعلّق بالطبيعة والإخلاد إلى الأرض ، جعل هذا اللطف الإلهي في قبالهم ليذكّرهم أيام اللّه وأحوالهم في الآخرة والأولى ويحثّهم إلى الاغتذاء من مأدبة الله القرآن الكريم والتأدب بآدابه.

وكذا كان استاذنا العلم الآية العلامة السيد محمد حسين الطباطبائى صاحب الميزان قدّس سرّه العزيز يقول : هذه الحقائق النورية مما علّمنا صدر المتألهين (رضوان الله تعالى عليه).

وكذلك استاذنا العلم الآية الميرزا السيد ابو الحسن الرفيعى القزوينى قدّس اللّه سرّه الشريف يصف الأسفار بالسهل الممتنع. وكان يقول في مسألة أنّ الغذاء معدّ النفس لأن تصنع بدنها بإذن بارئها من كتاب نفس الأسفار. «أنظر إلى عظمة هذا البطل العلمى في الدورة الإسلامية». وهو (رضوان الله تعالى عليه) ألّف وجيزة في تفسير كريمة (الر تلك آيات الكتاب الحكيم) من أوّل سورة يونس من القرآن العظيم وجعلناها تبرّكا النكتة الرابعة والعشرين وخمسمائة من كتابنا ألف نكتة ونكتة ، ونقلنا كلامه الشريف في آخرها حيث قال :

ومن أراد تفصيل تحقيق هذه المعانى ورام مخ الحكمة ولبّ المعرفة في مراتب كتابه سبحانه وكلامه فليرجع إلى السفر الثالث من الأسفار الأربعة في العلم الإلهي ومفاتيح الغيب لصدر أعاظم الحكماء والمتألهين العارف الشامخ المحقق الحكيم الإلهي صدر الدين الشيرازى (قدّس الله عقله ونوّر روحه) بشرط الأخذ من أستاذ ماهر حاذق خبير ، وإياك أن تغرّ بفهمك الساتر وتطالع كتاب الأسفار هيهات هيهات ففيه خبايا رموز كنوز قلّ من يهتدى إلى مغزاها ويدرك فحواها إلا الألمعى الناقد المستوقد المؤيد بنور اللّه العظيم. انتهى كلامه الرفيع (ج ١ ، ط ١ ، ص ٢٩٢).

والأعلام الثلاثة المذكورة كانوا من أعاظم الحكماء المتألهين الراسخين في الحكمة المتعالية في عصرنا هذا (أفاض الله سبحانه من بركات أنفاسهم الشريفة علينا).

ثمّ انّ مثل صاحب الأسفار إذا أراد نقل قول من الحكمة الذائعة المشائية ينقله من مثل المباحث المشرقية لأنّ المباحث تحرير شفاء الشيخ على تلخيص ، والغرض أيضا


إراءة قول المشاء سواء كان من المباحث أو غيره لكنه ينقل منه كثيرا. وقد يذكر كتابه ويسميه وقد لا يعتنى بذلك وليس هذا مما يوجب الإزراء والشين على مثل صدر المتألهين. ومثل الفخر الرازي والغزالي يجب أن يباهى بفهم كلماته العرشية وآرائه الرصينة وقد رأيت بعض عباراته في صاحب المباحث. وكذا قال في الأسفار في الغزالى ما هذا لفظه :

وبعض من تصدّى لخصومة أهل الحق بالمعارضة والجدال والتشبّه بأهل الحال بمجرّد القيل والقال كمن تصدّى لمقابلة الأبطال ومقاتلة الرجال بمجرّد حمل الأثقال وآلات القتال ، قال في تأليف سمّاه تهافت الفلاسفة إلخ (ج ١ ، ص ٥٥ ، ط ١).

وأقول أيضا قد وفّقنا الله سبحانه بالتحقيق في مسائل الأسفار والخوض فيها والتعليقة عليها وتصحيح عباراتها بالعرض والمقابلة على عدّة نسخ مخطوطة بعضها كتبت بعد ثمانى عشرة سنة من رحلة صدر المتألهين ، وكذا على عدّة نسخ مطبوعة مصححة ومحشاة من مشايخ العلوم العقلية ، طول تدريسنا إياه في الحوزة العلمية مدينة قم ، حيث كانت دورة واحدة من تدريسه في أربع عشرة سنة وقد كان بدء التدريس ويوم الشروع من تلك الدورة التاسع والعشرين من رجب الأصبّ من شهور إحدى وتسعين وثلاثمائة سنة بعد الألف من الهجرة (٢٩ / ٦ / ١٣٥٠ هـ. ش) ، وكان ختم التدريس الليلة الثلاثاء السابعة من شهر الله المبارك من شهور خمس وأربعمائة سنة بعد الألف من الهجرة (٧ / ٣ / ١٣٦٤ هـ. ش).

وفي هذا الأمد من الدورة الأولى صحّحنا الأسفار من البدء إلى الختم وكذلك أوضحنا مطالبها بتعليقات موضحة وحواشى مبيّنة من أوّله إلى آخره ، وتفحّصنا عن ذكر المآخذ والمصادر التي ذكرت في الأسفار ، أو لم يذكر وو وجدنا أكثرها بطول البحث والفحص ، وشرعنا بتأليف كتاب في ذكر الاقوال المنقولة في الأسفار ، وذكر مصادرها ومنابعها وقد طبع طائفة منها باسم العرفان والحكمة المتعالية ، ونسأل الله سبحانه التوفيق في إتمامه. وكلّما غصنا وخضنا في الأسفار زدنا فيه تحيّرا.

وغرضنا من هذه المقالة التي كأنّها خارجة عن موضوع الكتاب ، أنّ بعض من‏


عاصرناه بمجرّد أن رأي نقل طائفة من أقوال الأسفار من كتب ورسائل أخرى ، خرج عن زيّه وأساء الأدب بساحة صدر المتألهين بلسان بذىّ حيث أكثر ألفاظه الموهنة في تأدية رأيه الفائل قائلا مع ترعّد وتبرّق بـ :

أنّ الأسفار متخذ من كتب عديدة وصاحب الأسفار من عمله هذا قد اشتبه الأمر على الناس وأوقعهم في الشبهة والالتباس في سنين كثيرة؛ وقال : ولم يلتفت إلى عمله هذا السبزوارى المحشي للأسفار ولا استاذه المولى إسماعيل الأصفهانى بل ولا توجّه إليه الآخوند المولى على النوري ولا أحد ممن جاء بعد المولى الصدراء الشيرازى إلّا أنا.

ثمّ أهان هذا البعض بألفاظ ركيكة هؤلاء المشايخ الكبار ، نعوذ باللّه من طغيان القلم وهفوات اللسان وإساءة الأدب بأعاظم العلم والإيقان المرزوقين من مأدبة القرآن الفرقان.


ب) الحجة الثانية على تجرّد الخيال‏

أنّ الصورة الخيالية كصورة شكل مربع محيط بدائرة قطرها يساوى قطر الفلك الأعظم ، فهذه الصورة الشكلية إمّا أن تكون بالقياس إلى ما هي شكله في الموجودات الخارجية كأنّها شكل منزوع عن موجود خارجى وليس كذلك؛ أو يكون شكلا في مادة دماغية حاملة لها والمادة الدماغية مشتغلة بشكل صغير المقدار غير هذا الشكل ، والمادة الواحدة لا يجوز أن يشتغل في آن واحد بمقدار صغير في غاية الصغر وبمقدار عظيم في غاية الكبر ، ولا يشكل أيضا بشكلين متباينين دفعة واحدة.

وأيضا شكل الدماغ طبيعي ، وكذا مقداره مقدار طبيعى له وهذا الشكل الذي كلامنا فيه قد يحصل بالإرادة النفسانية على أي مقدار نريد وكذا غيره من الصور والأشكال.

وأيضا ربما يزداد المقدار المشكل الحاضر في الخيال وينبسط في تماديه إلى حيث يشاء النفس وكل جسم طبيعى لا يمكن أن ينمو ويزداد إلا بإضافة مادة من الخارج إليه فظهر أنه المقدار المشكل المتخيل ليس مقدارا لمادة دماغية ولا لغيره من الأجسام الخارجية فبقى أن تكون نسبة القوّة الدرّاكة إليه غير نسبة القوّة الحاملة لما يحلّها ولا نسبة ذى وضع بذى وضع آخر.

بل نقول من رأس إنّ تلك القوة لا محالة لها علاقة إلى ذلك الشكل فتلك العلاقة إمّا وضعية كالمجاورة والمحاذاة وما يجرى مجراها كما بين الأجسام الخارجية؛ وإمّا غير وضعيّة ، والقسم الأوّل محال لأنّ ذلك الشكل غير واقع فوق الإنسان ولا تحته ولا في يمينه أو يساره ولا قدّامه أو خلفه فبقى القسم الثانى ، وقد علمت أنّها ليست


بالقابلية بأن يكون المتخيل المشكل صورة لتلك القوة كما مرّ ، ولا بالمقبولية بأن تكون القوّة صورة له لا ستحالة كون المدرك بالقوّة صورة لما هو مدرك بالفعل فبقى أن تكون العلاقة بينهما بالفاعلية والمفعولية فكون المقدار المشكل فاعلا للقوّة الدرّاكة غير صحيح لما ثبت أنّ المقادير ليست عللا فاعلية لأمر مباين.

وأيضا هذه القوّة باقية فينا وتلك الصورة وأشباهها قد تزال وتسترجع.

فبقى أنّ القوّة الخيالية فاعلة إياها أو واسطة أو شريكة ، فهي لو كانت قوة مادية لكان تأثيرها بمشاركة الوضع وكل ما تأثيره بمشاركته فلا يؤثر إلّا فيما له أو لمحلّه وضع بالقياس إليه فالنار لا تسخن إلّا لما يجاورها في جهة منها ، والشمس لا تضي‏ء إلا لما يقابلها في جهة منها ، والصورة الخيالية غير واقعة في جهة من جهات هذا العالم.

وأيضا هي ممّا يحدث دفعة والقوّة الجسمانية لا يمكن أن يكون لها نسبة إلى نفس صورة شي‏ء تحدث تلك الصورة بسببها قبل وجودها لأنّ النسبة إلى ما لم يوجد بعد غير ممكنة ، وقد برهن على أنّ المؤثر الجسماني لا بدّ وأن يكون له تلك النسبة حاصلة قبل وجود أثره قبلية زمانية أو ذاتية فلا بدّ وأن يكون له تلك النسبة الوضعية بالقياس إلى مادة الأثر قبل حصول الأثر كمثال النار والشمس في تأثيرهما ، فلو كان للقوّة الخيالية وضع لكان ذلك الوضع حاصلا قبل حصول تلك الصور الخيالية الحادثة بالقياس إلى مادتها ، وقد ثبت أنّ تلك الصور لا مادة لها فالمؤثر في تلك الصور لا يمكن أن يكون قوة جسمانية مادية بوجه من وجوه التأثير فإذا لم تكن علاقة القوّة الخيالية إلى تلك الصورة وضعية جسمانية ، ولا هي عديمة العلاقة إليها فهي لا محالة مبدأ غير جسماني لها فتكون مجرّدة عن المادة وعلائقها هذا ما أردناه.

وتلخيصه : أنّ الصورة الخيالية غير ذات وضع وكل ما لا وضع له لا يمكن حصوله في ذى وضع فهي غير حاصلة في قوّة جسمانية لا بوجه القبول ولا بوجه الفعل ولا بوجه المباينة الوضعية فالمدرك لها قوّة مجرّدة وهي ليست القوّة العاقلة لأنّ مدركات العقل غير منقسمة لأنّها كلية.

وأيضا العقل متحد بالمعقولات عند صيرورته عقلا بالفعل ، وما يدرك المعقول من


حيث كونه مدركا له غير مدرك للمتخيل فإذن القوّة المدركة للصور المتخيّلة قوّة أخرى دون العقل فيثبت كون الخيال قوّة مجرّدة.

أقول : هذه الحجة هي الحجة الأولى من حجج تجرّد الخيال في الأسفار (ج ١ ، ط ١ ، ص ٣١٦). وقد حررناها في الدرس الثانى والسبعين من كتابنا الفارسى دروس معرفت نفس تحرير إيضاح وتبيين بالفارسية (ص ٢١١ ـ ٢١٧ ، ط ١) فلا نعيده هاهنا.

قوله : «وقد علمت أنّها ليست بالقابلية ـ إلى قوله لتلك القوّة كما مرّ». يعنى أنّ العلاقة ليست بالقابلية كما مرّ في صدر هذه الحجة من أنّ المادة الواحدة لا يجوز أن يشتغل في آن واحد بمقدار صغير ـ إلى قوله : «دفعة واحدة».

قوله : «وقد برهن على أنّ المؤثر الجسمانى إلخ». قد برهن ذلك في الفصل السادس والثلاثين من المرحلة السادسة من أنّ القوى الجسمانية لا تفعل ما تفعل إلّا بمشاركة الوضع إلخ (ج ١ ، ط ١ ، ص ٢٠٤).

والفرق بين هذه الحجة وبين الحجة الأولى أنّ محطّ النظر في الأولى الامتياز؛ وبعبارة أخرى الملاك في الحجة الأولى هو التمييز بين الصور الخيالية المتعددة التي لا وجود لها في الخارج ، بخلاف الثانية فإنّ ملاك البحث فيها هو الصورة الخيالية الواحدة التي لا تحقق لها في الخارج ثمّ إجراء البرهان على سبيل تشقيق السؤال فيها ، وإن كانت الحجتان في كثير من الأحكام متشاركتين ومتشابهتين.


ج) الحجة الثالثة على تجرّد الخيال هي :

أنّا حكمنا بأنّ السواد يضادّ البياض ، والحاكم بين الشيئين لا بدّ وأن يحضراه ، فقد برهنّا على أنّه لا بدّ من حصول السواد والبياض في الذهن أو للذهن ، والبديهة حاكمة بامتناع اجتماعهما في الأجسام والموادّ ، فإذن المحلّ الذي حضرا فيه وجبا أن لا يكون جسما ولا جسمانيا ، والمدرك لمثل هذه الصور الجزئية التي تمتنع عن الكلية والاشتراك بين الكثيرين لا يكون عقلا بل خيالا فثبت أنّ القوّة الخيالية مجرّدة عن المواد كلّها. (الأسفار ، ج ١ ، ط ١ ، ص ٣١٨).

أقول : هذه الحجة هي الحجة الثالثة من الفصل المذكور من الأسفار أيضا على تجرّد الخيال. وقد حرّرناها إجمالا في الدرس السبعين من دروس معرفت نفس بالفارسية (ص ٢٠٧ ، ط ١) ؛ وقد أتى بها الفخر في المباحث وهو الدليل الحادى عشر منه على تجرّد النفس الإنسانية على نحو الإطلاق (ج ٢ ، ص ٣٧٥). وأما التفصيل والتبيين بكونها من أدلة تجرّد الخيال على مبنى الحكمة المتعالية فمن مزايا الأسفار ، ولذا كانت عبارة الأسفار ذات إضافات وإشارات عرشية وعبارة المباحث عارية عنها.

على أنّ المباحث أتى بها على ما ذهب إليه الجمهور من كون الخيال محلا للصور لأنّهم ذهبوا إلى أنّ التخيّل بقوّة جسمانية وقد استدلوا بها بأمور ثلاثة أتى بها في المباحث (ج ٢ ، ص ٣٣٩ ، ط ١) وسنشير في المباحث الآتية إلى مآخذ البحث عنها وكلام القوم فيها. وحيث إنّ صاحب الأسفار قائل بأنّ الخيال ليس محلا لها أضاف في الحجة بعد قوله في الذهن : قوله أو للذهن؛ وعبارة المباحث عارية عن الشق الثانى أعنى أو للذهن ووجهه ظاهر على العارف بمعارف الحكمة المتعالية حيث إنّ الأوّل‏


على القيام الحلولى ، والثانى على القيام الصدورى.

ثمّ انّ صاحب المباحث بعد نقل الدليل المذكور أتى ببعض الاعتراضات عليه على مذهب الجمهور ، وصاحب الأسفار بعد الإتيان بها أتى بدقائق أخرى على مبنى الحكمة المتعالية ، وقد أومأ بتزييف ما عليه الجمهور على ما نحكى عبارته الشريفة وهي ما يلى :

لا يقال : التضاد بين السواد والبياض لذاتيهما فأين حصلا فلا بدّ وأن يتضادّا.

فنقول : انّه من المحتمل أن يكون تضادّهما في المحالّ التي تنفعل عن كل منهما وتتأثر فإنّ الجسم إذا حلّ فيه السواد يتغيّر وتترتّب عليه آثار مخصوصة كقبض الإبصار ونحوه ، وإذا حلّ فيه البياض يتغيّر وتترتب عليه آثار تخالف تلك الآثار؛ وأما المحل الإدراكى فلا ينفعل عنهما مثل هذه الانفعالات والاستحالات وكل منهما يطرأ ويزول ويجتمع معا ويفترق معا وهو كما كان.

هذا إن كان الخيال محلا لهما وأما على ما حققناه من أنّ حصول تلك الصور له هو بعينه حصولها عنه لأنّ نسبته إليهما بالفاعلية لا بالقبول الانفعالى ، ولو كان هناك قابليّة هي عين الفاعلية كما في علوم المفارقات ، وبالجملة شرط التضاد بينهما هو الموضوع الانفعالي المادّي لا غير فلا استحالة في اجتماعهما لمحلّ غير مادّي أو لجوهر فاعلي.

وليس لقائل أن يقول : إنّا إذا تصوّرنا السواد والبياض والحرارة والبرودة فلا تنطبع هي أنفسها بل تنطبع صور هذه الأمور ومثلها فقط فلهذا لا يلزم أن تكون حارّة باردة عند انطباع هذه الأمور.

لأنّا نقول هذه الأمور التي سمّيتموها بأنّها صور السواد والبياض وغيرهما هل لها حقيقة السواد والبياض أم لا؟ فإن كانت لها حقيقتهما وقد انطبع في النفس صور تلك الأمور التي هي بالحقيقة سواد وبياض وحرارة وبرودة واستدارة واستقامة فيجب عند ذلك أن تصير النفس حارة وباردة ، سوداء وبيضاء ، مستقيمة ومستديرة فتكون جسما؛ وإن لم تكن لتلك الصور التي تصوّرناها حقيقة السواد والبياض والحرارة


والبرودة لم يكن إدراك الأشياء عبارة عن انطباع ماهية المدرك في المدرك.

وأيضا نحن نعلم بالوجدان عند تخيّلنا ومشاهدتنا لتلك الأمور أنا نشاهد السواد والبياض والحرارة بعينها كما أحسسناها في الخارج. فالتحقيق كما بيّنّاه أنّ نسبة النفس إليها نسبة الفاعلية والإيجاد ، وهذه النسبة أشد وآكد من نسبة المحل المنفعل لأنّ نسبة الفاعلية بالوجوب ونسبة القابلية بالإمكان ، والوجوب آكد من الإمكان في باب النسبة. انتهى.

أقول : قوله «وأمّا على ما حققناه من أنّ حصول تلك الصور له إلخ» هذا هو جوابه التحقيقى في قبال الجواب الاحتمالى الذي أتى به الفخر في المباحث أولا بقوله : «من المحتمل أن يكون تضادهما في المحالّ إلخ». وقد مضى تحقيقه في الوجود الذهنى حيث قال في أوّل الفصل الأوّل من المنهج الثالث :

كل صورة صادرة عن الفاعل فلها حصول له. بل حصولها في نفسها نفس حصولها لفاعلها ، وليس من شرط حصول شي‏ء لشي‏ء أن يكون حالّا فيه وصفا له بل ربما يكون الشي‏ء حاصلا لشي‏ء من دون قيامه به بنحو الحلول والوصفية كما أنّ صور جميع الموجودات حاصلة للباري حصولا أشدّ من حصولها لنفسها أو لقابلها. (ج ١ ، ط ١ ، ص ٦٥).

مزيد فائدة : عبارة الأسفار في هذه الحجة هي عبارة الفخر في المباحث وقد دريت أنّها الدليل الحادى عشر منه في بيان أنّ النفس الإنسانية ليست بجسم ولا منطبعة في جسم. والفرق بين ما في المباحث وبين ما في الأسفار أنّ صاحب الأسفار أضاف إليها قيودا حتى خصّصها بتجرّدها المثالى أعنى تجرّدها الخيالى البرزخى ، وصاحب المباحث جعلها حجة على تجرّدها العقلى. وانما غرضنا الآن نقل ما في المباحث فإنّه يوجب للمحقق زيادة استبصار في تحقيق البحث.

قال : الدليل الحادى عشر وهو أنا إذا حكمنا بأنّ السواد يضاد البياض فقد برهنا على أنّه لا بدّ من حصول السواد والبياض في الذهن ، والبداهة حاكمة بامتناع اجتماعهما في الأجسام والجسمانيات ، فإذا المحلّ الذي حضرا فيه وجب أن لا يكون جسما


ولا جسمانيا.

فإن قيل : التضاد بين السواد والبياض لذاتيهما فأين حصلا فلا بدّ وأن يتضادّا. فنقول : انّه من المحتمل أن يكون تضادّهما أنّما يتحقق في بعض المحالّ دون البعض فيكون من شرط المحل الّذي يظهر عليه التضاد أن يكون جسما ، وعند ما لا يكون المحلّ جسما لا يتحقق شرط التضاد فلا يتحقق التضاد.

ولقائل أن يقول : الشك المذكور متوجه هاهنا أيضا ، وهو أنّ النفس إذا تصورت الكريّة فان وجدت الكرّية فيها لزم أن تصير النفس كرة لأنّه لا فرق في العقل بين أن يقال هذا الشي‏ء كرة ، وبين أن يقال صورة الكرة؛ وكذلك القول في السواد والبياض والحرارة والبرودة.

وليس لأحد أن يقول إنّ انطباع صورة الكرة في النفس كانطباعها في المرآة حين ما تشاهد الكرة في المرآة لأنّا بيّنا أنّ الأشياء التي شاهدناها في المرآة ليس ذلك لأجل انطباع صورها فيها.

وليس لأحد أن يقول : إنّا إذا تصورنا السواد والبياض والحرارة والبرودة فلا ينطبع السواد والبياض والحرارة والبرودة في النفس بل تنطبع فيها صور هذه الأمور ومثلها فقط فلهذا لا يلزم أن تكون النفس حارة باردة عند انطباع هذه الأمور فيها.

لأنّا نقول : هذه الأمور التي سميتموها صور السواد والبياض ومثلها هل لها حقيقة السواد والبياض أم لا؟ فإن كانت لها حقيقة السواد والبياض فمثال السواد والبياض وصورتهما أيضا سواد وبياض فقد انطبع في النفس سواد وبياض وحرارة وبرودة واستدارة واستقامة فيجب أن تكون النفس سوداء بيضاء حارة بارة مستديرة مستقيمة فتكون حينئذ جسما؛ وإن لم تكن لصور السواد والبياض والاستدارة والاستقامة ومثلها حقيقة السواد والبياض والاستقامة والاستدارة لم يكن إدراك الأشياء عبارة عن انطباع ماهية المدرك في المدرك. فهذا الشك لا بدّ وأن يحتال في حلّه إن فسر الإدراك بالانطباع ، أو اعتبر فيه الانطباع كيف كان ولولاه لكانت هاتان الحجتان قويتين جدّا. انتهى.

أقول : «قوله الشك المذكور متوجّه هاهنا أيضا» يريد بذلك الشك ما تقدّم في تقرير الدليل الذي عوّل عليه أفلاطون في تجرّد النفس الناطقة ، وهو الدليل العاشر من المباحث ، والحجة الثانية من الأسفار على تجرّد النفس تجرّدا مثاليا ، والحجة الاولى في‏


كتابنا هذا على هذا التجرّد ، كما أنّهما المراد من قوله : «ولو لاه لكان هاتان الحجتان قويتين جدّا». وقد تقدّم ما يجب أن يقرر. وأنت بعد معرفة ما تقدّم هان عليك جواب الشّك المذكور.

تبصرة : أصل هذه الحجة في الحقيقة هي الحجة الثالثة التي أتى بها الشيخ الأجل ابن سينا في الحجج العشر على تجرّد النفس تجرّدا عقليا لأنّ ما فرض من المتضادين فيهما هما الصورتان المعقولتان ، فسياق الحجة فيهما واحد فإذا أخذ فيها المتقابلات على صورها الجزئية فتختص بتجرّد الخيال ، وإذا أخذت على صورها الكلية فتختص بالتجرّد العقلى. قال الشيخ :

لو كانت الصورة المعقولة تحتلّ جسما من الأجسام وتلابسه لامتنع إدراك المتضادّين بادراك واحد معا لأن صورتى الضدين هكذا. وبالجملة المتقابلات لا تحلّ في جسم معا ولكن الجسم في محلّ هذه الصورة مخالف لهذا فانه مهما حلّ فيه صورة أحد المتقابلين وجب ضرورة أن تحلّ معه صورة المقابل الثاني إذ علم المتقابلات يكون معا فتبيّن أن هذا الجوهر أعنى القابل للعلم غير جسم بل هو جوهر غير جسمانى وذلك ما أردنا أن نبيّن (ص ٨ ، ط حيدرآباد الدكن).

أقول : لفظة «هكذا» في العبارة المنقولة إمّا زيدت في النسخة المطبوعة ، وكان الأصل غير مقروّة بإصابة خرم أو ماء أو آفة أخرى فأضاف المصحّح تلك اللفظة وترك في تجاهها قريبا من نصف سطر بياض؛ ولعلّ عبارة الأصل كانت هكذا : لأنّ صورتى الضدّين المعقولين لا تحلّان جسما معا وبالجملة المتقابلات إلخ؛ أو أنّ العبارة لو تركت بصورتها لكانت تماما ولا حاجة إلى ذلك التقدير فكانت العبارة هكذا : «لأنّ صورتى الضدين وبالجملة المتقابلات لا تحلّ في جسم معا» ولا دغدغة فيها؛ أو أنّ لفظة «هكذا» من عبارة الشيخ بلا توهم سقط ، فحينئذ كان معناها : لأنّ صورتى الضدّين هكذا أي امتنع إدراك المتضادين بإدراك واحد معا ثمّ عمّم الحكم بأنّ ذلك الامتناع لا يختص بالضدين ، فقال : «وبالجملة المتقابلات سواء كانت ضدين أو غيرهما لا تحل في جسم معا». والأخير هو الصواب.


بيان الحجة : أنّ الأضداد بل المتقابلات لا تحلّ جسما ولا تلابسه معا؛ وإن يحلّ متقابل في طرف من جسم ومتقابل آخر في طرف آخر منه صدق أيضا أنّ المتقابلين لم يحلّا جسما واحدا أي محلّا واحدا فان محلّ هذا مخالف لمحلّ هذا ، وأما جوهر النفس الناطقة فاذا أدرك أي علم وتعقل الصورتين المعقولتين المتقابلتين أدركهما معا فهو جوهر غير جسمانى. فعلى هذا السياق نقول في تقرير الحجة : لو كانت الصورة المعقولة تحلّ جسما وتلابسه أي لو كانت النفس جسما لامتنع إدراك المتضادين معا بإدراك واحد لأنّ صورتى المعقولتين المتقابلتين ، وبالجملة المتقابلات مطلقا لا تحل في جسم معا ، ولكن حلولها في جسم يصحّ من حيث إنّه يقبل الانقسام وكل قسم مخالف لقسم آخر ، فيصح أن يكون كل قسم من أقسامه محلّ صورة متقابلة لصورة أخرى؛ وأمّا جوهر النفس فإنّه مهما حلّ فيه صورة إحدى المعقولتين المتقابلتين وجب ضرورة أن تحلّ معها صورة الأخرى لأنّ جوهر النفس يقضى بأنّهما متقابلتين والقضاء فرع على حضور المقضى عليهما معا ، أي حكمه ذلك متفرع على علمه بالمتقابلات معا فتبين أنّ هذا الجوهر الحاكم القابل للعلم غير جسم بل هو جوهر غير جسمانى.

الحجة المذكورة نقلها أبو البركات في الفصل الثالث عشر من الجزء السادس من المعتبر قال :

احتجّوا بأنّ النفس جوهر غير جسماني .... وبأنّ النفس الناطقة التي هي محلّ المعقولات لو كانت قوة جسمانية لحلّت معقولاتها الجسم الذي هو محلّها فامتنع عليها إدراك المتضادين وجمعهما في التصوّر معا ، ونفس الإنسان تعقل المتضادين معا وتقيس أحدهما إلى الآخر وتحكم عليهما وفيهما بما يلزمهما معا من الإضافة والضدية والمناسبة والمباينة التي لا تلزم أحدهما دون الآخر لكن بالآخر ومعه وعنه فليست من القوى الجسمانية. (ج ٢ ، ص ٣٥٧ ، ط حيدرآباد الدكن).

ثمّ اعترض عليها في الفصل التالى في تأمل حجج التجرّد وتتبّعها بقوله :

وأما القائلة بأنّ النفس العاقلة لو كانت قوّة جسمانية لحلّت معقولاتها الجسم الذي


هو محلّها فامتنع عليها إدراك المتقابلات والأضداد معا ، فلا بأس بها فإنّ الأجسام وما يحلّها من الأضداد والمتقابلات لا يجتمع في الموضوع الواحد منها الضدّان معا والنفس تجمع صورتيهما فتحكم فيهما وعليهما وتقيس إحداهما إلى الأخرى فما حلّت عندها في اجتماعها معا جسما. فإن اعترض فيها معترض فقال : إنّ الخاصية في ذلك أنّما هي في الصور الحالة لا في المحلّ فإنّ هذه الصور غير تلك بالنوع والماهية بل هي غيرها وتلك موجودة طبيعية في موضوعها وعلى طباعها ، وهذه موجودة في محلّها لا على طباع تلك وخواصّ أفعالها فإنّ تلك تحرق نارها ويجمد ثلجها وهذه لا تحرق ولا تجمد فكما ارتفع عنها خواص الأفعال ارتفع عنها لوازم التضاد كان هذا الاعتراض مؤثرا فيها إلى ما يعضدها غيرها فتكون الحجة تلك لا هذه. (ج ٢ ، ص ٣٦٠).

‏ثمّ اعتمد عليها وصوّبها في الفصل التالى بقوله :

والحجة القائلة بإدراك الضدّين معا نعم الحجة لكنّها لا تبرئ تلك القوى الأخرى التي ذكروها ، بل حكمها في ذلك لو كانت حكم النفس فيما ذكرنا فمتصور الضدين وحافظهما وذاكرهما ليس من عالم الطبيعة فما هو جسم ولا عرض في الجسم حتى يتميز لهم نفس هي جوهر غير جسمانى مع القوى الجسمانية الأخرى. (ج ٢ ، ص ٣٦٧).

أقول : الاعتراض المذكور في المعتبر هو نحو ما في حكمة العين للكاتبى وسترى بعض الإشارات منّا في ذلك وتذعن أنّ الحجة قوية جدّا ، وهي دالّة على تجرّد النفس بأنحائه الثلاثة من التجرّد الخيالى والعقلي وفوق التجرّد العقلي. ثمّ إنّ الحجة المذكورة هو الوجه الرابع من وجوه تجرّد النفس الناطقة في حكمة العين ، قال الكاتبي :

«الرابع أنّ القوّة العاقلة تدرك السواد والبياض معا فتكون مجرّدة والإلزام اجتماع الضدين في جسم واحد» انتهى (ص ١٤٣ ، ط ١).

أقول : يعنى بالجسم الواحد النفس الناطقة التي هي محل السواد والبياض معا ، أي لو كان النفس جسما للزم اجتماع الضدين في ذلك الجسم الواحد. قال العلامة الحلّي‏


في الشرح (إيضاح المقاصد) :

أقول هذا برهان آخر يدلّ على تجرّد النفس. وتقريره أنّ القوّة العقلية تدرك الضدّين معا كالسواد والبياض ، فلو كانت جسمانية لزم اجتماع الضدّين في جسم واحد ، وقد بيّنا أنّ التعقل يستدعى الحصول في العاقل ، واجتماع الضدّين في جسم واحد محال ، وإلا لم يكونا ضدّين فوجب القول بتجرّد العاقل وهو النفس. انتهى.

ثمّ اعترض الكاتبى على الدليل بقوله :

وأمّا الرابع؛ فلا نسلّم لزوم اجتماع الضدين في جسم واحد ، وإنّما يلزم ذلك أن لو كانت صورة السواد ومثاله مضادا لصورة البياض ومثاله ، وهو ممنوع؛ بل المضادة بين السواد والبياض بعينهما لا بين مثاليهما؛ سلّمناه لكن لا نسلّم استحالة اجتماعهما في جسم واحد فإنّه يجوز أن يجتمع الضدّان في جسم واحد ، بل المستحيل اجتماعهما في محل واحد لا في جسم واحد فإنّه يجوز أن يجتمع الضدّان في جسم واحد بأن يكون أحدهما حاصلا في بعض أجزاء الجسم والآخر حاصلا في البعض الآخر وحينئذ يكون محل أحدهما غير محل الآخر.

وقال الشارح العلامة : تقرير الاعتراض على الوجه الرابع أن نقول :

الصورة المعقولة من السواد والبياض الحاصلة في الذهن أنّما هي مثال السواد والبياض وشبحهما لا نفسهما وإذا كان كذلك فيمتنع التضادّ بينهما ، وإن كان التضادّ واقعا في المنسوبين إليهما ، وإذا كان كذلك جاز اجتماعهما في القوّة الجسمانية العاقلة؛ سلّمنا وقوع التضادّ بين الصورتين لكن نمنع اجتماعهما في محل واحد لو كانت القوّة العقلية جسمانية وإنّما يلزم ذلك لو حلّا محلا واحدا ولا يلزم من اجتماعهما في جسم واحد اجتماعهما في محل واحد فإنّ الجسم منقسم فجاز أن تحصل صورة السواد في جزء منه وصورة البياض في جزء آخر. انتهى.

وأقول : قد تحقق في الحكمة المتعالية أنّ الضدّين الخارجيين والذهنيين وإن كانا بحسب نحوى الوجود متفاوتين ولكن ماهيّتيهما محفوظتين فيهما ايفاء لحق العلم فإنّه الصورة الحاصلة من الشي‏ء عند العقل ، ثمّ إذا انحلّت صورتا المتضادّين في محلين من‏


جسم واحد فكأنّهما حلّتا في الجسمين فإنّ ملاك امتناع الاجتماع هو اجتماعهما في محل واحد جسمانى ، والنفس إذا استحضرت الصورتين بالانتزاع أو الانشاء والانتشاء لتقضى عليهما بالتضادّ ونحوه فهما حاضرتان معا عندها بلا تفرقة وبينونة ، والمنازع مكابر مقتضى عقله.

تبصرة : المحقق الطوسى في تجريد الاعتقاد ذكر سبعة أوجه في تجرّد النفس ، وسابعها قوله «وهي جوهر مجرّد ... لحصول الضدّ» (ط ٧ ، ص ٢٨١ بتصحيح الراقم وتعليقاته عليه) فما يخطر لنا في معنى قوله هذا هو أنّ المراد من حصول الضدّ هو اجتماع الضدّين على هذا الوجه الذي كلامنا فيه في هذه الحجة؛ وأما الشارح العلّامة فحمل قوله هذا على وجه آخر حيث قال.

وتقريره أنّ القوة الجسمانية مع توارد الأفعال عليها وكثرتها تضعف وتكلّ لأنّها تنفعل عنها ، ولهذا فإنّ من نظر طويلا إلى قرص الشمس لا يدرك في الحال غيرها إدراكا تامّا والقوى النفسانيّة بالضدّ من ذلك ، فإنّ عند تكثر التعقّلات تقوى وتزداد ، فالحاصل عند تكثر التعقلات تقوى وتزداد ، فالحاصل عند كثرة الأفعال هو ضدّ ما يحصل للقوّة الجسمانية عند كثرة الأفعال ، فهذا ما خطر لنا في معنى قوله رحمة اللّه : ولحصول الضدّ.

تبصرة أخرى : قد أشرنا آنفا إلى أنّ هذه الحجة التي نبحث عنها دالّة على تجرّد النفس بأنحائه الثلاثة ، أمّا على نحوى تجرّد الخيال والعاقلة فقد أفاد المتأله السبزوارى في منظومته المسماة بـ ـ غرر الفوائد في فنّ الحكمة وقد جعل الحجة الدليل التاسع منها ، بقوله :

والتاسع قولنا : لها أي للنفس حاصل بلا تزاحم وتمانع كل الصور. بيانه : أنّ النفس مجمع كلّ صور الموجودات ومزدحم المتقابلات ففي مقام العاقلة مجمع الصور الكليّة والمجرّدات ، وفي مقام الخيال معترك صور السماوات والأرضين والجبال والبلدان والأشخاص وبالجملة صور جميع المحسوسات ومثل المتقدّرات ، كل ذلك بهيئاتها ومقاديرها بلا تدافع بين متقابلاتها؛ بل مورد للصور الغير الإدراكية من الميول


المتضادة والأهواء المتخالفة ، ولا شي‏ء من الجسم والجسمانى كذلك؛ وهذا الدليل يثبت تجرّد الخيال أيضا فضلا عن العاقلة. انتهى.

وأمّا دلالتها على تجرّد النفس فوق تجرّدها العقلى فلأنّ تلك الصور سواء كانت بإنشاء النفس إيّاها ، أو بانتزاعها إيّاها لا تكون لها نفاد ، قال عزّ من قائل : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي) الآية (الكهف ، ١١٠). وقال : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ‏) الآية (لقمان ، ٢٨). ولا تأبى تلك الكلمات النورية الوجودية على أن تكون صورها حاضرة لدى النفس قائمة بها ، ولا النفس آبية على استحضارها ، فهذا هو مقامها اللّايقفى الذي يعبّر عنه بتجرّدها فوق العقلانى. وستأتى زيادة البحث عن ذلك في ذكر الأدلّة على فوق تجرّدها.

ثمّ أنّ المتأله السبزوارى جعل هذه الحجة البرهان السابع من كتابه أسرار الحكم ، وحرّره أتم وأوسع ممّا في غرر الفرائد حتى يشمل التجرّدات الثلاثة المذكورة حيث قال في أثناء التحرير «بل كلّما زاد النفس علما زادت سعة» وهذا الكلام الكامل ناظر إلى ما أفاضه الوصيّ أمير المؤمنين على عليه السّلام من قوله المسطور في النهج : «كل وعاء يضيق بما جعل فيه إلا وعاء العلم فإنّه يتّسع به» فإنّ ما أفاضه المرتضى يدلّ على تجرّد النفس فوق تجرّدها العقلى كما سيأتي التحقيق في ذلك على التفصيل.

وهذه الحجة نقلها بهمنيار في الفصل الثانى عشر من كتاب النفس من التحصيل فقال :

ومما يبيّن بسرعة أنّ للنفس قوّة مفارقة وهي المسماة بالعقلية : أنها تدرك أشياء يمتنع وجودها في الجسم كالضدّين معا ، وكالنور والظلمة معا ، وكالعدم والملكة معا؛ وأشياء كثيرة من هذا الجنس. ولوجود مثل هذه الأمور في النفس على الوجه المذكور يمكننا أن نحكم بأنّه لا وجود لشي‏ء من هذه الأشياء في الأجسام. وبالجملة فالمعقول هو الموجود المجرّد عمّا سواه ، ونحن نعقله على هذا الوجه ونحكم بأنّ كذا مجرّد عن المادة فيجب أن يكون هذا الموجود إمّا في الأعيان وإمّا في العقل ، ولا يكفى وجوده في الأعيان عند إدراكه فيجب أن يكون له وجود مجرّد عن المادة


في النفس ، فلو وجد في قوّة جسمانيّة لم يكن وجوده وجودا عقليا أو معقوليّا بل متخيلا ، ومعلوم أنّ الوحدة المطلقة لا يمكن أن تدرك بجسم وإلّا لكانت أجزاء.

فإن قيل إنّ الوحدة قد تعرض أو تحمل على الجسم؛ كان الجواب أنّ الوحدة المقدارية لها أقسام بالقوّة ، وأمّا الوحدة المطلقة المشروطة فيها أنّه لا قسم لها لا بالقوّة ولا بالفعل فإنّها مجرّدة. بل نقول : إنّ كل معنى فهو واحد ليس فيه من حيث وحدته شي‏ء غير شي‏ء ، ونحن ندرك تلك المعانى على هذه الصفة ، فلو كانت تدركها بقوّة جسمانية لكان يعرض أن يكون فيها شي‏ء غير شي‏ء فما كنا ندركها. وأيضا فانا ندرك أشياء غير مشار إليها ونحكم بأنّها غير مشار إليها ، فلو أدركت بقوّة جسمانية لكانت مشارا إليها. (ص ٨١٠ ، ط ايران).

وهذه الحجة هو الوجه الرابع من وجوه تجريد النفس في المواقف للقاضى عضد عبد الرحمن بن أحمد الإيجى ، وقد أتى فيه بخمسة وجوه من وجوه التجريد فقط.

عبارة المواقف مع شرح السيد الشريف على بن محمد الجرجانى عليه مزجا هكذا :

الرابع منها أنّها تعقل الضدّين إذ تحكم بينهما بالتضادّ ، فلو كان مدركهما جسما أو جسمانيا لزم اجتماع السواد والبياض مثلا في جسم واحد وأنّه محال بديهة.

والجواب أنّ صورتى الضدّين لا تضادّ بينهما لأنّهما تخالفان الحقيقة الخارجية ، فليس يلزم من ثبوت التضادّ بين الحقيقتين ثبوته بين الصورتين ولو لا ذلك لما جاز قيامهما بالمجرّد أيضا لأنّ الضدّين لا يجتمعان في محل واحد ماديا كان أو مجرّدا.

وإن سلّمنا تضادّ صورتى الضدّين فلم لا يجوز أن يقوم كل منهما بجزء من الجسم الذي يعقلهما معا غير الجزء الذي قام به الآخر ، فلا يلزم اجتماع المتضادّين في محل واحد. (ص ٤٥٨ ، ط القسطنطنية).

وأنت بما قدّمنا حول هذه الحجة وغيرها تعلم أنّ كلّ واحد من قوله : انّ صورتى الضدّين لا تضادّ بينهما ، وانّ الضدّين لا يجتمعان في محل واحد ماديا كان أو مجرّدا ، ولا سيما إنّ قوله فلم لا يجوز أن يقوم ـ إلى آخره ـ بمعزل عن التحقيق فلا فائدة في إعادة لا عائدة فيها.


د) الحجة الرابعة على تجرّد الخيال :

كل جسم وجسمانى يصحّ اجتماع المتضادّين فيه من جهة قبوله للانقسام فيقوم ببعضه سواد وببعضه بياض كالجسم الأبلق ، أو ببعضه حرارة وببعضه برودة كالانسان إذا تسخّن بعض يده بالنار وتبرّد بعض آخر بالماء ، وكجسم بعضه محاذ لشي‏ء وبعضه ليس بمحاذ له ، فقد اجتمع في جسم واحد أمران متضادّان ومتناقضان لكون وحدة الموضوع في الجسمانيات ممّا يجامع الكثرة بوجه ، وليس كذلك حال النفس فإنّها لا يمكن أن يكون عالما بشي‏ء خيالي جزئي وجاهلا بذلك الشي‏ء أيضا كعلمنا بكتابة زيد وجهلنا به ، وكذلك الشهوة لشي‏ء والغضب عليه ، والمحبة والعداوة فإنّ الإنسان الواحد لا يمكن أن يشتهى شيئا ويغضب عليه ، أو يشتاق إلى شي‏ء ويتنفّر عنه ، فعلم أنّ القوّة الإدراكية والشوقية غير جسمانية وليست أيضا عقليّة فهي مجرّدة عن عالم الأجرام غير بالغة إلى عالم المعقولات. وأمّا تجويز كونها أمرا جسمانيا غير منقسم كالنقطة فقد مرّ بطلانها فإنّ النقطة نهاية ونهاية الشي‏ء لا يمكن أن يكون محلّا لأمر آخر غير حال في محلّ تلك النهاية.

أقول : نظير هذه الحجة هو الدليل الثانى عشر كتاب المباحث المشرقية للفخر الرازى في تجرّد النفس تجرّدا تامّا عقليا فإنّه قال :

الدليل الثانى عشر لو كان محلّ الإدراك قوّة جسمانية لصحّ أن يقوم ببعض ذلك الجسم علم وبالبعض الآخر جهل فيكون الشخص الواحد عالما وجاهلا بشي‏ء واحد في حالة واحدة. (ج ٢ ، ط حيدرآباد ، ص ٣٧٦).

وصدر المتألهين في الفصل المذكور من الأسفار أتى بقيود نحو قوله : «عالما بشي‏ء


خيالى جزئى وجاهلا بذلك الشي‏ء أيضا إلخ» ، فخصّصها بالتجرّد الخيالى. (ج ١ ، ط ١ ، ص ٣١٨ و ٣١٩). وعبارته في الأسفار هي ما نقلناها أوّلا وهي متضمّنة لبعض عبارات المباحث في أثناء اعتراضات حول الدليل المذكور في التجرّد التام العقلى فتبصّر.

وهذه الحجة في تجرّد الخيال قد حرّرناها تحرير إيضاح وبيان في الدرس الحادى والسبعين من كتابنا الفارسى : دروس معرفت نفس (ص ٢٠٩ ، ط ١).

والفرق بين هذه الحجة والحجة الثالثة أن ملاك النظر هناك هو عدم صحة اجتماع الضدين في محل واحد جسمانى ، وصحّته عند النفس؛ وملاك النظر هاهنا هو صحّة اقتران المتقابلين بل المتضادّين في جسم واحد وعدم صحّته عند النفس فالاجتماع هاهنا في عبارة الحجة بمعنى الاقتران فافهم.

قال صدر المتألهين في الفصل المذكور من عاشرة العلم الكلّى من الأسفار بعد الإتيان بالحجج الأربع المذكورة في أنّ المدرك للصور المتخيلة أيضا لا بدّ أن يكون مجرّدا عن هذا العالم ، ما هذا لفظه :

فهذه حجج قوية بل براهين قطعية على هذا المطلب ، ولهذا استبصارات أخرى أخّرنا ذكرها إلى مباحث علم النفس وعلم المعاد. وهذا الأصل عزيز جدّا كثير النفع في معرفة النشأة الثانية كما ستقف عليه انشاء اللّه؛ وبه تنحلّ إشكالات كثيرة : ما لأجله ذهب بعض الحكماء كالاسكندر إلى أنّ النفوس التي لم تبلغ مرتبة العقل بالفعل هالكة غير باقية. واستصعب الشيخ هذا الإشكال وتحيّر في دفعه في بعض رسائله كرسالة الحجج العشر. ولو لم تكن للنفس غير القوّة العقلية قوّة أخرى غير جسمانية خارجة في بابها عن القوّة إلى الفعل لكان القول بدثور العقول الهيولانية بعد دثور أبدانها حقا لا شبهة فيه عندنا وذلك لأنّ ما بالقوّة من حيث كونه بالفعل لا يمكن وجوده إلّا بأحد أمرين إمّا بخروجه من القوّة إلى الفعل بحصول ما هو قوّة عليه ، وإمّا ببقائه كما كان بتبعية ما هو قوّة منه.

وبالجملة لا بدّ من إحدى الصورتين الفعليتين إمّا السابقة أو اللّاحقة فإذا زالت الصورة الأولى ولم تحصل الآخرة فلا جرم تبطل تلك القوّة رأسا فإذا لو لم تكن في‏


الإنسان إلّا صورة طبيعيّة تقوم بها قوّة عقلية هيولانية فإذا فسد البدن تفسد تلك القوّة بفساده فلم يبق من الإنسان شي‏ء يعتدّ به مع أنّ الشرائع الآلهية ناصّة على النفوس الإنسانية سعيدة كانت أو شقية كاملة أو ناقصة عالمة أو جاهلة. (ج ١ ، ط ١ ، ص ٣١٩).

أقول : قد أشار صدر المتألّهين في كلامه المذكور إلى أمرين ينبغى للباحث المحقّق حثّ النظر إليهما : أحدهما مطويّ في قوله : «فهذه حجج قوية» حيث وصفها بالقوّة ، وثانيهما قوله : «وبه تنحلّ إشكالات كثيرة إلخ».

أمّا الأوّل فناظر إلى قول الفخر في المباحث فإنّه بعد ما نقل اثني عشر دليلا في تجرّد النفس منها بعض الحجج المذكورة كما أشرنا إليه قال :

فهذه جملة ما وجدناه من الأدلّة على إثبات تجرّد النفس ولم يقنعنا شي‏ء منها للشكوك المذكورة فمن قدر على حلّها أمكنه أن يحتجّ بها انتهى.

وحيث إنّ تلك الشكوك عند صاحب الأسفار موهونة مدفوعة وأجاب عن بعضها بما دريت ، قال : «هذه حجج قوّية».

وأمّا الأمر الثانى فهو ناظر إلى أصلين أصيلين أحدهما حشر النفوس التي لم تبلغ مرتبة العقل بالفعل؛ وثانيهما أنّ الحشر بالمعادين أي الجسمانى والروحانى معا. وقد نطق ببعض الإشارات إلى حشر تلك النفوس العين الثانية والعشرون من كتابنا سرح العيون في شرح العيون ، وبالكلام في المعادين العين التاسعة والخمسون منه.

تبصرة : أدلة تجرّد الخيال تثبت حشر النفوس التي لم تبلغ مرتبة العقل بالفعل ، وهذا كلام كامل رصين معاضدة بالنصوص الواردة على حشر النفوس مطلقا. ونحن نزيد ونقول انّ لها مع ذلك تكاملا برزخيا أيضا والتكامل البرزخى ينبّه عليه في العين الخامسة والخمسين من كتابنا عيون مسائل النفس وشرحها سرح العيون في شرح العيون ، ثمّ إنّ النكتة ٣٣٧ من كتابنا ألف نكتة ونكتة حائزة لمطالب أصيلة في ذلك.

تبصرة أخرى : هاهنا أدلة أخرى تثبت تجرّد النفس عقليا وخياليا معا. منها البراهين الثلاثة : السادسة والسابعة والثامنة من نفس الشفاء كما يأتى بيانها عن قريب.



الباب الثالث :

من الحجج البالغة على تجرّد القوّة العاقلة



الف) ومن الأدلّة على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليا :

أنّ الرّوح التي لك من جواهر عالم الأمر لا تتشكل بصورة ولا تتخلّق بخلقة ولا تتعين لإشارة ولا تتردّد بين سكون وحركة فلذلك تدرك المعدوم الذي فات والمنتظر الذي هو آت؛ وتسبح في الملكوت وتنفّس من عالم الجبروت.

أقول : ما نقلناه هو من كلام الفارابى في الفصوص. وهو يحتوى الدليلين على تجرّد النفس تجرّدا تامّا عقلانيا. أحدهما عدم تشكلها بصورة ، وعدم تخلّقها بخلقة ، وعدم تعيّنها لإشارة ، وعدم تردّدها بسكون وحركة والجوهر الكذائى ليس من الطبائع المادية المتصرّمة المقيّدة بالأحياز وسائر الأحكام الجسمانية. ثمّ قال فلعدم كونه كذلك يدرك المعدوم الذي فات والمنتظر الذي هو آت في وقت واحد وحالة فاردة والموجود الذي يجمع الماضى المعدوم والآتى المنتظر فهو فوق عالم الأجسام ومحيط عليها حيث يدرك في أفقه الأعلى السابق واللاحق كليهما. وكفى بذلك شاهدا القرآن الكريم حيث يخبرك الكشف المحمّدى صلّى اللّه عليه وآله ما مضى وما يأتى كأنّهما نصب عينك.

وثانى الدليلين هو قوله : «وتسبح في الملكوت ثمّ تتنفّس من عالم الجبروت».

وسباحة الروح التي للإنسان في الملكوت وتنفّسها من عالم الجبروت أمر وراء عدم تشكّلها بصورة وسائر أعدامها الراجعة إلى إطلاق جوهرها وبساطة ذاتها وإرسال حقيقتها.

وقريب من الدليل الثانى هو ما قاله الشيخ الإشراقى في الهيكل الثانى من هياكل النور : كيف تتوهّم هذه الماهية القدسية جسما وإذا طربت طربا روحانيا تكاد تترك‏


عالم الأجساد وتسترط عالم ما لا يتناهى.

وبالجملة أنّ بدن الإنسان مجاور للأرض ومحشور مع الطبيعة ، والإنسان في هذه الحال يدرك ما فات وما هو آت في الأعصار الخالية والقرون الآتية ، ويسبح في بحار الملكوت ثمّ يتنفس من ما ورائها عالم الجبروت فما هو وقع على الأرض غير ما هو أدرك وسبح وتتنفّس ثمّ المدرك والسابح الكذائى مجرّد عن المادة الطبيعية الجسمية وأحكامها. وشرحنا على فصوص الفارابى المسمّى به نصوص الحكم على فصوص الحكم في المقام لا يخلو عن بعض فوائد فإن شئت فراجعه (ص ١٧٩ ـ ١٨٢ ، ط ١).


ب) ومن الأدلّة على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا :

أنك لا تغفل عن ذاتك أبدا وما من جزء من أجراء بدنك إلّا وتنساه أحيانا ، ولا يدرك الكلّ إلّا بأجزائه ، فلو كنت أنت هذه الجملة ما كان يستمر شعورك بذاتك مع نسيانها فأنت وراء هذا البدن أو أجزائه.

أقول : نقلنا هذه الحجة من هياكل النور للسهروردي من نسخة مخطوطة من شرح الدوانى عليه. وفي مطبوعة مصر كانت العبارة هكذا : أنت لا تغفل عن ذاتك وما من جزء .. ، فلو كنت أنت هذه الجملة أو جزءا من أجزائها ما كان ... فأنت وراء هذه الجملة.

ولكن قوله : «أو جزءا من أجزائها» ، من عبارة الدوانى في الشرح. وبالجملة هي تدلّ بظاهرها على مغايرة جوهر النفس للبدن ، وبعد الغور فيها يستفاد منها تجرّدها أيضا لأنّه بعد ما ثبت أنّ النفس الناطقة من مقولة الجوهر ـ كما حرّر تحقيقه في شرح العين السادسة من كتابنا سرح العيون في شرح العيون. ـ وقد تحقق فيه أيضا أنّ كل جوهر شاعر بذاته فهو مجرّد عن المادة وأحكامها سواء كان مجرّدا تامّا عقليا كامل الجوهر بفضيلته الذاتية وهي الأمور الدائمة المتشابهة الأحوال أعنى بها المجردات المحضة التي هي المفارقات الكليّة ، أو كان نفسا عاقلة مستكملة ببدنها كالنفوس الإنسانية التي هي مبدأ الإرادة الكلية والجزئية وتتصور بالكليّات ، أو كان نفسا حيوانية لها تجرّد خيالى برزخى وكلها جوهر مجرّد قائم بذاته وشاعر بذاته.

تبصرة : قد تحقّق عند المشّاء أنّ كل عاقل فهو معقول؛ وأنّ كل معقول قائم بذاته فهو عاقل ، وقد برهن في الفصل التاسع عشر من النمط الثالث من إشارات الشيخ وشرح‏


المحقق الطوسى عليه. وقد تحقق في الحكمة المتعالية أنّ كل عاقل فهو معقول وأنّ كل معقول فهو عاقل على التفصيل المستوفى بيانه في كتابنا الفارسى دروس اتحاد عاقل به معقول.

ثمّ انّ النفوس الحيوانية مجرّدة دون التجرّد العقلى على التفصيل الذي تبيّن في العين الاحدى والعشرين من كتابنا المذكور سرح العيون في شرح العيون ، فهي جواهر مجرّدة غير تامة التجريد ، ولذا قلنا : كل جوهر شاعر بذاته فهو مجرّد ليعمّ الحكم الأقسام كلّها؛ ولو قلنا مكانه : انّ كل جوهر عاقل بذاته فهو مجرّد لم يشمل النفوس الحيوانية.

وحاصل هذا الاستدلال قياس من الشكل الثانى ، مؤدّاه أنّ ذاتك معلومة لك دائما ، وبدنك أو كل جزء منه غير معلوم لك دائما ، وغير المعلوم دائما غير المعلومة دائما فذاتك غير بدنك وغير أيّ جزء من أجزائه فتدبّر.

ثمّ انّ ظاهر الاستدلال يفيد مغايرة النفس للبدن وأما كونها مجرّدة فيتمّ بكونها جوهرا غير غافل عن ذاته والجوهر الشاعر بذاته مجرّد إما تجرّدا غير تام ، أو تجرّدا تامّا عقليا ، أو تجرّدا أتم من ذلك.

ثمّ يجب التعمّق في ما هو مأخوذ في هذا الدليل من أنّ النفس تغفل عن أجزاء بدنه أحيانا ، وفي ما قاله ابن الفنارى في جواب السؤال الخامس من خاتمة مصباح الأنس من أنّ الباطن غير غافل عن الظاهر حتى النائم في نومه والسكران في سكره ولذا يتنبّه بأدنى ما يصيبه لكنّ الظاهر قد يغفل عن الباطن مع حضوره بالاشتغال بغيره (ص ٣٠٤ ، ط ١).

وهذا الدليل من هياكل النور بالعربية مترجم في الهياكل النور بالفارسية : بدان كه تو غافل نباشى از خود هرگز ... (مجموعة مصنفات الشيخ الإشراقى ، ج ٣ ، ص ٨٥ ، ط ايران).


ج) ومن الأدلّة على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا :

أنّ بدنك أبدا في التحلّل والسيلان ، وإذا أتت الغاذية بما تأتى وإن لم يتحلّل من بدنك العتيق عند ورود الجديد لعظم بدنك جدّا ، ولو كنت أنت هذا البدن أو جزءا منه لتبدّلت أنانيتك كلّ حين ولما دام الجوهر المدرك منك فأنت أنت لا ببدنك كيف ويتحلّل وليس عندك منه خبر فأنت وراء هذه الأشياء.

أقول : هذا الدليل نقلناه من هياكل النور للسّهروردى من نسخة مخطوطة من شرح الدوانى عليها. والعبارة نقلت في طبعة مصر هكذا :

بدنك أبدا في التحلل والسيلان ولو أتت الغاذية بما تأتى به ولم يتحلّل من العتيق قبل ورود الجديد شي‏ء لعظم بدنك جدّا ، ولمّا كان الجوهر المدرك منك ثابتا على حال واحد فأنت أنت لا ببدنك وكيف تكون أنت إيّاه وهو في التحلّل وليس عندك منه خبر فأنت وراء هذه الأشياء (ص ١١).

ثمّ إنّ ما هو مستفاد من ظاهر هذا الدليل هو أنّ الإنسان وراء هذا البدن أي يفيد مغايرة النفس للبدن وأمّا انّ ذلك الأمر حقيقة مجرّدة عن المادة وأحكامها فيحتاج إلى ضميمة أمور أخرى وتضمينها في الدليل.

والزيادات في المطبوع المذكور توجد في عبارات شرح الدوانى عليه. وخلاصة الدليل : أنّ البدن يتبدّل دائما والنفس باقية مستمرّة فهي غيره.

وهذا الدليل مترجم بالفارسية في هياكل النور : «بدان كه تن تو پيوسته در نقصانست إلخ (مجموعة مصنّفات الشيخ الإشراقى ج ٣ ، ص ٨٥ ، ط ايران).


د) ومن الأدلّة على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا

أنّ الحواس لا تدرك إلّا المفردات أعنى أنّ مدركاتها مفردات ، وليس فيها حكم والحكم معتبر فيه الإسناد ويتطرق فيه الصدق والكذب وفينا حاكم يصدّق بعض مدركات الحواس ، ويردّ بعضها الآخر وهو العقل؛ فلو كان جميع قوى الإنسان مادّية لكان عاريا عن ذلك الحاكم العاقل والتالي باطل فالمقدّم مثله.

ولست أعني بقولي هذا أنّ الحكم مركّب وذلك لأنّ الحكم فعل من أفعال النفس وإنشائها وهو بسيط ، ولكنّ ذلك الحكم البسيط لا يصدر عن القوى الحسّية فافهم.

وهذا الدليل قويم جدّا ، وواجب تسرّيه في جميع الأحكام المتفرعة على المفردات المدركة فإنّها من حيث هي أحكام من المعاني الكلية لن تنالها أيدى الحواس قط ، فالمدرك الذي يستنبط منها أو من غيرها أحكاما ويحملها عليها غيرها بالضرورة وذلك الغير هو المدرك للكلّيات أي العقل فتبصّر.


هـ) ومن الأدلّة على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا

أنّ الإنسان يسمع الصوت ويميّز بين القريب والبعيد منه وهما من المعانى فالسمع بمعزل عن إدراكها. وصاحب الأسفار في الفصل الثانى من الباب الرابع من الجواهر والأعراض منه بعد إثبات وجود الصوت في الخارج ، أفاد بقوله الشريف :

أنّ المدرك والمحسوس لا بدّ وأن يكونا أمرا موجودا عند المدرك حالة إدراكه والموجود عند الجوهر الحاس لا بدّ وأن يكون ملاصقا له ، وهيئة الصوت وشكل التموّج وإن كانا موجودين عند السامعة لكن صفتى القرب والبعد غير موجودتين عندها. والتحقيق أن يقال إن تعلق النفس بالبدن يوجب تعلقها بما اتصل به كالهواء المجاور بحيث كأنهما شي‏ء واحد تعلقت به النفس تعلّقا ولو بالعرض ، فكلما حدث فيه شي‏ء مما يمكن للنفس إدراكه بشي‏ء من الحواس من الهيئات والمقادير والأبعاد بينها والجهة التي لها وغيرها فأدركت النفس له كما هو عليه. انتهى كلام صدر المتألهين في المقام (ج ٢ ، ص ٣٢ ، ط ١).

أقول : قوله «والتحقيق أن يقال إلخ» ، هذا التحقيق الأنيق هو أحد البراهين على أنّ النفس الناطقة تصير بتكاملها الجوهرى عارية عن المواد ومجرّدة عن الأحياز وسائر أوصاف المادة وهذا التحقيق كلام سام سامك يعقله من كان له قلب.

فالنفس الناطقة لمّا كانت غير منطبعة في البدن فبحكم تجرّدها النورى المبسوط تتعلق بما ورائه فيدرك القرب والبعد في الأصوات من هذه الحيثية. ويمكن إدراج هذا الدليل في الرابع من هذا الباب ، كما لا يخفى على المستبصر.


و) ومن الأدلّة على تجرّد النفس النّاطقة تجرّدا تامّا عقليّا

كما في رسائل الكندى الفلسفية (ص ٢٧٣ ، ط مصر) :

أنّ النفس بسيطة ذات شرف وكمال ، عظيمة الشأن ، جوهرها من جوهر البارى عزّ وجلّ ، كقياس ضياء الشمس من الشمس.

وقد بيّن أنّ هذه النفس منفردة عن هذا الجسم مباينة له ، وأنّ جوهرها جوهر الهى روحانى ، بما يرى من شرف طباعها ومضادّتها لما يعرض للبدن من الشهوات والغضب.

وذلك أنّ القوّة الغضبيّة قد تتحرك على الإنسان في بعض الأوقات فتحمله على ارتكاب الأمر العظيم فتضادّها هذه النفس وتمنع الغضب من أن يفعل فعله أو أن يرتكب الغيظ وترته وتضبطه ، كما يضبط الفارس الفرس إذا همّ أن يجمح به أو يمدّه.

وهذا دليل بيّن على أنّ القوّة التي يغضب بها الإنسان غير هذه النفس التي تمنع الغضب أن يجرى إلى ما يهواه ، لأنّ المانع لا محالة غير الممنوع لأنّه لا يكون شي‏ء واحد يضادّ نفسه.

فأمّا القوّة الشهوانية فقد تتوق في بعض الأوقات إلى بعض الشهوات ، ففكّر النفس العقلية في ذلك أنّه أخطأ ، وأنّه يؤدّي إلى حال رديّة فتمنعها عن ذلك وتضادّها. وهذا أيضا دليل على أنّ كلّ واحدة منهما غير الأخرى.

وهذه النفس التي هي من نور البارى عزّ وجل إذا هي فارقت البدن علمت كلّ ما في العالم ، ولم يخف عنها خافية والدليل على ذلك قول أفلاطن حيث يقول : إنّ كثيرا من الفلاسفة الطاهرين القدماء لما يتجرّدوا من الدنيا وتهاونوا بالأشياء المحسوسة ،


وتفرّدوا بالنظر والبحث عن حقائق الأشياء ، انكشف لهم علم الغيب ، وعلموا بما يخفيه الناس في نفوسهم ، واطّلعوا على سرائر الخلق.

فإذا كان هذا هكذا ، والنفس بعد مرتبطة بهذا البدن في هذا العالم المظلم الذي لو لا نور الشمس لكان في غاية الظلمة ، فكيف إذا تجرّدت هذه النفس وفارقت البدن ، وصارت في عالم الحق الذي فيه نور البارى سبحانه فأمّا من كان غرضه في هذا العالم التلذذ بالمآكل والمشارب المستحيلة إلى الجيف ، وكان أيضا غرضه في لذة الجماع فلا سبيل لنفسه العقلية إلى معرفة هذه الأشياء الشريفة ، ولا يمكنها الوصول إلى التشبّه بالبارى سبحانه. ولقد صدق أفلاطون في هذا القياس وأصاب به البرهان الصحيح.

أقول : صدر ما نقلناه من رسائل الكندى من أنّ النفس تمنع الغضب والشهوة عن فعلهما ، دليل على أنّ المانع غير الممنوع فحسب ولا يدلّ على تجرّد المانع عن المادة والماديات الطبيعية. والوجه الأعم مأخذا من ذلك ما قلنا في صدر العين الخامسة من كتابنا عيون مسائل النفس ، وشرحه : سرح العيون في شرح العيون من أنّ الدليل على مغايرتها له انّك لا تجعل طبيعتك حاكمة عقلك إلخ.

وأما ما نقله عن أفلاطن الإلهى فهو صريح على تجرّدها العقلانى ، وكونها من صقع العالم الربوبى. والتمثيل بنور الشمس وما أفاد حوله كلام في غاية الكمال.

ثمّ ما أفاد الكندى من أنّ جوهر النفس من جوهر البارى عزّ وجلّ كقياس ضياء الشمس من الشمس ، فله شأن ينبغى أن ينظر فيه نظر دقّة وتحقيق وتفكير.

والمروى في روضة الجنان عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما السّلام انّه قال : «يفصل نورنا من نور ربنا كشعاع الشمس من الشمس».

وفي الكافي بإسناده عن أبى بصير قال سمت أبا عبد الله عليه السّلام يقول :

المؤمن أخ المؤمن كالجسد الواحد ، إن اشتكى شيئا منه وجد الم ذلك في سائر جسده وأرواحهما من روح واحدة ، وانّ روح المؤمن لأشد اتصالا بروح اللّه من اتصال شعاع الشمس بها. (ج ٢ ، من المعرب ، ص ١٣٣).


وغرضنا الأهم من نقل ما في رسائل الكندى في المقام هو كلام أفلاطن الدال على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليا.

وخلاصة الدليل أنّ الإنسان بالتجرّد والتفرّد والإعراض عن الأحوال الدنيّة البهيمية والسبعية ، والانصراف إلى البحث عن حقائق الأشياء ، انكشف له علم الغيب ، وعلم بما يخفيه الناس ، واطلع على سرائر الخلق. وما هذا شأنه فليس إلا من وراء الطبيعة ، وأين للطبيعة الخروج عن حيّزها ، واطلاعها على المغيبات ، وصيرورتها عيبة للحقائق النورية ، والأمور الغيبية المحيطة على الزمان والمكان وسائر الأوصاف المادية؟

ثمّ قال الكندى :

انّ أفلاطن قاس القوّة الشهوانية التي للإنسان بالخنزير ، والقوة الغضبية بالكلب ، والقوّة العقلية بالملك. وقال : من غلب عليه الشهوانية وكانت هي غرضه وأكثر همته فقياسه قياس الخنزير؛ ومن غلبت عليه الغضبية فقياسه قياس الكلب؛ ومن كان الأغلب عليه قوّة النفس العقلية وكان أكثر أدبه الفكر والتمييز ومعرفة حقائق الأشياء ، والبحث عن غوامض العلم ، كان إنسانا فاضلا قريب الشبه من البارى سبحانه؛ لأنّ الأشياء التي نجدها للبارى عزّ وجلّ هي الحكمة والقدرة والعدل والخير والجميل والحق. وقد يمكن للإنسان أن يدبّر نفسه بهذه الحيلة حسب ما في طاقة الإنسان فيكون حكيما عدلا جوادا خيرا يؤثر الحق والجميل ، ويكون بذلك كلّه بنوع دخل النوع الذي للبارى سبحانه من قوّته وقدرته ، لأنّها انّما اقتبست من قربها قدرة مشاكلة لقدرته.

فانّ النفس على رأى أفلاطن وجلّة الفلاسفة باقية بعد الموت ، جوهرها كجوهر البارى عزّ وعلا في قوّتها إذا تجرّدت أن تعلم سائر الأشياء كما يعلم البارى بها ، أو دون ذلك برتبة يسيرة ، لأنّها أو دعت من نور البارى جلّ وعزّ.

واذا تجرّدت وفارقت هذا البدن وصارت في عالم العقل فوق الفلك صارت في نور البارى ، ورأت البارى عزّ وجلّ ، وطابقت نوره ، وجلّت في ملكوته ، فانكشف لها


حينئذ علم كل شي‏ء ، وصارت الأشياء كلّها بارزة لها كمثل ما هي بارزة للبارى عزّ وجلّ؛ لأنّا إذا كنّا ونحن في هذا العالم الدنس ، قد نرى فيه أشياء كثيرة بضوء الشمس ، فكيف إذا تجرّدت نفوسنا وصارت مطابقة لعالم الديمومية ، وصارت تنظر بنور البارى فهي لا محالة ترى بنور البارى كلّ ظاهر وخفيّ ، تقف على كل سرّ وعلانية.

أقول : وعلى هذا المنوال جاء في كتاب اخوان الصفاء :

أنّ النفوس السعيدة إذا فارقوا الأبدان صاروا ملائكة ، والنفوس الشقية إذا فارقوها صاروا شياطين وأجنّة ، وكما إذا غلب عليه الغضب والشهوة صار سبعا وبهيمة.

وكذا قال الشيخ البهائى في الأربعين :

والعجب منك انّك تنكر على عبّاد الأصنام عبادتهم لها ، ولو كشف الغطاء عنك ، وكوشفت بحقيقة حالك ، ومثل لك ما يمثل للمكاشفين إمّا في النوم أو اليقظة لرأيت نفسك قائما بين يدى خنزير ، مشمّرا ذيلك في خدمته ، ساجدا له مرّة ، وراكعا أخرى ، منتظرا إشارته وأمره؛ فمهما طلب الخنزير شيئا من شهواته ، توجّهت على الفور إلى تحصيل مطلوبه وإحضار مشتهياته ، ولأبصرت نفسك جاثيا بين يدى كلب عقور عابدا له مطيعا لما يلتمسه ، مدققا للفكر في الحيل الموصلة إلى طاعته وأنت بذلك ساع فيما يرضى الشيطان ويسرّه فإنّه هو الذي يهيّج الخنزير والكلب ويبعثهما على استخدامك ، فأنت عن هذا الوجه عابد للشيطان وجنوده ، ومندرج في المخاطبين المعاتبين يوم القيامة بقوله تعالى‏ : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ‏).

وكذا قال ابن مسكويه في طهارة الأعراق :

إن أصح مثل ضرب لكم من نفوسكم الثلاث (أي النفس الناطقة ، والنفس السبعية ، والنفس البهيمية) مثل ثلاثة حيوانات مختلفة جمعت في رباط (في مكان ـ خ ل) واحد : ملك وسبع وخنزير فأيّها غلب بقوته قوة الباقيين كان الحكم له. (طهارة الأعراق في حاشية مكارم الأخلاق للطبرسى ، ط ١ ، ص ٥١).


ولك مزيد استبصار في ذلك في العين الثالثة والستّين وشرحها من كتابنا سرح العيون في شرح العيون في تجسّم الأعمال أيضا.

ونظير ما تقدّم من كلام هؤلاء الأكابر في القوى الحيوانية جاء في نزهة الأرواح للشهرزورى في أخبار ديوجانس الناسك الكلبى من أنّ :

الإسكندر وقف عليه يوما فلم يلتفت إليه ، فقال : يا ديوجانس! ما هذا التهاون بى؟

أراك عنّى غنيا. فقال : وأيّ حاجة تكون لى إلى عبد عبدي؟ فقال له الإسكندر : ومن عبد عبدك؟ فقال : أنت؛ قال له : وكيف ذلك؟ قال : لأنّى ملكت الشهوة فقهرتها واستعبدتها ، وملكتك الشهوة فقهرتك واستعبدتك ، فأنت عبد لمن استعبدته أنا. (ج ١ ، ص ٢٠٨ ، ط حيدرآباد الدكن الهند).

وكذا مثله منقول عن سقراط وملك ناحيته كما في طبقات الأطباء والحكماء لابن جلجل ، حيث قال في أخبار سقراط ما هذا لفظه :

وخطر عليه ملك ناحيته فنظر إليه ، فوعظه سقراط ـ إلى أن قال : قال له الملك : أنت عبد لي. قال له سقراط : وأنت عبد عبدي. قال له الملك : وكيف ذلك؟ قال له سقراط : لأنّى رجل أملك شهوتى الموذية ، وأنت رجل تملكك شهوتك فأنت عبد عبدى. (ص ٣٠ ، ط مصر).

ومما هو يناسب نقله في المقام ما أفاد هؤلاء العظام ، ما حكاه صاحب الفتوحات المكية في الباب الثالث والسبعين منها بقوله :

وكان بعض أخوالى منهم (يعنى من الذين تركوا الدنيا عن قدرة) ، كان قد ملك مدينة تلمسان يقال له يحيى بن يغان ، وكان في زمنه رجل فقيه عابد منقطع من أهل تونس يقال له عبد الله التونسي عابد وقته ، كان بموضع خارج تلمسان يقال له العباد ، وكان قد انقطع بمسجد يعبد اللّه فيه وقبره مشهور يزار ، بينما هذا الصالح يمشى بمدينة تلمسان بين المدينتين اقادبر والمدينة الوسطى ، إذ لقيه خالنا يحيى بن يغان ملك المدينة في خوله وحشمه ، فقيل له هذا أبو عبد الله التونسى (كذا) عابد وقته ، فمسك لجام فرسه وسلّم على الشيخ ، فردّ عليه السلام ، وكان على الملك ثياب فاخرة ،


فقال له : يا شيخ هذه الثياب التي أنا لابسها تجوز لى الصلاة فيها؟ فضحك الشيخ ، فقال له الملك : ممّ تضحك؟

قال : من سخف قولك ، وجهك بنفسك وحالك ، ما لك تشبيه عندى إلّا بالكلب يتمرغ في دم الجيفة وأكلها وقذارتها ، فإذا جاء يبول يرفع رجله حتى لا يصيبه البول؛ وأنت وعاء ملي‏ء حراما وتسأل عن الثياب ومظالم العباد في عنقك. قال : فبكى الملك ونزل عن دابّته وخرج عن ملكه من حينه ولزم خدمة الشيخ ، فمسكه الشيخ ثلاثة أيام ، ثمّ جاءه بحبل ، فقال له : أيّها الملك قد فرغت أيّام الضيافة قم فاحتطب ، فكان يأتى بالحطب على رأسه ويدخل به السوق والناس ينظرون إليه ويبكون فيبيع ويأخذ قوته ويتصدق بالباقى ولم يزل في بلده ذلك حتى درج ودفن خارج تربة الشيخ ، وقبره اليوم بها يزار ، فكان الشيخ إذا جاءه الناس يطلبون أن يدعو لهم يقول لهم : التمسوا الدعاء من يحيى بن يغان فإنّه ملك وزهد ولو ابتليت بما ابتلى به من الملك ربما لم أزهد (ج ٢ ، ص ٢٣ ، ط مصر).


ز) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّاً عقليّاً

هذا البرهان من أوثق البراهين على أنّ النفس الناطقة من سنخ المفارقات النورية ونشأتها غير عالم الأجسام الماديّة. وهذا البرهان ناطق بأنّ الحواسّ لا تعلم أنّ للمحسوس وجودا في الخارج بل هذا شأن العقل ، والعقل هو النفس الناطقة العاقلة المجرّدة تجرّدا تامّا عقليا. فنأتى بما حرّره صاحب الأسفار في الفصل الثانى من الطرف الثالث من المسلك الخامس «المرحلة العاشرة» منه في العقل والمعقول ، قال :

فصل في أنّ الحواس لا تعلم أنّ للمحسوس وجودا في الخارج بل هذا شأن العقل : إنّ الإدراكات الحسّية يلزمها انفعال آلات الحواس ، وحصول صور المحسوسات سواء كانت في آلات الحواس كما هو المشهور وعليه الجمهور ، أو عند النفس بواسطة مظهريتها كما هو الحق؛ فهو أنّما يكون بسبب استعداد مادة الحاسة له ، فإنّ لامسة أيدينا مثلا انّما تحس بالحرارة وتتأثر عنها للاستعداد الذي هو فيها؛ والبصر انّما يقع فيه الإحساس بصورة المبصر للاستعداد الذي هو فيه؛ والسمع انّما يحصل فيه الصوت للاستعداد الذي هو فيه ، وليس للحواس إلا الإحساس فقط وهو حصول صورة المحسوس فيها ، أو في النفس بواسطة استعمالها ، فالحواس أو النفس الحساسة بما هي حساسة ليس لها علم بأنّ للمحسوس وجودا في الخارج ، انّما ذلك ممّا يعرف بطريق التجربة فهو شأن العقل أو النفس المتفكّرة ، وليس شأن الحسّ والخيال.

