(١٩)

درّة نجفيّة

في الجواب عن بعض الإشكالات الواردة على الأخباريين

قال المحدث الأمين الأسترابادي قدس‌سره في كتاب (الفوائد (١) المدنية) في الفصل الثامن الذي وضعه للجواب عن الأسئلة الّتي ترد على مذهب الأخباريّين : (السؤال الثاني : أنه لا مفرّ للأخباريين عن العمل بالظن المتعلّق بنفس أحكامه تعالى أو بنفيها ؛ وذلك لأن الحديث ولو كان صحيحا باصطلاحهم وهو المقطوع بوروده عن أهل الذكر عليهم‌السلام ، [إلّا إنه] قد يحتمل التقية ، وقد تكون دلالته ظنيّة ، وعلى التقديرين لا يصلح للقطع.

وجوابه أن يقال : أكثر أحاديث أصحابنا المدوّنة في كتبنا صارت دلالتها قطعية بمعونة القرائن الحالية أو المقالية. وأنواع القرائن كثيرة ، من جملتها أن الحكيم في مقام البيان والتفهيم لا يتكلم بكلام يريد به خلاف ظاهره لا سيّما من اجتمعت فيه نهاية الحكمة مع العصمة.

ومن جملتها : تعاضد الأخبار بعضها ببعض.

ومن جملتها : خصوصيات أجزاء بعض الأحاديث.

ومن جملتها : قرينيّة السؤال والجواب ، والدلالة التي لم تصر قطعية بمعونة القرائن لا توجب الحكم عندهم ، وإنّما توجب التوقّف ، وأما احتمال التقيّة فغير قادح فيما حققناه ؛ لما سبق من أنه يكفي أحد القطعين ومن أن مناط العمل القطع

__________________

(١) في «ح» : فوائد.


بأن الحكم ورد عنهم عليهم‌السلام لا الظن أنه حكم الله في الواقع) (١).

ثم أطال في الكلام بما يخرج عن هذا النظام إلى أن قال : (ثم أقول : إن شئت تحقيق المقام بما لا مزيد عليه ، فاستمع لما نتلوه عليك من الكلام ، فنقول : الاختلاف في الفتاوى قسمان :

أحدهما : أن يكون سببه اختلاف ما بلغهم من الروايات. ومن المعلوم أن هذا النوع من الاختلاف لا يؤدي إلى تناقض ؛ لابتناء أحد القولين على ما ورد من باب التقيّة ، كما حققه رئيس الطائفة قدس‌سره (٢). والاختلافات الواقعة بين قدمائنا الأخباريّين أصحاب الأئمَّة عليهم‌السلام من هذا القبيل.

وثانيهما : أن يكون سببه غير ذلك من الاستنباطات الظنيّة. ومن المعلوم أنه لم يرد إذن من الله تعالى في ذلك ، بل تواترت الأخبار عن الأئمَّة الأطهار : «بأن المفتي المخطئ ضامن ويلحقه وزر من عمل بفتياه» (٣).

وقال الله تعالى (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (٤).

ومن المعلوم أن كل حكم تحتاج إليه الامّة قد أنزله (٥) الله في كتابه ، لكن لا تبلغه عقول الرجال ، وقد بينه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لأمّته وبيّنه أمير المؤمنين عليه‌السلام كذلك. ومن المعلوم أنه لا اختلاف فيما أنزل (٦) الله تعالى كما مر بيانه سابقا ، فكلّ من اختلف في الفتوى ، ولم يكن سببه ابتناء أحد قوليه على حديث وارد من باب التقيّة يكون حاكما بغير ما أنزل الله.

وأقول : يمكن أن تكون الجماعة التي وقع منها القسم الثاني من الاختلاف ـ

__________________

(١) الفوائد المدنية : ١٥٤ ـ ١٥٥.

(٢) العدة في اصول الفقه ١ : ١٤٦ ـ ١٤٧.

(٣) الكافي ٧ : ٤٠٩ / ٢ ، باب أن المفتي ضامن.

(٤) المائدة : ٤٤.

(٥) في «ح» : انزل.

(٦) في «ح» : انزله.


وهم جماعة قليلة نشؤوا في زمن الغيبة الكبرى أولهم الأقدمان : ابن الجنيد ، وابن أبي عقيل في ما أظن ، ثم بعدهما نسج على منوالهما الشيخ المفيد ، ثم ابن إدريس الحلي ، ثمّ العلّامة الحلّي ، ثم من وافقه من المتأخرين ـ معذورين من جهة غفلتهم عن أن سلوك طريقة الاستنباطات الظنيّة مناقض لما هو من ضروريات مذهبنا ، من أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ما جاء في كلّ واقعة تحتاج إليها الأمة [إلى يوم القيامة] بحكم وخطاب قطعيّ ، وأودع كل ما جاء به عند الأئمَّة عليهم‌السلام ، وأمر الناس بسؤالهم في كل ما لا يعلمون (١) والردّ إليهم والتمسك بكلامهم (٢) ، وهم عليهم‌السلام مهدوا اصولا لرجوع الشيعة إليها ، لا سيّما في زمن الغيبة الكبرى.

ومن القسم الثاني من الاختلاف ذهاب شيخنا المفيد قدس‌سره (٣) إلى جواز التمسّك بالاستصحاب في نفس أحكامه تعالى وفي نفيها. وقد مرّ توضيحه في مسألة من دخل في الصلاة بتيمّم لفقد الماء ، ثم وجد الماء في أثنائها ، وذهابه إلى أنه من دخل في الصلاة بوضوء (٤) وسبقه الحدث ، فإنه يتوضأ ويستأنف الصلاة ، مع أنه تواترت الأخبار بأن الحدث في أثناء الصلاة ينقضها. والباعث على ذلك أنه كان في بعض الأحاديث لفظ : «أحدث» فسبق ذهنه إلى حمله على وقوع الحدث من المصلّي وغفل عن احتمال أن يكون [المراد] : مطر السماء ، بل هذا الاحتمال أظهر معنى كما حققناه في بعض كتبنا) (٥).

إلى أن قال : (هذا كله بعد التنزل عن حمله على التقيّة ، والصواب حمله على

__________________

(١) الكافي ١ : ٢١٠ ـ ٢١٢ / ١ ـ ٩ ، باب أن أهل الذكر الذين أمر الله .. الخلق بسؤالهم هم الأئمَّة عليهم‌السلام.

(٢) الكافي ١ : ٦٨ / ١٠ ، باب اختلاف الحديث ، عوالي اللآلي ٤ : ١٣٣ ـ ١٣٥ / ٢٣٠ ـ ٢٣١.

(٣) المقنعة (ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد) ١٤ : ٦١.

(٤) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : بتيمّم.

(٥) الفوائد المدنيّة : ١٥٨ ـ ١٥٩.


التقيّة ؛ لأن أبا حنيفة ذهب إلى ذلك لكن ما خصّص الحكم بالتيمّم ، وذهابه إلى أن ماء الأواني ولو كان كرا نجس بمجرّد ملاقاة النجاسة ، وذهاب ابن الجنيد إلى جواز العمل بالقياس ، وذهاب ابن أبي عقيل إلى عدم انفعال الماء القليل بورود النجاسة عليه) (١) انتهى كلامه ، زيد إكرامه (٢).

أقول : ولي فيما ذكره في هذا المقام نظر من وجوه :

الأول : أن ما ادّعاه من أن (أكثر أحاديثنا صارت دلالتها قطعية) ـ إلى آخره ـ فيه أن القرائن التي ذكرها لا يكاد يشم منها رائحة ما ادعاه ، كما سنبيّنه إن شاء الله تعالى.

نعم ، لا ريب أن الدلاله بالنسبة إلى من خوطب بتلك الأحكام في تلك الأيام كانت قطعية لظهور القرائن الحالية والمقالية لهم ، إلّا إنها قد خفيت علينا في هذه الأزمان بامور عديدة أوجبت لنا الإشكال والداء العضال.

وقصارى ما يحصل لنا بسبب تلك القرائن ـ إن وجدت ـ هو ظهور الدلالة ، ومراتبه متفاوتة شدة وضعفا بسبب تلك القرائن ظهورا وخفاء ، وقربا وبعدا ، وقلّة وكثرة. فمن تلك الامور التي أوجبت ما قلنا ما عليه الأخبار في أكثر الأحكام من التناقض والتدافع ، وتعسّر الجمع بينها غالبا إلّا على وجه ظنّي ، غايته الغلبة على بعض الأفهام والاعتماد على المرجّحات المرويّة في دفع ذلك ، كما لا يخفى ما فيه من الإشكال كما حققناه في الدرّة المتقدّمة في شرح مقبولة عمر ابن حنظلة لا سيما في الفائدة العاشرة (٣).

على أنه وإن حصل الترجيح بأحدهما ، فإنه لا يخرج عن غلبة الظنّ ، ولا

__________________

(١) الفوائد المدنيّة : ١٥٩.

(٢) في «ح» : مقامه.

(٣) انظر الدرر ١ : ٣٠٤ ـ ٣٠٩.


يوصل إلى حدّ الجزم والقطع ؛ ولذا فإن (١) شيخنا ثقة الإسلام قدس‌سره في ديباجة كتابه (٢) (الكافي) (٣) بعد ذكره جملة من المرجّحات تخطى عنها إلى القول بالتخيير في العمل كما أوضحناه في الدرّة المشار إليها. ولهذا أيضا كان شيخنا المجلسي صاحب (البحار) طاب ثراه ـ لشدّة ورعه وتديّنه يدور في جلّ فتاويه مدار الاحتياط. وقد وقفت له على رسالة بالفارسيّة تتضمّن الجواب عن جملة من الأسئلة ، فلم أر فيها ما جزم (٤) بالحكم فيه إلّا أقل قليل ، بل وإن رجّح شيئا عقبه بالأمر بالاحتياط ، حتى إنه نقل لي عن بعض المعاصرين (٥) من متأخّري المتأخّرين أنه كان لذلك يطعن في كونه في عداد المجتهدين.

ومن ذلك أن دلالة الألفاظ ظنيّة ، وقيام الاحتمالات وشيوع المجازات ، بل غلبتها على الحقائق مما لا ينكره الممارس الحاذق ، ومن ذلك ما ورد عنهم عليهم‌السلام أنهم كانوا يكلّمون الناس (٦) على قدر عقولهم (٧) ، وأنهم يجيبون عن الأسئلة على الزيادة والنقصان (٨) إلى غير ذلك مما سيظهر لك إن شاء الله تعالى في ضمن ما يأتي من الكلام.

الثاني : قوله : (والقرائن كثيرة ، من جملتها أن الحكيم) إلى آخره.

فيه أن من الجائز أنه ربّما اقتضت الحكمة والمصلحة خلاف ذلك ، كما ربما اقتضت ترك الجواب بالمرّة كما وردت به الأخبار الدالّة على أنه قد فرض عليكم السؤال (٩) ولم يفرض علينا الجواب ، بل ذلك إلينا إن شئنا أجبنا وإلّا

__________________

(١) في «ح» : أن.

(٢) في «ح» : كتاب.

(٣) الكافي ١ : ٨.

(٤) في «ح» : حكم.

(٥) من «ح» ، وفي «ق» : القاصرين.

(٦) سقط في «ح».

(٧) الكافي ١ : ٢٣ / ١٥.

(٨) بصائر الدرجات : ٣٣١ ـ ٣٣٢ / ب ١٠ ، ح ١ ـ ٩.

(٩) ترك الجواب بالمرّة .. السؤال ، سقط في «ح».


فلا (١). والحمل على التقيّة في ترك الجواب بالمرّة يجري مثله في إجمال الأجوبة. على أنه قد وردت جملة من الأخبار دالة على أن كلامهم عليهم‌السلام ينصرف على وجوه عديدة لهم في كل منها المخرج. ولا بأس بإيراد ما عثرنا عليه منها ، فمن ذلك ما رواه شيخنا الصدوق ـ عطّر الله مرقده ـ في كتاب (معاني الأخبار) بسنده إلى داود بن فرقد قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا ، إن الكلمة لتنصرف على وجوه فلو شاء إنسان لصرّف (٢) كلامه كيف شاء ولا يكذّب» (٣).

وروى فيه بسنده إلى زيد الزرّاد (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام :«يا بني ، اعرف منازل الشيعة على قدر روايتهم ومعرفتهم ؛ فإن المعرفة هي الدراية للرّواية ، وبالدرايات يعلو المؤمن إلى أقصى درجات الإيمان. إني نظرت في كتاب عليّ عليه‌السلام فوجدت في الكتاب أن قيمة كلّ امرئ وقدره معرفته أن الله يحاسب الناس على قدر ما آتاهم من العقول في دار الدنيا» (٥).

وروى فيه بسنده عن إبراهيم الكرخي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : «حديث تدريه خير من ألف حديث ترويه. ولا يكون الرجل منكم فقيها حتى يعرف معاريض (٦) كلامنا ؛ إن الكلمة من كلامنا لتنصرف إلى سبعين وجها لنا من الجميع المخرج» (٧).

وروى في كتاب (البصائر) بسنده عن عبد الأعلى قال : دخلت أنا وعلي بن

__________________

(١) انظر وسائل الشيعة ٢٧ : ٦٢ ـ ٧٧ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٧.

(٢) في «ح» : تصرّف.

(٣) معاني الأخبار : ١ / ١.

(٤) في المصدر : بريد الرزاز.

(٥) معاني الأخبار : ١ / ٢.

(٦) في «ح» : معارض.

(٧) معاني الأخبار : ٢ / ٣.


حنظلة على أبي عبد الله فسأله عليّ بن حنظلة (١) مسألة فأجاب فيها ، فقال علي : فإن كان كذا وكذا؟ فأجابه فيها بوجه آخر ، قال : فإن كان كذا وكذا؟ فأجابه بوجه آخر ، حتى أجابه فيها بأربعة وجوه ، فالتفت [إليّ] علي بن حنظلة وقال : يا أبا محمّد ، قد أحكمناه. فسمع منه أبو عبد الله عليه‌السلام ، فقال : «لا تقل هكذا يا أبا الحسن ؛ فإنك رجل ورع ، إن من الأشياء أشياء ضيّقة وليس تجري إلّا على وجه واحد ، منها وقت الجمعة ليس إلّا واحد حين تزول الشمس. ومن الأشياء أشياء موسّعة تجري على وجوه كثيرة ، وهذا منها إن له عندي سبعين وجها» (٢).

وروى قريبا منه في (الكافي) (٣) أيضا.

وروى في كتاب (البصائر) بسنده عن الأحول عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «أنتم أفقه الناس ما عرفتم معاني كلامنا ، إن كلامنا لينصرف على سبعين وجها» (٤).

وروى في الكتاب المذكور بسنده إلى علي بن أبي حمزة قال : دخلت أنا وأبو بصير على أبي عبد الله عليه‌السلام ، فبينا نحن قعود إذ تكلّم أبو عبد الله عليه‌السلام بحرف ، فقلت في نفسي : هذا مما أحمله إلى الشيعة ، هذا والله حديث لم أسمع مثله قط. قال : فنظر في وجهي ثم قال : «إني أتكلّم بالحرف الواحد لي فيه سبعون وجها (٥) ، إن شئت أخذت كذا وإن شئت أخذت كذا» (٦).

إلى غير ذلك من الأخبار التي نقلها ثمّة (٧).

ألا ترى إلى حديث عليّ بن أبي حمزة حيث أسرّ في نفسه أنه يحمل ما فهمه من كلامه إلى الشيعة ، فنظر عليه‌السلام إليه وقال له : «ما عرفت».

__________________

(١) في «ح» بعدها : عن.

(٢) بصائر الدرجات : ٣٢٨ / ب ٩ ، ح ٢.

(٣) الكافي ١ : ٢٦ / ٢٧.

(٤) بصائر الدرجات : ٣٢٩ / ب ٩ ، ح ٦.

(٥) من «ح» والمصدر.

(٦) بصائر الدرجات : ٣٢٩ / ب ٩ ، ح ٣.

(٧) بصائر الدرجات : ٣٢٨ ـ ٣٣٠ / ب ٩ ، ح ١ ، ٤ ـ ٥ ، ٧ ـ ١٥.


وحديث عبد الأعلى وما تضمّنه من قول عليّ بن حنظلة : إنه قد أحكم المسألة باعتبار ما فهمه من قوله عليه‌السلام من الأجوبة وقوله عليه‌السلام بما قال.

وحينئذ ، فكيف يتمّ ما ذكره كلّيا في جميع الأحكام؟ على أنّا لا ننكر صحّة ما ذكره في بعض الأحكام ، إلّا إنه لا يتمّ له كليا في كل مقام.

الثالث : أن ما ذكره وكرّره في غير موضع (١) من كتابه المشار إليه ـ من أن الاختلافات الواقعة بين الأخباريين منحصر في العمل بالأخبار الواردة في مورد التقيّة ؛ بأن يكون أحد المخالفين عمل على خبر ، والآخر على خبر آخر ، ولكن أحد الخبرين قد خرج مخرج التقيّة ، وأن اختلاف مجتهدي أصحابنا إنّما نشأ من الاستنباطات الظنّية ـ فإن فيه أن حصر خلاف الأخباريين فيما ذكره أمر يكذبه العيان ودعوى عريّة من البرهان ، فإنه لا يخفى على من تتبع كلام الأخباريين من المتقدّمين ما وقع لهم من الاختلافات في فهم معاني الأخبار ، وتعيّن ما هو المراد منها في ذلك المضمار ، وجلّ الاختلافات الواقعة بين علمائنا الأبرار مجتهدهم وأخباريّهم إنما نشأت من اختلاف الأنظار في مبادئ الإدراك لتلك الأحكام ، وتفاوت الأفهام المفاضة من الملك العلّام ، فإن منها كالبرق الخاطف ، ومنها كالساكن الواقف ، وبينهما مراتب لا يخفى على الفطن العارف. ولا بأس بالإشارة إلى جملة من المواضع التي وقع الاختلاف فيها بين الأخباريين ، والذي يخطر بالبال في الحاضر مواضع : الأوّل (٢) أخبار التثنية الواردة في الوضوء ، فإن ثقة الإسلام في (الكافي) حملها على من لم تقنعه المرة لغسله (٣) ، والصدوق حمل بعضا منها على

__________________

(١) الفوائد المدنية : ١٣٦ ـ ١٣٧.

(٢) الأرقام من (الأوّل) إلى (الحادي عشر) وردت في «ح» بهيئة (أ .. يا).

(٣) الكافي ٣ : ٢٧ / ذيل الحديث : ٩.


التجديد (١) ، وبعضها على الغسلتين ، والشيخ (٢) حملها على استحباب التثنية كما هو المشهور بين الأصحاب ، والمحدّث الكاشاني في (الوافي) (٣) حمل أخبار الوحدة على الغسلة ، وأخبار التثنية على الغرفة ، ونقل كلام الصدوق واعترضه وردّه بما هو مذكور في الكتاب المشار إليه.

الثاني : ما وقع للصّدوق (٤) في مسألة اجتماع ولد الولد مع الأبوين في الميراث ، حيث ذهب إلى حجب الأبوين لولد الولد استنادا إلى ما ورد في صحيحة (٥) عبد الرحمن بن الحجاج ، وصحيحة سعد بن أبي خلف من قوله عليه‌السلام : «بنات الابنة وبنات الابن يقمن مقام الابنة ومقام الابن إذا لم يكن للميّت ولد ولا وارث غيرهنّ» (٦) ، بحمل قوله : «ولا وارث غيرهنّ» على الأبوين.

والفضل بن شاذان قد حكم بالمشاركة بينهم (٧) كما هو المشهور بين الأصحاب ؛ حملا لقوله : «ولا وارث غيرهنّ» على الوالد الذي تقرب ولد الولد به.

وبه صرّح الشيخ قدس‌سره وردّ على الصدوق فيما ذكره ، وغلّطه في (التهذيبين) (٨).

والصدوق في (الفقيه) قد بالغ فيما ذهب إليه ، وردّ على الفضل بن شاذان وغلطه ونسبه إلى القياس ، حيث قال بعد نقل ذلك عنه : (وهذا مما زلت به قدمه عن

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٥ ـ ٢٦ / ذيل الحديث : ٨٠.

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ٨٠ / ذيل الحديث : ٢٠٩ ، الاستبصار ١ : ٧٠ / ذيل الحديث : ٢١٤.

(٣) الوافي ٦ : ٤١٧ ، ٣٢٠ ـ ٣٢١.

(٤) الفقيه ٤ : ٢٠٨ / ذيل الحديث : ٧٠٥ ، عنه في مختلف الشيعة ٩ : ٦٩ / المسألة : ١٧.

(٥) الكافي ٧ : ٨٨ / ٤ ، باب ميراث ولد الولد ، وسائل الشيعة ٢٦ : ١١١ ـ ١١٢ ، أبواب ميراث الأبوين والأولاد ، ب ٧ ، ح ٤.

(٦) الكافي ٧ : ٨٨ / ١ ، باب ميراث ولد الولد ، الفقيه ٤ : ١٩٦ / ٦٧٢ ، وسائل الشيعة ٢٦ : ١١٠ ، أبواب ميراث الأبوين والأولاد ، ب ٧ ، ح ٣ ، بتفاوت.

(٧) عنه في الفقيه ٤ : ١٩٧ ، مختلف الشيعة ٩ : ٦٩ / المسألة : ١٧.

(٨) تهذيب الأحكام ٩ : ٣١٧ / ذيل الحديث : ١١٤٠ ، الاستبصار ٤ : ١٦٧ / ذيل الحديث : ٣٢.


الطريقة المستقيمة ، وهذا سبيل من يقيس) (١).

مع أن جملة الأصحاب على ما ذهب إليه الفضل في هذه المسألة وهو ظاهر ثقة الإسلام الكليني (٢) ، حيث نقل صحيحة عبد الرحمن المذكورة ، ونقل كلام الفضل بن شاذان ولم ينكره ولم يرده.

الثالث : ما وقع للصدوق رحمه‌الله أيضا في مسألة الردّ على الزوجة لو مات الزوج ولم يخلف وارثا سواها ، فإنه ذهب إلى التفصيل في ذلك بحضور الإمام وغيبته ، فحمل الأخبار الدالة على كون ما زاد على (٣) فريضتها للإمام عليه‌السلام على حال حضوره ، والأخبار الدالة على كون الميراث كملا لها على حال الغيبة (٤).

واعترضه المحدّث الكاشاني في (الوافي) (٥) بأن حكم الإمام عليه‌السلام بكون الميراث لها كملا كان في حال حضوره ، ثم حمل الأخبار الدالة على ذلك على هبته عليه‌السلام حقّه للمرأة ، وحملها الشيخ رحمه‌الله (٦) على ما إذا كانت المرأة قريبة للميّت ولا وارث له أقرب منها ، فتأخذ الربع ميراثا بالفريضة ، والباقي بالقرابة. ولم نقف للقول بالتفصيل على قائل به سوى الصدوق رحمه‌الله.

الرابع : ما وقع له أيضا قدس‌سره في مسألة جواز القنوت بالفارسيّة حيث قال في (الفقيه) ـ بعد نقل صحيحة عليّ بن مهزيار ، قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الرجل يتكلّم في الصلاة الفريضة بكل شي‌ء يناجي ربّه ، قال : «نعم» ـ ما صورته : (ولو لم يرد هذا الخبر لكنت اجيزه بالخبر الذي روي عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : «كل شي‌ء

__________________

(١) الفقيه ٤ : ١٩٧ ، باب ميراث ولد الولد.

(٢) الكافي ٧ : ٨٨ ـ ٩٠ / باب ميراث ولد الولد.

(٣) في «ح» : عن.

(٤) الفقيه ٤ : ١٩١ ـ ١٩٢ / ذيل الحديث : ٦٦٦.

(٥) الوافي ٢٥ : ٧٧٢.

(٦) تهذيب الأحكام ٩ : ٢٩٥ / ذيل الحديث : ١٠٥٦ ، الاستبصار ٤ : ١٥٠ ـ ١٥١ / ذيل الحديث : ٥٦٨.


مطلق حتى يرد فيه نهي» ، والنهي عن الدعاء بالفارسيّة في الصلاة غير موجود (١)) (٢) انتهى.

وظاهره العمل بهذا الخبر المذكور الدال على أن الأشياء كلها على الإطلاق حتى يرد فيها نهي ، وهو موافق لجمهور الاصوليين القائلين بالتثنية في الأحكام ، ومخالف لجملة (٣) من عداه من الأخباريين القائلين بالتثليث : حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك (٤). والذي فهمه جملة الأخباريّين المتأخّرين عنه خلاف ذلك من الحمل على بعض المعاني الّتي لا تنافي التثليث ؛ ولهذا تأوّلوا كلام الصدوق في المقام بما لا يخلو عن ذلك ، كما ذكره صاحب الكتاب المذكور في بعض مباحثه من الكتاب المشار إليه (٥) ، وبعده الشيخ محمّد الحرّ (٦) العاملي في كتاب (الفوائد الطوسيّة) (٧).

ويردّه ما صرّح به الصدوق في كتاب (الاعتقادات) حيث قال : (الباب الثالث والأربعون ، في الحظر والإباحة. قال الشيخ أبو جعفر : اعتقادنا في ذلك أن الأشياء كلها مطلقة حتى يرد فيها نهي) (٨) انتهى.

__________________

(١) غير موجود ، من «ح» والمصدر.

(٢) الفقيه ١ : ٢٠٨ / ٩٣٦ ـ ٩٣٧ ، ولم يصرّح باسم علي بن مهزيار قبل هذه الرواية ، غير أن هناك رواية في تهذيب الأحكام ٢ : ٣٢٦ / ١٣٣٧ عن عليّ بن مهزيار مفروض السؤال فيها هو عينه جواب الإمام عليه‌السلام في رواية (الفقيه). وقد نقلها صاحب (الوسائل) قبل رواية (الفقيه) مباشرة ، انظر وسائل الشيعة ٦ : ٢٨٩ ، أبواب القنوت ، ب ١٩ ، ح ١.

(٣) في «ح» : لمذهب جملة ، بدل : لجملة.

(٤) انظر الكافي ١ : ٦٧ ـ ٦٨ / ١٠ ، باب اختلاف الحديث ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٦ ـ ١٠٧ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ١.

(٥) الفوائد المدنيّة : ١٥٩ ـ ١٦٠.

(٦) في «ح» : الحسن.

(٧) الفوائد الطوسيّة : ٤٢٩ ـ ٤٣٠ / الفائدة : ٩٢ ، ٤٨٧ ـ ٤٨٨ / الفائدة : ٩٦.

(٨) الاعتقادات (المطبوع ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد) ٥ : ١١٤.


وجملة المتأخّرين من الأخباريين كصاحب الكتاب ، بل هو أوّلهم ، وحذا حذوه المحدّث الكاشاني قد اطنبوا في الطعن على من قال من الاصوليّين بالتثنية ، حيث إن ذلك مخالف لما استفاضت به الأخبار من التثليث كما أوضحناه في درّة البراءة الأصليّة (١) ، مع أن الصدوق ـ وهو رئيسهم الذي يلتجئون إليه ويعوّلون في هذه المقالة عليه ـ قد خالف (٢) ذلك ، كما هو صريح كلامه في كتاب (الاعتقادات) وإن كان كلامه في كتاب (الفقيه) ربّما يقبل التأويلات التي ذكروها ، إلّا إنه في عبارة الاعتقادات لا يتمشى لهم ذلك.

هذا وعندي فيما اختاره في كتاب (الفقيه) من جواز القنوت بالفارسيّة استنادا إلى الصحيحة المتقدّمة نظر ؛ فإن الظاهر أن المراد منها هو التكلم والدعاء بكل شي‌ء من المطالب الدينيّة أو الدنيويّة لا باعتبار اللغات المختلفة. ويؤيده التعبير بالتكلّم ؛ فإنه لغة في الكلام العربي ، ولم أطّلع على موافق من الأخباريّين للصدوق في ذلك ، بل صرّح بعض مشايخنا المعاصرين من الأخباريّين بما ذكرناه من معنى الرواية ، وردّ على الصدوق فيما فهمه منها.

ولا يخفى أن هذا المعنى إن لم يكن أقرب مما ذكره ، فلا أقلّ أن يكون مساويا في الاحتمال ، وبه لا يتم الاستدلال. وأما أنه بمجرّد عدم ورود (٣) النهي عن الدعاء بالفارسيّة يكون ذلك مجوّزا للدّعاء بها في الصلاة ، ففيه أن العبادة توقيفيّة من الشارع يجب الوقوف فيها على ما رسمه صاحب الشرع بقول أو فعل أو تقرير ، وأحد الثلاثة لم يرد عنهم عليهم‌السلام في جواز القنوت بالفارسية ، وإلّا للزم أيضا جواز الذكر في الركوع والسجود بالفارسيّة ؛ بناء على أن الواجب فيهما

__________________

(١) انظر الدرر ١ : ١٥٥ ـ ١٨٦ / الدرة : ٦.

(٢) في «ح» بعدها : في.

(٣) من «ح».


مطلق الذكر ، فإنه لم يرد من الشارع منعه (١) ولا أظنّه يلزمه.

الخامس : ما ذهب إليه المحدث (٢) الكاشاني في مسألة نجاسة الماء القليل بالملاقاة من القول بالعدم (٣) ، وفاقا لابن أبي عقيل (٤) الذي شنع عليه في آخر كلامه ، وتبعه عليه بعض محدّثي متأخّري المتأخّرين (٥) استنادا إلى جملة من الأخبار التي هي بالدلالة على خلافه أشبه ، حتى تأوّل الأخبار الدالة على النجاسة على تعددها وصحة أكثرها وصراحتها بتأويلات بعيدة ، وحملها على محامل غير سديدة ، كما أوضحناه في رسالتنا (قاطعة القال والقيل في نجاسة الماء القليل).

السادس : ما ذهب إليه المحدّث المشار إليه (٦) ـ من بين العلماء كلهم مجتهدهم (٧) وأخباريّهم ، وشنع على من خالفه فيه ـ من القول بعدم تعدّي النجاسة إلّا من عين النجاسة دون ما لاقته بعد إزالتها عنه بالتمسيح ونحوه ، من غير تطهير ؛ استنادا إلى ما توهّمه من بعض الأخبار التي لا صراحة ، بل ولا ظهور لها في ذلك ، كما حققناه في الرسالة المشار إليها ، وفي كتابنا (الحدائق الناضرة) (٨).

السابع : ما وقع في حديث «لا رضاع بعد فطام» (٩) حيث إن الّذي فهمه منه

__________________

(١) في «ح» : منه.

(٢) في «ح» بعدها : المحسن.

(٣) مفاتيح الشرائع ١ : ٨١ ـ ٨٤ / المفتاح : ٩٣ ، الوافي ٦ : ١٩.

(٤) عنه في مختلف الشيعة ١ : ٣٢ ـ ٣٣ / المسألة : ١٣.

(٥) ذكر ذلك صاحب مفتاح الكرامة المعاصر للمصنّف ، وقد نقله عن الفتوني والسيد عبد الله الشوشتري. انظر مفتاح الكرامة ١ : ٣٠٧.

(٦) مفاتيح الشرائع ١ : ٧٥ ، الوافي ٦ : ١٥٠ ـ ١٥١.

(٧) في «ح» : مجتهديهم.

(٨) الحدائق الناضرة ٢ : ١٠ ـ ١٧.

(٩) الكافي ٥ : ٤٤٣ ـ ٤٤٤ / ١ ، ٣ ، ٥ ، باب أنه لا رضاع بعد فطام ، الفقيه ٣ : ٣٠٦ / ١٤٦٨ ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٣٨٤ ـ ٣٨٥ ، أبواب ما يحرم من الرضاع ، ب ٥ ، ح ١ ـ ٢.


الصدوق (١) وصاحب (الكافي) (٢) ، هو أن المراد منه : أن المرتضع الأجنبي إذا شرب لبن المرضعة بعد أن يفطم ، فإن ذلك الرضاع لا يحرّم التناكح. والذي فهمه ابن بكير كما رواه عنه الشيخ في (التهذيب) تفسيره بابن المرضعة ، قال في (التهذيب) بعد حكاية كلام ابن بكير في تفسير الحديث المذكور : (أي أنه إذا تم للغلام سنتان أو الجارية فقد خرج من حدّ اللبن ، فلا يفسد بينه وبين من شرب من لبنه) (٣) انتهى.

الثامن : ما ذكره الصدوق رحمه‌الله في (الفقيه) بعد أن روى عن محمّد بن الحسن الصفّار أنه كتب إلى أبي محمّد عليه‌السلام : رجل مات وأوصى إلى رجلين يجوز لأحدهما أن ينفرد بنصف التركة والآخر بالنصف؟ فوقع عليه‌السلام : «لا ينبغي لهما أن يخالفا الميّت ، ويعملان على حسب ما أمرهما إن شاء الله» (٤).

قال : (وهذا التوقيع عندي بخطّه عليه‌السلام ، وعليه العمل دون ما رواه في (الكافي) (٥)) (٦).

وأشار بذلك إلى ما رواه ثقة الإسلام في (الكافي) بسنده (عن بريد بن معاوية قال : إن رجلا مات وأوصى إلى رجلين فقال أحدهما لصاحبه : خذ نصف ما ترك

__________________

(١) الفقيه ٤ : ٣٠٦ / ذيل الحديث : ١٤٦٨.

(٢) الكافي ٥ : ٤٤٤ / ذيل الحديث : ٥ ، باب أنه لا رضاع بعد فطام.

(٣) تهذيب الأحكام ٧ : ٣١٨ / ذيل الحديث : ١٣١١.

(٤) الفقيه ٤ : ١٥١ / ٥٢٣.

(٥) الكافي ٧ : ٤٧ / ٢ ، باب من أوصى إلى اثنين ..

(٦) انظر الفقيه ٤ : ١٥١ / ذيل الحديث : ٥٢٣. وقوله : وعليه العمل دون ما رواه في (الكافي) ، ليس في الفقيه ، بل ورد بعد قوله : بخطّه عليه‌السلام ، في ذيل الحديث : ٥٢٣ قوله : وفي كتاب محمد ابن يعقوب الكليني .. ، ثم ساق الحديث الذي أشار إليه المؤلّف بعده. وما في ذيل الحديث : ٥٢٤ ـ وهو قوله عليه‌السلام : ذلك له ـ ما نصّه : لست افتي بهذا الحديث ، بل افتي بما عندي بخط الحسن بن علي عليه‌السلام ..


واعطني نصف ما ترك فأبى عليه الآخر ، فسألوا أبا عبد الله عليه‌السلام عن ذلك فقال : «ذاك له» (١).

والصدوق قدس‌سره جعل هذا الخبر منافيا للخبر الذي ذكره ؛ بناء على فهمه جواز القسمة باعتبار إرجاع الإشارة إلى القسمة. والذي فهمه منه الشيخ في (التهذيب) (٢) ، ورد على الصدوق فيما ظنّه من تنافي الخبرين ، واستصوبه أيضا المحدّث الكاشاني في كتاب (الوافي) (٣) ، هو دلالة الخبر على المنع من القسمة كالأوّل ؛ باعتبار إرجاع [متعلق] الإشارة لمن أبى عن القسمة وامتنع منها ، بمعنى أن لمن أبى القسمة الامتناع على صاحبه منها. والظاهر أنه الذي فهمه صاحب (الكافي) (٤) من الخبر المذكور حيث إنه أورد الخبرين المذكورين في كتابه ، ولم يتكلّم على أحدهما.

وللأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ في الخبرين المذكورين احتمالات اخر.

وهذا كما ترى مما يؤيد ما قدّمنا لك ذكره من خفاء القرائن علينا الآن في استنباط بعض الأحكام من الأخبار مع وضوحها لمن خوطب بها في تلك الأيام.

التاسع : ما ذكره الصدوق أيضا في معنى حديث : «من لم يتغنّ بالقرآن فليس منّا» (٥) ، حيث فسّره بمعنى الاستغناء به ، والذي عليه الأكثر منهم المحدّث الكاشاني في تفسيره (الصافي) (٦) أنه بمعنى تحسين الصوت به وتزيينه.

العاشر : ما ذكره صاحب الكتاب في معنى الأخبار الدالة على المنع من تفسير

__________________

(١) الفقيه ٤ : ١٥١ / ٥٢٤.

(٢) تهذيب الأحكام ٩ : ١٨٥ ـ ١٨٦ / ذيل الحديث : ٧٤٦.

(٣) الوافي ٢٤ : ١٧٢.

(٤) الكافي ٧ : ٤٦ ـ ٤٧ / ١ ـ ٢ ، باب من أوصى إلى اثنين ..

(٥) معاني الأخبار : ٢٧٩ / ١ ، باب معنى المحاقلة والمزابنة والعرايا .. ، باختلاف.

(٦) التفسير الصافي ١ : ٧٢.


(القرآن) بالرأي ، وأن المراد به التفسير بغير ما ورد عنهم عليهم‌السلام ، فإنه قد ذهب في كتابه المشار إليه إلى ذلك ، ومنع من الاستدلال بالظواهر القرآنية على الأحكام الشرعيّة من غير ورود تفسيرها عن أهل العصمة ، صلوات الله عليهم. وهذا المحدث الكاشاني قد ردّ عليه في ذلك وعرّض به في جملة من مصنّفاته ، ومنها رسالته الموسومة (بالاصول الأصيلة) (١) ، وتفسيره (الصافي). قال في المقدّمة الخامسة من المقدمات تفسير (الصافي) ـ بعد نقل الأخبار الدالة على المنع من تفسير (القرآن) بالرأي ، وتفسيرها وبيان معناها بما لا ينافي ما ذهب إليه من جواز التفسير بما يفهم من اللفظ ويتبادر منه ـ ما صورته : (ومن زعم أن لا معنى لـ (القرآن) إلّا ما ترجمه ظاهر التفسير ، فهو يخبر عن حدّ نفسه ، وهو مصيب في الإخبار عن نفسه ، ولكن مخطئ بردّ الخلق كافة إلى درجته) (٢) انتهى.

ولا يخفى ما فيه من التعريض العريض والتشنيع الشنيع.

الحادي عاشر : ما وقع له (٣) قدس‌سره في كتابه المذكور من تغليط جملة المجتهدين في تقدير البعد الثالث في أخبار الكر الواردة بتقديره بالمساحة ، مع أن الصدوق وجملة الأخباريّين فضلا عن المجتهدين على تقديره [بها] ، قال في (الفقيه) : (والكر ثلاثة أشبار طولا في عرض ثلاثة أشبار في عمق ثلاثة أشبار) (٤) ؛ استنادا إلى صحيحة إسماعيل بن جابر الناطقة بأن الكر ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار (٥) ، وما ذاك إلّا بتقدير البعد الثالث فيها ، وعلى ذلك جملة القمّيين الذين هم أساطين الأخباريّين.

__________________

(١) الاصول الأصيلة : ٤٢ ـ ٤٤.

(٢) التفسير الصافي ١ : ٣٥.

(٣) في «ح» بعدها : أيضا.