والدليل على صحة ما ذكرناه أنّ المجنون مثلا قد تحصل في حسّه المشترك صور يراها فيه ، ولا يكون لها وجود من خارج ، ويقول ما هذه المبصرات التي أراها؟


ويقول : إنّي أرى فلانا وكذا وكذا؛ ويجزم بأنّ ما رآه كما رآه فهي بالحقيقة موجودة في حقه كما وجدت للإنسان سائر الصور الحسية ، لكن لمّا لم يكن له عقل يميزها ويعلم أن لا وجود لها من خارج توهم أنّ تلك الصورة موجودة في الخارج كما هي مرئية له.

وكذلك النائم يرى عند منامه بحسّه المشترك بل بخياله أشياء لا حقيقة لها في الخارج من المبصرات والمسموعات وغيرهما فيرى ويسمع ويشم ويذوق ويلمس ، ويجزم بأنّه يشاهدها بالحقيقة. وسبب ذلك وجود صور تلك الأشياء في قوّة خياله وحسّه المشترك وهي في النوم كما هي عند اليقظة ، ولتعطّل القوّة العقلية عن التدبّر والفكر فيما يراه انّه من أيّ قبيل.

وكذلك إذا تأثرت أيدينا مثلا عن حرارة وردت عليها من خارج ، أو حصلت له بسبب داخلى لسوء مزاج حارّ ، فأحست بها لا يكون لها إلّا الإحساس فإما أن يعلم أنّ هذه الحرارة لا بدّ أن يكون في جسم حار خارجا كان أو داخلا فذلك للعقل بقوّته الفكريّة.

وكذلك إذا حملت شيئا ثقيلا فانّما تحسّ بالثقل ، وتنفعل عن الثقل فقط ، وأمّا أنّ هذه الكيفيّة قد حصلت بسبب جسم ثقيل في الخارج فذلك ليس إدراكه بالحس ، ولا بالنفس في ذاتها بل بضرب من التجربة.

ومن هذا المقام يتنبّه اللبيب بأنّ للنفس نشأة أخرى غير عالم الأجسام المادية يوجد فيها الأشياء الإدراكية الصورية من غير أن تكون لها مادة جسمانيّة حاملة لصورها وكيفياتها.

ونعم العون على إثبات ذلك العالم ما حققناه في مباحث الكيفيات المحسوسة أنّ الموجودة من تلك الكيفيات في القوى الحسيّة ليست إيّاها بل من جنس آخر من الكيفيّات هي الكيفيات النفسانيّة؛ فالمسموعات والمبصرات والملموسات وغيرها كلّها كيفيّات محسوسة حكاية ، وهي نفسانية حقيقة؛ كما أنّ الصور العقلية من الجواهر الماديّة كالإنسان والفرس والفلك والكوكب والماء والنار هي إنسان‏


وفرس وفلك وكوكب وماء ونار حكاية ، وهي جواهر عقلية متحدة بالعقل بالفعل حقيقة. وهذه الأحكام وأشباهها من عجائب معرفة النفس الآدميّة وعلم المعاد كما نحن بصدد بيانه من ذى قبل انشاء الله. (الأسفار ، ج ١ ، ص ٣٢١ ، ط ١).

أقول : العقل يحكم بأنّ ما يدركه إنسان هو أيّ نوع من الإدراكات ، وهو الحاكم مثلا بأنّ ذلك المدرك مما فاض على صقع النفس مجرّدا ثمّ تمثّل بمثال صورى في لوح النفس أيضا ، وانّ هذا المدرك هو مما أنشأه النفس في صقع ذاتها بإعداد قواها الحسيّة ، وأنّى للقوى الأخرى هذه الشأنية. والعين تنفعل من الشمس إذا قابلتها مفتوحة أو مضمومة ، والمحسوس بالذات هو ما حصل للنفس عند قوتها الباصرة ، وأمّا أنّ المحسوس بالعرض هو الشمس ولها وجود في الخارج فهو شأن العقل؛ وكذا في باقى المحسوسات. بل ربما يدرك الإنسان مثالا نوريا في الأفق الأعلى وبين جثّة المدرك وذلك المثال مسافة مراحل ، وهو يعلم أنّ ذلك المثال قائم بنفسه القدسية الكلية الإلهية المدركة وليس بخارج عنها وإن كان بظاهره خارجا عنها بتلك المسافة ، وأنّى للحواس ذلك العلم والحكم. قال سبحانه : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى‏ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى‏ وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى‏ ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى‏ فَأَوْحى‏ إِلى‏ عَبْدِهِ ما أَوْحى)‏ (النجم ٦ ـ ١١).

فهذا الدليل حكم عدل وناطق بالصواب على أنّ القوّة الحاكمة المميّزة التي اختص بها الإنسان دون سائر الحيوانات ، هي ليست من القوى المحسوسة ، بل هي نور مجرّد من وراء عالم الطبيعة وفوقه وقبله وبعده ومحيط عليه بل محيط به.

قوله : «ونعم العون إلخ». تحقيق البحث يطلب في عدة مواضع من الأسفار منها في مبحث الوجود الذهنى. وقوله : حكاية ، ناظر إلى ما هو التحقيق في الوجود الذهنى فإنّ المدركات من حيث هي حكاية وجودات ذهنية ، ومن حيث هي نور النفس علم حضورى ووجود بسيط اتسع بها النفس اتساعا وجوديا ، وزادت انكشافا نوريا. ولمّا كان العلم والعمل جوهرين نوريّين وكان قوام النفس بهما ، وكان العلم مشخصا للنفس كما أنّ العمل كان مشخصا للبدن ، والبدن مرتبة نازلة للنفس في العوالم كلّها ، ويتجسّم ويتحقق العلم والعمل كان للإنسان معادان ، الجسمانى والروحانى معا ، ويطلب تفصيل‏


الكلام في المعادين في العين التاسعة والخمسين من كتابنا سرح العيون في شرح عيون مسائل النفس.

وخلاصة تحقيقه في المقام هي ما أتى به في آخر الإشراق التاسع من الشاهد الثانى من المشهد الأوّل من الشواهد الربوبية ، حيث قال :

كشف وإنارة : النفس عند إدراكها للمعقولات الكليّة تشاهد ذوات نورية مجرّدة لا بتجريد النفس إيّاها وانتزاع معقولها من محسوسها كما عليه جمهور الحكماء بل بانتقال ومسافرة يقع لها من المحسوس إلى المتخيّل ثمّ منه إلى المعقول ، وارتحال لها من الدنيا إلى الأخرى ثمّ إلى ما وراءها. وفي قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى‏ فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) إشارة إلى هذا المعنى. أي تقدّم النشأة الدنيا على النشأة الأخرى من جهة انتقال النفس من إدراك المحسوسات إلى ما ورائها فإنّ معرفة أمور الآخرة على الحقيقة في معرفة أمور الدنيا؛ على أنّ مفهوميهما من جنس المضاف ، وأحد المضافين لا يعرف إلّا مع الآخر؛ ولهذا قيل : الدنيا مرآة الآخرة. والعارف بمشاهدة أحوال الإنسان هاهنا يحكم بأحواله في القيامة ومنزلته عند الله يوم الآخرة. واعلم أنّ لهذه المسألة على هذا الوجه الذي أدركه الراسخون في الحكمة مدخلا عظيما في تحقيق المعادين الجسمانى والروحاني ، وكثير من المقاصد الإيمانية ولهذا بسطنا القول فيها في الأسفار الأربعة بسطا كثيرا ، ثمّ في الحكمة المتعالية بسطا متوسطا ، واقتصرنا هاهنا على هذا القدر اذ فيه كفاية للمستبصر (ص ٢٣ ، ط ١).

أقول : ما قاله في آخر كلامه في الشواهد من الفرق بين الأسفار والحكمة المتعالية ، كان باتفاق عدة نسخ من المخطوطة التي عندنا وهي نسخ معتبرة مصححة بعضها مزدانة بتعليقات بعض تلامذة المتأله السبزوارى حين كان يتعلم الشواهد منه وتلك التعليقات كلها من إفادات المتأله المذكور ، ونسخة منها بخط الحكيم المولى إسماعيل أستاذ المتأله السبزوارى.

وبالجملة النسخ كلها متفقة في نقل العبارة المذكورة أعنى قوله : «ولهذا بسطنا القول فيها إلخ» مع أنّ عباراته الأخرى ناصة على أنّ الأسفار والحكمة المتعالية كتاب‏


واحد. كما قال في أوّل الأسفار :

فرتّبت كتابى هذا طبق حركاتهم في الأنوار والآثار على أربعة أسفار وسميته بـ الحكمة المتعالية في المسائل الربوبية (ص ٤ ، ط ١).

وقال في البحث عن كون الشي‏ء موجودا لا ينافي تأثير العلّية من شرحه على الهداية الأثيريّة : (ص ٢٥٨ ، ط ١) : «ولنا بفضل الله ورحمته برهان حكمى على هذا المقصد الشريف أوردناه في كتابنا المسمّى بـ الحكمة المتعالية» وأورده في إلهيات الأسفار.

وقال في تعليقته على الفصل الخامس من سادسة إلهيات الشفاء في إثبات الغاية ما هذا لفظه :

ونحن لما كرهنا رجوع الرجل الإلهي في شي‏ء من مسائل علمه إلى صاحب علم جزئى طبيعيا كان أو غيره سيما في المبحث الذي كان مذكورا هناك على سبيل الوضع والتسليم ، لهذا نرفع الحوالات في أكثر المواضع من شرح هذا الكتاب ونوردها بالفعل كما هو عادتنا في كتابنا الكبير المسمى بـ الأسفار وهو أربعة مجلدات كلها في الإلهيات بقسميها الفلسفة الأولى وفنّ المفارقات (ص ٢٥٦ ، ط ١).

ففي شرح الهداية سماه بـ الحكمة المتعالية ، وفي تعليقته على الشفاء بـ الأسفار الأربعة. والشواهد من كلماته وكلمات أرباب التراجم في أنّ الأسفار الأربعة هو الحكمة المتعالية كثيرة. وقال أستاذنا العلم الآية السيد ابو الحسن الرفيعى القزويني (رفع اللّه تعالى درجاته) في وجه تسمية الكتاب تارة بـ الحكمة المتعالية ، وأخرى بـ الأسفار الأربعة : «إنّ الأوّل بلحاظ الجمع ، والثاني بلحاظ التفصيل؛ كما أنّ كتاب الله الكريم بالجمع قرآن وبالتفصيل فرقان».

وأما ما في الشواهد من الفرق والتعدد فلعلّ الله يحدث بعد ذلك أمرا.

قوله : وفي قوله تعالى : (لَقَدْ عَلِمْتُمُ)‏ الخ. أفاد المتأله السبزوارى في تعليقته على الشواهد في المقام بقوله :

أي قد علمتم انتقالكم في النشأة الأولى من المحسوسات إلى المثل المعلقة التي في‏


عالم مثالكم الأصغر الذي هو من سنخ عالم المثال الأكبر الذي هو من سنخ برازخكم وصور أعمالها في النشأة الأخروية الصورية والجسمانية فلو لا تذكرون لها مع استغراقكم في أمثالكم وأسناخها. وكذا علمتم انتقالكم من الأشباه الصورية الأخروية والمثل المعلقة إلى الذوات العقلية والمعانى الجامعة والمثل النورية فلو لا تذكّرون لما وراء الآخرة الصورية وهو الحشر الروحانى ، وتشاهدونها عن بعد مع انهماككم فيها كما بينا من رجاء الوصول. بل علمتم انتقالكم إلى معرفة نور الأنوار وحقيقة الحقائق الذي معرفة ذاته وصفاته جنّة الذات وجنة الصفات ، سيما مرتبة حق اليقين من المعرفة فلو لا تذكّرون لغاية الغايات ومنتهى النهايات ومرجع الموجودات ألا ترى انّه أنّ إدراك كل كلى عقلى مشاهدة ذات مجرّدة نورية كذلك إدراك الكلى الذي هو الوجود المشترك فيه للمفارقات والمقارنات وهو ابده واعم من كل شي‏ء مشاهدة عن بعد لحقيقة الوجود هي أظهر وأنور وأوسع من كل نور وفي‏ء ، ونعم ما قيل :

زو قيامت را همى پرسيده‏اند

كاى قيامت تا قيامت راه چند

با زبان حال مى‏گفتى بسى

كه ز محشر حشر را پرسد كسى

‏وانّما لا يلتفت ولا يتنبه الإنسان الغافل بهذه الترقيات والعروجات مع وغوله فيها واختلاسه وتبدّله وصعوده إليها لا نزولها إليه ، لأنّه يظنّ ذاته ووجوده هذا البدن الطبيعى وهو منجمد بالجمود الزمهريرى‏ (نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ)‏. حشر (٥٩) : ١٩.


ح) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا

وهو أنّه يمكننا أن نعقل ذواتنا ، وكل من عقل ذاتا فله ماهية تلك الذات ، فإذا لنا ماهية ذاتنا ، فلا يخلو إمّا أن يكون تعقّلنا لذاتنا لأنّ صورة أخرى مساوية لذاتنا تحصل في ذاتنا ، وإمّا أن يكون لأجل أنّ نفس ذاتنا حاضرة لذاتنا ، والأوّل باطل لأنّه يفضي إلى الجمع بين المثلين ، فتعيّن الثاني؛ وكل ما كان ذاته حاصلة لذاته كان قائما بذاته؛ فإذا القوة العاقلة قائمة بنفسها ، وكل جسم وجسماني فإنّه غير قائم بنفسه ، فإذا القوّة العاقلة ليست بجسم ولا جسماني.

أقول : أتى الفخر الرازى في المباحث المشرقية : بالدليل المذكور وقال :

هو دليل عوّل الشيخ عليه في كتاب المباحثات ، وزعم أن أجل ما عنده في هذا الباب هذا الدليل. ثمّ إنّ تلامذته أكثروا من الاعتراضات عليه والشيخ أجاب عنها ، إلّا أنّ الأسئلة والأجوبة كانت متفرقة وانا رتبناها وأوردناها على الترتيب الجيد.

ثمّ نقل الفخر الدليل وتلك الأسئلة والأجوبة (ج ٢ ، ص ٣٥٢ ـ ٣٥٩ ، ط حيدرآباد) وهو الدليل الثانى من المباحث في بيان تجرّد النفس الانسانية.

ثمّ صاحب الأسفار جعله الحجة الثانية من الحجج التي أوردها في تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا؛ إلّا أنّه حرّر ذيل الدليل هكذا :

والأوّل محال لأنّه جمع بين المثلين فتعين الثاني ، فكل ما ذاته حاصلة لذاته كان قائما بذاته فإذن النفس جوهر قائم بذاته ، وكل جسم وجسمانى غير قائم بذاته فالنفس جوهر غير جسمانى. (ج ٤ ، ص ٦٦ ، ط ١).

ثمّ انّ الدليل المذكور على تجرّد النفس جاء في تضاعيف المباحثات بانحاء عديدة


ولكن لم أجده بتلك العبارات المنقولة من المباحث والأسفار؛ وكأنّه تحرير آخر لما في المباحثات كما سنأتى به. وصاحب الأسفار نقل العبارة من المباحث لا من المباحثات كما يعلم بعرض ما في الأسفار على المباحث. وعندنا نسخة مصوّرة من المباحثات في سفينة تحتوى ثمانى وتسعين رسالة ومقالة ، أصلها محفوظ في خزانة مكتبة الآية الحبر المعظم المرعشى زيد عزّه في دار العلم قم المحمية ، ونسخة أخرى مطبوعة مع عدة رسائل أخرى بعنوان أرسطو عند العرب دراسة ونصوص غير منشورة مما بذل الجهد فيها خدوم العلم المفضال عبد الرحمن بدوى دامت تأييداته.

والعجب أنّ النسختين لا يوافق عبارات إحداهما الأخرى كاملا. بل كأنّ كل واحدة منهما تحرير محرّر منفرد ، وتقرير جامع على حدة. كيف كان ، عبارة المباحثات في بيان الدليل المذكور على وزان ما في النسخة المطبوعة محررة هكذا :

من شأننا أن نعقل أنفسنا ، سواء كان طبعا أو كسبا ، فبعض الأشياء يعقل ذاته وجوهره ، وما يعقل شيئا فحقيقة ذلك الشي‏ء حاصلة له ، فحقائق ذواتنا حاصلة لها (لنا ـ خ) ؛ وليس مرّتين ، فإنّ حقيقة الشي‏ء ، مرّة واحدة ، وليست نفس الوجود ، فهذا لكل شي‏ء ، وليس كل شي‏ء يعقل ذاته ، فهذا لذاته ليست لغيره ، ونحن نعقل جوهرنا ، فجوهرنا ماهية لذاته ليست لغيره. فهذا إذن هو أنّ حقائق جوهرنا الأصلية ليست لغيرها. وهذا معنى قولهم : كل ما يرجع على ذاته فهو عقل ، أي تكون ماهية ذاته التي بها هي بالفعل لذاته ليست لغيره ، ونحن نعقل جوهرنا ، فجوهرنا ماهيته لذاته ليست لغيره.

ليس يجوز أن يكون أصل حقيقتنا له بالقياس إلى نفسه أنّه موجود الوجود الذي له ، ثمّ له بالقياس إلى نفسه أنّه معقول بزيادة أمر على أنّه موجود الوجود الذي له على أنّهما اثنان ، فإنّ حقيقته لا يعرض لها مرّة شي‏ء ومرّة ليس ذلك الشي‏ء ، وهي واحدة في وقت واحد ، فليس لكونها معقولة زيادة شرط على لونها موجودة وجودها الذي لها ، بل زيادة شرط على الوجود مطلقا ، وهو أنّ وجود ماهيتها التي بها هي معقولة حاصلة لها في نفسها ليس لغيرها. وهذا أجلّ ما أعرفه في هذا الباب ، ويحتاج إلى


تصور ، فإنّ الأمور التصديقية قد يخبر عنها فقدان التصور ، وإذا تمكّنت النفس من التصور سارع إليها التصديق (ص ١٣٣ ، ط ٢ ، الكويت).

ثمّ الفخر الرازى أورد الأسئلة والأجوبة حول الدليل المذكور مما دارت بين الشيخ وتلامذته. وكذا على رويته صاحب الأسفار مع إضافات نورية على ما في المباحث ، كما قال على وزان الرازى وما زاد عليها ، ما هذا لفظه :

الحجة الثانية وهي التي عوّل عليها الشيخ في كتاب المباحثات واعتقد أنّها أجلّ ما عنده في هذا الباب. ثمّ إنّ تلامذته أكثروا من الاعتراضات عليها والشيخ أجاب عنها؛ وتلك الأسئلة والأجوبة رأيتها متفرقة في مجموعة مشتملة على مراسلات وقعت من الشيخ وتلامذته فنوردها هنا على الترتيب مع زوائد سانحة لنا في الاتمام ....

والطالب وإن كان يراجع فيهما إلى المباحث والأسفار لكنّا نأتي بهما مع زيادة بيان فيهما إن شاء اللّه تعالى. وليعلم أنّى أرى أنّ عبارات المجيب ليست من قلم الشيخ ، بل إنّ أحدا من تلامذته قرّر وحرّر ما دار بين الشيخ وبين تلامذته حول هذه الحجة على ما فهمه ، وكأنّما لذلك عبر بالمجيب لا بالشيخ ، وهكذا الكلام في السائل ، كيف لا وأنت ترى أنّ بعض الأجوبة بمعزل عن التحقيق جدّا ، وبعضها ممّا يرى في المباحثات متفرقة. ونحن نأتى بهما زيادة للإستبصار في المقام وسنتلوهما عليك فإنّه حوار يشحّذ الذهن ويوجب الرياضة الفكرية فنقول أولا :

اعلم انّ المجرّد يعقل ذاته ، ولم يلزم من بيان ذلك لزوم عكسه وهو أنّ كل ما يعقل ذاته فهو مجرّد لأنّ الكلية الموجبة لا تنعكس كلية موجبة فبيّن بتلك الأصول الرصينة في الدليل المذكور في المباحثات ذلك وهو أنّ كل ما يدرك ذاته فماهيته له ، وكل ما ماهيته له فهو مجرّد فتبصّر.

وثانيا عليك بتلك الأسئلة والأجوبة حول هذه الحجة على وفق ما في الأسفار مع بعض زيادات إيضاحية منّا نهديها إليك :

قال السائل : إنّا لا نسلّم أنّ إدراكنا لذاتنا يقتضي أن تكون حقيقة ذاتنا حاصلة لنا.


لم لا يجوز أن يكون هو أثرا ما حصل لنا من ذاتنا ، فلا يكون ذلك هو حقيقة ذاتنا. فعلى هذا يكون لنا حقيقة يحصل منها أثر فينا فنشعر بذلك الأثر ، فلا يكون ذلك الأثر هو الحقيقة فلا يكون قد حصل لنا ذاتنا مرّتين.

قال المجيب : قد سبق أنّ الإدراك ليس إلّا ثبوت حقيقة الشي‏ء. فقوله : «انّه يحصل لنا أثر منه فنشعر بذلك الأثر» إمّا أن يجعل الشعور نفس الأثر ، أو أمرا مغايرا لذلك الأثر تابعا له؛ فإن كان نفس ذلك الأثر فقوله : «فنشعر بذلك الأثر» لا معنى له بل هو مرادف لقوله يحصل لنا أثر. وإن كان الشعور تبعه (وإن كان الشعور شيئا يتبعه ، (كما في المباحث) ، فإمّا أن يكون ذلك الشعور هو حصول ماهية الشي‏ء ، أو حصول ماهية غيره : فإن كان غيره فيكون الشعور هو تحصيل ما ليس ماهية الشي‏ء ومعناه. وإن كان هو هو فيكون ماهية الذات تحتاج في أن يحصل لها ماهية الذات إلى ذلك الأثر فتكون ماهية الذات غير موجودة إلى أن حصلها ذلك الأثر فلا تكون تلك الماهية متأثرة بل متكوّنة هذا خلف. وإن كان ماهية الذات لنا بحال أخرى من التجريد والتجديد ، ونزع بعض ما يقارنها من العوارض فيكون المعقول هو ذلك المتجدد المتجرّد وكلامنا فيما إذا كان المعقول هو جوهر نفسنا الثابت في الحالين.

أقول : الحق انّ حقيقة ذاتنا حاصلة لنا بنفس ذاتها بالوجدان والإدراك الشهودي ، والتفوه بالأثر أثر من يكابر مقتضى عقله ووجدانه. نعم إنّ هذه الأسئلة والأجوبة مفيدة للرياضة الفكرية ينتفع بها المتعلم الباحث.

قال السائل : سلّمنا أنّا نعقل ذواتنا ولكن لم قلتم بأنّ من عقل ذاتا فله ماهية تلك الذات وإلا لكنّا إذا عقلنا الإله والعقول الفعالة وجب أن يحصل لنا حقائقها.

قال المجيب : الحاصل فينا من العقل إن أمكننا أن نعقله هو العقل الفعّال من جهة النوع والطبيعة لا من جهة الشخص لأنّ أحدهما بحال ليس الآخر بتلك الحال ، والمعقول من حقيقتك لا يفارق حقيقتك في النوع والماهية ولا بالعوارض أصلا ولا مفارقة بالشخص فيكون هو بالشخص كما هو هو بالنوع. وأمّا العقل الفعّال وما يعقل منه فهو هو في المعنى وليس هو هو بالشخص.


ثمّ قال صاحب الأسفار بعد نقل المجيب عن السؤال الثانى ما هذا لفظه :

أقول : الحقّ أنّ الطبيعة النوعية التي للعقل الفعال لا يمكن تعدد أشخاصها لا في الخارج ولا في الذهن إذ البرهان قائم على أنّ نوعا واحدا من الجواهر المفارقة منحصر في شخصه ، وتشخص العقول من لوازم نوعياتها ، ولو تعددت أفراد ماهية واحدة لكان امتياز كل من تلك الأفراد بعرض غير لازم للطبيعة ، والعرض الغير اللازم للنوع يحتاج عروضه إلى فاعل منفصل الذات ، وقابل ذى تجدد وانفعال فلم يكن المفارق مفارقا هذا خلف. فالأولى في الجواب أن يقال : الحاصل في نفوسنا من تلك الحقائق البسيطة ليس كنه حقيقتها بل مفهومات عامة كمفهوم الجوهر المفارق ومفهوم العقل أو غير ذلك. انتهى.

وأقول : كلام الشيخ في الموضعين من المباحث هكذا (ص ١٣٥ و ١٩٣ ، ط مصر) :

الحاصل فيك من العقل الفعال هو حقيقة العقل الفعال من جهة النوع والطبيعة وإن كان ليس من جهة الشخص لأنّ أحدهما بحال ليس الآخر بتلك الحال والمعقول من حقيقتك لا يفارق حقيقتك في النوع والطبيعة ولا يفارقه بالأشياء التي له وليست له فلا يفارقه بالشخص أيضا فيكون هو هو بالشخص كما كان هو هو بالنوع ، وكان العقل الفعال وما يعقل منه هو هو في المعنى والنوع ، وليس هو هو بالشخص لأنّ هذا يقارنه ما لا يقارن ذلك ويفارقه ما لا يفارقه ذلك. انتهى كلامه.

وهذا تحقيق أنيق لا يعتريه ريب ولا يشوبه عيب ، وكلام صاحب الأسفار غير وارد عليه فتدبر. ثمّ انّ الشيخ لم يدع أنّ كنه الحقائق البسيطة المفارقة حاصل للمدرك؛ وجواب صاحب الأسفار حيث قال بأنّ مفهومات عامة منها حاصلة للمدرك ليس كما ينبغى ، بل الأمر أشمخ من هذا ويجب الفرق بين الحصول الفكرى وبين الشهودي ولكل واحد منهما مراتب من الإدراك.

قال السائل : فإذا ارتسم في عقلنا صورة مساوية لماهية الإله ، فتكون ماهية الإله تعالى مقولة على كثيرين.

قال المجيب : البرهان أنّما قام على أنّ تلك الماهية غير مقولة على كثيرين في‏


الخارج ، فأمّا على كثيرين في الذهن فلم يقم.

ثمّ قال صاحب الأسفار :

أقول : حاشا الجناب الإلهي أن تكون له ماهية محتملة للشركة بين كثيرين لا في الخارج ولا في الذهن ، كيف وذاته صرف الوجود القائم بذاته التام الذي لا أتم منه ولا مكافي له إذ كل ماله ماهية كلية يكون تشخصه زائدا عليه ، وكذا الوجود لكونه عين التشخص؛ فكل ماهية أو ذى ماهية فهو ممكن الوجود. فالحقّ في الجواب أن يقال : نحن لا نعرف حقيقة الباري بكنهه بل نعرف بخواص ولوازم إضافية أو سلبية. انتهى.

وأقول : الجناب الإلهى وجود صمدي لا ماهية له بلا كلام ، ولكن هذا الرأى القويم في التوحيد الذي هو في الحقيقة برهان الصدّيقين ، أنّما يتأتى لمن تخلّص عن الآراء الكلامية والحكميّة الرائجة وأمّا من هو في أوائل سيره العلمي فهو يحتمل تكثّر واجب الوجود وإلّا فلم أقام الحكماء أدلّة على إثبات توحيده سبحانه بمعنى أنّه لا شريك له في وجوب الوجود أوّلا ، ثمّ على توحيده تعالى في الإلهية بمعنى أنّه لا شريك له في الإلهية وأن إله العالم واحد ثانيا؟.

قال السائل : سلّمنا أنّ من عقل ذاتا فانّه يحصل له ماهية المعقول لكن لم لا يجوز أن يحصل ذاتى في قوّتى الوهمية فتشعر قوّتى الوهمية بها ، كما أنّ القوّة العاقلة تشعر بالوهمية فعلى هذا لا يكون القوّة العاقلة مقارنة لذاتها بل للقوّة الوهمية كما انّكم تقولون القوّة الوهمية غير مقارنة لذاتها بل للقوّة العاقلة.

قال المجيب : شعورك بهويتك ليس بشي‏ء من قواك وإلّا لم يكن المشعور بها هو الشاعر. وأنت مع شعورك بذاتك تشعر انّك أنّما تشعر بنفسك وانك أنت الشاعر والمشعور به. وأيضا فإن كان الشاعر بنفسك قوّة أخرى فهي إمّا قائمة بنفسك ، أو غير قائمة بنفسك؛ وإن كانت قائمة بنفسك فنفسك الثابتة للقوّة الثابتة لنفسك ثابتة لنفسك وهو المطلوب. وإن كانت غير قائمة بنفسك بل بجسم فنفسك إمّا أن تكون قائمة بذلك الجسم أو لا يكون؛ فإن لم يكن وجب أن لا يكون هناك شعور بذاتك بوجه ولا إدراك‏


لذاتك بخصوصها بل يكون جسم ما يحسّ بشي‏ء غيره كما تحسّ بيدك ورجلك. وإن كانت نفسك قائمة بذلك الجسم فذلك الجسم حصلت فيه نفسك وحصلت فيه تلك القوّة الشاعرة بنفسك فتلك النفس وتلك القوّة وجودهما لغيرهما ، ولا تكون النفس بتلك القوّة تدرك ذاتها لأن ماهية القوّة وجودهما لغيرهما ولا تكون النفس بتلك القوّة تدرك ذاتها لأن ماهية القوّة والنفس معا لغيرهما وهو ذلك الجسم.

قال السائل تقريرا لهذا البحث : لم لا يجوز أن يكون إدراكي لذاتي بحصول ذاتي في شي‏ء نسبته إلى ذاتي كنسبته المرآة إلى البصر؟.

قال المجيب : الذي يتوسط فيه المرآة إن سلم أنّه مصور في المرآة فيحتاج مرة ثانية أن يتصور في الحدقة فكذلك هاهنا لا بدّ وأن ينطبع صورة ذاتنا مرّة أخرى في ذاتنا.

قال السائل : لم لا يجوز أن يكون إدراكي لذاتي بحصول صورة أخرى في ذاتي؟ بيانه أنّي حال ما أعقل نفس زيد ، إمّا أن لا أعقل نفسي وهو محال لأنّ العاقل للشي‏ء عاقل بالقوّة القريبة من الفعل بكونه عاقلا وفي ضمنه كونه عاقلا لذاته. وإمّا أن أعقل نفسى في ذلك الوقت وحينئذ لا يخلو إمّا أن يكون الحاصل في نفسى من نفسى ومن زيد صورتان أو صورة واحدة فإن كانت واحدة فحينئذ أنا غيري ، وغيرى أنا ، إذ الصورة الواحدة من النفس مرّة واحدة يكتنفها أعراضى ، ومرّة أخرى يكتنفها أعراض زيد؛ وأمّا إن كان الحاصل صورتين فهو المطلوب.

قال المجيب : أنت إذا عقلت النفس فقد عقلت جزء ذاتك ، وإذا عقلت إنسانية زيد فقد أضفت إلى ذاتك شيئا وقرنته به فلا يتكرر الإنسانية فيك مرّتين بل يتعدد بالاعتبار. واعلم أنّ الفرق حاصل بين الإنسانية المطلقة المعتبرة بذاتها ، وبين الإنسانية من حيث إنّها كلية مشترك فيها بين كثيرين فإنّ الأوّل جزء ذاتي؛ وأمّا الإنسانية العامة فهي الإنسانية مع قيد العموم فلا يكون جزء ذاتي.

أقول : قوله «فإنّ الأوّل جزء ذاتي» ، بإضافة الذات إلى ياء المتكلم ، وفي المباحث المشرقية «فإنّ الأوّل جزء نفسي» (ج ٢ ، ص ٣٥٦).

قال السائل : إنّ القسم الذي أخرجتموه (الذى اخترتموه ـ كما في المباحث) أيضا باطل. بيانه أنّا إذا قلنا : «موجود لذاته» يفهم منه معان ثلاثة :


أحدها : أنّ ذاته لا تتعلق في وجوده بغيره؛

الثاني : أنّ ذاته ليست حالّة في غيره مثل البياض في الجسم ، وهذان القسمان باطلان لأنّهما سلبيان والمدركية أمر ثبوتى وهو عبارة عن حصول صورة المعلوم للعالم؛

والثالث : أنّ ذاته مضافة إلى ذاته وذلك أيضا محال لأنّ الإضافة تقتضى الاثنينية والوحدة تنافيها.

لا يقال : إنّ المضاف والمضاف إليه أعمّ ممّا إذا كان كل واحد هو الآخر أو غيره ولا يمكن نفي العام بنفي الخاص؛ فإنّ هذه مغالطة لفظية كما إذ قيل المؤثر يستدعي أثرا وذلك أعم من أن يكون المؤثر هو الأثر أو غيره فيلزم منه صحة أن يكون الشي‏ء مؤثرا في نفسه ، فكما أنّ ذلك باطل فكذا هاهنا.

أقول : قوله : «فإنّ هذه مغالطة لفظية» جواب لقوله : «لا يقال إنّ المضاف إلخ».

قال المجيب : حقيقة الذات غير ، وتعينها غير ، والجملة التي هي الأصل والتعين شي‏ء آخر ، وهذا لا يختلف سواء كان التعين من لوازم الماهية كما في الإله والعقول الفعالة. أو لا يكون كذلك كما في الأنواع المتكثرة بأشخاصها في الوجود. وهذا القدر من الغيرية يكفى في صحة الإضافة ، ولهذا التحقيق صحّ منك أن تقول : ذاتي وذاتك.

قال صاحب الأسفار :

أقول : هذا الجواب ضعيف فإنّ البسيط الحقيقي المتشخص بذاته ليس فيه اعتباران متغايران الذات والتعين ، وقد سبق حلّ هذا الشك الواقع في علم البسيط بذاته في مبحث تحقيق المضاف وتحقيق مسألة العلم. انتهى.

وأقول : إنّ صاحب الأسفار لا ينكر اعتبار التغاير في علم البسيط بذاته بوجه ، وتضعيفه ناظر إلى كون التغاير على أنّ حقيقة الذات غير ، وتعينها غير.

قال السائل : هذه الحجة منقوضة بإدراك الحيوانات أنفسها ، مع أنّ أنفسها غير مجرّدة ، ولا يلتفت إلى قول من ينكر إدراكها لذواتها لأنّها تطلب الملائم وتهرب عن المنافر ، وليس طلبها لمطلق الملائم وإلّا لكان طلبها لملائم غيرها كطلبها لملائمها.


وأيضا لو كانت طالبة للملائم المطلق لكانت طالبة للملائم من حيث هو ملائم وذلك كلى فيكون البهيمة مدركة للكليّات وليست كذلك ، فإذن البهيمة تطلب ما يلائم لنفسها وإدراكها له يستلزم إدراكها لنفسها المخصوصة فإنّ العلم بإضافة أمر إلى أمر يقتضى العلم بكلا المتضائفين.

أقول : هذا السؤال معنون في المباحثات هكذا : «سئل هل تشعر الحيوانات الأخرى سوى الإنسان بذواتها إلخ» (ص ٢٠٩ ، ط مصر).

قال المجيب : إنّ نفس الإنسان تشعر ذاتها بذاتها ، ونفوس الحيوانات الآخر لا تشعر ذواتها بذواتها بل بأوهامها في آلات أوهامها ، كما تشعر بأشياء أخر بحواسها وأوهامها في آلات تلك الحواس والأوهام؛ فالشي‏ء الذي يدرك المعنى الجزئي الذي لا يحس وله علاقة بالمحسوس هو الوهم في الحيوانات ، وهو الذي يدرك به أنفس الحيوانات ذواتها لكن ذلك الإدراك لا يكون بذواتها ولا في آلة ذواتها التي هي القلب بل في آلة الوهم بالوهم كما أنّها تدرك بالوهم وبآلته معان أخر ، فعلى هذا ذوات الحيوانات مرّة في آلة ذواتها وهي القلب ومرّة في آلة وهمهما وهي مدركة من حيث هي في آلة الوهم.

قال السائل : فما البرهان على أنّ شعورنا بذواتنا ليس كشعور الحيوانات؟

قال المجيب : لأنّ القوّة المدركة للكليات يمكنها أن تدرك ماهية ذاتها مجرّدة عن جميع اللواحق الغريبة ، فإذا شعرنا بذاتنا الجزئية المخلوطة بغيرنا ، شعرنا بواحد مركب من أمور نحن شاعرون بكل واحد منها من حيث يتميز عن الآخر ، وأعنى بتلك الأمور حقيقة ذاتنا والأمور المخالطة لها ، ويجوز أن يتمثل لنا حقيقة ذاتنا وإن كانت سائر الأمور غائبة عنّا ، وإدراك الحيوانات لذواتها ليس على هذا الوجه فظهر الفرق.

قال صاحب الأسفار :

هذا في الحقيقة رجوع عن هذه الحجة إلى الحجة الأولى. والحق أنّ نفوس الحيوانات مدركة لذواتها بنفس ذواتها إدراكا خياليا لا بآلة الخيال بل بهوياتها الإدراكية ، وذلك يقتضى تجردها عن أبدانها الطبيعيّة دون الصور الخيالية. وقد مرّ منا


البرهان على تجرّد النفوس الخيالية عن هذا العالم. والفرق بين نفوسها ونفوس خواص الإنسان أنّ هذه النفوس تدرك ذاتها مجرّدة عن جميع الأبعاد والصور والأشكال وغيرها. انتهى.

وأقول : قوله قدّس سرّه «هذا في الحقيقة رجوع عن هذه الحجة إلى الحجة الأولى» الحجة الأولى في الأسفار على تجرّد النفس تجرّدا تاما عقليا ، كانت من طريق إدراك النفس الكليات والطبائع الكلية من حيث عمومها وكليّتها ، وهي بمعزل عن سؤال السائل وجواب المجيب في نفوس الحيوانات الأخر. وانّما نشأ هذا الكلام الغريب منه (رضوان الله تعالى عليه) من كثرة إحاطته بالآراء والأفكار ، وتراكم الحقائق العلمية فيتبادر بعضها مكان آخر ويسبقه ويظهر من القلم.

وأما قوله : «وقد مرّ منا البرهان على تجرّد النفوس الخيالية عن هذا العالم» قد مر في الموضعين من نفس الأسفار أحدهما في الفصل الثاني من الباب الأوّل (ج ٤ ، ص ٩ من الطبع الرحلى) المعنون بقوله : «فصل في بيان تجرّد النفس الحيوانية وعليه براهين كثيرة إلخ» ؛ وثانيهما في الفصل الخامس من الباب الخامس (ج ٤ ، ص ٥٦ ـ ٥٩ ، ط ١) المعنون بقوله : «فصل في دفع ما قيل في أنّ النفس لا تدرك الجزئيات وهي وجوه عامّة ووجوه خاصة إلخ». والعينان الحادية والعشرون والثانية والعشرون من كتابنا سرح العيون في شرح العيون ، وغير واحدة من حجج تجرّد النفس في ذلك.

قال السائل : ليس إذا أمكننا أن نميّز ذاتنا عما يخالطها في الذهن وجب أن يصحّ ذلك في الخارج يعنى هذا التفصيل شي‏ء نفعله ونفرضه في أذهاننا ، وانّ ما عليه الوجود بخلاف ذلك وهذا غير مختص بما إذا أدركنا ذواتنا كلية أو جزئية مخلوطة. ثمّ التحقيق أنّ كل ما يدرك شيئا فله ذلك المدرك كلّيا كان أو جزئيا ، والحمار إذا أدرك ذاته المخلوطة فله ذاته المخلوطة ، فإذن على كل الأحوال الحمار ذاته موجودة له ، وليس ذلك القوّة واحدة فذاته مجرّدة له. ومما يبطل قولكم أنّ المدرك لذات الحمار قوّة غير ذاته ، أن نقول : المدرك لذاته إن لم يكن هو ذاته بل قوّة أخرى ، فإن كانت تلك القوّة في الحمار فذات الحمار في الحمار ، وإن كانت في غيره لم يكن الشاعر هو المشعور به‏


فلم يكن الحمار مدركا لذاته وقد أبطلناه أوّلا. وأيضا لو سلّمنا أنّ الحمار يدرك ذاته لا بذاته بل بجزء من ذاته فذلك الجزء له صورة ذاته فذلك الجزء مجرّد. وأيضا فإذا حصلت نفس الحمار في آلة قوّته الوهميّة مع كونها مخلوطة وجب أن يكون آلة التوهم حيّة بتلك النفس كما أنّ آلة النفس حيّة بها.

وأجابوا عن هذا الآخر بأن قالوا :

حصول تلك الصور في الوهم يشبه الخضرة الحاصلة من الانعكاس ، وحصولها في آلتها الخاصّة كحصول الخضرة الأصلية من الطبيعة. هذا تمام ما قيل في هذا المقام ، والتحقيق ما لوّحناه اليك من الكلام. انتهى ما أردنا نقله من الأسفار.

قوله : «والتحقيق ما لوّحناه من الكلام» ، ناظر إلى ما أفاد في الموضعين المذكورين من نفس الأسفار قد أشرنا إليهما آنفا. وقد علمت أنّ تلك الأسئلة وأجوبتها قد جمعهما ورتبهما الفخر في المباحث أوّلا ، وصاحب الأسفار نقلهما عنه مع بعض إفاضات وإشارات منه. وما في المباحث لا يخلو من جودة تقرير حيث قال بعد تقرير الدليل المذكور على تجرّد النفس ما هذا لفظه :

والاعتراض عليه من وجوه ستة :

الأوّل لا نسلّم أنّا نعقل ذواتنا ولم لا يجوز أن يكون إدراكنا لذواتنا نوعا آخر من الإدراك مخالفا للتعقل. بيانه أنّ التعقل هو أن يحصل للعاقل ماهية المعقول فلا يمكننا أن نعرف كوننا عاقلين لذواتنا إلّا إذا عرفنا أن ذواتنا حاصلة لذواتنا ، فإن أمكننا أن نبين أنّ لنا حقيقة ذواتنا من دون وساطة التعقل فما الحاجة إلى أن نقول إنا نعقل ذواتنا ونتوصل منه إلى أنّ لنا حقيقة ذواتنا ، وإن لم يمكن ذلك فحينئذ لا يمكن بيان كوننا عاقلين بذواتنا إلا ببيان حصول حقيقة ذواتنا لنا ، ولا يمكن ذلك الّا ببيان كوننا عاقلين لذواتنا ويلزم منه الدور.

فقال المجيب : ليس يتعلق الكلام بالتعقل والشعور بل بالإدراك فإنه ثبت أنّ الإدراك عبارة عن حصول ماهية المدرك للمدرك وهذا القدر يكفى في تصحيح هذه الحجة.

قال السائل في تقرير سؤاله الأوّل : لم لا يجوز أن يكون إدراكنا لذاتنا لا يقتضى أن


تكون حقيقة ذاتنا حاصلة لنا بل هو أثر ما يحصل لنا من ذاتنا إلخ؟

الاعتراض الثانى سلّمنا أنّا نعقل ذواتنا ولكن لم قلتم بأنّ كل من عقل ذاتا فله ماهية تلك الذات إلخ؟

الاعتراض الثالث سلّمنا أنّ من عقل ذاتا فانّه يحصل له ماهية المعقول لكن لم لا يجوز أن تحصل ماهية ذاتى في قوّتى الوهمية إلخ؟

الاعتراض الرابع لم لا يجوز ان يكون إدراكى لذاتى بحصول صورة أخرى في ذاتى؟

بيانه إلخ.

الاعتراض الخامس قالوا : القسم الذي اخترتموه أيضا باطل. بيانه أنا إذا قلنا : «موجود لذاته» إلخ.

الاعتراض السادس المعارضة بإدراك سائر الحيوانات أنفسها مع أنّ أنفسها ليست مجرّدة ، ولا يلتفت إلى قول إلخ.


ط) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا

فاعلم أنّ في الثانى من خامسة نفس الشفاء عدة براهين تنتهى إلى ثمانية بل إلى تسعة على تجرّد النفس الناطقة بالبيان الذي ستسمعه منّا ، أطولها الأوّل منها ، وأقصرها الرابع منها ، والأوّل والسادس منها من غرر تلك البراهين. ونحن نأتى بها ونذكر حولها بعض ما لعلّها يوضح المراد ويفيد المستفيد. على أنّا نأتى بها مصححة من نسخنا المصحّحة المعروضة على عدة نسخ مخطوطة قد وفّقنا بتصحيحها بعرضها عليها في سنى تدريسنا الشفاء.

قال الشيخ :

الفصل الثانى في إثبات أنّ قوام النفس الناطقة غير منطبع في مادّة جسمانية :

انّ ممّا لا شك فيه أنّ الإنسان فيه شي‏ء وجوهر ما يتلقّى المعقولات بالقبول، فنقول :

إنّ الجوهر الذي هو محلّ المعقولات ليس بجسم ولا هو قائم بجسم على أنّه قوّة فيه أو صورة له بوجه فإنّه إن كان محلّ المعقولات جسما أو مقدارا من المقادير فإمّا أن تكون الصورة المعقولة تحلّ منه شيئا وحدانيا غير منقسم ، أو تكون انّما تحلّ منه شيئا منقسما؛ والشي‏ء الذي لا ينقسم من الجسم هو طرف نقطىّ ولنمتحن (ولنمعن ـ خ) أوّلا أنّه هل يمكن أن يكون محلّها طرف غير منقسم؟ فنقول : انّ هذا محال ، وذلك لأنّ النقطة هي نهاية ما لا تميّز لها عن الخط في الوضع ، أو عن المقدار الذي هو منته إليها تميزا يكون له النقطة شيئا يستقرّ فيه شي‏ء من غير أن يكون في شي‏ء من ذلك المقدار ، بل كما أنّ النقطة لا تنفرد بذاتها وانّما هي طرف ذاتى لما هو بالذات مقدار ، كذلك انّما يجوز أن يقال بوجه ما انّه يحل فيها طرف شي‏ء حال في‏


المقدار الذي هي طرفه ، فهو متقدر بذلك المقدار بالعرض؛ وكما أنّه يتقدر به بالعرض كذلك يتناهى بالعرض مع النقطة فتكون نهاية بالعرض مع نهاية بالذات ، كما يكون امتداد بالعرض مع امتداد بالذات؛ ولو كانت النقطة منفردة تقبل شيئا من الأشياء لكان يتميز لها ذات فكانت النقطة اذن ذات جهتين : جهة منها تلي الخط الذي تميّزت عنه ، وجهة منها مخالفة له مقابلة فتكون حينئذ منفصلة عن الخط بقوامها ، وللخط المنفصل عنها نهاية ولا محالة غيرها تلاقيها فتكون تلك النقطة نهاية الخط لا هذه ، والكلام فيها وفي هذه النقطة واحد ، ويؤدّى هذا إلى أن تكون النقط متشافعة في الخطّ إمّا متناهية وإمّا غير متناهية ، وهذا أمر قد بان لنا في مواضع أخرى استحالته فقد بان أنّ النقط لا يتركب بتشافعها جسم ، وبان أيضا أنّ النقطة لا يتميز لها وضع خاص ولا بأس بأن نشير إلى طرف منها فنقول :

انّ النقطتين اللتين تليان نقطة واحدة من جنبتيها حينئذ إمّا أن تكون النقطة المتوسلة تحجز بينهما فلا تتماسان فيلزم حينئذ أن تنقسم الواسطة على الأصول التي علمت وهذا محال.

وإمّا أن تكون الوسطى لا تحجز المتكتنفتين عن التماس فحينئذ تكون الصور المعقولة حالة في جميع النقط وجميع النقط كنقطة واحدة وقد وضعنا هذه النقطة الواحدة منفصلة عن الخط فللخط من جهة ما ينفصل عنها طرف غيرها به ينفصل عنها فتكون تلك النقطة مباينة لهذه في الوضع وقد وضعت النقط كلها مشتركة وهذا محال (فهذا خلف ـ خ).

فقد بطل إذن أن يكون محل المعقولات من الجسم شيئا غير منقسم ، فبقى أن يكون محلّها من الجسم إن كان محلّها في الجسم منقسما :

فلنفرض صورة معقولة في شي‏ء منقسم فإذا فرضنا في الشي‏ء المنقسم أقساما عرض للصورة أن تنقسم فحينئذ لا يخلو إمّا أن يكون الجزءان متشابهين أو غير متشابهين :

فإن كان متشابهين فكيف يجتمع منهما ما ليس بهما إذ الكل من حيث هو كل ليس هو الجزء الّا أن يكون ذلك الكل شيئا يحصل منهما من جهة الزيادة في المقدار ، أو


الزيادة في العدد لا من جهة الصورة ، فحينئذ تكون الصورة المعقولة شكلا ما أو عددا ما وليس كل صورة معقولة بشكل أو عدد وتصير حينئذ الصورة الخيالية لا معقولة ، وأنت تعلم انّه ليس يمكن أن يقال : إنّ كل واحد من الجزءين هو بعينه الكل ، وكيف والثاني داخل في معنى الكل ، وخارج عن معنى الجزء الآخر؟ فمن البيّن الواضح أنّ الواحد منهما وحدّه ليس يدلّ على نفس معنى التمام.

وان كانا غير متشابهين فلينظر كيف يمكن أن يكون ذلك ، وكيف يمكن أن تكون للصورة المعقولة أجزاء غير متشابهة؟ فانّه ليس يمكن أن تكون الأجزاء الغير المتشابهة إلّا أجزاء الحدّ التي هي الأجناس والفصول وتلزم عنها (وتلزم من هذا ـ خ) محالات : منها أنّ كل جزء من الجسم يقبل القسمة أيضا في القوّة قبولا غير متناه فيجب أن تكون الأجناس والفصول في القوّة غير متناهية وهذا محال وقد صحّ أنّ الأجناس والفصول الذاتية للشي‏ء الواحد ليست في القوّة غير متناهية؛ ولأنّه ليس يمكن أن يكون فيه توهم القسمة يفرز الجنس والفصل ، بل ممّا لا نشكّ فيه أنّه إذا كان هناك جنس وفصل يستحقّان تميّزا في المحل أنّ ذلك التميز لا يتوقف إلى توهم القسمة فيجب أن تكون الأجناس والفصول بالفعل أيضا غير متناهية ، وقد صحّ أنّ الأجناس والفصول وأجزاء الحدّ للشي‏ء الواحد متناهية من كل وجه ، ولو كانت الأجناس والفصول يجوز لها أن تكون غير متناهية بالفعل لما كان يجوز أن تجتمع في الجسم اجتماعا على هذه الصورة فإنّ ذلك يوجب أن يكون الجسم الواحد انفصل بأجزاء غير متناهية بالفعل.

وأيضا ولتكن القسمة ممّا قد وقع من جهة فأفرز (فأفرزت ـ خ) من جانب جنسا ومن جانب فصلا ، فلو غيّرنا القسمة لم يخل إمّا أن يقع بها في كل جانب نصف جنس ونصف فصل ، أو يوجب انتقال الجنس والفصل إلى القسمين فيميل الجنس والفصل كلّ إلى قسم من القسمة فيكون فرضنا الوهمى أو قسمتنا الفرضية يدور بمكان الجنس والفصل ، وكان يجرّ كل واحد منها إلى جهة ما بحسب إرادة مريد من خارج فيه ، على أنّ ذلك أيضا لا يغني فانّه يمكننا أن نوقع قسما في قسم.


وأيضا ليس كل معقول يمكن أن ينقسم إلى معقولات أبسط منه فإنّ هاهنا معقولات هي أبسط المعقولات وهي مباد للتركيب في سائر المعقولات وليس لها أجناس ولا فصول ، ولا هي منقسمة في الكم ، ولا هي منقسمة في المعنى؛ فاذن ليس يمكن أن تكون الأجزاء المفروضة متشابهة كل واحد منها في معنى الكل وانّما يحصل الكل بالاجتماع فقط. ولا أيضا يمكن أن تكون غير متشابهة فليس يجب أن تنقسم الصورة المعقولة ، واذا لم يمكن أن تنقسم الصورة المعقولة ، ولا أن تحل طرفا من المقادير غير منقسم ، ولا بدّ لها من قابل فينا ، فلا بدّ من أن نحكم أنّ محلّ المعقولات جوهر ليس بجسم ، ولا أيضا متلقّيها منّا قوّة في جسم فانّها يلحقها ما يلحق الجسم من الانقسام ثمّ يتبعه سائر المحالات ، بل متلقّى الصورة المعقولة جوهر منّا غير جسمانيّ. انتهى (كتاب النفس من الشفاء بتصحيح الراقم وتعليقه عليه ، ص ٢٨٨ ، ٢٩٤).

بيان : قوله : «أو عن المقدار الذي هو منته إليها» أي سواء كان خطّا أو غير الخطّ كالمخروط.

وقوله : «يستقرّ فيه شي‏ء» الشي‏ء هو الصورة المعقولة في المقام.

قوله : «فكانت النقطة إذن ذات جهتين» وبعبارة أخرى إن كان لها تميز عن ذلك المقدار في الوجود فهو محال ، وإلّا لكانت منقسمة كما بيّن في موضعه.

قوله : «لا تحجز المكتنفتين عن التماس» فتتداخل النقاط فلا يحصل منها خط إذ لا يحصل امتداد على هذا الفرض قطعا ، وأيضا تكون الصورة المعقولة حالة في جميع النقط إلخ؛ ولقد أسقط اللازم من التشافع وأقام المطلوب مقامه فإنّ ابطال التشافع مقصود بالعرض.

قوله : «وقد وضعت النقط كلّها مشتركة في الوضع» لأنّ المفروض أنّ الوسطى لا يحجز.

قوله : «إمّا أن يكون الجزءان متشابهين» أي الجزءان من الصورة المعقولة.

قوله : «إذا لكل من حيث هو كل» تعليل لقوله : ما ليس بهما.


قوله : «وليس كل صورة معقولة بشكل» الواو حالية.

قوله : «انّ الواحد منهما وحده» وحده بالواو العاطفة وتشديد الدال ، ويمكن كونها كلمة واحدة اى موحدا.

وقوله : «على نفس معنى التمام» أي معنى التمام من الكل.

قوله : «وقد صح أنّ الأجناس» الواو حالية في الموضعين.

قوله : «وأجزاء الحد لشي‏ء الواحد متناهية» لأنّها إن كانت غير متناهية لزم عدم تعقل كنه ماهية من الماهيات.

وعلى هذا البيان قوله في الموضع الأوّل المقدم : «وقد صح أنّ الأجناس والفصول الذاتية للشي‏ء الواحد ليست في القوّة غير متناهية».

قوله : «اجتماعا على هذه الصورة» أي على الصورة الغير المتناهية.

قوله : «فيكون فرضنا الوهمي» أي الجزئى. وقوله : «أو قسمتنا الفرضيّة» أي الكلي وقوله : «أن نوقع قسما في قسم» فلا محالة في تنصيف كل منهما. وقوله : «فإن هاهنا معقولات هي أبسط المعقولات» كالأجناس العالية والفصول الأخيرة.

وأقول : خلاصة البرهان أنّ محل المعقولات إن كان جسما أو جسمانيا فهو إمّا شي‏ء وحدانيّ أو منقسم ، والأوّل طرف نقطى والنقطة غير متميزة بذاتها فمحال أن تكون محلّ المعقولات.

والثاني لزم منه انقسام الصورة المعقولة فأجزائها إمّا متشابهة أو غير متشابهة ، فعلى التشابه كيف يجتمع منها ما ليس بها إذا لكل من حيث هو كل ليس هو الجزء إلّا أن يحصل ذلك الكل أي الصورة المعقولة من الأجزاء ولها الزيادة في المقدار أو العدد فحينئذ خرجت عن كونها معقولة بل تصير صورة خيالية.

وإن كانت غير متشابهة فهي أجناس وفصول وهما متناهيتان لأنّها لو كانتا غير متناهيتين لزم عدم تعقل كنه ماهية من الماهيات؛ على أنّ هاهنا معقولات هي أبسط المعقولات ليس لها أجناس ولا فصول ، ولا هي منقسمة في الكم ، ولا هي منقسمة في المعنى لأنّ الحقيقة البسيطة لا يمكن أن يطرأ عليه التجزى أصلا ، فلا بدّ من أن نحكم‏


أنّ متلقّى الصورة المعقولة جوهر منّا غير جسماني. وبعبارة أخرى : انّ الجوهر الذي تحلّ فيه الصورة العقلية الكلّية ـ وإن شئت قلت : الجوهر الذي يدرك الصور العقليّة ـ جوهر روحاني غير موصوف بصفات الأجسام.

وعصارة البرهان : أنّ الصورة المعقولة بسيطة مفارقة ووعاء المفارق مفارق.

وأخصر من هذه أن تقول : وعاء العلم مجرّد لأنّه مجرّد. أو تقول : العلم بسيط فمدركه بسيط.

هذا ما أردنا من تلخيص البرهان. ولا يخفى عليك أنّ قول الشيخ : «وتصير حينئذ الصورة خيالية لا معقولة» صريح بأنّ البرهان يدلّ على تجرّد النفس تجرّدا تاما عقلانيا ، ولا يدلّ على تجرّدها الخيالى البرزخى الغير التام ، ولذلك جعلناه في بيان تجرّدها العقلي. فيسأل الشيخ والذين اقتفوا لآرائه وممشاه عن النفس التي لم تتجرّد تجرّدا عقليا فإن أقاموا البرهان على تجرّدها البرزخى أيضا فهو المراد وإلّا فالإيراد وارد عليهم في بقاء النفوس التي لم يحصل لها تجرّد عقلى بعد. فتأمل.

تحقيق : اعلم أنّ هذا البرهان أعنى به البرهان الأوّل من نفس الشفاء هو عندهم من أقوى البراهين الدالّة على تجرّد النفوس الناطقة المدركة للمعانى الكلية. وغرضنا الآن في التّحقيق أنّ للشيخ عناية خاصة به وأتى به في سائر تصانيفه بتقريرات يقرب بعضها من بعض ، مع ذلك فيها فوائد في تقريب البرهان وتشحيذ الأذهان ، ودفع اعتراضات قد تورد عليه ، أوجبت نقل بعض ما في تلك المصنّفات من تقرير البرهان ، وإن كان بظاهره يوهم الإسهاب ولكن عظم الأمر يجبره فعليك بما نتلوه منها وهي ما يلى :

١ ـ قال في النجاة :

فصل في تفصيل الكلام على تجرّد الجوهر الذي هو محل المعقولات. ثمّ نقول : انّ الجوهر الذي هو محل المعقولات ليس بجسم ولا قائم بجسم ـ إلى آخر ما نقلناه من الشفاء ، وقد علمت أنّ الشيخ (رضوان اللّه تعالى عليه) اقتطف النجاة من كتابه الكبير الشفاء. (النجاة ، ١٧٤ ـ ١٧٧ ، ط مصر ، الطبعة الثانية ، ١٣٥٧ هـ. ق).


٢ ـ قد تصدّى الشيخ لبيان هذا البرهان في الفصل السادس عشر والفصلين بعده من النمط الثالث من كتاب الإشارات ، وفي الفصل الأوّل من سابع الإشارات ، كما يأتي استيفاء النقل والتحقيق والتنقيب في ذلك.

٣ ـ اكتفى في الفصل السادس من المقالة الثالثة من رسالته في المبدا والمعاد بذلك البرهان الأوّل من الشفاء فقط على كون النفس جوهرا مفارقا بتقرير آخر مع اختصار فقال ما هذا لفظه :

فصل في أنّ المعقولات لا تحل جسما ، ولا قوّة في جسم ، بل جوهرا قائما بنفسه.

ونحن الآن ملتمسون أن نعرف كيف تأخذ كلّ قوّة مدركة صورة المدرك ، فنقول : إنّ المدرك إذا كان ذاتا عقلية فلا يجوز أن يدركه قوّة حسيّة ، ولا قوّة في جسم بوجه من الوجوه.

والبرهان على ذلك أنّ كل قوّة في جسم فإنّ الصورة التي تدركها تحلّ جسما لا محالة ، ولو كان محلّه مجرّدا عن الجسم لكان لتلك القوّة قوام دون الجسم. ثمّ لا يجوز أن يكون لصورة عقلية ، كيف كانت ، عقلية بذاتها أو بتجريد العقل لها ، تصوّر وحلول في الجسم ، وذلك لأنّ كل معنى وذوات عقلية فهي بريئة عن المادة وعن عوارض المادة ، وانّما هو حدّ فقط.

ثمّ كل صورة تحل جسما فقد يمكن فيها أن تنقسم؛ فإن تشابهت الأقسام فيكون الشي‏ء لم يدرك مرّة ، بل مرارا كثيرة ، بل مرارا بغير نهاية بالقوّة. وإن لم تتشابه الأقسام وجب أن تختلف ، فيجب أن يكون بعضها قائما مقام الفصول من الصورة التامّة ، وبعضها قائما مقام الجنس ، لأنّ أجزاء تلك الصورة تكون أجزاء معنى الذات ، ومعنى الذات لا يمكن أن يقسم إلّا على هذا الوجه. لكن القسمة ليست واجبة أن تكون على جهة واحدة ، بل يمكن على جهات مختلقة ، فيمكن أن تكون أجزاء الصورة كيف اتفق فصلا أو جنسا ، فلنفرض جزء جنسا وجزء فصلا معيّنا. ولنقسم على خلاف تلك القسمة : فإن كان ذلك بعينه فهذا محال ، وإن كان فصل آخر وجنس آخر حدث للشي‏ء فصول كيف اتفق وبغير نهاية وأجناس كذلك فهذا محال.


ثمّ كيف يجوز ولم يجب أن تكون صورة هذا الجانب مختصا بأنّه جنس ، وصورة هذا الجانب أنّه فصل. وإن كان هذا الاختصاص يحدث بتوهم القسمة فالتوهم بغير صورة الشي‏ء ، وهذا محال؛ وإن كان موجودا فيجب من ذلك أن يكون عقلنا شيئين ، لا شيئا واحدا. والسؤال في كل واحد من الشيئين ثابت ، فيجب أن يكون عقلنا أشياء بلا نهاية. فيكون للمعقول الواحد مباد معقولة بلا نهاية.

ثمّ كيف يمكن أن يحصل من المعقولين معقول واحد ، ونحن نعقل طبيعة الفصل بعينها لطبيعة الجنس ، فيجب أن تحلّ طبيعة الفصول وصورته في الجسم حيث طبيعة الجنس ، فيستحيل.

ثمّ الواحد الذي لا قسمة له كيف يعقل ، والحدّ من جهة ما هو حدّ واحد ، فكيف يعقل من جهة وحدته ، والفصول المجرّدة لا تنقسم بالفصول ، والأجناس المجرّدة التي ليس لها أجناس ، وصورة المعقولات التي لا قسمة لها إلى مبادى حدود كيف تعقل؟

وقد بان واتضح أنّ المعقولات الحقيقية لا تحلّ جسما من الأجسام ولا تقبلها صورة متقررة في مادة جسم ، هذا قسم. (ص ١٠٠ و ١٠١ ، ط ١ ، ايران).

٤ ـ هذا البرهان هو البرهان الأوّل من الفصل الخامس من رسالة الشيخ في النفس وبقائها ومعادها أيضا. (مجموعة الرسائل الفلسفية ، ص ٨٠ ـ ٨٤ ، ط مصر ، وص ١٢٦ ـ ١٢٩ ، ط جامعة استانبول).

وهذه الرسالة للشيخ قد طبعت مرّة مع رسائل أخرى فلسفية تنتهي إلى اثنتين وعشرين رسالة في جامعة استانبول ، عنى بنشرها الفاضل حلمى ضيا ولكن بمناسبة ذكرى ابن سينا الألفية؛ ومرّة أخرى مع ثلاث رسائل أخرى للشيخ في النفس أيضا في قاهرة مصر ، حققها وقدّم إليها الدكتور أحمد فؤاد الأهوانى سنة ١٣٧١ هـ. وقد بذل في تصحيحها بعرضها على نسخ أخرى عتيقة جهده ، فرأينا نقل البرهان من الرسالة بهذا التصحيح البليغ في المقام حقيقا لقرب عباراته من عبارات الشفاء وإيجابه تسهيل الفهم من ما في الشفاء أيضا. إلّا أنّا نجعل اختلاف النسخ التي أورده في ذيل الصفحات بين الهلالين بدون ذكر رموز النسخ روما للاختصار ، فهي ما يلى :


الفصل الخامس في أنّ إدراكها لا يكون بآلات (بالآلة) في حال (فصل في تفصيل الكلام على تجرّد الجوهر الذي هو محل المعقولات؛ فصل في أنّ المدركة للصور الكلية لا يكون بآلات بحال) نقول : انّ الجوهر الذي هو محل المعقولات ليس بجسم ، ولا قائم بجسم ، على أنّه قوّة فيه ، أو صورة له بوجه. فإنّه إن كان محل المعقولات جسما أو مقدارا من المقادير ، فإمّا أن يكون محل الصور (الصورة) فيه طرفا منه لا ينقسم ، أو يكون أنّما يحل منه شيئا منقسما.

ولنمتحن أوّلا أنّه هل يمكن أن يكون طرفا غير منقسم؟ فأقول : إنّ هذا محال. وذلك لأنّ النقطة هي نهاية ما لا تميز لها (له) في الوضع عن الخط أو المقدار الذي هو متصل به (والمقدار الذي هو منته إليها) حتى ينتقش فيه (حتى يستقر فيه) شي‏ء من غير أن يكون في شي‏ء من ذلك الخط. بل كما أنّ النقطة لا تنفرد بذاتها وإنّما هي طرف ذاتي لما هو بالذات مقدار ، كذلك أنّما يقال بوجه ما إنّه (بوجه إنّه) يحلّ فيها طرف شي‏ء حال في المقدار الذي هو طرفه متقدر (فيتقدر) به بالعرض؛ وكما (فكما) أنّه يتقدر به بالعرض كذلك يتناهى بالعرض مع النقطة (بالعرض في النقطة).

ولو كانت النقطة منفردة (مفردة) تقبل شيئا من الأشياء ، لكان يتميّز لها ذات ، فكانت (وكانت) النقطة حينئذ ذات جهتين : جهة منها تلي الخط (الخط الذي تميزت عنه) ، وجهة منها مخالفة له (لها) مقابلة (وجهة منها تخالف الذي تتميز به عنه وهي له مقابلة) ، فتكون حينئذ منفصلة عن الخط ، وللخط نهاية غيرها تلاقيها ، فتكون تلك النقطة نهاية الخط لا هذه (هذا) ، والكلام فيها وفي هذه النقطة واحد ، ويؤدّي هذا إلى أن تكون النقط متشافعة (متتابعة) في الخط ، إمّا متناهية وإمّا غير متناهية؛ وهذا أمر (الأمر) قد بان لنا في مواضع أخرى استحالته. فقد بان أنّ النقط لا تتركب بتشافعها ، وبان أيضا أنّ النقطة لا يتميز (لا يتم) لها وضع خاص. ونشير إلى طرف منها فنقول :

إنّ النقطتين حينئذ اللتين تطبقان بنقطة واحدة من جنبتيها (جنبتيه) إمّا أن تكون هذا النقطة المتوسطة تحجز بينهما فلا تتماسان ، فيلزم حينئذ في البديهة العقلية الأوّلية أن تكون كل واحدة منهما تختص بشي‏ء من الوسطى تماسّه ، فتنقسم حينئذ الواسطة ،


وهذا محال.

وإمّا أن تكون الوسطى لا تحجز المكتنفتين عن التماس فحينئذ تكون الصورة المعقولة حالة في جميع النقط ، وجميع النقط كنقطة واحدة. وقد وضعنا هذا النقطة الواحدة منفصلة عن الخط ، فللخط من جهة ما ينفصل عنها طرف غيرها بها ينفصل عنها ، فتلك النقطة تكون مباينة (متباينة) لهذه في الوضع ، وقد وضعت النقط كلّها مشتركة في الوضع ، هذا خلف. فقد بطل (بطل إذن) أن يكون محلّ المعقولات من الجسم شيئا غير منقسم. فبقى أن يكون محلّها (محله) من الجسم ـ إن كان محلّها جسما ـ شيئا منقسما.

فلنفرض صورة معقولة في شي‏ء منقسم ، فإذا فرضناها (فرضنا) في الشي‏ء المنقسم انقساما عرض للصورة أن تنقسم ، فحينئذ لا يخلو إمّا أن يكون الجزءان متشابهين أو غير متشابهين فان كانا متشابهين فكيف يجتمعان منهما ما ليس هما؟ الّا أن يكون ذلك الشي‏ء شيئا يحصل فيهما من جهة المقدار (من جهة بالزيادة في المقدار) أو الزيادة في العدد ، لا من جهة الصورة ، فتكون حينئذ الصورة المعقولة شكلا ما أو عددا ما ، وليس كل صورة معقولة بشكل ، وتصير حينئذ الصورة خيالية لا عقلية.

وأظهر من ذلك أنّه ليس يمكن أن يقال إنّ كل واحد من الجزءين هو بعينه الكل في المعنى ، لأن الثاني إن كان غير داخل في معنى الكلّ ، فيجب أن نضع في الابتداء معنى الكل لهذا الواحد لا لكليهما (لا كليهما) وإن كان داخلا في معناه فمن البيّن الواضح أنّ الواحد منهما وحده ليس يدلّ على نفس معنى التمام (على معنى نفس التّمام).

وإن كانا غير متشابهين فلننظر كيف يمكن أن يكون للصورة المعقولة أجزاء غير متشابهة؟ فانّه ليس يمكن أن تكون الأجزاء الغير المتشابهة إلّا أجزاء الحدّ التي هي الأجناس والفصول ، ويلزم من هذا محالات : منها أنّ كلّ جزء من الجسم يقبل القسمة أيضا بالقوّة (في القوّة) قبولا غير متناه ، فيجب أن تكون الأجناس والفصول بالقوّة غير متناهية؛ وقد صحّ أنّ الأجناس والفصول الذاتية للشي‏ء الواحد ليست في القوّة غير متناهية. ولأنّه ليس يمكن أن يكون توهّم القسمة بقدر الجنس والفصل‏


(والفصل تمييزا بينهما). بل ممّا لا شكّ فيه أنّه إذا كان جنس وفصل يستحقّان تمييزا في المحلّ ، أنّ ذلك التمييز لا يتوقف على (إلى) توهم القسمة ، فيجب أن تكون الأجناس والفصول أيضا بالفعل غير متناهية؛ وقد صحّ أنّ الاجناس والفصول وأجزاء الحدّ (والفصول والحد) للشي‏ء الواحد متناهية من كل وجه. ولو كانت غير متناهية بالفعل هاهنا لكانت توجب أنّ الجسم (أن يكون الجسم) الواحد يفصل (انفصل) بأجزاء غير متناهية. (بالفعل هاهنا لما كان يجوز أن يجتمع في الجسم اجتماعا على هذه الصورة فإنّ ذلك يوجب أنّ الجسم الواحد ...)

وأيضا لتكن القسمة وقعت (وقع) من جهة ، وأفرزت (فأفرزت ، فأفرد ، وأفرد) من جانب جنسا ، ومن جانب فصلا. فلو غيّرنا القسمة لكان يقع منها في جانب نصف جنس ونصف فصل ، أو كان ينقلب [الجنس إلى مكان الفصل ، والفصل إلى مكان الجنس‏] (زيادة في نسخة) فكان فرضنا الوهمى يدور مقام الجنس والفصل فيه (وكان يغير كل واحد منهما إلى جهة ما بحسب إرادة من بدن خارج). على أنّ ذلك أيضا لا يغنى ، فانّه يمكننا أن نوقع قسما في قسم.

وأيضا ليس كل معقول يمكن أن يقسم إلى معقولات أبسط منه ، فإنّ هاهنا معقولات هي أبسط المعقولات ، ومبادي للتركيب (ومبادي ليست للتركيب) في سائر المعقولات ، وليس لها أجناس ولا فصول ، ولا هي منقسمة في الكم ، ولا منقسمة في المعنى. فإذن ليس يمكن أن تكون الأجزاء المتوهمة فيه غير متشابهة ، وكل واحد (متشابهة كل واحد) منها هو غير معنى الكل (منها وهو غير معنى الكل) ؛ وإنّما يحصل الكل (الكلى) بالاجتماع. فإذا (فإن) كان ليس يمكن أن تنقسم الصورة المعقولة (صورة معقولة) ، ولا أن تحلّ طرفا من المقادير غير منقسم (غير منقسم ولا بدّ لها من قابل فينا) ، فبيّن أنّ محلّ المعقولات جوهر ليس بجسم ، ولا أيضا قوّة في جسم ، فيلحقه (فيلحقها) الجسم من الانقسام (في الانقسام) ، تث يتبعه سائر المحالات. انتهى.

اعلم أنّ عبارات الشيخ في تقرير البرهان من الرسالة المذكورة ، ومن النجاة كأنّهما واحدة لا تتفاوت كثير تفاوت فيها.


٥ ـ قد علمت أنّ البرهان الأوّل من نفس الشفاء على اثبات تجرّد النفس هو من أقوى البراهين عندهم على ذلك. وهو البرهان الأوّل في أكثر مصنفات الشيخ لكنّه بدأ في مختصر له موسوم بـ عيون الحكمة بالبرهان السادس الآتى من نفس الشفاء على تجرّدها ، ثمّ أتى بعده بخلاصة البرهان الأوّل من نفس الشفاء ايفاء لحق العيون في الاختصار فقال :

وممّا يوضّح هذا أنّ الصورة المعقولة لو حلّت جسما أو قوّة في جسم لكانت تحتمل الانقسام وكان الأمر الوحداني لا يعقل. وليس يلزم من هذا أنّ الأمر المركب يجب أن لا يعقل بما لا ينقسم؛ وذلك لأنّ وحدة الموضوع لا تمنع كثرة المحمولات فيه ، لكنّ تكثّر الموضوع يوجب أن يكثر المحمول (ط مصر بتحقيق عبد الرحمن بدوى ، ص ٤٣ ـ ٤٤).

ثمّ لا بأس في تقديم الأوّل على السادس مرّة ، وأخرى بالعكس لما تقدّم من أنّهما من غرر تلك البراهين. وقد وصف السادس في النجاة بقوله : «فهذا برهان عظيم ...»

كما سيأتي تفصيله.

٦ ـ قد حرّر الشيخ ذلك البرهان الأوّل من الشفاء في الفصل التاسع من رسالة له في القوى النفسانية بتحرير آخر مع اختصار في البرهان إلّا أنّه قدّم له خمس مقدمات مستنبطة من متن البرهان ، تسهيلا لنيل المراد من البرهان. وهذه الرسالة قد طبعت في مصر مرّة سنة ١٣٢٥ هـ. بتصحيح الفاضل ادورد ابن كرنيليوس فنديك الأمير كاني وضبطه ومقدمته مع شرح كل فصل منها بإشارات منيفة وقد بذل جهده في التصحيح والضبط جدّا ، وأفاد وأجاد بما عمل في طبع الرسالة ونشرها. ومرّة أخرى سنة ١٣٧١ هـ. مع ثلاث رسائل أخرى لابن سينا في النفس باهتمام الدكتور أحمد فؤاد الأهواني. ونحن نأتى بتحرير الشيخ على وفق هذين الطبعين ، ونجعل بعض اختلاف النسخ ممّا أفاده ادورد فنديك ، بين الهلالين بلا نقل رموز النسخ روما للاختصار. قال الشيخ :

الفصل التاسع في إقامة البراهين على جوهرية النفس وغناها عن البدن في القوام‏


على مقتضى طريقة المنطقيين. [وإليك‏] أحد البراهين المنطقية في إثبات هذا المطلوب ، ولنقدّم له مقدّمات :

الف) منها أنّ الإنسان يتصوّر المعانى الكلية التي يشترك فيها كثرة ما ، كالإنسان المطلق والحيوان المطلق. وهذه المعانى الكلية منها ما يتصوّره بتركيب جزئي (بتركيب جبرىّ) ، ومنها ما يتصور (لا يتصور) لا بالتركيب بل بالانفراد. وما لم يتصوّر القسم الأخير فلا يمكن أن يتصور القسم الأوّل. ثمّ انّما يتصور كل واحد من هذه المعانى الكلية صورة واحدة مجرّدة عن الإضافة إلى جزئياتها المحسوسة ، إذ جزئيات كل واحد من المعانى الكليّة لا تتناهى بالقوّة ، وليس بعضها أولى بذلك من بعض.

ب) ومنها أنّ الصورة مهما حلّت جسما من الأجسام وبالجملة منقسما من المنقسمات فقد لابسته في تمام أجزائه ، وكل ما لابس منقسما في تمام أجزائه فهو منقسم فكل صورة لابست جسما من الأجسام فهي منقسمة.

ج) ومنها أنّ كل صورة كلية إذا اعتبر فيها الانقسام بمجرّد ذاتها فلا يجوز أن تكون أجزاؤها المعتبرة مشابهة للكل في تمام المعنى ، وإلّا فالصورة الكلية التي اعتبر الانقسام في ذاتها لم تنقسم ذاتها ، بل انقسمت في موضوعاتها إمّا أنواعها وإمّا أشخاصها؛ وتكثّر الأنواع والأشخاص لا يوجب الانقسام في تجرّد ذات الكلّي ، وقد وضع أنّه وقع وهذا خلف. فإذن. قولنا : إنّ أجزاءها لا تشابهها في تمام المعنى ، قول صادق.

د) ومنهما أنّ الصورة الكليّة (العقلية) إذا اعتبر فيها الانقسام فلا يجوز (فلا يجب) أن تكون أجزاؤها عرية عن جميع معناها ، وذلك أنّنا إذا جوّزنا ذلك وقلنا إنّ هذه الأجزاء مباينة لتمام صورة الكلّي أنّما تحصل الصورة فيها عند اجتماعها فهي أشياء خالية عن صورة ما يحصل فيها عند التركيب فهذه صفة أجزاء القابل ، فإذن لم تقع القسمة في الصورة الكليّة بل في قوابلها ، وقد قيل إنّه وقع فيه ، وهذا خلف. فإذن قولنا : لا يجوز أن تكون أجزائها مباينة لها في جميع المعنى ، قول صادق.