(٤) الفقيه ١ : ٦ / ذيل الحديث : ٢.

(٥) الكافي ٣ : ٣ / ٧ ، باب الماء الذي لا ينجسه شي‌ء ، وسائل الشيعة ١ : ١٥٩ ـ ١٦٠ ، أبواب الماء المطلق ، ب ٩ ، ح ٧.


إلى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها المتتبّع الخبير ويعرفها الناقد البصير.

وبالجملة ، فادعاء توافق الأفهام عند الأخباريّين خاصّة من بين الأنام أمر يكذبه العيان ، ويشهد ببطلانه الإنس والجان ، وبذلك يظهر لك ما في دعواه بقطعيّة دلالة الأخبار بمعونة القرائن التي ذكرها ؛ إذ لو كان الأمر كذلك لم يجز أن يكون محلّا للاختلاف ؛ لأن الاختلاف لا يقع في الامور المعلومة من حيث كونها معلومة (١) ، وإنما يقع في الامور المظنونة ؛ لاختلاف الأفهام والظنون.

اللهم (٢) إلّا أن يكون الأمر معلوما لواحد بوجوه من القرائن غير معلوم للآخر ، مع دعواه معلومية خلافه ، فدعواه المعلوميّة حينئذ باطلة ، إلّا إن ذلك يدّعي العلم بوجوه من القرائن أيضا.

وحينئذ ، فلا بدّ من حمل ما يدّعيانه على الظن الناشئ من اختلاف الأفهام في مبادئ الإدراك كما ندّعيه ، أو صدق أحدهما وكذب الآخر فيما يدّعيه. وحينئذ ، يصير دعواه للعلم كذبا وافتراء على الله سبحانه. وعلى هذا فيقع الأخباريّون فيما شنعوا به على المجتهدين من القول على الله من غير علم ولا يقين ، ولا سيّما هذين المحدّثين المتأخّرين : المحسن الكاشاني (٣) ، والأمين الأسترابادي (٤) اللذين

__________________

(١) وإنما قلنا : (من حيث كونها معلومة) ؛ لأن المعلوم ـ من حيث عدم العلم به يقع محلّا للاختلاف ؛ إما أن يعلمه واحد لحصول أسباب العلم له ولا يعلم آخر بعدم ذلك ، أو لظن محل الاختلاف ـ يجب أن يكون متفقا على معلوميته عند كل من تصوّره وعرفه. فالأخباريون حيث يدّعون المعلوميّة في الأحكام الشرعيّة لا يجوز منهم بمقتضى ذلك الاختلاف فيها ، والمشافهة منهم خلاف كما عرفت. منه رحمه‌الله ، (هامش «ح»).

(٢) اللهم : لفظ يؤتى به فيما في ثبوته ضعف ، وكأنه يستعان به تعالى في إثباته وتقويته. الفوائد العلية في شرح التحفة الدمستانية : ٦٨ / الهامش : ١.

(٣) مفاتيح الشرائع ١ : ٧٥.

(٤) الفوائد المدنيّة : ٤٠.


ملأ كتابيهما من التشنيع على مجتهدي الأصحاب ، وأسهبوا في ذلك أيّ إسهاب.

وأنت خبير بأن الاختلاف الناشئ من هذا النوع لو أوجب قدحا وجرحا لكان ذلك مشتركا بين الفريقين ، فلا وجه لتشنيع أحدهما على الآخر بذلك في البين ، إلّا إن الحقّ أنه لا يوجب ذلك ؛ إذ لا يخفى أنه قد استفاضت الأخبار عن الأئمَّة الأطهار ـ صلوات الله عليهم ـ أن مراتب الناس في الأفهام والعقول المفاضة من الملك العلام متفاوتة ، ودرجاتهم فيها متفاضلة ، وأنه تعالى إنما يحاسب الناس ويداقّهم على قدر ما آتاهم (١) من العقول والأفهام (٢) ، والتكليف الإلهي إنما وقع على حسب ما رزقهم منها.

وقد تقدّم شطر من تلك الأخبار ، ومن أوضح ما يدلّ على ذلك ما رواه في (الكافي) في كتاب العقل بسنده عن إسحاق بن عمار قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل آتيه واكلّمه ببعض كلامي فيعرفه كلّه ، ومنهم من آتيه فاكلّمه بالكلام فيستوفي كلامي كلّه ، ومنهم من آتيه فاكلّمه فيقول : أعد عليّ. فقال : «يا إسحاق ، وما تدري لم هذا؟». قلت : لا. فقال : «الّذي تكلّمه ببعض كلامك فيعرفه كلّه فذاك من عجنت نطفته بعقله ، وأمّا الّذي يستوفي كلامك ثم يجيبك على كلامك ، فذاك الذي ركب عقله في بطن امّه ، وإما الذي تكلّمه بالكلام ، فيقول : أعد عليّ ، فذاك الّذي ركب عقله فيه بعد ما كبر ، فهو يقول لك : أعد عليّ» (٣).

وحينئذ ، فنقول : إن الفقيه إذا نظر في الدليل الوارد من (الكتاب) والسنّة على حكم من الأحكام ، وبذل وسعه في طلب ما يتعلّق به من مناف أو مخصّص أو مقيّد أو مؤيّد أو قرينة أو نحو ذلك مما يتعلق بالمقام ، وأدّاه نظره وفهمه إلى وجه

__________________

(١) في «ح» : اتاه.

(٢) انظر الكافي ١ : ١١ / ٧.

(٣) الكافي ١ : ٢٦ / ٢٧.


من الوجوه فأخذ به وعمل عليه ، فلو فرض خطؤه واقعا ؛ لقصور فهمه مثلا ، أو لعذر آخر خارج عن وسعه وجهده ، فهو غير مؤاخذ ولا مستحقّ للذمّ والتأثيم ؛ إذ هو أقصى تكليفه من العليم الحكيم. وحديث العابد الذي كان يعبد الله في جزيرة من جزائر البحر المشعر باعتقاده التجسيم كما رواه في كتاب العقل والجهل من (الكافي) (١) مؤيّد لما ذكرناه ومحقّق لما أسطرناه ؛ فإنه إذا استحقّ الثواب على عبادته مع دلالة ظاهر الخبر على ما ذكرنا من اعتقاده التجسيم من حيث إن هذا أقصى ما رزق من العقل ، فبطريق الأولى ما نحن فيه ، كما لم يخفى على الفطن النبيه.

الرابع : ما ذكره في القسم الثاني من قسم الاختلاف في الفتاوى من أن (سببه الاستنباطات الظنيّة ، ومن المعلوم أنه لم يرد إذن من الله في ذلك) ـ إلى آخره ـ وفيه بعد ما قدّمنا بيانه وشددنا أركانه من وقوع الاختلاف في الأحكام باختلاف الأنظار والأفهام ، أنه كان ذلك الاستنباط المشار إليه ناشئا عن شي‌ء من الأدلّة العقلية والقواعد الاصوليّة الخارجة عن (الكتاب العزيز) والسنّة النبويّة ، فما ذكره مسلّم ، وإلّا فهو ممنوع. وكيف لا ، وقد عرفت مما قدّمنا أن التكليفات الإلهيّة إنما وقعت منه سبحانه على قدر ما رزقه من العقول والأذهان ، وأن الناس فيها يختلفون بالزيادة والنقصان؟

وهذه الاستنباطات الظنيّة التي يكررها في غير مقام ويشنّع بها على سائر العلماء الأعلام ، ليست إلّا عبارة عمّا ذكرنا من النظر في الدليل بما رزقوه من العقول والأفهام ، والعمل بما فهموه من ذلك الدليل من نقض وإبرام.

نعم ، قد يدّعى أن ما يفهمه وكذا من حذا حذوه يسمى علما لا ظنا ، وسائر

__________________

(١) الكافي : ١ : ١١ ـ ١٢ / ٨.


المجتهدين يطلقون عليه الظنّ ، وإلّا فالجمع مشتركون في استنباط من الدليل الشرعي ؛ فإنّا نرى الأخباريّين والمجتهدين مشتركين في استفادة جملة من الأحكام من (الكتاب) والسنّة ، ولكن أحدهما يدّعي كون ما فهمه واستفاده معلوما محققا ، ويسمّيه علما ، والآخر يسمّيه ظنّا. وحينئذ ، فقصارى غلط المجتهدين في التسمية خاصة ، وهو لا يوجب قدحا ولا تشنيعا.

نعم ، لو كان ذلك الاستنباط من غير أدلّة (الكتاب) والسنّة اتّجه ما ذكره ، إلّا إن كلامه فيما هو أعمّ من ذلك ، وأما ما ذكره من الأخبار الدالّة على أن المفتي ضامن ويلحقه وزر من عمل بفتياه (١) ، فالظاهر حمله على من تجاوز الأوامر الشرعيّة وتعدّى الحدود المقررة المرعية ؛ إما بعدم إعطاء الوسع حقه من التتبّع فيما ينضاف إلى ذلك الدليل من مقيّد ، أو مخصّص ، أو ناسخ ، أو نحو ذلك مما يدخل في هذا القبيل ، أو بأخذ الأحكام بطريق الرأي والقياس المنهيّ عنه في الأخبار (٢) ، أو البناء على بعض القواعد الاصولية والضوابط الخارجة عن أدلة (الكتاب) والسنّة وإلّا فمن أخذ الأحكام من (الكتاب) (٣) ، بعد بذل الجهد في الفحص والتتبّع لما يتعلّق بها ، وأدّاه فهمه إلى شي‌ء منها ، كيف يكون مؤاخذا لو فرض قصور فهمه ونقصان ذهنه عن معرفة الحكم الواقعي ، وقد أتى بما امر به وامتثل ما رسم له؟

ولعلّ المراد ـ والله سبحانه أعلم ـ من الآية المذكورة : أن من لم يحكم بما

__________________

(١) انظر : الكافي ١ : ٤٢ / ٣ ، باب النهي عن القول بغير علم ، و ٧ : ٤٠٩ / ٢ ، باب أن المفتي ضامن ، تهذيب الأحكام ٦ : ٢٢٣ / ٥٣١ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٢٠ ، أبواب آداب القاضي ، ب ٧ ، ح ١.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ٣٥ ـ ٦٢ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٦.

(٣) وإلّا فمن .. الكتاب ، سقط في «ح».


أنزل الله ـ يعني من لم يستند في حكمه إلى ما أنزل الله تعالى من آية قرآنية أو سنّة نبويّة ـ فهو كذلك ، والمفروض أن هذا إنما استند إليهما ، وتصير الآية المذكورة تعريضا بالمخالفين المستندين إلى الأقيسة والآراء والاجتهاد في الدين. وقد تقدّم في الدرّة الموضوعة في شرح مقبولة عمر بن حنظلة (١) في الفائدة الخامسة عشرة ما فيه مريد بيان وإيضاح لهذا المقام.

وبالجملة ، فبعد ما قرّرنا من اشتراك الأمر في تفاوت الأفهام واختلافها في إدراك الأحكام بين الأخباريّين والمجتهدين من علمائنا الأعلام فكل ما يورده من الآيات والأخبار فهو مشترك بين الجميع ، ولا اختصاص له بالمجتهدين.

الخامس : قوله : (ومن المعلوم أن كل حكم تحتاج إليه الأمّة قد أنزله الله تعالى في كتابه) ـ إلى آخره ـ وفيه أنه لا خلاف ولا إشكال في أن كلّ حكم تحتاج إليه الامّة قد أنزله الله تعالى في كتابه كما استفاضت به الآيات ، لكن من المعلوم أن ذلك مخزون عند أهل بيته ـ صلوات الله عليهم ـ فمنه ما بقي في زاوية الخفاء ، ومنه ما خرج ، وفي بعض ما خرج ما قدّمنا لك شرحه وبيانه. ودعواه هنا أن كل ما أنزل الله تعالى في كتابه قد ظهر منه صلى‌الله‌عليه‌وآله لأمّته ، أو من الأئمّة المعصومين ـ صلوات الله عليهم ـ ينافي ما ذكره في غير موضع من كتابه المذكور من المنع من التمسك بالأحاديث النبويّة ما لم ترد من طريق أهل بيته عليهم‌السلام كظواهر الآيات القرآنية ، وينافي ما صرّح به أيضا من أن دعوى ظهور الأحكام كملا إنما يتجه على مذهب العامّة حيث قال في الفصل السادس من

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٧ ـ ٦٨ / ١٠ ، باب اختلاف الحديث ، الفقيه ٣ : ٥ ـ ٦ / ١٨ ، تهذيب الأحكام ٦ : ٣٠١ ـ ٣٠٣ / ٨٤٥ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٦ ـ ١٠٧ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ١.


كتابه المذكور : (وأما التمسك بأن عدم ظهور (١) مدرك شرعيّ تحكم عند المجتهد بعد تفتيشه مدرك شرعي لعدم الحكم في الواقع اجماعا ، فإنّما يتّجه على مذهب العامّة .. القائلين بأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أظهر عند أصحابه كلّ ما جاء به وتوفرت الدواعي (٢) على أخذه ونشره ، وما خصّ أحدا بتعليم شي‌ء لم يظهر عند غيره ، ولم تقع بعده فتنة اقتضت إخفاء بعض ما جاء به) (٣) انتهى.

فإنه كما ترى ينادي : إن بعض الأحكام بقي في زوايا الاستناد ، فلذلك لا يمكن العمل بالقاعدة المذكورة.

السادس : قوله : (ومن القسم الثاني من الاختلاف ذهاب شيخنا المفيد قدس‌سره إلى جواز العمل بالاستصحاب) ـ إلى آخره ـ فإن فيه أنه وإن كرّر ذلك في غير موضع من هذا الكتاب وشنّع به على من عمل به من الأصحاب ، إلّا إنه قد وقع فيما شنّع به ، ومن عاب استعاب ، كما وقفت عليه من كلامه في حاشيته على (شرح المدارك) وإن تستّر ببعض التمويهات والتشبيهات التي هي أوهن من بيت العنكبوت ، وإنه لأوهن البيوت. وقد نقلنا كلامه المشار إليه في درّة الاستصحاب (٤) ، فارجع إليه يظهر لك ما فيه من العجب العجاب ، والله الهادي إلى جادّة الصواب.

السابع : قوله وذهابه إلى أن (من دخل في الصلاة بتيمّم ، ثم سبقه الحدث) ـ إلى آخره ـ فإن فيه :

أوّلا : أن دعوى تواتر الأخبار بأن الحدث في أثناء الصلاة ينقضها مجازفة.

__________________

(١) الأحكام كملا .. عدم ظهور ، سقط في «ح».

(٢) في «ح» : وتوافرت الدعاوي.

(٣) الفوائد المدنيّة : ١٤٠ ، ١٤١.

(٤) انظر الدرر ١ : ٢٠١ ـ ٢٢٢ / الدرّة : ٩.


نعم ، ورد ذلك في جملة من الأخبار (١) ، إلّا إن بإزائها من الأخبار (٢) ما هو أوضح سندا وأكثر عددا ، وأظهر دلالة ، مما يدل على عدم النقض ، بل الطهارة والبناء. وباختلاف الأخبار في هذا المضمار اختلفت كلمة علمائنا الأبرار ، وممن تبع الشيخ المفيد (٣) قدس‌سره في هذه المسألة الشيخ في (النهاية) (٤) وابن حمزة (٥) والمحقّق في (المعتبر) (٦) والسيّد السند صاحب (المدارك) (٧) ، الذي هو أحد أساتيذ صاحب الكتاب ومشايخه ، والفاضل الملّا محمد باقر الخراساني في شرح (الإرشاد) (٨).

وممن ذهب إلى عدم النقض بالحدث سهوا استنادا إلى ما أشرنا إليه من الأخبار الشيخ (٩) والمرتضى (١٠) ـ رضي‌الله‌عنهما ـ وإليه يميل أيضا المحدّث الكاشاني (١١) ، واستشكل السيّد السند في (المدارك) (١٢) وتوقف في الحكم المذكور. وممّن ذهب أيضا إلى ذلك الصدوق في (الفقيه) ، لكنه خصّه بما إذا أحدث في الرابعة بعد السجود وقبل التشهد ، وصرّح بأنه قد مضت صلاته ويتوضأ ويتشهد (١٣) ؛ استنادا إلى موثقة ابن بكير الدالة على ذلك. وبذلك يظهر لك

__________________

(١) قرب الإسناد : ٢٠٠ ـ ٢٠١ / ٧٦٩ ـ ٧٧٠ ، وسائل الشيعة ٧ : ٢٣٥ ، أبواب قواطع الصلاة ، ب ١ ، ح ٧ ، ٨.

(٢) الفقيه ١ : ٥٨ / ٢١٤ ، وسائل الشيعة ٧ : ٢٣٦ ، أبواب قواطع الصلاة ، ب ١ ، ح ١٠.

(٣) المقنعة (ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد) ١٤ : ٦١.

(٤) النهاية : ٤٨.

(٥) عنه في الذكرى ٢ : ٢٨٠ ، ذخيرة المعاد : ١٠٩.

(٦) المعتبر ١ : ٤٠٧.

(٧) مدارك الأحكام ٣ : ٤٥٩.

(٨) ذخيرة المعاد : ١٠٩.

(٩) المبسوط ١ : ١١٧ ـ ١١٨.

(١٠) عنه في المعتبر ٢ : ٢٥٠ ، مدارك الأحكام ٣ : ٤٥٥.

(١١) مفاتيح الشرائع ١ : ١٧٠ / المفتاح : ١٩٢.

(١٢) مدارك الأحكام ٣ : ٤٥٨.

(١٣) الفقيه ١ : ٢٣٣.


ما في كلامه من الإجمال بل الاهمال.

وثانيا : أن ما فهمه الشيخ المفيد قدس‌سره من الخبر المذكور ليس مختصّا به ، بل هو الذي فهمه كل من وقف على الخبر المذكور من عصر الأئمّة عليهم‌السلام إلى الآن من أخباري ومجتهد ما عداه ، وعدا المحدث الكاشاني ، حيث تبعه في ذلك واقتفاه.

وحينئذ ، فالتشنيع بالحمل على المعنى المذكور لا يختص بالشيخ المفيد ، بل بجملة العلماء الأعلام ، وكفى به شناعة في المقام.

وثالثا : أن ما فهمه الشيخ المشار إليه وجملة الأصحاب ليس من قبيل الاستنباطات الظنّية كما زعمه ؛ إذ هو المعنى المتبادر من اللفظ شرعا وعرفا ولغة ، ولو كان حمل اللفظ على معناه المتبادر منه كذلك من قبيل الاستنباطات الظنّية لكان هو أيضا من جملة العاملين (١) بتلك الاستنباطات. اللهم إلّا أن يدّعى إلهاما روحانيّا ، كما يعطيه بعض تلك المقامات التي أوردها في ذلك الكتاب ، بل الخرافات التي لا تليق بمثله من العلماء الأطياب.

نعم ، الذي [يستفاد] من الاستنباطات الظنّيّة ، إنّما هو المعنى الّذي ذهب إليه واعتمد في المقام عليه.

ورابعا : أن من الجائز خروج هذا الخبر مخرج التقيّة كما صرّح به في آخر كلامه واستصوبه ، وهو مؤذن بحمل الحديث فيه على المعنى الّذي فهمه الأصحاب ، فلم لا يحمل كلام الشيخ المفيد على هذا المحمل العاري عن الريب ، ويكف لسان قلمه وفهمه عن الطعن عليه (٢) والعيب؟ ولكنه قد أولع في هذا الكتاب بما لا يليق بمثله من العلماء الأنجاب ، وقد خلط حقّه بباطله ومزج جيّده بعاطله.

__________________

(١) في «ح» : القائلين.

(٢) سقط في «ح».