هـ) ومنها وهي نتيجة المقدمتين ، أنّ الصورة الكلّية إذا أمكن أن يعتبر فيها الانقسام‏


فإنّ أجزاءها لا خالية عن كمال الصورة ولا مستوفية لها استيفاء تامّا ، وكأنّها أجزاء حدّه ورسمه.

فإذا تقررت هذه المقدمات فنقول : لا محالة أنّ الصورة المعقولة ، وبالجملة العلم ، تقتضي محلّا من ذات الإنسان جوهرىّ الذات محلّه ، فلا يخلو أن يكون هذا الجوهر جسما منقسما أو جوهرا غير جسم ولا منقسم. وأقول ولا يجوز أن يكون جسما؛ وذلك أنّ الصورة المعقولة الكلّية إذا حلّت جسما فلا محالة أنّه يمكن أن يعرض فيها الانقسام على ما أوضحناه أوّلا. ولا يجوز أن تكون أجزاؤها إلا متشابهة للكل من وجه ، مباينة من وجه؛ وبالجملة في كلّ واحد منها بعض معنى الكلّ. والصورة الكلّية ليس شي‏ء منها يتركب منه وله بعض معناها إلّا الأجناس والفصول ، فإذن هذه الأجزاء أجناس وفصول ، فكل واحد منها صورة كلّية ، والقول فيها كالقول الأوّل ، ولا محالة إمّا سينتهي إلى صورة أولى لا تنقسم إلى أجناس وفصول لامتناع التمادي إلى ما لا يتناهى في أجزاء مختلفة المعاني إذا تقرر أنّ الأجسام تتجزّأ إلى ما لا يتناهى. ومعلوم أنّه إن كانت الصورة الكلّية لا تنقسم إلّا إلى أجناس وفصول وإن كان منها (وفصول إن كان منها) ما لا تنقسم إلى أجناس وفصول ، فليس تنقسم بوجه من الوجوه في ذاته إذن ولا المركب منهما ، إذ من المعلوم أنّ الإنسان لا يمكن أن يتصوّر إلّا مع تصوّر الحىّ الناطق.

وبالجملة لا يمكن أن تتصوّر الصورة الكلية التي لها جنس وفصل إلّا بتصوّرها جميعا. فإذن الصورة التي وصفناها أنّها حلّت في الجسم لم تحلّ فيه وهذا خلف؛ فنقيضه ، وهو قولنا : إنّ الصورة الكلية لا تحلّ جسما من الأجسام ، صادق. فإذن الجوهر الذي تحل فيه الصورة العقلية الكلية جوهر روحاني غير موصوف بصفات الأجسام ، وهو الذي نسمّيه بالنفس الناطقة. وذلك ما أردنا أن نبين.

٧ ـ للشيخ رسالة فارسية في معرفة النفس قد طبعت بمناسبة ذكرى ابن سينا الألفية في جامعة طهران ، عاصمة ايران ، سنة ١٣٧١ هـ. ق ١٣٣١ هـ. ش بتصحيح الدكتور موسى عميد ، وقد بذل جهده في تصحيحها بعرضها على نسخ عديدة عرفها في مفتتح‏


الرسالة ، وفي تحشيتها ، والإتيان بمقدمة مجدية لها. وهذا البرهان من الشفاء هو البرهان الأوّل فيها على أنّ النفس الإنسانية جوهر مفارق غير مخالط للمادة بري‏ء عن الأجسام منفرد الذات بالقوام والعقل؛ إلّا أنّ الشيخ لخّص البرهان وأتى به في الرسالة بالفارسية؛ قال في الباب الخامس منها : «اكنون مى‏گوييم كه هر جوهرى كه تصور معقولات كند ...» (ص ٣٤ ، ط ١).

٨ ـ البرهان الأوّل من نفس الشفاء على أنّ النفس الناطقة جوهر مفارق ، محرّر في رسالة للشيخ (رضوان اللّه عليه) في السعادة والحجج العشر بتحرير آخر مفيد في بيانه جدّا. وهذه الرسالة طبعت في حيدرآباد الدكن مع عدة رسائل أخر فلسفية للشيخ سنة ١٣٥٣ هـ. ق والبرهان المذكور هو الحجة الأولى في تلك الرسالة أيضا ، وتؤول إلى البرهان الأوّل من الشفاء ، وليست غيره عند التحقيق قال :

الحجة الأولى في أنّ النفس جوهر [مفارق‏] ؛ يجب أن يتحقق أنّ الإنسان فيما هو انسان يباين سائر الحيوانات بقوّة تخصه من بين جملتها له بها إدراك المعقولات الكلية ، وقد جرت العادة بتسمية هذه القوّة العقل الهيولانى والنفس الناطقة ، وبها يسمّى الإنسان ناطقا. وهذه القوّة موجودة في كل واحد من الناس طفلا كان أو بالغا ، مجنونا كان أو عاقلا ، مريضا كان أو سليما.

فأوّل ما يحصل في هذه القوّة من المعقولات هي المسماة بداية العقول والآراء العالية أعنى المعانى المتحققة بغير حاجة إلى قياس وتعلم ، إذ لو كان لكل واحد من المعقولات حاجة إلى تقدم تعلم وقياس لوصل الأمر إلى ما لا يتناهى وذلك محال. فظاهره أنّ من المعقولات معقولات أوّل لا تحتاج إلى قياس وتعلم في أن تكون معقولات ، ويجب أن يكون حصولها في النفس في أوّل مرتبة لأنّها يجب أن تكون العلة لسائر المعقولات في أن تكون معقولات ، فإنّ كل واحد لما هو أوّل في كل واحد من المعاني علة لما هو الثاني في ذلك المعنى من حيث هو ذلك المعنى ، ولا بدّ من تقدم وجود هذه المعاني في القابل لها من الإنسان.

ثمّ لا يخلوا ما أن تكون هذه المعاني جواهر أو أعراضا حالّة فيها. وكلّ من نفي كون‏


النفس الناطقة داخلة في حقيقة الجوهر فإنّه يسمّي هذه المعاني أعراضا.

ثمّ من المعلوم المقبول عند كل واحد من الفرق أنّ العرض لا يستتمّ قوامه ما لم يحط بحامل جوهرى الذات يحمله ، إذا اسم العرض موضوع لهذا المعنى. ولا بدّ أن يكون لهذه المعاني على هذا الوضع حامل من ذات الإنسان يحملها. وهذه المعانى كلية ، لأنّ من حكم بأنّ الشي‏ء لا يصدق عليه نعم ولا معا ، ولا يكذبان عليه معا ، بل يصدق أحدهما ويكذب الآخر ، فليس يطلقه إلّا إطلاقا كليا. وكذلك من قال : إنّ الكلّ أعظم من الجزء. وكذلك من قال : إنّ الأشياء المساوية لشي‏ء واحد متساوية.

فلينظر من هو حامل هذه المعاني الكلّية من ذات الإنسان؟ وهل هو جسم ، أو جوهر غير جسم؟.

ومن البيّن أنّ حاملها لو كان جسما لامتنع أن يقبل شيئا من المعانى المعقولة الكلية. وذلك أنّه ليس شي‏ء من هذه ينقسم إلّا إلى الأجزاء الجزئية إن كانت له ، والأجزاء الرسمية الوهمية إن كانت له ، والأجزاء القولية إن كانت له. وأمّا من جهة الكمية فكلّا؛ وتبيّن ذلك آنفا.

ثمّ من البيّن أنّ كلّ صورة لابست جسما من الأجسام فإنّها تنقسم بانقسام الجسم. ثمّ من الممتنع أن يكون انقسامها من جهة الكميّة ، وذلك أنّ الأجزاء التي تنقسم إليها الصورة المعقولة لا يخلو إمّا أن يكون لها أو لبعضها شي‏ء من معنى الكل ، أو لا يكون لها أو لبعضها شي‏ء من معنى الكل ، فإن كان هذا القسم فالصورة الكلّيّة إذا تتركب من أجزاء ليس لا شي‏ء من معنى الكل ، وإذا كانت أجزاء خالية عن صورة وانّما تحصل فيها الصورة عند اجتماعها ، فليس بأجزاء لصورة تقبل هي أجزاء قابل الصورة ، فاذا ليست الصورة التي وصفناها بمنقسمة وهذا خلف.

فبقى إن كانت الصورة الكلية منقسمة ، أن تنقسم إلى أجزاء لها معناها؛ وذلك على قسمين :

إمّا أن يكون لكل واحد منها أو بعضها تمام صورتها ومعناها : فتكون الصورة الكلية محمولة على هذه الأشياء ، وهذه الأشياء إمّا أشخاص تحتها ، أو أنواع؛ ومن البيّن أنّا


إذا وضعنا الصورة الكلية نوعا من الأنواع الأخر أنّ هذه الأجزاء تكون أشخاصها يحمل عليها معنى الصورة الكلّية ، ثمّ عند تركبها يحصل المعنى الكلى ، وذلك محال على ما بيّن على لسان المنطقيين ولسان الفاحصين عن الفلسفة الأولى؛ ثمّ مع ذلك لا يكون الانقسام عارضا لها بل لموضوعاتها التي تحمل هي عليها وذلك غير الموضوع.

فبقى أنّما إذا انقسمت فإنّما تنقسم إلى أشياء ليس لها تمام معناها ، ولا هي أيضا عرية عنها ، وتلك هي أجزاء الحد والرسم ، فإذا إنّما تنقسم إلى أجزاء حدّية أو رسمية ، ولا يخلو إمّا أن تكون هذه الأجزاء كلّية أو شخصيّة : فإن كانت الشخصية فحدّ الكلى مركب من أجزاء شخصيّة وذلك محال على ما بينه المنطقيون. وإن كانت كلّية فالمسألة راجعة من الرأس في كل واحد من الأجزاء. فأمّا إن بلغت القسمة إلى ما لا تتناهى فتكون صورة كلية مركبة من مباد صورية كلّية لا تنقسم في ذاتها إلى الأجناس الأولى. وبين أنّ هذه الصورة الكلية ليس من شأنها الحلول في جسم من الأجسام لأجل امتناعها عن الانقسام. فإذا لا الصورة التي هذه الصورة مبدؤها وجزؤها وحدها بحالّة في الجسم ، وإلّا فيكون الإنسان موجودا ولا حيوانا وهذا محال.

فتبيّن أنّ الصورة الكلية لن تحلّ جسما من الأجسام البتة ، ولا أيضا في قوّة جسمانية ، إذ حال القوّة الملابسة للجسم في الانقسام كحال الجسم. فقد اتضح أنّ محلّ الحكمة من ذات الإنسان جوهر غير جسماني قائم بذاته ، وذلك ما أردنا أن نبيّن.

وهذا البرهان قد لخّصه الغزّالي بتحرير آخر ونقله في كتابه معارج القدس في مدارج معرفة النفس وهو البرهان الأوّل فيه أيضا. (ص ٢٥ ، ط مصر).

وكذا قد نقله الفخر الرّازي في المباحث المشرقية بتحرير آخر ، وهو الدليل الأوّل فيه أيضا على تجرّد النفس الإنسانيّة؛ ثمّ أتى في أثناء التحرير بمطالب على سبيل السؤال والجواب حول الدليل لا تخلو من فوائد (ج ٢ ، ص ٣٤٥ ، ط ١) ؛ وكذا في المسألة الثامنة والعشرين من كتابه المسمّى بـ الأربعين (ج ١ ، ص ٢٦٧ ، طبع حيدرآباد الدّكن).


وكذلك هو الحجة الأولى من نفس الأسفار ، غير أنّ صاحب الأسفار نقلها من المباحث المشرقية وحرّره بتحرير آخر أيضا قريب من ما في المباحث وزاد بعض كلمات تمثيليّة ، ثمّ أورد اعتراضات الفخر في أثناء تحرير الدليل على حذوه بتعبير واعترض هاهنا تارة ، فإن قلت أخرى ، فأجاب عنها ، من غير أن يصرّح باسم الفخر أو يسمّى بـ المباحث ، ـ ولا بأس بذلك ـ. ثمّ نقل مسلكا آخر في تقرير الحجة واعتراضات بعض المتأخرين عليه ، فأجاب عنها؛ ويريد بذلك البعض صاحب المباحث ، وأفاد بعض إشارات لطيفة في تضاعيف الحجّة.

واعلم أنّ أوّل من تصدّى لبيان هذا البرهان المذكور من الشفاء ، هو الشيخ نفسه في الفصول الثلاثة السادسة عشرة وتاليتيه من النمط الثالث من كتاب الإشارات ، فوزّع البرهان في ثلاثة فصول : فصل في تحرير أصل البرهان ، وفصلين في الجواب عن توهّم الإيرادين حوله؛ سيّما أنّ الشارح المحقق الطوسى في شرحه على الإشارات بيّنها أتمّ تبيين؛ على أنّ لنا حول كلماتهما السامية تعليقات لعلّها لمجدية لمن هو يبتغى الإيمان والاطمينان بنحو هذه المعارف الإيقانيّة ، فعليك بما نهديها إليك ، واللّه سبحانه وليّ التوفيق؛ قال الشيخ :

«إشارة ، إن اشتهيت الآن أن يتّضح لك أنّ المعقول لا يرتسم في منقسم ولا في ذى وضع فاسمع انك تعلم أن الشي‏ء غير المنقسم قد يقارنه أشياء كثيرة لا يجب لها أن يصير منقسما في الوضع ، وذلك إذا لم تكن كثرتها كثرة ما ينقسم في الوضع كأجزاء البلقة لكن الشي‏ء المنقسم إلى كثرة مختلفة الوضع لا يجوز أن يقارنه شي‏ء غير منقسم ، وفي المعقولات معان غير منقسمة لا محالة وإلّا لكانت المعقولات أنّما تلتئم من مبادئ لها غير متناهية بالفعل؛ ومع ذلك فإنّه لا بدّ في كلّ كثرة متناهية أو غير متناهية من واحد بالفعل ، وإذا كان في المعقولات ما هو واحد ويعقل من حيث هو واحد فانّما يعقل من حيث هو واحد فانّما يعقل من حيث لا ينقسم ، فإذن لا يرتسم فيما ينقسم في الوضع ، وكل جسم وكل قوّة في جسم منقسم.»

أقول قوله : «فاذن لا يرتسم فيما ينقسم في الوضع» نتيجة البرهان. أي لا يرتسم‏


ما هو واحد بالفعل معقول من حيث هو كذلك فيما ينقسم في الوضع أي لا يمكن أن يكون العاقل منقسما في الوضع. ولا يخفى عليك أنّ هذا البيان هو تحرير متن البرهان المذكور في الشفاء. وكذلك الفصلان الآتيان في دفع بعض الشبه الواردة عليه أيضا قد استخرجا من تقرير برهان الشفاء.

وبالجملة تحرير هذا البرهان في الفصول الثلاثة من الإشارات ، تنقيح ما في الشفاء على أسلوب آخر أحسن وأبين. وعليك بشرح المحقق الطوسى عليه :

قوله : «إشارة ، إن اشتهيت ... فاسمع» يريد بيان أنّ النفس الناطقة ، وبالجملة كل جوهر عاقل فهو ليس بجسم ولا جسمانى ، وبالجملة ليس بذى وضع. قال الفاصل الشارح : إيراد هذه المسألة كان بالنمط المترجم بالتجريد أولى ، إلّا أنّه لما بنى إثبات الجوهر المفارق على أنّ النفس الإنسانية ليست جسما ولا جسمانية احتاج إلى بيان ذلك فاكتفى هاهنا ببرهان واحد لذلك وذكر سائر البراهين في النمط المذكور.

وأقول : إنّه أراد في هذا النمط أن يبحث عن ماهية النفس وكمالاتها فبيّن أوّلا أنّها جوهر مفارق الوجود عن الأجسام والجسمانيات ، ثمّ أثبت لها كمالات تصدر عنها لذاتها من غير توسط آلة وكمالات تصدر عنها بتوسط آلات؛ وأراد في نمط التجريد أن يبحث عن حالها بعد التجرّد عن البدن فبيّن هناك بقائها مع كمالاتها الذاتية ولم يتعرض لبيان امتناع كونها جسما أو جسمانيا ، بل بالغ في إيضاح الفرق بين الكمالات الذاتية الباقية معها والكمالات البدنية الزائلة عنها بزوال البدن فوقع اشتراك النمطين في البحث عن تلك الكمالات من غير قصد على ما يتّضح في موضعه ولم يورد كما ذكره الشارح هاهنا شيئا ممّا يجب أن يبين هناك.

وأقول : هذا ما قاله المحقق الطوسي في صدر الفصل من بيان غرض الشيخ الرئيس ، والجواب عن اعتراض الفخر الرازي عليه. ولكن لا يخفى عليك أنّ أدلّة تجرّد النفس كلّها تنتج أنّها جوهر بسيط مفارق الوجود عن المادّة وأحكامها وما هو شأنه كذلك فلا يتطرّق إليه الفساد والزوال أبدا ، فانقطاع النفس عن بدنها العنصري لا يضرّ بقائها الأبدي كما صرّح الشيخ به في السادس من سابع الإشارات المترجم بقوله :


« تكملة لهذه الإشارات إلخ» وسيأتي تفصيل البحث عن ذلك ونقل ما في التكملة. وقد علمت أنّ البرهان المذكور في السادس عشر من ثالث الإشارات هو البرهان الأوّل من نفس الشفاء على تجرّدها وهو من أمتن البراهين على ذلك وأسدّها وأتقنها ، والحق أنّ ما قاله المحقق الطوسى في المقام مجيبا عن الاعتراض ليس كما ينبغى ولا يخلو عن تكلّف ، وما أفاده الفخر مقرون بالصواب. فلنرجع إلى ما حرّره المحقّق الطوسى في شرح دقائق البرهان ، قال :

قوله : «انك تعلم ... غير منقسم» إشارة إلى تمهيد أصل كلّى ، وهو أنّ الحالّ قد يكون بحيث لا يقتضى انقسامه انقسام المحلّ؛ وقد يكون بحيث يقتضى :

والأوّل هو الحالّ الذي لا ينقسم إلى أجزاء متباينة في الوضع كالسواد المنقسم إلى جنسه وفصله ، وكأشياء كثيرة تحلّ محلا واحدا معا كالسواد والحركة مثلا فانّهما لا يقتضيان بانقسامهما إلى هذين النوعين انقسام المحلّ إلى جزء أسود غير متحرك ، وإلى جزء متحرك غير أسود.

والثانى هو الحالّ الذي ينقسم إلى أجزاء متباينة في الوضع كالبلقة فانّها تنقسم إلى عرضين متباينين في المحل والوضع. وأشار الشيخ إلى هذين القسمين بقوله الشي‏ء غير المنقسم قد تقارنه أشياء كثيرة إلى قوله كأجزاء البلقة.

والمحلّ أيضا قد يكون بحيث لا يقتضى انقسامه انقسام الحالّ ، وقد يكون بحيث يقتضى :

والأوّل هو المحل المنقسم إلى أجزاء غير متباينة في الوضع كالجسم المنقسم إلى جنسه وفصله ، أو إلى مادته وصورته؛ والمحل الذي ينقسم إلى أجزاء متباينة في الوضع ولكن لا يحلّ فيه الحالّ من حيث هو ذلك المحلّ بل من حيث لحوق طبيعة أخرى به كالخط فإنّ النقطة لا تنقسم لأنّها لا تحلّه من حيث هو خط بل من حيث هو متناه ، وكالسطح فإنّ الشكل لا يحلّه من حيث هو سطح بل من حيث هو ذو نهاية واحدة أو أكثر ، وكالجسم فإنّ المحاذاة التي هي إضافة مثلا لا تحلّه من حيث هو جسم بل من حيث وجود جسم آخر على وضع مامنه ، وكالأجزاء فإنّ الوحدة


لا تحلّها من حيث هي أجزاء بل من حيث هي مجموع.

والثانى هو المحل الذي يحل فيه شي‏ء من حيث هو ذلك الشي‏ء القابل للقسمة كالجسم الذي يحل فيه السواد والحركة أو المقدار. وأشار الشيخ إلى القسم الأخير بقوله : «لكن الشي‏ء المنقسم إلى كثرة مختلفة الوضع لا يجوز أن يقارنه شي‏ء غير منقسم». وإنّما أعرض عن ذكر القسم الأوّل لأنّ الحالّ هناك لا يقارن المحل المنقسم من حيث هو ذلك المحلّ وليس مقارنته إيّاه هذه المقارنة بل انّما يقع عليهما اسم المقارنة لا بمعنى واحد.

قوله : «وفي المعقولات ... وكل قوّة في جسم منقسم» لمّا فرغ عن تمهيد الأصل المذكور شرع في تقرير الحجة وهو أنّ في المعقولات معانى غير منقسمة وإلّا للزم منه محال وهو التيام كل معقول من أجزاء غير متناهية بالفعل سواء كانت متشابهة أو غير متشابهة. وإنّما قيد بالفعل لأنّ الشي‏ء الذي يكون له أجزاء غير متناهية بالقوة كالجسم انّما يكون واحدا بالفعل فيكون هو معنى غير منقسم من حيث هو واحد وهو المطلوب ، مع أنّ هذا الاحتمال في المعقولات غير ممكن على ما سيأتي. ومع لزوم المحال المذكور فالمطلوب حاصل لأنّ كل كثرة بالفعل سواء كانت متناهية أو غير متناهية فالواحد بالفعل موجود فيه ، وذلك لأنّ الكثرة عبارة عن الآحاد ، فإذن ثبت أنّ في المعقولات ما هو واحد فإذا عقل من حيث هو واحد فانّما عقل من حيث لا ينقسم. ومعنى أنّه عقل أنّه ارتسم في جوهر يدركه. وهذا الارتسام في ذلك الجوهر لا يكون من حيث لحوق طبيعة أخرى به لأنّه يدركه بذاته. ثمّ إن كان ذلك الجوهر ممّا ينقسم وجب من انقسامه انقسام المعنى المعقول من حيث هو واحد وهو محال ، فإذن المعقول الواحد يستحيل أن يرتسم فيما ينقسم في الوضع ، وكلّ جسم وكل قوّة حالّة في جسم منقسم ، فإذن محل المعقول الواحد ليس بجسم ولا بقوّة جسمانيّة ، ومحلّ المعقول الواحد هو محلّ سائر المعقولات على ما مرّ ، فإذن ليست النفس الإنسانية ولا كل ما من شأنه أن يعقل بجسم ولا بجسمانى. وألفاظ الكتاب ظاهرة.


وإنّما قيّد قوله : «فإذن لا يرتسم فيما ينقسم» بالوضع ، احترازا من انقسام المحلّ لا بالوضع فإنّه لا يقتضى انقسام الحال كما مرّ ، والجوهر العاقل يجوز أن ينقسم ذلك الانقسام كانقسام النفس إلى جنسها وفصلها.

واعلم أنّ ما ليس بمنقسم بالفعل فلا يحتمل أن ينقسم إلى مختلفات لأنّ اختلاف الأجزاء الموجودة في الكل يقتضى انقسام الكل بالفعل وقد فرض غير منقسم بالفعل هذا خلف ، لكنه يحتمل أن ينقسم إلى متشابهات وإن لم يكن إلّا في الوهم ، وذلك كالجسم الذي هو شخص إلى أجزاء غير متناهية بالقوّة ، أو كالجسم الذى هو جنس إلى أنواع غير متناهية بالقوّة ، والمعنى المعقول إن كان كذلك فلا يمتنع أن يحلّ في جسم غير منقسم بالفعل ، وينقسم بانقسام ذلك الجسم إلى أجزائه أو إلى جزئياته فلذلك أردف الشيخ هذا الفصل بفصلين مشتملين على بيان هذين الاحتمالين وتحقيق الحق فيهما.

هذا تمام كلام المحقق الطوسي في شرح الفصل الأوّل من الفصول الثلاثة المذكورة في تقرير أصل البرهان. وقد أجاد وأفاد.

وأقول : قوله : «إلى هذين النوعين» أي إلى نوعى الحركة والسواد.

وقوله : «مع أنّ هذا الاحتمال في المعقولات غير ممكن» أي احتمال كون الشي‏ء منقسما إلى أجزاء غير متناهية بالقوّة في المعقولات غير ممكن فلا يكون شي‏ء منها كذلك.

وقوله : «ومحلّ المعقول الواحد هو محل سائر المعقولات على ما مرّ» يعنى أنّ وزان محلّ المعقولات هو وزان محلّ المحسوسات أي الحسّ المشترك؛ وكما أنّ القاضى بين الأشياء؛ المحسوسة لا بدّ من أن يحضره المقضى عليها جميعا كما مر البحث عنه في بيان إثبات الحس المشترك في الفصل التاسع من النمط الثالث من الإشارات ، كذلك القاضى بين الأمور المعقولة لا بدّ من أن يحضر المقضى عليهم جميعا فمحلّ معقول واحد هو محلّ سائر المعقولات وقد أثبت في الفصل السادس من النمط الثالث أنّ هذا الجوهر العاقل في الإنسان واحد. وهذا البيان في محل المحسوسات المتخالفة ،


وكذلك في محل المعقولات المتغائرة قد عدّ من أدلّة تجرّد النفس أيضا كما سيأتي كلمات القوم فيه.

قوله : «احترازا من انقسام المحل لا بالوضع» وذلك كالجسم المنقسم إلى جنسه وفصله أو إلى مادته وصورته مثلاً.

قوله «واعلم أنّ ما ليس بمنقسم بالفعل» هذا الكلام منه قدّس سرّه تمهيد وتوطئة لبيان الفصلين الآتيين ، لا أنّه من تتمة شرح الفصل السابق.

وأقول : في بيان الوهمين الآتيين بالإجمال : إنّ الشيخ قدّس سرّه لما كان أساس برهانه في تجرّد النفس الناطقة على وجود المعنى الواحد العقلي البسيط مجرّدا عن المادة أى يكون من وراء عالم الطبيعة ، كان الوهمان الآتيان في صدد أن يخرجا المعنى الواحد العقلى عن البساطة بحيث لم يكن معنى واحد عقلي بسيطا ، فلو ثبت هذا التوهم لما تمّ برهان الشيخ ، وذلك لأنّه إذا تطرق القسمة في المعنى الواحد العقلي وخرج عن البساطة جاز أن يحلّ فيما يقبل الانقسام فينقسم الحالّ أي المعنى الواحد العقلي بانقسام المحلّ أي النفس الناطقة بأقسام ، فعلى هذا لم تجب أن تكون النفس مجرّدة بل يمكن أن تكون جسما أو جسمانيا.

قوله : «واعلم أنّ ما ليس بمنقسم بالفعل» أي ما ليس بمنقسم بالفعل إلى أجزاء متباينة في الوضع فلا يحتمل أن ينقسم إلى مختلفات الحقيقة. فلنرجع إلى ما أفاده الشيخ في دفع الوهمين حول البرهان وشرح المحقق الطوسى عليه ، قال الشيخ :

وهم وتنبيه ، ولعلك تقول : قد يجوز أن تقع للصورة العقلية الوحدانية قسمة وهمية إلى أجزاء متشابهة. فاسمع أنّه إن كان كل واحد من القسمين المتشابهين شرطا مع الآخر في استتمام التصور العقلي فهما مباينان له مباينة الشرط للمشروط. وأيضا فيكون المعقول الذي أنّما يعقل بشرطين هما جزاءه منقسما. وايضا فإنّه قبل وقوع القسمة يكون فاقدا للشرط فلم يكن معقولا. وإن لم يكن شرطا فالصّورة المعقولة عند القسمة المفروضة صارت معقولة مع ما ليس مدخله في تتميم معقوليتها إلّا بالعرض ، وقد فرضنا الصورة المعقولة صورة مجرّدة عن اللواحق الغريبة فإذن هي ملابسة بعد لها ،


وكيف لا وهي عارضة لها بسبب ما فيه قدر في أقل منه بلاغ فإنّ أحد القسمين هو حافظ لنوع الصورة إن كان متشابها فالصورة التي جرّدناها مغشّاة بعد بهيئة غريبة من جمع أو تفريق ، وزيادة أو نقصان واختصاص بوضع فليست هي الصورة المفروضة.

وأمّا الصور الحسية والخيالية فتفتقر ملاحظة النفس أجزاء لها جزئية متباينة الوضع مقارنة لهيئات غريبة مادّية ، إلى أن يكون رسمها ورشمها في ذى وضع وقبول انقسام.

هذا تمام كلام الشيخ في هذا الفصل. وبيّن فيه الفرق بين الصور المعقولة ، وبين الصور الحسيّة والخياليّة ، بأنّ الصور المعقولة يمتنع حلولها في الجسم وما يتبعه ، وأنّ الحسية والخيالية يجب حلولها فيه كما أشبع الكلام في ذلك في الفصل الثالث من رابعة نفس الشفاء بأنّ الصورة المرتسمة في الخيال يجب أن يرتسم في جسم (ج ١ ، من الطبع الحجرى ، ص ٣٤١). ولكنك قد دريت تحقيق الحق في ذلك في العين الثانية والعشرين ، وفي البحث عن براهين تجرّد النفس تجرّدا غير تام ، من أنّ القوّة الخيالية وصورها أيضا مجرّدة؛ بل الحقّ هو أنّ الصور المحسوسة أيضا كذلك وأنّ الصور العلمية مطلقا معقولة. وعليك بما أفاده المحقق الطوسي في شرحه على الفصل قال :

الوهم هو الاحتمال الأوّل من الاحتمالين المذكورين وهو أن تكون الصورة العقلية الواحدة قابلة للقسمة الوهميّة إلى أجزاء متشابهة كالجسم الواحد ، وحينئذ يمكن أن تكون حالّة في جسم واحد فتنقسم بانقسامه. والتنبيه تنبيه على فساد هذا الاحتمال.

وتقريره أنّ المعقول الواحد إذا انقسم إلى قسمين متشابهين ويجب أن يكونا متشابهين للمجموع أيضا فلا يخلو إمّا أن يكون كون كل واحد من القسمين مع الآخر شرطا في كون ذلك المعقول معقولا وحينئذ لا يكون كل واحد منها بانفراده معقولا لفقدان الشرط ، أو لا يكون كذلك بل كان كل واحد من القسمين بانفراده معقولا أيضا كالأصل.

أمّا القسم الأوّل فباطل من ثلاثة أوجه :

الأوّل : أنّ كل واحد من القسمين على ذلك التقدير يكون مباينا للكل مباينة الشرط


للمشروط ، ويلزم من ذلك أن يجتمع من القسمين شي‏ء ليس هو ايّاهما بل إنّما يكون المجتمع متعلق الماهية بزيادة في المقدار أو العدد كشكل ما أو عدد بخلاف القسمين فلا يكون القسمان جزئيه من حيث ماهيته المتشابهة لهما هذا خلف.

والثاني : أنّ المعقول الذي شرط كونه معقولا هو حصول جزءين له لا يكون من حيث هو كذلك غير منقسم وقد فرضناه واحدا غير منقسم هذا خلف.

والثالث : أنّه قبل وقوع القسمة فيه لا يكون الجزءان حاصلين فلا يكون شرط معقوليته حاصلا فلا يكون معقولا وقد فرضناه معقولا هذا خلف. والشيخ أشار إلى القسم الأوّل بقوله : «إن كان كل واحد من القسمين المتشابهين شرطا مع الآخر في استتمام التصور العقلى». وأشار إلى الوجه الأوّل بقوله : «فهما متباينان له مباينة الشرط للمشروط». وأشار إلى الوجه الثانى بقوله : «وأيضا فيكون المعقول الذي أنّما يعقل بشرطين هما جزءاه منقسما». وأشار إلى الوجه الثالث بقوله : «وأيضا فإنّه قبل وقوع القسمة يكون فاقدا للشرط فلم يكن معقولا».

وأما القسم الثاني وهو أن لا يكون حصول القسمين شرطا في معقوليته بل يكون هو بنفسه معقولا ، وكل واحد من القسمين بانفراده أيضا معقولا كالجسم الذي يقبل القسمة إلى أجسام فباطل أيضا لكون الصورة المعقولة مأخوذة مع لاحق غريب عن ذاته كالقسمة أوّلا ، وكمقارنة ما يقبل القسمة من المقدار ثانيا ، وقد ذكرنا من قبل أنّ الصور المعقولة أنّما تكون مجرّدة عمّا يقتضيه غير ذواتها هذا خلف. وأشار الشيخ إلى هذا القسم بقوله : «وإن لم يكن شرطا». وإلى الخلف اللازم من جهة مقارنة القسمة بقوله : «فالصورة المعقولة ... فإذن هي ملابسة بعدلها». وإلى الخلف اللازم من جهة مقارنة ما يقبل القسمة من المقدار بقوله : «وكيف لا وهي عارضة ... فليست هي الصورة المفروضة». وذلك لانّ القسمة عارضة لها بسبب شي‏ء فيه ذو مقدار في أقل من كفاية فإنّ أحد القسمين وإن كان متشابها للقسم الآخر فهو حافظ لنوع الصورة المعقولة فإذن الصورة التي فرضناها مجرّدة كانت مغشاة بعد بهيئة غريبة من جمع إذا اعتبر حصول الكل من القسمين ، أو تفريق إذا اعتبر انقسامه إليهما ، أو زيادة إذا اعتبر


حصوله من انضياف أحد القسمين إلى الآخر ، أو نقصان إذا اعتبر بقاء المعقولية بعد حذف أحدهما منه واختصاص بوضع لأنّ التجزية إلى جزءين متشابهين لا تعرض إلا للماديّات فهي تقتضى وضعا ما لا محالة. وقوله : «فليست هي الصورة المفروضة» إشارة إلى الخلف.

قوله : «وأمّا الصور الحسية ... وقبول الانقسام» لمّا فرغ من بيان امتناع حلول الصورة المعقولة في الجسم وما يتبعه بيّن وجوب حلول الصورة الحسيّة والخياليّة فيه ليتمّ الفرق بينهما. وذلك لأنّا إذا أحسسنا بوجه إنسان مثلا ، أو تخيلناه فلا بدّ من أن تلاحظ النفس أجزاء له متباينة الوضع مقارنة لهيئة غريبة مادية كالعينين والأنف والفم فإنّ صورة العين اليمنى تدرك في مادة وجهة لم تحلّ اليسرى فيها ، وكذلك اليسرى فهما متباينان بالوضع. وأيضا كونهما على بعد مخصوص بينهما وكون إحداهما في جهة من الأخرى غير جهة الأنف هيئات غريبة ماديّة تقارنها وتلك الملاحظة تفتقر إلى أن يكون رسمها الحسّى ورشمها الخيالي في ذي وضع وقبول انقسام أي في شي‏ء مادى.

والرسم هو الأثر اللاصق بالأرض ، وهو بالمحسوس أولى لأنّ الحسّ أنّما يجد أثر الشي‏ء. والرشم هو الختم أعنى إحداث النقش الذي يحصل من الطابع في الشي‏ء الذي طبع عليه ، ولذلك يسمّى اللوح الذي يختم به البيادر رشما وهو بالخيالى أولى لأن صورها منطبعة في الخيال من طابع هو المدرك بالحسّ. وفي قول الشيخ «ملاحظة النفس الصور الحسّية والخياليّة» تصريح بإدراك النفس لها. ويظهر منه بطلان قول من ادّعى عليه أنّه لا يقول بذلك.

واعتراض الفاضل الشارح بأنّ الصورة العقلية في النفس الجزئية ليست بمجرّدة مكرّر قد سبق ذكره.

وقوله : «لو صح أنّ الصورة العقلية مجرّدة عن اللواحق لكان كافيا في بيان تجرّد النفس لأنا حينئذ نقول كل حالّ في متحيّز فهو ذو وضع ، وكل ذي وضع فليس مجرّدا عن اللواحق ، والصورة العقلية مجرّدة فهي ليست بحالة في متحيز» ليس يقدح في


الحجة المذكورة لأنّ صحة حجة على مطلوب لا تنافي صحة حجة أخرى عليه.

والشيخ قد أورد تلك الحجة أيضا في أكثر كتبه حتى المختصر الموسوم بـ عيون الحكمة لكنه أوردها على وجه أقرب مأخذا ممّا ذكره هذا الفاضل. وذلك لأنّه أوردها هكذا : الصور العقلية ليست بذوات وضع ، وكل حال في جسم فهو ذو وضع.

وانّما اختار هاهنا الحجة المذكورة التي هي قولنا المرتسم بالمعقول الواحد ليس بمنقسم والجسم منقسم ، لاندراج وجوب كون الصورة الخيالية جسمانية تحتها على وجه أظهر كما أشار إليه.

وأمّا اعتراضه المستفاد من الشيخ أبى البركات وهو أن الهيولى غير ذات حجم وقد حكمتم بانطباع الجسمية والمقدار فيها فلم لا يجوز انطباع المحسوسات في النفس؟

فالجواب عنه أنّ الهيولى أنّما تتحصل موجودة ذات وضع بذلك الانطباع ، والنفس لا يجوز أن تصير ذات وضع البتة.

وقوله : «هب أنّ ما ذكرتموه يقتضى كون الصور الحسية والخيالية جسمانية لكنّها لا تقتضى كون الوهمية جسمانية» فالجواب أنهم لم يتمسكوا في ذلك بهذه الحجة بل بغيرها.

‏هذا تمام كلام المحقق الشارح على الفصل الثانى من الفصول الثلاثة المذكورة.

فنقول في بيان بعض عباراته :

قوله : «فتنقسم بانقسامه» أي بنحو التشابه.

وقوله : «إذا انقسم إلى قسمين متشابهين ويجب أن يكونا متشابهين للمجموع أيضا» أي إذا انقسم إلى قسمين كل واحد منهما متشابه للآخر في الماهية ، وحينئذ يجب أن يكونا متشابهين للمجموع أيضا في الماهية أيكون كل واحد من الثلاثة متشابها للآخرين فيها فلا يخلوا إمّا أن يكون كلّ واحد من القسمين أي الجزءين مع الآخر شرطا أي يكون هذه المعية شرطا في كون ذلك المعقول الذي هو كل مجموعى معقولا وحينئذ لا يكون كل واحد منهما بانفراده معقولا لفقدان الشرط إلخ.

قوله : «وقد ذكرنا من قبل أن الصور المعقولة أنّما تكون مجرّدة عما يقضيه‏


غير ذواتها» ناظر إلى تحقيقه الذي أتى به في أثناء شرحه على الفصل الثامن من النمط الثالث من الإشارات حيث قال الشيخ : «تنبيه ، الشي‏ء قد يكون محسوسا عند ما يشاهد إلخ» وراجع في نقل كلامه والتحقيق الحقيق حوله شرح العين الثالثة والثلاثين من كتابنا سرح العيون في شرح عيون مسائل النفس.

قوله : «وإن كان متشابها للقسم الآخر فهو حافظ ...» وإن لم يكن متشابها فهو منقسم بالفعل كما مرّ.

قوله : «ويظهر منه بطلان قول من ادّعى ...» تعريض على الفخر الرازى حيث قال في شرحه على نفس الإشارات غير مرّة إنّ الشيخ لا يقول بإدراك النفس للجزئيات. وقد أجاب عنه الشارح الطوسى بأنّ الشيخ قائل به إلّا أنّ النفس مدركة للمعقولات بذاتها وللمحسوسات بآلاتها؛ وجعل كلام الشيخ هاهنا حيث قال : فتفتقر ملاحظة النفس أجزاء لها ، شاهدا لمدّعاه.

قوله : «على وجه أقرب مأخذا ممّا ذكره» أمّا وجه كونه أقرب في العيون فلأنّه من قياس واحد ، وأمّا ما ذكره الفخر فلأنّه من قياسين.

قوله : «لاندراج وجوب كون ...» تعليل لوجه الاختيار. وأما بيان قوله على وجه أظهر ، فلأنّ اندراجها في الدليل الثانى أظهر من اندراجها تحت الأوّل وذلك لأنّ كون الصورة الخيالية تحت قوله والجسم ينقسم أظهر من دخوله تحت الوضع لأنّ المنقسم إمّا جسم أو جسمانى بخلاف اندراجه تحت الوضع لأنّ معناه أنّه هنا أو هنا لك أو هناك هو لا يدل دلالة واضحة ظاهرة على كونها جسمانية. أفاده السيد السند أحمد في تعليقته على شرح الإشارات للطوسى في المقام.

قوله : «وأمّا اعتراضه المستفاد إلخ». قال الفخر في شرحه على الإشارات في المقام ما هذا لفظه (ص ٢٥٥ ، ط مصر).

ولقائل أن يقول : أليس أنّ الهيولى الأولى ليس لها في ذاتها حجم وامتداد في الجهات ، ثمّ انّكم حكمتم بانطباع الجسمية والمقدار والشكل والوضع فيها؟ فإذا جوزتم ذلك فلم لا تجوزون انطباع المحسوسات في جوهر النفس أيضا


وما الفرق بين الأمرين؟

فأجاب عنه المحقق الطوسى بقوله : «انّ الهيولى أنّما تتحصل موجودة ذات وضع بذلك الانطباع ، والنفس لا يجوز أن تصير ذات وضع البتة».

أقول : مراد المعترض أنّ النفس ليست بمجرّدة بل مادية كالهيولى ، ومراد المحقق من الجواب أنّ الاعتراض على تجرّد النفس بقياسها بالهيولى قياس مع الفارق فالنفس باقية على تجرّدها ، وذلك لأن الهيولى تتحصل موجودة ذات وضع بانطباع الطبيعة الجسمية وامّا النفس فلا تصير ذات وضع البتة.

اعلم أنّ النفس بلحاظ نشأتها الدّانية من حيث إنّ بدنها مرتبتها النازلة ذات وضع كما لا يخفى ، وأما بلحاظ نشأتها العالية ليست بذات وضع ، كيف وما هو ذو وضع ليس له إلّا صورة واحدة جسمية لا يقبل صورة أخرى إلّا بزوال الأولى ، والنفس تقبل صورة بعد صورة إلى غير النهاية من غير زوال السابقة بتعاقب اللاحقة فهي مجرّدة عن المادة وأحكامها من الوضع والأحياز والفساد ونحوها.

قوله : «وقوله هب أنّ ما ذكرتموه إلخ» ناظر إلى كلام الفخر الرازى في المقام حيث قال في شرحه على الإشارات بعد الاعتراض المذكور ما هذا لفظه :

وأيضا فهب أنّ ما ذكرتموه يقتضى كون الإدراكات الحسية والخيالية جسمانية ولكن لا يلزم منه كون الإدراكات الوهمية جسمانية ، فإنّ ملاحظة النفس للصداقة المخصوصة لا يتوقف على ملاحظتها لأجزاء تلك الصداقة متباينة في الوضع. (هامش ص ٢٥٥ ، ط مصر).

فأجاب عنه المحقق الطوسى بقوله : «انّهم لم يتمسكوا في ذلك بهذه الحجة بل بغيرها» انتهى.

وأقول : تعليل الفخر بأنّ ملاحظة النفس للصداقة إلخ ، ناظر إلى قول الشيخ في آخر هذا الفصل المعنون بالوهم والتنبيه ، وهو «وأمّا الصور الحسية والخيالية فتفتقر ملاحظة النفس أجزاء لها جزئية متباينة الوضع إلخ. والشيخ لم يدّع هاهنا أنّ الإدراكات الوهمية جسمانية وانّما تعرض بأنّ الإدراكات الحسية والخيالية جسمانية ،


فاعتراض الفخر هذا ليس في محلّه. وتحقيق الحق في الوهم تجده في شرح العين الإحدى والثلاثين. من كتابنا سرح العيون في شرح العيون.

بقي البحث عن الفصل الثالث من الفصول الثلاثة المعهودة ، وهو أيضا جواب عن وهم يورد على البرهان فقال الشيخ :

وهم وتنبيه ، أو لعلك تقول : إنّ الصورة العقلية قد تنقسم بإضافة زوائد معنوية إليها قسمة المعنى الجنسى الوحدانى بالفصول المنوعة ، والمعنى النوعى الوحدانى بالفصول العرضية المصنّفة؛ فاسمع أنّه قد يجوز ذلك ولكن يكون فيه إلحاق كلّى بكلّى يجعله صورة أخرى ليس جزءا من الصورة الأولى فإنّ المعقول الجنسى والنوعى لا تنقسم ذاته في معقوليته إلى معقولات نوعية وصنفية يكون مجموعها حاصل المعنى الواحد الجنسى أو النوعى ، ولا تكون نسبتها إلى المعنى الواحد المقسوم نسبة الأجزاء بل نسبة الجزئيات؛ ولو كان المعنى الواحد العقلى البسيط الذي سبق تعرضنا له ينقسم بمختلفات بوجه لكان غير الوجه الذي تشكّك به أوّلا من قبول القسمة إلى المتشابهات ، وكان كل واحد من أجزائه هو أولى بأن يكون البسيط الذي كلامنا فيه.

هذا تمام كلامه في هذا الفصل ، وبه تم تقرير البرهان المذكور على أنّ كل جوهر عاقل سواء كان نفسا ناطقة أو مفارقا ليس بذى وضع. وقد أجاب الشيخ عن الوهم بأنّ الصورة العقلية المنقسمة إلى الأنواع أو الأصناف لم تنقسم انقسام الجسم الواحد البسيط كالماء مثلا إلى أجزاء متشابهة بل قد ضمّت إليها فصول منوّعة فحصلت أنواعا ، أو العوارض المصنّفة فصارت أصنافا؛ فقول المستشكل هاهنا من أنّ المعقول يحتمل أن ينقسم إلى جزئيات ، وإن كان صوابا لكنّه ليس بانقسام الشي‏ء إلى أقسام متشابهة كقوله في الاحتمال الأوّل من أنّ الجسم الواحد ينقسم إلى أجزائه المتشابهة فليكن المعنى المعقول الواحد البسيط كذلك؛ فإنّ هذا الانقسام كان في الجسم صوابا ، لكن المعنى المعقول لا ينقسم كذلك.

ثمّ هاهنا أي في الوهم الثانى في هذا الفصل يرد سؤال وهو أن يقال : لو سلّمنا أنّ‏


المعنى المعقول لم ينقسم إلى متشابهات ولكنه ينقسم إلى مختلفات بلا كلام ودغدغة كالإنسان المنقسم إلى الحيوان والناطق ، وكذلك كغيره مما ينقسم إلى مختلفات جنسية وفصلية ، فيمكن أن يكون المعنى المعقول حالّا في جسم فينقسم بانقسامه ، فمحلّه اى النفس الناطقة جسم أو جسمانى.

والشيخ أشار إلى هذا الإيراد بقوله : «ولو كان المعنى الواحد العقلى البسيط الذي سبق تعرضنا له ينقسم بمختلفات بوجه».

ثمّ أجاب عن هذا الإيراد أوّلا بأنّه خارج عن سياق الإشكال لأنّ الإشكال كان مبتنيا على انقسام المعنى الواحد المعقول إلى المتشابهات ، وإليه أشار بقوله : «لكان غير الوجه الذي تشكك به أوّلا من قبول القسمة إلى المتشابهات». وثانيا أنّ المعنى المعقول الواحد البسيط إذا قسم إلى أجزاء مختلفة لها كان كل واحد من أجزائه البسيطة كجنسه العالى هو الذي كلامنا فيه أي استدللنا بذلك الجزء البسيط أي بإدراكه على تجرّد محلّه أي النفس الناطقة. هذا ما عندنا في بيان ما في هذا الفصل ، وهو وإن كان كافيا لإيفاء المراد ولكن في بيان المحقق الطوسى لطفا آخر نأتى به مزيدا للاستبصار ولعظم الخطر في ذلك الأمر الأهم ، قال :

الوهم في هذا الفصل هو الاحتمال الثانى من الاحتمالين المذكورين ، وهو أن تنقسم الصورة العقلية إلى جزئيات لها. واعلم أنّ قسمة الكلّى إلى الجزئيات أنّما تكون بإضافة زوائد معنوية إليه ، وتلك الزوائد تكون إمّا مقوّمة لماهيات الجزئيات ، أو غير مقوّمة؛ فإن كانت مقومة كانت فصولا فكانت القسمة بها قسمة المعنى الجنسى الوحداني بالفصول الذاتية المنوعة كقسمة الحيوان بإضافة الناطق وغير الناطق إليه إلى الإنسان وغيره؛ وإن لم تكن مقوّمة كانت عرضيات ولا يخلو إمّا أن يكون الحاصل بعد إضافتها إلى ذلك الكلى قابلا للشركة كانت القسمة بها قسمة المعنى النوعى الوحدانى بالفصول العرضية المصنّفة كقسمة الإنسان بالسواد والبياض إلى السودان والبيضان ، وإن لم تكن قابلا للشركة كانت القسمة بها قسمة المعنى النوعى الواحد بالعوارض الجزئية المشخصة؛ وانّما لم يذكر الشيخ هذا القسم لأنّ الحاصل‏


فيه لا يكون معقولا بل يكون محسوسا.

قوله : «انّه قد يجوز ذلك إلخ» هذا هو التنبيه على تحقيق الحق فيه وهو أنّ هذه القسمة يجوز أن تقع في الوجود بخلاف القسمة المتقدمة لكنّها بالحقيقة لا تكون قسمة بل هي تركيب تلك الصورة الكلية كالحيوان بصورة كلية أخرى كالناطق تجعلها صورة ثالثة كالإنسان ليس الحاصل جزاء من الصورة الأولى أعنى الحيوان فإنّ المعقول الجنسي كالحيوان لا تنقسم ذاته في معقوليته إلى معقولات نوعية كالإنسان والفرس يكون مجموعهما هو حاصل معنى الحيوان ، وكذلك النوعى كالإنسان لا ينقسم إلى معقولات صنفية كالعرب والعجم يكون مجموعهما حاصل معنى الإنسان؛ وأيضا لا تكون نسبة هذه الأنواع والأصناف إلى الحيوان والإنسان المقسومين نسبة الأجزاء بل نسبة الجزئيات. ولو كان المعنى الواحد العقلي البسيط الذي استدللنا به على تجريد محلّه ينقسم بمختلفات بوجه كالجنس والفصل لكان غير الوجه الذي تشكك به قبل هذا من قبوله القسمة إلى أجزاء متشابهة كالجسم ، وكان كل واحد من أجزائه البسيطة التي لا تنقسم كجنسه العالى أولى بأن يجعله البسيط الذي استدللنا به لئلّا يعرض شك من وجه.

هذا تمام كلام المحقّق الطوسى في بيان الفصل ، وبه تم تحرير البرهان الأوّل من الشفاء على تجرّد النفس الناطقة على الوجه الذي أتى به في الإشارات.

قوله : «استدللنا به على تجريد محلّه» يعنى بالمحل النفس الناطقة. وقوله : «الذي استدللنا به» اى استدللنا به على تجريد ذلك المحل.

الفخر الرازى في كتابه الأربعين أتى بهذا البرهان من الشفاء فقط على تجرّد النفس وهو أقوى البراهين عنده قال : وأمّا القسم الثالث ـ وهو قول من قال النفس ليس بجسم ولا جسمانى ـ فهذا القول اختيار جمهور الفلاسفة ، ومن قدماء المعتزلة معمر بن عباد السلمى ، ومذهب أكثر الأخيار من الإمامية ، ومن المتأخرين الغزالي وأبى القاسم الراغب.

ثمّ قال : واعلم أنّ الفلاسفة ذكروا في إثبات هذا (يعنى أنّ النفس ليست بجسم‏


ولا بجسمانى) وجوها كثيرة ، واعترضنا عليها في كتبنا الحكمية إلّا أنّ اعتمادهم على وجه واحد ونحن نذكره هاهنا : قالوا لا شك في وجود معلومات غير منقسمة فيكون العلم بها غير منقسم فيكون الموصوف بتلك العلوم غير منقسم ، وكل متحيز فهو منقسم ، فإذا الموصوف بتلك العلوم لا متحيز ولا حالّ في المتحيّز.

ثمّ شرع في بيان البرهان فقال :

أمّا المقدمة الأولى ـ وهي إثبات معلومات غير قابلة للقسمة ـ فيدلّ عليه وجهان.

الأوّل : أنّا نعرف ذات الله تعالى وثبت أنّ ذاته تعالى غير قابلة للقسمة بوجه من الوجوه. وأيضا نعرف الوحدة ، والوحدة غير قابلة للقسمة بوجه من الوجوه.

الثانى : لا شكّ أنّا نعرف شيئا فذلك الشي‏ء إمّا مفرد ، وإما مركب؛ فإن كان مفردا فقد حصل المطلوب؛ وإن كان مركبا وكل مركب فهو مركب من المفردات ، والعلم بالمركب مسبوق بالعلم بمفرداته فثبت أنّا نعلم أمورا مفردة.

وأمّا المقدّمة الثانية ـ وهي أنّ المعلوم إذا كان غير منقسم كان العلم به غير قابل للانقسام. فالذى يدل عليه أنّه لو كان ذلك العلم قابلا للانقسام لكان ما يفرض جزءا لذلك العلم إمّا أن يكون علما بذلك المعلوم أو يكون علما بجزء من أجزاء ذلك المعلوم ، أو لا يكون علما بذلك المعلوم ولا بشي‏ء من أجزاء ذلك المعلوم؛ فإن كان جزء العلم علما بذلك المعلوم لزم أن يكون الجزء مساويا للكل في تمام الماهية وذلك محال. وإن كان متعلقا بجزء من أجزاء ذلك المعلوم لزم كون ذلك المعلوم منقسما وهو محال. وإن لم يكن علما لا بذلك المعلوم ولا بشي‏ء من أجزائه فعند اجتماع تلك الأجزاء إمّا أن يحدث أمر زائد بسبب ذلك الاجتماع أو لم يحدث (أو لا يحدث ـ خ ل) فإن لم يحدث البتة أمر زائد لزم أن لا يكون ذلك المجموع علما بذلك المعلوم والعلم بالشي‏ء لا يكون علما بذلك الشي‏ء هذا خلف. وإن حدثت حالة زائدة بسبب ذلك الاجتماع فتلك الحالة الزائدة إن كانت قابلة للقسمة عاد التقسيم المذكور فيه ولزم التسلسل ، وإن لم تقبل القسمة فالعلم بهذا المعلوم هو هذه الحالة الزائدة الحادثة بسبب الاجتماع وأنّه غير قابل للقسمة فحينئذ يحصل بما ذكرنا أنّ المعلوم إذا لم يقبل القسمة


كان العلم به غير قابل للقسمة.

أمّا المقدّمة الثالثة ـ وهي أنّ العلم إذا لم يكن قابلا للقسمة وجب أن يكون الموصوف به غير قابل للقسمة ـ فالذى يدلّ عليه أنّ كلّ ما كان قابلا للقسمة افترض فيه جزءان ، فالعرض الحاصل فيه إمّا أن يكون بتمامه حاصلا في كل واحد من النصفين ، أو يكون بتمامه حاصلا في أحد النصفين دون الثانى ، أو يكون بعضه حاصلا في أحد نصفيه والبعض الآخر (والنصف الآخر) منه حاصلا في النصف الآخر من المحلّ (في النصف الثانى من المحل ـ خ ل) ، أو لا يكون شي‏ء من ذلك :

أمّا الأوّل وهو أن يحصل بتمامه في هذا النصف وبتمامه في النصف الثانى فهذا يقتضى حصول العرض الواحد في محلين دفعة واحدة وهو محال. (دفعة وهو محال ـ خ ل).

وأمّا الثانى ـ وهو أن يحصل بتمامه في أحد النصفين منه دون الثانى ـ فحينئذ ننقل الكلام إلى ذلك النصف فإنّ ذلك النصف إن كان منقسما عاد الكلام فيه فيلزم أن يكون حاصلا في نصف ذلك النصف ، وبالجملة فكل ما يكون (فكل ما كان ـ خ ل) منقسما فإنّ ذلك العرض لا يكون حالا فيه ، وهذا يلزمه من باب عكس النقيض انّ ما يكون ذلك العرض حالا فيه فإنّه لا يكون منقسما.

وأما الثالث ـ وهو أن يقال بتوزع الحال على المحل ـ فهذا يقتضى انقسام الحال وقد بيّنا أنّه محال.

وأما الرابع ـ وهو أن لا يكون شي‏ء من هذه الأقسام ـ فهذا محال وذلك لأنّه إذا كان كل واحد من أجزاء المحل خاليا عن الحالّ بالكلية ، وعن جملة أجزاء الحالّ كان كل واحد من أجزاء المحل خاليا عن الحالّ بالكلية ، ومتى كان الأمر كذلك امتنع كون المحل موصوفا بالحال والعلم به ضرورى ، فثبت أنّ الحال إذا كان غير منقسم كان المحل أيضا غير منقسم.

أما المقدّمة الرابعة ـ وهي قولنا : إنّ كل متحيز منقسم ـ فهذا بناء على مسألة نفي الجوهر الفرد وقد تقدّم القول فيه؛ وحينئذ يلزم القطع من مجموع هذه المقدّمات الأربع‏


أنّ الشي‏ء الذي هو الموصوف منّا بالمعارف والعلوم موجود ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز وهو المطلوب.

أقول : إنّه أفاد في بيان البرهان بتقرير المقدمات المذكورة ، إلّا أنّ ما قال في الثانية منها من أنّ المعلوم اذا كان غير منقسم كان العلم به غير قابل للانقسام ، فالحق أنّ المعلوم بالذات وهو الذي حاصل للإنسان في صقع ذاته غير منقسم مطلقا سواء كان المعلوم بالعرض أي الشي‏ء الخارج عن النفس الذي تعلق التفات النفس إليه فحصلت نسبة ما بينها وبينه ، منقسما أو غير منقسم فافهم.

وقوله في الرابعة : «فهذا بناء على مسألة نفي الجوهر الفرد» بل وعلى القول به محال أيضا أن يكون محلا وموضوعا للعلم كما سيأتي البحث عن ذلك. والبراهين القاطعة ناطقة بأنّ وعاء العلم سواء كان واهبا أو متّهبا موجود بسيط عار عن المواد وأحكامها ، وإن كان التعبير عن الوعاء أو المحل أو الموضوع أو أترابها على التوسع ، والأمر أرفع من نحو هذه التعبيرات.

ثمّ أخذ الفخر بالإيراد على أنّ الحال في المنقسم منقسم فقال :

واعلم أنّا لا نسلّم أنّ كل متحيّز فهو يقبل القسمة أبدا ، وقد قدّمنا الدلائل على إثبات الجوهر الفرد؛ سلّمنا ذلك ولكن لا نسلّم أنّ الحال في المنقسم منقسم ، ويدلّ عليه وجوه :

أحدها أنّ النقطة موجودة مشار إليها غير منقسمة ، فهي إن كانت جوهرا فقد ثبت الجوهر الفرد ، وإن كانت عرضا افتقرت إلى محلّ فذلك المحل إن كان منقسما لزم انقسام النقطة لانقسام محلّها وهو محال ، وإن لم يكن منقسما فقد ثبت الجوهر الفرد.

وثانيها أنّ الوحدة عرض وهي من أشدّ الأشياء مباعدة عن الكثرة ، ثمّ الجسم قد يوصف بالوحدة فثبت (فصحّ ـ خ ل) أنّ ما لا يقبل القسمة يصحّ قيامه بالجسم.

وثالثها أن الإضافات كالأبوّة والنبوّة والأخوّة قائمة بالأجسام ، ويمتنع أن يقال : قام بنصف هيكل الأب نصف الأبوة ، وقام بثلثه ثلثها.

ورابعها أنّ الوجود صفة قائمة بالجسم ، ويمتنع أن يقال: قائم بنصفه نصف الوجود،


وبثلثه ثلث الوجود؛ أو يلتزم ذلك ويقال : إنّ نصف الوجود أيضا وجود ، وثلث الوجود وجود؛ لكن إذا جاز هذا فلم لا يجوز أيضا أن يقال : العلم القائم بالجسم المنقسم يكون منقسما ويكون أيضا نصف العلم علما ، وثلث العلم علما؟ فهذا ما في هذه المسألة وباللّه التوفيق. (ص ٢٦٧ ـ ٢٧٠ ، ط حيدرآباد الدكن).

أقول : هذا ما كان كلام الفخر حول هذه المسألة نقلناها من المسألة الثامنة والعشرين من كتابه الأربعين. والمطبوع منه لم يخل من أغلاط ، وقد صححناه بالعرض على نسخة مخطوطة من الأربعين في تصرّفنا. وإيرادات الفخر مذكورة في المباحث المشرقية أيضا على التفصيل وسيأتي نقلها وردّها. وهي إيرادات دائرة على ألسنة القوم حول هذا البرهان القويم الذي كأنّه بنيان مرصوص وكلّها مردودة داحظة بما يأتى من الإشراقات الباهرة الساطعة على إزالتها وإبطالها.

وقوله في شأن هذا البرهان وعظمه حيث قال : «انّ الفلاسفة ذكروا في إثبات هذا وجوها كثيرة إلّا أنّ اعتمادهم على وجه واحد» يعنى البرهان الأوّل من نفس الشفاء ، ممّا ينبغى أن يعتنى به جدّا. نعم انّ هذا البرهان له موقع خطير في إثبات تجرّد النفس الناطقة.

وصدر المتألهين في الأسفار بعد تقرير البرهان المذكور قال :

وعندهم انّه من أقوى البراهين الدالّة على تجرّد النفوس المدركة للمعانى الكلية وهي جميع النفوس البشرية. وقد سبق منّا أنّ التجرّد العقلى غير حاصل لجميع النفوس البشرية. وعندى أنّ هذا البرهان غير جار في كل نفس بل انّما يدلّ على تجرّد النفس العاقلة للصورة هي معقولة بالفعل في نفس الأمر سواء كانت بحسب ذاتها المقتضية للتجرّد ، أو بحسب تجريد مجرّد ونزع منزع ينزع معقولها من محسوسها ، وتلك النفس هي التي خرجت من حد العقل بالقوّة والعقل الاستعدادي إلى حدّ العقل والمعقول بالفعل ، وهذا العقل يوجد في بعض أفراد الناس دون الجميع؛ وذلك لأنّ الذي يدركه أكثر الناس من الطبائع الكليّة وجودها في أذهانهم يجرى مجرى وجود الكلّيات الطبيعيّة في الخارج في جزئياتها المادية كالحيوان بما هو


حيوان فإنّ ماهيته موجودة في الخارج بعين وجود الأشخاص ولها اعتبار لا يكون بذلك الاعتبار متخصّصا بمكان معيّن ووضع خاص؛ ولا أيضا من حيث ماهيته المشتركة يقابل للقسمة المقدارية الجزئية ، وكذلك إذا وجدت ماهيته في ذهن أكثر الناس فإنّها توجد تلك الماهية بعين وجود صورة متخيلة لكن للذهن أن يعتبرها بوجوه من الاعتبار؛ فهي من حيث كونها صورة شخصية موجودة في قوّة إدراكية جزئية تكون جزئية متخيلة ، ومن حيث اعتبارها بما هي هى أي بما هي حيوان بلا اشتراط قيد آخر لا تكون متخيلة ولا محسوسة ولا معقولة أيضا لأنّها بهذا الاعتبار أمر مبهم الوجود وإن كانت موجودة في الواقع بوجود ما يتحد به من الصورة ، ومن حيث اعتبارها مشتركة بين كثيرين تكون معقولة مجرّدة؛ فحينئذ نقول :

إنّ الحاصل في الذهن من طبيعة الحيوان ليس بالفعل صورة مجرّدة وجودها في نفسها وجودها تجرّديا كوجود المفارقات حتى يلزم أن يكون محلّها أيضا مجرّدا بل الموجود منها في الذهن شي‏ء له اعتبارات يكون بحسب بعضها جزئيا ، وبحسب بعضها كليا ، وبحسب بعضها مطلقا؛ وكذلك الصورة الخارجية من تلك الماهية؛ ونحن لا نسلّم أنّ كل واحد من أفراد الناس يمكنه ملاحظة هذه الاعتبارات ، أو يمكن لنفسه أن يتصوّر أمرا ذهنيا من الجهة التي هو بها كلى مشترك بين كثيرين مجرّد عن الخصوصيات والقيود الجزئية. انتهى.

وأنا أقول : الحق أنّ إيراده قدّس سرّه على القوم غير وارد أمّا أوّلا فلأنّ دليلهم المذكور وأمثاله غير جارية على النفوس الإنسانية مطلقا أعنى جميع أحوالها حتى حال حدوثها ، بل على الناطقة البالغة منها المدركة للطبائع الكلية والمعانى المرسلة المطلقة.

فإن قلت : انّهم قائلون بأنّ النفوس الإنسانية مجرّدة حدوثا فجميع أدلة تجرّدها جارية عليها في جميع أحوالها حتى حال حدوثها.

قلت : صدق جميعها على جميع أحوالها ممنوع ، وذلك لأنّ برهانهم القائم بأنّ كل مجرّد قائم بذاته فهو عقل وعاقل ومعقول شامل عليها في جميع أحوالها حتى حال حدوثها بلا ريب ، إلّا أنّ كونها عقلا ذو مراتب كما أنّ الملائكة مثلا وهي قوى العالم لها


مراتب؛ فالنفس لها شعور ما بذاتها حال حدوثها ، ثمّ تصير أقوى فيكون إدراكها أقوى وهكذا؛ فادلة التجرّد بعضها صادقة عليها في جميع أحوالها كالبرهان المذكور ـ أعنى به قولهم : كل مجرّد قائم بذاته فهو عقل وعاقل ومعقول ـ وبعضها صادقة عليها بحسب مراتبها.

نعم يرد عليهم إيراد لا محيص لهم عنه ، وهو انّهم ينكرون اتحاد العاقل بمعقولاته المكسوبة فيقال لهم : إذا كانت الصورة المعقولة خارجة عن صقع النفس وحاقّها عارضة عليها فكيف تصير بها قويّة عاقلة مدركة لتلك الحقائق المرسلة ، بل كيف تحشر مع ما عملت وكسبت من العلم والعمل؟ والعجب أنّ ممّا هو محقق عندهم وجوب بقاء النفوس الإنسانية بعد تجرّدها عن الأبدان مع ما تقرر فيها من المعقولات ، وإنكارهم الاتحاد. على أنّ تجرّدها عن الأبدان على الإطلاق غير صحيح كما يأتى البحث عن ذلك.

وبالجملة أنّ النفس إذا كانت روحانية حدوثا فبقاؤها بعد تجرّدها عن بدنها العنصرى ممّا لا ريب فيها ، وإن كانت أدلّة تجرّدها جارية عليها بحسب مراتبها. فمن ردّ حدوثها كذلك وأثبته جسمانيا فأدلة تجرّدها العقلى مطلقا لا تصدق عليها في بدء حدوثها وطول تجرّدها الغير التام الخيالي البرزخى.

وأما ثانيا فلأنّ أقسام الصور المجرّدة على الأنحاء الثلاثة التي بيّنها وإن كان كلها لا يحصل لكل واحد من أفراد الناس ولكنّ أكثرهم ممن يعقل اسناد مفهوم إلى كثيرين وعدم امتناع فرض صدقه عليهم كما في التعاليم الأوّلية الميزانية للمبتدئين كالتهذيب في المنطق مثلا من أنّ المفهوم إن لك يمتنع فرض صدقة على كثيرين فكلّى وإلّا فجزئى ، والكلّى هذا مجرّد عن اللوازم الشخصية المادية والخيالية فمدركها أي النفس كذلك وكثير من أدلة التجرّد على هذا المبنى؛ ولا ننكر مراتب تجرّدها تنتهى إلى تجرّدها الأتم الذي يتحقق للأوحدي ، وكان الأكثرى بمعزل عنه.

والحق هو ما أفاده استاذنا العلامة الطباطبائى (رضوان الله تعالى عليه) في تعليقة منه على الأسفار في المقام بما هذا لفظه الشريف :


غير خفى أنّ لازم كلامه رحمه اللّه انّ الذي يمكن أن يدركه الإنسان إدراكا على ثلاثة أقسام : المفهوم الجزئي المدرك بحسّ أو خيال ، والكلى بالمعنى الذي ذكره ، والمطلق المبهم الذي يظهر في الذهن بنوع من الاعتبار؛ ولا شك أنّ القوم انّما يعنون بالمفهوم الكلى هذا القسم الثالث ، ويقيمون البرهان على تجرّده وتجرّد النفس التي تدركه؛ وعلى هذا فلازم كلامه قدّس سرّه منع التجرّد العقلى لهذا النوع من المفاهيم التي يسمّونها كلية في المنطق والفلسفة ، وهي تصدق بنفسها على كثيرين مع تجرّدها عن اللوازم الشخصية ، ولا شي‏ء من الأمور المادية والخيالية على هذا الوصف ولا سبيل إلى منع وجودها في أذهاننا ، ولا إلى منع أن يكون هذا الاعتبار في نفس الأمر؛ فالحق أنّ إدراكها على مالها من الوصف يوجب التجرّد ، غير انّ التجرّد على أنحاء مختلفة من القوّة والضعف ، والذي ذكره قدّس سرّه هو التجرّد التام أو ما يقرب منه انتهى.

وبالجملة أنّ قوله في آخر كلامه : «ونحن لا نسلّم أنّ كل واحد ...» غير مرضى عند من له حظّ من الإلف بالمعانى الكلية والمفاهيم العقلية ، نعم انّ الغبي الذي لا يعود عليه الفكر برادّة بل ينبتّ جميع أفكاره عن مطالبه فهو ممن لا يمكنه ملاحظة الاعتبارات المذكورة ونظائرها؛ وكأنّه قدّس سرّه يريد بقوله ذلك ، الغبىّ من أفراد الناس ولا ننكر ذلك كما لا ننكر أنّ الواصل من آحاد الناس إلى الوجود العقلى قليل جدّا على حذو ما أفاده بقلمه الرفيع في الفصل الرابع من الباب التاسع من الأسفار من أنّ :

الأشياء ذوات الطبائع متوجهة إلى كمالاتها وغاياتها ، وانّ الإنسان من جملة الأكوان الطبيعية مختص بأنّ واحدا شخصيا من نوعه قد يكون مترقيا من أدنى المراتب إلى أعلاها مع انحفاظ هويته الشخصية المستمرّة على نعت اتصال ، وليس سائر الطبائع النوعية على هذا المنهاج لأنّ المادّة الحاملة لصورتها تنفصل عنها إلى صورة أخرى من نوع آخر منقطعة عن الأولى فلا يتحفظ في سائر التوجهات الطبيعيّة هوياتها الشخصية بل ولا النوعية أيضا بخلاف الشخص الإنساني إذ ربما يكون له أكوان متعددة بعضها طبيعى وبعضها نفساني وبعضها عقلى؛ ولكل من هذه الأكوان الثلاثة أيضا مراتب غير متناهية بحسب الوهم والفرض لا بحسب الانفصال الخارجي ينتقل‏


من بعضها إلى بعض أي من الأدون إلى الأرفع ومن الأخسّ إلى الأشرف؛ فما لم يستوف جميع المراتب التي يكون للنشأة الأولى من هذه النشآت الثلاث أعنى الطبيعيّة والنفسيّة والعقلية لم يتخطّ إلى النشأة الثانية ، وهكذا من الثانية إلى الثالثة؛ فالإنسان من مبدإ طفوليته إلى أوان أشدّه الصورى إنسان بشرى طبيعى وهو الإنسان الأوّل فيتدرج في هذا الوجود ويتصفّى ويتلطف حتى يحصل له كون أخروي نفسانى وهو بحسبه إنسان نفسانى وهو الإنسان الثانى وله أعضاء نفسانية لا تحتاج في وجودها النفسانى إلى مواضع متفرقة كما إذا ظهرت في المادة البدنية حين وجودها الطبيعى فإنّ الحواسّ في هذا الوجود متفرقة يحتاج إلى مواضع مختلفة ليس موضع البصر موضع السمع ولا موضع الذوق موضع الشم ، وبعضها أكثر تجزيا من البعض وأشدّ تعلقا بالمادّة كالقوّة اللامسة وهي أوّل درجات الحيوانية ولذا لا يخلو منها حيوان وإن كان في غاية الخسّة والدناءة قريبا من افق النباتية كالأصداف والخراطين؛ وهذا بخلاف وجودها النفسانى فإنّه أشدّ جمعيّة من هذا الوجود فتصير الحواس كلّها هناك حسا واحدا مشتركا ، وهكذا قياس القوى المحركة؛ ففي هذا العالم بعضها في الكبد ، وبعضها في الدماغ ، وبعضها في القلب ، وبعضها في الأنثيين ، وبعضها في غير ذلك الأعضاء ، وفي العالم النفساني مجتمعة؛ ثمّ إذا انتقل من الوجود النفساني إلى الوجود العقلى وصار عقلا بالفعل وذلك في قليل من أفراد الناس فهو بحسب ذلك الوجود إنسان عقلى وله أعضاء عقلية وهو الإنسان الثالث (ج ٤ ، ص ١٢١ ، ط ١).

والحاصل أنّ البرهان باق على قوّته ، دال على أنّ النفس المدركة للمعانى الكلية المعقولة على مراتبها بحسب الشدة والضعف والسعة والضيق ليس بجسم ولا جسمانية؛ وإليه يئول كثير من الأدلّة التي أقاموا على تجرّدها كما يأتى التحقيق في ذلك. وانّما قيدنا المعانى الكلية المعقولة بقولنا على مراتبها بحسب الشدة والضعف لشمول البرهان كلا القسمين من المعقولات أعنى العقليات المتصورة المشتركة بين الكثيرين ، والعقليات التي هي ذوات مرسلة ومفارقات نورية كما عرفت في التحقيق‏


المقدم في بيان هذا البرهان.

واعلم أنّ البرهان المذكور جعل في المباحث الفخرية أربعة أجزاء على تحرير آخر كما أومأنا إليه ، وكذلك كان على وزانه ما في الأسفار ، وبعد كل جزء أوردا بعض اعتراضات وأجابا عنها ، وصاحب الأسفار ناظر إلى كلمات صاحب المباحث في التجزئة والاعتراضات والجواب عنها إلا أنّه جعل الجزء الرابع مسلكا آخر على ما نحقّقه ونبيّنه ، وهذا الجزء هو الوجه الثالث في بيان أنّ الصور العقلية يمتنع أن تحلّ شيئا منقسما من الجسم ، والأصل فيهما كلام الشيخ في الشفاء حيث قال في آخر البرهان : «وأيضا ليس كل معقول يمكن أن ينقسم إلى معقولات أبسط إلخ» نعم لصدر المتألهين في أثناء تقرير البرهان دقائق وحقائق خاصّة ، فنقول :

انّ الفخر في المباحث بعد الجزء الأوّل من تقرير البرهان وأنهاه إلى امتناع كون النقطة محلا للصور العقلية ، أورد اعتراضا على أنّ النقطة يمتنع أن تكون محلا للصور العقلية ثمّ أجاب عنه بقوله :

ولقائل أن يقول : سلّمنا أنّه ليس للنقطة امتياز عن المقدار الذي هي نهايته لكن لم قلتم انّه لا يحل فيها الأطراف ما يكون حالا في ذلك المقدار وما البرهان على ذلك فإنّه ليس ذلك من الأوليات؟ ثمّ انّ ذلك منقوض بالألوان فإنّها لا توجد عندكم إلّا في السطوح ، ولا حصول لها بالفعل في أعماق الجسم؛ وكذلك النور والضوء لا يوجدان إلّا في السطوح؛ وكذلك المماسة والملاقاة لا تحصل إلّا في النهايات؛ وكذلك الملاسة والخشونة لا تحصل إلّا في السطوح ، فبطل قولكم انّ النهايات لا يحل فيها إلا نهايات ما هي حالة في المقادير.

فالمعتمد في إبطال هذا القسم أن نقول : النقطة مما لا يعقل حصول المزاج لها حتى يختلف حال استعدادها في القابلية ، بل إن كانت قابلة للصور العقلية وجب أن يكون ذلك القبول حاصلا لها أبدا فلو كان القبول حاصلا أبدا لكان المقبول حاصلا أبدا لما علمت أنّ المبادى المفارقة عامة الفيض فلا يتخصّص فيضها إلّا لاختلاف القوابل فلو كان القابل تام الاستعداد لكان المقبول واجب الحصول ولو كان كذلك لكان جميع‏


الأجسام ذوات النقط تكون عاقلة فوجب أن يبقى البدن بعد موته عاقلا للمعقولات لبقاء الصور العقلية على استعداده التام ولمّا لم يكن كذلك بطل هذا القسم.

وصاحب الأسفار في المقام ناظر إلى اعتراض صاحب المباحث حيث قال :

واعترض هاهنا بأنّ عدم التميز في النقطة عن المحل وإن كان مسلما لكن لا نسلّم انّه لا يحلّ فيها إلّا نهاية ما يحل في ذلك المقدار فإنّ ما ذكرتم منقوض بالألوان والأضواء الحاصلة في السطوح دون الأعماق ، وكذا حال المماسة والملاقاة.

ثمّ أجاب عنه بوجهين : الوجه الأوّل غير مذكور في المباحث ولعلّه يختص به ، والثانى هو ما في المباحث وهو قوله الآتى : «وأيضا لا بدّ في قابلية الشي‏ء إلخ». فقال :

والجواب انّ السطح له اعتباران : اعتبار انّه نهاية للجسم ، واعتبار انّه مقدار منقسم في جهتين فقبوله الألوان والأضواء وغيرهما من جهة انّه عبارة عن امتدادى الجسم لا من جهة انّه نهاية له.