الثامن : قوله : (وذهابه إلى أن ماء الأواني) ـ إلى آخره ـ فإن فيه أنه وإن لم يصل إليه دليل في ذلك ، ولم يقف على خبر يدلّ على ما هنالك ، فالأولى بمثله ـ ومثل شيخنا المشار إليه الذي قد بلغ في الرفعة وعلوّ الشأن والمكان بمنزلة أوجبت له خروج التوقيعات والمراسلات من صاحب العصر والزمان ـ صلوات الله عليه ، وعجّل الله فرجه ـ وخطابه فيها بما يدلّ على مزيد التعظيم والتبجيل (١) والدرجة العالية عنده والمحلّ الجليل ، كما نقله الطبرسي قدس‌سره في آخر كتاب (الاحتجاج) (٢) ـ الحمل على محمل السّداد : «احمل أخاك المؤمن على سبعين محملا من الخير» كما ورد عن السادة الأمجاد.

ولعل الشيخ ـ طاب ثراه ـ اطّلع على دليل لم يصل إلينا في ذلك ، فإن عصره لا كهذه الأعصار التي فقدت فيها الأمارات ، وأشكلت فيها الدلالات ، وتفرقت فيها الأخبار. وهذا الشيخ علي بن الحسين بن بابويه والد الصدوق ـ طاب ثراهما ـ قد ذهب إلى مذاهب شاذّة نادرة لم يوجد لها دليل ، ولم تنقل عن غيره من العلماء جيلا بعد جيل ، مع أنه لم يطعن عليه أحد بذلك ، بل كانوا يعدون فتاواه عداد النصوص متى أعوزهم الوقوف عليها بالعموم أو الخصوص ، وشيخنا المفيد ليس ببعيد من عصر الشيخ المشار إليه ، فكيف لا يحسن الظنّ به في ذلك حسبما ذكرنا في الشيخ المذكور ، ولكنه قدس‌سره قد أولع بالتشنيع والطعن في هذا الكتاب على من تسمّى بالاجتهاد من الأصحاب ، وقد مزج فيه الغثّ بالسمين ، والعاطل بالثمين.

التاسع : قوله : (وذهب ابن أبي (٣) عقيل (٤) إلى عدم انفعال الماء القليل (٥) بورود

__________________

(١) في «ح» : التبجيل والتعظيم.

(٢) الاحتجاج ٢ : ٥٩٦ ـ ٥٥٩ / ٣٠٦.

(٣) سقط في «ح».

(٤) عنه في مختلف الشيعة ١ : ١٣ / المسألة : ١.

(٥) سقط في «ح».


النجاسة) ، فإن فيه أن جملة ممن حذا حذوه ونسج على منواله ، وتبعه في تشنيعه وسوء مقاله من متأخري المتأخّرين من الأخباريين ، ومنهم المحدّث الكاشاني في (الوافي) (١) و (المفاتيح) (٢) قد ذهبوا إلى ذلك كما أشرنا إليه آنفا ، وحينئذ فالطعن هنا أيضا لا يختص بالمجتهدين ، بل هو شامل لمن كان من قبله من الأخباريّين ، إلّا إن الحقّ أن هذا إنّما هو من قبيل اختلاف الأفهام والأنظار في فهم معاني الأخبار ، فلا يوجب طعنا في العلماء الأبرار ، كما لا يخفى على ذوي الأبصار والأفكار ، والله العالم.

__________________

(١) انظر الدرر ٢ : ١٩ / الهامش : ٣.

(٢) انظر الهامش السابق.


(٢٠)

درّة نجفيّة

في تكليف الكافر بالفروع

المشهور بين الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ بل كاد يكون إجماعا أن الكافر في حال كفره مكلف بالفروع الشرعيّة ، ولم ينقلوا في ذلك خلافا حتّى عن علماء العامّة ، إلّا عن أبي حنيفة (١) ، قالوا : لكن لا تصحّ منه في حال كفره ؛ لاشتراط الصحّة بالإسلام ، وصرّحوا بأنه لا يجبّ الإسلام ما عدا الصلاة من تلك الأحكام ؛ لبقاء السبب الموجب للتكليف وخروجها بنصّ خاصّ ، فلو أجنب في حال كفره مثلا ، وجب عليه الغسل بتلك الجنابة ، بعد دخوله في الإسلام.

وما ذكروه ـ رضوان الله عليهم ـ من وجوب التكليف على الوجه المذكور لم أقف لهم فيه على دليل يشفي العليل ، ويبرد (٢) الغليل ، بل ربّما كان الدليل على خلافه واضح السبيل وإن اتّفقوا على ذلك جيلا بعد جيل. وما استدل به العلّامة ـ طاب ثراه ـ في كتاب (المنتهى) (٣) سيظهر لك ما فيه ، وسنكشف عن باطنه وخافيه.

والذي يظهر لي مما وقفت عليه من الأخبار (٤) التي عليها المعوّل والمدار ،

__________________

(١) عنه في منتهى المطلب ٢ : ١٨٨ ، فواتح الرحموت (في هامش المستصفى في علم الاصول) ١ : ١٢٨.

(٢) في النسختين : ولا يبرد.

(٣) منتهى المطلب ٢ : ١٨٨ ـ ١٨٩.

(٤) ستأتي في الوجه الرابع.


وعليه أيضا يدلّ الدليل العقلي المسلّم بين كافة العلماء الأبرار هو خلاف ما ذكروه ، نوّر الله تعالى مراقدهم ، وأعلى في الخلد مقاعدهم. ولنا على ذلك وجوه :

الأوّل : عدم الدليل على التكليف المذكور ، وهو دليل العدم كما هو المسلّم بينهم ، والمشهور ، وما استدلّ به العلّامة رحمه‌الله مما سيأتي نقله وإيراده سيظهر لك بطلانه وفساده.

الثاني : أنه لا ريب أن التكليف بالأحكام موقوف على معرفة المكلّف بها والمبلّغ لها والتصديق بهما (١) ؛ إذ متى كان جاهلا بهما كيف يتصوّر عقلا تكليفه بالأخذ بأوامرهما ونواهيهما؟ وبعبارة اخرى : ومتى لم يعرفهما ولم يصدق بهما ، فكيف يجب عليه العمل بشي‌ء لا يعرف الأمر به ، ولا المبلغ له؟

الثالث : أنه قد اتّفقت الأدلّة العقليّة والنقليّة على معذوريّة الجاهل بالحكم الشرعي جهلا ساذجا ، كما تقدّم لك بيانه بأوضح بيان ، وإيضاحه بالدليل الساطع البرهان في الدرّة الثانية (٢) من درر هذا الكتاب ، فارجع إليه إن شئت لترى ما هو العجب العجاب. ولا ريب أن ما نحن فيه من هذا الباب.

نعم ، هو مكلّف بالبحث والنظر كغيره من سائر الجهّال إذا علم وجوبهما بالعقل والشرع ، وإلى ما ذكرنا في هذا الوجه يشير كلام الفاضل الملّا محمّد باقر الخراساني قدس‌سره في كتاب (ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد) في مسألة الصلاة في النجاسة عامدا ، حيث نقل عن الأصحاب عدم الفرق في الحكم بالإعادة وقتا وخارجا في المسألة المذكورة ، بين العالم بالحكم الشرعي أو الجاهل ، قال : (بل

__________________

(١) في «ح» : لهما.

(٢) انظر الدرر ١ : ٧٧ ـ ١١٩.


صرّح العلّامة (١) وغيره (٢) بأن جاهل الحكم عامد ؛ لأن العلم ليس شرطا في التكليف).

ثم نقل عن بعضهم ، أنه استشكل ذلك لقبيح تكليف الغافل. ثم قال بعد نقل كلام ذلك البعض بطوله ما صورته : (وبالجملة ، الظاهر أن التكليف متعلّق بمقدمات الفعل ، كالنظر والسعي والتعلّم ، وإلّا لزم تكليف الغافل والتكليف بما لا يطاق ، والعقاب يترتّب على ترك النظر ، لكن لا يبعد أن يكون متضمّنا لعقاب التارك مع العلم. ولا يخفى أنه يلزم على هذا ألّا يكون الكفّار مخاطبين بالأحكام ، وإنما يكونون مخاطبين بمقدمات الأحكام ، وهذا خلاف ما قرّره الأصحاب وتحقيق هذا المقام من المشكلات) (٣) انتهى كلامه ، زيد مقامه.

أقول : والظاهر أن وجه الإشكال (٤) عنده من حيث مصادمة الدليل العقلي لما قرّره الأصحاب في هذا الباب ، فخروجه عما عليه الأصحاب سيّما مع ظاهر اتفاق كلمتهم في هذا الباب مشكل ، ومخالفته لمقتضى الدليل العقلي أشكل. ولا يخفى ما فيه عن الفطن النبيه ، فإن متابعة الشهرة من غير دليل واضح في المقام ، ولا سيّما مع قيام الدليل على خلاف ما ذكروه من الأحكام لا يخلو عن مجازفة والتساهل في أحكام الملك العلّام.

على أنه لو كان الجمود (٥) على الشهرة معمولا عليه بين الأصحاب لما انتشر صيت هذا الخلاف بينهم في باب من الأبواب. وأنت ترى أنه لم يبق جزئي من جزئيّات الأحكام إلّا وقد أكثروا فيه النقض والإبرام ، وانتشرت فيه الأقوال ، وبسطوا فيه الاستدلال وإن تقدّمهم (٦) شهرة ، بل إجماع في ذلك المجال ، فكلّ

__________________

(١) منتهى المطلب ٤ : ٢٣٠.

(٢) الدروس ١ : ١٢٧.

(٣) ذخيرة المعاد : ١٦٧.

(٤) في «ح» بعدها : المذكور.

(٥) في «ح» : الجمهور.

(٦) في «ح» : تقدم منهم.


متأخّر منهم يذهب إلى ما ظهر له من الدليل ويردّ على من تقدّمه وخالفه في ذلك السبيل ، وهذه طريقتهم وعملهم عليها (١) جيلا بعد جيل.

الرابع : الأخبار الدالة على ما ذكرنا ، ومنها ما رواه ثقة الإسلام قدس‌سره في (الكافي) بسند صحيح عن زرارة قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : أخبرني عن معرفة الإمام منكم ، واجبة على جميع الخلق؟ فقال : «إن الله تعالى بعث محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الناس أجمعين رسولا وحجّة (٢) على خلقه في أرضه ، فمن آمن بالله وبمحمّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله واتّبعه وصدّقه ، فإن معرفة الإمام منا واجبة عليه ، ومن لم يؤمن بالله ورسوله ، ولم يتبعه ولم يصدّقه ولم (٣) يعرف حقهما ، فكيف يجب عليه معرفة الإمام وهو لا يؤمن بالله ورسوله ويعرف حقّهما؟!» (٤) الحديث.

والحديث صحيح السند (٥) ـ فلا مجال للطّعن فيه من هذه الجهة ـ واضح الدلالة صريح المقالة.

وحينئذ ، فمتى تجب معرفة الإمام في هذا المقام الذي منه تؤخذ الأحكام ، وعليه الاعتماد في النقض والإبرام ، فبطريق الأولى لا تجب معرفة سائر الفروع ، كما لا يخفى على من له إلى الإنصاف أدنى رجوع.

ومنها ما رواه الثقة الجليل علي بن إبراهيم القمّي ـ طاب ثراه ـ في تفسيره عن الصادق عليه‌السلام في تفسير قوله تعالى (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) (٦) ، قال : «أترى أن الله تعالى طلب من المشركين زكاة أموالهم وهم يشركون به ، حيث يقول (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ

__________________

(١) في «ح» : عليها عملهم ، بدل : عملهم عليها.

(٢) في «ح» بعدها : لله له.

(٣) ليست في «ح».

(٤) الكافي ١ : ١٨٠ ـ ١٨١ / ٣ ، باب معرفة الإمام والردّ عليه.

(٥) مرآة العقول ٢ : ٣٠٢.

(٦) فصّلت : ٦ ـ ٧.


وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) إنّما دعا الله العباد للإيمان به فإذا آمنوا بالله ورسوله افترض عليهم [الفرائض] (١)؟» (٢).

وهو كما ترى صريح فيما قلناه ، والظاهر ـ والله سبحانه أعلم ـ أن الإمام عليه‌السلام فسر المشركين في الآية بالمخالفين ، حيث إنه بعد نفي المعنى (٣) الظاهر الذي ذكره عليه‌السلام لا مجال لحمل اللفظ إلّا على هؤلاء. وقد دلّت الأخبار المستفيضة على كفرهم وشركهم كما أوضحناه في رسالة (الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب وما يترتب عليه من المطالب) (٤).

ومنها ما رواه الثقة الجليل أحمد بن أبي طالب الطبرسي في كتاب (الاحتجاج) في حديث الزنديق الذي جاء إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام مستدلا بآي من (القرآن) على تناقضه واختلافه حيث قال عليه‌السلام : «وكان أوّل ما قيدهم به الإقرار (٥) بالوحدانية والربوبية والشهادة أن لا إله إلّا الله ، فلمّا أقرّوا بذلك تلاه بالإقرار لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنبوّة والشهادة [له] بالرسالة ، فلمّا انقادوا لذلك فرض عليهم الصلاة ثمّ الصوم ثم الحجّ» (٦) الحديث.

ولم أطّلع على ما ذهب إلى ما قلناه ورجّح ما اخترناه ، سوى المحدّث الكاشاني ـ عطّر الله مرقده ـ فإنه في كتاب (الوافي) قال بعد نقل الحديث الأوّل ما صورته : (وفي هذا الحديث دلالة على أن الكفار ليسوا بمكلّفين بشرائع الإسلام كما هو الحق ، خلافا لما اشتهر بين متأخّري أصحابنا) (٧).

__________________

(١) من المصدر ، وفي النسختين : الفرض.

(٢) تفسير القمي ٢ : ٢٦٥ ـ ٢٦٦.

(٣) سقط في «ح».

(٤) انظر الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب : ٨٤ ، ١٥٣ ـ ١٦٠ ، ١٦٧ ـ ٢٠١ ، ٢٣٢ ـ ٢٦٧.

(٥) في «ح» : بالإقرار ، بدل : به الإقرار.

(٦) الاحتجاج ١ : ٦٠١ / ١٣٧.

(٧) الوافي ٢ : ٨٢.


وقال في تفسير (الصافي) بعد نقل الحديث الثاني ما لفظه : (أقول : هذا الحديث يدلّ على ما هو التحقيق عندي من أن الكفار غير مكلّفين بالأحكام الشرعيّة ما داموا باقين على الكفر) (١) انتهى.

وإلى ذلك أيضا يشير كلام المحدّث الأمين الأسترابادي ـ طيّب الله تعالى مرقده ـ في مواضع من كتابه (الفوائد المدنيّة) حيث صرّح في بعض المواضع منه بأن حكمته تعالى اقتضت أن يكون تعلّق التكاليف بالناس على التدريج بأن يكلّفوا أولا بالإقرار بالشهادتين ، ثم بعد صدور الإقرار عنهم يكلّفون بسائر ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. قال : (ومن الأحاديث الدالة على ذلك صحيحة زرارة المذكورة في (الكافي) ..).

ثمّ أورد الرواية المتقدّمة بتمامها ، وقال أيضا بعد نقل جملة من أخبار الميثاق المأخوذ على العباد في عالم الذر بالتوحيد والنبوّة والإمامة ، وجملة من أخبار فطرة الله تعالى الناس على التوحيد وأن المعرفة من صنع الله تعالى ، ما لفظه : (أقول : هنا فوائد ـ إلى أن قال ـ : الثالثة : أنه يستفاد منها أن ما زعمه الأشاعرة من أن مجرد تصوّر الخطاب من غير سبق معرفة إلهامية بخالق العالم ، وأن له رضا وسخطا ، وأن لا بدّ من معلّم من جهته تعالى ليعلم الناس ما يصلحهم وما يفسدهم ، كاف في تعلق التكليف بهم ليس بصحيح) (٢).

وقال في موضع آخر ـ بعد نقل قول الصادق عليه‌السلام : «إن من قولنا أن الله تعالى يحتج على العباد بما آتاهم وعرّفهم ، ثم أرسل إليهم رسولا ، وأنزل عليهم الكتاب ، فأمر فيه ونهى» (٣) : ما لفظه ـ : (وجه التأييد أن هذا الحديث الشريف يدل على أنه لم

__________________

(١) التفسير الصافي ٤ : ٣٥٣.

(٢) الفوائد المدنيّة : ٢٢٦.

(٣) الكافي ١ : ١٦٤ / ٤ ، باب حجج الله على خلقه.


يتعلق بأحد تكليف إلّا بعد بلوغ الخطاب إليه.

وأما قوله عليه‌السلام : «بما آتاهم وعرّفهم» ، فيحتمل أن يكون إشارة إلى ما تواترت به الأخبار (١) عن الأئمَّة الأطهار عليهم‌السلام ، من أنه تعالى أخذ الإقرار بالربوبية من الأرواح في يوم (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) (٢) أو إلى ما يفهم من بعض الروايات (٣) من أنه إذا أراد الله تعالى تعلّق التكليف بأحد أفهمه أنه موجود ، وأن له رضا وسخطا بدلالات واضحة على ذلك ، وبأن مقتضى حكمته تعالى أن يعيّن أحدا لتعليم الناس ما يرضيه وما يسخطه ، ثمّ يبلّغه دعوة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والمعجزة على وفقها ، وما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من الواجبات والمحرمات وحينئذ يتعلّق به التكليف لا قبله) (٤) انتهى.

الخامس : الأخبار الدالّة على وجوب طلب العلم كقولهم : «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم» (٥) ؛ فإن موردها المسلم دون مطلق المكلّف أو البالغ العاقل.

والوجه في ذلك ما دل عليه الخبر المتقدّم نقله من كتاب (الاحتجاج) صريحا ، ودل عليه الخبران الآخران تلويحا من أن المطلوب من العباد أوّلا هو الإقرار بالشهادتين ، فإذا انقادوا إلى ذلك كلّفوا بالعبادات ، وإليه يشير أيضا قول الصادق عليه‌السلام المتقدّم نقله : «إن من قولنا : إن الله يحتج على العباد ..» ـ إلى آخره ـ حيث إنه عليه‌السلام قدم أشياء على الأمر والنهي ، فتلك الأشياء هي المعارف المأمور بها أوّلا.

وما يستفاد من الأمر والنهي هو العلم المأمور بتحصيله ثانيا ، فهذا هو السبب

__________________

(١) تفسير العياشي ٢ : ٤٠ ـ ٤٤ / ١٠٣ ـ ١١٧.

(٢) الأعراف : ١٧٢.

(٣) المحاسن ١ : ٣٢٠ ـ ٣٢٢ / ٦٣٧ ـ ٦٤٥.

(٤) الفوائد المدنيّة : ١٦١.

(٥) الكافي ١ : ٣٠ / ١ ، باب فرض العلم ووجوب طلبه والحث عليه.


في إيجاب طلب العلم على المسلم دون مطلق المكلف كما لا يخفى.

السادس : أنه لم يعلم منه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه أمر أحدا ممن دخل في الإسلام في زمانه بالغسل من الجنابة ، مع أنه لم ينفك أحد منهم في تلك الأزمنة المتطاولة منها ، ولو أمر بذلك لنقل وصار معلوما. وأما ما رواه العلامة رحمه‌الله في (المنتهى) (١) عن قيس ابن عاصم ، وأسيد بن حصين مما يدل على أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالغسل (٢) لمن أراد أن يدخل في الإسلام ، فليس في كتب أخبارنا ، والظاهر أنه عامّي فلا ينهض حجة.