وأيضا لا بدّ في قابلية الشي‏ء أن يكون للقابل استعداد خاص أو مزاج حتى يقبل كيفية أو صفة وليس للنهاية بما هي نهاية اختلاف قوّة أو حالة استعدادية في القابلية؛ فلو كان للنقطة مثلا إمكان أن تقبل صورة عقلية لكانت دائمة القبول لها لعدم تجدّد حالة فيها فرضا فكان المقبول حاصلا فيها أبدا إذ المبدا دائم الفيض فلا يتراخى فيضه إلّا لعدم صلوح القابل والمفروض انّ الصلوح والاستعداد حاصل لها من حيث ذاتها فلزم من ذلك انّ جميع الأجسام ذوات النقطة عاقلة ، ووجب أن يكون العاقل عند موته عاقلا لوجود قابل العاقلية فيه فالتالى باطل فالمقدم كذلك. انتهى.

أقول : قوله : «للقابل استعداد خاص» ذلك كما في البسائط العنصرية ، وقوله : «أو مزاج» وذلك كما في المركبات. وقوله : «لعدم تجدّد حالة فيها فرضا» وذلك لأنّ الاستعداد الخاص أو المزاج يوجبان أو يقبلان ذلك التجدّد ، والفرض أنّ النقطة عارية عنهما. وقوله : «ووجب أن يكون العاقل عند موته عاقلا ...» يعنى بالعاقل هنا الجسم ذا النقطة لأنّ النقطة على ذلك الفرض عاقلة ، فإذا مات الجسم العاقل وجب أن يكون عاقلا أيضا لملاك قابل العاقلية فيه وهو النقطة.


ثمّ أخذ الفخر في المباحث في بيان أنّ الصور العقلية يمتنع أن تحلّ شيئا منقسما من الجسم على وجوه ثلاثة وهي الأجزاء الأربعة المذكورة ، ففي الوجه الأوّل يبيّن لزوم الخلف لو كان انقسام الصور العقلية إلى أجزاء متشابهة ، ولزوم المحال لو كان الانقسام إلى أجزاء مختلفة ، فبعد ما قرّر لزوم الخلف قال :

فإن قيل : أليس أنّ الصورة العقلية قد تنقسم إلى أقسام متشابهة بإضافة زوائد كليّة إليها مثل المعنى الجنسي كالحيوان فإنّه ينقسم إلى الذي هو حصّة الإنسان ، وإلى الذي هو حصّة الفرس ، وهما أعنى الحصتين غير مختلفتين بالماهية فإنّ حيوانية الفرس بشرط التجريد عن الصاهلية مساوية لحيوانية الإنسان بشرط التجريد عن الناطقية في النوع والحقيقة فقد رأينا انقسام الأجزاء العقلية إلى أجزاء متشابهة مع أنّ تلك الأجزاء ليست ذوات مقادير جزئية وأشكال جزئية؟

فنقول : هذا جائز ولكن يكون فيه إلحاق الكلّى بالكلّى ، مثلا إلحاق الناطق بالحيوان الذي هو حصة الإنسان ويكون الإنسان الذي هو حاصل من اجتماعهما مخالفا لهما فها هنا لو كانت أجزاء الصورة العقلية كذلك لزم أن تكون كلية تلك الصورة مخالفة لكل واحد من أجزائها فيكون الانقسام حينئذ إلى جزءين مختلفين وإلا لامتنع أن يحصل من اجتماعهما ما يخالفهما؛ وبالجملة فانقسام الحيوان إلى الإنسان قسمة الكلّي إلى الجزئيات المتخالفة بالنوع ، وقسمة الصورة العقلية قسمة الكل إلى الأجزاء وبينهما فرق ظاهر.

ولقائل أن يقول : حاصل ما ذكرتموه انّه لو انقسمت الصورة العقلية إلى جزءين متشابهين فحينئذ يكون الجزء مخالفا للكل في الشكل ومقدار المحل وذلك محال.

فنقول : إن كان هذا الكلام صحيحا وجب أن يعولوا عليه في الابتداء ويقولوا : لو حلّت الصورة العقلية في الجسم لحصل لها مقدار معيّن وشكل معين بسبب محلّها وذلك محال فإذا كان هذا القدر كافيا وقع سائر ما ذكرتموه من التطويلات حشوا وضائعا ، ثمّ انّا سنبيّن ضعف هذه الطريقة. انتهى.

أقول : صاحب الأسفار أتى بما في المباحث من السؤال والجواب المذكورين فقال :


«فإن قلت أليست الصورة العقلية» ـ إلى قوله في الجواب : «فيقال هذا غير ذلك وهذا جائز لأنّه بإلحاق كلى بكلى» ـ إلى قوله : «وبينهما فرق ظاهر» ؛ ولم يزد عليه شيئا ، ثمّ أخذ في بيان امتناع انقسام الصورة العقلية إلى جزءين مختلفين على حذو ما في المباحث. والتعبير في الجواب بقوله : «فيقال» مشعر بأنّه لغيره ، بل صرّح في الآخر بذلك حيث يقول : هذا تقرير هذا البرهان على الوجهين المذكورين في كتب القوم. وسيأتي ردّ قول الفخر في تضعيفه هذه الطريقة.

ثمّ أخذ الفخر في بيان امتناع الصورة العقلية إلى جزءين مختلفين أي غير متشابهين وبعد ذلك حرّر الوجه الثانى من الوجوه الثلاثة في بيان امتناع القسمة على الصور العقلية؛ وكذلك على ممشاه حرّرهما صاحب الأسفار قريبا من تحريره.

واعلم أنّ الوجه الثانى ليس بصريح في عبارة الشفاء إلّا أنّه يمكن أن يستفاد من فحاوي عباراته ، ولكل واحد من صاحب المباحث وصاحب الأسفار تحرير خاص وإيراد عليه وما في الأسفار أمتن وأدق ونأتى بهما مزيدا للإستبصار ، قال في المباحث :

الوجه الثانى في بيان امتناع القسمة على الصور العقلية أن نقول انّ لكل شي‏ء حقيقة هو بها هو ، وتلك الحقيقة لا محالة واحدة وهي غير قابلة للقسمة أصلا فإنّ القابل للقسمة يجب أن يبقى مع القسمة والعشرة من حيث إنّها عشرة لا تبقى مع الانقسام فإنها إذا انقسمت حصلت خمستان وبطلت العشرية فالعشرية من حيث هي عشرية صورة واحدة وحقيقة متحدة غير قابلة للقسمة.

وإذا ثبت ذلك فنقول : العلم المتعلق بهذه الماهيات المجرّدة ان انقسم فإمّا أن تكون أجزاؤه علوما أو لا تكون ، فإن لم تكن أجزاؤه علوما لم يكن العلم هو مجموع تلك الأجزاء بل الهيأة الحاصلة عند اجتماع تلك الأجزاء فإنّ تلك الأجزاء إذا اجتمعت وهي أنفسها ليست علوما فإن لم يحصل لها هيئة زائدة بسبب الاجتماع وجب أن لا يكون المجموع أيضا علما ، وإن حصلت هيئة زائدة على الاجتماع فكلامنا في تلك الهيأة وهو انّها لو كانت جسمانية لكانت منقسمة. وأمّا إن كانت أجزاء العلوم علوما فلها متعلق فلا يخلو إمّا أن يكون متعلق كل واحد من تلك الأجزاء كل ذلك‏


المعلوم أو أجزاؤه فإن كان كلّه لزم أن يكون جزء الشي‏ء مساويا لكلّه من جميع الوجوه وذلك محال ، وإن بعض ذلك المعلوم فقد بينا أنّ الحقائق لا بعض لها ولا جزء.

ولقائل أن يقول : العشرية هيئة متحدة حاصلة للمجموع المتألف من تلك الآحاد فمحلّ تلك الهيأة أمور متكثرة فإذا لم يجب انقسام العشرية بسبب انقسام محلّها فكيف يلزم انقسام العلم بالعشرية بسبب انقسام ذلك المحل؟ وبالجملة فإن كانت العشرية قابلة للقسمة جاز أن ينقسم العلم ويكون خرء العلم متعلقا بجزء العشرية ، وإن كانت العشرية غير قابلة للقسمة مع أنّ محلها متكثر فحينئذ لا يلزم من انقسام المحل انقسام الحال وذلك يقدح في أصل الحجة. انتهى.

أقول : حيثية الوحدة العشرية من حيث هي وحدة عشرية غير قابلة للقسمة أصلا ، وهي حقيقة كانت حقيقة العشرية بها هي؛ فهي عشرة كلية عقلية كسائر الكليات العقلية ، فالعشرة الكلية العقلية صورة واحدة والكثرة تعرضها باعتبار آخر كاعتبار محلّها الذي هو الآحاد المتألفة منها العشرة ، أو اعتبار جنس العشرة الذي هو الكثرة ، وليست العشرة هي عين الكثرة وإلّا كانت كل كثرة عشرة ، وبالجملة أنّ العشرة نوع من أنواع العدد وكل نوع له وحدة نوعية هو بها هو ، والشي‏ء من حيث هو ليس إلّا هو؛ فالعشرية لا تنقسم إلى أجزاء متشابهة ولا مختلفة.

وأمّا صاحب الأسفار فحرّر الوجه الثانى المذكور مع مزيد توضيح في أثناء التحرير ثمّ أتى بإيراد عليه وتحقيق حوله وهي ما يلى :

الوجه الثاني في امتناع القسمة على الصورة العقلية أن نقول : لكل شي‏ء حقيقة هو بها هو ، وتلك الحقيقة لا محالة واحدة وهي غير قابلة للقسمة أصلا فإنّ القابلة للقسمة يجب أن تبقى مع القسمة ، والعشرة من حيث إنّها عشرة لا تبقى مع الانقسام فإنّ الخمسة ليست جزءا للعشرة بما هي نوع من الأنواع العددية بل هي جزء من كثرة الوحدات وليس للعشرة بما هي حقيقة واحدة جزء فإذا انقسمت العشرة وحصلت الخمستان فهما جزءان للعشرة بما هي كثيرة لا بما هي واحدة ، والكثرة فيها بالنسبة إلى المعدود لا بالنسبة إلى نفسها فإنّ العشرة من الناس كثرة للواحد من الناس‏


ووحدة لنفسها فلها صورة واحدة غير قابلة للقسمة؛ إذا ثبت ذلك فنقول : العلم المتعلق بهذه الماهيات المجرّدة إن كان حالا في محل منقسم يلزم من انقسام محله انقسامه ، ومن انقسامه انقسام ما هو صورته ، لكن المعلوم غير منقسم أو مأخوذ بما هو غير منقسم هذا خلف.

ثمّ قال صاحب الأسفار إيرادا على هذا الوجه ما هذا لفظه :

وكذلك نقول إيرادا على الوجه الثاني : لا نسلّم أنّ لكل شي‏ء وحدة تقابل الانقسام من كل جهة حتى يلزم أن يكون صورتها أيضا كذلك فإنّ كثيرا من الأشياء وحدتها بالفعل عين قبول القسمة بالفعل كالعدد ، أو عين قبول القسمة بالقوّة كالأجسام والمقادير؛ فإنّ العشرة وإن كانت حقيقة واحدة لكن تلك الوحدة عين كثرة الآحاد التي يتألّف منها العشرة وهذه الكثرة غير مقابلة لها وانّما يقابلها كثرة أخرى هي كثرة العشرة أعنى العشرات تقابل وحدة العشرة التي هي عين كثرة الأجزاء أي الأعشار؛ وكذا وحدة الخمسة هي عين كثرة الأخماس ، وقد مرّ أنّ العدد من الأشياء الضعيفة الوجود لكونه ضعيف الوحدة أيضا حيث إنّ وحدته عين الكثرة. وكذلك الأجسام والمقادير وسائر المتصلات وحدتها عين قبول الكثرة الوهميّة أو الخارجية لأنّ وحدتها نفس متصليتها وممتديتها ، وامتدادها عبارة عن قبولها الكثرة المقدارية قوّة أو فعلا؛ فأنّى يوجد في مثل هذه الأشياء نحو من الوحدة التي لا تتضمّن اعتبارها اعتبار الكثرة بوجه من الوجوه؛ نعم حيثية وحدتها تغاير حيثية الكثرة التي تقابل تلك الوحدة ولا تغاير حيثية الكثرة التي يتضمّنها تلك الوحدة؛ فافهم هذا المعنى فانّه قد ذهل عنه كثير من العلماء حتى الشيخ في الشفاء حيث أراد أن يستدل على مغايرة الوحدة للوجود فقال : «انّ الكثير من حيث هو كثير موجود والكثير من حيث هو كثير ليس بواحد» ، وقد مرّ ما فيه من القول.

أقول : من إفادات المتألّه السبزواري في تعليقته على الأسفار في المقام قوله :

سبك الوجه الثانى الترقي من الأدنى فقالوا : أبعد الأشياء عن الوحدة العدد ومع هذا لا يقبل القسمة ، ثمّ ترقوا إلى الحقائق الخارجية الأخرى ، ثمّ إلى الصور العقلية.


وقول صاحب الأسفار : «وقد مرّ أنّ العدد من الأشياء ...» قد مرّ في أوّل المرحلة الخامسة في الوحدة والكثرة أنّ الوحدة رفيق الوجود تدور معه حيثما دار إذ هما متساويان في الصدق على الأشياء ، فكل ما يقال عليه إنّه موجود يقال عليه انّه واحد؛ ويوافقه أيضا في القوّة والضعف فكل ما وجوده أقوى كانت وحدانيته أتم إلخ (ج ١ ، ص ١٢٩ ، ط ١).

وقوله : «وقد مرّ ما فيه من القول» قد مرّ في آخر الفصل الأوّل من المرحلة الخامسة المعنون بعنوان إنارة قوله في ذلك :

ولعلك تقول حسبما وجدت في كتب الفن كالشفاء وغيره انّ الوحدة مغايرة للوجود لأنّ الكثير من حيث هو كثير موجود ، ولا شي‏ء من الكثير من حيث هو كثير بواحد ينتج فليس كل موجود بما هو موجود بواحد فإذن الوحدة مغايرة للوجود إلخ (ج ١ ، ص ١٣٢ ، ط ١).

وينبغى تحليل مفاد المقدمتين أي الصغرى التي هي الكثير من حيث هو كثير موجود ، والكبرى التي هي لا شي‏ء من الكثير من حيث هو كثير بواحد ، كما فعله في الأسفار والشواهد الربوبية. والورود في البحث يوجب الاسهاب ويخرجنا عن موضوع الباب. والشيخ بحث عن الوحدة والكثرة في فصول المقالة الثالثة من إلهيات الشفاء.

والغرض العمدة من بحثنا في المقام هو انّ العشرة نوع من أنواع العدد ، وانّ العشرة الكلية العقلية صورة واحدة لا تنقسم في العشرية إلى عشرتين ، فمدركها يجب أن يكون جوهرا منّا غير جسمانى ، ولا بأس بانقسام معروضها اى الآحاد. وهذا كما أفاده الشيخ في أوّل خامس المقالة المذكورة بقوله :

وكل واحد من الأعداد فانّه نوع بنفسه وهو واحد في نفسه من حيث هو ذلك النوع. وله من حيث هو ذلك النوع خواصّ ، والشي‏ء الذي لا حقيقة له محال أن يكون له خاصيته الأوّلية أو التركيبية أو التمامية أو الزائدية أو الناقصيّة أو المربّعية أو المكعبية أو الصمم وسائر الأشكال التي لها فإذن لكل واحد من الأعداد حقيقة تخصّه وصورة تتصور منها في النفس وتلك الحقيقة وحدته التي بها هو ما هو. وليس العدد كثرة


لا تجتمع في وحدة حتّى يقال انّه مجموع آحاد فانّه من حيث هو مجموع هو واحد يحتمل خواصّ ليست لغيره. وليس بعجيب أن يكون الشي‏ء واحدا من حيث له صورة ما كالعشرية مثلا أو الثلاثية وله كثرة فمن حيث العشرية ما هو بالخواص التي للعشرة ، وأمّا كثرته فليس له فيها إلا الخواص التي للكثرة المقابلة للوحدة؛ ولذلك فانّ العشرة لا تنقسم في العشرية إلى عشرتين لكل واحدة منهما خواص العشرية (ج ٢ ، ص ٤٤٩ ، ط ١).

ثمّ انّ صاحب الأسفار بعد إيراده المذكور على الوجه الثاني قال :

ولهم في هذا المسلك وجه آخر وهو أن نفرض الكلام في الأمور التي يستحيل عليها القسمة عقلا مثل الباري سبحانه والوحدة؛ وأيضا مثل البسائط التي يتألف منها المركّبات فإنّ الحقائق إذا كانت مركبة فلا بدّ فيها من البسائط ضرورة أنّ كل كثرة فالواحد فيها موجود؛ وحينئذ يقال : العلم المتعلق بها إن انقسم فإمّا أن يكون كل واحد من أجزائه علما ، أو لا يكون ، فإن لم يكن أجزاؤه علوما لم يكن العلم هو مجموع تلك الأجزاء بل الهيأة الحاصلة عند اجتماع تلك الأجزاء فكلامنا في تلك الهيأة وهو انّها لو انقسمت لكان لها أجزاء فإن كان أجزاء العلم علوما فلها متعلق فلا يخلو إما أن يكون متعلق كل واحد من تلك الأجزاء كل ذلك المعلوم أو أجزائه ، فإن كان كله لزم أن يكون جزء الشي‏ء مساويا لكلّه من جميع الوجوه وذلك محال ، وإن كان بعض ذلك المعلوم فقد بيّنا أنّ هذه الحقائق لا بعض لها ولا جزء. قالوا هذا الوجه أحسن الوجوه المذكورة.

أقول : المسلك المذكور هو الوجه الثالث في بيان أنّ الصور العقلية يمتنع أن تحلّ شيئا منقسما من الجسم في المباحث المشرقية ، والأصل في ذلك كلام الشيخ في ذيل البرهان المذكور حيث قال : «وأيضا ليس كل معقول يمكن أن ينقسم إلى معقولات أبسط من ... إلخ» فما في المباحث والأسفار تحرير كلام الشيخ بعبارة أخرى. وكلام صاحب الأسفار في آخر المسلك المذكور : «قالوا هذا الوجه أحسن الوجوه المذكورة» ناظر إلى كلام الفخر في المباحث حيث قال : «وهذا الوجه أحسن الوجوه الثلاثة».


فالوجوه في عبارة الأسفار محمول على الجمع المنطقى والمراد منه الوجهان الأوّل والثانى. وكلام صاحب المباحث في بيان هذا المسلك هكذا :

الوجه الثالث أن نفرض الكلام في الأمور التي يستحيل عليها القسمة عقلا مثل الباري تعالى والوحدة؛ وأيضا مثل البسائط التي تتألّف عنها المركبات فإنّ الحقائق إذا كانت مركبة فلا بدّ فيها من البسائط ضرورة أنّ كل كثرة فالواحد فيها موجود؛ وحينئذ نقول : العلم المتعلق بها إن انقسم فإمّا أن يكون كل واحد من أجزائه علما أو لا يكون ، ونذكر التقسيم المذكور إلى آخره ، وهذا الوجه أحسن الوجوه الثلاثة. انتهى.

ولا يخفى عليك أنّ اسلوب التحرير كما في المباحث أوفق بإبانة المراد من الأسفار وإن كان تحقيقات صاحب الأسفار في أثناء التحرير ممّا يختصّ هو بها.

اعلم أنّ الوجه الثالث أي ذلك المسلك الآخر جعل في كثير من الصحف العقلية حجة على حدة على تجرّد النفس الناطقة كما سنتلوها عليك ، وغير واحد من أدلة تجرّدها يئول إلى ذلك البرهان الأوّل من الشفاء ، وله شأن عظيم في تجرّدها ، وهو أصل قويم في ذلك بل أقوم البراهين وأمتنها على ذلك.

والاعتراضات الواردة عليها داحضة جدّا كما سيأتي نقل بعضها وردّها.

ثمّ قال صاحب الأسفار بعد تقرير الوجه الثالث ما هذا لفظه :

أقول : لا نسلّم أنّ كل واحدة من النفوس البشرية أمكنها أن يتصوّر حقيقة هذه البسائط ، وأكثر الناس انّما يرتسم في أذهانهم إذا حاولوا إدراك هذه الأمور أشباح خيالية وحكايات متقدرة وأنّى لهم معرفة الباري (جل ذكره) ، والجواهر البسيطة العقلية؟! نعم الحجة المذكورة أصح البراهين على تجرّد النفوس العارفة باللّه والصور المفارقة ، وتلك النفوس قليلة العدد جدا ، وأمّا سائر النفوس فهي مجرّدة عن الأجسام الطبيعية لا عن الصّور الخيالية.

أقول : فالبرهان دال على تجرّد تلك النفوس القليلة العدد جدّا ، والأدلّة الّتي مرّ ذكرها دالة على تجرّدها عن الأجسام الطبيعية أيضا فأدلة تجرّد النفوس البشرية باقية على قوّتها في بقاء النفوس البشرية مع مدركاتها؛ على أنّ إدراك كثير من البسائط


العقلية لا يخرج عن طوق نوع البشر أيضا إلّا أن يكون فيه بعض من هو غبىّ على حدّ لا يقدر عليه كما أومأنا إليه.

ثمّ ذكر صاحب المباحث خمسة اعتراضات حول البرهان المذكور ثمّ أجاب عنها. وصاحب الأسفار لخّصها تلخيصا غير وجيه فاتى بها فيه إلّا أنّه سلك في أثناء الجواب إلى بعض ما تفرد هو به كما نشير إليه. وسياق عبارة الفخر يحكى أنّ تلك الاعتراضات أوردت على البرهان من قبل وليست من شكوكه ، لأنّه قال : «والاعتراضات الواقعة على هذه الحجة بأمرين أحدهما أنّ النقطة إلخ» ولكن صاحب الأسفار في عبارته الآتية حيث يقول : «وأمّا اعتراضات بعض المتأخرين على هذه الحجة فهي مدفوعة» ناظر بظاهره إلى قول الفخر في المباحث لأنّ عبارات حجج التجرّد في الأسفار منقولة من المباحث ، وصاحب الأسفار ناظر إليه غالبا وعبارته يشعر بأنّ الاعتراضات من الفخر وهو كما ترى. كيف كان نحن نأتى بما في الأسفار من الاعتراضات والجواب عنها ثمّ نتبعه بعض ما يفيد البرهان أيضا.

قال :

«وأمّا اعتراضات بعض المتأخرين على هذه الحجة فهي مدفوعة : منها أنّ النقطة حلّت من الجسم شيئا منقسما أو غير منقسم ، فعلى الأوّل لزم حلول غير منقسم في منقسم ، وعلى الثانى يلزم الجزء الذي لا يتجزّى.

ومنها النقص بالوحدة فانّها مع كونها من أبعد الأشياء من طباع الكثرة حالة في الجسم.

ومنها النقض بالإضافة فإنّ الأبوة مع انّها غير قابلة للانقسام حالة في الأب.

ومنها انّ القوة الوهمية جسمانية والعداوة التي يدركها أمر غير منقسم لامتناع ورود القسمة على هذه العداوة إذ لا نصف لها ولا ربع وكذا الصداقة وغيرها.

أقول أمّا اندفاع الأوّل فالتحقيق أنّ النقطة غير قائمة بنفس ذات الجسم بما هي ذات منقسمة بل قيامها للجسم باعتبار تناهى امتداده وانقطاعه فمحلّها الجسم من حيث اتصافه بالتناهى ولهذا قيل الأطراف عدمية لأنّ محلّها من حيث إنّه محلّها مشتمل‏


على معنى عدمي وهو النفاد والانقطاع بخلاف العلم فإنّه كمال للذات الموصوفة به.

وأمّا اندفاع النقض بالوحدة فقد علمت مرارا أنّ وحدة الجسم تقبل الانقسام لأنّها نفس اتصاله وامتداده ، وكذا وجوده فإنّه عين جسميته؛ والعجب أنّ وحدة الجسم تنقسم بعين انقسام الجسم بالذات لا بالعرض كسائر العوارض التي تنقسم بانقسام المحل بالعرض لا بالذات كالسواد مثلا لأنّ وحدة الجسم نفس وجوده وعين هويّته الشخصية.

وامّا اندفاع الثالث فالإضافات لا نسلّم أنّ جميعها غير منقسمة بالتبع بل التي تعرض الأجسام على ضربين : منها ما يعرض للجسم بما هو جسم كالمحاذاة والمماسة وغيرها فهي منقسمة بانقسام المحل فانّ محاذاة نصف الجسم نصف محاذاة كل الجسم ، ومحاذاة ربعه ربع محاذاة كلّه. ومنها ما يعرض للجسم لا من حيث جسميته بل من حيث معنى آخر تنضاف إليه فهي لا يلزم أن تكون منقسمة بانقسام محلّه كأبوّة زيد مثلا فإنّها غير عارضة له من حيث جسميته ومقداريته بل من جهة أخرى كقوّة فاعلية نفسانية مقتضية للتوليد.

وأمّا اندفاع الرابع فقد سبق أنّ القوّة الوهمية مجرّدة عن المادة لاعن إضافتها ، وكذلك حكم مدركاتها. انتهى.

أقول : الاعتراضات ـ كما أشرنا اليها ـ خمسة اتى بها الفخر في المباحث. وظاهر عبارة الأسفار يوهم انّها أربعة ، ولكنّ الاعتراض الخامس هو صريح ما في المباحث ، وفي الأسفار أشير إليه في ضمن الجواب عن الأوّل حيث قال في آخر الاندفاع : «بخلاف العلم فإنّه كمال للذات الموصوفة به» ولا يخفى عليك أنّ ارتباط قوله هذا أعنى بخلاف العلم بما قبله في بادئ النظر لا يخلو من دغدغة فإنّه يسأل عن إيراده بلا سبق سؤال واعتراض فيه ، ولكن بعد الرجوع إلى المباحث يعلم أنّه سؤال آخر وأجاب الفخر عن النقطة وفي ضمنه عن العلم ثمّ أجاب عن الاعتراضات الثلاثة الأخرى بعد ذلك؛ وصاحب الأسفار أيضا أجاب عن النقطة والعلم على حذوه بلا ذكر الاعتراض في العلم فنأتى بما في المباحث ، قال : «والاعتراضات الواقعة على هذه‏


الحجة بأمرين : أحدهما أنّ النقطة حلّت من الجسم شيئا منقسما أو غير منقسم إلى قوله : «وأيضا فالنقض بالوحدة وارد إلى قوله : «وكذلك الإضافة» إلى قوله : «وكذلك القوّة الوهمية المدركة بعداوة الذئب» إلى أن قال في بيان ثانى الأمرين :

وثانيهما أن نقول : العلم متى يجب أن ينقسم بانقسام محلّه أو عند ما يكون محلّه منقسما بالقوّة ، أو عند ما يكون محلّه منقسما بالفعل؟ الأوّل مسلّم ، والثانى ممنوع؛ وعندنا الجزء الذي هو محل العلم بسيط غير منقسم بالفعل فلا يلزم أن يكون العلم منقسما ، بل متى انقسم ذلك الجزء بالفعل فإنّه يلزم انقسام العلم القائم به لكن العلم لما يكن محتملا للانقسام لا جرم بطل العلم وانعدم.

والجواب : أمّا النقض بالنقطة فلا بدّ لمن احتجّ بهذه الحجة من أن يمنع كونها أمرا وجوديا في الخارج على ما مضى وإن كان ذلك في غاية البعد؛ وأمّا إذا سلّمنا كونها أمرا وجوديا وفرقنا بين الصورتين بأن قلنا النقطة عرض غير سار في الجسم لأنّك متى فرضت قسمة في الجسم لم تفرض في أجزاء الجسم أجزاء من النقطة. وأمّا العلم فقد بينا أنّ حقيقته ليست مجرّد إضافة فقط بل انّما يتمّ بحصول صورة مساوية لماهية المعلوم في العالم فيكون العلم صفة حقيقية ولا بدّ أن يكون لها محلّ معيّن ممتاز عن غيره فيكون ساريا فيه. ولكن لقائل أن يقول : إذا عقل اختصاص العرض بمحلّه بحيث لا يكون ساريا فيه فليعقل أن يختص العلم به لا على وجه السريان سواء كان العلم وصفا حقيقيا أو حالة إضافية. انتهى.

أقول : لا يخفى عليك جودة التقرير البحث على السياق الذي في المباحث ، ووجه كون الاعتراضات خمسة. ثمّ انّ صاحب الأسفار اختار في الجواب عن الاعتراض بالنقض بالنقطة كونها عدمية.

وانّما الكلام في ما ذهب إليه الفخر هاهنا من أنّ العلم صفة حقيقية مع أنّ كلماته الأخرى ناصّة بأنّه قائل في العلم بالإضافة ، كما قال في شرحه على الفصل السابع من النمط الثالث من الإشارات في الإدراك ـ أي العلم ـ : انّ الصورة الذهنية إن لم تكن مطابقة للخارج كانت جهلا ، وإن كانت مطابقة فلا بدّ من أمر في الخارج وحينئذ


لم لا يجوز أن يكون الإدراك حالة نسبية بين المدرك وبينه؟.

وقال في البحث عن العلم واتحاد العاقل بمعقولة من المباحث ما هذا لفظه :

قد أقمنا البرهان على أنّ التعقل حالة إضافية وذلك توجب كونها ـ اى كون العاقلية ـ مغايرة للذات ـ إلى أن قال : فهذا برهان قاطع على أنّ العلم حالة نسبية (المباحث ، ج ١ ، ٣٤٠ و ٣٤١ ، ط ١).

وفي آخر الفصل الحادى عشر من المرحلة العاشرة من الأسفار (ج ١ ، ص ٢٨٨ ، ط ١) :

والعجب من هذا المسمى بالإمام كيف زلّت قدمه في باب العلم حتى صار الشي‏ء الذي به كمال كل حيّ ، وفضيلة كل ذى فضل والنور الذى يهتدى به الإنسان إلى مبدئه ومعاده ، عنده من أضعف الأعراض وأنقص الموجودات التي لا استقلال لها في الوجود؟ أما تأمل في قوله تعالى في حق السعداء : (نُورُهُمْ يَسْعى‏ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ)؟ أما تدبر في قول الله سبحانه : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ)؟ وفي قوله : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ‏)؟ ألم ينظر في معنى قول رسوله عليه وآله السلام : «الايمان نور يقذفه اللّه في قلب المؤمن»؟

فهذا وأمثاله كيف تكون حقيقتها حقيقة الإضافة التي لا تحصّل لها خارجا وذهنا إلّا بحسب تحصّل حقيقة الطرفين.

وفي آخر الفصل الخامس عشر من تلك المرحلة (ج ١ ، ص ٢٨٨ ، ط ١) في درجات العقل والمعقولات. هذا المقصد ارفع قدرا وأجلّ منالا من أن ينال غوره مثل هذا الرجل بقوّة فكره وكثرة جولانه في العلوم البحثية ووفور حفظه للمسائل المشهورة. يعنى بالرجل صاحب المباحث.

اعلم أنّ التعبير بالمحل والحال ، أو القابل والمقبول أو نظائرها في حق النفس ومعلوماته ممّا هو سائر بين المشاء ، ودائر على ألسنتهم وأقلامهم ، وأمّا عند الحكمة المتعالية فليس على ما ينبغى إلّا بالمجاز أو بضرب من التوسع في التعبير.

ثمّ انّ قول صاحب الأسفار في اندفاع الاعتراض الرابع حيث قال : «وأمّا اندفاع‏


الرابع فقد سبق أنّ القوّة الوهمية مجرّدة عن المادة لا عن إضافتها وكذلك حكم مدركاتها» ناظر إلى ما سبق في الفصل الثالث من الباب الخامس من نفس الأسفار ، من أنّ الوهم عبارة عن إضافة الذات العقلية إلى شخص جزئى وتعلقها به وتدبيرها له إلخ. والغرض أنّ الوهم عقل ساقط ، ومرتبة نازلة له وبالجملة أنّ امر الإدراك على التثليث أي الإحساس والتخيل والتعقل ، لا على التربيع وهو الثلاثة المتقدمة مع زيادة التوهم. وراجع العين الإحدى والثلاثين وشرحها من كتابنا سرح العيون في شرح العيون في البحث عن أصناف الإدراك.

وإليه يئول أيضا ما في المعتبر لأبى البركات وهو الدليل الرابع فيه على تجرّد النفس الناطقة ، وقد أتى فيه بأحد عشر دليلا. قال :

احتجوا على أنّ النفس جوهر غير جسمانى بأنّ النفس الناطقة أيضا تعلم العلم المجرد الكلى الذي لا ينقسم ، فلو كانت جسمانية لقد كان العلم الكلى يحل محلّها الذي هو الجسم المنقسم ، وما لا ينقسم لا يحل في منقسم (ج ٢ ، ص ٣٥٧ ، ط حيدرآباد الدكن).

ولا يخفى عليك أنّ هذا البرهان مستنبط من البرهان المذكور من الشفاء فانّ حاصل ما في الشفاء عبارة عن انّ وعاء البسيط بسيط. والراقم قد عبر عن هذا في تصانيفه بأنّ بين الغذاء ومغتذيه لا بدّ من شاكلة اعنى من مناسبة ومسانخة ومشابهة ومجانسة ، والعلم طعام الإنسان من حيث هو إنسان ، والعلم نور يقذفه في قلب المؤمن فالقلب نور ، والقلب هو النفس الناطقة الإنسانية ففي الكافي بإسناده عن هشام بن الحكم قال :

قال لى أبو الحسن موسى بن جعفر عليهما السّلام ... يا هشام! انّ اللّه تعالى يقول في كتابه : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى‏ لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) يعنى عقل؛ وقال : (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) قال : الفهم والعقل (كتاب العقل والجهل ، ج ١ من المعرب ، ص ١٢ و ١٣).

ثمّ اعترض أبو البركات على الدليل المذكور بما يأتى نقله وردّنا عليه.

ويأول إلى البرهان المذكور أيضا الدليل الأوّل من حكمة عين القواعد للدبيران الكاتبي القزوينى حيث قال : البحث الثالث في إثبات النفس الناطقة وبيانه من وجوه :


الأوّل أنّ القوّة العاقلة تعقل البسائط ، ضرورة انّ معقولاتها إمّا بسائط أو مركبات ، وكيف كان لا بدّ من تعقل البسائط ويلزم منه أن تكون مجرّدة وإلّا لكانت قابلة للقسمة وكما مرّ فيكون البسيط أيضا قابلا لها ، لأنّ الحال في أحد جزئيها يكون غير الحال في الجزء الآخر.

وقال العلّامة الحلّي في إيضاح المقاصد من عين القواعد المعروف بـ : شرح حكمة العين في بيان الدليل المذكور :

شرع في النفس الناطقة التي هي أحد أنواع الجوهر ، وقد استدل على ثبوتها بوجوه : الأوّل أنّ القوّة العاقلة تعقل معقولات غير منقسمة هي البسائط والتعقل يستدعى الحلول ، ويلزم من عدم انقسام الحال عدم انقسام المحل ، والقوّة العاقلة هي النفس فيلزم عدم انقسام النفس فتكون مجرّدة ، فإنّ كل متحيز وكل حال فيه منقسم. فهذا الدليل يتوقف على مقدمات :

إحداها : عدم انقسام بعض المعقولات وهو ظاهر فانّا نعقل شيئا فإمّا أن يكون بسيطا غير منقسم وهو المطلوب ، أو يكون مركبا منقسما إلى أجزاء فتلك الأجزاء إن كانت بسائط ثبت المطلوب ، وإن كانت مركبات تسلسل وهو محال فلا بدّ من الانتهاء إلى ما لا ينقسم؛ ولأنّا نعقل الوحدة والنقطة والآن وواجب الوجود تعالى وكل هذه غير منقسمة.

الثانية : أنّ التعقل يستدعى حلول المعقول في العاقل وذلك سيأتي فيما بعد.

الثالثة : أنّ المحل لما لا ينقسم غير منقسم ، وبيانه : أنّ المحلّ لو انقسم فإمّا أن يحلّ الحالّ في كلّ جزء أو في بعض الأجزاء ، أو يحلّ في كل جزء شي‏ء من الحال ، أو لا يحلّ هو ولا شي‏ء منه في أجزاء المحلّ؛ والأوّل باطل وإلّا لزم تعدد الحال بحسب تعدد أجزاء المحلّ؛ والثانى باطل لأنّه إن كان منقسما عاد البحث وإلّا فهو المطلوب؛ والثالث باطل لاستلزامه انقسام ما فرضناه غير منقسم؛ والرابع باطل وإلّا لم يكن الحال حالّا في ذلك المجموع وهو خلاف التقدير.

الرابعة : أنّ كل متحيز وكل حال فيه منقسم وذلك انّما يظهر بعد بطلان الجوهر الفرد ،


فإذن محلّ المعقولات أعنى النفس ليست ذات وضع. انتهى.

أقول : ما في حكمة العين من البراهين على إثبات النفس الناطقة وتجرّدها تنتهي إلى خمسة ، وقال العلّامة الحلّي في شرحه إيضاح المقاصد : انّ تلك البراهين منقولة عن القدماء. فالبرهان المذكور في الشفاء منقولة عنهم إلّا أنّ الشيخ حرّره على التفصيل والتبيين اتم تحرير.

وإلى هذا الدليل المذكور يرجع أيضا الدليل الرابع من الحكمة المنظومة للحكيم السبزوارى على تجرّد النفس الناطقة ، حيث قال :

ودركها للصور البسيطة

كالوحدة والعلة المحيطة

ثمّ قال في الشرح :

بيانه أنّ النفس تدرك المعقولات التي يستحيل عليها القسمة كالوحدة الحقيقة ، وكعلة العلل ، وكالبسائط التي يتألّف منها المركبات لأنّ كل كثرة لا بدّ وأن ينتهى إلى البسيط فلو كانت النفس جسما أو جسمانية كمقدار ، أو منطبعة في مقدار كانت قابلة للقسمة إلى غير النهاية فلزم أن يكون الصورة البسيطة التي فيها منقسمة بل غير متناهية الانقسام هذا خلف. وأيضا لم يكن العلم مساويا للمعلوم لأنّ كل جزء من العلم إمّا يكون متعلقا بتمام المعلوم فيلزم مساواة كل العلم وجزئه ، وإمّا أن يكون متعلقا ببعضه فلا بعض له. (ص ٣٠١ ، ط ١).

وقد اعترض الكاتبى في حكمة العين على الدليل المذكور بقوله : «انّ ذلك يلزم أن لو كان الحلول حلول السريان وهو ممنوع». وقال العلّامة الحلى في شرحه عليه :

اعترض على الدليل بالطعن في المقدمة الرابعة؛ وتقريره : أنّا لا نسلّم أنّ الحالّ في المنقسم يجب أن يكون منقسما مطلقا ، بل إذا كان الحلول على نعت السريان والشياع بحيث يكون أجزاء ذلك المحل مشغولة بشي‏ء من ذلك الحال مثل السواد والجسم ، أمّا إذا كان الحلول لا على نعت السريان لم يلزم من انقسام المحل انقسام الحال فإنّ الأبوّة حالّة في الأب ، ولا يقال إنّ نصفها حال في نصفه؛ وكذلك الوحدة والنقطة والآن ، لأنّ الحلول لا على نعت السريان ، فلم لا يكون الحال في المتعقل كذلك. انتهى.


وأقول : أنت بما قدّمنا حول الدليل من الشبهات والردّ عليها لا تحتاج إلى زيادة بيان في دفع اعتراض الكاتبى عليه. وكأنّ صاحب الأسفار في قوله المقدم ذكره : «وأما اعتراضات بعض المتأخرين على هذه الحجة فهي مدفوعة ...» ناظر إليه. وأنت تعلم أنّ تعبير الحلول في المقام مع أنّه غير جدير ، إن لم يكن على نعت السريان كان محل المعقولات شيئا وحدانيا وهو طرف نقطى؛ وإن كان على نعت السريان لزم منه انقسام الصورة المعقولة ، وقد علمت ما فيهما. ثمّ انّ اعتبار الأبوّة ونحوها من الإضافات من موضوعاتها ليس على سبيل حلولها في تلك الموضوعات فيقال في رجل مثلا هو أب وابن وعم وجدّ وخال ونحوها من العناوين انّ تلك الإضافات قد حلت فيه ، بل هو ممن يصح اعتبارها فيه بالإضافات العديدة والنسب الكثيرة يعتبر فيها العقل بضرب من الاعتبار.

واعترض أبو البركات البغدادى في المعتبر على الدليل المذكور بقوله :

وأمّا القائلة بالانقسام فالذى يمتنع منه الانقسام بالفعل الواقع بالتمييز والفصل والمباينة بالعبد المكانى وذلك لا يلزم في كل شي‏ء يحلّ الأجسام.

وأمّا الانقسام الوهمى التقديرى الذي يلزم فلا يقدح في ذلك ولا يؤثر فيه ، وكثير من القوى لا تنقسم بانقسام الأجسام وهو الأكثرى من نفوس الحيوانات أي لا يختلفون في أنّها قوى جسمانية قوامها بالأبدان ، ولا ينقسم بانقسامها الذي بالفعل مع كونها متوزعة على البدن في أقطاره وأعضائه ، وينقسم في بعض الحيوان بانقسام أعضائه ويبقى كل جزء منها زمانا يتحرك به ويحيى ، والنفس الإنسانية أيضا يشعر الإنسان بها في كل انفعال وفعل من لذة وألم يكون في سائر أعضائه الحساسة ، ولا ينقسم بالفعل مع انقسام البدن فإنّ اليد المقطوعة لا حسّ لها ولا بها ، والجسم الذي يكون مستنيرا بشعاع الشمس إذا قسم بالفعل إلى أقسام وأبعد بينها لا ينقسم النور بانقسامه ، ولا يتحرك بحركته ، والشعاع والنور على رأيهم شي‏ء جسمانى وعرض في الجسم الذي هو فيه فكذلك تصوّر من هذه الحجة؛ وعلى أنّ القول في القسمة وما ينقسم ولا ينقسم فيه كلام مكانه العلم الإلهي.


وقد اعترض أبو البركات على سائر الحجج التي أتى بها في المعتبر أيضا ـ وهي مع الحجة المذكورة إحدى عشرة حجة على تجرّد النفس ـ فقال في الخاتمة متفرعا على اعتراضاته : فلم يبق من هذه الحجج ما نرجع في المطلوب إليه ولا نعوّل في الاحتجاج عليه ، ولم يتضح بشي‏ء منها هل النفس جوهر أو عرض (ج ٢ ، ص ٣٦٣ ، ط حيدرآباد).

وأقول : المفروض أنّ الصورة العلمية حصلت للنفس الناطقة بالفعل ، وقد ارتقت النفس من نقصها إلى كمالها النسبيّ ، فمحلّ تلك الصورة على تعبير القوم أعنى النفس إمّا طرف نقطى ، وإمّا ليس كذلك فيعود الإشكالات الواردة بأسرها. سواء كان ذلك التمييز هو المعبر بالفصل والمباينة بالفعل ، أو بالوهمى التقديري. وسائر اعتراضاته على حجج تجرّد النفس كلّها من هذا القبيل فهي داحضة بأسرها؛ ونأتى بتلك الاعتراضات في ضمن تلك الحجج ، ثمّ نريك مواضع ضعفها وعدم ورودها عليها.

تبصرة : قد دريت أنّ النفس الناطقة كأنّها موضوع ما للصور المعقولة ، فلذلك كانت عارية عن المادة وأحكامها ، فادر أيضا أنّ الشيخ الرئيس تصدى في سابع الإشارات لبيان ستّ مسائل عقلية هي من غرر مباحث حكمية. أوليها في وجوب بقاء النفوس الإنسانية بعد تجرّدها عن الأبدان مع ما تقرر فيها من المعقولات؛ وثانيتها في كيفية تقرر المعقولات في الجواهر المجرّدة العاقلة إيّاها. فافتتح في المسألة الثانية بالردّ على اتحاد العاقل بمعقوله ، وتحقيق الحق في ذلك في العين السادسة والعشرين من كتابنا سرح العيون في شرح العيون؛ وابتدأ في الأولى بقوله :

ولمّا كانت النفس الناطقة التي هي موضوع ما للصور المعقولة غير منطبعة في جسم تقوم به بل انّما هي ذات آلة بالجسم فاستحالة الجسم عن أن يكون آلة لها وحافظا للعلاقة معها بالموت لا تضرّ جوهرها بل يكون باقيا بما هو مستفيد الوجود من الجواهر الباقية. انتهى.

بيان : قد تقدّم كلامنا في أنّ حجج تجرّد النفس في سابع الإشارات خمس ، وهذا الفصل يحوى الحجة الأولى منها على أنّ النفس موضوع ما للصور المعقولة إلخ؛ والمحقق الطوسى حسبها أربع حجج. وبالجملة قول الشيخ «فاستحالة الجسم ...»


كلام في غاية الإيقان والإتقان ، وهو نتيجة كل واحد من البراهين القاطعة على تجرّد نفس الإنسان. فقد خبط الجاهلون بآرائهم الكاسدة الفاسدة أنّ الموت إعدام الذات وإبطالها رأسا؛ ولم يهتدوا بنور القرآن والعرفان والبرهان أنّه تفريق صفة الوصل أعنى العلاقة التي بين النفس والبدن العنصرى بضرب من التعبير ، وأنّ النفس باقية بعد خراب البدن وبواره بما هو مبدأ لوجودها من الجواهر الباقية العقلية :

سعديا گر بكند سيل فنا خانه عمر

غم از او نيست كه بنيان بقا محكم از اوست

ونعم ما أفاده صدر المتألهين في رسالة المظاهر : «من أنّ الموت يرد على الأوصاف لا على الذوات لأنّه تفريق لا إعدام ورفع».

واعلم أنّ نسخ العبارة في الفصل المذكور من الإشارات مختلفة جدّا والأصوب ما اخترناه. ففي بعض النسخ : من الجواهر العقلية ، وفي بعضها : من الجواهر الباقية العقلية ، وفي بعضها : بما هو مفيد الوجود ، وفي بعضها : بل تكون باقية بما هو مبدأ لوجودها من الجواهر الباقية. وهذه الأخيرة تلي في الصواب ما اخترناه. ثمّ انّ كلمة من بيان ما. وانّما كانت الجواهر الباقية أي العقول مستفيدة الوجود لأنّها وسائط فيض الأوّل تعالى ، تستفيد الوجود منه تعالى وتفيد ما دونهم وإن كان المفيد الواهب واقعا هو الأوّل (جلّ شأنه وعزّ اسمه) فلا يكون بينه سبحانه وبينهم بل وبين ما سواه تمايز تقابلى ، بل تميز المحيط عن المحاط بالتعيّن الإحاطى والمحاطى.

والمحقق الطوسى أفاد في شرح الفصل المذكور مطالب نذكرها ثمّ نشير إلى بعض تعليقاتنا عليه. قال :

لمّا كانت النفس الناطقة واقعة في آخر مراتب العود اشتغل بالبحث عن حالها بعد تجرّدها عن البدن ، فاستدلّ بتجرّدها في ذاتها وكمالاتها الذاتية عن المادة وما يتبعها ، وبأنّها غير متعلقة الوجود بشي‏ء غير مباديها الدائمة الوجود على ما تبيّن في النمط الثالث وغيره على بقائها بعد الموت كذلك. وأشار بلفظة «لمّا» إلى ما ثبت في النمط الثالث من عدم انطباع النفس في الجسم. وبقوله «التي هي موضوع ما للصّور


المعقولة» إلى كمالاتها الذاتية الباقية معها ببقائها التي بها استدل على امتناع انطباعها في الجسم. وبقوله «بل انّما هي ذات آلة بالجسم» إلى كيفية ارتباطها بالجسم على وجه لا يلزم منه احتياجها في وجودها وكمالاتها المذكورة إليه. ثمّ جعل قوله «فاستحالة الجسم عن كونها آلة لها لا تضرّ جوهرها» ، تاليا لما وضعه بعد لفظة «لمّا». وأتمّ مقصوده بقوله «بل يكون باقيا بما هو مستفيد الوجود من الجواهر الباقية» وذلك لوجوب بقاء المعلول مع علته التامّة. فهذا برهان لمى هو عمدة براهين هذا الباب على ما ذكره الشيخ أبو البركات البغدادى.

واعلم أنّ إسناده حفظ العلاقة مع الجسم هاهنا إلى الجسم ليس بمناقض لإسناده حفظ المزاج الذي هو سبب العلاقة في النمط الثالث إلى النفس ، لأنّ النفس كما كانت حافظة لها بالذات فالجسم حافظ أيضا ولكن بالعرض. وذلك لأنّ فساد المزاج المقتضى لقطع العلاقة إنّما يتطرّق من جهة الجسم وعوارضه ولذلك أسند استحالة البدن عن كونه آلة للنفس إلى الجسم ، وعدم تطرق الفساد إلى الشي‏ء ممّا من شأنه أن يتطرق منه الفساد حفظ ما لذلك الشي‏ء لكنه حفظ بالعرض ، ثمّ إنّ الشيخ أكّد هذا المطلوب بما أورده بعد هذا الفصل. انتهى.

هذا تمام كلام المحقق الطوسى في شرح ذلك الفصل من الإشارات.

فأقول : قوله : «على بقائها بعد الموت كذلك» يعنى بقاء النفس الناطقة بعد الموت مع كمالاتها الذاتية. والكمالات الذاتية نحو شعورها بذاتها فانّها كغيرها من الجواهر المجرّدة عقل وعاقل ومعقول وهذا لا كلام فيه. ولكن عمدة النظر في بقائها مع كمالاتها المكسوبة بل مع ملكاتها المكتسبة أيضا كما قد أشار المحقق الشارح في صدر شرح النمط السابع إلى أنّ المسألة الأولى في وجوب بقاء النفوس الإنسانية بعد تجرّدها عن الأبدان مع ما تقرر فيها من المعقولات؛ والشيخ ينكر بعد هذه المسألة اتحاد العاقل بمعقولاته فيسأل عن كيفية تقرر تلك الكمالات والملكات فيها وما بيان ذلك والشيخ لم يبيّن ذلك في الإشارات بل في الشفاء أيضا. ولا محيص في بيان ذلك وفي الجواب عن السؤال إلّا بذلك الاتحاد ، كما قد استبصر الشيخ آخر الأمر وأقرّبه‏


بنور البرهان فراجع في ذلك كله كتابنا الفارسى دروس اتحاد عاقل بمعقول سيما المدرس السادس عشر منه في بيان دليل الشيخ على الاتحاد.

قوله : «أشار بلفظة لمّا إلى ما ثبت في النمط الثالث ...» أقول : قد تقدّم في مفتتح كلامنا في بيان البرهان الأوّل من الشفاء أنّه ثبت في الفصل السادس عشر منه أنّ كل جوهر عاقل منها النفس الناطقة ليس بذى وضع. فابتدأ الشيخ في الفصل المذكور بقوله : «إشارة ، إن اشتهيت أن يتضح لك أنّ المعقول لا يرتسم في منقسم ولا في ذى وضع فاسمع إلخ ، فأثبت بعدم انقسام المعقول عدم انقسام عاقله فاستنتج أنّ جوهر النفس الناطقة من الجواهر المفارقة. ثمّ اتبعه الفصلين بعده في إزالة بعض الشبه حول المسألة ، وبعد ذلك أخذ في الفصل التاسع عشر منه في بيان أنّ كل عاقل كجوهر النفس الناطقة عقل ومعقول ، وكذلك أنّ كل معقول قائم بذاته فهو عاقل. فالفصل الأوّل من سابع الإشارات ناظر إلى تلك الحجة الباهرة في الفصل السادس عشر من ثالث الإشارات على كون النفس جوهرا مفارقا فالحجج على ذلك في النمط السابع خمس لا أربع.

قوله : «بل يكون باقيا بما هو مستفيد الوجود من الجواهر الباقية» ، وهذا أحد الوجوه على تجرّد النفس الناطقة أيضا. وذلك لأنّها آخر مراتب الموجودات العقلية كما ذهب إليه المشّاء فعليك في ذلك بآخر الفصل الرابع من تاسعة إلهيات الشفاء (ج ٢ ، ص ٢٦٩ ، ط ١ ، ايران) ، والفصل الثالث من خامسة نفس الشفاء (ج ١ ، ص ٣٥٢) ، وآخر الفصل الأخير من النمط السادس من الإشارات؛ فحيث إنّ جوهر النفس الناطقة معلول العقل بلا واسطة مادية بل حادث مع البدن فهو عقل. وعلى هذا المسلك سلك القاضى سعيد القمى في آخر الفصل الثامن من القسم الثانى من كتابه بالفارسية الموسوم بـ كليد بهشت أي مفتاح الجنة (ص ٨٧ ، ط ١ ، ايران).

قوله : «واعلم أنّ إسناده حفظ العلاقة إلخ» راجع في ذلك شرح العين الخامسة عشرة من كتابنا سرح العيون في شرح العيون في جامع أجزاء البدن وحافظها.


ى) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا :

هذا هو البرهان الثانى من نفس الشفاء في أنّ قوام النفس الناطقة غير منطبع في مادة جسمانية.

ثمّ قال الشيخ :

ولنا أن نبرهن على هذا ببرهان آخر فنقول : انّ القوّة العقلية هو ذا تجرّد المعقولات عن الكم المحدود والأين والوضع وسائر ما قيل من قبل ، فيجب أن ننظر في ذات هذه الصورة المجرّدة عن الوضع كيف هي مجرّدة عنه؟ أبا لقياس إلى الشي‏ء المأخوذ منه ، أو بالقياس إلى الشي‏ء الآخذ؛ أعنى أنّ وجود هذه الحقيقة المعقولة المتجرّدة عن الوضع هل هو في الوجود الخارجى ، أو في الوجود المتصور في الجوهر العاقل؟ ومحال أن نقول : انّها كذلك في الوجود الخارجى؛ فبقى أن نقول : انّها انّما هي مفارقة للوضع والأين عند وجودها في العقل ، فاذا وجدت في العقل لم تكن ذات وضع ، وبحيث تقع إليها إشارة أو تجزّ وانقسام أو شي‏ء ممّا أشبه هذا المعنى فلا يمكن أن تكون في جسم.

أقول : الدليل الثانى المذكور من الشفاء قد أتى به الشيخ في النجاة أيضا (ص ١٧٧ ، ط مصر) وفي الفصل الخامس من رسالته في النفس وبقائها ومعادها (ص ٨٤ ، ط مصر بتصحيح الأهواني ، وص ١٢٩ من مجموعة الرسائل الفلسفية ، ط استانبول) بتفاوت يسير في تقرير البرهان لا يوجب مزيد إيضاح فيه للنقل هاهنا مرة أخرى. ففي النجاة : وبحيث تقع إليها إشارة تجزؤ ، أو انقسام أو شي‏ء مما اشبه هذا المعنى. وفي رسالة النفس : بحيث تقع إليها إشارة تجزّؤ ، أي انقسام أو شي‏ء مما اشبه هذا المعنى. وعنوان‏


هذا البرهان في النجاة هكذا : «برهان آخر في المبحث المذكور». ثمّ اقتفاه غير واحد من الأكابر فقد عبّروا عنه في الصحف الأخرى بعد الشفاء بوجوه عديدة وكلّها يرجع إلى ما في الشفا : منها ما في حكمة العين للكاتبى وهو الدليل الثانى فيه أيضا ، قال :

الثانى أنّ المعقولات الكلية مجرّدة عن المادة ، فالقوّة العاقلة لها أيضا كذلك وإلّا لكان لها وضع ومقدار مخصوصان فالحال فيها مقترن بعوارض مخصوصة فلا يكون مطابقا للأفراد المختلفة بالصغر والكبر فلا يكون كليا (ص ١٤٢ ، ط ايران ، ١٣٣٧ هـ ش)

وقال العلّامة الحلّي في شرحه عليه (ايضاح المقاصد) :

هذا برهان ثان على تجرّد النفس الناطقة. وتقريره انّ المعقولات الكلية من حيث هي هي غير مخصصة بشخص معين ، مجرّدة عن المادة ، فانّها لو كانت مخصّصة بمادة لم يصدق على غير تلك المادة فلا يكون كلية ، هذا خلف؛ وإذا ثبت تجرّد الصورة الكلية ثبت تجرّد القوّة العاقلة ، لأنّها لو كانت ذات وضع ومقدار مخصوصين كان الحال فيه مخصصا بذلك الوضع والمقدار وذلك ينافي كلّيتها لأنّها إن لم تطابق غيرها لم تكن كلية ، وإن طابقت غيرها لزم مساوات الشي‏ء الواحد للمختلفين أعنى الأصغر والأكبر ، هذا خلف.

ومنها ما في معارج القدس في مدارج معرفة النفس للغزالى (ص ٢٨ ، ط مصر) وهو البرهان الثانى فيه أيضا. وحرّفت فيه كلمة : «هو ذا تجرّد المعقولات» بعبارة «هو ذات تجرّد المعقولات». كما حرّفت في كتاب المبدأ والمعاد للمولى صدرا أيضا هكذا «انّ القوّة العاقلة من الإنسان شي‏ء ذو تجرّد المعقولات» (ص ٢٠٧ ، ط ١ ، ايران).

ومنها ما في الحكمة المنظومة ، وهو الدليل الثانى فيه أيضا ، قال :

كذا تجرّد الذوات المرسلة. وشرحه بقوله :

والثانى : قولنا كذا أي كذا يرى تجرّد النفس الناطقة ، تجرّد الذوات المرسلة أي الطبائع الكلية العقلية. بيانه : أنّ النفس تعقل الصور العقلية المشتركة بين كثيرين ، وكل مشترك بين كثيرين مجرّد من المادة ولواحقها حتى يصدق عليها ، ومعلوم انّ هذه الصور المجرّدة موجودة في النفس كما مر في مبحث الوجود الذهنى ، فلا محالة


ما تقوم هي به مجرّد وإلّا لكان لها مقدار معيّن ووضع معين وأين معين بتبعيته فلا تكون مشتركة بين كثيرين هذا خلف. فهو جوهر مجرّد وهو المطلوب.

ثمّ قال :

والقرينة على أنّ المراد بالذوات الطبائع المعقولة الإرسال لأنّه الكلية والإطلاق وهما أكثر استعمالا في المفاهيم من غيرها.

ويمكن جعل الذوات المرسلة أعم منها على مذهب صدر المتألهين قدّس سرّه من أنّ إدراك الكليّات مشاهدة النفس أرباب الأنواع بالإضافة الإشراقية ولكن عن بعد ـ كما نقل الشيخ في إلهيات الشفاء عن قوم انّهم جعلوا لكل واحد من الأمور الطبيعية صورة مفارقة هي المعقولة وإيّاها يتلقى العقل إذ كان المعقول أمرا لا يفسد وكل محسوس من هذه فهو فاسد ، وجعلوا العلوم والبراهين تنحو نحو هذه وإيّاها تتناول ، وكان المعروف بأفلاطون ومعلمه سقراط يفرطان في هذا الرأى؛ انتهى ـ والحق أنّها عنواناتها وعكوسها في القلب وأنوار مشرقة من السماوات العلى التي هي عالم الابداع ، ولا سيما العنوانات المطابقة التي هي العلم بها على ما هي عليه في نفس الأمر. انتهى.

فقول الحكيم السبزواري في تعميم البرهان حيث جعله شاملا على القسمين معا بيّن لا غبار عليه ، وقد سلك أوّلا على مسلك الأوائل في المعنى الكلى المعقول ، ثمّ ارتقى فقال : «ويمكن جعل الذوات المرسلة أعم منها ... إلخ». ونعم ما فعل وتقدّم كلامنا في ذلك في بيان البرهان الأوّل من الشفاء أيضا. والعجب انّه مع هذا التصريح بالتعميم في المنظومة لم يتعرض به في تعليقاته على الأسفار.

مذهب صدر المتألهين في الادراك يطلب في الفصل الثالث والثلاثين من المرحلة السادسة من الأسفار في العلّة والمعلول (ج ١ ، ص ٢٠٠ ، ط ١) ونقل الشيخ في إلهيات الشفاء كلام أفلاطون وسقراط ، فراجع الفصل الثانى من المقالة السابعة (ج ٢ ، ص ٥٥٧ ، ط ١).

ومنهما ما في أسرار الحكم لصاحب الحكمة المنظومة وهو البرهان الأوّل فيه ،


المترجم بالفارسية ، وقد أجاد في ترجمته وأفاد بما هو المراد (ص ٢٣٩ ، بتصحيح الأستاذ العلامة الشعرانى وتعليقاته عليه).

ومنها ما في هياكل النور للسهروردى ، وهو الطريق الثالث من طرقه في تجرّد النفس تجردا تامّا عقليا ، قال :

لا تدرك أنت شيئا إلّا بحصول صورته عندك فانّه يلزم أن يكون ما عندك من الشي‏ء الذي أدركته مطابقا له وإلّا لم تكن أدركته كما هو وعقلته معانى يشترك فيها كثيرون فانّك عقلتها على وجه يستوى نسبتها إلى الفيل والذبابة فصورتها عندك غير ذات مقدار لأنّها تطابق الصغير والكبير ، فمحلّها منك أيضا غير متقدر وهو نفسك الناطقة لأنّ ما لا يتقدر لا يحل في جسم متقدر. فنفسك غير جسم ولا جسمانية ولا يشار إليها لتبرّيها عن الجهة. وهي أحدية صمدية لا تقسمها الأوهام أصلا. ولما علمت أنّ الحائط لا يقال له أعمى ولا بصير ، فإنّ العمى لا يقال إلّا على من يصحّ أن يبصر ، فالبارى والنفس الناطقة وغيرهما مما سيأتي ذكره ليست جسما ولا جسمانية ، فهي لا داخلة العالم ولا خارجته ، ولا متصلة ولا منفصلة ، وكل هذه من عوارض الأجسام يتنزّه عنها ما ليس بجسم. فالنفس الناطقة جوهر لا يتصور أن تقع عليه الإشارة الحسيّة من شأنه أن يدبر الجسم ، أو يعقل ذاته والأشياء الخارجة عنه بصورها.

أقول : نقلنا عبارة هذا الدليل على تجرّد النفس من نسخة مخطوطة من شرح الدوانى على هياكل النور للسهروردى وما في مطبوعة مصر تخالف بعض عباراته ففيها :

... فإنّه يلزم أن يكون ما أدركته مطابقا له ... كما هو ثمّ انك تعقل معانى كثيرة .... الأوهام ولما علمت ... ليست أجساما ولا جسمانيين ... ولا منفصلة إذ كل هذه ... ويتنزه عنها ... الجسم وأن يعقل إلخ.

والدليل أيضا مترجم في هياكل النور بالفارسية (ص ٨٦ ـ ٨٧ ، ط ايران) :

بدان كه تو چون چيزى بدانى كه ندانسته باشى ، دانستن تو آن باشد كه صورت آن چيز كه بدانستى در ذهن تو حاصل شود إلخ.

وخلاصته : أنّ الصور العلمية العقلية مرسلات كلية ومطلقات نورية فوعاؤها المتّهب‏


كوعائها الواهب أيضا كذلك فالعلم ووعائه مطلقا من وراء عالم المادة ، وكثير من الأدلّة في تجرّد النفس ناظر إلى سنخية بين وعاء العلم والعلم كما ستطلع عليها.

والدليل مبتن على ثلاث مقدمات :

إحداهما : أنّ العلم والتعقل انّما هو بحصول صورة المعقول عند العاقل؛

وثانيتها : انّ الصور المعقولة غير ذات مقدار؛

وثالثتها : أنّ ما لا يتقدر أي المجرّد عن المقدار لا يحل في متقدر أي في ذى مقدار فأنتجت أنّ الجوهر العاقل لهذه الصور المجرّدة أي النفس الناطقة الإنسانية مجرّد عن الجسم وأحكامه فهو موجود نورى بسيط من فوق عالم الطبيعة وورائها.

والحق أنّ حصول الصور المرسلة النورية للنفس أشمخ من نحو التعبير بالحلول والمحل.

قوله : «وهي أحدية صمدية لا تقسمها الأوهام» ، هذا الحكم الحكيم لا ينافي قولهم بأنّ كل ممكن زوج تركيبى فافهم.

ثمّ انّ الصمد ـ كما فسرّه السنة ترجمان الوحى ـ هو الذي لا جوف له ، وفي مأثور آخر : الصمد الذي ليس بجسم ولا جوف له. ـ وحققنا البحث عن الصمد مع ذكر الروايات في تفسيره عن الجوامع الروائية في رسالتنا الموسومة بـ أنّه الحق (ص ٢٨٢ ـ ٢٨٤ ، من ١١ رسالة) ـ والغرض أنّ إطلاق الصمد على النفس الناطقة الكاملة فله وجه كما أطلق على الملائكة كما في الخبر «أنّ اللّه تعالى خلق الملائكة صمدا ليس لهم أجواف». وعلى هذا الوجه الوجيه قد حقّقنا في موضعه أنّ اللّه سبحانه صمد لا مدخل فيه ولا جوف له لأنّه فعلية مطلقة لا يخلو منه شي‏ء ولا يشذ منه مثقال عشر عشر اعشار ذرة فلا يتصور له ثان ، وكذا كتابه القرآن الفرقان صمد فلا جوف له حتى يتمه ويكمله كلام آخر أو كتاب آخر ، وكذا نبيّه الخاتم في إنسانيته ونبوّته صمد فالقرآن مصمت ليس بأجوف وكذا الخاتم ليس في نبوته بأجوف حتى يتمّ ويكمل بغيره فكل واحد من الثلاثة لا يتصوّر له ثان فانّه لا ثانى بعد الصمد فافهم.

وأمّا النفوس الناطقة الناقصة من حيث إنّها نفوس فليست بصمد ، وأمّا الإنسان‏


الكلى الذي هو رب النوع الإنسان فهو من المفارقات النورية والملائكة المدبرة فهو أيضا صمد ليس له جوف إلّا أنّ سياق البحث لا يوافق حمل العبارة على الوجهين الأخيرين فتدبر.

ومنها ما في أسفار صدر المتألهين وهو الحجة الثالثة على تجرّد النفس ، وسيأتي نقل ما أفاده بعد الإتيان باعتراض الكاتبى الآتي على هذا البرهان وما نذكره حوله فارتقب.

اعترض الكاتبى القزوينى في حكمة العين على هذا الدليل بقوله :

وأمّا الثاني فلأنّه لا يلزم من عدم مطابقة الكلى لما تحته من الأفراد بحسب المقدار والعوارض ، عدم مطابقته إيّاها أصلا ، فيجوز أن يطابقها بحسب الماهية على معنى أنّ المفهوم الكلّى المنتزع من كل فرد من أفراده هو مفهوم ذلك الكلّى.

وقال العلّامة الحلّي في شرحه عليها :

هذا الاعتراض على الوجه الثانى ، وتقريره أن نقول : لم لا يجوز أن يكون الكلى حالّا في الجسم المتعقل وتقترن بعوارض مخصوصة من مقدار وغيره ، ويكون مطابقا للجزئيات المندرجة تحته في الحقيقة ، وإن لم يطابقها في المقدار فإنّه لا يلزم مطابقة المعقول لأفراده في كل وجه ، وكذا لا يطابقها في العوارض ، ويكون معنى المطابقة أنّ المفهوم الكلّى المنتزع من كل فرد فرد هو المفهوم الكلى الحاصل في النفس.

ثمّ قال العلامة :

وهذا الاعتراض ليس بجيد ، فإنّ الصورة العقلية إذا كانت حالّة في المادّة تخصّصت بوضع مخصوصة وعوارض مشخصة لها ، بحيث يخرج عن الكلّية أصلا فلا يصدق عليها الكلّية فإن أخذت في تلك الصورة صورة أخرى مجرّدة عن الوضع والمشخّصات كما هو المفهوم من كلام المصنف ، وجعلت تلك الصورة الثانية مطابقة للمفهوم المنتزع من تلك الأفراد وجعلت الصورة العقلية كلية باعتبار اشتمالها على الصورة الثانية ، لزم المحال من وجوه :

أحدها تجويز كون كل شخص كليا بهذا الاعتبار وذلك خلف.


الثانى : أنّ الصورة الثانية هي المطلوب إثباتها وبيان تجرّدها فينتقل الكلام إليها.

الثالث : أنّ كلّية الصورة العقلية ليس باعتبار صورة أخرى منتزعة عنها بل باعتبارها في نفسها ومطابقتها لأىّ فرد فرد سبق إلى العقل بحيث لا يكون للوارد من الأفراد تأثير في زيادة ذلك المعقول أو نقصانه. بل الأولى أن يقال : كما أنّ الصورة العقلية الكليّة إذا حلّت في نفس جزئية تخصّصت بها ولا يضرّ ذلك كلّيتها حيث إنّ التخصيص عرض لها باعتبار الحلول لا باعتبار الأفراد المندرجة تحتها فانّ الأفراد بعينها تلك الأفراد ، إذ لم يخرج بعضها عن الاندراج باعتبار ذلك المخصّص كذلك إذا كانت حالّة في مادة مخصوصة. انتهى كلام العلامة.

وأقول : يعنى بالجسم المتعقل ، النفس الناطقة. ولا يخفى عليك أنّ التعقل لو كان للجسميّة المشتركة لوجب أن يكون كل جسم من حيث هو جسم عاقلا متعقلا وهو زهوق بالضرورة ، إلّا أن يدّعى أنّ النفس جسم مخصوص يمتازه عن غيره بتلك الخصوصية ويصحّ له التعقل ، وهو كما ترى. نعم يجوز إطلاق الجسم بمعنى المتحقق بذاته والمتقرر القائم بنفسه على النفس وما فوقها كقولهم تجسم الأعمال والنيات وفي النظم الفارسي :

دگرباره به وفق عالم خاص

شود أعمال تو أجسام واشخاص

‏والجسم بهذا المعنى هو الجسم الدهرى ، وكذلك التجسم أعنى تجسم الأعمال والنيّات هو التجسم الدهرى. والدهر روح الزمان لا تناله أحكام الزمان والزمانى فانّها متصرمة زائلة بائدة ، والدهر باق ببقائه الأبدى بلا تصرّم وزوال فافهم. والجسم بهذا المعنى هو فوق ما هو المصطلح في الكتب الفلسفية وأعم منه ، ولا يعنيه الكاتبى في المقام بلا كلام.

ثمّ إنّ الصورة المدركة إن كانت جزئية كصورة شجرة شخصية ، لا يمتنع أن يكون لتلك الصورة الشخصية أفراد كثيرة في الخارج. فهذه الصورة كالكلّى لا يمتنع فرض صدقها على كثيرين إلّا أن يدّعى بأنّ الأين والمتى وأترابهما من المشخصات أيضا. وسيأتي في العين الثالثة والثلاثين أنّ التجريد عن العوارض المقارنة للماهية ليس من‏


شرائط معقولية تلك الماهية ، وذلك لأنّ التجريد في الحقيقة هو الترفيع أي ترفيع الوجود الجسمانى إلى الوجود العقلانى؛ وكذا في العين السابعة والثلاثين أنّ كل محسوس فهو معقول في الحقيقة ، وإن وقع الاصطلاح على تسميته جزئيا. وجملة الأمر في الصورة المجرّدة أنّ التجريد عن العوارض المقارنة للماهية ليس من شرائط معقولية تلك الماهية إذ للعقل أن يتصور ماهية الإنسان مثلا مع جميع عوارضه وصفاته ونعوته من كمّه وكيفه وأينه ووضعه ومتاه وكذا بشكله وأعضائه وجوارحه ، كل ذلك على الوجه العقلى الكلّى.

قول الكاتبى : «وإن لم يطابقها في المقدار إلخ» أقول : الصورة المجرّدة البرزخية في النفس بل لدى النفس القائمة بها أعنى بها الصور الخيالية ، لها تجرّد غير تام فليس تجرّدها نحو التجرّد التام العقلى ، ولها مقدار وإن لم يكن مقدارها ماديا؛ والنفس بعد تجريد الصورة عن المادة وجعلها مجرّدا خياليا مقداريا يجرّده في مرتبة أخرى أشرف وأتم من الأولى تجرّدا تاما عقليا ـ هذا لو قلنا في الصورة العلمية بتجريد النفس وانتزاعها ، وأمّا إن قلنا بإنشائها إيّاها فالأمر أدقّ من نحو هذه المباحث ، والجواب عن الاعتراض كان على وجه أرفع وأشرف ـ كيف كان والمحقّق أنّ هذا المجرّد المعقول المجرّد عن المقدار الخيالي صادق على كل فرد من أفراده الخارجية؛ فإن أراد الكاتبى من صدق المقارن بالمقدار على أفراده الخارجي هذا المعنى فلا نزاع فيه لأنّ الأمر في تقرر تلك الصورة المعقولة في النفس ، ولكنّه أراد حلول الصورة العقلية الكلية في الجسم المادّي ، ولا يخفى عليك أنّ تلك الصورة حينئذ ليست بكلّية لأنّها تخصّصت بوضع خاص وعوارض مشخصة مادّية. لست أقول إنّ الصورة الكلّية لا تصير متخصّصة بخصوصيات ولكنّها لو تخصّصت بألف خصوصية من سنخها لا تخرجها عن الكلّية ، بل انّما الكلام في تخصّص الصورة المادية الممنوّة بالوضع الخاص والعوارض المشخصة الماديّة فانّها تمنع عن الكلية ولا تقارنها ولا تجمع معها فتبصّر.

وبالجملة أنّ حلول الصورة العقلية في المادة التجرّمية محال رأسا ، والتجرّد لا يجامع التجرّم أصلا ، وأمّا انتزاع الصورة العقلية عن الصورة الجرمية فأمر آخر ،


وانّما ننقل الكلام في هذه الصورة العقلية ونحو حصولها للنفس. وهذه الصورة بذاتها مطابقة لأفرادها لا بصورة أخرى منتزعة عنها.

وأمّا ما قال الشارح العلّامة : «بل الأولى أن يقال كما أنّ الصورة العقلية الكلّية ... إلخ» فهذا إشكال صعب الانحلال حرره صاحب الأسفار في الحجة الثالثة من كتاب النفس على تجردها ، ثمّ أجاب عنه بتحقيقه العرشى ، ولنا حول كلماته السامية في هذه الحجة تعليقات عديدة فالصواب أن نذكر الحجة بقلمه الشريف ، ثمّ ما تيسّر لنا حولها ممّا أفاض علينا رب (ن وَالْقَلَمِ)‏ قال :

الحجة الثالثة أنّ نفوسنا يمكنها أن تدرك الإنسان الكلى الذي يكون مشتركا بين الأشخاص الإنسانية كلّها ، ولا محالة يكون ذلك المعقول مجرّدا عن وضع معيّن وشكل معيّن وإلّا لما كان مشتركا بين الأشخاص ذوات الأوضاع المختلفة ، وظاهر أنّ هذه الصورة المجرّدة أمر موجود ، وقد ثبت أنّ الكليات لا وجود لها في الخارج فوجودها في الذهن ، فمحلّها إمّا أن يكون جسما أو لا يكون ، والأوّل محال وإلّا لكان له كمّ معيّن ووضع معيّن بتبعية محلّه ، وحينئذ يخرج عن كونه مجرّدا وهو محال ، فإذن محلّ تلك الصورة ليس جسما فهو إذن جوهر مجرّد.

ولقائل أن يقول : لصورة الكلية المعقولة من الإنسان هل لها وجود أم لا؟ فإن لم يكن لها وجود فكيف يمكن أن يقال إنّ محلّها يجب أن يكون كذا؟ وإن كان لها وجود فلا محالة هي صورة شخصية حالّة في نفس إنسانية شخصية لاستحالة أن يوجد المطلقات في الأعيان وهي من حيث إنّها صورة شخصية قائمة بنفس شخصية غير مشترك فيها بين الأشخاص : أمّا أولا فلأنّ الأمر الشخصى لا يكون مشتركا فيه؛ وأمّا ثانيا فلأنّ الصورة عرض قائم بالنفس ، والأشخاص جواهر مستقلّة بذواتها ، فكيف يمكن أن يقال إنّ حقيقة الجواهر القائمة بذاتها عرض قائم بالغير؟ فإن قالوا : إنّ المعنيّ بكون تلك الصورة كلّية أنّ أيّ شخص من الأشخاص الإنسانية سبق إلى النفس كان تأثيره في النفس ذلك التأثير ، ولو إنّ السابق إليها هو الفرس لما كان أثره فيها ذلك الأثر بل أثر آخر.


فنقول : إذا كان المعنيّ بكون الصورة كلية ذلك فلم لا يجوز أن يحصل هذه الصورة على هذا الوجه في محلّ جسمانىّ فيرتسم مثلا في الدماغ من مشاهدة إنسان معين صورة بحيث لو كان المرئى بدل ذلك الشخص أيّ إنسان شئت لكانت الصورة الحاصلة منه في الدماغ تلك الصورة؟

فإن قالوا : إنّ تلك الصورة لو حصلت في الجسم لكان لها بسبب الجسم مقدار معيّن وشكل معيّن ، وذلك يمنع من كونها كلية.

قلنا : وكذلك الصورة الحاصلة في نفس الشخص تكون صورة شخصيّة وتكون عرضا قائما بمحل معيّن ، وذلك يمنع من كونها كلية. فإن كان ما يحصل للصورة بسبب حلولها في الجسم من الشكل والمقدار بالعرض مانعا من كونها كلّية ، فكذلك ما يحصل للصورة بسبب حلولها في النفس من الوحدة الشخصيّة والعرضية وجب أن يكون مانعا من الكلّية. وإن أمكن أن يؤخذ الصورة القائمة بالنفس باعتبار آخر حتى تصير كلّية بذلك الاعتبار ، وإن كان اعتبار وحدتها وشخصيتها وحلولها في النفس الشخصية مانعا من كون الصورة الكلية ، جاز أيضا أن يؤخذ الصورة القائمة بمادة جسمانية كالدماغ وغيره باعتبار يكون هي بذلك الاعتبار كلية ، وإن كان باعتبار مقدارها وشكلها ووضعها جزئية.