السابع : اختصاص الخطابات القرآنية بالذين آمنوا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) (٣) (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) (٤) ، وورود (يا أَيُّهَا النّاسُ) (٥) في بعض ، وهو أقل قليل يحمل على المؤمنين حمل المطلق على المقيد ، والعام على الخاص ، كما هو القاعدة المتفق عليها بينهم. ويؤيد ذلك الأخبار التي قدّمناها بالتقريب الذي ذكرناه في سابق هذا الوجه.

والمراد بالمؤمنين المخاطبين هنا هم المسلمون وإن كانوا منافقين أو مخالفين كما دلت عليه أخبار العترة الأطهار ـ صلوات الله عليهم ـ لا المؤمنين بالمعنى الخاص.

ومن تلك الأخبار ما رواه ثقة الإسلام قدس‌سره في روضة (الكافي) عن جميل بن دراج عن الصادق عليه‌السلام في حديث قال فيه : فدخل عليه الطيار وسأله وأنا عنده ، فقال له : جعلت فداك ، رأيت قوله عزوجل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) في غير مكان من مخاطبة المؤمنين ، أيدخل في هذا المنافقون؟ قال : «نعم ، يدخل في هذا المنافقون والضّلال ، وكل من أقر بالدعوة الظاهرة» (٦).

__________________

(١) منتهى المطلب ٢ : ١٩٠ ـ ١٩١.

(٢) في «ح» : الغسل.

(٣) الأنفال : ١٥ ، وغيرها كثير.

(٤) الأنعام : ٧٢ ، وغيرها كثير.

(٥) البقرة : ٢١ ، وغيرها كثير.

(٦) الكافي ٨ : ٢٢٩ ـ ٢٣٠ / ٤١٣.


وروى مثله في (الكافي) (١) أيضا.

احتج العلّامة قدس‌سره في المنتهى على أن الكفار مخاطبون بفروع العبادات بوجوه ، منها (قوله سبحانه (وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ) (٢) ، و (يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) (٣).

ومنها أن الكفر لا يصلح للمانعية ، حيث إن الكافر متمكن من الإتيان بالإيمان أوّلا ، حتى يصير متمكنا من الفروع.

ومنها : قوله تعالى (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) (٤) ، وقوله تعالى (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلّى) (٥) ، وقوله تعالى (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) (٦)) (٧) انتهى.

والجواب عن الأول بما عرفته في الوجه السابع.

وعن الثاني بأنه مصادرة محضة ؛ [ف] قوله : (إن الكافر متمكن من الإتيان بالإيمان) على إطلاقه محل نظر ، وتفصيل ذلك أن يقال : إن بلغته الدعوة وقامت عليه الحجة ولم يؤمن ، فهو مخاطب بالإيمان ، والعقاب إنما يترتب على عدم الإيمان على تلك الفروع المتفرّعة عليه كما هو مفاد الأخبار المتقدمة ؛ فإنه إنما يكلف أولا بالإيمان ؛ فإذا آمن كلف ثانيا بالعبادات وغيرها ـ وإن لم تبلغه الدعوة ولم تقم عليه الحجّة ـ سقط البحث من أصله.

وعن الثالث بعد تسليم جواز الاستدلال بظواهر الآيات القرآنية من غير ورود تفسير لها من الأخبار المعصومية : فأما عن الآية الاولى فبالحمل على المخالفين المقرّين بالإسلام ؛ إذ لا تصريح

__________________

(١) الكافي ١ : ٤١٢ / ١ ، باب في ذكر المنافقين وإبليس في الدعوة.

(٢) آل عمران : ٩٧.

(٣) البقرة : ٢١.

(٤) المدثر : ٤٣.

(٥) القيامة : ٣١.

(٦) فصّلت : ٦ ـ ٧.

(٧) منتهى المطلب ٢ : ١٨٨ ـ ١٨٩.


فيها بذكر الكفار. ويدل عليه ما في تفسير الثقة الجليل علي بن إبراهيم القمي ـ طاب ثراه ـ من تفسيرها باتباع الأئمَّة عليهم‌السلام أي لم نك من أتباع الأئمّة عليهم‌السلام (١) وهو مروي عن الصادق عليه‌السلام ، وقد فسر عليه‌السلام المصلّي هنا ، بمعنى الذي يلي السابق في الحلبة قال : «فذلك الذي عنى ، حيث قال (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) أي لم نك من أتباع السابقين» (٢).

وعن الكاظم عليه‌السلام يعني : «إنا لم نتولّ وصيّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله والأوصياء من بعده ولم نصلّ عليهم» (٣).

فإن قيل : إن قوله (وَكُنّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) (٤) حكاية عن هؤلاء القائلين : (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) ، يعني أنهم من الكفّار ، وبذلك أيضا صرّح أمين الإسلام الطبرسي قدس‌سره في (مجمع البيان) حيث قال بعد تفسير المصلين بالصلاة المكتوبة : (وفيه دلالة على أنّ الكفار مخاطبون بالعبادات الشرعيّة ؛ لأنه حكاية عن الكفار بدلالة قوله (وَكُنّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) (٥)) (٦) انتهى.

وهو مناف لما ذكرتموه من حمل الآية على المخالفين المسلمين ومصادم لما أوردتموه من الأخبار أيضا.

قلنا : ما ذكره الشيخ المفسّر المشار إليه من الاستدلال بمحلّ من التأمل ، بل الاختلال (٧) ؛ لجواز حمل الآية المذكورة على المنافقين في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وآله المظهرين للإسلام المكذبين بوصيّه عليه‌السلام ؛ فإنهم كفار باطنا ، مكذبون بيوم الدين. ومرادنا

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ٤١٨.

(٢) الكافي ١ : ٤١٩ / ٣٨ ، باب فيه نكت ونتف من التنزيل ..

(٣) الكافي ١ : ٤٣٤ / ٩١ ، باب فيه نكت ونتف من التنزيل ..

(٤) المدّثّر : ٤٦.

(٥) المدّثّر : ٤٦.

(٦) مجمع البيان ١٠ : ٤٩٧.

(٧) أي بمحل من الاختلال.


بالمخالفين فيما قدمنا : ما هو أعم من المنافقين. وحينئذ ، فتكون الآية المذكورة منطبقة على الأخبار التي هي أولى بالمراعاة والاعتبار.

وأمّا عن الآية الثانية ، فيمكن حمل التصديق على التصديق بالوحدانية ، والرسالة ، والصلاة على المعنى الذي دلّت عليه الأخبار المتقدّمة. وكيف كان فلفظ (صَلّى) باعتبار اشتراكه بين الصلاة بهذا المعنى الشرعي ، والصلاة بالمعنى اللغوي ، ومعنى التالي للسابق في الحلبة لا يصلح (١) للاستدلال ؛ لكونه من قبيل المتشابه الذي منعت منه الآية والرواية.

على أنه قد تقرّر عندهم أنه متى قام الاحتمال بطل الاستدلال.

وأمّا عن الآية الثالثة ، فما عرفت في الوجه الرابع ، والله العالم.

__________________

(١) أي لفظ (صلّى) بهذه الحال.



(٢١)

درّة نجفيّة

في صفات الفقيه الجامع للشرائط

روى الثقة الجليل أبو منصور أحمد بن أبي طالب الطبرسي قدس‌سره في كتاب (الاحتجاج) ، بسنده فيه إلى الإمام العسكري عليه‌السلام (١) عن الإمام الرضا عليه‌السلام قال :«قال علي بن الحسين عليه‌السلام : إذا رأيتم (٢) الرجل قد حسن سمته وهديه ، وتماوت في منطقه ، وتخاضع في حركاته ، فرويدا لا يغرنكم ، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب المحارم منها لضعف نيّته ومهانته وجبن قلبه ، فنصب الدين فخّا لها ، فهو لا يزال يختل الناس بظاهره ، فإن تمكن من حرام اقتحمه.

وإذا وجدتموه يعف عن المال الحرام ، فرويدا لا يغرنكم ، فإن شهوات الخلق مختلفة ، فما أكثر من ينبو عن المال الحرام وإن كثر ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة ، فيأتي منها محرما! فإذا وجدتموه يعفّ عن ذلك ، فرويدا لا يغرنكم حتى تنظروا ما عقله ، فما أكثر من ترك ذلك أجمع ، ثم لا يرجع إلى عقل متين ، فيكون ما يفسده بجهله أكثر مما يصلحه بعقله! فإذا وجدتم عقله متينا فرويدا لا يغرنكم حتى تنظروا أمع هواه يكون على عقله أو

__________________

(١) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٥٣ / ٢٧.

(٢) إذا رأيتم ، سقط في «ح».


يكون مع عقله على هواه؟ وكيف محبّته للرئاسات الباطلة وزهده فيها؟ فإن في الناس من خسر الدنيا والآخرة بترك الدنيا للدنيا ، ويرى أن لذة الرئاسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللة ، فيترك ذلك أجمع طلبا للرئاسة ، حتى إذا قيل : (اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ، فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) (١) ، فهو يخبط خبط عشواء ويقوده أوّل باطل إلى أبعد غايات الخسارة ، ويمدّه ربه بعد طلبه لما لا يقدر عليه في طغيانه ، فهو يحل ما حرم الله ، ويحرم ما أحل الله لا يبالي بما فات من دينه إذا سلمت له رئاسته التي قد شقي (٢) من أجلها. فاولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم ، وأعدّ لهم عذابا مهينا.

ولكن الرجل كل الرجل نعم الرجل هو الذي جعل هواه تبعا لأمر الله ، وقواه مبذولة في رضا الله ، يرى الذل مع الحق أقرب إلى عزّ الأبد من العز في الباطل ، ويعلم أن قليل ما يحتمله من ضرّائها يؤديه إلى دوام النعيم في دار لا تبيد ولا تنفد ، وإن كثير ما يلحقه من سرائها إن اتبع هواه يؤدي إلى عذاب لا انقطاع له ولا زوال.

فذلكم الرجل نعم الرجل فبه فتمسكوا ، وبسنّته فاقتدوا ، وإلى ربكم [به] فتوسلوا ؛ فإنّه لا ترد له دعوة ، ولا تخيب له طلبة» (٣).

أقول : قال شيخنا المحدّث الصالح الشيخ عبد الله بن الصالح البحراني ـ طيب الله تعالى مرقده بفيض جوده السبحاني ـ في كتاب (منية الممارسين في أجوبة الشيخ ياسين) ـ في الكلام على العدالة وبيان المعنى المراد منها بعد نقل هذا الخبر ما صورته ـ : (إنه محمول على تعريف الإمام والولي ومن يحذو حذوهما من خواص الصلحاء وخلّص أهل الإيمان الذين لا تسمح الأعصار منهم إلّا

__________________

(١) إشارة إلى الآية : ٢١٦ من سورة البقرة.

(٢) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : يتقي.

(٣) الاحتجاج ٢ : ١٥٩ ـ ١٦٢ / ١٩٢.


بأفراد شاذّة ، ويرشد إليه قوله عليه‌السلام : «فذلكم الرجل نعم الرجل فبه فتمسكوا ، وبسنّته فاقتدوا» ، بل لا يبعد كون مراده : الإمام خاصّة ، ويرشد إليه قوله عليه‌السلام : في آخر الحديث : «فإنه لا تردّ له دعوة ، ولا تخيّب له طلبة» ، ويكون غرضه الردّ على الزيديّة ومن حذا حذوهم من القائلين بالاكتفاء في الإمام بظهور الصلاح والورع. كيف ، وما ذكر لا يتحقّق إلّا في الأولياء الكمّل؟ فلو اعتبر ذلك لعظم الخطب ، واختل النظام ، وانسد باب القضاء والفتيا والتقليد والشهادات والجمعة والجماعات والطلاق ، وغير ذلك. هكذا حقّقه شيخنا في الكتاب المذكور وهو متين جدا) انتهى.

وأشار بذلك إلى ما نقله في أثناء كلامه المتقدم في المسألة عن شيخه العلّامة سليمان قدس‌سرهما في كتابه (العشرة الكاملة) (١) ، ثم قال هنا أيضا : (وأقول : إن سياق الحديث دال بجملته على أن المراد به : تصعيب أمر الإمامة العامة ، وتشديد أمرها. وقرينة الرئاسة عليه شاهدة كما لا يخفى ، وإلّا فلا يستقيم حمله على غيره أصلا قطعا لما تقدم في رواية ابن أبي يعفور (٢) من المعارضة الصريحة من قوله : «يحرم من المسلمين ما وراء ذلك من عثراته .. وعيوبه ، ويجب عليهم تزكيته وإظهار عدالته في الناس». وما تقدم في رواية علقمة (٣) وغيرها مما هو صريح في المعارضة واضح في المناقضة.

ولا يجوز التعارض في كلامهم عليهم‌السلام ولا التناقض ، مع أن هذه الرواية رواية شاذّة ، فالترجيح للأكثر المشهور بين الأصحاب المتلقاة بينهم بالقبول ، المعتمد عليها في الفتوى ، وقد أجمعوا على ترك العمل بظاهر هذه الرواية ، وقد قال

__________________

(١) انظر العشرة الكاملة : ٢٥٤ ـ ٢٥٥.

(٢) الفقيه ٣ : ٢٤ ـ ٢٥ / ٦٥.

(٣) الأمالي (الصدوق) : ١٦٣ ـ ١٦٤ / ١٦٣ ، وانظر منية الممارسين : ١٣٤.


الصادق عليه‌السلام : «خذا [ب] ما اشتهر بين أصحابك» (١). و «دع الشاذ الذي ليس بمشهور ، فإن المجمع عليه أمر لا ريب فيه» (٢)) (٣) انتهى كلامه ، زيد إكرامه.

أقول : هذا الخبر قد نقله قدس‌سره في الكتاب المذكور في جملة الأخبار الدالة على المعنى المراد من العدالة ، وأنها عبارة عنها (٤) بعد أن اختار تفسيرها بما دلّت عليه صحيحة ابن أبي يعفور ، وكذا شيخه العلّامة الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني قدس‌سرهما في كتابه (العشرة الكاملة) (٥). وحيث كان هذا الخبر بحسب ظاهره كما ترى من الدلالة على صعوبة الأمر فيها تأوّله بما ذكره ونقله عن شيخه المشار إليه في الكتاب المذكور. وهذا الكلام مبني على ما هو ظاهر المشهور ، وبه صرح شيخنا المجلسي قدس‌سره في (البحار (٦)) (٧) من أن العدالة في جميع المواضع المشترطة فيها عبارة عن أمر واحدة ، وهو إما الملكة كما هو المشهور ، أو حسن الظاهر كما هو القول الآخر ، أو الإسلام كما هو القول الثالث ، ولا تفاوت فيها بالنسبة إلى تلك المواضع.

وعلى هذا القول جرينا سابقا في بعض أجوبة المسائل التي خرجت منا ، إلّا إن الذي يظهر لي الآن ـ وعليه أعتمد وله أعتقد ـ خلاف ذلك ، وهو أن العدالة المشترطة في الفقيه النائب عنهم عليهم‌السلام ـ وهو المعبّر عنه في لسان الأصحاب بالفقيه الجامع الشرائط ـ ليست على حسب العدالة المشترطة في غيره من الشاهد والإمام ، التي هي عندنا عبارة عمّا دلّت عليه رواية ابن أبي يعفور ، وأن

__________________

(١) عوالي اللآلي ٤ : ١٣٣ / ٢٢٩.

(٢) الكافي ١ : ٦٨ / ١٠ ، باب اختلاف الحديث.

(٣) منية الممارسين : ٣٣٨.

(٤) في «ح» : عما ذا.

(٥) العشرة الكاملة : ٢٥٤ ـ ٢٥٥.

(٦) من «م» ، وفي «ح» الرمز : ر ، وفي «ق» : ملاذ الأخيار.

(٧) بحار الأنوار ٨٥ : ٣٢.


هذا الخبر إنما اريد به النائب عنهم عليهم‌السلام المتصدّر (١) للجلوس في مقامهم والمتصدّي للقيام بأحكامهم.

ومخرج الخبر وإن كان في مقام التعريض بعلماء العامة المتصدّين لذلك المقام ، إلّا إنه شامل أيضا لغيرهم وعامّ. وجميع ما ذكره شيخنا المتقدم قدس‌سره هنا من عظم الخطب واختلال النظام ، ونحو ذلك من الكلام (٢) ، فلا ورود له في المقام ؛ لما ذكرنا من الاختصاص بذلك الفرد المذكور ، ولزوم صعوبة الأمر بالنسبة إلى القضاء والفتوى اللذين هما من خواص النائب المذكور لا يوجب طعنا في الخبر ؛ فإنه إنما نشأ من المكلفين بإخلالهم بما اخذ عليهم في الجلوس في هذا المجلس الشريف والمحل المنيف ، فإنه مجلس النبوّة والإمامة ، وبيت الإيالة والكرامة ، والمقام مقام خطير ، ومنصب كبير ، كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى.

وكفاك في ذلك قول الأمير ـ صلوات الله عليه ـ : «يا شريح ، جلست مجلسا لا يجلسه إلّا نبي أو وصيّ نبيّ أو شقي» (٣).

فإن قلت : إن هذا الحديث غير معمول على ظاهره ، لما علم من إذنهم عليهم‌السلام لعلماء شيعتهم في القيام بهذا المقام ، وتنفيذ القضايا والأحكام.

قلنا : نعم ، الأمر كذلك ، ولكن ذلك لا يقتضي منع الحصر في الثلاثة بزيادة رابع ، بل إنما يكون بالتجوّز في إطلاق الوصيّ على النائب المشار إليه ، وكفاك فيمن يطلق عليه هذا اللفظ ولو مجازا أنه لا بدّ من معرفته بالاتّصاف بأوصاف المنوب عنه حسب القدرة والمكنة من العلم والعمل وتهذيب الباطن من رذائل الأخلاق ، والتحلي بالكمالات الموجبة لرضا الخلّاق ، فكما أنه لا بدّ في الحكم بإمامة

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) في «ح» بعدها : فهو نفخ في غير ضرام.

(٣) الكافي ٧ : ٤٠٦ / ٢ ، باب أن الحكومة إنما هي للإمام عليه‌السلام ، الفقيه ٣ : ٤ / ٨ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٧ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٣ ، ح ٢.


الإمام عليه‌السلام الموجبة لاتّباعه والاقتداء به من معرفته بالإمامة وظهور دلائلها ، فكذا لا بدّ في نائبه من معرفته بما يوجب له صحة النيابة. ومجرد الاتصاف بالعلم خاصّة غير كاف ، بل لا بدّ من الاتصاف بعلم الأخلاق.

والسبب في استبعاد هذين العمدتين لهذا الخبر وأمثاله مع اعتضاده ـ كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى ـ بجملة أخبارهم عليهم‌السلام في هذا الباب وكلام جملة من أجلّاء الأصحاب هو عدم إعطاء التأمل حقه في الأخبار ، والوقوف على ما اشتهر بينهم وعند الناس في أكثر الأعصار من أن كل من حصّل حظا وافرا من العلوم ، وصارت له اليد الطولى في استنباط كلّ مفهوم ـ وإن كان في زماننا هذا قد تسافل الحال بل إلى الاضمحلال ، فلا تجد إلّا مجرد الدعوى ، وبسط لسان المقال (١) تصدر للحكم والفتوى وإن كان عاريا عن جملة من تلك الأخلاق التي هي السبب الأقوى ؛ بل هي العروة الوثقى في الفوز بتلك المرتبة القصوى.

وحيث إن هذا العلم ـ أعني : علم الأخلاق ـ مما قد اندرست معالمه ، وانطمست مراسمه ؛ فمن هنا نشاهد (٢) هذا الاستبعاد ، كما سيظهر لك إن شاء الله بأوضح دلالة لا يعتريها الإيراد.