وبالجملة فالصورة سواء كانت في النفس أو في الجسم فهي لا يكون مشتركا فيها من كل الوجوه لأنّ وحدتها الشخصية مانعة من العموم والكلّية ، ثمّ إنّها مع ذلك يكون مشتركا فيها باعتبار آخر.

أقول : هذا إشكال صعب الانحلال ، مذكور في مبحث الماهيات في العلم الكلّي ومباحث الكلّيات في علم الميزان ، وقد تفصّينا عنه بأنّ مناط الكلية والاشتراك بين كثيرين هو نحو الوجود العقلي. فالصورة وإن كانت واحدة معينة ذات هوية شخصية لكن الهوية العقلية والتعيّن الذهنى والتشخص العقلى لا ينافي كون الصورة متساوى النسبة إلى كثيرين ولا يمنع التشخص العقلى الكلية ، وانّما المانع عن العموم والاشتراك هو الوجود المادّي والتشخص الجسماني الذي يلزمه وضع خاصّ وأين‏


خاص ومقدار خاص فتختلف نسبة هذا الشخص إلى غيره من الأشخاص الجسمانية والهويات المادية ذوات الأوضاع المختلفة؛ وليس عندنا اعتبار كون الصورة العقلية كلية مشتركا فيها غير؛ واعتبار كونها موجودة متشخصة بتشخص غير ، لأنّ ذلك الوجود نحو آخر من الوجود أشد وأوسع من أن ينحصر في حدّ جزئي ، ويقصر رداؤه عن الانسحاب على كثيرين متوافقين في سنخ ذلك المعنى المحمول. وجميع المعاني والماهيات في أنفسها وبحسب حدّ معناها ممّا لا يأبى عن الحمل على كثيرين. وكذلك إذا وجدت بوجود عقلى غير مقيّد بوضع خاص ومقدار خاصّ إذا الوجود العقلى نسبتها إلى جميع الأوضاع والمقادير والأمكنة نسبة واحدة. فالصورة العقلية لماهية الإنسان من حيث وجودها مشترك فيها بين كثيرين من نوعها ، ومن حيث ماهيتها ومعناها محمولة على كثيرين.

ثمّ إنك قد علمت من طريقتنا في العقل والمعقولات أنّ التعقّل ليس بحلول الصورة المعقولة في الجوهر العاقل حتى يكون صورة الجوهر عرضيا ، ويلزم الإشكالات المذكورة في الوجود الذهنى وهاهنا ومباحث علم البارى ، بل الصورة العقلية للجواهر جواهر قائمة بذواتها وبمبدعها وهي في باب الوجود ، والتجوهر أقوى من ما هي صورتها من الصور الخارجية المادّية لكونها مفتقرة الوجود إلى المواد المتجدّدة الانفعالات والاستحالات.

وأمّا الكلام في صحة هذا البرهان ودلالته على تجرّد النفوس فأقول : إنّ هذا البرهان برهان قاطع لكن على تجرّد بعض النفوس الإنسانية لا النفوس العامّية فإنّه يدلّ على تجرّد نفس تعقل الصور العقلية ، ونشاهدها من حيث عقليتها ونحو وجودها العقلي المشترك فيه بين الأعداد الذي لا يحصل إلّا بعد تجريد المعنى الواحد عن القيود والزوائد والخصوصيات.

وبالجملة كل من يمكن له أن يلاحظ صورة الحيوان مثلا بنحو من الوجود لا يكون لها بحسبه مقدار خاصّ ومكان خاصّ ووضع خاص وزمان خاص. وكذا تعقل صورة الإنسان العقلى المجرد عن العوارض الماديّة بأن يكون إنسانا بحتا يخرج منه‏


جميع ما هو غير الإنسانيّة من الوضع الخاص والكم الخاص والأين الخاص ، ومع ذلك لا يحذف عنه شي‏ء من مقوماته وقواه وأعضائه حتى أنّه يعقله ذا رأس ووجه وعين ويد ورجل وبطن. وكل ذلك على الوجه العقلى المشترك فيه بين الأعداد الكثيرة لأنّ ذلك معنى إدراك الماهية الكلية لشي‏ء كما قال المعلم الأوّل في أثولوجيا :

الإنسان العقلى روحاني ، وجميع أعضائه روحانية ليس موضع العين غير موضع اليد ، ولا مواضع الأعضاء مختلفة. وكذا يمكنه أن يعقل الأرض العقلية والماء العقلي والسماء العقلية ، ويحضر في ذهنه صورة كل طبيعة من الطبائع بنحو وجودها العقلي الكلي على الوجه الذي مرّ ذكره ، لأنّ ذلك في الحقيقة معنى إدراكه الكليات. وقلّ من الناس من أمكن له الإدراك على ذلك الوجه. والذي يتيسّر لأكثر الناس أن يرتسم في خياله صورة إنسان مثلا ، فإذا أحسّ بفرد آخر منه يتنبّه بأنّ هذا مثل ذاك ، ويدرك جهة الاتحاد بينهما وانّها غير جهة الاختلاف إدراكا خياليا ، كما يدرك جهة الاتحاد بين أجزاء الماء مثلا بحسب الحس ويعلم أنّ جميع أجزاء الماء ماء ، وكما يدرك أنّ جميع أجزاء الماء ماء مع اختلافها في المقدار والجهة ، كذا يدرك أنّ أفرادها المنفصلة ماء إدراكا خياليا. (ج ٤ ، ص ٦٨ ، ط ١).

أقول : هذا تمام كلام صاحب الأسفار في تقرير الحجة ، وما أورد عليها من الاعتراض والشبهة ، والجواب عنهما. ولا يخفى عليك أنّ تلك الشبهة العويصة هي ما ذكرها الشارح العلّامة في إيضاح المقاصد ، كما أنّ أصل الاعتراض هو ما أورده الكاتبى عليها؛ ولعلهما كانا مسبوقين من غيرهما. كيف كان ، الاعتلاء إلى فهم الجواب الذي هو فائض عن بطنان عرش التحقيق في المقام يفتح بابا في معرفة النفس هو باب أبواب سائر مسائل النفس سيما مسائل أدلة تجرّدها.

قوله : «وإن أمكن أن يؤخذ الصورة القائمة بالنفس باعتبار آخر» أي باعتبار لا بشرط. وكذا قوله في جواب الشرط : «كالدماغ وغيره باعتبار» أي باعتبار لا بشرط أيضا. والأمر الأهم في المقام أن يسأل المورد عن الذي يأخذ الصورة الكلية عن الصورة الخيالية ، أو المادة العنصرية ، أو الجسم المتعقل على زعمه من هو؟ وانّما الكلام‏


في ذلك الآخذ وتلك الصورة الكلية فينتهى الأمر إلى الصورة المجرّدة العقلية ، ومدركها البسيط العقلى.

قوله : «ومباحث الكليات في علم الميزان» أي مباحث الإيساغوجى في المنطق.

قوله : «وقد تفصينا عنه إلخ» أي مناط الكلية هو الانبساط والسعة والإحاطة؛ والاشتراك بمعنى تساوى نسبة الكلّى السعيّ الإحاطي إلى كثيرين ، لا الاشتراك بمعناه الرائج في الميزان من انطباق الماهيات الذهنية إلى افرادها الخارجية. فقوله : «لأنّ ذلك الوجود نحو آخر ... إلخ» أي ذلك الوجود العقلي الذي هو مجرّد نورى مثل ربّ النوع أوسع من أن ينحصر في حد جزئي ويقصر رداؤه عن الانسحاب على كثيرين متوافقين في سنخ ذلك المعنى المحمول.

قوله : «وليس عندنا اعتبار ...» كلام بعيد الغور. يعنى أنّ الصورة العقلية الكلية المشترك فيها بذلك المعنى من الاشتراك ، هي بعينها موجودة متشخصة أي متعيّنة ومتحقّقة بتشخص خاص عقلاني فلا منافاة بين الكلية والتشخص فما هو مناط الشخصية بعينه مناط الكلّية. وعبارة المقام في بعض النسخ منقولة هكذا : «وليس عندنا اعتبار كون الصورة العقلية كلية مشتركا فيها غير اعتبار كونها موجودة متشخصة بتشخص غير مادّى» ولكن عدّة نسخ مخطوطة من الأسفار وبعضها قريبة العهد من المصنف موافقة لما اخترناها ولا غبار عليها ، وإن كان مآل العبارتين واحدا.

قوله : «إذ الوجود العقلى ...» هذا الكلام تعليل لإتيان لفظة خاص للمقيد والمقدار. والغرض من ذلك أنّ الجوهر المادىّ ممنوّ بالوضع الخاص والأين الخاص والمقدار الخاص وسائر أحكام المادة الخاصّة ، وأمّا الجوهر العقلى الكلى السعى الإحاطى الذي فهو مثل ربّ نوعه بإذن مبدعه (تعالى شأنه) محيط على جميع الأوضاع والمقادير والأمكنة ونسبته إليها نسبة واحدة ، فهو مع كونه متشخصا خارجيا ، عار عن أحكام المادة الخاصّة ولا يشذ عنه وضع خاص ومكان خاص ومقدار خاص. ووزانه مع الأفراد كأنّ وزان الروح الإنسانية إلى قواها ومحالّها فإنّ لكل واحدة منها تعيّنا خاصّا ، ولبعضها وضعا خاصّا ، ومقدارا خاصّا ، ولكن الروح أصلها القائم عليها ، وكلّها


قائمة بها ، فهي مع وحدتها المتشخصة كل القوى ومحالّها.

قوله : «فالصورة العقلية لماهية الإنسان ، إلخ» أقول : الاشتراك الوجودى بين تلك الصورة العقلية وبين أفرادها المادية متحقق دائما ، ونحن بارتقائنا العلمى واعتلائنا الوجودى نكشف ذلك الاشتراك ونعلمه ، وأمّا اشتراك ماهيتها المحمولة فهو من فعلنا وذلك الفعل هو انطباق تلك الماهية على الأفراد الخارجية أعمّ من المادية والعقلية ، وتلك الماهية من حيث هي بمعزل عن الوجود وتلك الصورة العقلية وجود نورى كلى فافهم وتبصر.

قوله : «على تجرّد بعض النفوس الإنسانية» تقدّم كلامنا في ذلك في أثناء البحث عن البرهان الأوّل من الشفاء في تجرّد النفس من أنّ الغبىّ الذي لا يعود عليه الفكر برادّة فهو بمعزل عن التعقل ولا يمكنه ملاحظة الاعتبارات الكلية بوجه ، وأنّ الواصل إلى الوجود العقلي سيما إلى الصادر الأوّل الذي هو رق منشور للكلمات النورية الوجودية قليل جدا. بل الواصل إلى الثاني هو مثل النبيّ الختم ، وأوصيائه أهل العصمة وعيب القرآن ، وأنّ لسائر الناس حظا من التعقل على مراتبهم ، فنفوسهم أوعية معقولاتهم بل نفس تلك المعقولات على اختلاف درجاتهم.

قوله : «الإنسان العقلى روحانى ، وجميع أعضائه روحانية إلخ» أقول : سواء في ذلك ربّ نوعه الذي من المثل الآلهية ، والعنصرى لأنّ الثانى أيضا في مقام روحه إنسان أحدي وجميع أعضائه موجودة بوجوده الأحديّ. وأشار إلى ذلك التعميم بقوله :

«ويحضر في ذهنه صورة كل طبيعة من الطبائع بنحو وجودها العقلى الكلّى لأنّ ذلك في الحقيقة معنى إدراكه الكليات». وانّما كان جميع أعضاء الإنسان العقلى روحانية لأنّ الرقائق نازلة من حقائقها على ما يقتضيها كل منزل من أحكامه فإنّ العوالم يحاكى ويماثل بعضها بعضا ، والفرق بالقرآن والفرقان؛ ولذا قالوا إنّ الذات الواجبية روح الأسماء ، والأسماء أرواح الأعيان الثابتة ، وهي أرواح الأرواح وهي أرواح الأشباح ، قوله (عزّ من قائل) : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) (السجدة ، ٦) ؛ وقال (سبحانه) : (وَإِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (الحجر ، ٢٢) ؛ وقوله‏


(تعالى شأنه) : (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (يس ، ٨٤) ، فالأولى ناطقة بأنّ الرقيقة تنزل من حقيقتها ، والثانية بأنّ الفرق بينهما بالقرآن والفرقان ، والثالثة بأنّ شيئا من الأشياء ما نزل بتمامه بل ملكوته بيده سبحانه. وبالجملة أنّ الأعضاء المعنوية هي أرواح الأعضاء الحسية مثل أنّ روح العين ما به يبصر فالعلم الحضوري بالمبصرات حقيقة العين؛ وروح اليد ما به يبطش فالقدرة على البطش بمجرد الهمة حقيقة اليد وهكذا. فالكامل حكاية للناقص بنحو الكمال ، والناقص حكاية للكامل بنحو النقصان لأنّ العلة حدّ تام للمعلول والمعلول حدّ ناقص للعلة.

قوله : «والذي يتيسّر لأكثر الناس» قد ذكر نظره هذا في تعقل النفوس في عدّة مواضع من الأسفار ، ولا يخفى عليك أنّ الحاكم على الاتحاد في الأمثلة التي أتى بها هاهنا هو العقل لا الحسّ والخيال. والصواب ما قدّمنا من أنّ الغبي الذي لا يعود عليه الفكر برادّة فهو بمعزل عن التعقل ، وأمّا سائر الناس فلهم التعقل على مراتبهم.

فتحصّل ممّا تقدم أنّ الصورة المعقولة سواء كانت صورة عرض أو صورة جوهر ، موجودة متشخّصة بتشخص خاص عقلاني ، أي ما هو مناط الشخصية هو بعينه مناط الكلية فلا منافاة بين الكلية والتشخص ، كما لا تنافي بين التعين العقلي والإبهام الخارجى الممنوّ بالمادة الطبيعية العنصريّة ، فتلك الكليات العقلية تكون مشارا إليها بالإشارة العقلية بحسب التعيّن العقلي ووجوده في العقل وأمّا من حيث إبهامه الخارجى فلا يقبلها؛ وأنّ تشخص الصورة المعقولة جار في المفارق والنفس الناطقة على السواء من حيث هو تشخص الصورة المعقولة وإن كان المفارق مفيضا والنفس مستفيضة؛ وأنّ الاشتراك الوجودى بمعنى تساوى نسبة الكلّى السعيّ الإحاطي إلى كثيرين أمر ، واشتراك ماهيتها المحمولة أي انطباقها على أفرادها الخارجية الذي هو من فعل النفس وحكمها أمر آخر؛ وأنّ للتعقل مراتب وهو يصح لأفراد الإنسان على مراتبهم إلّا الغبي الذي لا يعود عليه الفكر برادّة. ومن أخذت الفطانة بيده يعلم من هذه الأصول الرّصينة القويمة أنّ اعتراض حكمة العين كشبهة شارحها خارج عن صوب الصواب. فللّه الحمد وهو المبدأ وإليه المآب.


يا) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليا؛ هذا هو البرهان الثالث من نفس الشفاء في أنّ قوام النفس الناطقة غير منطبعة في مادة جسمانية :

ثمّ قال الشيخ :

وأيضا إذا انطبعت الصورة الأحدية الغير المنقسمة التي هي الأشياء غير منقسمة في المعنى في مادة منقسمة ذات جهات فلا يخلو إمّا أن لا تكون ولا لشي‏ء من أجزائها التي تفرض فيها بحسب جهاتها نسبة إلى الشي‏ء المعقول الواحد الذات الغير المنقسم المجرّد عن المادة؛ أو تكون لكل واحد من أجزائها التي تفرض نسبة؛ أو تكون لبعض دون بعض.

فإن لم تكن ولا لشى‏ء منها فلا لكلّها فإنّ ما يجتمع عن مباينات مباين.

وإن كان لبعضها دون بعض فالبعض الذي لا نسبة له ليس هو من معناه في شي‏ء.

وإن كان لكل جزء يفرض نسبة ما ، فإمّا أن تكون لكل جزء يفرض فيه نسبة إلى الذات كما هي ، أو إلى جزء من الذات؛ فإن كان لكلّ جزء يفرض نسبة إلى الذات كما هي فليست الأجزاء إذن أجزاء معنى المعقول بل كل واحد منها معقول في نفسه مفردا. وإن كان كل جزء له نسبة غير نسبة الجزء الآخر إلى الذات فمعلوم أنّ الذات منقسمة في المعقول وقد وضعناها غير منقسمة هذا خلف. فإن كان نسبة كل واحد إلى شي‏ء من الذات غير ما إليه نسبة الآخر فانقسام الذات أظهر.

ومن هذا تبيّن أنّ الصور المنطبعة في المادة الجسمانية لا تكون إلّا أشباها لأمور جزئية منقسمة ولكلّ جزء منها نسبة بالفعل أو بالقوة إلى جزء منه.

أقول : هذا تمام كلام الشيخ في البرهان الثالث.

وقوله : «إذا انطبعت الصورة الأحدية الغير المنقسمة» كصورة الوحدة ، والنقطة ، والجوهر الذي هو الجنس العالى.

والضمير في قوله : «ولا لكل واحد من أجزائها» وكذا في قوله : «أو تكون لكل واحد من أجزائها» راجع إلى قوله «مادة منقسمة ذات جهات».

وقوله : «نسبة إلى الشي‏ء المعقول ...» مرفوع اسم لقوله : «إمّا أن لا تكون».


وقوله : «أو تكون لبعض ...» وكذا قوله : «فإن لم تكن ولا لشي‏ء منها» ضمير الفعلين راجع إلى النسبة.

وقوله : «فلا لكلّها» جواب لقوله : «فإن لم تكن ولا لشى‏ء منها؛ فمعنى فلا لكلّها ، أي لا نسبة لكلها ، كما صرّح بها في النجاة بقوله : «فإن لم يكن ولا لشي‏ء منها نسبة فليس ولا لكلّها لا محالة نسبة».

وقوله : «فيه نسبة إلى الذات كما هي» أي إلى تمام الذات.

وقوله : «فمعلوم أنّ الذات منقسمة في المعقول ...» لأنّ النسبة إلى الشي‏ء الواحد البسيط الغير المنقسم لا تكون مختلفة إلّا أن يكون ذلك الشي‏ء مختلفا.

والبرهان المذكور قد أتى به الشيخ في النجاة أيضا (ص ١٧٧ ، ط مصر) وفي الفصل الخامس من رسالته في النفس وبقائها ومعادها (ص ١٢٩ من مجموع الرسائل الفلسفية ط جامعة استانبول. وفي مجموعة أخرى مع ثلاث رسائل للشيخ في النفس أيضا بتصحيح الأهواني ، ص ٨٤ و ٨٥ ، ط مصر) وعبارات الشيخ في الشفاء والنجاة ورسالة النفس هذه متقاربة لا يوجب نقلها من الأخيرين مزيد إيضاح. وهو البرهان الثانى من رسالته الفارسية في معرفة النفس حيث قال : برهان ديگر ، وهمچنين اگر صورت احدى در جسم منقسم بود إلخ (ص ٣٦ و ٣٧ ، ط ايران ، ١٣٧١ هـ. ق ، بتصحيح الدكتور موسى عميد). وقد نقله الغزالي في كتابه معارج القدس في مدارج معرفة النفس (ص ٢٩ ، ط مصر) وهو البرهان الثالث فيه أيضا على حذو ما في الشفاء. ثمّ قال بعد نقله ما هذا لفظه :

فإن قيل : منشأ التلبيس في هذا البرهان قولكم : إنّ المعنى المعقول إن كان له نسبة إلى بعض الذات فيكون البعض الآخر ليس من معنى المعقول في شي‏ء ، ونحن هكذا نقول فإنّ المدرك منّا هو جزء وذلك الجزء لا ينقسم وهو المسمّى بالجوهر الفرد.

قلنا أنتم بين أمرين : إمّا أن تقولوا نسبة المعقول إلى بعض منقسم ، أو إلى بعض غير منقسم؛ فإن كان نسبة إلى بعض منقسم فإذا قسمنا يلزم انقسام المعقول ويعود البرهان الأوّل بعينه؛ وإن قلتم ينتسب إلى جزء لا ينقسم فكل جزء من الجسم منقسم‏


وقد برهنا على ذلك ، وله براهين هندسية ليس هاهنا موضع ذكرها. انتهى.

قوله : «وقد برهنا على ذلك» يعنى في البرهان الأوّل في معارج القدس ، والبرهان الأوّل في معارج القدس على تجرّد النفس هو البرهان الأوّل من الشفاء على ذلك كما تقدّم. ثمّ انّ القول بالجوهر الفرد لا يزاحم أدلّة تجرّد النفس أصلا وهي باقية على قوتها مع القول به كما يعلم في تضاعيف البراهين الساطعة على ذلك. وأمّا البراهين الهندسية على إبطال الجوهر الفرد فقد ذكر بعضها الشيخ البهائى في اواخر المجلد الأوّل من كشكوله (ص ١١٩ ، ط نجم الدولة) ولكنها ليست بتمام ، وإن كانت على فرض تماميتها لا تضرّ التجرد.


يب) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا؛ وهو البرهان

الرابع من نفس الشفاء في أنّ قوام النفس الناطقة غير منطبعة في مادة جسمانية.

ثمّ قال الشيخ :

وأيضا فإنّ الشي‏ء المتكثر في أجزاء الحدّ ، له من جهة التمام وحدة ما لا تنقسم ، فلينظر أنّ ذلك الوجود الوحداني من حيث هو واحد ما كيف يرتسم في المنقسم؟ ويكون الكلام فيها وفيما لا ينقسم بالحدّ واحدا.

أقول : يعنى أنّ بعض الأشياء بسيط لا ينقسم بالحدّ ، وبعضها له أجزاء حدّية لكنّ له صورة وحدانية هي جهة تمامه وتشخصه. فيسأل عن صورة البسيط المدركة ، وكذا عن صورة ذى الأجزاء الحدية المدركة ، اللتين لكل واحدة منهما وجود وحدانى من حيث هو واحد ما كيف يرتسم في المنقسم؟ فالشي‏ء المتكثر في أجزاء الحد ، والذي لا ينقسم بالحدّ في هذا الحكم ـ وهو كون مدركهما الذي هو محل كلّ واحدة من الصورتين ـ واحد في أنّه ليس مما ينقسم أي أنّه مجرّد عن المادة الطبيعية وأحكامها.

والشيخ نقل هذا البرهان في رسالته في النفس وبقائها ومعادها أيضا. وهو البرهان الرابع فيه أيضا على ترتيب ما في نفس الشفاء ، فقال : وأيضا فإنّ الشي‏ء المتكثر أيضا في أجزاء الحد له من جهة التمام وحدة هو بها لا ينقسم ، فتلك الوحدة بما هي وحدة فيه كيف ترتسم في المنقسم؟ وإلا فيعرض أيضا ما قلناه في غير المتكثر أجزاء حده (ص ١٢٩ ، من مجموعة الرسائل الفلسفية ، ط جامعة استانبول. وص ٨٥ و ٨٦ من ط مصر بتصحيح الأهواني).

تبصرة : هذه البراهين الأربعة المنقولة من نفس الشفاء وسائر مصنفات الشيخ ، لها


وحدة جامعة وهي أنّ الصورة المعقولة أي العلم بسيطة مفارقة ، ومدركها وهو النفس الناطقة يجب أن تكون بسيطة مفارقة أيضا. وأمّا وجه امتياز كل واحد من البراهين الأربعة المذكورة عن الآخر فغير خفي على المتدرب بالفن. ثمّ انّ هذا البرهان اعنى الرابع منها غير مذكور في معتبر أبى البركات ، وحكمة العين للكاتبى ، وأسفار صدر المتألهين. والمحقق الطوسى في تجريد الاعتقاد جعل الدليل الثانى على تجرّد النفس بعبارة تشمل البراهين الأربعة المذكورة كلّها. فإنّه قال :

وهي (أي النفس) جوهر مجرّد لتجرّد عارضها وعدم انقسامه. وقوله : «وعدم انقسامه» ناظر إلى أنّ العلم بسيط مفارق ومدركه أي معروض العلم وهو النفس كذلك.


يج) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا ، وهو البرهان

الخامس من نفس الشفاء في أنّ قوام النفس الناطقة غير منطبعة في مادة جسمانية.

قال الشيخ :

وأيضا فإنّه قد صحّ لنا أنّ المعقولات المفروضة التي من شأن القوّة الناطقة أن تعقل بالفعل واحدا واحدا منها غير متناهية بالقوّة؛ وقد صحّ لنا أنّ الشي‏ء الذي يقوى على أمور غير متناهية بالقوّة لا يجوز أن يكون جسما ولا قوّة في جسم ، قد برهن على هذا في الفنون الماضية؛ فلا يجوز إذن أن تكون الذات المتصوّرة للمعقولات قائمة في جسم البتّة ، ولا فعلها كائن في جسم ولا بجسم.

وليس لقائل أن يقول : كذلك المتخيّلات. فذلك خطأ فإنّه ليس للقوّة الحيوانيّة أن يتخيّل أيّ شي‏ء اتفق ممّا لا نهاية له في أيّ وقت كان ما لم يقرن منها تصريف القوّة الناطقة.

ولا لقائل أن يقول : إنّ هذه القوّة أي العقلية قابلة لا فاعلة ، وأنتم أنّما أثبتّم تناهى القوّة الفاعلة والناس لا يشكّون في جواز وجود قوة قابلة غير متناهية كما للهيولى.

فنقول : إنّك تعلم أنّ قبول النفس الناطقة في كثير من أشياء لا نهاية لها قبول بعد تصرف فعلى.

أقول : هذا تمام كلام الشيخ في بيان هذا البرهان. ويعنى بقوله : «الذات المتصوّرة للمعقولات» النفس الناطقة. وتصورها للمعقولات بمعنى اتصافها بها ، وأخذها إيّاها.

وقوله : «برهن على هذا في الفنون الماضية» يعنى في السماع الطبيعى.

وقوله : «ما لم يقرن منها ...» وفي نسختين مخطوطتين من الشفاء ما لم يقرن معها.


والشيخ ذكر اصل البرهان فقط في النجاة واكتفى به ، ولم يأت فيها بقوله : «وليس لقائل أن يقول ـ إلى قوله : بعد تصرّف فعلى». وعبارته فيها هكذا :

وأيضا فإنّه قد يصحّ (قد صحّ ـ خ. ل) لنا أنّ المعقولات المفروضة التي من شأن القوّة الناطقة أن تعقل بالفعل واحدا واحدا منها غير متناهية بالقوّة ، ليس واحد أولى من الآخر؛ وقد صحّ لنا أنّ الشي‏ء الذي يقوى على أمور غير متناهية بالقوّة لا يجوز أن يكون محله جسما ولا قوّة في جسم ، قد برهن على هذا في السماع الطبيعى؛ فلا يجوز إذن أن تكون الذات القابلة للمعقولات قائمة في جسم البتة ولا عقلها بكائن (ولا فعلها الكائن ـ خ. ل) في جسم ولا بجسم (ولا بجسم ـ أو بجسم ـ خ. ل). (ص ١٧٨ ، ط مصر).

ونحو ما في النجاة ذكر البرهان في الفصل الخامس من رسالته في النفس وبقائها ومعادها (ص ١٢٩ و ١٣٠ من مجموعة الرسائل الفلسفية ، ط جامعة استانبول. وص ٨٦ ، ط مصر ، بتصحيح الأهواني).

ونسخة «ولا فعلها أكثروا أولى» ، ويؤيدها قوله : «بعد تصرف فعلى» وإن كان فعلها عقلها.

بيان البرهان : معنى صحّ أو يصحّ يساوق الإمكان. وكون المعقولات غير متناهية بالقوّة بل بالفعل مما لا ينبغى المراء فيه. وكذلك عدم تأبّيها وتعصّيها عن أن تصير معقولة للنفس مما لا يعتريه الارتياب. وأنّ النفس الناطقة يصحّ لها أن تكون عاقلة لتلك المعقولات الغير المتناهية فممّا لا يصحّ النزاع فيه ، والمنازع مكابر مقتضى عقله. والتعقّل فعل النفس فكونها قوية على أمور غير متناهية بالقوّة أي كونها قوية على إدراكات غير متناهية بالقوّة أي على أفعال غير متناهية بالقوّة. وأنّ الجسم والجسمانيات مطلقا متناهية التأثير والتأثر فمما برهن في السماع الطبيعى. فالنتيجة أنّ جوهر النفس ليس بجسم ولا جسمانى.

والشيخ في هذا البرهان كأنّه ناظر إلى كلام الفارابى في رسالة له في إطلاقات العقل من أنّ شأن ذات النفس الناطقة أن تكون عاقلة للموجودات كلها ، وشأن الموجودات‏


كلّها أن تعقل وتحصل صورا لتلك الذات فاذا كان كذلك لم يمتنع أن يكون المعقولات من حيث هي معقولات بالفعل ، وهي عقل بالفعل أن يعقل أيضا فيكون الذي يعقل حينئذ ليس هو شيئا غير الذي هو بالفعل عقل.

والبرهان المذكور من الشفاء منقول في أسرار الحكم للحكيم السبزوارى مترجم بالفارسية وهو البرهان الثانى فيه قال : «برهان دوم آن است كه عاقله قوّت دارد بر افعال غير متناهية ... إلخ» (ص ٢٤١ ، بتصحيح الاستاد العلّامة الشعرانى وتعليقاته عليه).

وكذا نقله في الحكمة المنظومة بتحرير آخر ، قال :

والثالث قولنا : وكون فعل النفس لا انتهاء له. بيانه أنّ العاقلة تقوى على أفعال غير متناهية ، ولا شي‏ء من الجسمانيات يقوى على أفعال غير متناهية. أما الصغرى فلأنّ العاقلة تقوى على معقولات غير متناهية ، ففي إدراك كل معقول كلى يحيط بجميع أفراده الغير المتناهية لأنّ ذلك المعقول من حيث التحقق عين تمام المشترك النوعى أو الجنسى أو غيرهما لجميع أفراده فإذا عقدت قضية عقلية بأنّ النار مشرقة أحاط عاقلتك بجميع النيران ماضية أو آتية ، خارجية أو ذهنية؛ بخلاف ما في الخيال من الصورة النارية الجزئية. وكون التعقل فعلا ليس فيه كثير إشكال؛ وكفاك قولهم في الملكة العلمية إنّها عقل بسيط خلاق التفاصيل. وأما الكبرى فلما ثبت أنّ قوى الجسمانية (كذا ـ القوى الجسمانية ـ ظ) متناهية التأثير والتأثر.

أقول : هذا تمام كلام السبزوارى في تقرير هذا البرهان على تجرّد النفس الناطقة.

وناظر في كلامه : «بخلاف ما في الخيال ...» إلى قول الشيخ في الشفاء : «وليس لقائل أن يقول : كذلك المتخيلات ...» وكذا كلامه : «وكون التعقل فعلا ...» ناظر إلى كلام الشيخ في الشفاء : «ولا لقائل أن يقول : إن هذه القوّة ...» كما أنّ أصل البرهان من الشفاء. ثمّ أفاد في هامش المنظومة مطالب في بيان هذا البرهان وأجاد جدا وهي ما يلى :

قولنا أمّا الصغرى فلأنّ العاقلة تقوى على معقولات غير متناهية ، أي كل منها


غير متناهية الأفراد وهو بوحدته كلّها لأنّه مقام الكثرة في الوحدة له ، وهي مقام الوحدة في الكثرة له ، فذلك الوجود حقيقته وهذه الوجودات رقائقه وتنزلاته بلا تجاف عن الجبروت لأنّه لسعته لا يسعه الناسوت فهو كاللّف وهي كنشره ، وكالرتق وهي كفتقه‏ (أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) واذا أدركت كليا عقليا فقد شاهدت وجودا محيطا وأحاطت بجميع رقائقه المثالية والطبيعية الماضية والمستقبلة والحالية لأنّ ماهيته وماهيتها واحدة إذ الأشياء تحصل بأنفسها في الذهن والفرض وجدانك ماهيتها وعنوانها المطابق لكونك حكيما عالما بالحقائق متصورا إيّاها بالحدود والرسوم ، ووجوده النحو الأعلى الأتم لوجودها وكل بسيط الحقيقة كل ما دونه ، والوجود أي مرتبة منه مع المراتب الأخرى منه سنخ واحد ما به الامتياز فيه عين ما به الاشتراك ولهذا كان الصورة العقلية علما بكلّها. ولو لا اتصالك بل اتحادك بهذه الوجودات المحيطة الواحدة بالوحدة الجمعية لطال الأمر عليك بل تعذر معرفة الجزئيات لحاجتك إلى استيناف نظر في كل واحد واحد لتعرفها وتعرف أحكامها ، والجزئى لا يكون مكتسبا كما لا يكون كاسبا بخلاف الكلى فإنّه نور يسعى بين يدى عقلك يهديه ويقوده إلى معرفة أحكام ذاتها وصفاتها. فعليك بمزاولة إدراك الكليات والانسلاخ عن الجزئيات لأنّ كمال النفس بمعرفة الكليّات وتعقّلها لا بادراك الجزئيات بل تلك جنبة غنائها ، وهذه جنبة فقرها إلى البدن وقواه. وهذا نقص عظيم إلّا في الابتداء ليكون ذريعة إلى نيل الكلّيات بالعنوانات المطابقة كما هو شأن الحكيم المنطبق للوضع مع الطبع وإن فقد حسّا فقد علما. ثمّ إنّ الكلّية العقلية في المعقول باعتبار سعة وجوده وحيطته وعدم تناهيه مدة وشدّة بالنسبة إلى وجود رقائقه ، وأمّا عدة فهو باعتبار حصصه الغير المتناهية في أفراده الغير المتناهية ، والحصص وإن استعملت في المشهور في الكلى الطبيعى إلّا أنّا أردنا بها الدرجات الوجودية النازلة إذ الكلام في الكلى العقلى وهذا هو مرادنا بتمام المشترك في الشرح.

وبوجه آخر أقول : للنفس تعقلات غير متناهية ، وإحاطة بعلوم غير متناهية العدد في


أبواب غير متناهية ، مثل أنّها تعقل أنّ كل علة متقدمة على المعلول وجامعة لكمالات المعلول وفعلياته ويتفرع عليه في موارد غير متناهية علوم غير متناهية كما في النفوس الغير المتناهية العقول المستفادة سابقة دهرا على القول بالفعل ، وهي على العقول بالقوّة ، وكل جامع لكمالات ما دونه؛ وكما في النيّرات والكواكب الثابتات التي هي أكثر من قطرات البحار وعدد الرمال فإنّ كل نيّر ونور حسّى جسمانى له نور مدبر اسفهبد فلكى ، وفوقه نور قاهر عقلى من القواهر الأدنين وكلّها اشراق نور الأنوار بهر برهانه فإنّه نور كل نور فكل نور سابق جامع للاحقه ، وكذا العلل والمعاليل الكيانية وكل مستنير من النور الأقهر الأبهر بهر برهانه‏ اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ‏. آفتاب وجود كرد اشراق / نور او سربه‏سر گرفت آفاق. ومثل أنها تعقل أن الشيئين إما مثلان وإمّا خلافان وإمّا متقابلان بأربعتها وفروعاتها الكلية المعلومة لها غير متناهية مثل انّ الحلاوة مع البياض خلافان ، وكذا مع السواد مع الصفرة والحمرة ونظائرها ، وكذا هي مع كل طعم. ومثل أنّ الوجود والماهية خلافان ، ومن فروعها مخالفة الوجود مع ماهية الإنسان والفرس وغيرهما من الماهيات الغير المتناهية. وقس القواعد الأخر والفروع الأخر ، وانظر إحاطة النفس بالعلوم الغير المتناهية ، انّ اللّه خلق آدم على صورته ، غافل از خويش خدا مى‏طلبى / اى غلط كرده كه را مى‏طلبى؛ مخزن گنج معانى دل تست / مقصد هر دو جهان حاصل تست. فمن مطلع النور البسيط كلمعة / ومن مشروع البحر المحيط كقطرة.

ثمّ المتأله السبزوارى بعد ما قرّر الدليل المذكور على الوجه المقدّم ذكره قال :

وإذا عرفت تقرير هذا الدليل فلا تعبأ باعتراضات الفاضل القوشجى عليه عند قول العلّامة الطوسى قدّس سرّه وقوتها على ما يعجز المقارنات للمادة عنه. انتهى.

أقول : شرّاح التجريد كالعلامة الحلّي والفاضل القوشجى وصاحب الشوارق والشارح محمود الاصفهانى فسّروا قول المحقق الطوسى على نحو ما أفاده الشيخ في هذا البرهان من أنّ النفس تقدر على تعقل أمور غير متناهية ، والشي‏ء الذي يقوى على أمور غير متناهية ليس بجسم ولا جسمانى فالنفس مجرّدة عن المادة وأحكامها


المادية. ولكن الحق أنّ عبارة المحقق الطوسى أعم شمولا من التفسير المذكور لأنّه يشمل أيضا قوّة النفس وقدرتها على التصرف بمادة الكائنات ، والتعلق بها من غير أنّ تماسها أعضاؤها كالمعجزات وخوارق العادات وإظهار الكرامات والعلم بالمغيبات ، وعلم النفس بذاتها وآلاتها وإدراكاتها بلا توسط آلة بينها وبينها ونحوها مما تعجز المقارنات للمادة عنها مطلقا ، فلا وجه في انحصاره بالوجه المفسّر المذكور ، أو بالوجوه القريبة منه. ثمّ بعد ما فسّروها بالوجه المذكور أعنى كون النفس قادرة على تعقل أمور غير متناهية أوردوا عليه بعض الإيرادات الغير الواردة. وصاحب الشوارق حمل قول المحقق الطوسي على البرهان المذكور من الشفاء أوّلا ، ثمّ على برهان آخر من أنّ النفس تدرك ذاتها وآلاتها وإدراكاتها ثانيا وجعلهما بيانا لصغرى القياس. فلا بأس بنقل طائفة ممّا ذكروها حول كلامه : «وقوتها على ما يعجز المقارنات للمادة عنها» ثمّ بالإيماض إلى ما يجري بذلك :

قال في كشف المراد في شرح قول المحقق الطوسى : «وقوتها على ما تعجز المقارنات عنه» وهو الوجه الثالث من وجوه أدلة تجرّد النفس الناطقة الإنسانية ، ما هذا لفظه :

أقول : هذا هو الوجه الثالث ، وتقريره أنّ النفوس البشرية تقوى على ما لا تقوى عليه المقارنات للمادة فلا تكون مادية لأنّها تقوى على ما لا يتناهى لأنّها تقوى على تعقلات الأعداد غير المتناهية ، وقد بينّا أنّ القوّة الجسمانية لا تقوى على ما لا يتناهى فتكون مجرّدة. وفيه نظر لأنّ التعقل قبول لا فعل ، وقبول ما لا يتناهى للجسمانيات ممكن. انتهى.

أقول : قوله لأنّها تقوى على ما لا يتناهى ، إن كان المراد بيان فرد مما يشمله كلام المحقق الطوسى فلا كلام فيه ، وإلّا فقد دريت انّه اعمّ شمولا منه. ثمّ انّ نظر صاحب الكشف منظور فيه وذلك لأنّ التعقل هو صورة علمية جمعية فتارة هي معنى معقول غير متناهى الأفراد ، وتارة هي حقيقة وجودية نورية لها شئون نورية ذات شجون هي رقائقه ، وهذا الشخص من الجسم الخارجى مقارن للمادة وممنو بالمكان والزمان ليس‏


بصورة خيالية شاعرة فضلا عن أن تكون صورة عقلية فما فوقها من الحقيقة الوجودية المتشأنة بشئوناتها الظلية. والحقّ أنّ التحقيق التام الذي حكيناه عن المتأله السبزوارى آنفا لا يبقى مجالا للتفوّه بأمثال هذه الشبه.

قال الفاضل القوشجى في شرح قول المحقق الطوسى : «وقوّتها على ما يعجز المقارنات عنه» ما هذه حكاية ألفاظه :

يعنى أنّ النفس الناطقة تقوى على معقولات غير متناهية ، وقد سبق أنّ أفعال الماديات متناهية.

وأجيب بأنّ التعقل عبارة عن قبول النفس الصورة العقلية وهو انفعال لا فعل والانفعالات الغير المتناهية جائزة على الجسمانيات كما في النفوس الفلكية المنطبعة وهيولى الأجسام العنصرية.

أقول : ولو سلّم أنّه فعل ، قولكم النفس تقوى على معقولات غير متناهية إن أردتم به أنّها لا تنتهى إلى معقول إلّا وهي تقوى على تعقل آخر بعده فالقوى الجسمانية أيضا كذلك فإنّ القوّة الخيالية مثلا لا تنتهى في تصور الأشكال إلى حدّ إلّا وهي تقوى على تصور شكل آخر بعده. وإن عنيتم به أنّها تستحضر معقولات لا نهاية لها دفعة واحدة فهو ممنوع ، إلّا أن يريدوا أنّها يتصور مفهوما كليا ويلاحظ أفراده الغير المتناهية في ضمن ذلك المفهوم الكلى إجمالا والقوى الجسمانية لا تقدر على تعقل ذلك. قلنا ذلك لأنّها لا تقدر على تعقل الكلّى فيرجع إلى الوجه الأوّل بعينه. وأيضا فإنّ النفس تدرك ذاتها وآلاتها وإدراكاتها والمدرك الجسماني ليس كذلك كالباصرة والسامعة والوهم والخيال لأنّها تنعقل بتوسط آلة ولا يمكن توسط الآلة بين الشي‏ء وذاته وآلته وإدراكاته.

وأجيب عن ذلك بأنّه لم لا يجوز أن يدرك بعض الجسمانيات ذاتها وإدراكاتها من غير توسط آلة وكذا ما هو آلة لها في سائر الإدراكات. انتهى.

أقول : التعقل كالتفكير فعل يخصّ النفس بوجه خاص. والصورة العقلية مطلقا جوهر مدرك لذاته فهو عقل وعاقل ومعقول. والتعقل في الحقيقة ارتقاء النفس إلى‏


تلك الصورة العقلية واتحادها بها عينا ووجودا فالتعقل أشمخ درجة من أن يتفوّه حوله القبول والانفعال والحلول والحال والمحل ونحوها. والمراد من الفعل في المقام هو مطلق اتصاف النفس بمدركاتها. فافهم.

ثمّ كون الجسم قابلا للانفعالات الغير المتناهية بالقوّة أمر ، وكون النفس حائزة للصور العلمية الغير المتناهية بالفعل إلى حد يصير وعاء لحقائق الكلمات النورية ويقرأ في شأنها (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) مثلا أمر آخر. والتفاوت بين الأمرين كالتفاوت بين الجسم والعقل كما أشرنا إليه آنفا.

قوله : «والنفوس الفلكية المنطبعة إلخ». التحقيق أنّ النفوس الفلكية كالنفوس الإنسانية لها مراتب أرفعها هي العاقلة وأنزلها هي المنطبعة. والمنطبعة وإن كانت بتبع الجسم أعنى البدن ينقسم ، ولكن النفس من حيث هي روح مدبرة للبدن غير منقسمة.

قوله : «فإنّ القوّة الخيالية مثلا ...». القوّة الخيالية كسائر القوى من شئون النفس. وليست الخيال من القوى الجسمانية ، بل هي مجرّدة بالبراهين القاطعة السالفة. ثمّ إنّ هذه القوّة التي جبلت للمحاكاة وتصوير المعانى على صور مناسبة لها ، لها فسحة عظيمة تتصوّر بالأشكال والأشباح والصور الكثيرة فوق الإحصاء دفعة واحدة. كما أنّ نمازج منها ترى في المنامات بالغة إلى ما شاء اللّه كثرة وكلها منتشأة من القوّة الخيالية المسخّرة تحت سيطرة النفس ، وأنّى للقوى الجسمانية هذه الفسحة العظيمة؟! كيف لا وقد بيّن أساطين المعارف الحقة في خواص النبوّة أنّ النبيّ يجب أن يكون قوّته المتخيّلة في كمال السعة والصفاء والقدرة كما أنّ عاقلته كذلك حتى يتعقل الحقائق الآلهية كما ، ويتمثل في خياله حقيقة الملك وصور المعانى على التفصيل الذي حرّرناه وبينّاه في شرح الفصلين الثالث والثلاثين والرابع والثلاثين من فصوص الفارابى من كتابنا نصوص الحكم (ص ١٨٨ ـ ٢٠٦ ، ط ١ ، ايران).

قوله : «وإن عنيتم به انّها تستحضر معقولات لا نهاية لها دفعة واحدة إلخ».

أقول : قد اغنانا ما تقدّم آنفا من التحقيق التام الذي أفاده المتأله السبزوارى في أنّ العاقلة تقوي على معقولات غير متناهية عن إيراد ما يرد عليه ، وإبرام ما هو الحقيق‏


في المقام. ويجب الفرق بين دفعة زمانية وآنية وبين دفعة دهرية فان الأوليين لا يليقان بعالم العقل بخلاف الثانية كالفرق بين الجسم الزمانى وبين الجسم الدهرى فافهم.

قوله : «وأيضا فإنّ النفس تدرك ذاتها إلخ».

أقول : هذا البيان هو أحد المصاديق المستفاد من قول المحقق الطوسى : «وقوتها على ما يعجز المقارنات للمادة عنه». كما تقدّم كلامنا فيه.

وأمّا قوله : «وأجيب عن ذلك بأنّه لم لا يجوز إلخ» فسيأتى التحقيق الحقيق بذلك في البراهين الآتية فيعلم دليل عدم الجواز الذي توهمه المجيب. وصاحب الشوارق ناظر إليه بقوله :

وما قيل لم لا يجوز أن يدرك بعض الجسمانيات ذاتها وآلتها وإدراكاتها من غير توسط آلة ، ففساده ظاهر ، لأنّه لو كان كذلك لم يكن جسمانيا ، إذ لا معنى للجسمانى إلّا ما يدرك ويعقل بالجسم.

ثمّ قال :

فإن قلت : هذا الدليل منقوض بنفوس الحيوانات العجم فإنّها تدرك ذواتها وآلاتها مع كونها مادية.

قلت إدراكها لذواتها كما يدرك الإنسان ذاته أعنى مع الغفلة عن الحواس ممنوع بل الظاهر أنّ إدراكها انّما هو لبدنها وعوارضه باللمس والحس لا غير فليتدبر وبالجملة لا نقض إلّا مع العلم. انتهى.

أقول : وقد حرّرنا الكلام في النفس الحيوانية في العين الإحدى والعشرين من كتابنا العيون.

اعلم أنّ هذا البرهان المذكور من الشفاء والنجاة ورسالة الشيخ في النفس وبقائها ومعادها ، هو ما جعله الفخر الرازى في المباحث المشرقية الدليل الثالث من أدلة تجرّد النفس الإنسانية بتحرير آخر. (ج ٢ ، ص ٣٦٠ ، ط حيدرآباد). وأيضا هو ما جعله صدر المتألهين في نفس الأسفار الحجة الرابعة من حجج تجرّد النفس تجرّدا تاما عقليا (ج ٤ ، ص ٦٩ و ٧٠ ، ط ، ايران) وصاحب الأسفار نقل عبارة صاحب المباحث في‏


تقرير الحجة؛ إلّا أنّ صاحب الأسفار أفاد في أثناء عبارات المباحث عدّة إشارات لطيفة معنونة بقوله : أقول ، هي مع عبارات الفخر كالشرح المزجى لبيان الحجة ، فنحن نأتى بما في الأسفار ثمّ نتبعه بعون الفيّاض على الإطلاق بعض الإيماضات حولها فيعلم من جميع ذلك أنّ الحجة في غاية الإتقان وهي حجة قاطعة على طالبى الإيقان في معرفة النفس بنور البرهان ، والاعتراضات التي اوردوها عليها موهونة جدّا. ثمّ وقد حرّفت في الأسفار المطبوعة كلمة صاحب المباحث بصاحب المباحثات والصواب هو الأوّل بلا مراء. فعليك بما في الأسفار من تقرير الحجة على النهج الذي وصفناه :

الحجة الرابعة أنّ القوة العاقلة تقوى على أفعال غير متناهية ، ولا شي‏ء من القوى الجسمانية يقوي على أفعال غير متناهية ، فلا شي‏ء من القوى العاقلة جسمانية. أمّا الصغرى فانّها تقوى على إدراك الأعداد ولا نهاية لمراتبها مع أنّها أحد الأنواع المدركة للقوّة العاقلة؛ وأمّا بيان الكبرى فقد سبق.

قال صاحب المباحث أنّ إثبات كون القوى الجسمانية متناهية الفعل يحتاج إلى أن نبيّن أنّها منقسمة بانقسام محلّها فيرد النقوض الموردة على الحجة الأولى أعنى النقض بالنقطة والواحدة والإضافة ومدركات الوهم وغيرها.

أقول : قد مرّ اندفاع تلك النقوض بحمد اللّه.

ثمّ قال : ثمّ على هذه الحجة أسئلة زائدة تخصّها :

أوّلها : أنا لا نسلّم أنّ القوة الناطقة تقوى على إدراك أمور غير متناهية دفعة ، بل إدراكا لا ينتهى إلى حد إلّا ويقوى بعد ذلك على إدراك شي‏ء آخر ، ولكن لا يلزم من ذلك كونها قوية على إدراكات غير متناهية كما أنّ الجسم لا ينتهى في الانقسام إلى حدّ يقف عنده ولكن يستحيل أن يحصل له تقسيمات غير متناهية بالفعل فكذلك هاهنا. وبالجملة فالحال في فاعلية تلك القوّة كالحال في منفعليته.

الثانى : سلمنا أنّها قوية على أمور غير متناهية ، ولكن لم قلتم انّها قوية على أفعال غير متناهية؟ وذلك لأنّ الإدراك ليس فعلا بل هو انفعال وانتم تجوّزون أن يكون الأمر الجسماني قويا على انفعالات غير متناهية. والدليل عليه أنّكم تثبتون هيولى


أزلية قد تواردت عليها صور غير متناهية.

الثالث : النقض بالنفوس الفلكية فانّها عندكم قوى جسمانية مع أنّ أفعالها وهي الحركة الدورية غير متناهية.

والجواب : أمّا عن الأوّل فلا شك أنّ القوة الناطقة لا تنتهى إلى حد إلّا وتقوى على إدراك أمور أخر وقد قام البرهان على أنّ القوى الجسمانية لا يمكن أن يكون كذلك فقد حصل الغرض. ولقائل أن يقول : القوّة الجسمانية إمّا أن يقال إنّها تنتهى إلى وقت لا يبقى لها إمكان الوجود وبعد ذلك يصير ممتنع الوجود ، أو لا تنتهي إلى هذه الحالة البتة. والأوّل باطل لأنّ الممكن لذاته لا يصير ممتنعا لذاته. وأمّا الثاني فنقول : إذا كانت القوّة الجسمانية لا يجب انتهاؤها إلى حيث يزول عنه إمكان الوجود ، فهي إذا أبدا في ذاتها ممكنة الوجود ولا ينتهى إلى أن يستحيل بقاؤها أبدا ، ومتى كانت باقية أبدا كانت مؤثرة وتجويز ذلك يبطل أصل الحجة.

أقول : إنّ الإمكان الذاتي ومقابله من عوارض الماهيات من حيث هي إذا قيست إلى الوجود ، والقوى عبارة عن موجودات متشخصة والموجود بما هو موجود أمر شخصى ويكون الزمان الخاص من مشخصاته ، فوجوب نحو خاص من الوجود وامتناع نحو آخر منه بخصوصه لا يخرج الماهية المشتركة بينها عن الإمكان الذي هو حالها من حيث هي هى والبرهان قائم على امتناع لا تناهى الأفعال لواحد شخصى من الجسم لا على امتناع ذلك لواحد نوعى ، والوحدة العددية حكمها غير الوحدة النوعية.

وأمّا عن السؤال الثانى فهب أنّ الإدراك نفسه انفعال ولكن فعل النفس في تركيب المقدمات وتحليلها وذلك كاف في غرضنا.

أقول : انّ جهة انفعالات القوى غير منفكة عن جهة أفاعيلها وإن كانت الجهتان مختلفتين فإنّ الشي‏ء ما لم يكن له وجود لا ينفعل عن شي‏ء آخر فالقوّة الجسمانية كما لا تقوى على أفعال غير متناهية كذلك لا تقوى على انفعالات غير متناهية. وأمّا النقض بالهيولى فهو مندفع بأنّ الهيولى في ذاتها ليست لها هوية باقية بالعدد لأنّها


ضعيفة الوحدة مبهمة الوجود ، وحدتها على نحو الوحدة الجنسية وهي بحسب تحصّلاتها الصورية متبدلة متجددة كما مرّ بيانه.

فإن قلت : ألستم قد بيّنتم الفرق بين الحس المشترك وبين المفكرة بأنّ أحدهما مدرك والآخر متصرف والقوّة الواحدة لا تكون مبدءا للإدراك والتصرف فكيف تنسون ذلك وتحكمون بأنّ النفس قوية على الفعل وهو التصرف في المقدمات وتركيبها ، والانفعال وهو التصور وقبول الصور؟ قلت إنّ النفس لها قوتان علمية وعملية وتفعل بأحدهما وتنفعل بالأخرى.

وأمّا عن الثالث فقيل إنّ النفوس الفلكية وإن كانت جسمانية إلّا أنّها غير مستقلة في أفعالها من التحريكات ، فهي في ذاتها وإن كانت متناهية القوّة إلّا أنّها بما يسنح عليها من أنوار العقل صارت غير متناهية.

واعترض عليه بأنّ القوّة العقلية إذا حركت الفلك فإمّا أن يفيد الحركة أو قوّة بها يكون الحركة. فإن أفادت القوّة المحركة وهي جسمانية فالقوّة الفاعلة للأفعال الغير المتناهية جسمانية. وإن كانت القوّة العقلية مفيدة للحركة لم يكن القوّة الجسمانية مبدءا لتلك الحركة فلا يكون الحركة حركة. وأيضا يلزم أن يكون الجسم بما هو جسم قابلا لتأثير العقل المفارق من غير أن يكون فيه قوّة جسمانية ومحال.

أقول : هذا أنّما يلزم لو كان الوسط في التأثير قوّة واحدة بالعدد أو ضميمة واحدة بالعدد. وأمّا إذا كانت الواردات من العقل المفارق على مادة الفلك قوى متجددة كما رأينا ، أو كيفيات مستحيلة فلا يلزم شي‏ء من المحذورين ، وقد مرّ نظير هذا الكلام فيما سبق. ولكن بقي الكلام هاهنا بأنّه إذا جاز ذلك في القوى الفلكية مع كونها جسمانية فلم لا يجوز أن تكون القوّة الناطقة جسمانية؟ لكنها بما يسنح عليها من نور العقل الفعّال تقوى على الأفعال الغير المتناهية.

وأقول : ويؤيّد هذا البحث أنّ قوّة التخيل مع كونها غير عقلية أيضا تقوى على تصويرات غير متناهية لا تقف عند حدود ذلك لأنّها ، مستمدّة من عالم العقل. انتهى كلام صاحب الأسفار في المقام.


أقول : صاحب الأسفار نقل عبارات المباحث مع تصرّف فيها روما للاختصار. قوله : «وبالجملة فالحال ...» اى الحال في فاعلية القوّة العاقلة الناطقة كالحال في منفعلية الجسم عن الانقسام.

قوله : «والجواب أمّا عن الأوّل ...» هذا من تتمة كلام صاحب المباحث إلى قوله يبطل أصل الحجة. وكذا قوله : «وأمّا عن السؤال الثانى» إلى قوله : «كاف في غرضنا». وكذا قوله : «فإن قلت ألستم قد بينتم» إلى قوله «وقبول الصور». وكذلك قوله : «وأمّا عن الثالث» إلى قوله : «على الأفعال الغير المتناهية». ولكن كما قلنا مع نحو تصرف في عبارات المباحث.

قوله : «فإنّها عندكم قوى جسمانية». هذا على رأى طائفة من المشائين. والحق ـ كما أشرنا إليه آنفا ـ أنّ وزان النفوس الفلكية مع الأجرام الفلكية وزان النفوس الناطقة الإنسانية مع أبدانها كما برهن في محلّه.

قوله : «والجواب أمّا عن الأوّل إلخ» على أنّ القوّة الناطقة وإن كانت لا تنتهى إلى حدّ إلّا وتقوى على ادراك أمور أخر والقوى الجسمانية ليست كذلك كما دل عليه البرهان ولكنّ النفس تقوى أن تدرك أيضا اللانهاية والأمور الغير المتناهية دفعة بلا دخالة تعاقب الإدراكات فافهم.

قوله : «ولقائل أن يقول القوّة الجسمانية» ، أي نوعها لا شخصها. أعنى يجب أن تكون القوّة الجسمانية الشخصية متناهية لا القوّة الجسمانية النوعية كما يشير إليه قول صاحب الأسفار في جوابه : «والبرهان قائم على امتناع لا تناهى الأفعال لواحد شخصى من الجسم ، لا على امتناع ذلك لواحد نوعي ، والوحدة العددية حكمها غير الوحدة النوعية». وهذا التحقيق الأنيق هو جواب صاحب الأسفار عن شبهة الفخر بقوله : «ولقائل أن يقول القوّة الجسمانية إلخ» فهي مدفوعة.

قوله : «أقول انّ جهة انفعالات القوى ...» كان وجه الاعتراض أنّ الإدراك ليس فعلا بل انفعال ، والأمر الجسمانى يكون قويا على انفعالات غير متناهية فلا يتم الحجة على تجرّد النفس الناطقة. فأجاب الفخر عن الاعتراض بأنّ الإدراك وإن كان انفعالا ولكن‏


تركيب المقدمات وتحليلها فعل النفس فبهذا الوجه تكون النفس قوية على افعال غير متناهية وليس الأمر الجسمانى كذلك فالنفس ليست بجسمانية. وأجاب صاحب الأسفار عن الاعتراض بقوله : «إنّ جهة انفعالات القوى غير منفكة عن جهة أفاعيلها إلخ». ولا يخفى عليك أنّ الفعل تارة يطلق في مقابل القوّة والاستعداد ، وتارة يطلق في مقابل الانفعال. والمقصود في المقام هو الفعل بالإطلاق الثانى ولا يخفى عليك أنّه خلّط بين الفعل في مقابل القوّة والاستعداد والفعل في مقابل الانفعال ، اللهم إلا أن يريد من الوجود مبدأ الأفعال فقوله فإنّ الشي‏ء ما لم يكن له وجود لا ينفعل عن شي‏ء آخر ، أي الوجود فعلية ومبدأ الأفعال فانفعالات القوى الغير المتناهية ترجع إلى أفاعيلها الغير المتناهية. والفرق بين جوابه وجواب الفخر عن الاعتراض ظاهر.

قوله : «وأمّا النقض بالهيولى إلخ». أجاب عن النقض بوجهين أحدهما أنّ الهيولى في ذاتها مبهمة الوجود. وثانيهما أنّها متحدة الوجود بحسب تحصلاتها الصورية بالحركة الجوهرية. والسؤال أنّما كان على وحدتها العددية الثابتة الباقية الدائمة وقبولها الصور الغير المتناهية كما هو رأى المتأخرين من المشاء فتبصّر. ولا يخفى عليك أنّ الهيولى على الحركة في الجوهر غير ثابتة في الخارج وانّما ثباتها في الذهن فقط فهي في الخارج مع كل صورة بحسبها.

قوله : «وهو محال» وذلك للزوم تجسم العقل ، أو تروح الجسم.

قوله : «قوى متجددة كما رأينا» يعنى به الحركة الجوهرية. والكيفيات المستحيلة قيل هي الأحوال الطارية على الفلك كالتعقلات المتتالية والتشبهات المتعاقبة إلى ما فوقه من العقل المفارق ، ولكن الاستحالة كالقوّة يجب أن يتطرّق فيها التناهى أو اللاتناهى وهما من صفات الكم.

قوله : «وأقول ويؤيد هذا البحث أنّ قوّة التخيّل ...» أي ويؤيّد هذا البرهان في تجرّد النفس أنّ قوّة التخيّل مع كونها دون قوّة التعقل تقوى على تصويرات غير متناهية على التعاقب لا تقف عند حدّ ، بل تقوى عليها دفعة دهرية غير آنية ولا زمانية فالقوّة العاقلة التي فوقها تجرّدا وسعة أولى بذلك. وقد تقدم آنفا الكلام في فسحة القوّة الخيالية.


خلاصة البرهان : المعقولات غير متناهية بالقوّة ، وشأن القوّة الناطقة أن تعقلها بالقوّة أي القوّة العاقلة تقوى على أفعال غير متناهية ، والجسم والجسمانى ليس لهما هذه الشأنية أي ولا شي‏ء من القوى الجسمانية تقوى على أفعال غير متناهية ، فالقوّة الناطقة أي النفس الناطقة ليست بجسم ولا قوّة في جسم.

بل الشيخ (رضوان اللّه تعالى عليه) لخّص البرهان في عيون الحكمة وقد أتى فيه أربعة براهين على أنّ جوهر النفس مفارق غير مخالط للمادة ، وهذا البرهان هو الرابع منها قال في آخر الطبيعيات منه وهو آخر الفصل السادس عشر منه ما هذا لفظه في تقرير البرهان ملخصا :

وأيضا فإنّه ليس لشي‏ء من الأجسام قوّة أن يطلب أو يفعل أمورا من غير نهاية ، والمعقولات التي للعقل أن يعقل أيّها شاء كالصورة العددية والشكل وغير ذلك بلا نهاية؛ فإذن هذه القوّة ليست بجسم ، لأنّ كلّ جسم قوّته الفعلية متناهية؛ لست أعنى الانفعالية فإنّ ذلك لا يمتنع.

ثمّ ختم كلامه بقوله : فقد بان لك أنّ مدرك المعقولات ، وهو النفس الإنسانية ، جوهر غير مخالط للمادّة ، بري‏ء عن الأجسام ، منفرد الذات بالقوام والعقل.

البرهان الرابع من الباب الخامس من رسالة الشيخ الفارسية في معرفة النفس هو البرهان الخامس من نفس الشفاء ، فقد حرره الشيخ فيها بأوجز بيان وتلخيص فقال : «برهان ديگر معلوم است كه صور معقولات كه ...» (ص ٣٩ ، ١٣٧١ هـ. ق ، ط ، ١ ، ايران ، بتصحيح الدكتور موسى عميد).

قد ذكر الشيخ في الرسالة المذكورة أربعة براهين من الشفاء على تجرّد النفس وقد أوجز في تحريرها بالفارسية : الأوّل منها هو الأوّل منه ، والثانى منها هو الثالث منه ، والثالث منها هو الثانى منه ، والرابع منها هو الخامس منه ، كما تقدم التنبيه على ذلك في أثناء شروح البراهين المذكورة.

وكذلك الشيخ قدّس سرّه في رسالته في السعادة والحجج العشر على أن النفس الإنسانية جوهر مفارق ، قد حرّر البرهان الخامس من نفس الشفاء بعبارة أخرى تتضمن تمثيلا


مبينا لما في الشفاء من البرهان ، قال :

الحجة الثامنة؛ الصور الهندسية والعددية والحاصلة من تركيب ذوات الموجودات القابلة له على المناسبات غير متناهية في ذواتها ، والشي‏ء الذي يعقل به الإنسان له قوّة أن يعقل أيّما واحد منها كان ، ومهما ازداد منها زاد في القوّة ، وليست الصورة التي من شأنها أن يعقلها بمفردة الذوات عن جملتها. فتبيّن أنّ قوّته غير متناهية ، إذا القوّة الغير المتناهية غير منتصفة ، وكل قوّة جسمانية منتصفة بتنصّف الجسم الذي هي فيه. فإذا محل الحكم جوهر غير جسماني؛ وذلك ما أردنا أن نبين. (ص ١٠ ، ط ١ ، حيدرآباد الدكن).

وكذلك حرّره بتحرير آخر يتضمن ذلك التمثيل أيضا مع أنّه أبسط ممّا في رسالة السعادة ، في رسالته الأخرى النفسية أهداها للأمير نوح الساماني ، وهي مبحث عن القوى النفسانيّة ، أو كتاب في النفس على سنة الاختصار ومقتضى طريقة المنطقيين. وهو البرهان الخامس فيها أيضا قال :

ومن البراهين على صحة هذه الدعوى أنّ من البيّن أن ليس شي‏ء من القوى الجسمانية له قوّة على أفاعيل غير متناهية ، وذلك لأنّ قوّة نصف من ذلك الجسم لا محالة توجد أضعف من قوّة الجميع ، والأضعف أقل تقويا عليه من الأقوى ، وما قل من غير المتناهي فهو متناه ، فإذن قوّة كل واحد من النصفين متناهية ، فإذن مجموعها متناه ، إذ مجموع المتناهيين متناه ، وقد قيل إنّه غير متناه وهذا خلف.

فإذن الصحيح أنّ قوى الأجسام لا تقوى على أفاعيل غير متناهية. ثمّ القوة الناطقة تقوى على أفاعيل غير متناهية ، إذ الصّور الهندسية والعددية والحكميّة التي للقوّة النطقية أن تفعل فيها أفعالا ما غير متناهية؛ فإذن القوّة النطقيّة ليست بقائمة بالجسم ، فهي إذن قائمة بذاتها وجوهر بذاتها. ثمّ من البيّن أنّ فساد احد الجوهرين المجتمعين لا يقتضى فساد الثانى ، فإذن موت البدن لا يوجب موت النفس. وذلك ما أردنا أن نبيّن (ص ٧١ و ٧٢ ، ط مصر بتصحيح ادور فنديك. وص ١٧٥ من أربع رسائل نفسية للشيخ ، ط مصر ، بتصحيح الأهواني).


بيان : الصور الهندسية في الرسالتين مبتدأ ، وغير متناهية خبر له ، فما جاء في نسخة الأهواني : «إذ للصور الهندسية والعددية ...» وهم بلا مراء ، كما أنّ عبارة الشيخ في رسالة السعادة كالنصّ على ذلك حيث وقع «الصور الهندسية» أوّل العبارة؛ على أنّ بياننا الآتى ذكره يزيح الدغدغة رأسا.

وكذا قد حرّره بتحرير آخر نافع جدّا في تقرير هذا البرهان في رسالته الأخرى ، وهي سبعة من المقاييس المنطقية على بقاء النفس الناطقة. وهذا البرهان في تلك الرسالة هو القياس الثالث منها ، قال :

القياس الثالث : العلوم الحقيقية التي يقبلها الإنسان لسعيها لا بدّ لها من محلّ جوهريّ الذات صالح لقبولها فالجبلّة الإنسانية تكون ذات جوهر صالح لقبول ما يقبله من علومه ، وليس يشكّ كلّما ازداد اقتناء للعلوم ازداد به اقتدارا على علومها فإذا الجوهر الصالح منه لقبول العلم يجب أن تكون قوته على قبوله غير متناهية ، وإذا كان هذا سوس القابل لعلمه ثمّ لم يشك أنّ القالب الجسدانى لا يجوز أن يكون ذا قوّة بقبول شي‏ء من أعراض غير متناهية فإنّه في ذاته جسم ذو مقدار متناه ولن يجوز أن يكون ذو المقدار المتناهي ذا قوة متناهية لأنّ مقداره متى يوهم مضاعفا لحصلت نسبة القوّة إليه متناصفة ، فإذا القالب الجسدانى لن يجوز أن يكون محلا للعلوم فالقابل لها إذا يجب بأن يكون جوهرا غير جسمانى ، ولو كان غير جوهر لما كان محلا للعلوم ، ولو كان جسمانيا لكان قبوله للعلم إلى نهاية محدودة لا يجاوزها في القوّة حسب ما شوهد من الحال في قبوله للسواد والحرارة وليست النفس الناطقة في الحقيقة إلّا الجوهر الصالح لأن يكون محلا للعلوم ، فالجبلّة الإنسانية إذا وإن وجدت مشتملة عليها وعلى القالب فلن يجوز أن يكون نظيرا لذى القوّة المتناهية ، وانتقاض ذا القوّة لن يجوز أن يكون موهنا لذا القوّة المتناهية؛ ثمّ الفعل المختص بالجسم لن يعدو ذات الجسم ولن يجوز أن يوجد أعظم من الجسم وفعل النفس الناطقة قد ينفذ الأماكن البعيدة في الحالة الواحدة فقد يوجد كليا أبديا ، اللهم إلّا أن يظن ظانّ أنّها لو كانت ذات قوّة غير متناهية لاستصلحت طبع القالب دفعة لا في‏


مدة ، ولما ضعفت عن الاستصلاح في شي‏ء من حالاتها مدة أصلا غير أن الخطب في إزالة هذا الظن يسير فإنّ استصلاحها للقالب لا يكون إلّا بآلة معدّة لها وهي الطبيعة ، ثمّ الطبيعة في ذاتها قوّة متناهية فأمّا قبولها فلن يكون إلّا لمجرّد ذاتها ، ولهذا ليست يحتاج فيه إلى المدّة ولن يلحق فتور في القوّة وباللّه التوفيق.

تبصرة : هذا البرهان كما يدل على تجرّد النفس الناطقة كذلك يدلّ على أنّ لها مقام فوق التجرّد حيث قال : «فاذا الجوهر الصالح منه لقبول العلم يجب أن تكون قوته على قبوله غير متناهية ...» ونحوه من عبارات أخرى في هذا القياس.

وكذلك البرهان الذي نقلناه قبل هذا البرهان من رسالته السعادة ناطق بأنّ للنفس مقام فوق التجرّد حيث قال : «ثمّ القوّة الناطقة تقوى على أفاعيل غير متناهية ...».

ثمّ ما أشار إليه الشيخ في رسالة السعادة في أثناء البرهان من قوله : «إذا الصور الهندسيّة والعددية ...» فراجع في بيانه الدرس الثانى عشر من كتابنا دروس معرفة الوقت والقبلة ، وكذلك كتابنا الآخر إنسان وقرآن في بيان درجات آيات القرآن (ص ٧٧ ـ ١٠٨) ، سيّما الباب الأوّل من رسالتنا المسماة بـ الصحيفة الزّبرجديّة في كلمات سجّاديّة.


يد) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا ، وهو البرهان

السادس من نفس الشفاء في أنّ قوام النفس الناطقة غير منطبعة في مادة جسمانية.

قال الشيخ :

ولنستشهد أيضا على ما بيّناه بالكلام الناظر في جوهر النفس الناطقة وفي أخص فعل له بدلائل من أحوال أفعال أخرى له مناسبة لما ذكرناه فنقول :

إنّ القوّة العقلية لو كانت تعقل بالآلة الجسدانية حتى يكون فعلها الخاص أنما يستتمّ باستعمال تلك الآلة الجسدانية لكان يجب أن لا تعقل ذاتها ، وأن لا تعقل الآلة ، وأن لا تعقل أنّها عقلت فإنّه ليس بينها وبين ذاتها آلة ، وليس لها بينها وبين آلتها آلة ، وليس لها بينها وبين أنّها عقلت آلة لكنّها تعقل ذاتها وآلتها التي تدعى لها ، وأنّها عقلت فإذن تعقل بذاتها لا بآلة.

بل قد نحقق فنقول : لا يخلو إمّا أن يكون تعقّلها آلتها لوجود ذات صورة آلتها تلك ، أو لوجود صورة أخرى مخالفة لها بالعدد وهي أيضا فيها وفي آلتها ، أو لوجود صورة أخرى غير صورة آلتها تلك بالنوع وهي فيها وفي آلتها :

فإن كان لوجود صورة آلتها فصورة آلتها في آلتها وفيها بالشركة دائما فيجب أن تعقل آلتها دائما إذ كانت أنّما تعقلها لوصول الصورة إليها.

وإن كان لوجود صورة لآلتها غير تلك الصورة بالعدد فذلك باطل : أمّا أوّلا فلأنّ المغايرة بين أشياء تدخل في حدّ واحد إمّا لاختلاف المواد والأحوال والأعراض ، وإمّا لاختلاف ما بين الكلى والجزئى ، والمجرّد عن المادة والموجود في المادة؛ وليس هاهنا اختلاف مواد وأعراض فإنّ المادة واحدة والأعراض لموجودة واحدة؛


وليس هاهنا اختلاف التجريد والوجود في المادة فإنّ كليهما في المادّة؛ وليس هاهنا اختلاف الخصوص والعموم لأنّ إحداهما إن استفادت جزئية فإنّما تستفيد الجزئية بسبب المادة الجزئية واللواحق التي تلحقها من جهة المادة التي فيها وهذا المعنى لا يختص بإحداهما دون الأخرى. ولا يلزم هذا على إدراك النفس ذاتها فانّها تدرك دائما ذاتها وإن كانت قد تدركها في الأغلب مقارنة للأجسام التي هي معها على ما بيناه.

وأنت تعلم أنّه لا يجوز أن يكون لوجود صورة أخرى غير صورة آلتها فإنّ هذا أشد استحالة لأنّ الصورة المعقولة إذا حلّت الجوهر العاقل جعلته عاقلا لما تلك الصورة صورته ، أو لما تلك الصورة مضافة إليه فتكون صورة المضاف داخلة في هذه الصورة وهذه الصورة المعقولة ليست صورة هذه الآلة ، ولا صورة شي‏ء مضاف إليها بالذات لأنّ ذات هذه الآلة جوهر ونحن أنّما نجد (نأخذ ـ خ ل) ونعتبر صورة ذاته والجوهر في ذاته غير مضاف البتة.

فهذا برهان واضح على أنّه لا يجوز أن يدرك المدرك بالآلة آلته في الإدراك. ولهذا فإنّ الحسّ أنّما يحسّ شيئا خارجا ولا يحس ذاته ولا آلته ولا إحساسه. وكذلك الخيال لا يتخيّل ذاته ولا فعله البتّة ، بل إن تخيّل آلته تخيّلها لا على نحو يخصّه وأنّها لا محالة له دون غيره إلّا أن يكون الحسّ يورد عليه صورة آلته لو أمكن فيكون حينئذ أنّما يحكى خيالا مأخوذا من الحس غير مضاف عنده إلى شي‏ء حتى لو لم يكن هو آلته لم يتخيّله.

بيان : الغرض من البرهان أنّ تعقّل القوّة العقلية ليس بالآلة الجسدية ، كما هو عنوان البرهان في النجاة.

قوله : « أنّما يستتم » ، وفي نسختين من الشفاء عندنا «أنّما يستقيم» مكان «أنّما يستتمّ».

قوله : « وأنّها عقلت » عطف على قوله : « ذاتها وآلتها » أي تعقل ذاتها وآلتها التي تدعى لها ، وتعقل أنّها عقلت ، أي تعقل تعقّلها وإدراكها.


قوله : «مخالفة لها بالعدد» أي لا بالنوع بقرينة مقابلته لقوله بالنوع. وهي أي الصورة الأخرى أيضا في النفس وفي آلتها. وأمّا بيان المخالفة بالنوع فسيأتى في قوله : وأنت تعلم أنّه لا يجوز إلخ».

قوله : «فصورة آلتها في آلتها وفيها بالشركة» قال الملّا عبد الرزاق في بيانه : «يعنى أنّ صورة آلتها قائمة في مادة آلتها فتكون في آلتها ، وكذلك تكون فيها أي في القوّة العاقلة أيضا لأنّ المفروض أنّ القوة العاقلة حالّة في مادة آلتها فهي أعنى صورة الآلة كما تكون حاضرة لمادّة الآلة تكون حاضرة للقوّة العاقلة أيضا فيجب أن تكون عاقلة لصورة الآلة دائما.

وقوله : «بالشركة» معناه أنّ صورة الآلة صورة واحدة موجودة لكليهما لا أن تكون الموجودة للعاقلة صورة أخرى مخالفة للموجود للآلة بالعدد أو بالماهية فتدبّر لتفهم معنى قوله : «وفي آلتها» في العبارتين السابقتين أيضا انتهى كلامه.

قوله : فذلك باطل أمّا أوّلا ، هكذا في جميع نسخ الشفاء التي عندنا ، ولكنه لم يأت في قباله بما يكون هو ثانيا.

قوله : «وأنت تعلم أنّه لا يجوز أن يكون بوجود صورة أخرى غير صورة آلتها» أى لا يجوز أن يكون تعقّلها آلتها بوجود صورة أخرى غير صورة آلتها بالنوع.

قوله : «على ما بيّناه» أقول : بيّنه في موضعين من نفس الشفاء أحدهما في أوّل الأولى (ج ١ ، ص ٢٨١ ، ط ١) ، وثانيهما في سابع الخامسة حيث قال : وليست هذه الأعضاء لنا في الحقيقة إلّا كالثياب التي صارت لدوام لزومها إيّانا كأجزاء منّا عندنا وإذا تخيّلنا أنفسنا لم نتخيلها عراة بل نتخيّلها ذوات أجسام كاسية والسبب فيه دوام الملازمة إلّا أنّا قد اعتدنا في الثياب من التجريد والطرح ما لم نعتد في الأعضاء فكان ظنّنا الأعضاء أجزاء منّا آكد من ظنّنا الثياب أجزاء منّا (ج ١ ، ص ٣٦٣ ، ط ١).

قوله : «وأنت تعلم أنّه لا يجوز أن يكون لوجود صورة أخرى في غير صورة آلتها». أي غير صورة آلتها بالنّوع.

قوله : «وكذلك الخيال لا يتخيل ذاته ولا فعله البتة بل إن تخيل آلته ...». العبارة في‏


النجاة هكذا : «وكذا الخيال لا يتخيل ذاته ولا فعله ولا آلته بل إن تخيل آلته ...» وظنى أن العبارة في الشفاء حرّفت وإن كانت عدة نسخ مخطوطة من الشفاء كلّها كذلك.

والصواب انّ كلمة «البتة» في الشفاء أصلها «آلته» وبعد تحريف آلته بالبتة حذفت لفظة «ولا» أيضا لكى يستقيم المعنى فالصواب ولا فعله ولا آلته بل إن تخيل آلته إلخ.