ثم إنه مما يدل على ما قلنا من حمل الخبر المذكور على النائب عنهم عليهم‌السلام المتصدر للجلوس في مقامهم ما ذكره الإمام العسكري عليه‌السلام (٣) في تفسيره قبل هذا الخبر ، ثم صبّ هذا الخبر عليه. وصاحب (الاحتجاج) إنما رواه عنه حيث قال : «حدثني أبي عن جدي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ، ولكن يقبضه بقبض العلماء ، فإذا لم ينزل عالم إلى عالم يصرف عنه طلاب

__________________

(١) في «ح» : القال.

(٢) في «ح» : نشأ.

(٣) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٥٢ ـ ٥٥ / ٢٥ ـ ٢٦.


حطام الدنيا وحرامها ، ويمنعون الحق أهله ويجعلونه لغير أهله ، فاتخذ الناس رؤساء جهالا ، فسئلوا فأفتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا.

وقال أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ : يا معشر شيعتنا المنتحلين مودّتنا ، إياكم وأصحاب الرأي ، فإنهم أعداء السّنن ، تفلتت (١) منهم الأحاديث أن يحفظوها ، وأعيتهم السنّة أن يعوها ، فاتخذوا عباد الله خولا وماله دولا ، فذلت لهم الرقاب ، وأطاعهم الخلق أشباه الكلاب ، ونازعوا الحق أهله ، وتمثلوا بالأئمة الصادقين ، وهم من الكفار والملاعين ، فسئلوا [عما لا يعلمون] فأنفوا أن يعترفوا بأنهم لا يعلمون ، فعارضوا الدين بآرائهم فضلوا وأضلوا. أما لو كان الدين بالقياس ، لكان باطن الرجلين أولى بالمسح من ظاهرهما.

وقال الرضا عليه‌السلام : قال علي بن الحسين عليهما‌السلام : إذا رأيتم الرجل» (٢) الحديث ، إلى آخره. وهو كما ترى صريح فيما قلناه ، ونص فيما ادّعيناه.

وها نحن نبسط لك جملة من الأخبار ، وكلام علمائنا الأبرار في بيان ما يجب أن يكون عليه النائب عنهم عليهم‌السلام من الصفات الموافقة لما دل عليه الخبر المذكور ؛ ليظهر لك ما في كلام الرادّ له والمستبعد لما دلّ عليه من البعد والقصور ، فنقول : روى شيخنا ثقة الإسلام قدس‌سره في (الكافي) بسنده عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ أنه كان يقول : «يا طالب العلم ، إن العلم ذو فضائل كثيرة ؛ فرأسه التواضع ، وعينه البراءة من الحسد ، واذنه الفهم ، ولسانه الصدق ، وحفظه الفحص ، وقلبه حسن النيّة ، وعقله معرفة الأشياء والامور ، ويده الرحمة ، ورجله زيارة

__________________

(١) في «ح» بعدها : فلتة خلاص الدابّة من المربط.

(٢) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٥٢ ـ ٥٣ ، وقوله : «وقال الرضا عليه‌السلام ..» ليس في موضعه منه ، بل ورد فيه في أوّل الرواية ؛ حيث إن الرواية بأكملها ينقلها العسكري عن الرضا عليهما‌السلام.


العلماء ، وهمّته السلامة ، وحكمته الورع ، ومستقره النجاة ، وقائده العافية ، ومركبه الوفاء ، وسلاحه لين الكلمة ، وسيفه الرضا ، وقوسه المداراة ، وجيشه محاورة العلماء ، وماله الأدب ، وذخيرته اجتناب الذنوب ، وزاده المعروف ، وماؤه الموادعة ، ودليله الهدى ، ورفيقه محبة الأخيار» (١).

أقول : انظر إلى هذا الخبر الشريف ، وكيف جعل هذه الأخلاق الملكوتية أجزاء من العلم وآلات له وأسبابا وأعوانا ، فكيف يكتفى في الحكم بعلم العالم والرجوع إليه والاعتماد في الأحكام الإلهية عليه بدون معرفتها فيه واتصافه بها؟

قال المحقق الشارح الملّا محمد صالح قدس‌سره في شرحه على الكتاب ما صورته : (نبههم على أن العلم إذا لم يكن معه هذه الفضائل التي بها تظهر آثاره ، فهو ليس بعالم (٢) حقيقة ، ولا يعد صاحبه عالما) (٣).

إلى أن قال بعد شرح الفضائل المذكورة ما لفظه : (وهي أربعة وعشرون فضيلة من فضائل العلم ، فمن اتصف بالعلم واتصف علمه بهذه الفضائل ، فهو عالم رباني ، وعلمه نور إلهي ، متصل بنور الحقّ مشاهد لعالم التوحيد بعين اليقين. ومن لم يتّصف بالعلم أو اتّصف [به ولم يتّصف] علمه بشي‌ء من هذه الفضائل فهو جاهل ظالم لنفسه ، بعيد عن عالم الحق ، وعلمه جهل ، وظلمه يرده إلى أسفل السافلين.

وما بينهما مراتب كثيرة متفاوتة بحسب تفاوت التركيبات في القلة والكثرة ، وبحسب ذلك يتفاوت قربهم وبعدهم عن الحق ، والكل في مشيئة الله سبحانه إن شاء قربهم ورحمهم ، وإن شاء طردهم وعذبهم) (٤) انتهى ، وهو كما ترى صريح فيما ادعيناه ، واضح فيما قلناه.

__________________

(١) الكافي ١ : ٤٨ / ٢ ، باب نوادر كتاب فضل العلم.

(٢) في «ح» : بعلم.

(٣) شرح الكافي ٢ : ٢٠٥.

(٤) شرح الكافي ٢ : ٢١٠.


وروى الكليني ـ عطر الله مرقده ـ أيضا في الكتاب المذكور بسنده إلى أبي عبد الله عليه‌السلام : «طلبة العلم ثلاثة ، فاعرفهم بأعيانهم وصفاتهم : صنف يطلبه للجهل والمراء ، وصنف يطلبه للاستطالة والختل ، وصنف يطلبه للفقه والعقل.

فصاحب الجهل والمراء مؤذ ممار متعرض للمقال (١) في أندية الرجال بتذاكر العلم وصفة الحلم ، قد تسربل بالخشوع ، وتخلّى من الورع. فدق الله من هذا خيشومه وقطع منه حيزومه.

وصاحب الاستطالة والختل ذو خبّ وملق ، يستطيل على مثله من أشباهه ، ويتواضع للأغنياء من دونه ، فهو لحلوائهم هاضم ، ولدينه حاطم. فأعمى الله على هذا خبره ، وقطع من آثار العلماء أثره.

وصاحب الفقه والعقل ذو كآبة وحزن وسهر ، قد تحنّك في برنسه ، وقام الليل في حندسه يعمل ويخشى وجلا ، داعيا مشفقا مقبلا على شانه ، عارفا بأهل زمانه ، مستوحشا من أوثق إخوانه. فشد الله من هذا أركانه ، وأعطاه يوم القيامة أمانه» (٢).

أقول : وحينئذ فإذا كانت العلماء كما ذكر عليه‌السلام على هذه الصفات ، فكيف يكتفى بمجرد ظاهر العلم وعدم استيطان أحوالهم ، وتميز الفرد الذي يجوز الاقتداء به والمتابعة له من غيره ، وهل كلام زين العابدين ـ صلوات الله عليه ـ في ذلك الخبر إلّا لاستعلام هذا الفرد (٣) المشار إليه في هذا الخبر من بين هذين الفردين المشابهين له في بادي النظر. ولا ريب أنهم لاشتراكهم في ظاهر النظر فيما ذكره عليه‌السلام من التعلم والخشوع والخضوع والحلم ونحو ذلك يدقّ الفرق ويحتاج إلى مزيد تلطف وتأمل.

__________________

(١) في «ح» : للقال.

(٢) الكافي ١ : ٣٦ / ٢ ، باب صفة العلماء.

(٣) في «ح» : الاستعلام ، بدل : لاستعلام هذا الفرد.


وروى في الكتاب المذكور بسنده عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عزوجل : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (١) : «يعني بالعلماء : من صدق فعله قوله ، ومن لم يصدق فعله قوله فليس بعالم» (٢).

وهذا الخبر كما ترى أوضح دلالة من أن يحتاج إلى البيان. وحينئذ ، فلا بدّ من الاطلاع على الأحوال والأفعال ، والعلم بكونها مصدّقة لما يظهر من الأقوال ، وإلّا لم يحكم بكونه عالما.

وقريب منه ما ورد عنه عليه‌السلام أنه ذكر عنده قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «النظر إلى وجه العالم عبادة» ، فقال : «هو العالم الذي إذا نظرت إليه ذكّرت الآخرة ، ومن كان خلاف ذلك فالنظر إليه فتنة» (٣).

قال المحقق الشارح المشار إليه آنفا في بيان معنى قوله عليه‌السلام : «يعني بالعلماء : من صدق فعله قوله» : (هذا التصديق من آثار العلم والخشية ولوازمهما ؛ لأن العلم إذا صار ملكة راسخة في النفس مستقرة فيها ، صارت النفس نورا إليها وضوءا ربانيا ، تنقاد لها القوة الشهوية والغضبية ، وسائر القوى الحيوانية وتنقطع عن الهوى والوساوس الشيطانية ، فترى بنورها عالم الكبرياء والجبروت (٤) والجلال والعظمة الإلهية ، فيحصل لها من مشاهدة ذلك خوف وخشية وهيبة موجبة للعمل له والجد في العبادة وغاية الخضوع وعدم الإهمال لشي‌ء من أنحاء التعظيم ، ويخاف من أن يأمر بشي‌ء ولا يعمل به ؛ لأن ذلك إثم وخيانة ونفاق ، فيكون فعله مصدّقا لقوله قطعا.

ومما ذكرنا يعلم أن العلم والتصديق المذكور ثمرة الخشية ، والخشية ثمرة

__________________

(١) فاطر : ٢٨.

(٢) الكافي ١ : ٣٦ / ٢ ، باب صفة العلماء.

(٣) الأمالي (الطوسي) : ٤٥٤ / ١٠١٥ ، تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورام) : ٩٢ ، بحار الأنوار ٧١ : ٧٣ / ٥٩ ، بالمعنى.

(٤) من «م».


العلم ، فمن علم يخشاه ، ومن يخشه يعمل له ويصدّق قوله فعله.

وإن أردت زيادة توضيح ، فنقول : للعلم سواء كان عمليّا أو اعتقاديا تأثير عظيم في نفس الإنسان ؛ إذ هو نور يوجب مشاهدتها [ما] في العوالم اللاهوتية وهدايتها إلى سبيل النجاة من الطبائع الناسوتية ، وجناح يورث عروجها إلى مساكن القديسين وارتقاءها إلى منازل الروحانيين. فإذا بلغت هذه المرتبة وشاهدت عظمة الرب وجلاله وكماله بعين اليقين ، حدث لها نار الخوف والخشية واشتعلت فيها ، فينعكس شعاعها وضوؤها إلى ظاهر الإنسان لما بين الظاهر والباطن من المناسبة الموجبة لسراية أثر كل منهما إلى الآخر ، فيستضي‌ء كل عضو من أعضائه الظاهرة ، ويهتدي إلى ما خلق لأجله ، وما هو آلة لارتقائه وعروجه من الأقوال والأفعال ، ويصدّق بعض أعضائه بعضا بالتوافق والتعاون ، ويوافق ظاهره باطنه وباطنه ظاهره ، [فيفعل] (١) الحق ويقول له ويدعو إليه ويخشى منه ؛ فهو إذن عالم ربّاني ، وجسم روحاني ، ونور إلهي كامل في ذاته مكمّل لغيره) (٢) انتهى.

وأنت خبير بأن المراد بالعلم في الآية المشار إليها والخبر المذكورة فيه ـ كما ينادي به كلام الشارح المذكور ـ إنما هو علم الأخلاق العديم الآن الاتفاق (٣) لا علم البيع والسلم ، والنكاح والطلاق ، وأمثالها من العلوم الرسمية ، فإن الخشية إنما تترتب على تلك العلوم لا هذه. وبذلك يظهر لك صدق ما ادعيناه ، وقوّة ما قوّيناه ويؤيده أيضا ما ذكره الشارح في معنى قوله عليه‌السلام : «تفقهوا في الدين» (٤) : (المراد بالتفقه فيه : طلب العلوم النافعة في الآخرة الجالبة للقلب إلى حضرة القدس دائما

__________________

(١) من المصدر ، وفي النسختين : فيقول.

(٢) شرح الكافي ٢ : ٧٨ ـ ٨٠.

(٣) في «ح» : العديم الاتفاق الآن.

(٤) الكافي ١ : ٣١ / ٦ ، باب فرض العلم ووجوب طلبه.


بحيث يعدّ الطالب عرفا من جملة طلبتها ، ومشتغلا بها. وتلك العلوم هي المعدة لسلوك سبيل الحقّ ، والوصول إلى الغاية من الكمال ، كالعلوم الإلهية ، والأحكام النبوية ، وعلم الأخلاق وأحوال المعاد ومقدماتها) (١) انتهى.

قال الإمام الغزالي في العلم المتعلق بأحوال القلب : (هو فرض [عين] في فتوى علماء الآخرة ، والمعرض عنها هالك بسطوة ملك الملوك في الآخرة ، كما أن المعرض عن الأعمال الظاهرة هالك بسيف سلاطين (٢) الدنيا بحكم فتوى فقهاء الدنيا. فنظر الفقهاء في فروض العين بالإضافة إلى صلاح الدنيا ، وهذا بالإضافة إلى صلاح الآخرة. ولو سئل فقيه عن معنى الإخلاص والتوكل وعن وجه الاحتراز عن الرياء مثلا ، لتوقف فيه مع أنه فرض عينه الذي في إهماله هلاكه في الآخرة. ولو سئل عن الظهار واللعان والسبق والرمي (٣) مثلا ، لسرد مجلدات من التفريعات الدقيقة التي تنقضي الدهور ولا يحتاج إلى شي‌ء منها ، فلا يزال يتعب فيه ليلا ونهارا في حفظه ودرسه ، ويغفل عما هو مهم في نفسه في الدين ، ويزعم أنه مشتغل بعلم الدين ويلبس (٤) على نفسه وعلى غيره.

والفطن يعلم [أنه لو كان] (٥) غرضه أداء الحق في فرض الكفاية (٦) ، لقدم فرض العين ، بل غرضه تيسّر الوصول به إلى توليته الأوقاف والوصايا ، وحيازة أموال الأيتام ، وتقلد القضاء والحكومة ، والتقدم على الأقران ، والغلبة على الخصوم.

هيهات قد اندرس علم الدين بتلبيس علماء السوء ، وإليه المستعان وإليه اللياذ

__________________

(١) شرح الكافي ٢ : ١٦.

(٢) بسيف سلاطين ، من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : بسلاطين.

(٣) في «ح» : الرماية.

(٤) في «ح» : يلتبس.

(٥) من الإحياء ، وفي «ح» أن ، وفي «ق» وشرح المازندراني : أن ليس.

(٦) في النسختين بعدها : وإلّا.


في أن يعيذنا من هذا الغرور الذي يسخط الرحمن ، ويضحك الشيطان) (١) انتهى.

قال الفاضل الشارح المتقدم ذكره بعد نقله هذا الكلام عنه : أقول : لقد (٢) أفرط في ذم الفقهاء وكأنه ابتلي بالفقهاء الموصوفين بالصفات المذكورة أو أخبر عن حال من ينسب نفسه إلى الفقه في عصرنا هذا ، حيث يجعل ما التقطه من كتب العلماء ذريعة إلى التوسل بالسلاطين والتقرب إلى السفهاء وإخوان الشياطين وليس هو أوّل من ذمّهم بذلك ؛ لأن ذم علماء السوء متواتر من طرق أهل العصمة عليهم‌السلام ، وليس غرضه ذم الفقهاء على الإطلاق ؛ إذ الفقيه العالم بالدين العامل الزكي الأخلاق الورع الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من ورثة النبيّين ومعدود من الصديقين ، وهو في الآخرة من المقرّبين) (٣) انتهى.

وروى الكليني قدس‌سره أيضا في الكتاب المتقدم بسنده عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «من طلب العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه ، فليتبوّأ مقعده من النار ، وإن الرئاسة لا تصلح إلّا لأهلها» (٤).

قال الشارح المتقدم ذكره في معنى قوله عليه‌السلام : «إن الرئاسة لا تصلح إلّا لأهلها» ما هذا لفظه : (وهم الفائزون بالنفوس القدسية ، والعالمون بالقوانين الشرعية ، والعاملون بالسياسات المدنية ، والمتصفون بالملكات العدلية ، والآخذون بزمام نفوسهم وقواها [في] (٥) سبيل الحق على نحو ما تقتضيه البراهين الصحيحة العقلية والنقلية.

وبالجملة ، إنما تصلح الرئاسة لمن يكون حكيما عليما شجاعا عفيفا سخيا

__________________

(١) إحياء علوم الدين ١ : ٢١ ، باختلاف ، عنه بنصّه في شرح الكافي ٢ : ١٤ ـ ١٥.

(٢) في «ح» : قد.

(٣) شرح الكافي ٢ : ١٥.

(٤) الكافي ١ : ٤٧ / ٦ ، باب المستأكل بعلمه والمباهي به.

(٥) من المصدر ، وفي النسختين : على.


عادلا فهيما ذكيّا ثابتا (١) ساكنا متواضعا ، رقيقا رفيقا ، حبيبا سليما ، صبورا شكورا قنوعا ورعا وقورا ، عفوّا مؤثرا مسامحا ، صديقا وفيّا شفيقا مكافئا متودّدا ، متوكلا عابدا زاهدا موقنا ، محسنا بارا قابضا ، لجميع أسباب الاتصال بالحق ، مجتنبا عن جميع أسباب الانقطاع عنه. فمن اتصف بهذه الفضائل وانقطع عن أضدادها من الرذائل وقعت الألفة بين عقله ونفسه وقواه ، فيصير كل ما فيه نورا إلهيا ، ويحصل لاجتماع هذه الأنوار هيئة نورانية يشاهد بها ما في عالم [الملك و] الملكوت ، وينتظم بها نظام أحواله ، ويستحق الخلافة الإلهية ، والرئاسة البشرية في عباده وبلاده ، ووجب عليهم الرجوع إليه في امور الدين والدنيا ، وأخذ العلوم منه والتسليم لأمره ونهيه والاتّباع لقوله وفعله. ومن لم يبلغ هذه الدرجة ولم ينزل في هذه المنزلة والمرتبة وتقلد (٢) الرئاسة ، فهو من الجبت والطاغوت) (٣) انتهى.

أقول : انظر أيدك الله تعالى إلى ما في هذا الكلام من الصراحة فيما ادعيناه في المقام ، وما يشترط في ذلك النائب عن الإمام عليه‌السلام ممّا لا يكاد يوجد إلّا في نوادر الأيام. وروي في (الكافي) أيضا في باب مجالسة العلماء وصحبتهم بسنده إلى أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : قال الحواريون : يا روح الله ، من نجالس؟

قال : من تذكّركم الله رؤيته ، ويزيد في علمكم منطقه ، ويرغبكم في الآخرة عمله» (٤).

قال الشارح المتقدم ذكره في شرح الفقرة الاولى : «يذكركم الله رؤيته» : (لصفاء ذاته ، وضياء صفاته ، وحياء وجهه ، وسيماء جبهته ، ولواء زهادته ، وبهاء عبادته).

وقال في شرح قوله : «ويزيد في علمكم منطقه» : (أي كلامه ونطقه في العلوم

__________________

(١) في «ح» بعدها : متوكلا.

(٢) في «ح» بعدها : أمر.

(٣) شرح الكافي ٢ : ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٤) الكافي ١ : ٣٩ / ٣.


الحقيقية والمعارف الإلهية والأحكام الشرعية والآداب النفسية والأخلاق القلبية وسائر الكمالات البشرية).

وقال في شرح قوله : «ويرغبكم في الآخرة عمله» : (الدال على إقباله إلى الامور الاخروية ، وإعراضه عن الشواغل الدنيوية ؛ فإن رؤية الأعمال الصالحة والأفعال الفاضلة والعبادات الكاملة تؤثر في نفس الرائي تأثيرا عظيما ، حتى ينفض عنها غبار الشهوات ، وينقض منها خمار الغفلات ، ويبعثها على الأعمال الموجبة للارتقاء على معارج القدس والارتواء بزلال الانس. فقد ذكر لمن ينبغي مجالسته ثلاثة أوصاف هي أمهات جميع الصفات المرضية ؛ إذ هي مشتملة عليها كاشتمال المجمل على المفصّل. وفيه إشعار بأن من لم يكن فيه هذه الصفات أو كان فيه أضدادها لا ينبغي المجالسة معه ، بل الفرار والاعتزال عنه لازم. فإن مجالسته تميت القلب وتفسد الدين ، وتورث النفس ملكات مهلكة ومؤدية إلى الخسران المبين) (١) انتهى.

وقال قدس‌سره أيضا ـ في شرح قوله عليه‌السلام : «العلماء امناء» ـ : (الأمين هو المعتمد عليه ، الموثوق به فيما فوض أمره إليه (٢). والعلماء امناء الله في بلاده وعباده ، وكتابه ودينه ، وحلاله وحرامه ، وناسخه ومنسوخه ورخصه وعزائمه ، وعامّه وخاصّه ، ومحكمه ومتشابهه ، ومجمله ومفصله ، ومطلقه ومقيّدة ، وعبره وأمثاله ؛ لكونهم حملة لكتابه وخزنة لأسراره وحفظة لأحكامه ، منحهم الله تعالى ذلك ، وأعطاهم هذه المنزلة الشريفة التي هي الخلافة العظمى والرئاسة الكبرى ، ليجذبوا العقول الناقصة من تيه الضلال إلى جناب حضرته ، ويخلصوا الخلائق عما التفتوا إليه من اتّباع الشهوات الباطلة واقتناء اللذات الزائلة ، ويبعثوهم على أداء ما خلقوا لأجله).

__________________

(١) شرح الكافي ٢ : ١١٦ ـ ١١٧.

(٢) في «ح» : إليه أمره.


إلى أن قال : (فمن حصل له صور المعقولات الكلية ، وملكة الاقتدار بها على الإدراكات الجزئية ، وجعلها وسيلة لاكتساب الزخارف الدنية الدنياوية بالتسويلات النفسانية والتدليسات الشيطانية ، ولم يتصف بفضيلة الديانة والأمانة ، وعزل نفسه عن السلطنة (١) والخلافة وترك تعليم الناس وإخراجهم من الضلالة والجهالة ، فهو ليس بعالم بالشريعة في الحقيقة ، بل هو عالم خائن مفتون ، والجاهل خير منه) (٢) انتهى.

وبالجملة ، فإنه لما كان علم الأخلاق وتحلية النفس بالفضائل وتخليتها من الرذائل أحد أفراد العلوم ، بل هو أصلها وأساسها الذي عليه مدارها ، وبه قرارها ـ وقد عرفت من الأخبار أن من جملة العلماء من هو خال من تلك العلوم ، أو متّصف بأضدادها مع تلبسه بلباس العلماء الأبرار ، وإظهاره الخشوع والخضوع (٣) ، والزهد والانكسار ، وقد تضمنت الأخبار الحث والتأكيد على المنع من الركون إلى هؤلاء ، والانخداع بما يظهرونه والاغترار ـ فالواجب حينئذ هو الفحص والبحث والتفتيش عن أحوال العلماء ، والتمييز بين الفسقة منهم والأبرار ، كما نص عليه الخبر المشار إليه وغيره في هذا المضمار.

وأيضا فإنه لا تحقق لنيابة هذا العالم وصحة تقليده ومتابعته إلّا بوجود شروطها ، ومن جملتها العلم باتّصافه تلك الصفات الجليلة ، وتخلّيه عن كل منقصة ورذيلة كما عرفته من الأخبار ، والأخبار التي دلّت على الاكتفاء في العدالة بحسن الظاهر كما هو الأظهر ، أو الإسلام كما هو القول الآخر موردها الشهادة والإمامة ، ولا دلالة في شي‌ء منها على التعرض للنائب عنهم عليهم‌السلام. كما لا

__________________

(١) في «ح» : السلطة.

(٢) شرح الكافي ٢ : ٣٦ ـ ٣٧.

(٣) في «ح» : الخضوع والخشوع ، بدل : الخشوع والخضوع.


يخفى على من تتبع تلك الأخبار وجاس خلال تلك الديار.

وحينئذ ، فلا معارض لهذا الخبر وأمثاله فيما ادّعيناه ، ولا مناقض له فيما قلناه ؛ وبذلك يسقط ما أطال به شيخنا الصالح بعد نقل كلام شيخه قدس‌سرهما من معارضة ما قدمه من الأخبار ، كرواية ابن أبي يعفور وغيرها لهذا الخبر ، وأنه يجب حمله على ما ذكروه ، أو طرحه لذلك إلى آخر ما آطال به فيما هنالك.

هذا ، ومن الأخبار الواردة في التشديد على العلماء ، ما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «قصم ظهري اثنان (١) ؛ عالم متهتّك ، وجاهل متنسك ؛ فالجاهل يغش الناس بتنسّكه ، والعالم يضرّهم (٢) بتهتكه». وقد نظم بعضهم ذلك فقال :

فساد كبير عالم (٣) متهتك

وأكبر منه جاهل متنسك

هما فتنة للعالمين عظيمة

لمن بهما في دينه يتمسك (٤)

وروى في (الكافي) عن سليم بن قيس قال : سمعت أمير المؤمنين عليه‌السلام يحدث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال في كلام له : «العلماء رجلان : رجل عالم آخذ بعلمه فهذا ناج ، وعالم تارك لعلمه فهذا هالك. وإن أهل النار ليتأذون من ريح (٥) التارك لعمله ، وإن أشد أهل النار ندامة وحسرة رجل دعا عبدا إلى الله فاستجاب له وقبل منه فأطاع الله ، فأدخله الله الجنة ، وأدخل الداعي (٦) النار بتركه علمه واتّباعه الهوى وطول الأمل ، أما اتباع الهوى فيصد عن الحق ، وطول الأمل ينسي الآخرة» (٧).

وروى في الكتاب المذكور بسنده إلى علي بن الحسين عليهما‌السلام قال : «مكتوب في

__________________

(١) ليست في المصدر.

(٢) في المصدر : ينفّرهم.

(٣) في «ح» عالم كبير ، بدل كبير عالم.

(٤) البيتان من الطويل. ديوان الإمام الشافعي : ١٠٢ ، منية المريد : ١٨٢.

(٥) في المصدر بعدها : العالم.

(٦) ليست في «ح».

(٧) الكافي ١ : ٤٤ / ١ ، باب استعمال العلم.


الإنجيل : لا تطلبوا علم ما لا تعلمون ، ولما تعلموا بما علمتم ، فان العلم إذا لم يعمل به لم يزدد صاحبه إلّا كفرا ، أو لم يزدد من الله إلّا بعدا» (١).

وروى فيه أيضا بسنده إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام في كلام خطب به على المنبر : «أيها الناس ، إذا علمتم فاعملوا بما علمتم ؛ لعلكم تهتدون ، إنما العالم العامل بغيره كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله. بل قد رأيت أن الحجة عليه أعظم ، والحسرة أدوم على هذا العالم المنسلخ من علمه منها على هذا الجاهل المتحيّر في جهله ، وكلاهما حائر بائر ، لا ترتابوا فتشكّوا ، ولا تشكّوا فتكفروا ، ولا ترخصوا لأنفسكم فتدهنوا ، ولا تدهنوا في الحق فتخسروا. وإن من الحق أن تتفقهوا ، ومن الفقه ألّا تغتروا ، وإن أنصحكم لنفسه أطوعكم لربّه ، وأغشكم لنفسه أعصاكم لربه ، ومن يطع الله يأمن ويستبشر ، ومن يعص الله يخب ويندم» (٢).

وروى فيه أيضا بسنده عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من أراد الحديث لمنفعة الدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب ، ومن أراد به خير الآخرة أعطاه الله خير الدنيا والآخرة» (٣).

وروى فيه عنه عليه‌السلام قال : «إذا رأيتم العالم محبا لدنياه فاتّهموه على دينكم ، فإن كل محب لشي‌ء يموت حول (٤) ما أحب. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أوحى الله إلى داود عليه‌السلام : لا تجعل بيني وبينك عالما مفتونا بالدنيا فيصدّك عن طريق محبتي ؛ فإن اولئك قطاع طريق عبادي المريدين ، إن أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة مناجاتي من قلوبهم» (٥).

وروى فيه بسنده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «الفقهاء امناء الرسل ما لم يدخلوا في

__________________

(١) الكافي ١ : ٤٤ ـ ٤٥ / ٤ ، باب استعمال العلم.

(٢) الكافي ١ : ٤٥ / ٦ ، باب استعمال العلم.

(٣) الكافي ١ : ٤٦ / ٢ ، باب المستأكل بعلمه والمباهي به.

(٤) في المصدر : يحوط ، بدل : يموت حول.

(٥) الكافي ١ : ٤٦ / ٤ ، باب المستأكل بعلمه والمباهي به.


الدنيا». قيل : يا رسول الله ، وما دخولهم في الدنيا؟ قال : اتّباع السلطان ، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم» (١).

والظاهر أن المراد بقوله : «اتّباع السلطان» ، أي حب الأمارة والسلطنة والكبر والرئاسة ، كما يشير إليه الخبر الذي بعده ، وهذا هو الداء الدفين الذي لا ينجو منه إلّا من عصمه الله تعالى ، (وَقَلِيلٌ ما هُمْ). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال لأصحابه : «تعلموا العلم ، وتعلموا له (٢) السكينة والحلم ، ولا تكونوا من (٣) جبابرة العلماء ، فلا يقوم علمكم بجهلكم» (٤).

وعن عيسى ـ على نبينا وعليه الصلاة والسّلام ـ أنه قال : «مثل علماء السوء مثل الصخرة وقعت في فم النهر لا هي تشرب الماء ولا هي تترك الماء ليخلص إلى الزرع» (٥).

إلى غير ذلك من الأخبار الواضحة المنار ، الناعية على العلماء بما فيهم من شرب الأكدار والخروج عن طاعة العزيز الجبار ، وعدم موافقة العمل لما علموه ، والاغترار بالدنيا.

وحينئذ ، فكيف يجوز الاقتداء بهم بمجرد اتّصافهم بالعلم من غير العمل باقترانه بالعمل الموجب لنجاته في نفسه من الزلل والخطل؟ ولا ريب أن مرتكب المعصية ـ ولا سيما إذا كان ممن تنعى عليه معصيته ، ويعان بها بين الناس ، ويخالف لما هو عليه من ذي اللباس ، وتكون سببا لنقصه من أعين الناظرين وانحطاط رتب القاصرين ـ لا يدخل فيها ولا يرتكبها مجاهرة ، ولا على وجه تنعى عليه وإنما يتلبس بها على وجه لا يشعر به إلّا الفطن اللبيب ، والموفق

__________________

(١) الكافي ١ : ٤٦ / ٥ ، باب المستأكل بعلمه والمباهي به.

(٢) في المصدر : للعلم.

(٣) ليست في المصدر.

(٤) بحار الأنوار ٢ : ٣٧ / ٤٩.

(٥) إحياء علوم الدين ١ : ٦٠.


المصيب ؛ فإن الشيطان يفتح له أبوابا يريه (١) [بها] أن الذي يأتي به ليس بمعصية ، بل يسوّل له أنه من قبيل الطاعات ، وأن العذر فيها واضح لمن سمعه أو رآه من الناس.

وقد رأينا بين من أدركناه من العلماء الأعلام ، وأرباب النقض والإبرام من الحسد الذي ورد فيه أنه يأكل الأعمال كما تأكل النار الحطب (٢) ، والغيبة التي صارت في جملة الأوقات نقلا (٣) للمجالس والمجامع ، فلا يعاب ولا يستعاب على ناقل لها ولا سامع ، وحب (٤) التقدم والتصدر والرئاسة في الامور ما يضيق له متسع الصدور. ومع ذلك كله فلم يكن قادحا فيهم بين الناس ، ولا موجبا للشك فيهم والوسواس ؛ لأنها أشياء قد صارت مضادة للخلق غير منكورة ، والسبب في ذلك كله فساد العلماء ؛ فإن الناس تبع لهم ، فإنهم يظهرون للناس من الوجوه والأعذار في تلك الامور ما يدخلها في قالب المشروع المندوب إليه المأمور.

ولذا قال بعض الأجلّاء العارفين : (إن عامة الناس أبدا دون المتلبس بالعلم بمرتبة ، فإذا كان ورعا تقيا صالحا تلبست العامة بالمباحات ، وإذا اشتغل بالمباح تلبست العامة بالشبهات ، فإذا دخل في الشبهات تعلق العامي بالحرام ، فان تناول الحرام كفر العامي) (٥) انتهى.

وكفى شاهدا على صدق هذا البيان العيان وعدول الوجدان ، فضلا عن نقل الأعيان ، ولله در من قال من ذوي الكمال :

__________________

(١) في «ح» : يريد.

(٢) انظر الكافي ٢ : ٣٠٦ / ١ ـ ٢ ، باب الحسد.

(٣) النّقل ـ بالضمّ ، وبعضهم يفتح النون ـ : ما يتنقل به على الشراب. مختار الصحاح : ٦٧٧ ـ نقل.

(٤) معطوف على (الحسد) من قوله : وقد رأينا .. من الحسد .. ، أو على (الغيبة).

(٥) انظر : منية المريد : ١٦٢ ـ ١٦٣ ، المحجّة البيضاء ١ : ١٥٧ ـ ١٥٨ ، والكلام بمعناه من غير نسبة لأحد في التفسير الكبير ٢ : ١٧٠.


وراعي الشاة يحمي الذئب عنها

فكيف إذا الرعاة لها ذئاب (١)

وقال آخر :

يا معشر القراء يا ملح البلد

ما يصلح الملح إذا الملح فسد (٢)

أقول : وهذا هو السر فيما ورد أن قوام الدنيا واستقامتها باستقامة العلماء (٣) ، وإن زلة العالم زلة العالم (٤). وقد شاهدنا من بعض علماء عصرنا غيبة بعضهم لبعض ، برغم تحذير الناس عنهم وعن الاغترار بهم ، وربما كان المستغاب أتقى وأورع من المستغيب ، وقد أدركنا رجلين من مشايخنا المشهورين ، اللذين [هما] (٥) عمدة البلاد ، و [إليهما] (٦) رجوع من فيها من العباد بلغ بهما التحاسد والعداوة والعناد إلى أنهما معا يصليان الجمعة إمامين في موضع يسمع أذان كلّ منهما الآخر ، وجملة من الناس يعتقدون بواحد ، وآخرون بالآخر.

وبالجملة ، فإن الأمر في علماء هذه الأزمان قد بلغ إلى مبلغ لا يحتاج إلى الشرح والبيان من حبهم للدنيا وحب الرئاسة والتقدم في الامور (٧) ، والحسد والغيبة وأمثالها مما هو ظاهر مشهور ومتعارف غير منكور. والسبب في ذلك كله هو الاغترار بهذه (٨) العلوم الرسمية التي حصلوها ، والغفلة عن ملاحظة تلك العلوم الأصلية والاصول الحقيقية ؛ لأنها قد صارت مهجورة في أكثر الأزمان ، وغير معمول عليها في كل مكان ، بل نظر الناس من عالم وغيره ، إنما هو إلى تحصيل هذه العلوم الرسمية ، ودقة النظر فيها ، وجودة الفكر واستخراج معانيها.

__________________

(١) البيت من الوافر. إحياء علوم الدين : ٦١.

(٢) البيت من الرجز. إحياء علوم الدين : ٦١.

(٣) غرر الحكم ودرر الكلم : ٥٠٤ / ١٠٥ ، بحار الأنوار ٢ : ٣٦ / ٤٤.

(٤) نسبه في إحياء علوم الدين ١ : ٦٤ إلى الخليفة الثاني.

(٥) في النسختين : هم.

(٦) في النسختين : إليهم.

(٧) في «ح» : للأمور. بدل : في الامور.

(٨) في «ح» : بهذا.


فمن كان أطول يدا في ذلك صار هو المشار إليه والمعتمد عليه وإن كان عاريا من (١) ذلك بالكلية ، وهذه البلية في الدين هي أصل كل بلية ، بل ربما أدى منهم (٢) الحرص على هذه العلوم الرسمية وشدة الرغبة في تحصيلها إلى التهاون بالعبادات والصلوات ، وتأخيرها عن أوقاتها ، أو الإتيان بها على غير ما هو حقها ، وترك بعض السنن المرغب فيها.

وقد أخبرني من أثق به عن بعض مشايخنا الذي رجعت إليه في وقته رئاسة البلاد ، وعكف عليه جملة من فيها ، بل في غيرها من العباد أنه بعد أن كان مواظبا على صلاة الليل تركها اشتغالا بالمطالعة للعلوم ، محتجا بما ورد من فضل العلم على العبادة ، وفضل العالم على العابد ، وهو (٣) مما يقضى منه العجب من مثل ذلك العلّامة الذي أذعن له في وقته العجم والعرب.

ولو صح هذا له قدس‌سره للزم أن تكون تلك الأوامر الشرعية بالنوافل وسائر الطاعات وصنوف العبادات ، إنما توجهت للجاهل خاصة ، وخطاب هذا العالم إنما هو بتحصيل العلم وتعليمه الجهّال ، وإلّا فهو غير مخاطب بها ، ولا هي مطلوبة منه ، وهل هو حينئذ إلّا كالسراج الذي يحرق نفسه ليضي‌ء لغيره؟ وكيف غفل قدس‌سره عن الأخبار الّتي قدّمنا جملة منها الدالة على وجوب إرداف العلم بالعمل ، وإلّا لمضى عنه وارتحل وبقي صاحبه في خوف ووجل؟ ما هذه إلّا خدعة شيطانية.

والحديث الذي نقل عنه قدس‌سره ، الدال على تفضيل العالم على العابد ، ليس إلّا باعتبار أن العالم (٤) ثمرة علمه هو عمله بموجبه ، وتعليمه الناس ، فهو أفضل من العابد الذي ثمرة عبادته إنما تعود عليه خاصّة. ولو كان العالم لا يعمل بعلمه ولا

__________________

(١) في «ح» : عن.

(٢) ليست في «ح».

(٣) في «ح» : وهما.

(٤) في «ح» بعدها : يكون.


يفيده غيره لكان كالشجرة الخالية من الثمر ، ولو كان إنما هو لإفادة الغير خاصة لكان كالسراج الذي يحرق نفسه ويضي‌ء لغيره ، فإنه يسهر الليل ، ويتعب في الطلب. ويتحمل المشقّة والنصب لأجل الناس.