اعلم أنّ الشيخ جعل هذا البرهان المذكور من الشفاء فصلا على حدة في النجاة معنونا بقوله : «فصل في أنّ تعقل القوة العقلية ليس بالآلة الجسدية». وعبارتهما وإن كانت لا تتفاوت كثيرا ، ولكن عبارة النجاة تفيد بعض الإيضاحات لما في الشفاء ، وتعيننا في غرضنا الآتى ذكره حول هذا البرهان الشريف ، وما يؤول إليه من البرهان المحرّر في الإشارات الذي اعتنى به الحكماء الآلهية نقلا وفنأتى بما في النجاة أيضا ثمّ نهدى إلى طالبى الإيقان ومبتغى التحقيق ما تيّسر لنا بعون المفيض على الإطلاق وملهم الصواب والسداد. قال الشيخ :

فصل في أنّ تعقل القوة العقلية ليس بالآلة الجسدية : ونقول إنّ القوّة العقلية لو كانت تعقل بالآلة الجسدانية حتى يكون فعلها الخاص أنّما يتمّ باستعمال تلك الآلة الجسدانية لكان يجب أن لا تعقل ذاتها ، وأن لا تعقل الآلة ، ولا أن تعقل أنّها عقلت.

فإنّه ليس بينها وبين ذاتها آلة ، وليس بينها وبين آلتها ولا بينها وبين أنّها عقلت آلة ، لكنّها تعقل ذاتها وآلتها التي تدعى آلتها وأنّها عقلت فإذا أنّما تعقل بذاتها لا بالآلة.

وأيضا لا يخلوا إما أن يكون تعقّلها آلتها بوجود ذات صورة آلتها إمّا تلك وإمّا أخرى مخالفة لها وهي صورتها أيضا فيها وفي آلتها ، أو لوجود صورة أخرى غير صورة آلتها تلك فيها وفي آلتها : فإن كان لوجود صورة آلتها فصورة آلتها في آلتها وفيها بالشركة دائما فيجب أن تعقل آلتها دائما التي كانت تعقل لوصول الصورة إليها.

وإن كان لوجود صورة غير تلك الصورة فأنّ المغايرة بين أشياء مشتركة في حدّ واحد إمّا لاختلاف المواد ، وإمّا لاختلاف ما بين الكلى والجزئى ، والمجرّد عن المادة والموجود في المادة؛ وليس هاهنا اختلاف مواد فإنّ المادة واحدة وليس هاهنا اختلاف التجريد والوجود في المادة فإنّ كليهما في المادة؛ وليس هاهنا اختلاف‏


بالخصوص والعموم لأنّ أحدهما أنّما يستفيد الجزئية بسبب المادة الجزئية واللواحق التي تلحقها من جهة المادة التي فيها ، وهذا المعنى لا يختص بأحدهما دون الآخر. ولا يجوز أن يكون لوجود صورة أخرى معقولة غير صورة آلتها فإنّ هذا أشدّ استحالة لأنّ الصورة المعقولة إذا حلّت الجوهر القابل جعلته عاقلا لما تلك الصورة صورته ، أو لما تلك الصورة مضافة إليه فتكون صورة المضاف داخلة في هذه الصورة وهذه الصورة المعقولة ليست صورة هذه الآلة ، ولا أيضا صورة شي‏ء مضاف إليها بالذات لأنّ ذات هذه الآلة جوهر ونحن أنّما نأخذ ونعتبر صورة ذاته والجوهر في ذاته غير مضاف إليه.

فهذا برهان عظيم على أنّه لا يجوز أن يدرك المدرك بالآلة آلته في الإدراك. ولهذا كان الحس أنّما يحسّ شيئا خارجا ولا يحسّ ذاته ولا آلته ولا إحساسه. وكذا الخيال لا يتخيل ذاته ولا فعله ولا آلته بل إن تخيل آلته تخيلها لا على نحو يخصّها بأنّه لا محالة لها دون غيرها إلّا أن يكون الحس أورد عليه صورة آلته لو أمكن فيكون حينئذ أنّما يحكى خيالا مأخوذا من الحسّ غير مضاف عنده إلى شي‏ء حتى لو لم يكن هو آلته كذلك لم يتخيله. (ص ١٧٨ ـ ١٨٠ ، ط مصر).

هذا تمام كلام الشيخ في النجاة في تحرير البرهان. وكتاب النجاة وإن كان الشيخ اقتطفه من كتابه الشفاء ولكنه يفيد الباحث كثيرا في حلّ المشاكل وتفهيم المسائل فأقول : لا يخفى عليك أنّ الشيخ ناظر في صدر البرهان إلى أنّ تعقل القوّة العقلية ذاتها وآلاتها ، وكذلك تعقلها أنّها عقلت ليس بآلة جسدية بل هي بذاتها تعقل ذاتها وآلاتها وأنّها عقلت كما هو العنوان في النجاة. واستدل على ذلك بثلاثة أمور :

الأوّل : أنّ تعقّلها لو كان بآلة جسدية لكان يجب أن لا تعقل ذاتها فإنّه ليس بينها وبين ذاتها آلة ، والحال أنّها عاقلة بذاتها.

والثانى : أنّها لو كان كذلك لكان يجب أن لا تعقل الآلة فإنّه ليس لها ـ اى للقوّة العقلية ـ بينها وبين آلتها آلة ، والحال أنّها تدرك الآلة.

والثالث : أنّها لو كان كذلك لكان يجب أن لا تعقل أنّها عقلت فإنّه ليس للقوّة العقلية


بينها وبين أنّها عقلت اى وبين تعقّلها وإدراكها آلة والحال أنّها تعقل أنّها عقلت فإذن أنّها تعقل ذاتها وآلتها وتعقل أنّها عقلت بذاتها لا بآلة.

ثمّ أخذ الشيخ في تحقيق نظره المذكور أعنى أنّ تعقّل القوّة العقلية مطلقا ليس بآلة جسدية بقوله في الشفاء : «بل قد نحقّق فنقول لا يخلو إمّا أن يكون تعقلها إلخ».

وفي النجاة بقوله : «وأيضا لا يخلو إمّا أن يكون تعقلها آلتها». فتبصّر.

وفي الشفاء بعد التحقيق قال : «فهذا برهان واضح على أنّه لا يجوز إلخ» ، وفي النجاة قال : «فهذا برهان عظيم على أنّه لا يجوز إلخ».

وتحرير التحقيق أنّ القوّة العقلية لو كانت تعقل بالآلة الجسدانية حتى يكون فعلها الخاص أنّما يتم ويستقيم باستعمال تلك الآلة الجسدانية لكان يجب أن تدرك أوّلا تلك الآلة التي استعملتها لسائر إدراكاتها إذ بها يتحقق فعلها الخاص اى التعقل ، وتعقلها آلتها يتصور على ثلاثة أوجه : وذلك لأنّه إمّا أن يكون لوجود نفس صورة آلتها تلك أي صورة ذلك المحلّ الخارجية نفسها تكفى في تعقل القوّة العاقلة إيّاها ، أو لوجود صورة أخرى والصورة الأخرى إمّا مخالفة لذات صورة الآلة بالعدد ، أو مخالفة لها بالنوع. أي لو لم تكن نفس صورة ذلك المحل الخارجية كافية افتقرت إلى صورة أخرى منتزعة من صورة المحل منطبعة في العقلية ـ وإن شئت قلت منطبعة في صورة المحل فإنّ مآلهما واحد واقعا ـ وتلك الصورة الأخرى إمّا مخالفة لذات صورة الآلة أي محل العقلية بالعدد أو بالنوع.

أمّا على الوجه الأوّل أعنى أن يكون تعقّل القوّة العقلية آلتها لوجود ذات صورة تلك الآلة ، فنقول :

إنّ صورة تلك الآلة قائمة في مادة تلك الآلة لا محالة لأنّها آلة جسدانية بالفرض. وكذلك تكون صورة تلك الآلة في القوّة العاقلة أيضا لأنّ المفروض أنّ القوة العقلية حالّة أي منطبعة في مادة آلتها الجسدانية ، فنفس صورة الآلة صورة واحدة موجودة للآلة وللقوّة العاقلة كلتيهما فكلما كانت الصورة حاضرة لمادة الآلة كانت حاضرة للقوّة العاقلة المنطبعة في تلك الآلة أيضا ، فالعاقلة المنطبعة في الآلة الجسمانية كانت من‏


الأمور الجسمانية والأمور الجسمانية لا يمكن أن تكون فاعلة إلّا بواسطة أجسامها التي هي موضوعاتها فإذن تلك الأجسام آلاتها في أفعالها ، وحيث إنّ القوّة العقلية حالّة منطبعة في الآلة الجسمانية ، وصورة الآلة حاضرة لمادة الآلة وللقوّة العاقلة المنطبعة فيها أيضا بالشركة فيجب أن تكون القوّة العقلية دائمة التعقل لذات صورة آلتها إذ كانت القوّة العقلية أنّما تعقل الآلة لوصول صورة الآلة إليها والمفروض أنّ تلك الصورة حاصلة للعقلية لأنّ القوّة العقلية منطبعة في تلك المادة الجسدانية بالفرض ، والحال أنّ القوّة العاقلة اى تلك القوّة العقلية ليست دائمة التعقل لمحلّها الذي هو تلك الآلة الجسدانية كالقلب أو الدماغ مثلا بل تعقّلها له حاصل حصولا منقطعا أي في وقت دون وقت لا دائما فكون القوّة العقلية منطبعة في آلة جسمانية باطل.

هذا لو قلنا إنّ مقارنة القوّة العقلية بمحلّها ذلك أعنى انطباعها في آلتها تكفى في تعقّلها له فتوجب تلك المقارنة الدائمة التعقل الدائم. وأمّا إذ قلنا إنّها لم تكف في ذلك فلا تعقله البتّة لاستحالة أن يكون تعقلها مشروطا بحصول صورة أخرى لمحلّها فيها اى صورة مساوية منتزعة عن محلّها وإلّا لزم اجتماع المثلين في محل واحد أحدهما الصورة المنطبعة الأصلية التي هي المحل اي الآلة العاقلة؛ وثانيهما الصورة المنطبعة المعقولة من المادة الأصلية التي هي المحل والآلة المساوية لها فقد حصل في مادة واحدة مكنوفة بأعراض بأعيانها صورتان لشى‏ء واحد ، واجتماع المثلين محال فالموقوف عليه أعنى تعقل العاقلة آلتها ممتنع ، والحال انّ القوّة العقلية ليست كذلك اعنى ليست أن لا تحتمل التعقل أصلا أي لا تعقل محلّها دائما؛ فليس ولا واحد من الأمرين بصحيح لأنّ الحق كون الإنسان متعقلا لأعضائه في وقت دون وقت ومن تلك الأعضاء ما فرض محلا للقوّة العقلية وآلة لها. وهذا الشق أنّما يتضح حق الاتّضاح ببيان الوجهين الباقيين فنقول :

أمّا على الوجه الثانى ، وهو كون تعقل القوّة العقلية آلتها لوجود صورة أخرى مخالفة لذات صورة الآلة بالعدد أي لم تكف تلك المقارنة المذكورة بل يكون تعقلها لها مشروطا بحصول صورة أخرى لمحلها الذي هو آلتها الجسدانية ، فنقول : إنّ ذلك باطل‏


لأنّ تلك الصورة الأخرى إن كانت مخالفة للأولى بالعدد كان كتغاير زيد وعمر المتحدين بالماهية الإنسانية مثلا والأمور المتحدة بالماهية لا تتغاير إلّا بسبب اقترانها بأمور متغايرة إمّا مادية كتغاير الأشخاص المتفقة بالنوع ، أو غير مادية كتغاير الأنواع المتفقة بالجنس ، أو بسبب اقتران البعض بشي‏ء وتجرد البعض عنه وذلك الشي‏ء إمّا مادّى وهو كتغاير الإنسان الجزئي للإنسان من حيث هو طبيعته ، أو غير مادى كتغاير الانسان الكلى للإنسان من حيث هو طبيعة ، ويتبيّن من ذلك امتناع تغاير الأشخاص المتفقة بالنوع من غير تغاير المواد وما يجرى مجريها ، والصورتان حالّتان في مادّة واحدة هي آلة القوّة العقلية ومحلّها فإذا فرضتا مغايرتين بالعدد فتميز إحداهما عن الآخر غير متصور فقال على هذا المنوال في وجه البطلان أي بطلان تغاير الصورتين بالعدد : لأنّ المغايرة بين أشياء تدخل في حدّ واحد ، أي مغايرة الأمور المتحدة في الماهية إمّا لاختلاف المواد والأحوال والأعراض كتغاير الأشخاص المتفقة بالنوع ، وإمّا لاختلاف بين الكلى والجزئى كتغاير الإنسان الجزئى للإنسان من حيث هو طبيعته إن أخذ الكلى كليا طبيعيا ، وإن أخذ عقليا فظاهر أيضا ، وإمّا لاختلاف المجرّد عن المادة والموجود في المادة كتغاير الإنسان الكلى للإنسان من حيث هو طبيعة خارجية مثلا ، والحال ليس هاهنا اختلاف موادّ وأعراض فان المادة واحدة والأعراض حاصلة لمادة واحدة هي آلة القوة العقلية؛ وكذلك ليس هاهنا اختلاف التجريد والوجود في المادة فإنّ كليهما في المادة الواحدة؛ وكذلك ليس هاهنا اختلاف الخصوص والعموم أي الاختلاف بين الجزئى والكلى لأنّ إحدى الصورتين إن استفادت جزئية فانّها تستفيد الجزئية بسبب المادة الجزئية واللواحق التي تلحقها من جهة المادة التي فيها وهذا المعنى لا يختص بإحدى الصورتين دون الأخرى.

فإن قلت : الصورة الثانية حالّة في الأولى لا في مادتها؛ أو إنّ إحداهما حالّة في العاقلة وفي محلّها معا ، والأخرى حالة في محلّها فقط فلا يلزم اجتماع المثلين في محل واحد ، قلنا هذا مجرّد فرض في الذهن فإنّه إذا كان محلهما واحدا فهما منطبعان فيه خارجا مجتمعان معا في مادة واحدة. ثمّ انّ القوّة العاقلة إن كانت في تلك الآلة ،


والصورة الثانية حاصلة في القوّة العاقلة فالصورة الثانية للآلة أيضا حالّة في الآلة لأنّ الحال في الحال في الشي‏ء حال في ذلك الشي‏ء أيضا فيلزم منه الجمع بين المثلين أيضا على أنّ البحث عن بطلان ذلك يأتى على التفصيل أيضا.

ولا يرد هذا الإيراد أي كون تعقل القوّة العقلية لوجود ذات صورة آلتها ، أو لوجود صورة مخالفة لها بالعدد الموجب لكون القوة العقلية إمّا دائمة التعقل لآلتها أو لا تعقلها أصلا ، على إدراك النفس ذاتها فإنها تدرك دائما ذاتها وإن كانت على سبيل القضية الحينية مقارنة للأجسام التي هي أعضائها وبدنها.

وأمّا على الوجه الثالث ـ وهو كون تعقل القوّة العقلية آلتها لوجود صورة أخرى مخالفة لذات صورة الآلة بالنوع ـ فإنّ هذا أشدّ استحالة من الأولين ، وذلك لأنّ ذات هذه الآلة جوهر ونحن انّما نجد ونعتبر صورة ذاته والجوهر في ذاته غير مضاف إليه.

وأمّا الصورة المعقولة فانّها إذا حلّت الجوهر العاقل ـ وإن شئت قلت الجوهر القابل كما في النجاة ـ جعلته عاقلا لما تلك الصورة صورته ، أو لما تلك الصورة مضافة إليه ، فحيث إنّ صورة المضاف داخلة في هذه الصورة المعقولة ليست صورة الآلة جوهر والجوهر في ذاته غير مضاف البتة فهذه الصورة المعقولة ليست صورة هذه الآلة ولا أيضا شي‏ء مضاف إليها بالذات فكيف يكون هذه الصورة المخالفة للآلة بالماهية آلة القوة العقلية في إدراك آلتها وحاكية لها؟ بل كيف يتحقق انطباع ثلاث صور متغايرة في محل واحد شخصى؟ ولا يخفى عليك أنّ التغاير بين الشيئين بالنوع أشدّ من التغاير بينهما بالعدد. فإذا لم يصحّ اجتماع المتغائرين بالعدد في محل شخصى واحد فإن لا يصحّ اجتماعهما بالنوع أولى. فإن لم تكن القوّة العقلية في تلك الآلة بل هي مجرّدة عن الأجسام فذلك هو المطلوب.

فهذا البرهان العظيم الدال على أنّ ما يدرك ذاته وآلته في الإدراك وإدراكه فهو بري‏ء عن المادة وأحكامها ، برهان واضح على أنّ المدرك بالآلة لا يجوز أن يدرك آلته في الإدراك. ولهذا أنّ الحس لا يدرك ذاته ولا آلته في الإدراك ولا إدراكه بل إنّما يدرك شيئا خارجا عن ذاته. وكذا الخيال لا يتخيّل ذاته ولا فعله أي إدراكه ولا آلته في‏


الإدراك ، بل إن تخيّل آلته تخيّلها لا على نحو يخصّها بأنّه لا محالة لها دون غيرها إلّا أنّ الحس أمكن أن يوجب تلك الخصوصيّة بأن يورد عليه صورة آلته فحينئذ يحكى خيالا مأخوذا من الحس غير مضاف عنده إلى شي‏ء حتى لو لم يكن هو آلته كذلك لم يتخيّله.

اعلم أنّ هذا البرهان في إثبات تجرّد القوّة العاقلة تام لا كلام فيه ، إلّا أنّ في الابصار والخيال تحقيقا أنيقا يأتى بعيد هذا ، وذلك التحقيق يؤكد تمامية البرهان وعظمه.

تبصرة : البرهان المذكور من الشفاء والنجاة ، قد جعله الغزالى البرهان الرابع من كتابه معارج القدس في مدارج معرفة النفس على حذو ما في الشفاء والنجاة. قال : البرهان الرابع أن نقول إن القوة العقلية لو كانت تعقل بالآلة الجسدانية حتى يكون فعلها انّما يستتم باستعمال تلك الآلة الجسدانية إلخ (ص ٣١ ، ط مصر).

تذكرة : قد علمت في شرح البرهان الأوّل من الشفاء أنّ البرهان الأوّل والسادس من نفس الشفاء من غرر البراهين التي حكمت بأنّ مدرك الصورة العقلية الكلّية أعنى بها النفس الناطقة جوهر روحاني غير موصوف بصفات الأجسام ، كما قد دريت آنفا في أثناء شرح هذا البرهان أنّ الشيخ وصفه في النجاة بقوله هذا برهان عظيم. وقد أشرنا في أثناء شرح البرهان الأوّل أنّ الشيخ بدء في مختصر له موسوم بعيون الحكمة بالبرهان السادس من نفس الشفاء بتحرير آخر ثمّ أتى بالبرهان الأوّل من نفس الشفاء بالاختصار معنونا بقوله : ومما يوضّح هذا إلخ. فاعلم انّ البراهين التي في العيون ممّا يسهّل الخطب في فهم المراد منها على الوجه الذي حرّر كل واحد منها في الشفاء أو في كتاب آخر للشيخ. فنقول الشيخ أتى في الفصل السادس عشر من عيون الحكمة بمطالب أنيقة ثمّ أتبعها بتحرير عدة من البراهين على تجرّد النفس والفصل في تلك المطالب والبراهين. فقال :

الفصل السادس عشر في الإنسان : ومن الحيوان الإنسان يختص بنفس إنسانية تسمّى نفسا ناطقة ، إذ كان أشهر أفعالها وأوّل آثارها الخاصّة بها النطق. وليس يعنى بقولهم :

نفس ناطقة ، أنّها مبدأ المنطق فقط ، بل جعل هذا اللفظ لقبا لذاتها.


ولها خواصّ : منها ما هو من باب الإدراك ، ومنها ما هو من باب الفعل ، ومنها ما هو من باب الانفعال. فأمّا الذي لها من باب الفعل في البدن والانفعال (كذا ـ ولعل كلمة «والانفعال» زائدة.) ففعل ليس يصدر عن مجرد ذاتها. وأمّا الإدراك الخاص ففعل يصدر عن مجرّد ذاتها من غير حاجة إلى البدن ولتفسّر كل واحد من هذه؛ فأمّا الأفعال التي تصدر عنها بمشاركة البدن والقوى البدنية فالتعقّل والرؤية في الأمور الجزئيّة في ما ينبغى أن يفعل وما لا ينبغى أن يفعل بحسب الاختيار. ويتعلّق بهذا الباب استنباط الصناعات العملية والتصرف فيها كالملاحة والفلاحة والصياغة والتجارة. وأمّا الانفعالات فأحوال تتبع استعدادات تعرض للبدن مع مشاركة النفس الناطقة كالاستعداد للضحك والبكاء والخجل والحياء والرحمة والرأفة والأنفة وغير ذلك.

وأمّا الذي يخصها وهو الإدراك فهو التصوّر للمعانى الكلّية وبنا حاجة أن نصوّر لك كيفية هذا الإدراك فنقول :

إن كلّ واحد من أشخاص الناس مثلا هو إنسان ، لكن له أحوال وأوصاف ليست داخلة في أنّه إنسان ولا يعرى هو منها في الوجود مثل حده في قده ولونه وشكله والملموس منه وسائر ذلك فإنّ تلك كلّها وإن كانت إنسانية فليست بشرط في أنّه إنسان وإلّا لتساوى فيها كلها أشخاص الناس كلّهم ، ومع ذلك فإنّا نعقل أنّ هناك شيئا هو الإنسان ، وبئسما قال من قال إنّ الإنسان هو هذه الجملة المحسوسة فإنك لا تجد جملتين بحالة واحدة ، وهذه الأحوال الغريبة تلزم الطبيعة من جهة قبول مادتها صورتها فإنّ كلّ واحد من أشخاص الناس تتفق له مادة على مزاج واستعداد خاص ، وكذلك يتفق له وقت وزمان وأسباب أخرى تعاون على إلحاق هذه الأحوال للماهيّات من جهة موادّها.

ثمّ الحسّ إذا أدرك الإنسان فإنّه تنطبع فيه صورة ما للإنسان من حيث هي مخالطة هذه الأعراض والأحوال الجسمانية ولا سبيل لها إلى أن يرتسم فيها مجرّد ماهية الإنسانية حتى يكون ما يشاكل فيها نفس تلك الماهية ، وهذا يظهر بأدنى تأمل؛


والحس كأنّه نزع تلك الصورة عن المادّة وأخذها في نفسه لكن نزع إذا غابت المادة غاب ونزع مع العلائق العرضية الماديّة فإذن لا مخلص للحسّ إلى مجرّد الصورة.

وأمّا الخيال فإنّه يجرّد الصورة تجريدا اكثر من ذلك ، وذلك أنّه يستحفظ الصورة وإن غابت المادّة ، لكن ما ينزع للخيال من الصورة المأخوذة عن الإنسان مثلا لا تكون مجرّدة عن العلائق الماديّة فإنّ الخيال ليس يتخيّل صورة إلا على نحو ما من شأن الحس أن يؤدّي إليه.

وأمّا الوهم فإنّه وإن استثبت معنى غير محسوس فلا يجرّده إلّا متعلّقة بصورة خياليّة ، فإذن لا سبيل لشي‏ء من هذه القوى أن تتصوّر ماهية شي‏ء مجرّدة عن علائق المادّة وزوائدها إلّا للنفس الإنسانية فإنّها التي تتصور كل شي‏ء بحدّه كما هو منفوض عنه العلائق الماديّة وهو المعنى الذي من شأنه أن يوقع على كثيرين كالإنسان من حيث هو إنسان فقط فإذا تصور هذه المعانى تعدى التصور إلى التصديق بأن يؤلف بينها على سبيل القول الجازم فالشي‏ء في الإنسان الذي تصدر عنه هذه الأفعال تسمّى نفسا ناطقة ، وله قوتان :

إحداهما معدّة نحو العمل ووجهها إلى البدن وبها يميّز بين ما ينبغى أن يفعل وما يحسن ويصحّ من الأمور الجزئية ويقال له العقل العملي ويستكمل في الناس بالتجارب والعادات ، والثانية قوّة معدّة نحو النظر والعقل الخاص بالنفس ووجهها إلى فوق وبها ينال الفيض الإلهى.

وهذه القوّة قد تكون بعد بالقوّة لم تعقل شيئا ولم تتصوّر بل هي مستعدّة لأن تعقل المعقولات ، بل هي استعداد ما للنفس نحو تصوّر المعقولات ، وهذا المسمى العقل بالقوّة والعقل الهيولانى.

وقد تكون قوّة أخرى أخرج منها إلى الفعل ، وذلك بأن يحصل للنفس المعقولات الأولى على نحو الحصول الذي نذكره ، وهذا المسمّى العقل بالملكة ، ودرجة ثالثة هي أن تحصل للنفس المعقولات المكتسبة فتحصل النفس عقلا بالفعل ، ونفس تلك المعقولات تسمى عقلا مستفادا.


ولأنّ كل ما يخرج من القوّة إلى الفعل فإنّما يخرج لشي‏ء يفيده تلك الصورة فإذن العقل بالقوة أنّما يصير عقلا بالفعل بسبب يفيده المعقولات ويتصل به أثره ، وهذا الشي‏ء هو الذي يفعل العقل فينا ، وليس شي‏ء من الأجسام بهذه الصفة فإذن الشي‏ء عقل بالفعل وفعّال فينا فيسمى عقلا فعّالا وقياسه من عقولنا قياس الشمس من أبصارنا فكما أنّ الشمس تشرق على المبصرات فيوصلها بالبصر كذلك أثر العقل الفعّال يشرق على المتخيّلات فيجعلها بالتجريد عن عوارض المادّة معقولات فيوصلها بأنفسنا.

فنقول : إنّ إدراك المعقولات شي‏ء للنفس بذاتها من دون آلة لأنّك قد علمت أنّ الأفعال التي بالآلة كيف ينبغى أن تكون ، ونجد أفعال النفس مخالفة لها ، ولو كان يعقل بآلة لكان يعقل الآلة دائما لأنّها لم تخل إمّا أن تعقل الآلة بحصول صورة الآلة ، أو بحصول صورة أخرى ، ومحال أن يعقل الشي‏ء بصورة شي‏ء آخر فإذن يعقله بصورته فإذن يجب أن تحصل صورته ، وحصول صورته لا يخلو من وجوه :

إمّا أن تحصل الصورة في نفس النفس مباينة للآلة ، أو تحصل الصورة في نفس الآلة ، أو تحصل الصورة فيهما. جميعا : فإن كانت الصورة تحصل في النفس وهي مباينة فلها فعل خاص لأنّها قد قبلت الصورة من غير أن حلّت تلك الصورة معها في الآلة ، فإن كان حصول الصورة في الآلة فيجب أن يكون العلم بها دائما إذا كان العلم بحصول الصورة في الآلة ، وإن كان بحصولهما في كليهما فهذا على وجهين : أحدهما أن يكون إذا حصل في أيّهما كان حصل في الآخر لمقارنة الذاتين فيجب أن يكون إذا كانت في الآلة صورتها أن تكون أيضا في النفس إذا كانت بمقارنة الذاتين فيكون حينئذ العلم يجب أن يكون دائما ، أو يكون يحتاج أن تحصل صورة أخرى من الرأس فتكون في الآلة صورتان مرّتين ، ومحال أن تكثر الصور إلّا بموادّها وأعراضها ، وإذا كانت المادة واحدة والأعراض واحدة لم تكن هناك صورتان بل صورة واحدة؛ ثمّ إن كان الصورتان فلا يكون بينهما فرق بوجه من الوجوه فلا ينبغى أن يكون أحدهما معقولا دون الآخر؛ وإن سامحنا وقلنا إنّ الصورة وحدها لا تتهيّأ


أن تكون معقولة ما لم نجد صورة أخرى فلا بدّ من أن نقول حينئذ إنّ كل واحدة من الصورتين معقولة فإذن لا يمكن أن تعقل الآلة إلّا مرّتين ولا يمكن أن تعقل مرّة واحدة؛ فإن كان شرط حصول الصورتين فيهما ليس على سبيل الشركة بل على سبيل أن يحصل في كل واحد منهما صورة ليست هي بالعدد التي هي في الأخرى رجع الكلام إلى أنّ للنفس بانفرادها صورة وقوى ما؛ فقد بان من هذا إنّ للنفس أفعالا خاصّة وقبولا للصورة المعقولة لا تنطبع تلك الصورة في الجسم فيكون جوهر النفس بانفراده محلّا لتلك الصورة.

تبصرة : قد سلك الشيخ على وزان هذا المسلك من عيون الحكمة في كتابه الفارسى دانش‏نامه علائى أيضا.

تبصرة : الحجتان الثالثة والرابعة من سابع الإشارات هما مأخوذتان من البرهان السادس من الشفاء ومؤولتان إليه على التفصيل الذي يلى ذكره :

الحجة الثالثة من الفصل الرابع من النمط السابع من الإشارات على تجرّد النفس الناطقة في الحقيقة مستخرجة من البرهان السادس المذكور من الشفاء ثمّ على سياق ما في الإشارات جعلت في الزبر الحكمية حجة على تجرّدها بتقريرات أخرى يقرب بعضها من بعض. ثمّ أورد عليها بعض الاعتراضات سنتلوها عليك مع أجوبتها الشافية.

أمّا تقرير الشيخ في الإشارات فهو ما يلى :

زيادة تبصرة ، ما كان فعله بالآلة ولم يكن له فعل خاصّ لم يكن له فعل في الآلة ، ولهذا فإنّ القوى الحساسة لا تدرك آلاتها بوجه ، ولا تدرك إدراكاتها بوجه لأنّها لا آلات لها إلى آلاتها وإدراكاتها ، ولا فعل لها إلّا بآلاتها وليست القوى العقلية كذلك فانّها تعقل كلّ شي‏ء انتهى.

أقول : هذه الحجة مذكورة في طهارة الأعراق لابن مسكويه ايضا. وهي الحجة الثانية في معتبر أبى البركات على تجرّد النفس (ج ٢ ، ص ٣٥٧ ، ط حيدرآباد) ؛ والدليل الثامن من مباحث الفخر على ذلك (ج ٢ ، ص ٣٧١ ، ط حيدرآباد) ؛ والوجه الخامس من تجريد المحقق الطوسى (ص ١٨٦ ، بتصحيح الراقم وتعليقاته عليه) ؛ والحجة الثامنة


من نفس الأسفار (ج ٤ ، ص ٧٣ ، ط ١) ؛ والدليل الخامس من الحكمة المنظومة للحكيم السبزوارى (ص ٣٠٢ ، ط اعلى) ؛ والبرهان الخامس من أسرار الحكم للحكيم المذكور (ج ١ ، ص ٢٤٦ ، بتصحيح الأستاذ العلّامة الشعرانى).

قال المحقق الطوسى في شرح الفصل المذكور من الإشارات ما هذا لفظه :

هذه حجة ثالثة وهي أوضح من المذكورتين قبلها. وهي مبنية على قضية واضحة هي أنّ كل فاعل ليس له فعل إلّا بتوسط آلة فلا فعل له في شي‏ء لا يمكن أن يتوسط آلته بينه وبين ذلك الشي‏ء ، ويتفرع منه مقدمة هي كبرى هذه الحجة وهي قولنا : كل مدرك بآلة جسمانية فلا يمكنه أن يدرك ذاته ولا آلته ولا إدراكه فإنّ الآلة الجسمانية لا يمكن أن تتوسط بينه وبين هذه الأمور؛ وصغراها قولنا : والعاقلة مدركة لذاتها ، ولإدراكاتها ، ولجميع ما يظن أنّها آلاتها؛ والنتيجة قولنا : فليست العاقلة مدركة بآلة جسمانية. واعتراض الفاضل الفاضل الشارح على ذلك بتجويز تعلق المدركة الجسمانية بنفسها وبما عداها مندفع بما مر في النمط السادس من امتناع صدور الأفعال عن القوى الحالّة في الأجسام من غير توسط تلك الأجسام. والشيخ أنّما تمثّل بالقوى الحسّاسة التي لا يمكن لها أن تدرك أنفسها ، ولا آلاتها ولا إدراكاتها لإيضاح فساد الحكم على القوى الجسمانية المدركة بإدراك كل شي‏ء. انتهى كلامه في الشرح.

بيان : قول الشيخ : «ولم يكن له فعل في آلة». المراد من الفعل هاهنا الإدراك والتعقل. وقوله : «لأنّها لا آلات لها إلى آلاتها» أي لأنّ القوى الحسّاسة لا آلات لها تتوسط تلك الآلات بين القوى الحسّاسة وآلاتها وإدراكاتها. وممّا أفاد القطب في المحاكمات في بيان حاصل الحجة أنّ القوة العاقلة تدرك نفسها وإدراكاتها وآلاتها ، وكلّ قوة لا تدرك إلّا بالآلة لا تدرك نفسها ولا آلاتها لامتناع أن يتوسط الآلة بين الشي‏ء ونفسه ، وبين الشي‏ء وإدراكاته ، وبينه وبين الآلة. ويمكن أن توجه بقياس استثنايى فيقال : لو كانت القوّة العاقلة لا تدرك إلّا بالآلة لما عقلت نفسها ولا إدراكاتها ولا آلتها لكنها تعقل نفسها وإدراكاتها وجميع ما يظنّ به أنّه آلتها كالقلب والدماغ‏


فليست القوّة العاقلة مما لا تدرك إلّا بالآلة. وقوله : «لأنّها لا آلات لها إلى آلاتها» وإلّا لزم التسلسل في الآلات.

قول المحقق الشارح : «مندفع بما مرّ في النمط السادس» كما أنّ الشيخ بعد البحث عن تأثير المقارنات وتأثرها من النمط السادس قال في الفصل السادس والثلاثين منه المعنون بقوله : «تذنيب قد استبان أنّه ليست الأجسام ...» ما هذا لفظه :

وأنت إذا فكّرت مع نفسك علمت أنّ الأجسام أنّما تفعل بصورها ، والصور القائمة بالأجسام والتي هي كمالية لها أنّما تصدر عنها أفعالها بتوسط ما فيها قوامها إلخ.

وأقول : يعنى بالتي هي كمالية لها الأعراض والنفوس. أمّا الأعراض فالأمر فيها بين من كونها كمالات ثانية. وأمّا النفوس فلأنّ النفس كمال أوّل لجسم طبيعى آلى ذى حيوة بالقوّة كما تقدّم في العين الثانية. والمراد من صدور أفعالها عنها بتوسط ما فيها قوامها ، صدورها عن الأجسام من حيث أفعالها الآلية لا مطلق أفعالها كالتعقل وإدراك ذاتها وآلاتها وذلك لأنّ النفوس الإنسانية من المفارقات بل الحيوانية أيضا لها تجرّد برزخى. وأمّا في الأعراض فصدورها عنها بتوسط ما فيها قوامها مطلقا.

وقوله : «والشيخ أنّما تمثل ...» يعنى لما كان عدم إدراك القوى الحساسة أنفسها وآلاتها وإدراكاتها أمرا واضحا تمثل الشيخ بها لإيضاح فساد الحكم على القوى الجسمانية المدركة ، بأنّها مدركة كل شي‏ء؛ لا أن الشيخ أثبت مدّعاه بالتمثيل المنطقى حيث تمسّك بالقوى الحساسة ، وبالجملة أنّ التمسّك بها على سبيل التمثّل لا على سبيل التمثيل.

اعلم أنّ صاحب المعتبر وكذلك صاحب المباحث قد اعترضا على الحجة وأطالا في الاعتراض بلا طائل تحته. وصاحب الأسفار بعد تقرير الحجة على سياق ما في المباحث أجاب عن اعتراضه مع ما فيه من مزيد استبصار في تجرّد الخيال أيضا.

فنذكر ما في المباحث أوّلا ، ثمّ نتبعه بما في الأسفار ، وبعد ذلك نحكى تقرير ما في المعتبر ، ثمّ نهدى اليك جواب اعتراضه. قال في المباحث :

الدليل الثامن قالوا : النفس غنية في أفعالها عن المحلّ ، وكل ما كان غنيا في فعله عن ‏


محل يحلّه فهو في ذاته أيضا يكون غنيا عن محل يحلّه ، فالنفس غنية عن المحل.

أمّا بيان أنّ النفس غنية في فعلها عن المحلّ فوجوه ثلاثة :

الأوّل أنّها تدرك نفسها ، ومن المستحيل أن يكون بينها وبين ذاتها آلة فهي في إدراك ذاتها غنية عن الآلة.

الثانى أنّها تدرك إدراكها لنفسها وليس ذلك بآلة.

الثالث أنّها تدرك آلتها التي تدعى لها ، وليس بينها وبين آلتها آلة أخرى فثبت أنّ النفس غنية في فعلها عن الآلة والمحلّ ، وكل ما كان كذلك فهو في ذاته أيضا يكون غنيا عن المحلّ لوجهين :

أحدهما أنّ القوى النفسانية لما كانت جسمانية ، وكانت محتاجة في ذاتها إلى محالّها لا جرم تعذر عليها إدراك ذواتها وإدراك إدراكاتها وإدراك آلتها فلو كانت القوّة العاقلة جسمانية لتعذر عليها ذلك.

وثانيهما أنّ مصدر الفعل هو الذات فلو كانت الذات متعلقة في قوامها ووجودها بذلك المحل كان الفعل صادرا عن تلك الجهة فيكون للجهة المتعلقة بذلك الفعل مدخل في ذلك الفعل فيكون الفعل بمشاركة ذلك المحلّ وقد فرض انّه ليس كذلك فظاهر أنّ النفس غنية عن المادة.

ولقائل أن يقول : لم قلتم أنّ القوّة العاقلة لمّا كانت وحدها هي المدركة لذاتها ، ولإدراكها لذاتها ، ولإدراكها لآلتها وجب أن لا تكون جسمانية فأمّا قولكم إنّ القوى الحساسة لمّا كانت جسمانية تعذر عليها ذلك فالقوّة العاقلة لو كانت جسمانية لتعذر عليها ذلك.

فنقول : لم قلتم إنّ تلك القوى أنّما تعذر عليها هذه الإدراكات لكونها جسمانية ، وهل هذا إلّا من باب التمثيلات التي بيّنوا فسادها في المنطق؟

وأمّا قولهم : ما لا يتوقف في اقتضائه لآثاره على المحل لا يتوقف في ذاته على المحل ، فنقول : أليس أنّ الصور والأعراض محتاجة إلى محالّها ، وليس احتياجها إلى محالّها إلّا بمجرد ذواتها ثمّ لا يلزم من استقلالها باقتضاء ذلك الحكم استغناؤها في


ذواتها عن تلك المحال فعلمنا أنّه لا يلزم من كون الشي‏ء مستقلا باقتضاء حكم من الاحكام أن يكون مستغنيا في ذاته عن المحل. بل نقول : إنّ جميع الآثار الصادرة عن الأجسام ومباديها قوى وأعراض معدودة في تلك الأجسام وليس لمحال تلك القوى مدخل في اقتضاء تلك الآثار لأنّ محالّها أجسام والأجسام بما هي أجسام يستحيل أن يكون لها أثر في هذه الأحكام المخصوصة فعلمنا أنّ المستقل باقتضاء تلك الأحكام هي تلك الأعراض وحدها ، ثمّ لا يلزم من انفرادها باقتضاء تلك الأحكام استغناؤها عن محالّها فكذلك هاهنا. انتهى كلام الفخر.

وأقول : إنّه أجاد في تقرير الحجة. وأمّا قوله في الاعتراض : «وهل هذا إلّا من باب التمثيلات» فقد دريت آنفا أنّه من باب التمثّل لا التمثيل. وأمّا قوله : «ليس احتياجها إلى محالّها إلّا بمجرّد ذواتها» فمراده أنّ الصور والأعراض مع احتياجها في ذواتها إلى محالّها ليست في فعلها محتاجة إليها بل صدور الفعل منها بمجرّد ذواتها ، وأنت قد دريت آنفا أيضا امتناع صدور الأفعال عن الأمور الحالة في الأجسام من غير توسط تلك الأجسام. وقد حان أن نذكر ما أفاده صاحب الأسفار في الحجة من تقريرها الأمتن ، واستنباطه التجريد الأعم ، وجوابه عن اعتراضات المباحث فهي ما يلى :

الحجة الثامنة أنّ النفس غنية في فعلها عن البدن ، وكل غنى في فعله عن المحلّ فهو غنىّ في ذاته عنه ، فالنفس غنيّة عن المحلّ. أمّا أنّها غنية في فعلها عنه فلوجوه ثلاثة :

أحدها أنّه يدرك ذاتها ، ومن المستحيل أن يكون بينها وبين ذاتها آلة ، فهي في إدراكها ذاتها غنية عن الآلة.

وثانيها أنّها تدرك إدراكها لنفسها وليس ذلك بآلة.

والثالث أنّها تدرك آلتها وليست بينها وبين آلتها آلة أخرى. فثبت أنّ النفس غنية في فعلها عن الآلة والمحل ، وكلّ ما كان كذلك فهو في ذاته أيضا غنى عن المحلّ؛ وذلك لأن كون الشي‏ء فاعلا متقوّم بكونه موجودا ، فلو كان الوجود متقوما بالمحل لكان الفعل متقوما أيضا به لأنّ الإيجاد فرع الوجود والفعل بعد الذات ، فحاجة الذات والوجود إلى شي‏ء يستلزم حاجة الإيجاد والفعل إليه من غير عكس. ولهذا لا يفعل‏


شي‏ء من القوى الجسمانية إلّا بمشاركة الجسم. ولأجل كون الحواس وغيرها من القوى الجسمانية الوجود لا تدرك ذاتها ولا إدراكها لذاتها ولا إدراكها لآلتها فلو كانت النفس جسمانية لتعذر عليها ذلك وقد ثبت أنّها ليس كذلك فثبت أنّها غير جرمية.

أقول : هذا البرهان دال على تجرّد النفس عن البدن سواء كانت قوّة عاقلة بالفعل ، أو كانت متخيلة؛ إذ للخيال أيضا أن يتخيّل ذاتها وآلتها ويفعل فعلها من غير مشاركة البدن؛ ولهذا يتخيل أشياء خارجة عن هذا العالم الطبيعى ممّا لا يكون بينها وبينه علاقة وضعية بالقرب والبعد. فعلم أنّ فعلها ليس بآلة بدنية وإن كان محتاجا إلى البدن في الابتداء كحاجة العقل إليه أيضا من جهة الإعداد وتخصيص الاستعداد.

واعترض صاحب المباحث على مقدمة هذا البرهان بوجهين : الأوّل بأنّ الصور والأعراض محتاجة إلى محالّها ، وليس احتياجها إلى محالّها إلّا بمجرّد ذواتها ، ثمّ لا يلزم من استقلالها بهذا الحكم استغناؤها في ذاتها عن تلك المحال.

الثانى أنّ جميع الآثار الصادرة من الأجسام مباديها قوى وأعراض في تلك الأجسام ، وليس لمحال تلك القوى مدخل في اقتضائها تلك الآثار لأنّ محالّها أجسام ، والأجسام بما هي أجسام يستحيل أن يكون لها أثر في هذه الأحكام المخصوصة فعلمنا أنّ المستقل في اقتضاء تلك الأحكام هي تلك الأعراض والقوى الحالّة وحدها ، ثمّ لا يلزم من استقلالها وانفرادها في تلك الأحكام استغناؤها عن محالّها في الوجود.

أقول في الجواب : أما عن الأوّل فإنّ الاحتياج والإمكان وما أشبهها أمور عقلية وأحكام ذهنية تعرض الماهيات بحسب ملاحظة الذهن إيّاها من حيث هي هى.

والكلام في الأفعال والأحكام الخارجية والصور الحالّة والأعراض ، حاجتها إلى المواد والموضوعات ليست أمرا زائدا على وجوداتها ، ووجوداتها متقوّمة بالمحلّ ، فكيف تكون مستغنية عن المحل بنفسه ما به الحاجة إلى المحلّ أعنى الوجود الحلولى؟

وأمّا عن الثاني فإنّا لا نسلّم أنّ محالّ القوى والأعراض لا دخل لها في التأثير ، كيف والتأثير يحتاج إلى وضع خاصّ ونسبته معينة للمؤثر بالقياس إلى المتأثر ، والوضع


لا يقوم إلّا بالجسم. والذي يذكر في الطبيعيات أنّ الجسم بما هو جسم لا يكون سببا لفعل خاص كحرارة أو برودة أو شكل أو حركة وإلّا لكان جميع الأجسام متشاركة فيه ، لا ينافي هذا الحكم إذ المراد بنفي السببيّة عن الأجسام نفى سببيّتها بالاستقلال لا نفى سببيتها مطلقا وإن كانت بالجزئية والدخول حتى لو فرض الحرارة مجرّدة عن الأجسام لكانت فاعلة لهذه السخونة؛ والسواد لو فرض تجرّده عن الأجسام لكانت أيضا قابضا للبصر ، كيف والمسألة أعنى كون تأثير القوى الحالّة في محلّ بمشاركته برهانية قطعيّة لا يتطرق في مقدّماتها شك أصلا.

انتهى كلام صاحب الأسفار. قوله : «هذا البرهان دال على تجرّد النفس عن البدن» يعنى عن البدن الطبيعى ، لا عن البدن مطلقا وذلك لما ثبت بالبراهين القاطعة من أنّ النفس لا تخلو عن أبدان متفاوتة بالكمال والنقص بحسب نشئاتها وهي لا تنافي تجرّدها. وقوله : «ولهذا يتخيل أشياء خارجة عن هذا العالم الطبيعى» وهي كجبل من ياقوت وبحر من زيبق ونحوها. وكلامه هذا إشارة إلى الحجة الأولى التي عوّل عليها أفلاطون الإلهي على تجرّد النفس وقد تقدّم نقلها وبيانها فتذكّر.

وقوله : «واعترض صاحب المباحث على مقدمة هذا البرهان» أى على قوله وكل ما كان كذلك فهو في ذاته أيضا غنى عن المحلّ.

وقوله : «من استقلالها بهذا الحكم» المراد من الحكم هذا ، هو الاحتياج إلى المحلّ.

وأمّا ما في المعتبر من تقرير الحجة والاعتراض عليها ، فالتقرير موجز مفيد ، والاعتراض مدفوع بما يأتى من وجه الدفع. قال في التقرير :

احتجوا على أنّ النفس من الجواهر التي وجودها لا في موضوع لكنها ليست بجسم ... وبأنّ القوى الجسمانية المذكورة لا تدرك ذواتها وآلاتها ، والنفس الناطقة التي هي عقل الإنسان ، تعقل ذاتها ، والبدن الذي هو آلتها ، وسائر أجزائه وأعضائه التي هي آلات خاصّة لكل صنف من أفعالها.

ثمّ أخذ في الاعتراض عليها بقوله :

وأمّا القائلة بأنّ القوى الجسمانية لا تدرك ذواتها وآلاتها ، فجوابها أنّ هذا الإدراك‏


إن كان من المدرك للمدرك بغير واسطة فلا القوة الباصرة ولا العقل يدركان آلتيهما ، وإن كان بواسطة فالعقل يدرك آليته ويعرفها بعلم فيه حدود وسطى ، ودلائل هي الوسائط في العلم ، والعين أيضا تبصر ذاتها ، بل القوّة الباصرة تبصر العين التي هي آلتها بواسطة كالمرآة ، وتلك الواسطة في الدلالة للقوّة العاقلة كالمرآة في الإبصار للباصرة. ويبقى إدراك الذات متشابها في الإدراكات الحسية والعقلية ، فإن كان المدرك فيها كلها نفس الإنسان الواحد كما قلنا فهي تدرك ذاتها ، وأنها أدركت في كل ما يدرك ومع كل إدراك فتبصر وتسمع وتشعر بذاتها وإبصارها وسمعها وأنّها أبصرت وسمعت فإنّ الإنسان يشعر من ذاته بذاته في سائر أفعاله الإرادية وإدراكاتها وإن كانت المدركات الحسية قوى أخر غير ذات النفس فهي غير ذات الإنسان الذي يعرض حال نفسه على نفسه فيعلم حاله ولا يعلم حالها في ذلك وهل تدرك ذواتها أم لا لأنّها غير ذاته وهو يشعر بحال ذاته من ذاته ولا يلزم أن يشعر بحال غيره من ذاته. فأما حديث الآلة فما لا يدرك إلّا بآلة معيّنة لا يدرك بسواها لا يدرك الآلة فإنّ الإنسان إذا كان لا يبصر إلّا بعينه وأن كان هو الباصر فلا عين له يبصر بها عينه.

وكذلك لا يبصر ذاته بعينه لأنّ العين لا تتوسط بينه وبين ذاته وكيف ونفسه غير مرئية بالعين ولا بشي‏ء من الحواس لأنّها ليست من جنس ما يدرك بالحواس فلا هي لون تراه العين ، ولا صوت تسمعه الأذن ، ولا حرارة يحسّها اللمس ، ونسبتها إلى الحواس كنسبة الصوت إلى العين ، واللون إلى الأذن ، والألوان هي التي يدركها البصر أولا وبالذات ويدرك من أجلها ذوات الألوان فما ليس بلون ولا ذى لون لا يدركه البصر بالذات ولا بالعرض فمن طلب أن يرى نفسه بعينه فما عرف نفسه ولا عينه.

أمّا الجواب عن الاعتراض فنقول : قوله : «فلا القوّة الباصرة ولا العقل يدركان آلتيهما» لو لم يدرك جوهر العقل أى النفس الناطقة آلاته بذاته فكيف يستعمل كل واحدة منها فيما خلقت لأجله بحيث لا تعصيه ما أمره وتفعل ما أمرت به؟ ثمّ كيف يتصور توسط الآلة بينه وبين آلاته ويلزم من التفوه بالتوسط تسلسل الآلات ، فضلا؛ عن توسطها بينه وبين إدراكه ذاته؟ فلا يكون إدراك الذات متشابها في الإدراكات‏


الحسية. ثمّ إنّ إدراك جوهر النفس ذاته أى علمه بنفس ذاته علم شهودى ، والعلم الذي فيه حدود وسطى ودلائل هي الوسائط في العلم هو علم فكري فأين أحدهما من الآخر؟. وقوله : «فإن كان المدرك فيها كلها نفس الإنسان الواحد ...» نعم مدرك جميع الإدراكات الحسية والعقلية هو جوهر النفس الناطقة ، وجميع أفعال الإنسان مستند إلى هوية واحدة وهي ذات نفسه‏ ما (جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) (الأحزاب ٥) ثمّ انّ إسناد كل واحد من الأفعال الحسيّة إلى آلة معيّنة وصدوره عنها لا يخرجه عن الإسناد إلى الهوية الواحدة فإنّ قوى النفس كلها من شئونها. وجوهر النفس له فعلان أحدهما لا يحتاج فيه إلى آلات وإن كانت في بدء الأمر معدّات لاعتلائه الوجودى وارتقائه النورى وذلك كتعقله وعلمه بذاته وتلقّيه الحقائق من صقع الملكوت؛ والآخر ما يفتاق فيه إليها وذلك كتعلّقه بالأشياء الخارجية الطبيعية. ولا يخفى عليك أنّ تلك الاعتراضات كأنها خزعبلات اشتغل بها صاحب المعتبر ، والحكيم لا يتفوّه بها ، والفيلسوف الإلهي بمعزل عنها ، نعم من كان متفلسفانيّا لا بأس به.

وأمّا تقرير الحجة على ما في تجريد الاعتقاد وشرحه كشف المراد فنقول : المحقق الطوسي أشار إليها موجزا على دأبه في التجريد بقوله : «وهي جوهر مجرد ....

ولاستلزام استغناء العارض استغناء المعروض» وعنى بالعارض التعقل ، وبالمعروض النفس. وكلام الشارح العلّامة في بيانه هو نحو ما تقدّم من شرح المحقق الطوسى على الإشارات في بيان الحجة ، ومع ذلك لعلّ في نقل عبارة الكشف مزيد إيضاح فيها ، قال :

هذا وجه خامس يدلّ على تجرّد النفس العاقلة ، وتقريره : أنّ النفس تستغنى في عارضها وهو التعقّل عن المحل ، فتكون في ذاتها مستغنية عنه لأنّ استغناء العارض يستلزم استغناء المعروض لأنّ العارض محتاج إلى المعروض ، فلو كان المعروض محتاجا إلى شي‏ء لكان العارض أولى بالاحتياج إليه فإذا استغنى العارض وجب استغناء المعروض. وبيان استغناء التعقّل عن المحلّ أنّ النفس تدرك ذاتها لذاتها لا لآلة ، وكذا تدرك آلتها ، وتدرك إدراكها لذاتها ولآلتها ، كلّ ذلك من غير آلة متوسطة بينها وبين هذه المدركات فإذن هي مستغنية في إدراكها لذاتها ولآلتها ولإدراكها عن


الآلة فتكون في ذاتها مستغنية عن الآلة أيضا. فقوله رحمه اللّه : «ولاستلزام استغناء العارض» عنى بالعارض هنا التعقل؛ وقوله : «استغناء المعروض» عنى به النفس التي يعرض لها التعقل. انتهى ما في الكشف. ولا يخفى عليك أنّ تقرير الحجة متنا وشرحا تام ، إلّا أنّ التعبير بالعارض والمعروض فقد دريت ما فيه مرارا.

وأمّا بيان الحجة على ما في الحكمة المنظومة للمتأله السبزوارى فقال :

كذا الغنى فعلا كدرك الذات

ودرك درك الذات والآلات

ثمّ شرحه بقوله :

والخامس قولنا : كذا الغنى عن المادة للنفس فعلا أي في الجملة وفي بعض الأفعال.

انّما قلنا في الجملة وفي بعض الأفعال إذ من المتقررات أنّ النفس جوهر مفارق في ذاته دون فعله عن المادة فهو محتاج في فعله إليها؛ وفي الموضعين تحقق الطبيعة بتحقق فرد ما وانتفائها بانتفاء جميع الأفراد. كدرك الذات أي درك النفس ذاتها ، ودرك درك الذات ، ودرك الآلات كالقوى. بيانه أنّ النفس غنية في فعلها عن المحلّ ، وكل غنى في فعله عن المحل غنى في ذاته. أمّا الصغرى فكما في الأمثلة المذكورة.

إن قلت : كيف يكون إدراك النفس ذاتها أو إدراك إدراكها فعلها وهما حضوريان ليسا زائدين على ذاتها والشي‏ء لا يكون فعلا لنفسه؟ قلت : قد اقتفينا في ذلك أثر صدر المتألهين قدّس سرّه والوجه أنّ ذاتها وإدراكها لذاتها وإنّ اتّحدا مصداقا إلّا أنّهما اختلفا مفهوما؛ وهذا القدر كاف إذ الأحكام تختلف باختلاف العنوانات ، كيف والعلية على ما هو التحقيق هي التشؤن والوجود سابق على كل التعيّنات. وأمّا الكبرى فلأنّه لو احتاج في ذاته لاحتاج في فعله إذ الشي‏ء ما لم يوجد لم يوجد. انتهى بيانه الشريف.

قوله : «فكما في الأمثلة المذكورة» يعنى بها إدراك النفس ذاتها ، وإدراك إدراكها ، وإدراكها آلاتها. وقد أفاد في أثناء التقرير نكتة سامية في معنى من معانى «من عرف نفسه فقد عرف ربه». وذلك لأنّ قوى النفس بل بدنها من شئونها ، فهي عالية في دنوّها ودانية في علوها فأين التكثر والتعدّد حتى يقال : إنّ ذلك فاعل وإن هذا فعله؟ فأجاب بأنّ الوجه أنّ ذاتها إلخ ، فمن عرف نفسه عرف سر قوله (سبحانه) : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ


وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ‏) ، قوله (تعالى شأنه) (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ) و (خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ) ، ونحوها.

وقوله : «قد اقتفينا في ذلك إلخ». أقول : إنّ ذلك القول الفصل تجده في صحف السابقين من مشايخ العرفان كثيرا مثل ما قال القيصرى في الفصل الأوّل من شرحه على فصوص الحكم : «وايجاده للأشياء اختفاؤه فيها مع اظهاره إيّاها (ص ٧ ، ط ١ ـ ايران). ومثل ما أفاد من تحقيق رشيق صائن الدين على بن تركه في آخر مقدمته على تمهيد القواعد في شرح قواعد التوحيد حيث قال :

إنّ الوجود الواحد الحق الظاهر بنوره الذاتى الذي هو المتجلى له باعتبار غيب هويته المطلقة ، وإذا اعتبرت التعددات الظاهرة في مجلاه التي هي عبارة عن تعدد شئون المتجلّى حصل هناك باعتبارها في الحضرتين أربع اعتبارات : ووحدة وكثرة حقيقيتان ، ووحدة وكثرة نسبيّتان اعتباريّتان؛ فمتى اعتبرت الوحدة الحقيقية في الحضرتين المذكورتين المتميزتين بنسبتى البطون والظهور قيل حق ، وإن اعتبرت الكثرة الحقيقية فيهما قيل خلق وسوى ومظاهر وصور وشئون ونحو ذلك. إلخ. (ص ٢٠ و ٢١ ط ١ ـ ايران).

فالوجود الواجب الواحد الصمدى تعيّنه وامتيازه بذاته لا بتعين زائد عليه إذ كما أنّه لا مبدأ للوجود الواحد الحق الصمدى كذلك ليس في الوجود ما يغايره ليشترك معه شي‏ء ويتميز عنه بشي‏ء إذ لا يتصور بعد الوجود الصمدى ثان. وذلك لا ينافي ظهوره في مراتبه المتعينة ، بل هو أصل جميع التعيّنات الصفاتية والأسمائية ، والمظاهر العلمية بالفيض الأقدس ، والمظاهر العينية بالفيض المقدس. نعم إنّ تميّزه عن ما سواه في التوحيد القرآنى أنّما هو بالتعين الإحاطى وتميز المحيط عن المحاط لا بالتقابلى منهما. وهذه الدقيقة قد أفادها صائن الدين على في عدة مواضع من تمهيد القواعد ، منها في الفصل السابع عشر منه. وهو مطلب سام جدا في بيان التوحيد القرآني قد حرّرناه مستشهدا بالآيات القرآنية والروايات المأثورة عن بيت آل الوحى عليه السّلام في رسالتنا الفارسية المسماة بـ وحدت از ديدگاه عارف وحكيم (ص ٦٤ ، ٧٥ ، ط ١) ونكتفى هنا بذكر ما في التمهيد ، قال :


التعين أنّما يتصور على وجهين إمّا على سبيل التقابل له ، أو على سبيل الإحاطة ، لا يخلو أمر الامتياز عنهما أصلا. وذلك لأنّ ما به يمتاز الشي‏ء عمّا يغايره إمّا أن يكون ثبوت صفة للمتميز وثبوت مقابلها لما يمتاز عنه كالمقابلات؛ وإمّا أن يكون ثبوت صفة للمتميز وعدم ثبوتها للآخر كتميز الكل من حيث إنّه كل ، والعام من حيث إنّه عام بالنسبة إلى أجزائه وجزئياته. وأمارات التميز في القسم الأوّل منه لا بدّ وأن يكون خارجا عن المتعيّن ضرورة أنّها نسب أو مبادى نسب من الأمور المتقابلة؛ وفي الثانى لا يمكن أن يكون أمرا زائدا على المتعيّن ضرورة أنّه بعد مه ينتفى الحقيقة المتعينة ، وبه صارت الحقيقة هي هى إذ حقيقة الكل أنّما تحققت كليته باعتبار إحاطته الأجزاء وبها يمتاز عن أجزائه. وكذلك العام أنّما يتحقق عمومه باعتبار إحاطته الخصوصيات والجزئيات وجمعها تلك الخصوصيات وبها يمتاز عن خواصه ولا شك انّ الهيأة المجموعية والصور الإحاطيّة التي للأشياء ليس لها حقيقة وراء اجتماع تلك الخصوصيات وأحدية جمعها ، فحينئذ ، نقول : انّ التعين الواجبى أنّما هو من هذا القبيل إذ ليس في مقابلته تعالى شي‏ء ولا هو في مقابلة شي‏ء. وإن شئت زيادة تحقيق لهذا المعنى أو إقامة بيّنة لهذه الدعوى فتأمل في قوله تعالى : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) ، حيث سرى النفى فيه متوجها إلى النوعين الوجوديّين من أنواع المتقابلات وأصنافها. وتأمّل في هذه النكتة فإنّها منطوية على معانى جمّة كثيرة الجدوى. (ص ٥٤ ـ ٥٥ ، ط ١ ، ايران).

هذا ما عندنا من الفحص والتحقيق حول الحجة الثالثة من سابع الإشارات المستنبطة من سادس نفس الشفاء. بقي الكلام في الحجة الرابعة من سابع الإشارات المستنبطة من البرهان السادس من نفس الشفاء أيضا فنقول :

وكذلك الحجة الرابعة من خامس سابع الإشارات على تجرّد النفس في ذاتها وكمالاتها عن المادة وما يتبعها ، مستخرجة من البرهان السادس المذكور من الشفاء ومؤوّلة إليه ، ثمّ تداولتها الأيادى فأتى بها رجال العلم في صحفهم الحكمية بتحريرات متقاربة بعضها من بعض ، كلّها تقرير تلك الحجة المدوّنة في الإشارات. ثمّ بعضهم‏


اعترض عليها نقدا وردّا كالفخر الرازى في المباحث وشرحه على الإشارات ، والدبيران الكاتبى في حكمة العين. والحق أنّ الاعتراض غير وارد ، والحجّة قائمة على أصلها الحكيم. وبعضهم بيّن مبانيها أتم تبيين وردّ النقد والاعتراض عليها على أحسن وجه عليه المشاء كالمحقق نصير الدين الطوسى في شرحه على الإشارات. وبعضهم أحكمها بتحقيقات رشيقة وإشارات عرشية كصدر المتألهين في الأسفار. وبعضهم لخّصها على غاية الجودة وحسن الجزالة إمّا نثرا كالمحقق الطوسى في التجريد ، وإمّا نظما ونثرا كالمتأله السبزوارى في الحكمة المنظومة ، ونقله في أسرار الحكم أيضا مترجما بالفارسية وهو البرهان التاسع فيه ولنا حول كلماتهم إيماضات وتوضيحات لعلّها تفيد زيادة استبصار في سبيل التحقيق فنقول : قال الشيخ في الإشارات :

زيادة تبصرة : لو كانت القوّة العقلية منطبعة في جسم من قلب أو دماغ لكانت دائمة التعقل له ، أو كانت لا تتعقله البتة : لأنّها أنّما تتعقل بحصول صورة المتعقّل لها ، فإن استأنفت تعقلا بعد ما لم يكن فيكون قد حصل لها صورة المتعقّل بعد ما لم تكن لها ، ولأنها مادية فيلزم أن يكون ما يحصل لها من صورة المتعلّق من مادّته موجودا في مادته أيضا ، ولأنّ حصوله متجدّد فهو غير الصورة التي لم تزل له في مادته لمادته بالعدد ، فيكون قد حصل في مادّة واحدة مكنوفة بأعراض بأعيانها صورتان لشي‏ء واحد معا وقد سبق بيان فساد هذا ، فإذن هذه الصورة التي بها تصير القوة المتعقلة متعقّلة لآلتها تكون الصورة التي للشي‏ء الذي فيه القوّة المتعقلة؛ والقوّة المتعقلة مقارنة لها دائما فإمّا أن تكون تلك المقارنة توجب التعقل دائما ، أو لا تحتمل التعقل أصلا وليس ولا واحد من الأمرين بصحيح.

بيان : الصواب أن نشرح كلام الشيخ المنقول من الإشارات شرحا مزجيا لكى لا يبقى إبهام في ما سيق له البرهان فنقول : لو كانت القوّة العقلية منطبعة في جسم من قلب ودماغ ـ إنّما اختصهما بالذكر لأنّها أشرف الأعضاء ، ولأنّ الخصم قائل بأنّ القوّة العاقلة منطبعة في الدماغ ـ لكانت القوّة العقلية دائمة التعقل لذلك الجسم ، أو كانت القوّة العقلية لا تتعقّل ذلك الجسم البتة ، وليس ولا واحد من الأمرين بصحيح وذلك لأنّ‏


العاقلة تعقل أعضائها منها ذلك الجسم ، في وقت دون وقت. وذلك لأنّ القوّة العقلية أنّما تتعقل بحصول صورة المتعقّل لتلك القوّة العقلية لأنّ الإدراك أنّما يكون بمقارنة صورة المدرك بالفتح للمدرك بالكسر. فإن استأنفت وتجدّدت القوّة العقلية تعقلا بعد ما لم يكن ذلك التعقل فيكون قد حصل للقوّة العقلية صورة المتعقّل بالفتح بعد ما لم تكن صورة المتعقل للقوّة العقلية؛ ولأنّ القوّة العقلية مادّية بالفرض والأمور المادية أي الجسمانية لا يمكن أن تكون فاعلة إلّا بواسطة أجسامها التي هي موضوعاتها فاذن تلك الأجسام آلاتها في أفعالها ، فيلزم أن يكون ما يحصل للقوّة العاقلة من صورة المتعقّل بالفتح التي هي صورة المتعقل من مادته التي هي محل تلك الصورة المتعقلة موجودا في مادته أيضا ، فقوله من مادته متعلق بالمتعقّل ، وذلك لأنّ المدرك على ممشى المشاء إن كان مدركا بذاته كانت المقارنة بحصول الصورة في ذاته ، وإن كان مدركا بآلة كانت بحصولها في آلته والمفروض هاهنا الشق الثاني أي القوّة العقلية مدركة بالآلة؛ ولأنّ حصول ما يحصل للقوّة العقلية من صورة المتعقّل من مادته متجدد فهو أي ذلك الحصول المتجدد الذي هو صورة المتعقل غير الصورة التي لم تزل أي مستمرة له في مادة ما يحصل لمادته بالعدد أي غير الصورة لمادته بالعدد فقوله لمادته متعلق بالصورة ، وقوله بالعدد متعلق بالغير.

قوله : «ولأنّ حصوله متجدد» في غير واحدة من نسخ مخطوطة من الإشارات عندنا جاءت العبارة هكذا : «ولأنّ حصولها متجدد» فعلى الأوّل يرجع الضمير إلى ما ، وعلى الثانى إلى صورة المتعقل ، وصورة المتعقل هو بيان ما فمآل الضميرين واحد؛ فيكون قد حصل في مادة واحدة هي الآلة أي محل القوّة العقلية من قلب أو دماغ ، مكنوفة بأعراض بأعيانها صورتان متغايرتان لشي‏ء واحد. والشي‏ء الواحد هو محل القوّة العقلية ، والصورتان إحداهما صورة الآلة المتجددة عند التعقل ، والأخرى صورة تلك الآلة المستمرّة الوجود حالتى التعقل وعدمه ، والحال أنّ الأمور المتحدة بالماهية لا تتغاير إلّا بسبب اقترانها بأمور متغايرة : إمّا مادية كتغاير الأشخاص المتفقة بالنوع ، أو غير مادية كتغاير الأنواع المتفقة بالجنس ، أو بسبب اقتران البعض بشي‏ء وتجرّد البعض‏


عنه وذلك الشي‏ء إمّا مادىّ وهو كتغاير الإنسان الجزئى للإنسان من حيث هو طبيعة ، أو غير مادى كتغاير الإنسان الكلّى للإنسان من حيث هو طبيعة؛ ويتبين من ذلك امتناع تغاير الأشخاص المتفقة بالنوع كتغاير صورتى الآلة المذكورتين من غير تغاير الموادّ وما يجرى مجريها على ما تبيّن في الفصل التاسع عشر من النمط الرابع حيث قال : فائدة اعلم من هذا أنّ الأشياء التي لها حدّ نوعى واحد فإنّما تختلف بعلل أخرى إلخ. وإليه أشار الشيخ بقوله : وقد سبق بيان فساد هذا. فاذن هذه الصورة التي بها تصير القوّة المتعقّلة متعقّلة لآلتها ومحلّها تكون الصورة التي للشي‏ء الذي فيه القوّة المتعقّلة وذلك الشي‏ء هو ذلك المحل والآلة من قلب أو دماغ؛ والقوّة العاقلة أي المتعقلة مقارنة لها أي لتلك الصورة دائما فإنّ المفروض أنّ العاقلة كانت عاقلة لآلتها بالصورة المستمرّة الوجود معها ، فحينئذ إمّا أن تكون تلك المقارنة توجب التعقل دائما أي تعقل القوّة العقلية آلتها التي هي محلها من قلب أو دماغ دائما ، أو لا تحتمل التعقل أصلا ، وليس ولا واحد من الأمرين بصحيح وذلك لأنّ القوّة العاقلة تعقل أعضائها ومنها القلب والدماغ في وقت دون وقت فكون العاقلة منطبعة في جسم كالقلب والدماغ باطل فإذن هي مجرّدة عن المادة وأحكامها.

وجملة الأمر أن يسأل الخصم عن القوّة العاقلة هل هي مجرّدة عن الجسم والجسمانيات ، أم ماديّة؟ فإن كانت مجرّدة فهو المراد ، وإن لم تكن مجرّدة فهي مادية منطبعة في جسم فنقول : لو كانت القوّة العاقلة منطبعة في جسم لكانت هي إمّا دائمة التعقل لذلك الجسم ، أو غير متعقلة له في وقت من الأوقات ، وليس ولا واحد من الأمرين بصحيح بالحجة المذكورة فالحجة استثنائية من متصلة مؤلفة من حملية ومنفصلة حقيقية. والحملية هي قوله : «لو كانت القوّة العاقلة منطبعة في جسم» ؛ والمنفصلة هي قوله : «لكانت هي إمّا دائمة التعقل لذلك الجسم أو غير متعقلة له في وقت من الأوقات». فقوله : «ليس ولا واحد من الأمرين بصحيح» استثناء لنقيض التالى بفساد قسمى المنفصلة معا ، وهو كون الإنسان متعقلا لأعضائه في وقت دون وقت. هذا تقرير ما في الإشارات من الحجة المذكورة وشرحها بما استفدنا من شرح المحقق‏


الطوسى مع إضافات إيضاحية منّا.

والمحقق الطوسى في خامسة الرابع من المقصد الثانى في تجريد الاعتقاد جعل هذا البرهان المذكور من الإشارات المستخرج من الشفاء ، برهانا رابعا لتجرّد النفس الناطقة وأوجز في تعبيره وأجاد فقال : «وهي جوهر مجرّد .... ولحصول عارضها بالنسبة إلى ما يعقل محلا منقطعا».

يعنى بالعارض التعقل. وبقوله : بالنسبة إلى ما يعقل محلا ، ما يفرض محلا لذلك العارض من قلب أو دماغ كما يقوله جماعة من القائلين بعدم تجرّد النفس. وقوله : منقطعا ، صفة للمفعول المطلق المستفاد من الحصول أي حصولا منقطعا أي في وقت دون وقت. يعنى لو كانت النفس الناطقة حالّة في جسم فهو محلّها ، لكانت دائمة التعقل له ، أو كانت لا تعقله البتة والحال أنّ تعقّلها له حاصل حصولا منقطعا لا دائما ، بالبرهان المذكور.

والبرهان المذكور هو الدّليل السادس في الحكمة المنظومة أيضا. حيث قال الحكيم السبزوارى :

وإنّ بين الدرك دوما ما ارتبط

من قابل والنفى رأسا لا وسط

ثمّ قال في شرحه :

والسادس قولنا وانّ على تقدير المادّية بين الدرك أي درك النفس دوما أي دائما ، ما مفعول الدرك ، ارتبط بها من قابل بيان ما ، وبين النفى أي نفى دركها قابلها رأسا لا وسط أي لا واسطة. بيانه : أنّ النّفس الناطقة لو كانت منطبعة في جسم كقلب أو دماغ أو غيرهما لكانت إمّا دائمة التعقل لذلك الجسم الذي هو قابله ، أو غير عاقلة له رأسا ، ولا واسطة بين شقّي هذه المنفصلة حينئذ لكنّ التالى باطل لأنّ تعقّل النفس لبدنها ولكل عضو عضو منه حاصل في وقت دون وقت. وأمّا بيان الملازمة فهو أنّه إمّا أن يكفى في تعقلها لذلك المحل حضوره بنفسه لها فتكون دائمة التعقل له ، أولا بل تحتاج إلى صورة أخرى فيلزم اجتماع المثلين في مادة واحدة فيمتنع تعقّلها لمحلّها. والحاصل أنّه على تقدير المادية في النفس لا واسطة بين الشقّين فالملازمة حقة


والواسطة متحققة في الواقع فالتالى باطل (ص ٣٠٣ ، ط ١).

ثمّ أورد مثل الكاتبى والفخر الرازى على هذا البرهان العظيم بعض الشكوك ، أجاب عنها المحقق الطوسى وصاحب الأسفار. على أنّ لصاحب الأسفار بعض التحقيقات العرشية في المقام. ولنا تعليقات إيضاحية على كلماتهم. فنأتى بها مزيدا للاستبصار وحسما لمادة تلك الشكوك الداحضة فنقول :

نقل الكاتبى في حكمة العين خمس أدلة على تجرّد النفس وهذا البرهان من الشفاء خامسها ، ثمّ شرع في الاعتراض عليها. وقال العلّامة الحلّي في شرحه عليها ما هذا لفظه : «لما ذكر البراهين المنقولة عن القدماء شرع في الاعتراض عليها ...».

أقول : الظاهر من كلامه يستفاد أنّ البرهان المذكور من أوائل الحكماء الذين كانوا قبل الإسلام إلّا أنّ الشيخ ذكره في الشفاء بتحرير آخر.

والكاتبى حرّر البرهان بقوله :

الخامس أنّ القوّة العاقلة لو كانت جسمانية لكانت حالّة في جزء من البدن ، وهو محال وإلّا لكانت دائمة التعقل له ، أو دائمة اللاتعقل ، لأن صورة ذلك الجزء إن كانت كافية في تعقلها إيّام لزم الامر الأوّل ، وإلّا لتوقّف إيّاه على حصول أخرى في مادته ، لكن حصول تلك الصورة ممتنع لامتناع حصول صورتين مختلفتين في مادة واحدة فيلزم الأمر الثاني ، فعلم أنّ القوّة العقلية مجرّدة عن المادة لكن لها حاجة إلى البدن وإلّا لما تعلّقت به.

ثمّ شرع في الاعتراض عليه بقول :

وأمّا الخامس فلا نسلّم أنّ صورة ذلك العضو إن لم تكن كافية في إدراك القوّة العاقلة إيّاه ، توقف الإدراك على صورة أخرى حتى يمتنع اجتماعهما في تلك المادة ، بل اللازم حينئذ توقف الإدراك على شي‏ء آخر فيجوز أن يكون ذلك الشي‏ء أمرا يجوز اجتماعه مع صورة ذلك العضو فيه. انتهى.

تقرير الاعتراض أن نقول : لم لا يجوز أن لا يكفى صورة العضو الذي جعل محلا للقوّة العقلية في تعقّل ذلك العضو؟


قوله : «يفتقر إلى حصول صورة أخرى مساوية للصورة الأولى وحينئذ يجتمع صورتان في محلّ واحد».

قلنا : لا يلزم من عدم الاكتفاء بالصورة الأولى افتقاره إلى صورة أخرى لجواز أن يتوقف الإدراك على حصول شرط غير حصول صورة ثانية فلا يلزم اجتماع صورتين لمعقول واحد.

أقول : انتهى تقرير الاعتراض. والعبارة من العلّامة الحلى في شرحه على حكمة العين ، وبعد تقريره هذا اعترض على اعتراض الكاتبى بقوله :

وهذا الاعتراض ليس بجيّد لأنّ التعقل عندهم هو اقتران صورة المعقول بالعاقل ، فتلك الصورة إن كانت هي الصورة المنطبعة في المادة لزم دوام التعقل بدوام تلك الصورة ، وإن كانت صورة أخرى لزم اجتماع المثلين ، وحينئذ لا يرد ما ذكره من الاعتراض لأنّه يخرج التعقل عن حقيقته التي هي الحصول من حيث هو حصول لا باعتبار اقتران أمر آخر ولا باعتبار عدمه.

ثمّ قال : بل الوجه أن يقال : إنّ الصورة الثانية حكاية للصورة الأولى ومثال لها ، وليست مساوية لها من كل وجه ، فإنّ هذه الصورة عرض قائم بالنفس ، والأولى جوهر قائم بذاته فلا يلزم اجتماع المثلين في مادة واحدة. انتهى.

أقول : اعتراض العلّامة على الكاتبى حق ، والشيخ قال : «إنّ القوة العقلية أنّما تعقل آلتها لوصول صورة آلتها إليها ، أي التعقل هو اقتران صورة المعقول بالعاقل» ، كما قال أيضا : «إنّ الصورة المعقولة إذا حلّت الجوهر العاقل جعلته عاقلا لما تلك الصورة صورته. وإن كان أمر التعقل أرفع من التعبير بالاقتران والحلول».

والعجب أنّ الكاتبى كيف غفل عن المراد؟ وهب أنّ تعقل العاقلة محلّها يتوقف على حصول شرط غير حصول صورة ثانية ، وأمّا تعقّلها نفس صورة محلها بحصول ذلك الشرط ، وتميزها عن محلها الذي هي منطبعة فيه فكيف ينبغى أن يتحقّق؟

ثمّ انّ الوجه الذي قرّره الشارح العلّامة ليس بوجيه أيضا وذلك لأنّ الصورة الثانية إذا لم تكن مساوية للصورة الأولى من كل وجه فكيف تكون هي صورته المعلومة؟


وكيف يحصل العلم بالشي‏ء. ثمّ انّ الصورة المعقولة ليست عرضا قائما بالنفس بل هي تصير متحدة بها وجودا وعينها كما تحقق في اتحاد العاقل بمعقوله. على أنّ تميز القوّة العاقلة عن محلها الشخصى المادّي كيف هو؟

بقي في المقام اعتراضات الفخر الرازى في المباحث وشرحه على إشارات الشيخ حول البرهان ، والجواب عنها ، فنكتفى بنقل ما أوردها في المباحث فانها نحو ما في شرحه على الإشارات إلّا ما سنتلوه عليك ، ثمّ نتبعه بجواب المحقق الطوسى وصاحب الأسفار عنها مع زيادة إفادات منّا حول كلماتهم فنقول :

هذا البرهان هو الدليل الرابع على تجرّد النفس الإنسانية في المباحث (ج ٢ ، ص ٣٦٢ ـ ٣٦٤ ، ط ١). وتقريره البرهان يوهم في جليل النظر العدول عن صوب الصواب. وذلك لأنّه ثلّث التقسيم ، وغيره ثنّاه وجعل الثالث استثناء لنقيض التالي بفساد قسمى المنفصلة معا على البيان الذي تقدم؛ ولكن دقيق النظر يحكم بعدم المنافاة بين التثليث والتثنية. فلا محيص إلّا بنقل تقريره أيضا وبيانه وإن كان فيه بعض التكرير بالنسبة إلى ما تقدّم من تقرير البرهان غير مرّة. قال :

الدليل الرابع : لو كانت القوّة العاقلة منطبعة في جسم مثل قلب أو دماغ لكانت إمّا أن تعقل دائما ذلك الجسم ، أو لا تعقله قط ، أو تعقله في وقت دون وقت. والأقسام الثلاثة باطلة ، فالقول بكونها منطبعة في الجسم باطل.

وبيان ذلك هو أنّ تعقل القوّة العاقلة لذلك الجسم إمّا أن يكون لأجل أنّ صورة الآلة حاضرة عند القوّة العاقلة ، أو لأجل أنّ صورة أخرى من تلك الآلة تحصل للقوّة العاقلة. فإن كان الأوّل فالقوّة العاقلة إن أمكنها إدراك تلك الآلة وإدراكها نفس مقارنتها للقوّة العاقلة فما دامت الآلة مقارنة للقوّة العاقلة وجب أن تعقلها القوّة العاقلة فتكون القوّة العاقلة دائمة الإدراك لتلك الآلة. وإن امتنع على القوّة العاقلة إدراك تلك الآلة لوجب أن لا تدركها أبدا فظاهر أنّه لو كان تعقل القوّة العاقلة لتلك الآلة لأجل نفس مقارنة تلك الآلة لتلك القوّة لوجب أن تعقلها دائما ، أو لا تعقلها دائما وكلا القسمين باطل. وأمّا إن كان تعقل تلك القوّة العاقلة لتلك الآلة لأجل حصول صورة


أخرى منها في القوّة العاقلة فالقوّة العاقلة إن كانت في تلك الآلة ، والصورة الثانية حاصلة في القوّة العاقلة فتكون الصورة الثانية للآلة أيضا حالّة في الآلة لأنّ الحال في الحال في الشي‏ء حال في الشي‏ء فيلزم منه الجمع بين المثلين هذا خلف. وإن لم تكن القوّة العاقلة في تلك الآلة بل هي مجرّدة عن الأجسام فذلك هو المطلوب.

انتهى تقرر البرهان على ما في المباحث. وأنت ترى أنّ أصل الدليل محرر على ثلاثة أوجه ، وأمّا في بيانه فلم يتعرض لثالث الوجوه ، ولا بأس فيه. فالتثليث على هذا التقرير موجّه لأنّ القوّة العاقلة إذا كانت منطبعة في جسم لا يصحّ أن يقال انّها تعقله في وقت دون وقت ، فانّها إمّا دائمة التعقل له ، أو دائمة اللاتعقل له. فعلى ذلك يظهر وجه عدم تعرض التوقيت في ضمن البيان أيضا. فالقوّة العاقلة إذا كانت تعقل آلتها منقطعا فهي غير حالة فيها كما صرّح به غير الفخر في التقريرات السالفة. فالوجه الثالث في تقرير الفخر مطوى في تقريرات غيره أيضا كما أنّ استثناء نقيض التالى بفساد قسمى المنفصلة معا مطوى في تقرير الفخر أيضا فلا منافاة بين التقرير على التثليث وبينه على التثنية. ثمّ شرع في الاعتراض على الدليل وجرحه بقوله :

ولقائل أن يقول : إنّا قد بيّنا أنّه ليس إدراك الشي‏ء للشي‏ء عبارة عن حصول المعقول في العاقل ، بل الإدراك والعلم والشعور حالة إضافية وهي قد تحتاج إلى حصول صورة المعلوم في العالم ، وقد لا تحتاج ، ولكن العلم في جميع الأحوال ليس إلّا هذه الإضافة ، وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن تكون القوّة الناطقة حالّة في جسم؟ فمتى حصل بينها وبين ذلك الجسم تلك الإضافة المخصوصة حصل الإدراك وإلّا فلا.

وأيضا فهذه الحجة تقتضى أن تكون جميع لوازم النفس معقولة لها دائما لأنّها لو عقلت شيئا من لوازمها في حال دون حال لكان تعقلها لذلك اللازم ليس نفس حضور ذلك اللازم عندها وإلّا لكان ذلك اللازم أبدا معقولا ، كما أنّه أبدا موجود ، بل يكون تعقل النفس لذلك اللازم لأجل حصول صورة مساوية للازم النفس في النفس فيلزم منه الجمع بين المثلين. فظهر أنّ هذه الحجّة تقتضى كون النفس عالمة بجميع لوازمها أبدا.


وأيضا تقتضى دوام علمها بجميع عوارضها ما دامت تلك العوارض حاصلة وإلّا لكان علمها بذلك العارض لأجل صورة مساوية لعارضها فيها فحينئذ يجتمع فيها ذلك العارض وصورته فيلزم الجمع بين المثلين. فظهر أنّ هذه الحجة تقتضى كون النفس عالمة بلوازمها ما دامت النفس موجودة ، وكونها عالمة بعوارضها ما دامت تلك العوارض موجودة ، ولو كان كذلك لم يكن شي‏ء من محمولات النفس مطلوبا بالبرهان ، ولمّا لم يكن كذلك بطلت هذه الحجّة.

وأيضا فالمثلان انّما استحال اجتماعهما لأنّه لا يتميز أحدهما عن الآخر بشي‏ء من الأوصاف وحينئذ ترتفع المغايرة بينهما ويحصل الاتحاد بينهما ، ولما كان الاتحاد محالا لا جرم استحال الجمع بين المثلين.

وإذا عرفت ذلك فنقول : إنّ القوّة الناطقة إذا عرفت آلتها في وقت دون وقت فلا بدّ وأن يكون ذلك لأجل حصول صورة مساوية لآلتها فيها ، ثمّ إنّ القوّة الناطقة إذا كانت في الجسم فهناك قد اجتمع في ذلك الجسم صورته الأصلية ، وصورته المكتسبة ولكن قد اختصت كل واحدة منهما بوصف تمتاز به عن الأخرى لأنّ أحد المثلين محلّ القوّة الناطقة ، والثانى حالّ فيها فيبقى الامتياز ولا يلزم المحال ، وهذا شك لا يمكن حلّه» انتهى ما في المباحث من الاعتراض على البرهان.

أقول : قد تقدّم في البحث عن الحجة الأولى قول الفخر في العلم بأنّه إضافة. فقوله هاهنا : «انّا قد بيّنا أنّه ليس إدراك الشى» إلى قوله : «حالة إضافية» صريح بأنّه كان في العلم قائلا بالإضافة ، مع أنّه صرّح أيضا في الفصل الأوّل من الباب الخامس من الفن الثانى من المباحث في بيان تجرّد النفس الإنسانية بأنّ العلم ليس بإضافة بل صفة حقيقية ، وقد تقدّم في ضمن البحث عن الحجة الأولى نقل كلامه هذا من المباحث.

فانظر أنّه كيف كان يتلوّن في آرائه حتى في الشي‏ء الذي هو نور وبه فضيلة كل ذى فضل وكمال كلّ حيّ؟!

وقد علمت في مطاوى البيان حول الحجة المستخرجة من برهان الشفاء في التبصرة الثانية أنّ هذه الحجة مبتنية على أربع مقدمات : إحداها أنّ الإدراك أنّما يكون‏


بمقارنة صورة المدرك للمدرك.

وثانيتها أنّ المدرك إن كان مدركا بذاته كانت المقارنة بحصول الصورة في ذاته ، وإن كان مدركا بآلة كانت بحصولها في آلته.

وثالثتها أنّ الأمور الجسمانية لا يمكن أن تكون فاعلة إلّا بواسطة أجسامها التي هي موضوعاتها فإذن تلك الأجسام آلاتها في أفعالها.

ورابعتها أنّ الأمور المتحدة بالماهية لا تتغاير إلّا بسبب اقترانها بأمور متغايرة إمّا مادية أو غير مادية على التفصيل المقدم ذكره.

والمقدمة الثانية عند الحكمة المتعالية غير تمام وسيأتي الكلام فيها.

فالفخر الرازى في قوله بأنّ العلم إضافة ، معترض على المقدمة الأولى فإنّ الإدراك هو العلم ، وإن كان الإطلاقات العرفية تميز بينهما أحيانا فيقال مثلا إنّ الحيوان مدرك ولا يقال انّه عالم. ثمّ انّ قوله على التفصيل بكون العلم إضافة يطلب في باب البحث عن العلم من المباحث المشرقية (ج ١ ، ص ٣١٩ ، ط ١). وقد تقدم كلامنا في الإشارة إلى عدة مواضع من الأسفار في ردّه حول التحقيق عن الحجة الأولى في تجرّد النفس. والبحث عن العلم في الأسفار يطلب في ستة فصول من مفتتح المسلك الخامس «المرحلة العاشرة» من العلم الكلى منه (ج ١ ، ص ٢٧٠ ـ ٢٧٧ ، ط ١) وإن كان في تضاعيف الكتاب قد تصدّى له مرارا. وقد أدّى نظره الشريف في أوّل الفصل الرابع من تلك الفصول بقوله :

العلم ليس أمرا سلبيا كالتجرّد عن المادّة ، ولا إضافيا ، بل وجودا ولا كل وجود بل وجودا بالفعل لا بالقوّة ، ولا كل وجود بالفعل بل وجودا خالصا غير مشوب بالعدم ، وبقدر خلوصه عن شوب العدم يكون شدة كونه علما. وبيان هذا إلخ.

اعلم انّ المحقق نصير الدين الطوسى في شرحه على الخامس من سابع الإشارات قد نقل اعتراض الفخر على المقدمة الأولى ثمّ أجاب عنه فنأتى بهما ثمّ نتبعهما بما ينبغى الإتيان بها. قال الفخر معترضا على المقدمة الأولى :

المعقول من السماء ليس بمساو للسماء الموجودة في الخارج في تمام الماهية وإلّا


لجاز أن يكون السواد مثل البياض في تمام الماهية لأنّ المناسبة بين السواد والبياض لاشتراكهما في كونهما عرضين حالّين في المحل محسوسين أتم من المناسبة بين المعقول من السماء الذي هو عرض غير محسوس حال في محلّ كذلك ، وبين السماء الموجودة التي هي جوهر محسوس موجود في الخارج محيط بالأرض. انتهى كلامه.

أقول في بيان اعتراضه : يعنى بقوله «المعقول من السماء ليس بمساو للسماء الموجودة في الخارج في تمام الماهية» أنّه لو قيل بالمساواة للزم انطباع الكبير في الصغير. ويعنى بقوله : «وإلّا لجاز إلخ» أنّ المناسبة بين السواد والبياض لكونهما عرضين أتم من المناسبة بين العرض الذي هو المعقول من السماء وبين الجوهر الذي هو السماء الموجود في الخارج ، فلو جاز أن يكون هذا العرض مساويا لذلك الجوهر في تمام الماهية فليكن ذلك العرض أي السواد مثل ذلك العرض أي البياض بطريق أولى. ولكن لا يخفى عليك أنّ اعتراض الفخر مبنى على كون السماء المعقولة أي العلم عرضا في محلّ مجرّد هو النفس الناطقة ، وهو كما ترى. وسيأتي الإشارة إلى تحقيق الحق في ذلك.

وأجاب عن اعتراضه المحقق الطوسى بقوله :

إنّ ماهية الشي‏ء هي ما يحصل في العقل من ذلك الشي‏ء نفسه دون عوارضه الخارجة عنه ، ولذلك اشتقت لفظة الماهية من لفظة ما هو فإنّ الجواب عنها يكون بها.

ولما كان ذلك كذلك كان معنى قول القائل المعقول من السماء ليس بمساو للسماء الموجودة في الخارج هو أنّ السماء المعقولة المجرّدة عن اللواحق ليست بمساوية للسماء المحسوسة المقارنة إيّاها ، وحينئذ إن أراد بعدم المساواة التجرّد واللّاتجرّد كان صادقا؛ وإن أراد به أنّ مفهوم السماء نفسه ليس بمشترك بين المجرّدة والمقارنة كان كاذبا؛ فإن زاد وقال المعقول من السماء ليس بمساو للسماء الموجودة في تمام الماهية كما قال هذا الفاضل ـ يعنى به الفخر الرازى ـ كان معناه أنّ المعقول من السماء ليس بمساو للسماء الموجودة في تمام المعقولية أي ليس بمساو لها حال كونها


معقولة فهذا هذيان كما تسمعه فإنّ المعقول من السماء نفس ماهية السماء الموجودة فضلا عن المساواة. وأمّا كون السواد غير مساو للبياض في تمام الماهية فظاهر.

وظاهر أنّ المناسبة بين الموضعين غير صحيحة فإنّ الفرق بين السماء المعقولة والمحسوسة بكون أحدهما عرضا في محلّ مجرّد غير محسوس ، والآخر جوهرا محسوسا لا في محلّ ، فرق بين الطبيعة النوعية المحصّلة المأخوذة تارة مع عوارض وتارة مع مقابلاتها؛ والفرق بين السواد والبياض فرق بين الطبيعة الجنسية الغير المحصّلة المأخوذة تارة مع فصل يقومها نوعا وتارة مع فصل آخر يقوّمها نوعا مضادا للأوّل. على أنّ السماء المعقولة إذا أخذت من حيث هي عرض قائم بنفس ما لم تكن ماهية للسماء أنّما تكون ماهية لها من حيث تكون صورة حصلت في العقل مطابقة لها. انتهى.

بيان قوله : «دون عوارضه الخارجة عنه» أي العوارض الخارجة عن حقيقة الشي‏ء يترك في الخارج ، وحقيقة الشي‏ء يحل في الذهن.

قوله : «وإن أراد به أنّ مفهوم السماء ...» يعنى بمفهومها حقيقتها العارية عن عوارضها الخارجة.

قوله : «فرق بين الطبيعة النوعية المحصلة» أي طبيعة السماء في المقام. وقوله : «تارة مع مقابلاتها» أي حقيقة السماء في الذهن. وقوله : «فرق بين الطبيعة الجنسية» أي اللون في المقام. وقوله : «المأخوذة تارة مع فصل ...» أي المأخوذة تارة مع قابض للبصر يقوّم الطبيعة الجنسية أي اللون نوعا أي سوادا ، وتارة مع فصل آخر وهو مفرق للبصر يقوّم تلك الطبيعة الجنسية نوعا آخر وهو البياض مضادا للسواد.

ثمّ إنّ قوله : «إنّ الفرق بين السماء المعقولة والمحسوسة ...» تسليم بأنّ السماء المعقولة عرض في محل مجرّد غير محسوس هو النفس الناطقة. فالعلم على الوجه الذي حرّره من الفرق هو عرض في محل وهو كما ترى. والتحقيق التام في التجريد هو ما أفاده صدر المتألهين في المقام فعليك بالارتواء من شرح العين الثالثة والثلاثين من كتابنا سرح العيون في شرح العيون في الإنشاء والانتزاع.


قد علمت أنّ اعتراض الفخر في المباحث على هذا البرهان كان على أربعة أوجه : أحدها كون الإدراك إضافيا. وثانيها كون جميع لوازم النفس معقولة لها دائما. وثالثها دوام علم النفس بجميع عوارضها الحاصلة لها. ورابعها عدم اجتماع صورتين متماثلتين في محل واحد. وزاد في شرحه على الإرشاد اعتراضا آخر عليه وهو قوله : الجسم قد يحلّ فيه أعراض ولا شك أنّ وجوداتها الزائدة على ماهياتها متماثلة وحالّة في الجسم ويلزم من ذلك اجتماع المثلين.

أمّا الجواب عن اعتراضه الأوّل فقد تقدّم ، ودريت أنّه كان في هذا الاعتراض ناظرا إلى المقدمة الأولى من مقدمات الحجة الأربع. ولا يخفى عليك انّ الاعتراضين الثانى والثالث متقاربان ، ولذا قد أجاب عنهما محقق الإشارات بجواب واحد؛ وكذا صاحب الأسفار أتى بهما معا ونقل جواب المحقق عنهما ، إلّا أنّه لم يرتض بكون الجواب وافيا عن الثاني وأجاب عنه بوجه آخر مرضى له فقال :

وقال أيضا ـ يعنى صاحب المباحث ـ هذه الحجة بعينها تقتضى إمّا كون النفس عالمة بصفاتها ولوازمها أبدا ، أو غير عالمة بشي‏ء منها في وقت من الأوقات بالبيان المذكور الذي ذكرتم. وأيضا تقتضى دوام علمها بجميع عوارضها ما دامت تلك العوارض حاصلة وإلّا لكان علمها بعارضها لأجل صورة مساوية لعارضها فيها فيلزم اجتماع المثلين. قال : وأجاب عنه محقق الإشارات أنّ الصفات واللوازم منقسمة إلى ما يجب للنفس لذاتها ككونها مدركة لذاتها ، وإلى ما يجب لها بعد مقايستها بالأشياء المغايرة لها ككونها مجرّدة عن المادة وغير موجودة في الموضوع ، والنفس مدركة للصنف الأوّل دائما كما كانت مدركة لذاتها دائما ، وليست مدركة للصنف الثاني إلّا حالة المقايسة لفقدان الشرط في غير تلك الحالة. ثمّ قال صاحب الأسفار بعد ذلك :

أقول : ما ذكره ـ يعنى ما ذكره المحقق الطوسى في الجواب ـ غير واف بحلّ الإشكال على التقرير الثانى. ويمكن أن يجاب عنه بأنّ عوارض النفس ليست إلّا علومه وإدراكاته وما يلزمها وتلك العلوم ما دامت حاضرة كانت مدركة لها بنفس صورتها الحاضرة ، وما دامت النفس ذاهلة عنها فهي زائلة عنها ، وكذا لوازم تلك العلوم من‏


الانفعالات التي تلحقها بمشاركة البدن كالغضب والشهوة والخجل والوجل وغيرها.

تنبيه : المحقق الطوسى في شرحه على الإشارات نقل الاعتراض الثانى فقط وأجاب عنه بذلك الجواب المذكور. فكأنّ صاحب الأسفار حمل الصفات واللوازم بمعناهما الأعم حتى يشملا العوارض أيضا فجعل الجواب جوابا عن كلا الاعتراضين. وقد حرّرنا في شرح العين الثامنة عشرة من كتابنا سرح العيون في شرح العيون مطالب في علم النفس بذاتها وقواها وآلاتها وأفعالها لعلّها تجديك هاهنا أيضا.

وللمتأله السبزوارى تعليقة مفيدة على الأسفار في المقام قال :

قوله : «والنفس مدركة للصنف الأوّل دائما». إن قيل إدراك النفس للصنف الأوّل صفة حاصلة لها والمفروض أنّ صفاتها معلومة لها ما دامت حاصلة لها فوجب العلم به أيضا ، وهكذا؛ قلنا : العلم بالعلم ليس أمرا زائدا عليه.

وربما يقال : إنّ كثيرا من لوازم النفس لا يدوم استحضاره لأنّا نعلم بالضرورة أنّه لا يدوم علمنا بالقدرة مثلا.

والجواب : أنّ المدرك العلم بها لا العلم بالعلم والالتفات. وأيضا في هذه الضرورة خلط بين المفهوم والمصداق فإنّ مصداق القدرة مثلا وحقيقتها الوجودية معلوم كحقيقة الحياة دائما كيف وحقائق اللوازم منطوية في حقيقة الملزوم ، فكذا العلم بها في العلم به وهكذا ، كما أنّه يمكن الغفلة عن المفاهيم المنتزعة عن هوياتنا كالجوهر القابل للأبعاد النامى الحساس الناطق ولا يمكن الغفلة عن هوياتها المنطوية في هوياتنا.

وأمّا الجواب عن الاعتراض الرابع فأجاب عنه المحقق الطوسى في شرح الإشارات بعد ما نقل اعتراضه هذا حيث قال : ومنها ـ يعنى ومن اعتراضات الفخر ـ قوله : لا يلزم من كون العاقلة متعقلة لمحلّها بصورة مساوية لمحلّها اجتماع صورتين متماثلتين في محلّها لأن إحداهما حالّة في العاقلة ، والأخرى محل لها.

أقول : يعنى بقوله إحداهما حالة في العاقلة ، الصورة المعقولة المستأنفة؛ وبقوله والأخرى محل لها ، ذات صورة المحل التي هي محل للعاقلة. فالعاقلة محل للصورة


المعقولة ، ونفس صورة الآلة أي المحل محل للعاقلة. ثمّ قال المحقق :

والجواب عنه بعد ما مر ـ من التحقيق في معنى الإدراك ـ أنّ العاقلة لو كانت محلا لصورة من غير أن تحل تلك الصورة في محلها كانت ذات فعل من غير مشاركة المحل ، ولمّا كان كل فاعل جسمانى فاعلا بمشاركة الجسم كان كل فاعل من غير مشاركة الجسم فهو غير جسمانى فاذن العاقلة ليست بجسمانية ، ولو كانت محلا لصورة حلّت في محلّها عاد المحال المذكور.

أقول : يعنى بالمحال المذكور اجتماع المثلين. ثمّ قال المحقق : فإن قيل الفرق بين الصورتين باق لأنّ إحداهما حالّة في العاقلة وفي محلها معا ، والأخرى حالة في محلّها فقط ، قلنا : هذا النوع من الحلول اقتران ما على ما مرّ واقتران الشي‏ء باحد الشيئين المتقارنين دون الأخر غير معقول ، ومع ذلك فالمحال المذكور باق بحاله للقول بحلول صورتين متحدتى الماهية في محل واحد.

أقول : يعنى أنّ الصورة المعقولة المستأنفة حالّة في العاقلة وفي محل العاقلة معا ، والأخرى وهي العاقلة حالة في آلتها التي هي محلّها. وقوله على ما مر ، ناظر إلى ما مرّ في الفصل التاسع عشر من النمط الثالث من الإشارات من أنّ كل ما يعقل فمن شأن ماهيته أن تقارن معقولا آخر إلخ. ولا يخفى عليك أنّ الفخر في هذا الاعتراض معترض على المقدمة الثالثة المذكورة.

وأمّا الجواب عن اعتراضه الخامس وهو قوله : «الجسم قد يحل فيه أعراض إلخ» فأجاب عنه المحقق الطوسى في شرح الإشارات :

أنّ الوجود ليس بعرض حال في محلّ ، ووجودات الأعراض ليست بمتماثلة بل هي متخالفة بالحقائق ومتشاركة في لازم واحد هو الوجود المشترك المقول بالتشكيك عليها وعلى غيرها. وهذه الاعتراضات وامثالها متولدة من الأصول الفاسدة التي سبق ذكرها. انتهى جواب المحقق عنه.

أقول : يعنى بالوجود المشترك المقول بالتشكيك على الحقائق المختلفة ، مفهومه يحمل بحمل عرضى عليها فإنّ الوجود عند المشائين حقائق متباينة بتمام ذواتها


البسيطة لا بالفصول ليلزم التركيب ويكون الوجود المطلق جنسا ، ولا بالمصنفات والمشخصات ليكون نوعا بل المطلق عرضى لازم لها بمعنى أنّه خارج محمول لا أنّه عرضى بمعنى المحمول بالضميمة. وقد استوفينا البحث عن ذلك بالتحقيق والتنقيب في رسالتنا الفارسية الموسومة بـ وحدت از ديدگاه عارف وحكيم (ص ٥٣ ، ط ١ وص ٥٥ ، ط ٢ ، يازده رساله).

قوله : «من الأصول الفاسدة التي سبق ذكرها». من تلك الأصول عدم الفرق بين المصداق والمفهوم. ومنها أنّ الوجود شي‏ء واحد في الجميع على السواء أي بالتواطى ، وقد سبق ذكر تلك الأصول في شرح المحقق الطوسى على الفصل السابع عشر من النمط الرابع من الإشارات في الجواب عن اضطراب الفخر الرازى في مسائل الوجود.

تبصرة : انّ صاحب الأسفار في تقرير هذه الحجة بيّن اجتماع المثلين بقوله : «الصورة المنطبعة العاقلة ، والصورة المنطبعة المعقولة» ولكن الصواب أنّ المثلين أحدهما نفس الصورة الطبيعية الجسمية التي هي المادة الأصلية ومحل للعاقلة أي هو آلتها ، وثانيهما الصورة المنطبعة المعقولة من تلك المادة الأصلية والمساوية لها. فتبصّر.

ثمّ انّه قدّس سرّه اعترض على المقدمة الثانية من المقدمات الأربع المبتنية عليها الحجة ، بناء على تحقيقه العرشى في الإبصار وتجرّد الخيال بقوله :

أقول : إنّ المقدمة الثانية غير مسلّمة عندنا لأنك قد علمت أنّ القوّة الباصرة تدرك المبصرات لا بارتسام صورها في العين؛ وكذا قوّة الخيال تدرك الصور والأشباح الجسمانية لا بانطباعها في الدماغ ، فهذه الحجة مقدوحة لأجل اختلال تلك المقدمة. انتهى.

أقول : إنّ تنقيب البحث عن ذلك القول الفصل يطلب في العينين الثلاثين ، والثامنة والخمسين ، وشرحهما من كتابنا سرح العيون في شرح عيون مسائل النفس. ولكن رفع تلك المقدمة لا يوجب قدح الحجة ، لو لم نقل بأنّه موجب لتأكيدها وتسديدها. وذلك لأنّ الثالثة منها باقية على قوّتها وحاكمة بتّا بأنّ الأمور الجسمانية لا يمكن أن تكون فاعلة إلّا بآلاتها التي هي موضوعاتها فالحجة ناهضة بمنطقها الصواب وتلك المقدمات‏


قد حرّرها المحقق الطوسى في شرح الإشارات حول الحجّة لبيانها والقدح وارد على تمهيد هذه المقدمة لا على أصل الحجة. ثمّ إذا لم تكن صورة المدرك بالآلة حاصلة في الآلة بل حاضرة لدى النفس بإنشاء النفس وإعداد الآلة كما هو المحقق في الحكمة المتعالية ، كان معناه أنّ النفس في ذاتها عارية عن المحل الذي هو آلتها ، والخصم لا يقول بتجرّدها وإذا كانت مادية فالمقدمة الثالثة باقية على قوّتها ورفع الثانية يضر الحجة.

تنبيه : ما مرّ من التحقيق في أن الحجّتين الثالثة والرابعة من الإشارات على تجرّد النفس مستنبطتان من البرهان السادس من نفس الشفاء ، يؤيّده أنّ الشيخ حيث ذكرهما في الإشارات لم يذكر السادس من الشفاء فيه ، وحيث ذكر البرهان السادس في الشفاء لم يذكرهما فيه. وكذلك ترى صاحب الأسفار لم يأت بسادس الشفاء فيه لأنّ الحجتين الخامسة والثامنة منه هما الحجتان الرابعة والثالثة من الإشارات فتبصّر. هذا ما عندنا من التحقيق حول الحجج الثلاث واللّه سبحانه وليّ التوفيق.


يه) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا ، وهو البرهان السابع

من نفس الشفاء في أنّ قوام النفس الناطقة غير منطبعة في مادة جسمانية.

قال الشيخ :

وأيضا ممّا يشهد لنا بهذا ويقنع فيه أنّ القوّة الدراكة بالآلات يعرض لها من إدامة العمل أن تكلّ لأجل أنّ الآلات تكلّها إدامة الحركة وتفسد مزاجها الذي هو جوهرها وطبيعتها ، والأمور القويّة الشاقّة الإدراك توهنها وربما أفسدتها ولا تدرك عقيبها الأضعف منها لانغماسها في الانفعال عن الشاق كالحال في الحس فإنّ المحسوسات الشاقة والمتكررة تضعفه وربما أفسدته كالضوء للبصر ، والرعد الشديد للسمع ، ولا يقوى الحس عند إدراك القوىّ على إدراك الضعيف فإنّ المبصر ضوء عظيما لا يبصر معه ولا عقيبه نورا ضعيفا ، والسامع صوتا عظيما لا يسمع معه ولا عقيبه صوتا ضعيفا ، ومن ذاق الحلاوة الشديدة لا يحسّ بعدها بالضعيفة ، والأمر في القوّة العقلية بالعكس فإنّ إدامتها للعقل وتصوّرها للأمور التي هي أقوى تكسبها قوّة وسهولة قبول لما بعدها ممّا هو أضعف منها ، فإن عرض لها في بعض الأوقات ملال أو كلال فذلك لاستعانة العقل بالخيال المستعمل للآلة التي تكلّ فلا تخدم العقل ، ولو كان لغير هذا لكان يقع دائما وفي الأكثر والأمر بالضدّ.

بيان : قوله : «يشهد لنا بهذا» أي بكون النفس غير جسمانية. وقوله : «تكلّ» ، الأوّل من الكلال والثانى من الإكلال. وعبارة البرهان في النجاة قريبة من عبارة الشفاء بهذا العنوان : برهان آخر في هذا المبحث ، وأيضا مما يشهد لنا بهذا ويقنع فيه إلخ. وفي النجاة : المستعمل للآلة التي تكلّ هي فلا تخدم ... وفي أكثر الأحوال الأمر بالضدّ وفي‏


بعض نسخ الشفاء : يقع دائما وفي أكثر الاحوال ، والأمر بالضدّ.

وخلاصة البرهان : أن تكرّر افاعيل القوّة العاقلة يؤتيها قوّة وسهولة قبول لما هو أضعف منها ، وتكرّر أفاعيل القوى البدنية تملّها بل تكلّها بل قد تبطلها فلا تدرك عقيبها الأضعف منها ، فالقوّة العاقلة ليست ببدنية.

هذا البرهان هو الحجة الثانية في الفصل الثالث من النمط السابع من الإشارات على تجرّد النفس الناطقة في ذاتها وكمالاتها الذاتية عن المادة وما يتبعها ، حيث قال : «زيادة تبصرة ، تأمل أيضا أنّ القوى القائمة بالأبدان يكلّها تكرارا لأفاعيل إلخ». هذا على ما رآه المحقق الطوسى في شرحه على الإشارات ، وعندنا أنّها حجة ثالثة كما سيأتي كلامنا فيه.

وإليه يؤول البرهان الأوّل من معتبر أبى البركات على أنّ النفس الناطقة من الجواهر التي وجودها لا في موضوع لكنها ليست بجسم. حيث قال :

فاحتجوا على ذلك بأن قالوا : إنّ القوى الجسمانية إلخ (ج ٢ ، ص ٣٥٧ ، ط ١).

وهو الدليل التاسع في المباحث المشرقية للفخر الرازى على أنّ النفس الإنسانية ليست بجسم ولا منطبعة في جسم. حيث قال : الدليل التاسع قالوا : القوى الجسمانية تكلّ بكثرة الأفعال إلخ (ج ٢ ، ص ٣٧٢ ، ط ١).

وهو الوجه السابع على تجرّد النفس في تجريد الاعتقاد حيث قال المحقق الطوسى : ولحصول الضدّ (كشف المراد بتصحيح الراقم ، ص ١٨٧) على النحو الذي فسره الشارح العلّامة الحلى.

وهو الحجة التاسعة من نفس الأسفار على تجرّد النفس الناطقة الإنسانية تجرّدا تامّا عقليا حيث قال : «الحجة التاسعة القوى البدنية تكلّ بكثرة الأفعال إلخ» (ج ٤ ، ص ٧٣ ، ط ١).

وهو البرهان الثالث عشر من أسرار الحكم للحكيم السبزوارى بالفارسية حيث قال : «برهان سيزدهم ، قواى جسمانيه بدنيه ضعيف مى‏شوند به كثرت افعال وتكرر آنها بتجربه ودليل إلخ» (ص ٢٥٤ بتصحيح الأستاذ العلّامة الشعرانى (رضوان اللّه تعالى عليه)).


اعلم أنّ هذا البرهان كما يدل على أنّ القوّة العاقلة ليست بجسمانية ، كذلك يدلّ على أنّ القوّة الخيالية أيضا ليست بجسمانية وسيأتيك بيانه. وقد اعترض أبو البركات في المعتبر ، والفخر الرازى في المباحث وشرح الإشارات عليه بما ليس بوارد حقا ، ولكن يجب نقله والتنبيه على ردّه. والحرى أن نحكى صورة البرهان من الإشارات ونأتى بما أفاده المحقق الطوسى في شرحه ثمّ نتبعه بما نهديها إليك فنقول قال الشيخ في الإشارات :

زيادة تبصرة : تأمّل أيضا أنّ القوى القائمة بالأبدان يكلّها تكرّر الأفاعيل لا سيّما القوية ، وخصوصا إذا اتبعت فعلا فعلا على الفور وكان الضعيف في مثل تلك الحال غير مشعور به كالرائحة الضعيفة إثر القويّة ، وأفعال القوة العاقلة قد تكون كثيرا بخلاف ما وصف. انتهى كلام الشيخ في تقرير الحجة.

وقال المحقق الطوسى في الشرح :

يقال : خرجت في إثر فلان بكسر الهمزة أي في أثره. وهذه حجة ثانية. وتقريرها أنّ تكرر الأفاعيل ، وخصوصا الأفاعيل القويّة الشاقّة يكلّ القوى البدنية بأسرها. ويشهد بذلك التجربة والقياس : أمّا التجربة فظاهرة. وأمّا القياس فلأنّ تلك الأفاعيل لا تصدر عن قواها إلّا مع انفعال لموضوعات تلك القوى كتأثر الحواس عن المحسوسات في المدركة ، وكتحرّك الأعضاء عند تحرّك غيرها في المحرّكة ، والانفعال لا يكون إلّا عن قاهر يقهر طبيعة المنفعل ويمنعه عن المقاومة فيوهنه ، والفعل وإن كان مقتضى طبيعة القوّة لكنه لا يكون مقتضى طبائع العناصر الّتي يتألّف موضوعات تلك القوى عنها فيكون تلك الطبائع مقسورة عليها مقاومة لتلك القوى في أفعالها ، والتنازع والتقاوم يقتضى الوهن فيهما جميعا ، وربما يبلغ الكلال والوهن حدّا يعجز عنده القوّة عن فعلها أو يبطل كالعين تضعف بعد مشاهدة النور الشديد عن الإبصار أو تعمى.

قوله : «وأفعال القوّة العاقلة قد تكون كثيرا بخلاف ما وصف» هذه القضية هي صغرى القياس وكبراه ما مرّ وتقريره أن يقال : العاقلة قد لا تكلّها كثرة الأفاعيل ، وكلّ قوّة


بدنية فدائما تكلّها كثرة الأفاعيل ، فالعاقلة ليست ببدنية. والعاقلة وإن كانت تعقلها مع انفعال ما لكنّها لا تضعف ولا تكلّ بالانفعال لبساطة جوهرها وخلّوها عن التقاوم المذكور بخلاف البدنية.

وإنّما قال : قد تكون كثيرا بخلاف ما وصف ، ولم يقل دائما لأنّ العاقلة إذا كان تعقّلها بمعاونة من الفكرة التي هي قوّة بدنية فقد تضعف عن التعقّل لا لذاتها ولكن لضعف معاونها.

والحاصل أنّ تكرر الأفعال يوهن القوى البدنية أو يبطلها دائما ، ولا يوهن العقلية دائما بل ربما يقويها ويشحذها فضلا عن الإبطال.

واعتراض الفاضل الشارح بتجويز كون العاقلة مخالفة لسائر القوى بالنوع مع كون الجميع بدنية ، وحينئذ لا يبعد اختصاص البعض بالكلال دون البعض ساقط لأنّ القياس المذكور يأباه. وأمّا قوله : الخيال يدرك البقّة بعد تخيّل الجبال فإذن الحكم بأنّ الضعيف غير مشعور به أثر القوى ليس بكلّى ، فليس بشي‏ء لأنّهم لا يعنون بقوّة المحسوس كبره ، ولا بضعفه صغره ، بل يعنون بهما شدّة تأثيره في الحاسة وضعفه.

انتهى كلام محقق الإشارات في المقام.

بيان : قوله : قدّس سرّه : «وهذه حجة ثانية». أقول : أنّه جعل الحجج على تجرّد النفس الناطقة من كلام الشيخ في الإشارات أربع ، وأخذ الفصل الثانى من سابع الإشارات وهو قوله : «تبصرة إذا كانت النفس الناطقة ، إلخ» مؤكدا للفصل الأوّل في تجرّدها حيث قال في الشرح على الفصل الأوّل : «ثمّ إنّ الشيخ أكّد هذا المطلوب بما أورده بعد هذا الفصل» ؛ ولكنّنى أقول : إنّ الحجج على تجرّدها في الإشارات خمس؛ لأنّ الفصل الأوّل هو في تجرّدها على أنّها موضوع ما للصور المعقولة فحيث إنّ الصور المعقولة عارية عن المادة وأحكامها فلا بدّ من أن يكون موضوعها من سنخها وإلّا يلزم انقسام تلك الصور المرسلة البسيطة بانقسام محلّها أي موضوعها ، وإن كان الأمر أرفع من التعبير بالمحلّ والموضوع ونحوهما من القبول والانطباع وأترابهما الرائجة في أقلام المشاء والمتكلمة.


وأمّا الفصل الثانى فقد أثبت فيه تجرّدها من حيث كلال آلاتها وعدم كلالها في فعلها أي في إدراكها وتعقلها فأين أحدهما من الآخر.

ثمّ قال محقق الإشارات في شرح الفصل الثانى المذكور :

قوله : إذا كانت النفس الناطقة قد استفادت ملكة الاتصال بالعقل الفعال لم يضرّها فقدان الآلات ، تكرار لما سلف.

وأقول : ليس هذا بتكرار بل هو حكم فارد ، ونتيجة واحدة يستفاد من جميع أدلة تجرّد النفس فإنّ أدلّة التجرّد كلّها ناطقة بأنّ هذا الجوهر البسيط لا يضرّها فقدان الآلات.

وبالجملة لا يصح الارتياب في كون أدلّة تجرّدها تجرّدا عقليا تنتهى في النمط السابع من الإرشاد إلى خمسة فعليك بالرجوع إليه والتوغل فيه.

قوله : «التجربة والقياس» يعنى بالقياس البرهان كما نطق به غير مرّة.

قوله : «فلأنّ تلك الأفاعيل لا تصدر عن قواها إلّا مع انفعال لموضوعات تلك القوى» الموضوعات أوّلا هي الروح البخارى المصبوب في محالّه.

وقوله : «وإن كان مقتضى طبيعة القوّة» دفع دخل مقدر وهو أن يقال إذا كان الفعل مقتضى طبيعة القوّة ومناسبا لها وملائما لها فكيف يوجب وهنها وكلالها؟ فدفعه بقوله : الفعل وإن كان مقتضى طبيعة القوّة لكنه لا يكون مقتضى طبائع العناصر.

وقوله : «لبساطة جوهرها» اى ليست بمركبة من العناصر فإنّ الفساد يعرض ما هو مركب من العناصر ، فالجوهر البسيط كالنفس لن يفسد. وقولهم الممكن زوج تركيبى من وجود وماهية لا يكون نحو هذا التركيب الذي يعرض له الفساد فإنّ ذلك التركيب تحليل عقلى في وعاء الذهن.

قوله : «واعتراض الفاضل الشارح» يعنى به الفخر الرازى قد شرح الإشارات قبل المحقق الطوسى وقال المحقق في أوّل ديباجة شرحه على منطق الإشارات بعد ما وصف الفخر الرازى بشرحه الإشارات : إنّه بتلك المساعى لم يزده إلا قدحا ، ولذلك سمّى بعض الظرفاء شرحه جرحا.


وقوله : «مع كون الجميع بدنية» بيان لوجه شركة القوى. وقوله : «لأنّ القياس المذكور يأباه» وذلك لأنّ القياس كلى وكان ناطقا بأنّ كل قوّة بدنية يكلها كثرة الأفاعيل وتكررها. وقوله : «بل يعنون بهما شدة تأثيره في الحاسة وضعفه» فربما كان إدراك الصغير كالبقّة مثلا أشدّ تأثيرا للمدركة وذلك لصغره ودقته ولطافته دون الكبير. ولكن جوابه غير تام والتمام مبتن على تجرّد الخيال كما سيأتي تحقيقه من صاحب الأسفار وتنقيب البحث عن ذلك منّا.

اعلم انّ الفخر في المباحث بعد تقرير البرهان المذكور جرى الحق على لسانه فاعترض على البرهان بأنّ الخيال أيضا كالقوّة العقلية لا تضعف بكثرة الأفاعيل وتكرّرها بل تقوى على القوي بعد الضعيف ، فبهذا البرهان يجب أن يكون القوّة الخيالية غير مادية مع أنّهم قائلون بأنّها جسمانية. ثمّ انّ صاحب الأسفار بعد تقرير البرهان صرّح بأنّه يدل أيضا على كون القوّة الخيالية غير جسمانية وله في المقام بعض إشارات يريد بها صاحب المباحث في اعتراضه المذكور من غير أن يصرّح باسمه وكتابه ، فالحقيق أن نذكر ما في المباحث أوّلا ثمّ ما في الأسفار وما لنا حول كلماتهما من البيان :

قال صاحب المباحث :

فإن قيل القوّة الخيالية جسمانية ثمّ انّها تقوى على تخيل الأشياء العظيمة مع تخيلها للأشياء الحقيرة مثلا إذا تخيّلنا صورة شعلة يمكننا أن نتخيل مع ذلك صورة الشمس والقمر والسماء وغيرها فبطل قولكم إنّ القوى الجسمانية لا تقوى على الأفعال الضعيفة عند صدور الأفعال القوية عنها.

فنقول : إنّا إذا ادّعينا أنّ الفعل الجسمانى القوى يمنع من الفعل الجسمانى الضعيف وهاهنا إذا تخيلنا الشمس والقمر فالمدرك قوى. أما ربما لا يكون إدراكنا لهما قويا فلا جرم لا يمنع من تخيل الأشياء الضعيفة. وأما إذا قوى تخيلنا لهما بحيث صرنا مستغرقين في ذلك التخيّل امتنع علينا والحال هذه تخيل الأشياء الحقيرة. وأما القوة العقلية فليست كذلك ، فإنّا إذا عقلنا الشي‏ء العظيم أمكننا في ذلك الوقت تعقل الشي‏ء الحقير.


ولقائل أن يقول : كما أنا متى استغرقنا في تخيل شي‏ء عظيم انقطعنا عن تخيل الأشياء الصغيرة ، كذلك متى استغرقنا في تعقل شي‏ء عظيم انقطعنا عن تعقل غيره. والدليل عليه أن من استغرق في جلال اللّه جلّت عظمته امتنع عليه في تلك الحالة أن يشتغل بسائر المعقولات. انتهى كلام الفخر في المقام (ج ٢ ، ص ٣٧٢ ، ط ١).

أقول : قوله : «فإن قيل القوّة الخيالية جسمانية» اعتراض الفخر مبتن على كون القوّة الخيالية جسمانية ، وقد بيّنا في العين الثانية والعشرين من كتابنا العيون أنّ المشاء كانوا قائلين بأنّها مادية ، والشيخ كان مصرا في ذلك ولكنّه استبصر بالأخرة فحكم بأنّ قوّة الخيال والصور الخيالية مجرّدة.

وجملة الأمر أنّ صاحب المباحث بنى اعتراضه أوّلا على جسمانيّة قوة الخيال ونطق بالصواب ، لكنه تصدّى لجوابه بأنّ المدرك بالفتح إذا كان قويّا كالشمس والقمر مثلا لا يوجب أن يكون إدراكهما أيضا قويا ، فأمكن أن يتخيل الإنسان شيئا قويا ولا يكون إدراكه التخيّلى قويا فلا جرم لا يمنع من تخيل الأشياء الضعيفة. أمّا إذا كان ذلك الإدراك التخيلى قويا امتنع بعده تخيل الأشياء الحقيرة ، بخلاف القوّة العاقلة. ثمّ اضطرب الفخر بما أشكل عليه من قوله : «ولقائل أن يقول كما أنا متى إلخ». فعليك بما في الأسفار في المقام حيث قال :

وهذا البرهان أيضا يدل على كون القوّة الخيالية غير جسمانية فانّها تقوى على تخيّل الأشياء العظيمة مع تخيّلها للأشياء الحقيرة. مثلا يمكنها أن تتخيّل فلك الأفلاك مع الخردلة ، وأن تتخيّل ضوء الشمس وحرارة النار مع ضوء الشرارة وحرارة الهواء المعتدلة ، وأن تتخيّل صوت الرعد مع الهمس. وهذا مما أشكل الأمر على من لم يتفطّن بتجرّد الخيال عن الموادّ المستحيلة الكائنة الفاسدة فجعل يتكلف في دفع الإشكال عن نفسه بأنّ قوّة الإدراك غير قوّة المدرك فالشمس والقمر والسماء مدركات قوية ونحن إذا تخيّلناها فإدراكنا لها لا يلزم أن يكون قويا ، ولأجل ذلك لا يمنع إدراكنا لها عن إدراك المدركات الضعيفة؛ وأمّا إذا قوى تخيلنا لها بحيث صرنا مستغرقين في ذلك التخيل امتنع علينا والحال هذه تخيل الشي‏ء الحقير.


أقول : الإدراك لا يخلو إمّا أن يكون هو الصورة الحاصلة من الشي‏ء ، أو الإضافة التي بين المدرك والمدرك كما هو مذهب هذا القائل ، فعلى الأوّل لا معنى لقوّة الإدراك وضعفه إلّا قوّة المدرك وضعفه لأنّهما أمر واحد ، لأنّ المدرك في الحقيقة هو الصورة لا الأمر الخارجى الذي ربما لا يوجد في الخارج عند وجود الصورة. ثمّ لا يخفى أنّ صورة السماء التي في الخيال أقوى من صورة الخردلة فيه.

وأمّا على الثانى فالإضافة من الأمور التي لا توصف بقوّة ولا ضعف ولا عظم ولا حقارة إلّا باعتبار ما أضيف إليه. ثمّ قوله وأمّا إذا قوى تخيلنا امتنع علينا والحال هذه تخيّل الشي‏ء الحقير ، يناقض ما ذكره حيث وصف الشي‏ء المتخيل بالحقارة دون الخيال. وأيضا الاستغراق في إدراك الشي‏ء في الحقيقة يرجع إلى ضعف الإدراك بالنسبة إلى وجود المدرك وغلبة وجود المدرك واستيلائه على القوّة الإدراكية فيقهرها عن الإحاطة به والاكتناه ، فليس الاستغراق في إدراك الشي‏ء عبارة عن تسلط الإدراك على المدرك بل تسلط المدرك على الإدراك. وأيضا ما ذكره مشترك بين الإدراك العقلى والإدراك الخيالي فإنّا متى استغرقنا في تعقل شي‏ء عظيم قوىّ الوجود عالى المرتبة رفيع السمك انقطعنا عن تعقل غيره. ومن استغرق في جلال اللّه وعظمته امتنع عليه الالتفات إلى ذاته فضلا عن تعقل معقولات أخرى. انتهى كلام صاحب الأسفار في المقام. (ج ٤ ، ص ٧٤ ، ط ١).

أقول في بيان بعض كلماته المنيفة : قوله : «وهذا مما أشكل الأمر على من لم يتفطّن» ناظر إلى كلام الفخر في المباحث حيث قال : «فإن قيل القوّة الخيالية جسمانية ثمّ إنّها تقوى على تخيل الأشياء العظيمة إلخ».

وقوله : «بأنّ قوّة الإدراك غير قوة المدرك» القوّة بمعناها اللغوى ، وإضافتها إلى الإدراك بمعنى كون الإدراك قويّا. وكذا قوله غير قوّة المدرك. والمدرك على صيغة اسم المفعول.

وقوله : «إلّا باعتبار ما أضيف إليه» يعنى باعتبار ما أضيفت الإضافة إليه أي أسندت الإضافة إليه ، يعنى أنّ الإضافة لا توصف بالذات بتلك الأوصاف من القوّة والضعف‏


والعظم والحقارة بل باعتبار ما أضيفت إليه فإذا كان اتصافها بها لا بذاتها بل بالإضافة فإدراك القوىّ يلزم أن يكون قويا ، كذلك إدراك الشي‏ء الضعيف يلزم أن يكون ذلك الإدراك ضعيفا.

وقوله : «حيث وصف الشي‏ء المتخيل بالحقارة» يعنى أنّ الحقير في قوله تخيل الشي‏ء الحقير ، وصف للتخيل.

وقوله : «وأيضا الاستغراق في إدراك الشي‏ء في الحقيقة يرجع إلى ضعف الإدراك» كلام سام بعيد الغور وذلك لأنّ الكامل لا يشغله شأن عن شأن ، أعنى أنّه يصير مظهرا للاسم الشريف يا من لا يشغله شأن عن شأن. قال المعلّم الثانى الفارابى في الفص الواحد والخمسين والذي بعده من الفصوص :

الروح القدسية لا يشغلها جهة تحت عن جهة فوق ، ولا يستغرق الحس الظاهر حسّها الباطن ـ إلى أن قال : الأرواح العامية الضعيفة إذا مالت إلى الباطن غابت عن الظاهر ، وإذا مالت إلى الظاهر غابت عن الباطن إلخ.

وراجع شرحنا على الفصوص الموسوم بـ نصوص الحكم على فصوص الحكم (ص ٣٠٢ ـ ٣١٥ ، ط ١).

وكذا قال الشيخ الأكبر العارف العربى في الفصّ الاسحاقى من فصوص الحكم في البحث عن خلق العارف بهمّته ما هذا لفظه :

والعارف يخلق بهمّته ما يكون له وجود من خارج محلّ الهمّة ولكن لا تزال الهمّة تحفظه ولا يئودها حفظه أي حفظ ما خلقته فمتى طرأ على العارف غفلة عن حفظ ما خلق عدم ذلك المخلوق إلّا أن يكون العارف قد ضبط جميع الحضرات وهو لا يغفل مطلقا إلخ.

وراجع في تنقيب ذلك شرحنا على فصوص الحكم هذا أيضا.

وقوله : «وأيضا ما ذكره مشترك إلخ» يعنى أنّ ما ذكره جار في الإدراك العقلى أيضا فيلزم منه أن تكون القوّة العاقلة أيضا جسمانية كالخيالية. فقوله : «فانا متى استغرقنا ـ إلى قوله : عن تعقل غيره» بيان لجريان ما ذكره في الإدراك التخيلى. وقوله : «ومن‏


استغرق في جلال اللّه ـ إلى آخره» بيان لجريانه في الإدراك العقلى. فالدليل يثبت تجرّد الخيال أيضا تجرّدا برزخيا فتبصّر.

وصاحب المعتبر أبو البركات بعد تقرير الحجة اعترض عليها بما تسمعه قال : أمّا الذين قالوا انّ النفس من الجواهر التي وجودها لا في موضوع فاحتجوا على ذلك بأن قالوا : إنّ القوى الجسمانية المدركة في الحواس الظاهرة والباطنة بآلاتها الجسمانية تستضر أفعالها بما ينال آلاتها من الضرر فتضعف أو تتشوّش أو تبطل وليس كذلك النفس الناطقة.

أقول : هذا هو تقرير أبى البركات أصل الحجة وهي الحجة الأولى في المعتبر على تجرّد النفس الناطقة. ثمّ تصدّى للاعتراض عليها بقوله :

أمّا الحجة الأولى القائلة بأنّ القوى الجسمانية إذا أصاب موضوعها الذي هو البدن آفة استضر فعلها وليس كذلك القوّة العقلية ، فنقول : في جوابه إنّ القوّة العقلية كذلك أيضا تستضر أفعالها بأمراض البدن كما يضعف الرأى والتفكر والروية في الأمراض البدنية. فإن قيل إنّ ذلك الضرر ليس فيها لكن في الآلة ، قيل : ومن لنا بذلك وما الذي يدل عليه أنّه كذلك في هذه القوّة دون غيرها إذا جمعها وعمّها مع باقى القوى ضرر الفعل بمرض البدن؟ فلم تدلّ هذه الحجة من حيث لم تميز ولم تفرق. فإن أعينت بغيرها من الحجج كانت الحجة غيرها. انتهى كلام صاحب المعتبر.

أقول : القياس المتقدم في تقرير هذه الحجة يأبى هذا الاعتراض رأسا ، وذلك لأنّ كبرى القياس في جانب القوى البدنية كلية دائمية؛ وأمّا صغرى القياس في جانب القوّة العقلية جزئية قد تستضر أفعالها بأمراض البدن فلو خالفتها وتخلفت عنها مرّة واحدة لكانت الحجة ناهضة بأنّها ليست من سنخ القوى البدنية ، والمكابر يكابر مقتضى عقله. وإنّما قلنا في صدر البحث عن هذا البرهان إنّ الحجة الأولى من المعتبر تؤول إليه ، لأنّ حجة المعتبر بظاهرها اعمّ شمولا منه وذلك لأنّها يشمل ما نال آلات القوى البدنية من الضرر كان من تكرّر أفاعيل تلك القوى أو من غيره كالأمراض الطارية عليها من جهة أخرى ولكن المآل واحد فلا ينبغى بهذا القدر من الفرق جعلهما حجتين منفردتين‏


على ذلك.

وأما المحقق الطوسى فقال في التجريد : «وهي جوهر مجرّد ... ولحصول الضد» وفي كشف المراد :

هذا وجه سابع يدلّ على تجرّد النفس. وتقريره أنّ القوّة الجسمانية مع توارد الأفعال عليها وكثرتها تضعف وتكلّ لأنّها تنفعل عنها ، ولهذا فإنّ من نظر طويلا إلى قرص الشمس لا يدرك في الحال غيرها إدراكا تامّا والقوى النفسانية بالضد من ذلك فإنّ عند تكثر التعقلات تقوى وتزداد. فالحاصل عند كثرة الأفعال هو ضدّ ما يحصل للقوّة الجسمانية عند كثرة الأفعال. فهذا ما خطر لنا في معنى قوله : رحمه اللّه : ولحصول الضد. انتهى كلام الشارح العلامة (ص ١٨٧ بتصحيح الراقم وتعليقاته عليه).

تذكرة : قد تقدم ما خطر لنا في معنى قوله «ولحصول الضد» في البحث عن الحجة الثالثة من الباب الثانى ، فتذكّر.

تبصرة : ينبغى إهداء مطلب حول تقريرات هذا البرهان وهو متفرع على نقل ما في المباحث والأسفار من تقرير البرهان أيضا سيما أنّ تقرير صاحب الأسفار له دخل عظيم في تفهيم المفاد وتقريب الذهن إلى المراد. ففي المباحث :

الدليل التاسع قالوا : القوى الجسمانية تكلّ بكثرة الأفعال ولا تقوى على القوى بعد الضعف وعلة ذلك ظاهرة لأنّ القوى الجسمانية بسبب مزاولة الأفعال الكثيرة تتعرض موادها للتحلل والذبول وبسبب ذلك يعرض الضعف لها ، وأمّا القوّة العقلية فانّها لا تضعف بكثرة الأفعال وتقوى على القوى بعد الضعف فظهر أنها غير مادية أصلا.

وفي الأسفار :

الحجة التاسعة القوى البدنية تكلّ بكثرة الأفعال ولا تقوى على الضعيف بعد القوى. وعلة ذلك أنّ القوى الجسمانية المادية موادّها قابلة للتبدل والاستحالة والذبول وبسبب ذلك يعرض لها تبدل الأحوال. أمّا كلالها وضعفها فلتحلّل المادة وذبولها؛ وأمّا عدم تمكّنها من الفعل الضعيف إثر القوى فالسّر فيه أنّ القوى يناسب الأفاعيل فإنّ هذه القوى لمّا كان من شأنها الاشتداد والتضعيف والتبدّل بالاستحالة كما علمت‏


فهي متفاوتة الحدوث حسب تفاوت الاستعداد فإذا استعملت الآلة الجسمانية في إدراك قوىّ أو فعل قوىّ فلا بدّ هناك من قوّة قوية فيفيض من المبدا القوّة القوية على تلك الآلة ، ثمّ إذا استعملت إثر ذلك الفعل في فعل آخر ضعيف يعسر ذلك على تلك القوّة لأنّها لا تناسبه وإنّما المناسب لهذا الفعل الضعيف قوّة ضعيفة ، والقوّة أنّما تحدث تدريجا لا دفعة كما علمت فيما سبق؛ ولأجل ذلك لا يمكن للقوّة القوية الفعل الضعيف كما لا يمكن للقوّة الضعيفة الفعل القوى ، ألا ترى أنّ القوّة المحركة التي في الحجر العظيم لا يمكن لها التحريك البطي‏ء لذلك الحجر في هويّه ، ولا للحرارة الشديدة التسخين الضعيف لما يلاقيه. وأمّا القوى الغير الجسمانية فلكونها متساوية النسبة إلى جميع القوابل وغير متناهية القوّة فلا جرم يجوز أن يصدر منها القوىّ والضعيف من الأفعال بعضها عقيب بعض من جهة الأسباب المخصّصة ، فلأجل ذلك لا تضعف بكثرة الأفعال وتقوى على القوى بعد الضعيف وعلى الضعيف بعد القوى. فإذا تقررت هذه المقدمة فنقول : القوّة العاقلة لمّا كانت هكذا لأنّها تدرك المعقولات القوية والضعيفة بعضها عقيب بعض فهي ليست جسمانية كسائر القوى البدنية التي شأنها ما ذكرناه انتهى ما أفاد في تقرير المراد.

فأقول : النفس تقوى على الضعيف إثر القوى أي عقيبه ، كما أنّها تقوى على القوى إثر الضعيف ، ولا تكون القوى الجسمانية كذلك بل تضعف وتذبل وتنفذ إثر القوي والضعيف. وعبارات الحجة بعضها يناسب تقدم القويّ على الضعيف بأن يقال ولا تقوى على القويّ بعد الضعيف كما هو عبارة المباحث والأسفار. ولا يخفى أنّ النفس تقوى على الضعيف بالتجربة والتعليم والتمرّن والتداوم وغيرها ، بل يصحّ أن يقال إنّها تقوى على القوىّ بعد الضعف كما في المباحث وعبارات صدر ما في الأسفار من تقرير الحجة أيضا تناسب هذا الوجه ، وتقرير الفخر أظهر في ذلك. وبعض عبارات الحجة على ما في الأسفار يناسب تقدّم الضعيف على القوى بأن يقال ولا تقوى على الضعيف بعد القوى كما أنّ عبارة الكتاب أعنى الأسفار وهي قوله : «وأمّا عدم تمكنها من الفعل الضعيف إثر القوي» ناصّة على ذلك. ثمّ أنّ بعض عبارات الحجة في الأسفار


على الوجه التعميم حيث يقول : «يجوز أن يصدر منها القوى والضعيف من الأفعال بعضها عقيب بعض» حتى يشمل الوجهين.

وبالجملة هذه الحجة ناطقة بأنّ النفس تقوي على القوى بعد الضعف أى بعد ضعفها تقوى على القوى؛ وتقوى على الفعل القوى بعد الفعل الضعيف؛ وتقوى على الفعل الضعيف بعد الفعل القوي ، والقوى الجسمانية ليست كذلك فتبصّر.


يو) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا ، وهو البرهان

الثامن من نفس الشفاء في أنّ قوام النفس الناطقة غير منطبعة في مادة جسمانيّة.

قال الشيخ :

وأيضا فإنّ أجزاء البدن كلّها تأخذ في الضعف من قواها بعد منتهى النشو والوقوف وذلك دون الأربعين أو عند الأربعين ، وهذه القوّة المدركة للمعقولات أنّما تقوى بعد ذلك في أكثر الأمر؛ ولو كانت من القوى البدنية لكان يجب دائما في كل حال أن تضعف حينئذ ، لكن ليس ذلك إلّا في أحوال وموافاة عوائق دون جميع الأحوال فليست هي إذن من القوّة البدنية.

ومن هذه الأشياء تبيّن أنّ كل قوّة تدرك بآلة فلا تدرك ذاتها ، ولا آلتها ، ولا إدراكها ، ويضعفها تضاعف الفعل ، ولا تدرك الضعيف إثر القوىّ ، والقوى يوهنها ، ويضعف فعلها عند ضعف آلات فعلها والقوّة العقلية بخلاف ذلك كلّه.

بيان : قوله : «وأيضا فإنّ أجزاء البدن» أى هذا دليل آخر على تجرّد النفس.

وقوله : «لكن ليس ذلك إلّا في أحوال» أي ليس ذلك الضعف للقوّة العقلية إلّا في أحوال إلخ.

وقوله : «والقوّة العقلية بخلاف ذلك كله» الواو حالية. والمراد من الأشياء في قوله : «ومن هذه الأشياء تبيّن» البراهين المتقدمة في تجرّد النفس الناطقة الإنسانية. وإلى هذا البرهان ينتهى البراهين على أنّ قوام النفس الناطقة غير منطبع في مادة جسمانية من نفس الشفاء ظاهرا ولكن فيه برهانا آخر يأتى التحقيق فيه.

وهذا البرهان مذكور في النجاة أيضا. وهو في المطبوعة المصرية معنونة بقوله :


برهان ثالث وأيضا فإنّ أجزاء البدن إلخ. وعبارات النجاة تحاكى عبارات الشفاء أيضا إلّا في بعض العبارات على تغيير يسير ففي النجاة : وأيضا فإنّ البدن تأخذ أجزاؤه كلّها تضعف قواها ... وهذه القوة أنّما تقوى بعد ذلك ... فليست إذا من القوى البدنية.

وهو الحجة الأولى من النمط السابع من الإشارات على تجرّدها وإن كان ما في الإشارات أعمّ شمولا من الشفاء.

وهذا البرهان هو الحجة السادسة من معتبر أبى البركات على كون النفس جوهرا غير جسمانى (ج ٢ ، ص ٣٥٨ ، ط ١) قال :

أمّا الذين قالوا انّها من الجواهر التي وجودها لا في موضوع لكنها ليست بجسم فاحتجوا على ذلك ... وبأنّ الأبدان وقواها تضعف إذا جاوزت في قوتها ونموّها أشدّها ومنتهاها ، وتأخذ بعد بلوغ الغاية في الذبول والانحطاط ، والنفس الناطقة تقوى حينئذ في كثير من الناس أولا تضعف مع ما يضعف من القوى فليست بجسمانية مثلها.

ثمّ اعترض على حجيتها. ويأتى نقل الاعتراض وردّه.

وهو الدليل السادس من المباحث المشرقية للفخر الرازى : لو كانت القوّة العاقلة جسدانية لضعفت في زمان الشيخوخة دائما إلخ (ج ٢ ، ص ٣٦٦ ، ط ١). ثمّ أخذ في الاعتراض عليه بما سنتلوه عليك مع ردّه.

وهو الوجه السادس في تجرّد جوهر النفس من تجريد الاعتقاد للمحقق الطوسى قوله : «وهي جوهر مجرّد ... ولانتفاء التبعية قال الشارح العلامة الحلى في كشف المراد :

الذي فهمناه من هذا الكلام أنّ هذا وجه آخر دال على تجرّد النفس ، وتقريره : أنّ القوّة المنطبعة في الجسم تضعف بضعف ذلك الجسم الذي هو شرط فيها ، والنفس بالضد من ذلك فإنّها حال ضعف الجسم كما في وقت الشيخوخة تقوى وتكثر تعقلاتها ، فلو كانت جسمانية لضعفت بضعف محلّها وليس كذلك ، فلمّا انتفت تبعية النفس للجسم في حال ضعفه دلّ ذلك على أنّها ليست جسمانية. (كشف المراد ،


ص ١٨٧ بتصحيح الراقم وتعليقاته عليه).

وهو الحجة السادسة في الأسفار على تجرّد القوّة الخيالية والوهمية. قال : «الحجة السادسة لو كانت القوّة العاقلة جسدانية لضعفت في زمان الشيخوخة دائما إلخ (ج ٤ ، ص ٧٢ ، ط ١).

وهو الحجة الخامسة من رسالة في السعادة والحجج العشر للشيخ الرئيس أيضا بتقرير آخر قال :

الحجة الخامسة ، من البيّن أنّ الأجسام الواقعة تحت النمو تأخذ في سنّ الشيخوخة في الضعف وكذلك جميع القوى الملابسة لها ، ولو كان محل العلم جسما أو قوّة جسمانية تتعلق تنميتها بكمال الجسم وقوّتها بقوّته لكانت الشيخوخة على الاضطرار تضعف القوّة المميزة ، أو الجوهر التمييزى عن تعقل الحكمة فلا يوجد أحد من الناس إلّا وهو في تلك الحال أضعف منه في الأحوال التي كان الجسم والقوى الجسمانية فيها قوية جدا ، وقد نرى من يكبر سنّه ، ويأخذ جوهره الجسمانى في الذبول يكون أقوى تمييزا ممّا كان أوّلا ، بل ذلك على الأكثر؛ ولو كان الموضوع جسما حقا لما كان يوجد هذا في حال أبدا؛ فإذا موضوع العلم جوهر غير جسمانى ، وذلك ما أردنا أن نبيّن. (ص ٩ ، ط ١ بحيدرآباد الدكن).

وهو البرهان الرابع على جوهرية النفس وغناها عن البدن في القوام ، في الفصل التاسع من رسالة الشيخ الرئيس أيضا الموسومة بـ هدية الرئيس أهداها للأمير نوح بن منصور السامانى ، بتقرير آخر. قال :

ومن البراهين الدالّة على صحة هذه الدعوى ما أنا مبيّنة فأقول : لا شك أنّ الجسم الحيواني والآلات الحيوانية إذا استوفين سنّ النمو وسنّ الوقوف أخذت في الذبول والتنقّص وضعف القوّة وكلال المنّة وذلك عند الإنافة على الأربعين سنة. ولو كانت القوّة الناطقة العاقلة قوّة جسمانيّة آليّة لكان لا يوجد أحد من الناس في هذه السنين إلّا وقد أخذت قوّته هذه تتنقص ولكنّ الأمر في أكثر الناس على خلاف هذا بل العادة جرت في الأكثر أنّهم يستفيدون ذكاء في القوّة العاقلة وزيادة بصيرة. فإذن‏


ليس قوام القوّة النطقية بالجسم والآلة فإذن هي جوهر قائم بذاته وذلك ما أردنا بيانه. (رسائل الشيخ الرئيس ، ص ٧١ ، ط مصر ، سنة ١٣٢٥ ه بتصحيح ادور فنديك وص ١٧٥ من أربع رسائل نفسية للشيخ بتصحيح الأهواني ، ط مصر ، ١٣٧١ هـ).

وهذا البرهان ذكره ابن مسكويه (ابو على احمد بن محمد بن يعقوب بن مسكويه الخازن الرازى معاصر الشيخ الرئيس) في صدر كتاب طهارة الأعراق وقد نقلناه وبيّناه بالفارسية في الدرس السادس والخمسين من كتابنا دروس معرفة النفس (ص ١٧٥ ـ ١٧٨ ، ط ١).

اعلم أنّ أهم ما ينبغى أن يذكر حول هذا البرهان هو ما في المباحث المشرقية من التقرير والاعتراض أوّلا ، ثمّ ما في الأسفار ثانيا فإنّ صاحب الأسفار ناظر في كلماته إلى ما في المباحث ، وبعد ردّ اعتراضاته تصدّى لتحقيق تفرد هو به في الحكمة المتعالية ، ثمّ نزيد عليهما بما لنا من التعليقات الإيضاحيّة في بيان بعض عباراتهما في المقام ، قال في المباحث :

الدليل السادس ، لو كانت القوّة العاقلة جسدانية لضعفت في زمان الشيخوخة دائما ، لكنّها لا تضعف في زمان الشيخوخة دائما ، فهي غير جسدانية. ويصحّح نقيض التالي بقياس من الشكل الثالث هكذا : كل ما يعقل به الشيخ الأشياء فهو قوّة عاقلة ، وليس كل ما يعقل به الشيخ الأشياء فإنّه يكلّ عند الشيخوخة ، فليس كل قوّة عاقلة تكلّ عند الشيخوخة.

واعلم أنّه ليس من الواجب في صحّة ما قلنا أن لا يكون عقل شيخ يكل بل إذا كان عقل ما لم يكل في الشيخوخة وإن كان سائر العقول يكلّ فالمطلوب قد صح ، فإنّه إن كانت النفس محتاجة في ذاتها إلى البدن كان اختلال البدن موجبا لاختلال النفس لا محالة فحينئذ يستحيل أن يختل البدن وتكون النفس سليمة ، أمّا إذا كانت النفس غنية في ذاتها عن البدن لا يلزم أن تختل أفعال النفس عند اختلال البدن. نعم قد يجوز أن يكون اشتغالها بتدبير البدن عند اختلاله يعوقها عن سائر أفعالها ، وذلك مثل ما يعرض للفارس الراكب فرسا ردىّ الحركات فإنّه يصير اشتغاله بمراعات مركبه‏


مانعا له عن أفعاله الخاصّة به وليس صدورها عنه بشركة الفرس. ويجوز أن يكون الفعل الذي ليس بالشركة موقوفا على الفعل الذي بالشركة مثل انّه قد يحتاج في اكتساب المعقولات في أوّل الأمر إلى تخيلات تتصرف فيها النفس تصرفا سنذكره فإذا عاقت عن استعمال التخيلات آفة في أعضاء التخيل كلّت القوّة العاقلة عن أفعالها فالشيخ إذا عرض له الانصراف عن المعقولات فالسبب فيه أنه قد شغل عن أفعاله الخاصة أو عرضت الآفة لشي‏ء ربما احتاج إليه في هذه الأفعال لا لأنّ جوهر نفسه قد ضعف ، فانّ الشيخ لو أعطى عينا كعين الشاب في المزاج لكان حسّه مثل حسّ الشابّ بل الشيخوخة ضعف في الآلات البدنية يشبه حال السكر والإغماء.

فإن قيل الشيخ لعلّه أنّما يمكنه أن يستمرّ في أفعال عقله على الصحة لأنّ عقله يتمّ بعضو من البدن يتأخّر إليه الفساد والاستحالة إن ظهرت الآفة في سائر القوى والأفعال.

فنقول : الأعضاء الطرفية أنّما يلحقها الضعف والفساد لضعف يسبق إلى المبادي ، ولو كانت المبادي صحيحة لانحفظت الأطراف ولم تسقط قواها فكان الحال فيها كالحال في الشباب فيظهر من هذا أنّه لا كبد الشيخ ولا دماغه ولا قلبه على الحال الصحيحة أو القريبة من الصحيحة ، ولذلك يجد في نبضه وبوله وأفعال دماغه تفاوتا عظيما.

فإن قيل إنّ بعض الأمزجة أوفق لبعض القوى فلعلّ مزاج المشايخ أوفق للقوّة العقلية فلهذا تقوى فيه هذه.

فنقول : مزاج المشايخ إمّا برد ويبس ، وإمّا ضعف ، وكل واحد منهما قد يوجد قبل الشيب ولا يكون لصاحبه مزيد استعداد. وأيضا فليس كل شيخ هو أقوى من الشباب ، وليس الدليل مبينا على أنّ الغالب في المشايخ كمال العقل بل على أنّه لو كانت القوّة العقلية قائمة بالبدن لاستحال أن لا تضعف عند ضعف البدن ، وقد نجد واحدا ليس كذلك فالمقدم مسلوب على أنّ ضعف البنية ليس يكون ملائما لما يقوم بالبنية بل لعلة تلائم ما لا يقوم بالبنية.

فإن قيل الشيخ تخيله وتذكره وحفظه محفوظة ليست دون حال عقله مع أنّ هذه


القوى جسمانية.

فنقول : ليس الأمر كما ذكرتموه ، وأمّا ذكره الأمور الماضية التي كانت في ذكره في زمان الشباب فإنّما يكون كذلك لأنّ تكرر مذكوراتها على وهمه وهو شيخ أكثر من تكررها عليه وهو شاب فيكون السبب لذكره أقوى فيه مما في الشباب. وأما حفظه الأشياء التي يحفظها عند الشيخوخة فهو ضعيف ، فالشيخ لا في حفظه تصور المحسوسات ولا في حفظها معانيها كالشاب. وإن شئت أن تعلم ذلك فجرّب حفظ الشيخ للشي‏ء الذي يحفظه عند شيخوخته كحفظه عند ما كان صبيّا أو شابا فانك تجده لا محالة لا ينحفظ له الشي‏ء لا معناه ولا صورته لا عدة ولا مدة كما كان ينحفظ له قبل ذلك وتجد تذكره أضعف مما كان أيضا إلّا فيما للعقل سبيل إلى المعونة فيه. وأمّا الأمور المحفوظة قديما فإنّما يساوى الشيخ الشاب في حفظها لأنّه يتساوى فيهما السبب للحفظ عددا ومع ذلك فإنّ المرتسم من ذلك في حفظ الشاب أوضح وأصفى وأشد استصحابا بالأحوال المطيفة به والمرتسم في حفظ الشيخ أطمس وأدرس وأخفى لمعانا وظهورا.

فإن قيل الشيخ ليس أنّما يوجد سليم العقل بحسب الأمور العقلية الكلية ، بل هو أثقب رأيا وأصحّ مشورة من الشاب في الأمور الجزئية الخيالية وأنت لا تقول أنّ خياله أسلم من خيال الشاب أو مثله.

فنقول : إنّ ذلك لشيئين : أحدهما أنّ الآلة أكبر ، وثانيهما أنّه يستعين بما هو مساو لمثله من الشاب أو أقوى بسبب قلة المنازعات. أمّا أن الآلة أكبر فهو أنّ الأمثلة الجزئية عنده أكثر لأنّ تجاربه أوفر. ثمّ إنّه ليس يتصرف فيها بالخيال والقوى الوهمية فقط بل يرجع فيها إلى العقل فيستعين به في طريق القسمة للأسباب الواقعة الممكنة وطريق الاعتبار للأوائل.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إنّ الشيخ قد استفاد في استعمال العقل دربة فصارت الآلة وإن ضعفت إلّا أنّ كثرة دربته تتدارك ما فات بسبب نقصان الآلة ولذلك فإنّ الشيخ المتدرب أقوى في صناعاته واستعماله لها من الشاب.


فنقول : الدربة أنّما يحصل لها أثر من وجهين : أحدهما أنّ هيئات التحريك الصادرة بالإرادة تتمثل في الخيال أشدّ فيكون وجه استعمالها عند الوهم أحضر. وثانيهما وهو أنّ الأعضاء تستفيد بذلك حسن تشكّل تستعد به لهيئة التحريك. وليس يمكن أن يقال هذا في باب المعقولات فإن العقل وإن سلمنا أنه يفعل بتحريكات الآلات فليس ينحفظ في النفس خيال شي‏ء منها كما ينحفظ لهيئة تحريك اليد والقدم ونحوه. ولا أيضا يمكن أن يقال أنّه يستعين بآلات جسدانية وهي عاصية فيفيدها الاستعمال طاعة فإنا وإن سلمنا العقل يفعل بتحريك فليس بتحريكات مستعصية ولذلك فإنّ صحيح الفطرة الأصيلة يشرع في العلوم فيقف عليها على الاستواء وإن كان بعض الناس يحتاج إلى أن يراض من جهة التفطن لمعانى الألفاظ ، ومن جهة معاوقة من خياله ومعارضة منه لعقله حتى يفهم الحال في ذلك فيعقله ويستوى في أدنى مدة وأخف كلفة. انتهى كلام الفخر.

بيان : قوله : «ويصحّح نقيض التالى بقياس من الشكل الثالث» برهان تام ، والشكل الثالث ينتج نتيجة جزئية موجبة أو سالبة ، ونتيجة هذا القياس هي السالبة الجزئية وهي قوله : «فليس كلّ قوّة عاقلة تكلّ عند الشيخوخة» ولا تنافي لفظة الكل في النتيجة الجزئية لأنّ سور السالبة الجزئية ليس بعض ، وبعض ليس ، وليس كلّ ، وما يساويها. فإذا كانت القوّة العاقلة لها فعلها بنفسها أعنى أنّ لها تعقلا بذاتها ، عند كلال الآلات الجسدانية البدنية وضعفها وفتورها كانت الحجة تامة على إثبات تجرّدها ولو كان وقوع ذلك الفعل مرّة واحدة؛ كما أنّ رؤيا واحدة مثلا إذا تحقق لها تعبير صحيح كفى ذلك لإثبات الرؤيا الصادقة وإن كان كثيرا من الرؤيا أضغاث أحلام ، كما أفاد صاحب المباحث بقوله : «واعلم أنّه ليس من الواجب في صحة ما قلنا إلخ». ولكنّ تمسكه بأعضاء التخيل ليس بتمام لما دريت من تجرّد القوة الخيالية أيضا. وقوله : «ليس من الواجب إلخ» كلام كما في الأسفار في قوّة قياس استثنائي تاليه متصلة كلّية موجبة استثنى فيه نقيض التالى وهو سالبة جزئية لينتج نقيض المقدم ، صورته هكذا : لو كانت الناطقة جسدانية تفعل بالآلة لكان كما عرض للبدن آفة أو مرض أو كلالة


يعرض لها في التعقل فتور وليس كذلك كليا ، ينتج أن تعقلها ليس بآلة بدنية. فلا يرد عليه أنّ كثيرا ما يعرض الاختلال في التعقل عند اختلال قوى البدن لأنّ هذا بمنزلة استثناء لعين التالى لا لنقيضه فلا ينتج شيئا.

قوله : «نعم قد يجوز إلخ» بيان لسبب عروض الاختلال في التعقل تارة ، ووجهه ظاهر.

قوله : «الأعضاء الطرفية» الأعضاء الطرفية في كتاب القصاص والديات من الكتب الفقهية يراد بها ما دون النفس كاليد والرجل والأذن ونحوها ، وهاهنا بمناسبة البحث جعل الكبد والدماغ والقلب أصلا وما سواها أطرافا ، والأعضاء الرئيسة والمرءوسة في كتب الطبّ على تفصيل آخر.

قوله : «فإن قيل الشيخ تخيله إلخ» لما لم يكن صاحب المباحث قائلا بتجرّد الخيال والقوّة الوهمية بل كان هو كغيره من المشاء قائلا بجسمانيتهما ، ثمّ رأى بقاء التخيل والتذكر كالعاقلة عند الشيخوخة تكلفوا تمحّلات شديدة في دفع البقاء عندها ، فاعلم أنّ الحجة السادسة من كتاب الأسفار على تجرّد النفس في الحقيقة تلخيص عبارات المباحث في تقرير الدليل المذكور إلّا أنّ صاحب الأسفار تفرّد في البحث عن الخيال ونحوه ، وكذا عن الاعتراضات الواردة من المباحث عليها بعد تقرير أصل الحجة تلخيصا بتحقيقه الشريف فقال :

حكمة عرشية : اعلم أنّ هذا البرهان أيضا غير دالّ على أنّ لكل إنسان جوهرا مفارقا عقليا ، بل يدلّ على أنّ القوّة العاقلة غير بدنية. وهو كما يدل على أنّ القوّة العاقلة ليست بدنية ، يدلّ على أنّ القوّة الخيالية والوهمية أيضا ليست بدنية ، فإنّ بعض المشايخ والمرضى قد يكون تخيّله وتصوّره للمعانى الجزئية بحاله. ولو كانت القوّة الخيالية طبيعية قائمة بهذا البدن الطبيعى لكان كلما عرضت لها آفة أو مرض وقع الاختلال في تخيّله وتصوّره وليس كذلك إذ قد تكون غير مختلّة في فعلها ، والقضية السالبة الجزئية تكفى لاستثناء نقيض التالى كما علمت. والقوم لعدم اطلاعهم على تجرّد الخيال تكلّفوا تمحّلات شديدة في دفع بقاء التخيّل والتذكر عند الشيخوخة


واختلال البدن. انتهى كلام صاحب الأسفار فيما تفرد به في المقام.

أقول : أمّا قول صاحب الأسفار «انّ هذا البرهان أيضا غير دال على أنّ لكل إنسان جوهرا مفارقا عقليا» قد تقدّم التحقيق ذلك منّا في أثناء البحث عن البرهانين الأوّل والثانى من الشفاء ، فقد دريت في الموضعين أنّ ما أدّى إليه نظره الشريف في هذا الأمر ليس على ذلك الإطلاق بصحيح.

وأمّا قول الفخر في المباحث : «وأمّا حفظه الأشياء التي يحفظها عند الشيخوخة فهو ضعيف» فأقول : ينبغى أن يميّز ويفرق في المقام بين فعل النفس من حيث هي عاقلة لذاتها ولما كسبتها ، وبينه من حيث هي فاعلة بالآلات البدنية ، والنظر الأصيل في مباحث تجرّدها هو الأوّل وهو باق على قوّته عند الشيخوخة سواء كثرت معلوماته أو قلّت؛ وأما الثاني فكلاله لا يضرّ تجرّدها. مثلا أنّ القوّة المتفكرة متحركة في فعلها ، ولا بد في الحركة هذه من استعمال الآلة الجسدية والآلات الجسدية يكلّها تكرّر الأفاعيل. وفي اللآلى المنتظمة للحكيم السبزوارى (ص ٨ ، ط ١) :

والفكر حركة إلى المبادى

ومن مبادى إلى المراد

والغرض إنّ الشيخ الهرم مثلا أمكن أن يدركه الضعف في تفكّر مسألة علمية من حيث سرعة كلال آلة الفكر ، قبل الشاب بزمان ، ولكن ذلك لا ينافى أن يتعقّل معانى عقلية متواليا من غير عروض كلال وفتور لأنّ المتفكرة في فعلها تحتاج إلى آلة جسدية دون العاقلة ، ويجب الفرق بينهما ، وانّما الكلام في تجرّد العاقلة. فحيث إنّ العاقلة في إدراكاتها وتعقلاتها المعانى المكسوبة المخزونة فيها باقية على قوّتها عند الشيخوخة مثلا علمنا أنّ النفس مجرّدة في ذاتها ويكفى ذلك في تجرّدها. فقوله : «وأمّا الأمور المحفوظة ...»

فيه كفاية لعدم كون النفس من المقارنات. وأما قوله في الفرق بين المرتسمين في الشيخ والشاب فوهمانى صرف لا برهان عليه ، بل العكس صواب.

قوله : «فإن قيل الشيخ ليس ...» السؤال يتضمن أمرين : أحدهما أنّ الشيخ ليس في الأمور العقلية الكلية سليم العقل ، وثانيهما أنّه في الأمور الجزئية الخالية أثقب رأيا من‏


الشاب ، ثمّ سأل عن الأمر الثانى بأنّه كيف يكون كذلك مع أنّ القوّة الخيالية عندكم جسمانية؟ فأجاب عن الثانى بقوله : انّ ذلك لشيئين إلخ ، وأمّا الأمر الأوّل فكأنه سلم أنه كذلك. ولا يخفى عليك أنّ قوله : «ثمّ انّه ليس يتصرف فيها بالخيال والقوى الوهمية فقط ...» ليس جوابا عن الأمر الأوّل. وأنت بما أسلفنا دريت أنّ الخيال مجرّد أيضا فالكلام في العاقلة. وانّ الأمر الأوّل في السؤال وهم وافتراء ، بل الصواب هو في خلاف ذلك.

قوله : «فإن قيل لم لا يجوز إلخ». الدربة هي ملكة تكسب من تمرّن العمل ، فما يستفاد من استعمال العقل ملكات علمية وإطلاق الآلة عليها أنّما هو على المجاز وضرب من التوسع في التعبير ، والبحث في الآلات الجسدية وفتورها. وتلك الملكات تكسب النفس سعة نورية وجودية على ما تحقق بالبراهين القاطعة على اتحاد العاقل بمعقولاته ، والتجارب لقاح العقول.

قوله : «وليس يمكن أن يقال هذا في باب المعقولات ...». بل ذلك في باب المعقولات أشد فإنّ النفس الفسيحة بالملكات النورية العلمية كان تصرفها في قواها مطلقا أقوى وآكد وإن كانت محال بعض القوى من حيث كونها مادية واهنة مستعصية.

وعمدة النظر في البرهان هي تجرّد النفس الناطقة الإنسانية من حيث بقاء فعل القوّة العاقلة مع فتور آلاتها الجسمانية ، والحجة قول فصل على ذلك وأمثال تلك الوساوس حوار لفظية لا اعتداد بها. ومن تلك الوساوس اعتراض أبى البركات في المعتبر على الحجة حيث قال معترضا بعد تقريرها بما تقدم ما هذا لفظه :

وأمّا الحجّة القائلة بضعف القوى البدنية وقوّة العقل في الشيخوخة ، فجوابه أنّ تسليم الدعوى لا يثبت الغرض المطلوب فإنّ لكل قوّة مزاجا يوافقها يقوى به فعلها فلا عجب أن تقوى من البدن قوّة مع ضعف أخرى كما يقوى السمع والحفظ في الأعمى ، وتضعف الشهوة بقوّة الغضب ، والغضب بالشهوة ، فلعلّ المزاج الشيخوخى موافق لهذه القوّة أكثر من موافقة غيره ، ولعلّ الرياضة بالتجارب والتعاليم الحاصلة في طول العمر تجتمع لها ويتبع ضعفها فيما بعد مع تزايد ضعف البدن وقواه بآخرة


وعند الموت تضعف القوى بأسرها وهذه في جملتها فيشتبه الأمر ولا تفيد الحجة سوى أنّ هذه غير هذه وكل واحد منها كذلك هي غير الباقية ولا يحصل بالجسمانية وغير الجسمانية من ذلك تصديق في واحدة دون الأخرى. انتهى كلامه.

أقول : لا يخفى عليك أنّ كلام صاحب المعتبر غير معتبر فإنّ قوله : «فلا عجب أن تقوى من البدن قوّة مع ضعف أخرى» لا ينافي فتورها وضعفها عند الشيخوخة وإنكار عروض الذبول والنقص على القوى البدنية عندها يعدّ من إنكار البديهيات. ولو كان اقتضاء المزاج الشيخوخى ما قال لوجب أن يوافق كل مزاج شيخوخى كذلك ، ووجب أن يوافق إدراك المعقولات أكثر من مزاج غيره وهو كما ترى.

وأمّا ما تمسك بالرياضة على اجتماع العلوم الكثيرة فغير ما نحن فيه رأسا وذلك لأنّ إنسانا إذا فرض قليل البضاعة في المعقولات جدا ، وكان عند الشيخوخة عاقلا لمعنى واحد كلّى فقط هو كان مكسوبه منذ زمان شبابه ، أفادت الحجة تجرّد النفس العاقلة.

ثمّ إنّ اعتراض صاحب المعتبر ، واعتراض تلميذه صاحب المباحث وشرح الإشارات على الحجة ـ كسائر وساوسهما على العلوم العقلية ـ متقاربان ، وقد أورد التلميذ في الشرح هذا الاعتراض عليها أيضا ، وسترى حسم مادّته عن المحقق الطوسى من شرحه على الإشارات. وينبغى أن يعدّ أمثال أبى البركات الطبيب والفخر الرازى الخطيب والمتكلم المنشى الغزالى صاحب التهافت من المتفلسفة لا من الفلاسفة الحكماء ، وتجوال الفكر حول عباراتهم كثيرا يحاسب من تضييع العمر كما ضيّعنا ، إلّا أن الأمر خطير ولعلّ عظم الخطر في ذلك يجبره.

بقي في المقام نقل كلام الشيخ في الفصل الثانى من النمط السابع من الإشارات ، وشرح المحقق الطوسى عليه في تقرير الحجة ، وبعض الإشارات منّا حولها ، فهي ما يلى :

قال الشيخ :

تبصرة : إذا كانت النفس الناطقة قد استفادت ملكة الاتصال بالعقل الفعّال لم يضرّها فقدان الآلات لأنّها تعقل بذاتها كما علمت لا بآلتها. ولو عقلت بآلتها لكان لا يعرض للآلة كلال البتّة إلّا ويعرض للقوّة كلال ، كما يعرض لا محالة لقوى الحس والحركة ،


ولكن ليس يعرض هذا الكلال بل كثيرا ما تكون القوى الحسيّة والحركيّة في طريق الانحلال والقوّة العقليّة إمّا ثابتة ، وإمّا في طريق النموّ والازدياد. وليس إذا كان يعرض لها مع كلال الآلة كلال يجب أن لا يكون لها فعل بنفسها وذلك لأنك علمت أنّ استثناء عين التالى لا ينتج. وأزيدك بيانا فأقول : إن الشي‏ء قد يعرض له من غيره ما يشغله عن فعل نفسه ، فليس ذلك دليلا على أنّه لا فعل له في نفسه ، وأمّا إذا وجد قد لا يشغله غيره ولا يحتاج إليه فدلّ على أنّ له فعلا بنفسه. انتهى كلام الشيخ (رضوان اللّه تعالى عليه).

بيان : قوله : «قد استفادت ملكة الاتصال».

أقول : تحقيق البحث عن ذلك وتنقيبه يطلب في شرح العين الثامنة والعشرين من كتابنا سرح العيون في شرح العيون.

وقوله : «ويعرض للقوّة كلال» يعنى بالقوّة القوّة العاقلة قد عبّر عنها بالقوّة العقلية أيضا. وقوله : «لأنّك علمت أنّ استثناء ...» يعنى علمت في منطق كتاب الإشارات. واستثناء عين التالى في المقام بأن يقال : لكن قد يعرض لها كلال حينما يعرض للآلة كلال؛ أو نحوها من عبارات أخرى تفيد هذا المعنى.

وقوله : «إنّ الشي‏ء قد يعرض إلخ». الشي‏ء المبحوث عنه هاهنا هو النفس الناطقة كما قال في صدر كلامه : إذا كانت النفس الناطقة؛ وإن شئت قلت هو القوّة العاقلة أو القوّة العقلية. والمراد بالغير هو الآلة البدنية. والمقصود عن فعل نفسه هو التعقل فإنّه فعل الشي‏ء أى فعل النفس الناطقة. وضمير إذا وجد يرجع إلى ذلك الفعل. وضمير إليه في قوله «ولا يحتاج إليه» يرجع إلى غيره في قوله «قد لا يشغله غيره» ، والغير كما قلنا هو الآلة الجسمانية الجسدية.

وأمّا ما أفاده المحقق الطوسى في الشرح فهو قوله :

التبصرة جعل غير البصير كالأعمى بصيرا ، والتنبيه جعل غير اليقظان كالنائم يقظان؛ ففي تسمية هذا الفصل بالتبصرة دون التنبيه تعريض بأنّ البحث المذكور فيه أوضح من الأبحاث المذكورة في الفصول الموسومة بالتنبيهات لأنّ المبالغة عند حثّ الغافل‏


عن إدراك الشي‏ء الحاضر أمامه أنّما يكون في نسبته إلى العمى أكثر منها في نسبته إلى النوم. وأمّا كون هذا البحث أوضح من غيره فلأنّه يفيد استبصار العاقل لذاته بذاته ، وما عداه يفيد استبصاره بغيره.

فقوله : «إذا كانت النفس الناطقة قد استفادت ملكة الاتصال بالعقل الفعال لم يضرّها فقدان الآلات» تكرار لما سلف في الفصل المتقدم مع مزيد فائدة وهي أنّ فقدان الآلات بعد حصول ملكة الاتصال للنفس بالعقل الفعال لا يضرّها في بقائها في نفسها ، ولا في بقائها على كمالاتها الذاتية المستفادة من العقل الفعّال ، فإنّ الفاعل والقابل لها موجودان معا عند فقدان الآلات ، والآلات المفقودة ليست بآلات لها بل لغيرها.

وقوله : «لأنّها تعقل بذاتها كما علمت» إشارة إلى ما مرّ في النمط الثالث من بيان كون النفس عاقلة بذاتها لا بالآلات البدنية. ثمّ أنّه أراد المبالغة في إيضاح ذلك ليتضح الفرق بين الكمالات الذاتية الباقية مع النفس والكمالات الذاتية الزائلة عنها بعد المفارقة فذكر على ذلك أربع حجج منها واحدة في هذا الفصل. وهي استثنائية متصلة ، مقدّمها قوله : «ولو عقلت بآلتها» وتاليها متصلة كليّة موجبة هي قوله : «لكان لا يعرض للآلة كلال إلّا ويعرض للقوّة كلال» وصورتها هكذا : لو كان تعقل النفس بآلة بدنية لكان كلّما يعرض لتلك الآلات كلال يعرض لها في تعقّلها كلال. وذلك واضح فإنّ اختلال الشرط يقتضى اختلال مشروطه.

وقوله : «كما يعرض لا محالة لقوى الحس والحركة» استشهاد بالأفعال التي تصدر عنها بالآلات البدنية وتختل باختلالها. وفائدة هذا الاستشهاد أنّ جودة الفاعلية قد تكون بسبب التمرّن الحاصل للفاعل بعد صدور الفعل عنه دفعات كثيرة ، وقد تكون بسبب التجربة الحاصلة عند استحضار صور أفعال مختلفة صدرت عنه ، وقد تكون بسبب القوّة التي بها يكون اقتداره على الفعل أتمّ اقتدار. والإنسان في سنّ الانحطاط يكون أجود تعقلا منه في سنّ النمو بالوجوه الثلاثة جميعا ، ويكون أجود إحساسا بالوجهين الأولين أعنى بسبب التمرّن والتجارب المقتضية لاستثبات المحسوسات دون الوجه الأخير فإنّه لا يكون أحدّ سمعا ولا بصرا. والمراد هاهنا الفرق بين‏


الأمرين بهذا الوجه فلذلك أورد الاستشهاد بالإحساس والتحرّك.

وقوله : «ولكن ليس يعرض هذا الكلال» استثناء لنقيض التالى وهو متصلة سالبة جزئية ، تقديره : ولكن ليس كلما يعرض للآلات كلال يعرض للنفس في تعقّلها كلال ، بل قد تكلّ الآلات ولا تكلّ هي في تعقلها ، بل إمّا تثبت وإمّا تزيد وتنمو كما في سنّ الانحطاط. وأيضا كما يكون بعد توالى الأفكارى المؤدية إلى العلوم فإنّ الدماغ يضعف بكثرة الحركات الفكرية ، والنفس تقوى لازدياد كمالاتها. وهذا الاستثناء أنتج نقيض المقدم وهو أنّ تعقلها ليس بآلات بدنيّة ، وهاهنا قد تمّت الحجّة.

ثمّ الشيخ اشتغل بنفى وهم يمكن أن يعرض هاهنا وهو أن يقال : لو كان عدم كلال النفس في تعقّلها مع كلال الآلة دالّا على أن تعقلها ليس بالآلة لكان وجود كلالها في تعقلها مع كلال الآلة دالّا على أنّ تعقّلها بالآلة ، فذكر أنّ هذا استثناء لعين التالي وهو غير منتج. ثمّ زاد في بيانه بأنّ وجود الفعل لشي‏ء في صورة معيّنة يدلّ على كونه فاعلا مطلقا ، أمّا عدمه في صورة معينة فلا يدلّ على كونه غير فاعل أصلا.

قال الفاضل الشارح معترضا على ذلك :

يجوز أن يكون المعتبر في بقاء النفس على كمال تعقلها حدّا معيّنا من الصحة البدنية وهو باق إلى آخر الشيخوخة ويكون النقصان الحاصل في زمان الكهولة واقعا في ما يزيد على ذلك المعتبر بخلاف الحاصل في آخر الشيخوخة فإنّه واقع في نفس ذلك المعتبر ، وحينئذ يكون النقصان الثانى مخلّا دون الأوّل ، كما أنّ للصّحة المعتبرة في بقاء القوّة الحيوانية حدّا ما لا تبقى تلك القوّة بدونها وتبقى مع الازدياد والانتقاص فيما وراءها. ثمّ إنّه حمل الازدياد في الكهول على الاجتماع العلوم الكثيرة عندهم في ذلك السنّ مع عدم الاختلال.

وأقول : القوّة الحيوانية تقع بالاشتراك على الكمال الأوّل الذي به يكون الحيوان حيوانا ، وعلى كمالات الثانية الصادرة عنه. والأوّل أمر لا يحتمل الزيادة والنقصان بخلاف الثاني ، فالحدّ المعيّن من الصحة الذي لا يزيد ولا ينقص معتبر في بقاء الأوّل.

وأمّا المعتبر في الثاني فالصحة القابلة للازدياد والانتقاص ، ولذلك يزيد تلك‏


الكمالات بازديادها وتنتقص بانتقاصها ، وهاهنا ليس الكلام في الكمال الأوّل للنفس العاقلة بل في كمالاتها الثانية القابلة وللازدياد والانتقاص ، وظاهر أنّها لو كانت مقتنصة بالآلات المختلفة الأحوال لاختلفت باختلافها كما اختلفت الكمالات الحيوانية وليس الأمر كذلك. وأمّا حمل الازدياد الحاصل في الكهولة على اجتماع العلوم الكثيرة فغير ما نحن فيه على ما مرّ. هذا مع أنّ الشيخ معترف بأنّ هذه الحجة والحجّة التي أوردها بعد من الحجج الإقناعية في هذا الباب على ما ذكره في سائر كتبه؛ يعنى أنها تكون مقنعة للمسترشدين وإن لم تكن مسكتة للجاحدين فإنّ الإقناعيات العلمية تكون هكذا ، لا على ما يستعمل في الخطابة فانّها تطلق هناك على كل ما يفيد ظنّا ما صادقا كان أو كاذبا ، فهي بهذا الاعتبار يشمل التجربيات وما يجرى مجريها مما يعدّ من اليقينيات.

بيان : قوله : «فإنّ الفاعل والقابل لها موجودان معا» يعنى بالفاعل العقل الفعّال ، وبالقابل النفس الناطقة ، وضمير لها راجع إلى كمالاتها الذاتية.

قوله : «فذكر على ذلك أربع حجج» بل ذكر على ذلك خمس حجج كما تقدّم كلامنا في ذلك في شرح البرهان السابع من الإشارات.

قوله : «والمراد هاهنا الفرق بين الأمرين بهذا الوجه» اى الفرق بين التعقل والاحساس بالوجه الأخير وهو قوله وقد تكون بسبب القوة التي بها يكون اقتداره على الفعل أتم اقتدار.

قوله : «قال الفاضل الشارح معترضا على ذلك» يعنى به الفخر الرازى ، وقد تقدّم اعتراضه هذا في المباحث المشرقية أيضا ، ونحوه عن استاذه أبى البركات في المعتبر.

قوله : «وظاهر أنّها لو كانت مقتنصة بالآلات ...» الاقتناص الاصطياد ووجهه ظاهر. وفي نسخ : لو كانت مقتضية أى لو كانت النفس العاقلة مقتضية للتعقل بالآلات المختلفة الأحول أى هي مختلفة في أحوال من حيث كلالها وضعفها تارة ، وقوّتها وتصلّبها أخرى ، لاختلفت الكمالات الثانية باختلافها قوّة وضعفا وليس الأمر كذلك.

قوله : «فغير ما نحن فيه على ما مرّ» يمكن أن يقال في بيانه : وذلك لأنّ الكلام‏


فيما نحن فيه هو تعقّل النفس ولا ريب أنّها تعقل غير ما اجتمع عندها من العلوم وتزيد معقولاتها عليها على مرّ آنفا من أنّ الكلام في كمالاتها الثانية القابلة للازدياد والانتقاص. ولكنّ للسيّد السند على بعض النسخ المخطوطة عندنا من شرح المحقق الطوسى على الإشارات تعليقة شريفة في المقام هكذا :

قوله فغير ما نحن فيه؛ لأنّ الكلام ليس في أنّ حصول الكمالات الثانية وزيادتها من أين ، بل إنّما الكلام في كون تلك الكمالات القابلة للزيادة والنقصان للنفس من دون الآلات وزيادتها بحسب الفاعل وجودته بأمور ثلاثة وإلى هذا أشار بقوله على ما مرّ أى في هذه التبصرة عند ما قال إنّ جودة الفاعل تكون لأحد أمور ثلاثة : إمّا التمرن أو التجربة أو ازدياد الآلة قوّة. أي الذي ذكره الإمام يرجع إلى الأمرين الأولين لا إلى الأخير الذي به فرقنا بين القوّة العاقلة والقوة (ص ١٥٠ نسخه اصلى) النفسانية. وبالجملة أنّ كلامنا فيما يكون جودة الإدراك بواسطة جودة الآلات ، فلو كان الإدراك بها اختلّ التعقل باختلال الآلة. انتهت التعليقة.

قوله : «فهي بهذا الاعتبار» أى الإقناعيات بهذا الاعتبار إلخ.

ولا يخفى عليك أنّ الحجة المنقولة من الإشارات أعمّ شمولا من البرهان الثامن المنقول من الشفاء أوّلا ، فإن نظر ما في الشفاء هو سنوح ضعف القوى البدنية بعد منتهى النشو والوقوف عند الشيخوخة؛ وأمّا نظر ما في الإشارات فهو كلال الآلات مطلقا ، إلّا أنّ المحقق الطوسى في شرحه على الإشارات ساق البحث أيضا إلى سنّ الانحطاط والشيخوخة تمثيلا لظهوره من حيث وضعه الطبيعى قال عزّ من قائل : (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) وملاك ما في الشفاء والبرهان وتقريره واحد.

والحكيم الرياضى الإلهي أبو العباس فضل بن محمّد اللوكري كان من أعاظم تلامذة بهمنيار ، وأستاذ عدة من الأعاظم ، كأنّه في هذين البيتين ناظر إلى هذا البرهان :

الجسم يبلى إذا طال الزمان به‏

والنفس تبقى وهذى غاية الناس

لا تيأسنّ من النفس التي بقيت

إن كنت عن جسمك الفانى على يأس


يز) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا ، وهو البرهان التاسع

من نفس الشفاء في أنّ قوام النفس الناطقة غير منطبعة في مادة جسمانية :

قد نقلنا ثمانى حجج على تجرّد النفس الناطقة من الفصل الثانى من المقالة الخامسة من نفس الشفاء مع بيانها وتحقيقات منّا حول كل واحدة منها ، فاعلم أنّ الشيخ (رضوان اللّه تعالى عليه) تصدّى في ذيل الفصل المذكور بعد الإتيان بتلك البراهين لإزالة وسوسة ربما ننسخ على بعض الأوهام العامية. وقد سلك في كتاب النجاة أيضا هذا المسلك السوىّ ، وقد سمعت منّا سالفا أنّ الشيخ اقتطف كتابه النجاة من كتابه الشفاء ، ولكن الذيل المذكور في النجاة معنون بهذا العنوان : «سؤال وشرح شاف للإجابة عنه» وكأنّ هذا العنوان من مصحّح طبع النجاة (ص ١٨٠ ، ط مصر ، ١٣٥٧ هـ)؟ وكيف كان فغرضنا الآن أنّ جوابه عن السؤال متضمّن برهانا آخر على تجرّد النفس الناطقة ، كما أنّ الشيخ نفسه جعله الحجة التاسعة من رسالته في السعادة والحجج العشر على أنّ النفس الإنسانية جوهر مجرّد فتنتهى براهين الشفاء على ذلك إلى تسعة كما أومأنا إليه في صدر مقالنا حول الفصل المذكور من الشفاء. ثمّ جعله أبو البركات في المعتبر الحجّة العاشرة على تجرّدها على حذو كلام الشيخ في ذلك (ج ٢ ، ص ٣٥ ، ط حيدرآباد الدكن) ، ثمّ اتبعه باعتراض ستسمعه. ثمّ جعله صدر المتألهين في نفس الأسفار الحجة الحادية عشرة على تجرّد النفس تجرّدا تاما عقليا وبها تنتهى حجج الأسفار على ذلك (ج ٤ ، ص ٧٤ ، ط ١) ثمّ جعله الحكيم السبزوارى الدليل السابع من الحكمة المنظومة (ص ٣٠٣ ، ط اعلى) ؛ والبرهان الحادى عشر من كتابه أسرار الحكم بالفارسية (ج ١ ، ص ٢٥٣ ، بتصحيح الاستاذ العلامة الشعراني وتعليقاته عليه) فعليك‏


بما نتلوها من كلماتهم ، وما نتبعها من زيادة استبصار في ذلك : قال الشيخ في ذيل الفصل المذكور من الشفاء ما هذا لفظه :

وأمّا الذي يتوهم من أنّ النفس إذا كانت تنسى معقولاتها ولا تفعل فعلها مع مرض البدن ، وعند الشيخوخة فذلك لها بسبب أنّ فعلها لا يتم إلّا بالبدن فظنّ غير ضروري ولا حقّ وذلك أنّه قد يمكن أن يجتمع الأمران جميعا فتكون النفس لها فعل بذاتها إذا لم يعق عائق ولم يصرف عنه صارف ، وأنّها أيضا قد تترك فعلها الخاص مع حال يعرض للبدن فلا تفعل حينئذ فعلها وتصرف عنه ، ويستمرّ القولان من غير تناقض وإذا كان كذلك لم يكن إلى هذا الاعتراض التفات.

ولكنّا نقول : إنّ جوهر النفس له فعلان : فعل له بالقياس إلى البدن وهو السياسة ، وفعل له بالقياس إلى ذاته وإلى مباديه وهو الإدراك بالعقل. وهما متعاندان متمانعان فإنّه إذا اشتغل بأحدهما انصرف عن الآخر ويصعب عليه الجمع بين الأمرين.

وشواغله من جهة البدن الإحساس والتخيّل والشهوات والغضب والخوف والغم والفرح والوجع.

وأنت تعلم هذا بأنّك إذا أخذت تفكر في معقول تعطّل عليك كلّ شي‏ء من هذه إلّا أن تغلب هي النفس وتقسرها رادّة إيّاها إلى جهتها. وأنت تعلم أنّ الحس يمنع النفس عن التعقل فإنّ النفس إذا أكبّت على المحسوس شغلت عن المعقول من غير أن يكون أصاب آلة العقل أو ذاتها آفة بوجه. وتعلم أنّ السبب في ذلك هو اشتغال النفس بفعل دون فعل ، فكذلك الحال والسبب إذا عرض إن تعطّلت أفعال العقل عند المرض.

ولو كانت الملكة العقلية المكتسبة قد بطلت وفسدت لأجل الآلة لكان رجوع الآلة إلى حالها يحوج إلى اكتساب من الرأس (من رأس ـ خ ل) وليس الأمر كذلك فإنّه قد تعود النفس إلى ملكتها وهيأتها عاقلة بجميع ما عقلته بحالها إذا عاد البدن إلى سلامته ، فقد كان إذن ما كسبته موجودا معها بنوع ما إلّا أنّها كانت مشغولة عنه.

وليس اختلاف جهتى فعل النفس فقط يوجب في أفعالها التمانع ، بل تكثر أفعال جهة واحدة قد يوجب ذلك بعينه فإنّ الخوف يغفل عن الوجع ، والشهوة تصدّ عن الغضب ،


والغضب يصرف عن الخوف. والسبب في جميع ذلك واحد وهو انصراف النفس بالكلية إلى أمر واحد. فبيّن من هذا أنّه ليس يجب إذا لم يفعل شي‏ء فعله عند اشتغاله بشي‏ء أن لا يكون فاعلا فعله إلّا عند وجود ذلك الشي‏ء المشتغل به.

ولنا أن نتوسع في بيان هذا الباب ، إلّا الإمعان في المطلوب بعد بلوغ الكفاية منسوب إلى التكلّف لما لا يحتاج إليه.

فقد ظهر من أصولنا التي قرّرنا أنّ النفس ليست منطبعة في البدن ، ولا قائمة به ، فيجب اختصاصها به على سبيل مقتضى هيئة فيها جزئية جاذبة إلى الاشتغال بسياسة البدن الجزئى بعناية ذاتية مختصة به صارت النفس عليها كما وجدت مع وجود بدنها الخاصّ بهيئته ومزاجه.

انتهى كلام الشيخ في ما أتى به في ذيل ذلك الفصل بتمامه من إثبات أنّ قوام النفس الناطقة غير منطبع في مادة جسمانية. وعباراته في النجاة قريبة من الشفاء ، والتفاوت يسير جدا لا حاجة إلى نقلها إلّا أنّ عبارته في صدر السؤال في النجاة جاءت هكذا :

... فظن غير ضرورى ولاحق ، وذلك أنّه بعد ما صحّ لنا أنّ النفس تعقل بذاتها يجب أن نطلب العلة في هذا العارض المشكك فإن كان يمكن أن يجتمع أنّ للنفس فعلا بذاتها وانّها تترك فعلها مع مرض البدن ولا تفعل من غير تناقض فليس لهذا الاعتراض اعتبار إلخ.

قوله : «فلا تفعل حينئذ فعلها وتصرف عنه» أى تصرف عن فعلها.

وقوله : «ويستمرّ القولان من غير تناقض». عدم التناقض من حيث إن أحدهما ذاتي والآخر عرضى. وقوله : «وشواغله من جهة البدن الإحساس ...». شواغله مبتداء ، والإحساس إلى قوله : «الوجع» خبر له.

قوله : «إلّا أن تغلب هي النفس» ضمير هي راجع إلى كلمات الإحساس وما يتلوه إلى الوجع. وقوله : «أصاب آلة العقل أو ذاتها آفة بوجه» كلمة آفة مرفوع فاعل لفعل أصاب ، وآلة العقل وكذا ذاتها منصوبة على المفعولية. وقوله : «إذا عرض أن تعطلت»


جملة أن تعطّلت فاعل لفعل عرض. وقوله : «بل تكثر أفعال جهة واحدة قد يوجب ذلك» قد يوجب خبر للتكثر. والمراد من جهة واحدة أن تكثر أفعال يقع في جهة واحدة. وقوله : «على سبيل مقتضى هيئة فيها» تلك الهيأة في النفس كتصور كمال واستكمال. وقوله : «كما وجدت مع وجود بدنها» أى من أوّل وجودها.

وأمّا أنّ جوابه عن السؤال المذكور يتضمّن برهانا آخر على تجرّد النفس ، فذلك لمكان قوله : «ولو كانت الملكة العقلية المكتسبة قد بطلت إلخ». وقد حرّره على التفصيل والتبيين في رسالة السعادة والحجج العشر بقوله :

الحجة التاسعة ، لو كان العلم عرضا حالا في الجسم لوجب من ذلك أنّه متى زال عنه بنسيان أو غيره أن يعود لا كما حصل أوّلا ، إذ فراغ الجسم القابل في الحالتين بمرتبة واحدة ولكنا نرى المرء يعرض له ما يزيل عنه الصورة المعلومة ثمّ إذا رؤيت عادت بغير حاجة إلى استئناف الجسد فتبيّن أنّ محل العلوم ليس بجسم بل هو جوهر غير جسمانى ولا يلزم هذا على الجوهر الذي نصفه نحن فإنّ هذا الجوهر إذا ليس بجسماني فليس بمحال أن تتزاحم الأمور عليه والصورة المعلومة فيه وانّه ربما تزول عنه هذه الأسباب لا قباله على تصور شي‏ء من الأمور العاجلة البدنية عند مرض أو شغل قلب لم يعرض له ولا تزول عنه هذه الصورة المستحفظة في ذاته على الإطلاق لأجل أنّه روحانى النسج بل يكون في ذات بنوع قوّة لا كقوّة الصبىّ على الكتابة بل كقوة الكاتب الممنوع أو الممسك عن الكتابة ، ثمّ إذا أردنا إشغاله عنها عاود بنوع فعلى بتلك الصورة المستحفظة مهما أراد. وأما الجسم فلا يمكن عليه تزاحم صوّر مختلفة مدركة ولا استحفاظها بوجه من الوجوه ألا ترى أن الحواس لا يمكن أن تستحفظ في ذاتها صورة وتقبل أخرى لأنّ الجسم ما لم ينحلّ عن إحدى الصورتين لم تحلّ المبائنة فيه ، ولا معاودته للصورة وقبولها بنوع فعلى بل بنوع انفعالى فإذا لا يتقرر هذا القدر فاذا ليس هذا الجوهر المذكور بجسم ولا قوة جسمانية لأنها إن احتاجت إلى وقوع الصورة لتعلّقها فالمسألة قائمة ، وان كفت بذاتها فليست بجسمانية بل هو الجوهر الذي في الجسم نصف وذلك ما أردنا أن نبيّن.» انتهى‏


(ص ١١ ط حيدرآباد الدكن).

وعلى هذا السياق قال صاحب المعتبر : «أما الذين قالوا إنها من الجواهر التي وجودها لا في موضوع لكنها ليست بجسم فاحتجّوا على ذلك ... وبأن العلم المعقول لو حلّ الأجسام والقوى الجسمانية لم يعد منه ما يزول بالنسيان إلا بسبب محصّل وارد من خارج لأنه يكون بعد انمحاء الصورة المنتقشة مثله قبل انتقاشها بالنسبة اليها في كونها معدومة فيه ولا تحصل له ثانيا إلا بسبب موجب كما حصلت له أولا ، والقوة التي تنسى وتذكر من غير أن تستعيد ذلك من سبب من خارج ، والصور المعلومة تكون حاصلة عندها مع اشتغالها بغيرها عن ذكرها فلا تنمحى عنها الأوّل بالثوانى لأنها روحانية بل تكون فيها بنوع قوة لا قوة الصبى على الكتابة بل كقوة العاقل على الكتابة حيث لا يكتب ويكتب متى أراد ، والقوى الجسمانية لا يمكن فيها تزاحم الصور المختلفة لا في الإدراك ولا في الحفظ ، ألا ترى أن الحواس لا يمكن أن تستحفظ في ذاتها صورة إذا أقبلت على غيرها لأن الجسم ما لم يخل عن إحدى الصورتين لن تحله الأخرى فالقوة العاقلة غير جسمانية.» (ص ٣٥٨ ، ج ٢ ، ط حيدرآباد الدكن). ثمّ اعترض عليها بقوله :

«وأما القائلة بالحفظ والنسيان فعلى مذهب القائل لا تفيد في الاحتجاج فإن القوة الحافظة الذاكرة على مذهبه جسمانية وتلحظ وتعرض وتحفظ وتنسى فإن جعل للحفظ قوة وللذكر أخرى فالعقل أيضا يقول فيه إن الحافظة للمعقولات قوّة والذاكرة لها أخرى ويجوز منه في هذه ما جاز في تلك فلا تفيد الحجة على مذهبه» (ج ٢ ص ٣٦٢) انتهى.

أقول : هذه الحجة في الحقيقة تتضمن حجة أخرى أيضا على تجرد جوهر النفس الناطقة الإنسانية قد ادرجت في تقرير الحجة الأولى تمثيلا وتثبيتا لها. وهي أن النفس جوهر ليس بمحال أن تتزاحم الأمور عليه والصور المعلومة فيه. وهذا الجوهر مع أن تلك الصور والأمور حاصلة عنده يقبل إلى غيرها وذلك الإقبال ربما يشغله عن ذكر تلك الصور والتوجه اليها مع انها لا تنمحى عنه بإقباله إلى غيرها بل هي حاصلة عنده‏


نحو حصول قوة الكاتب الممنوع أو الممسك عن الكتابة فمتى شاء أن يكتب يكتب بلا حاجة إلى تحصيل ملكة الكتابة جديدا ، والحال أن الجسم الطبيعى ليس له هذه الشأنية فان ما زال عنه يجب حصوله له بسبب محصّل جديد من خارج ، فكما أن تلك الصور حاصلة عند جوهر النفس وما زالت عنه بذلك الإقبال كذلك سنوح العوارض من مرض أو نسيان أو نحوهما لا يوجب زوالها عنه فإذا زال المرض والنسيان مثلا رؤيت تلك الصور والأمور كما كانت من غير كسب جديد فهي كانت مستكنّة فيه إلّا أن الرادع كأن يشغله عنها. فهاتان الحجتان تفيدان اتحاد النفس بمسكوباتها وجودا. فالنفس هي صورها العلمية وملكاتها العلمية. وتفصيل البحث عن الاستقصاء موكول إلى كتابنا دروس اتحاد العاقل بمعقوله.

وأمّا ما في المعتبر من الاعتراض على الحجة فنقول : إنّ المشاء ذهبوا إلى أنّ القوّة الحافظة الذاكرة خزانة للمعانى الجزئية ، وأمّا المعانى العقلية فخزانتها العقل الفعّال. قال الشيخ في آخر الفصل الأوّل من رابعة نفس الشفاء في إثبات الحواس الباطنة ، ما هذا لفظه :

وقد جرت العادة بأن يسمى مدرك الحس المشترك صورة ، ومدرك الوهم معنى. ولكل واحد منهما خزانة فخزانة مدرك الحس وهو الصورة هي القوّة الخيالية ، وموضعها مقدم الدماغ فلذلك إذا حدثت هناك آفة فسد هذا الباب من التصوّر إمّا بأن تتخيّل صورا ليست ، أو تصعب استثبات الموجود فيها. وخزانة مدرك المعنى هو القوّة التي تسمّى الحافظة ، ومعدنها مؤخر الدّماغ ، ولذلك إذا وقع هناك آفة وقع الفساد فيما يختص بحفظ هذه المعانى. وهذه القوّة تسمّى أيضا متذكرة ، فتكون حافظة لصيانتها ما فيها ، ومتذكرة لسرعة استعدادها لاستثباته والتصوّر به مستعيدة إيّاه إذا فقد إلخ. (ج ١ ، ص ٣٣٤ ، ط رحلى ايران).

ومدرك الوهم معنى جزئى كما نص به الشيخ في الموضع المذكور من الشفاء أيضا.

وقد أثبت في الفصل الثالث عشر من النمط الثالث من الإشارات العقل الفعال من حيث كونه خزانة للمعقولات ، وإفاضته إيّاها على النفوس الإنسانية.


وبالجملة أنّ المعانى ليست بمنحصرة في الجزئيات ، والحجة ناطقة بأنّ الصور العلمية تحصل للنفس بسبب من الأسباب كالكفر والتعليم ونحوها ، ثمّ قد تذهل النفس عنها بحدوث نسيان أو مرض أو اشتغال بأمور ، وبعد إزالة المانع تريها حاضرة عندها من غير استيناف ذلك السبب بل هي مكتفية بذاتها فيها. فالحجة على صورة القياس من الشكل الثانى تمام لا ريب فيها وهيأته أن يقال : النفس مكتفية بذاتها وباطن ذاتها في استرجاع صورها المكسوبة العلمية ، ولا شي‏ء من المنطبعات بمكتف كذلك ، فالنفس ليست بمنطبعة. فالقول بأنّ قوى النفس جسمانية لا تزاحمها ، وإن كان الحكم بكونها غير جسمانية تؤكّدها. على أنّ الحق أنّ الوهم عقل ساقط ، وسلطان البرهان على ذلك في العين الإحدى والثلاثين من كتابنا العيون؛ وأنّ البحث عن سهو النفس ونسيانها ثمّ تذكّرها ينجرّ إلى التحقيق في نفس الأمر فراجع العين الرابعة والثلاثين ، وأنّ الصور العلمية حتى المحسوسات بالذات هي لدى النفس كليات مجرّدة على التحقيق في العيون الأخرى من ذلك الكتاب.

بقي في المقام نقل ما أفاده صاحب الأسفار في تقرير الحجة قال :

الحجة الحادية عشرة أنّ كل صورة أو صفة حصلت في الجسم بسبب من الأسباب فإذا زالت عنه وبقي فارغا عنها فيحتاج في استرجاعها إلى استيناف سبب أو سببيته كالماء إذا تسخن بسبب كالنار مثلا ثمّ إذا زالت عنه السخونة لا يمكن عودها إليه إلّا بسبب جديد ، وهذا بخلاف النفس في إدراكاتها فإنها كثيرا ما يحدث فيها صورة علمية بسبب فكر أو تعليم معلّم ثمّ يزول عنها تلك الصورة عند الذهول أمكنها استرجاع تلك الصورة لذاتها من غير استيناف ذلك السبب.

وبالجملة النفس من شأنها أن تكون مكتفية بذاتها في كمالاتها ، ولا شي‏ء من الجسم مكتف بذاته فالنفس تعالت عن أن تكون جرمية.

لا يقال : الجسم أيضا قد يعود إليه صفته التي كانت فيه بعد زوالها من غير استيناف سبب جديد كالماء إذا زالت عنه البرودة بورود السخونة التي هي ضدّها ثمّ يستعيد طبعه البرودة التي كانت له.


لأنّا نقول : كلامنا في الصفة الطارية للشي‏ء لأجل سبب خارج عن ذات الموصوف ، وبرودة الماء صفة ذاتية علّتها طبيعة الماء بشرط عدم القاسر ، ثمّ إذا عادت البرودة إليه ما عادت إلّا مع سببها أعنى مجموع الطبيعة وعدم المانع. انتهى كلامه.

وعلى سياق ما في الأسفار تجد الحجة مترجما بالفارسية في أسرار الحكم للحكيم السبزوارى حيث قال : «برهان يازدهم آن است كه هر صورتى يا صفت طارية كه متجدد شود إلخ». وكذلك على السياق المذكور وتجدها في كتابه غرر الفرائد في الحكمة المنظومة هكذا :

وأنّها بذاتها مستكفية

في عود رسم هي عنه ساهية

وقال في شرحه :

والسابع قولنا وأنّها اى النفس بذاتها مستكفية ـ أى لا يحتاج إلى أسباب خارجة ، وأمّا الاحتياج إلى الأمور الداخلة ومقومات الذات فلا ينافي الاستكفاء ـ في عود رسم هي أى النفس عنه أى عن ذلك الرسم ساهية. بيانه : أنّ النفس مستكفية بذاتها ، ولا شي‏ء من الجسم بمستكف بذاته. أمّا الصغرى فلأنّه قد يزول عن النفس صورة علمية اكتسبتها ، والنفس استرجعتها من غير استيناف سبب حصولها. وأمّا الكبرى فلأنّ الماء مثلا إذا تسخّن بسبب فإذا زالت السخونة عنه احتيج في استرجاعها إلى استيناف سبب ، والكلام في الصفة الطارية لعلّة فخرج عود مثل البرودة على الماء بعد زوال السخونة. انتهى.

عبارة الشيخ في رسالة السعادة والحجج العشر على أنّ النفس الإنسانية جوهر مفارق ، في تقرير هذه الحجة هكذا :

الحجة التاسعة؛ لو كان العلم عرضا حالا في الجسم لوجب من ذلك أنّه متى زال عنه بنسيان أو غيره أن يعود لا كما حصل أوّلا ، إذ فراغ الجسم القابل في الحالتين بمرتبة واحدة ، لكنا نرى المرء يعرض به ما يزيل عنه الصورة المعلومة ثمّ إذا زويت عادت بغير حاجة إلى استئناف الجسد. فتبيّن أنّ محلّ العلوم ليس بجسم بل هو جوهر غير جسماني.


ولا يلزم هذا على الجوهر الذي نصفه نحن فإنّ هذا الجوهر إذ ليس بجسماني فليس بمحال أن تتزاحم الأمور عليه والصورة المعلومة فيه. وربما تزول عنه هذه الأسباب لإقباله على تصور شي‏ء من الأمور العاجلة البدنية عند مرض أو شغل قلب لم يعرض له ولا تزول عنه هذه الصورة المستحفظة في ذاته على الإطلاق لأجل أنّه روحانى النسج ، بل يكون في ذاته بنوع قوّة لا كقوّة الصبىّ على الكتابة ، بل كقوّة الكاتب الممنوع أو الممسك عن الكتابة؛ ثمّ إذا أردنا إشغاله عنها عاود بنوع فعلي بتلك الصورة المستحفظة مهما أراد.

وأمّا الجسم فلا يمكن عليه تزاحم صور مختلفة مدركة ولا استحفاظها بوجه من الوجوه. ألا ترى أنّ الحواس لا يمكن أن تستحفظ في ذاتها صورة وتقبل أخرى لأنّ الجسم ما لم ينحلّ عن إحدى الصورتين لم تحلّ المبائنة فيه ولا معاودته للصورة وقبولها بنوع فعلي بل بنوع انفعالي ، فإذا لا يتقرّر هذا القدر. فإذا ليس هذا الجوهر المذكور بجسم ولا قوّة جسمانية لأنّها إن احتاجت إلى وقوع الصورة لتعلقها فالمسألة قائمة ، وإن كفت بذاتها فليست بجسمانية ، بل هو الجوهر الذي في الجسم نصف.

وذلك ما أردنا أن نبيّن (ص ١١ ، ط حيدرآباد الدكن).

أقول : كون النفس في الصور المدركة على نوع فعلي لا انفعالي ، برهان آخر قويم على أنّها جوهر روحانى النسج. والحجة الرابعة من الرسالة المذكورة في ذلك. وسيأتى تفصيل البحث عن ذلك في البراهين الآتية.

تبصرة : قد دريت بما تقدّم أنّ جوهر النفس الناطقة باق باستقلاله على ما هو عليه من علومه وأعماله ، وإن كان قد يعرض عليه أطوار مادّية تشغله عن بعض شأنه ، وتحجبها عن الإقبال إلى الأمور التي قبلنا ، والكسب عن العلوم الجديدة. كما قال عزّ من قائل في موضعين من القرآن العظيم : (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى‏ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) (النحل ٧١). (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى‏ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) (الحج ٦). فإنّ وهن القوى البدنية وفتور محالّها وضعف مزاجها واختلالها تمنعها عن أن يعلم ويكسب بعد ما علم علوما جديدة ،


بل يصيره الهرم في أرذل العمر مشابه الطفل في نقصان القوى البدنية وإدراك الأمور التي تلينا ، ولكن ذلك ليس يضره شيئا ولا ينقصه شيئا. وفي الكافي في حديث الأرواح ذكر تلك الآية من النحل ثمّ قال :

فهذا ينتقص منه جميع الأرواح وليس بالذى يخرج من دين اللّه لأنّ الفاعل به ردّه إلى أرذل العمر فهو لا يعرف للصلاة وقتا ، ولا يستطيع التهجّد بالليل ولا بالنهار ، ولا القيام في الصف مع الناس فهذا نقصان من روح الإيمان وليس يضره شيئا.

والأرواح التي تنقص هي أرواح بخارية مادّية هي مطايا القوى البدنيّة فبضعفها لا يستطيع كسب العلم الذي مشروط بسلامة البدن ولكن ليس يضره ذلك شيئا.

وقد استوفينا البحث عن الأرواح في العين الحادية عشرة من كتابنا : سرح العيون في شرح العيون. ولو تفوه فكر عامّى بزوال ما كسب الإنسان في عمره من العلم والعمل بالهرم ونحوه رأسا لقد توهّم العبث بفطانته البتراء في فعل الحكيم على الإطلاق ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

وقد أفاد القيصرى في شرحه على الفصّ اللوطى من فصوص الحكم بقوله : «قوله تعالى : (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) ، إشارة إلى فناء قابلية الآلة التي بها يظهر العلم في الخارج ، لا أنّ الناطقة يطرأ عليها الجهل بعد العلم ، وإلّا ما كان يبقى العلم بعد المفارقة (ص ٢٩١ ، ط ١ ، ايران).

وقد أجاد الجنابذى في تفسير بيان السعادة :

أنّ أرذل العمر يختلف بالنسبة إلى الأشخاص فربّ معمّر لا يصير خرفا في المائة أو أكثر ، وربّ رجل يصير خرفا في الخمس والسبعين ، ولذلك اختلف الأخبار في بيان وقت أرذل العمر. لكى لا يعلم من بعد علم شيئا اللام للغاية لأنّ عدم العلم بعد العلم من الغايات العرضيّة لا أنه علة غائية لأن العلة الغائية للإبقاء هي الاستكمال بالعلم والعلم لا زوال العلم بعد الاستكمال به؛ أو هو علّة غائيّة بمعنى أنّ العلوم الدنيويّة والإدراكات البشرية الحاصلة بالمدارك الدنيوية من الموذيات في الآخرة. ويبقى اللّه بعض عباده لأن يضعف عباده لأن يضعف مداركه الدنيوية ويزول عنها مدركاتها


ليكون على راحة منها في الآخرة ، ولذلك كان خير ابن آدم في أن يبقى بعد البلوغ إلى الشيخوخة كما في الخبر لأنّ بقاء الادراكات الدنيوية موذ لصاحبها في الآخرة ، ونعم ما قيل :

سينه خود را برو صد چاك كن

دل از اين آلودگيها پاك كن.

انتهى ما أفاد صاحب بيان السعادة.

وأقول : يسأل المتقشّف القائل بأنّ ما علمه الإنسان وما عمله يزولان عنه واقعا ، عن انّ البالغ إلى أرذل العمر وقد زال عنه ما كسب واكتسب ثمّ توفي ، هل هو مسئول بعد ذلك عن ما فعل أم لا؟ فإن كان مسئولا عنه فكيف يسأل وهو لا يعلم شيئا؟ فالسؤال خلاف العدل الإلهي؛ وإن كان غير مسئول عنه فهو خلاف مقتضى الدين الإلهي بالضرورة فافهم. على أنّه لو لم يكن قوله (تعالى شأنه) لكى لا يعلم من الغايات العرضية ، أو علّة غائية للعلوم الدنيوية للزم في فعل الحكيم على الإطلاق.

تبصرة : ما نقلنا عن الشفاء والنجاة ، من السؤال والجواب الشافي ، تجده في معارج القدس للغزالي على حذو ما في الكتابين ، حتى أنّه قال في آخره : ولنا أن نتوسّع في بيان هذا الباب من أصعب أبواب النفس إلّا أنّه بعد بلوغ الكفاية تنسب الازدياد إلى تكلف ما لا يحتاج إليه. فقد ظهر من أصولنا التي قررنا أنّ النفس ليست منطبعة في البدن ولا قائمة به فيجب أن تكون علاقتها مع البدن علاقة التدبير والتصرف (ص ٣٤ ـ ٣٦ ، ط مصر).


يح) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا :

قال الشيخ الرئيس في رسالته في السعادة والحجج العشر على أنّ النفس الإنسانية جوهر مفارق :

لو كانت الصورة المعقولة تحتل جسما من الأجسام وتلابسه لامتنع إدراك المتضادين بإدراك واحد معا لأنّ صورتى الضدين هكذا.

وبالجملة المتقابلات لا تحلّ في جسم معا ، ولكن الجسم في محلّ هذه الصورة مخالف لهذا ، فإنّه مهما حلّ فيه صورة أحد المتقابلين وجب ضرورة أن تحل معه صورة المقابل الثاني إذا علم المتقابلات يكون معا. فتبين أنّ هذا الجوهر أعنى القابل للعلم غير جسم بل هو جوهر غير جسمانى؛ وذلك ما أردنا أن نبين (ص ٨ ، ط ١ ، حيدرآباد الدكن).

أقول : هذه الحجة هي الثالثة من الحجج العشر من تلك الرسالة. ويعنى بقوله في النتيجة : «القابل للعلم غير جسم» ، العلم بالمتقابلات ، وإلّا فالكلام عن مدرك العلم فهو الحجة الأولى من تلك الرسالة الموافقة للبرهان الأوّل من نفس الشفاء كما تقدّم في أثناء بيان ذلك البرهان.

ثمّ قد دريت تفصيل البحث وتحقيقه حول هذه الحجة في الحجة الثالثة من الحجج على تجرّد الخيال بأنّ المتقابلات فيها إذا أخذت على صورها الجزئية فتختص بتجرّد الخيال ، وإذا أخذت على صورها الكلية فتختص بالتجرد العقلى فيحتجّ تارة بهذه الحجة على التجرد البرزخى الخيالى ، وأخرى على التجرد التامّ العقلى.


يط) برهان آخر على تجرّد النفس الناطقة تجرّدا تامّا عقليّا :

قال الشيخ في الرسالة المذكورة في السعادة والحجج العشر :

الحجة الرابعة ، الجسم إذا وضعناه محلا للحكمة بذاته أو بمشاركة معنى ما فيه فمن الواجب أن يكون منفعلا عنه قبول الصورة الحكميّة ، إذ كل جسم من الأجسام مهما قبل صورة من الصور صحّ عليه جزم القبول بالانفعال؛ ثمّ الجوهر الذي يعقل النتائج أنّما يعقلها بالاستخراج منه لها بالتركيب والتحليل للصورة التي في ذاته ، وذلك فعل لا انفعال؛ ولو كان جسما لكانت هذه المعاني إمّا غير موجودة ، وإما انفعالات ، قد تبيّن أنّها أفعال موجودة ، فإذا ليس بجسم ، بل جوهر غير جسمانى. وذلك ما أردنا أن نبيّن. (ص ٩ ، من ط حيدرآباد الدكن).

وقد حرّره في الفصل التاسع من رسالة اهداها إلى الأمير نوح الساماني بوجه أبسط ، وهو البرهان الثالث فيها. فقال :

من البراهين التي تدلّ على هذا المطلوب ما أنا مبيّنه فأقول : حلول الصورة في الجسم انفعال وقبول ولامتناع كون الشي‏ء الواحد فاعلا ومنفعلا يتضح لنا أنّ الجسم لا يمكنه أن يلبس بذاته صورة معقولة ويخلع أخرى؛ ثمّ نرى الإنسان قد تدبّر يتصوّر عن صورة معقولة إلى أخرى ، وذلك لا يخلو إمّا أن يكون فعلا خاصّا للجسم ، أو فعلا خاصّا للقوّة الناطقة أو فعلا مشتركا بينهما وقد بيّن أنّ الفعل لا يجوز أن تكون إضافته إلى الجسم بالتخصيص.

وأقول : ولا أيضا بالشركة إذ الجسم معاون القوّة على إحلال صورة ما في ذاته وخلع صورة عن ذاته إذ علم أنّ الجسم مع القوّة يصيران موضوعين لهذه الصورة الحاصلة


والموضوع لا يوسم إلّا بالانفعال المجرّد وكلا هذين فعلان فإذن هذا الفعل خاصّ إلى القوّة وكل شي‏ء لم يحتج في فعله الصادر عن ذاته إلى شي‏ء يعينه فلن يحتاج في قوام ذاته إلى شي‏ء يعينه إذ الانفراد بقوام الذات يتقدّم الانفراد بإصدار الفعل بالذات ، فإذن هذه القوّة جوهر قائم بذاته ، فإذن النفس الناطقة جوهر.



الباب الرابع :

من الحجج البالغة على أنّ للنفس الناطقة مقام فوق التجرّد العقلي‏



قد أشرنا في تضاعيف الحجج السالفة أنّ للنفس الناطقة الإنسانية مقام فوق التجرّد ، ونعنى بذلك أنّ النفس كما أنّها جوهر مجرّد عن المادّة الطبيعيّة وأحكامها كذلك لا تقف إلى حدّ بل كلّما زادت علما زادت سعة وقدرة تستعدّ للارتقاء إلى المعارج الأخرى وللاعتلاء إلى المدارج العليا ، وهذه خصيصة اختص ذلك الجوهر الفرد بها ، ولا تجد موجودا مجرّدا له هذا الشأن الارتقائى اللّايقفى ، سبحان اللّه ما أعظم شأن الإنسان وقد قال تعالى شأنه : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين ، ٥). وأشرت إلى ذلك المعنى في غزل من ديواني :

نفس را فوق تجرّد بود از أمر إله

واحد است ار چه نه آن واحد كمّ عدديست

‏ولعمرى إنّ قصيدتى التائية العائرة المسمّاة بـ ينبوع الحياة لها شأن في بيان مدارج النفس الناطقة ومعارجها ومقام فوق تجرّدها العقلى ، وهي تنتهى إلى ٤٢٦ بيتا ، ومن أبياتها :

تصفّحت أوراق الصحائف كلّها

فلم أر فيها غير ما في صحيفتى

تجرّدها ممّا هي للطبيعة

يفيد بقاء النفس للأبديّة

كذاك مقام فوق ذاك التجرّد

لها ثابت أيضا بحكم الأدلّة

على صورة الرحمن جلّ جلاله

بدى هذا الإنسان من أمشاج نطفة

وسبحان ربّي ما أعزّ عوالمي

وأعظم شأني في مكامن بنيتي

وما آية في الكون منى بأكبرا

ونفسي كتاب قد حوى كلّ كلمة

عجائب صنع النفس يا قوم ماهية

وما يعدل صنع بتلك الصّنيعة

وقد حرّرنا البحث عن هذه البغية القصوى والغاية العليا ـ أعنى أن النفس الناطقة


الإنسانية لها مقام فوق تجرّد ـ في سائر مصنفاتنا بحث تحقيق وتنقيب ، فراجع في ذلك شرح العين الرابعة والعشرين من كتابنا سرح العيون في شرح عيون مسائل النفس؛ وكتابنا الفارسى الموسوم بـ إنسان وقرآن (ص ١٩٦ ، ط ١) ؛ وكتابنا الفارسى الآخر أيضا الموسوم بـ مجموع مقالات (ص ٨٠ وص ١٤١) ؛ وكتابنا الفارسى الآخر أيضا المسمّى بـ گنجينه گوهر روان.

وقد شرحنا كلام الوصي الإمام أمير المؤمنين على عليه السّلام في هذا الموضوع الأهم والأمر المبرم حيث قال : «كل وعاء يضيق بما جعل فيه إلّا وعاء العلم فإنّه يتسع به» (نهج البلاغة ، باب المختار من حكمه عليه السّلام ، الحكمة ٢٠٥) ، بالفارسية وجعلنا ذلك الشرح المنيف الكلمة ١١٠ من كتابنا (هزار ويك كلمه) أى ألف كلمة وكلمة ، وتلك الكلمة رسالة فريدة قيّمة في ذلك المقصد الأقصى والمرصد الأسنى.

وإن شئت فراجع أيضا في بيان أنّ النفس الناطقة لها ذلك المقام الأشمخ رسالتنا الفارسية الكريمة الأخرى الموسومة بـ مدارج ومعارج وهي كلمة ٢٥٤ من كتابنا المذكور هزار ويك كلمه؛ والدرس التاسع عشر من كتابنا اتحاد عاقل بمعقول ، والنكتتين ٤٢١ و ٦٥٨ من كتابنا الف نكتة ونكتة ، والدروس ١٠٠ و ١٠٢ و ١٠٣ من كتابنا دروس معرفت نفس فإنّ كل واحد منها يتضمّن لطائف إشارات إلى أنّ للنفس الناطقة رتبة فوق التجرّد العقلانى.

وكذا الباب الأوّل من رسالتنا الأخرى بالعربية الموسومة بـ الصحيفة الزبرجدية في كلمات سجّادية مجد جدّا في الاعتلاء إلى ذروة التحقيق والتدقيق حول موضوع هذا الباب ، واللّه سبحانه وليّ التوفيق.

ومن تلك الإشارات المشرقيّة تنتقل إلى أنّ وحدة النفس الناطقة ليست وحدة عدديّة بل وحدة حقّة جمعيّة ظلّية للوحدة الحقّة الحقيقة الإلهيّة ، واللّه سبحانه فتّاح القلوب ومنّاح الغيوب.

وممّا يرشدك إلى أنّ للنفس الناطقة رتبة فوق التجرّد العقلانى ائتلاف حديثين شريفين من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أحدهما : «ما من مخلوق إلّا وصورته تحت العرش» ،


والآخر : «قلب المؤمن عرش اللّه الأعظم» فتدبّر.

قال صدر المتألّهين قدّس سرّه في الأسفار : «إنّ النفس الإنسانية ليس لها مقام معلوم في الهوية ، ولا لها درجة معينة في الوجود كسائر الموجودات الطبيعية والنفسيّة والعقلية التي كل لها مقام معلوم؛ بل النفس الإنسانية ذات مقامات ودرجات متفاوتة ، ولها نشئات سابقة ولا حقة ، ولها في كل مقام وعالم صورة أخرى كما قيل :

لقد صار قلبى قابلا كل صورة

فمرعى لغزلان وديرا لرهبان ...

(أوّل الفصل الثالث من الباب الرابع من كتاب النفس ، ج ٤ ، ص ٨٣ ، ط ١).

ولنا تعليقة في المقام على الأسفار بهذه الصورة : قوله قدّس سرّه : «ليس لها مقام معلوم في الهويّة ...» أى ليس لها بحسب الوجود حدّ تقف عنده ، ويعبّر عن هذا المعنى بأنّ النفس لها مقام فوق التجرّد ، قال المتأله السبزوارى :

وانّها بحت وجود ظلّ حق

عندى وذا فوق التجرّد انطلق

‏فتدبر قوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً) الآية (الكهف ١١٠) ، وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) الآية (لقمان ٢٨) ، والقرآن مأدبة اللّه وما على تلك المأدبة الإلهيّة وهي غير متناهية ، طعامك‏ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى‏ طَعامِهِ‏ فذاتك ظرف يتسع ما على تلك المأدبة ، وقال قدوة الموحّدين مولانا الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام : «كل وعاء يضيق بما جعل فيه إلّا وعاء العلم فإنّه يتّسع» ، وهذه كلّها تدل على أنّ النفس ليس لها مقام معلوم في الهوية ، وقد قال الأمير عليه السّلام في وصيته لابنه محمّد : «اعلم أنّ درجات الجنّة على عدد آيات القرآن فإذا كان يوم القيامة يقال لقارئ القرآن اقرأ وارق» (الوافي ، ج ١٤ ، ص ٥٦ ، ط ١ ، من يه) فافهم. ثمّ إنّ للنفس نشئات سابقة بنحو الجمع ، ونشئات لا حقة بنحو الفرق. والبيت من ترجمان الأشواق للشيخ الأكبر (ص ٤٣ من طبع بيروت) وبعده :

وبيت لأوثان وكعبة طائف

وألواح توراة ومصحف قرآن

وقد أجاد الشيخ الإشراقى السهروردى في الهيكل الثانى من هياكله في بيان تجرّد النفس الناطقة ، وبيان فوق مقام تجرّدها بقوله القويم :


«كيف تتوهم هذه الماهية القدسية جسما وإذا طربت طربا روحانيا تكاد تترك عالم الأجساد وتسترط عالم ما لا يتناهى؟!».

أقول : هذه الحجة قد نقلها الشيخ البهائى عنه في الدفتر الرابع من كشكوله (ص ٣٩٨ ، ط ١). وعبارتها في النسخ مختلفة ففي طبع مصر (ص ١٣ ، ط ١٣٣٥ هـ) كيف يتصوّر الإنسان ... جسما وهي إذا طربت ... عالم الأجسام وتطلب عالم ما لا يتناهى.

وفي نسخة مخطوطة عندنا من شرح الهياكل للدوانى مطابقة لما اخترناها إلّا أنّ فيها : «كيف يتوهّم الإنسان هذه الماهية ... عالم الأجسام ويطلب عالم ما لا يتناهى» مكان «ويسترط عالم ما لا يتناهى» ؛ وقال في الشرح : «وفي نسخة أخرى يسترط» يعنى جاء في نسخة أخرى مكان يطلب ، قوله «يسترط».

وعبارتها في الكشكول هكذا :

وكيف تتوهّم هذه الماهية القدسيّة جسما والحال أنّها إذا طربت طربا روحانيا تكاد تترك عالم الأجساد وتطلب عالم ما لا يتناهى كما يشهد أرباب الشهود.

والزيادات في الكشكول كلّها في شرح الدوانى من عبارات الشرح.

قوله : «ويسترط عالم ما لا يتناهى ...» أى يبتلعه ، يقال سرطه كطلب وفرح ، واسترطه أى ابتلعه.

والحجة متقنة غاية الإتقان؛ وفي الاستراط إيماء إلى أنّ للنفس فوق مقام التجرّد ، وكأنّه ناظر إلى قوله (علت كلمته) : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) ، فافهم. وأنّى للجسم هذه الشأنيّة الكبرى وهو مسجون في القيود والحدود والأحياز والعوارض والعلائق؟!.

ونسخة الهياكل الفارسية ترجم الاستراط ، حيث قال :

وچگونه جسم تواند بود كه گاه باشد كه در طرب آيد وخواهد كه عالم اجسام را فرو برد وطلب عالم بى‏نهايت كند. (ص ٨٧ ـ ط ايران).

تبصرة : الحجة المذكورة قريبة ممّا أتى به المعلّم الفارابى في الفص الحادى والثلاثين من فصوصه حيث قال :


إنّ الروح التي لك من جواهر عالم الأمر لا تتشكّل بصورة ، ولا تتخلّق بخلقة ، ولا تتعيّن لإشارة ، ولا تتردّد بين سكون وحركة ، فلذلك تدرك المعدوم الذي فات ، والمنتظر الذي هو آت ، وتسبح في الملكوت ، وتتنفّس من عالم الجبروت.

إن شئت فراجع شرحنا على فصوص الفارابى المسمّى بـ نصوص الحكم على فصوص الحكم (ص ١٧٩).

وقد أفاد وأجاد المتأله السبزوارى في بيان تجرّد النفس الناطقة وبيان مقام فوق تجرّدها في أوّل شرح الأسماء (ص ٤ ، ط ١) بقوله الرصين :

ولا تستبعدنّ كون النفس وجودا بلا ماهيّة إذ ليس لها حدّ يقف في مراتب الكمال فكلّ مرتبة يصل إليها يتجاوز عنها فلا سكون وطمأنينة لها ، أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ‏ وكلّ حدّ من الفعليّة تحصل لها تكسّرها خلق الإنسان ضعيفا ، وكلّ حياة تفيض عليها تميتها اقتلوا أنفسكم فتوبوا إلى بارئكم‏ فهي شعلة ملكوتيّة لا تخمد نارها ، ولمعة جبروتية لا يطفى نورها ، لا سيّما النفس المقدّسة الختميّة التي أخبرت عن مقامها في النبويّ المشهور : لي مع اللّه وقت لا يسعنى فيه ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل ....



الباب الخامس :

في التبرّك بالتمسّك بطائفة من آيات وروايات في تجرّد النفس الناطقة وفوق تجرّدها العقلي‏



قال اللّه (تعالى شأنه) : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ)‏ (القرآن الكريم ، سورة البقرة ، الآية ١٥٥).

قال البيضاوي في تفسير هذه الآية الكريمة ما هذا لفظه :

وفيها دلالة على أنّ الأرواح جواهر قائمة بأنفسها مغايرة لما يحسّ به من البدن تبقى بعد الموت درّاكة ، وعليه جمهور الصحابة والتابعين ، وبه نطقت الآيات والسنن.

قوله عزّ من قائل : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) (القرآن الحكيم ، سورة آل عمران ، الآية ١٧١).

وقال البيضاوى في تفسير هذه الآية :

الآية تدلّ على أنّ الإنسان غير الهيكل المحسوس ، بل هو جوهر مدرك بذاته لا يفنى بخراب البدن ، ولا يتوقف عليه إدراكه وتألمه والتذاذه.

وقال اللّه سبحانه : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) (القرآن العظيم ، سورة الإسراء ، الآية ٨٥).

قال سبط ابن الجوزى في التذكرة (ط ١ ، من الرحلى الحجرى ، ص ٨٧) :

في رواية طويلة أنّ ملك الروم كتب إلى أمير المؤمنين على عليه السّلام : علمت أنك من أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة وأنت موصوف بالشجاعة والعلم ، وأؤثر أن تكشف لي عن مذهبكم الروح التي ذكرها اللّه في كتابكم في قوله : ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربّى؟ فكتب إليه أمير المؤمنين عليه السّلام : أمّا بعد فالروح نكتة لطيفة ولمعة شريفة من صنعة بارئها وقدرة منشئها ، أخرجها من خزائن ملكه وأسكنها


في ملكه ، فهي عنده لك سبب وله عندك وديعة ، فإذا أخذت مالك عنده أخذ ماله عندك ، والسلام.

ثمّ قال البسط : «ومن هاهنا أخذ ابن سينا فقال :

هبطت إليك من المحلّ الأرفع

ورقاء ذات تعزّز وتمنّع ؛ الأبيات»

وأفاد صاحب بيان السعادة في تفسير تلك الكريمة أعنى‏ (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ...) بقوله :

أي الروح التي بها الحياة الإنسانيّة فإنّ الروح تطلق على البخار المتكوّن في القلب المنتشر في البدن بواسطة الشرايين وتسمّى روحا حيوانيّة؛ وعلى البخار المتصاعد من القلب إلى الدماغ فتعتدل ببرودته وتسمّى روحا نفسانيّة؛ وعلى التي بها حياة الحيوان وتسمّى نفسا حيوانية ، وعلى التي بها حياة الإنسان وتسمّى نفسا ناطقة وهذه هي مراد السائلين لأنّها المدركة لهم بالآثار دون سابقتها فإنّها مختفية تحت شعاع نفس الإنسان؛ وتطلق على طبقة من الملائكة وتسمّى في لسان الإشراق بأرباب الأنواع وفي لسان الشرع بالصّافات صفّا؛ وعلى ملك أعظم من جميع الملائكة ، وله بعدد كل إنسان وجه وهو ربّ نوع الإنسان ، وله الرئاسة والإحاطة على جميع الأنواع وأربابها ، وهو مع كل أفراد الإنسان وليسوا معه ، وما ورد في بيان الروح أنّها ملك أعظم من جبرئيل وميكائيل وكان مع محمّد صلّى اللّه عليه وآله ثمّ مع الأئمة إشارة إلى هذا المعنى. ومعنى كونه مع محمّد صلّى اللّه عليه وآله دون سائر الأنبياء عليهم السّلام أنّ معيّته مع محمّد صلّى اللّه عليه وآله معه وإلّا فهو مع كل أفراد الإنسان بل مع كلّ ذرات العالم ، وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي‏ إشارة إلى تلك الروح فإنّ الروح المنفوخة في آدم عليه السّلام ظل تلك الروح.

ولمّا كانت الروح المسئول عنها أمرا مجرّدا معقولا لا يدركه إلّا ذو والعقول وكان السائلون أهل الحس لا يتجاوز إدراكهم المحسوسات أمره صلّى اللّه عليه وآله بالإجمال في الجواب فقال : قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي‏ أى ناشئة من أمر ربّى من غير سبق استعداد مادّة حتى تكون محسوسة فتدركونها بالحواس الظاهرة أو الباطنة ، أو من عالم أمره ولا يصل إدراككم إليه ، ولذلك قال : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) منكم أو قليلا من


العلم وهو العلم بالمحسوس من آثارها وليس لكم علم عالم الأمر ، ولفظة ما نافية أو استفهامية إنكارية.

وقال اللّه عزّ وجلّ في سورة القدر : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ...) ؛ وقال في سورة الشرح : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ...) ؛ وقال : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ ...) (سورة النحل ، الآية ٩٠) ؛ والإنزال دفعى ، والتنزيل تدريجى ، ويجب الفرق بين انزال القرآن وبين تنزيله فإنّ إنزاله كان في صدر خاتم الأنبياء دفعة واحدة ، وتنزيله كان في مدة ثلاثة وعشرين عاما ، وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يأمر كتاب الوحى وغيرهم بجعل السور والآيات التنزيلية على صورة القرآن الإنزالي؛ مثلا إنّ كريمة (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)‏ آخر آية نزلت من القرآن ، وقال جبرئيل ضعها في رأس الثمانين والمائتين من البقرة.

وجملة الأمر أنّ ترتيب السور القرآنية وكذلك ترتيب آياتها كلّها توقيفي ، والسور والآيات التنزيلية رتّبت على صورة القرآن الإنزالى في ليلة القدر بأمر اللّه سبحانه ورسوله؛ وقد حقّقنا ذلك الأمر القويم الحكيم في رسالتنا فصل الخطاب في عدم تحريف كتاب ربّ الأرباب.

والغرض أنّ كل أثر يحاكى شأن مؤثّره كما قال اللّه سبحانه : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى‏ شاكِلَتِهِ)‏ (الإسراء ، ٨٥) وحيث إنّ وجود الحق سبحانه غير متناه فآثاره الوجودية من الكتاب التكوينى والتدوينى على شاكلته غير متناهية ، فالصدر الذي هو وعاء حقائق القرآن الكريم له مقام فوق التجرد العقلى فافهم وتدبّر وراجع الباب الأوّل من رسالتنا المذكورة الصّحيفة الزبرجديّة في كلمات سجّادية.

ما قدّمناها من الآيات الكريمة فإنّما كانت انموذجا في بيان تجرّد النفس الناطقة وفوق تجردها والعقلى ، وكذلك نهدى إليك بعض روايات في الأمرين المذكورين؛ وقد ذكرنا عدة آيات وروايات أخرى في آخر كتابنا الفارسى گنجينه گوهر روان فليرجع الطالب الكريم إليه :

روى الآمدي في غرر الحكم ودرر الكلم ، وابن شهرآشوب في المناقب أنّ الوصيّ‏


الإمام أمير المؤمنين عليا عليه السّلام سئل عن العالم العلوي فقال : صور عارية عن المواد ، عالية من القوّة والاستعداد ، تجلّى لها ربّها فأشرقت ، وطالعها فتلألأت ، وألقى في هويّتها مثاله فأظهر عنها أفعاله؛ وخلق الإنسان ذا نفس ناطقة إن زكّيها بالعلم والعقل فقد شابهت جواهر أوائل عللها ، وإذا اعتدل مزاجها وفارقت الأضداد فقد شارك بها السبع الشداد.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله :

الأرواح طيور سماوية في أقفاص الأشباح البشرية إذا التفتت بالعلم صارت ملائكة ، وإذا التفتت بالجهل صارت حشرات الأرض ...».

(مطلع الشمس ، ج ٢ ، ص ٢٤٧ ، ط ١ من الرحلى).

وإن شئت فراجع شرح الفصّ الخمسين من كتابنا الفارسى نصوص الحكم بر فصوص الحكم (ص ٢٩٥).

بصائر الدرجات بإسناده عن المفضل بن عمر عن أبى عبد اللّه عليه السّلام :

مثل روح المؤمن وبدنه كجوهرة في صندوق إذا أخرجت الجوهرة منه أطرح الصندوق ولم يعبأ به؛ قال : إنّ الأرواح لا تمازج البدن ولا تواكله وإنّما هي اكليل البدن محيطة به» (البحار ، ج ١٤ ، ص ٣٩٨ ، ط ١).

واعلم أنّ غرر الروايات الصادرة عن أهل بيت العصمة عليه السّلام في المقام كثيرة جدّا؛ وقد نقلنا أربعين حديثا في معرفة النفس في النكتة الأخيرة من كتابنا ألف نكتة ونكتة ، وكذلك عدة روايات في ذلك في كتابنا گنجينه گوهر روان. ونختم الكتاب هاهنا بكريمة (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)‏ مبتهجا بما وعدنا اللّه سبحانه بفضله العميم : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا).

وقد فرغنا من تصنيف هذا الكتاب العظيم الحكيم في يوم الجمعة

السادس من شهر ربيع الأوّل من سنة ١٤٢١ هـ ق ٢٠ / ٣ / ١٣٧٩ هـ ش.

وأنا العبد : حسن حسن زاده الطبرى الآملى.

الحجج البالغة على تجرد النفس الناطقة

المؤلف:
الصفحات: 280