وبالجملة ، ففضل العلم وفضيلة العالم إنّما يتحقّق مع إضافة العمل وضمه إليه لا بدونه ، وحينئذ فالعالم الحقيقي ومصداق هذا العنوان التحقيقي إنما هو من اتّصف بتلك العلوم الجليلة التي أشرنا إليها مع ما يحتاج إليه لنفسه ، أو لنفسه وغيره من هذه العلوم الرسميّة المشهورة ، دون من اختصّ بهذه كما توهّمه من لا تأمّل له ولا تحقيق ، ولم ينظر في الأدلّة القطعية (١) بالنظر الدّقيق.

وكفاك شاهدا على صحّة ما ذكرنا قوله سبحانه (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (٢) ، فمناط الخشية العلم ، ولا يخفى أن الخشية لا ترتّب لها على هذه العلوم ، لمجامعتها للفسق كما هو معلوم من علماء السوء وفسّاق العلماء ، وإنما ترتب على تلك العلوم (١) ، كما تقدم بيانه في الخبر المتقدّم.

__________________

(١) أقول : وممّا يدخل في هذا المقام ، وينتظم في سلك هذا النظام ما ذكره المحقق رحمه‌الله في أوّل (المعتبر) حيث قال ـ ونعم ما قال ـ : (إن في الناس المستعبد نفسه لشهوته ، المستغرق وقته في أهويته مع إيثاره الاشتهار بآثار الأبرار ، واختياره الاتّسام بسير الأخيار ؛ إما لأن ذلك في جبلّته ، أو لأنه وسيلة إلى حطام عاجلته. فيثمر هذان الخلقان نفاقا غريزيا وحرصا على الرئاسة الدينية طبيعيا ، فإذا ظهرت لغيره فضيلة عليه خشي غلبة المزاحم ، ومنافسة المقاوم ، ثم يمنعه نفاقه من المكافحة ، فيرسل القدح في ذي المناصحة ، ويقول : لو قال كذا لكان أقوم ، لو لم يقل كذا لكان أسلم ، موهما أنه أوضح كلاما وأرجح مقاما. فإذا ظفرت بمثله ، فليشغلك الاستعاذة بالله من بليته عن الاشتغال بإجابته ، فإنه شر الرجال ، وأضر على الامة من الدجّال) (٣) إلى آخر كلامه قدس‌سره منه (هامش «ح»).

__________________

١ـ في «ح» : العقلية.

٢ ـ فاطر : ٢٨.

٣ ـ المعتبر ١ : ٢١.


ويعضده أيضا قوله سبحانه (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (١) ؛ فإن المراد بالفقه في الآية على ما ذكره جماعة من أصحابنا منهم شيخنا البهائي في كتاب (الأربعين) ، وشيخنا الشهيد الثاني في كتاب (منية المريد) (٢) ، والمحقق الشّارح المازندراني (٣) إنما هو العمل بتلك العلوم الّتي أشرنا إليها ، وهي الّتي يحصل بها الإنذار ، والتي يترتب عليها الحذر ، لا هذه العلوم الرسميّة. ومما يؤيد ما قلناه ويؤكّد ما سطرناه ما صرّح به جملة من علمائنا الأعلام في هذا المقام منهم (٤) الشهيد الثاني في كتاب (منية المريد) ، قال قدس‌سره : (وللعالم في تقصيره في العمل بعد أخذه بظواهر الشريعة ، واستعمال ما دوّنه القدماء من الصلاة والصّيام والدعاء وتلاوة (القرآن) ، وغيرها من العبادات ضروب اخر ، فإنّ الأعمال الواجبة عليه فضلا عن غير الواجبة غير منحصرة فيما ذكر ، بل من الخارج عن الأبواب الّتي رتبها الفقهاء ما هو أهمّ ، ومعرفته أوجب ، والمطالبة [به] والمناقشة عليه أعظم ، وهو تطهير النفس من الرذائل الخلقية من الكبر والرّياء والحسد والحقد وغيرها من الرذائل المهلكات ، مما هو مقرّر في علوم تختصّ به ، وحراسة اللّسان عن الغيبة والنميمة ، وكلام ذي اللسانين ، وذكر عيوب المسلمين وغيرها.

وكذا القول في سائر (٥) الجوارح فإن لها أحكاما تخصّها ، وذنوبا مقرّرة في محالّها ، لا بدّ لكل أحد من تعلمها وامتثال حكمها ، وهي تكليفات لا توجد في كتاب البيوع والإجارات وغيرها من كتب الفقه ، بل لا بدّ [من] (٦) الرجوع فيها إلى علماء الحقيقة العاملين وكتبهم المدوّنة في ذلك. وما أعظم اغترار العالم بالله في

__________________

(١) التوبة : ١٢٢.

(٢) منية المريد : ١٥٧.

(٣) شرح اصول الكافي ١ : ٤٦ ـ ٤٧.

(٤) في «ح» بعدها : شيخنا.

(٥) ليست في «ح».

(٦) في النسختين : في.


رضاه بالعلوم الرسميّة وإغفاله [إصلاح] (١) نفسه وإرضاء ربّه تبارك وتعالى.

وغرور من هذا شأنه يظهر لك من حيث العلم ، ومن حيث العمل.

أمّا العمل فقد ذكرنا وجه الغرور فيه ، وأن مثاله مثال المريض إذا تعلم نسخة الدّواء واشتغل بتكراره وتعليمه ، لا بل مثاله مثال من به علة البواسير والبرسام (٢) وهو مشرف على الهلاك يحتاج إلى تعلم الدّواء واستعماله ، فاشتغل بتعلّم دواء الحيض أو الاستحاضة ، وتكرار ذلك ليلا ونهارا ، مع علمه بأنه رجل لا يحيض ولا يستحيض ، ولكنه يقول : ربما تقع علة الحيض أو الاستحاضة لامرأة وتسألني عنه ، وذلك غاية الغرور ، حيث ترك تعلم الدواء النافع لعلته مع استعماله ، ويشتغل بما ذكرناه.

كذلك هذا [المتفقة] (٣) المسكين قد تسلط عليه اتّباع الشهوات ، والإخلاد إلى الأرض ، والحسد والرياء ، والغضب والبغضاء ، والعجب بالأعمال التي يظنّها من الصالحات ، ولو فتش عن باطنها وجدها من المعاصي الواضحات ، فليلتفت إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أدنى الرياء شرك» (٤) ، وإلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا يدخل الجنّة من في قلبه مثقال من الكبر» (٥) ، وإلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب» (٦) ، وإلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «حبّ المال والشرف ينبتان النفاق كما ينبت الماء البقل» (٧) ، إلى غير ذلك من الأخبار المدوّنة في أبواب هذه المهلكات.

__________________

(١) من المصدر ، وفي النسختين : لصلاح.

(٢) البرسام ـ بفتح الباء وكسرها ، ويسمى الجرسام ـ : ورم يعرض للحجاب الذي يقع بين المعدة والكبد ، أو بين القلب والكبد. موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم ١ : ٣٢٢ ـ ٣٢٣ ـ البرسام.

(٣) من المصدر ، وفي النسختين : الفقير.

(٤) إحياء علوم الدين ٣ : ٢٩٤.

(٥) الكافي ٢ : ٣١٠ / ٦ ، باب الكبر.

(٦) بحار الأنوار ٧٠ : ٢٥٧ / ٣٠ ، سنن أبي داود ٤ : ٢٧٦ / ٤٩٠٣.

(٧) بحار الأنوار ٧٢ : ٢٠٥ ، إحياء علوم الدين ٣ : ٢٧٨.


وكذلك يترك استعمال الدواء لسائر المهلكات الباطنة ، وربما يختطفه الموت قبل التوبة والتلافي ، فيلقى الله وهو عليه غضبان ، فترك ذلك كله واشتغل بعلم النحو وتصريف الكلمات ، والمنطق وبحث الدلالات ، وفقه الحيض والاستحاضات ، والسلم والإجارات ، واللعان والجراحات ، والدعاوى والبيّنات ، والقصاص والديات ، ولا يحتاج [إلى] (١) شي‌ء من ذلك مدّة عمره إلّا نادرا وإن احتاج إليه غيره ، فهو من فروض الكفاية ، وغفل مع ذلك عن العلوم الّتي هي فرض عيني بإجماع المسلمين.

فغاية تلك العلوم إذا قصد بها وجه الله العظيم وثوابه (٢) الجسيم أنها فرض كفاية ، ومرتبة فرض الكفاية بعد تحصيل الفرض العيني ، فلو كان غرض هذا الفقيه العالم بعلمه وجه الله تعالى لاشتغل بترتيب العلوم بالأهم فالأهم والأنفع فالأنفع ، فهو إما غافل مغرور ، وإما مراء في دينه ، مخدوع ، طالب للرئاسة والاستعلاء ، والجاه والمال ، فيجب عليه التنبيه لإحدى العلتين قبل أن تقوى عليه وتهلكه.

وليعلم مع ذلك أيضا أن مجرد تعلم هذه المسائل المدونة ليس هو الفقه عند الله تعالى ، وإنّما الفقه عند الله تعالى بإدراك جلاله وعظمته ، وهو العلم الذي يورث الخوف والهيبة والخشوع ، ويحمل على التقوى ، ومعرفة الصفات المخوفة فيجتنبها ، والمحمودة فيرتكبها ، ويستشعر الخوف والحزن كما نبّه عليه الله تعالى في كتابه حيث يقول (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) (٣).

__________________

(١) من المصدر ، وفي النسختين : في.

(٢) في «ح» بعدها : العظيم.

(٣) التوبة : ١٢٢.


والذي يحصل به الإنذار غير هذا العلم المدون ؛ فإن مقصود هذا العلم ، حفظ الأموال بشروط المعاملات ، وحفظ الأبدان بالأموال ، وبدفع القتل والجراحات ، والمال في طريق الله آلة ، والبدن مركب (١). وإنما العلم المهمّ هو معرفة سلوك الطريق إلى الله ؛ وقطع عقبات القلب الّتي هي الصفات المذمومة ، فهي الحجاب بين العبد وبين الله تعالى ، فإذا مات متلوثا بتلك الصفات كان محجوبا عن الله تعالى ، ومن ثمّ كان العلم موجبا للخشية ، بل هي منحصرة في العالم ـ كما نبّه عليه تعالى بقوله (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (٢) ـ أعمّ من يكون فقيها أو غير فقيه) (٣) انتهى المقصود من (٤) كلامه وهو طويل.

وقال شيخنا البهائي قدس‌سره في كتاب (الأربعون) في شرح حديث كميل بن زياد ما لفظه : (وقد قسم عليه‌السلام الذين لهم أهلية تحمّل العلم إلى أربعة أقسام :

أولها : جماعة فسقة لم يريدوا بالعلم وجه الله سبحانه ، بل إنما أرادوا به الرياء والسمعة ، وجعلوه شبكة لاقتناص اللّذات الدنية والمشتهيات الدنيوية.

وثانيها : قوم من أهل الصلاح ، ولكن ليس لهم بصيرة في الوصول إلى أغواره والوقوف على أسراره ، بل إنما يصلون إلى ظواهره ، فتنقدح الشكوك في قلوبهم من أوّل شبهة تعرض لهم.

وثالثها : جماعة لا يتوصّلون بالعلم إلى المطالب الدنيويّة ، ولا هم عادمون للبصيرة في إحيائه بالكلية ، ولكنهم اسراء في أيدي القوّة البهيميّة ، منهمكون في ملاذّ الواهية الوهميّة.

ورابعها : جماعة سلموا من تلك الصفات الذميمة ، وسلكوا الطريقة المستقيمة ،

__________________

(١) من «ح» وفي «ق» : مركوب.

(٢) فاطر : ٢٨.

(٣) منية المريد : ١٥٤ ـ ١٥٧.

(٤) في «ح» بعدها : نقل.


لكنهم لم يخلصوا من صفة خسيسة اخرى ، وهي حب المال وادّخاره وجمعه وإكثاره.

وبالجملة ، فلا بدّ لطالب العلم الحقيقي من تقديم طهارة النفس عن رذائل الأخلاق وذمائم الأوصاف ؛ إذ (١) العلم عبادة القلب وصلاته ، وكما لا تصحّ الصلاة التي هي وظيفة الجوارح الظاهرة إلّا بتطهير الظاهر (٢) من الأخباث والأحداث ، كذلك لا تصحّ عبادة القلب وصلاته إلّا بعد طهارته عن أخباث الأخلاق وأنجاس الأوصاف) (٣) انتهى.

أقول : انظر أيّدك الله تعالى إلى ما عليه العلماء من الأفراد في هذا الخبر وإلى الفرد المختار منها ، وهو ما ذكره الشيخ المذكور ـ توجّه الله تعالى بتاج من النور ـ بقوله : (وبالجملة) إلى آخره. وحينئذ ، فكيف لا يحتاج إلى معرفة هذا الفرد من بين هذه الأفراد وتمييزه من بينها ، كما هو المقصود من سوق ذلك الخبر والمراد؟

وقال شيخنا الشهيد الثاني ـ طيب الله تعالى مرقده ـ في الكتاب المذكور آنفا ، بعد ذكر جملة من الأخلاق النفسانية الّتي تجب المحافظة عليها فعلا أو تركا ما صورته : (والغرض من ذكرها هاهنا تنبيه العالم والمتعلم على اصولها ليتنبّه لها ارتكابا واجتنابا على الجملة. وهي وإن اشتركت بين الجميع إلّا إنها فيهما أولى ، فلذلك جعلناها من وظائفهما ؛ لأن العلم كما قاله بعض الأكابر : (عبادة القلب وعمارته ، وصلاة السر ، وكما لا تصح الصلاة التي هي وظيفة الجوارح إلّا بعد تطهيرها من الأحداث والأخباث ، فكذلك لا تصحّ عبادة الباطن إلّا بعد تطهيره

__________________

(١) سقط في «ح».

(٢) إلّا بتطهير الظاهر ، سقط في «ح».

(٣) الأربعون حديثا : ٤٢٨ ـ ٤٢٩ / شرح الحديث : ٣٦.


من (١) خبائث الأخلاق) (٢) ، ونور العلم لا يقذفه الله في القلب المتنجّس بالكدورات النفسيّة والأخلاق الذميمة ، كما قال الصادق عليه‌السلام : «ليس العلم بكثرة التعلّم ، وإنما هو نور يقذفه الله في قلب من يريد أن يهديه» (٣).

ونحوه قال ابن مسعود : (ليس العلم بكثرة الرواية ، إنما العلم نور يقذفه الله في القلب) (٤) ، وبهذا يعلم أن العلم (٥) ليس مجرد استحضار المعلومات الخاصة وإن كانت هي العلم في العرف العامي ، وإنما هو النور المذكور الناشئ من ذلك العلم الموجب للبصيرة والخشية لله تعالى كما تقدم تقريره) (٦) انتهى.

وقال أيضا قدس‌سره في الكتاب المشار إليه بعد ذكر اشتراط الإخلاص في العلم ، ونقل جملة من الأخبار في هذا المعنى ما لفظه : (فصل : هذه الدرجة ـ وهي درجة الإخلاص ـ عظيمة المقدار ، كثيرة الأخطار ، دقيقة المعنى ، صعبة المرتقى ، يحتاج طالبها إلى نظر دقيق وفكر صحيح ومجاهدة تامة ، وكيف لا يكون كذلك وهو مدار القبول ، وعليه يترتّب الثواب ، وبه تظهر ثمرة عبادة العابد [وتعب العالم] (٧) وجد المجاهد؟ ولو فكر الإنسان في نفسه ، وفتش (٨) حقيقة عمله لوجد الإخلاص فيه قليلا ، وشوائب الفساد إليه متوجهة ، والقواطع عليه متراكمة ، سيّما المتّصف بالعلم وطالبه فإن الباعث الأكثري ـ سيّما في الابتداء لباغي العلم ـ طلب الجاه والمال والشهرة وانتشار الصيت ، ولذة الاستيلاء ، واستثارة الحمد

__________________

(١) قوله : والأخباث .. تطهيره من ، سقط في «ح».

(٢) إحياء علوم الدين ١ : ٤٨.

(٣) مشكاة الأنوار : ٥٦٣ / ١٩٠١ ، علم اليقين ١ : ٨ ، بحار الأنوار ١ : ٢٢٥ / ١٧.

(٤) إحياء علوم الدين ٤٩.

(٥) من «ح» والمصدر.

(٦) منية المريد : ١٦٧ ـ ١٦٨.

(٧) من المصدر ، وفي «ح» : نصب الغافل ، وفي «ق» : تعب الغافل.

(٨) في «ح» بعدها : عن.


والثناء ، وربما يلبس الشيطان عليهم مع ذلك ويقول لهم : غرضكم نشر دين الله والنضال عن الشرع الذي شرعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والمظهر لهذه المقاصد يتبين عند ظهور أحد من الأقران أكثر علما منه وأحسن حالا بحيث يصرف الناس عنه ، فلينظر حينئذ فإن كان حاله مع الموقّر له والمعتقد لفضله أحسن ، وهو له أكثر احتراما وبلقائه أشدّ استبشارا ممّن يميل إلى غيره ، مع كون ذلك الغير مستحقا للموالاة ، فهو مغرور ، وعن دينه (١) مخدوع ، وهو لا يدري كيف ، وربما انتهى الأمر بأهل العلم إلى أن يتغايروا تغاير النساء ، فيشق على أحدهم [أن] يختلف بعض تلامذته إلى غيره وإن كان يعلم أنه منتفع بغيره ومستفيد منه في دينه. هذا رشح الصفات المهلكة المستكنة في سر القلب التي يظن العالم النجاة منها ، وهو مغرور في ذلك ، وإنما ينكشف بهذه العلامات ونحوها ، ولو كان الباعث له على العلم هو الدين لكان إذا ظهر غيره شريكا أو مستبدّا أو معينا على التعليم لشكر الله ، إذ كفاه وأعانه على هذا المهمّ بغيره وكثّر أوتاد الأرض ومرشدي (٢) الخلق ومعلميهم (٣) دين الله تعالى ومحيي سنن المرسلين) (٤).

ثم أطال في ذلك المقال إلى أن قال : (وبالجملة ، فمعرفة حقيقة الإخلاص والعمل به بحر عميق يغرق فيه الجميع الشاذ النادر المستثنى [في] (٥) قوله تعالى : (إِلّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٦). فليكن العبد شديد التفقد والمراقبة لهذه الدقائق ، وإلّا التحقق بأتباع الشياطين ، وهو لا يشعر) (٧) انتهى.

__________________

(١) في «ح» : عن ذنبه ، بدل : وعن دينه.

(٢) في «ح» : مرشد.

(٣) في «ح» : معلمهم.

(٤) منية المريد : ١٤٢ ـ ١٤٣.

(٥) من المصدر ، وفي النسختين : من.

(٦) الحجر : ٤٠ ، ص : ٨٣.

(٧) منية المريد : ١٤٦.


فانظر ـ أيدك الله تعالى ـ إلى صعوبة المقام ، وخطره التام ، وتدبر في كلمات هؤلاء الأعلام ، وهل كلامه عليه‌السلام في الخبر المبحوث عنه إلّا على نحو هذه الكلمات من بيان ما ينبغي أن يكون عليه العالم الحقيقي من الصفات؟

وقال بعض الفضلاء : (ولا تظنن أن ترك المال يكفي للّحوق بعلماء الآخرة ، فإن الجاه أضرّ من المال ، ولذلك قيل (١) : حدثنا باب من أبواب الدنيا ، فإذا سمعت الرجل يقول : حدثنا فإنما يقول : أوسعوا لي. وقيل : فتنة الحديث أشدّ من فتنة الأهل والمال والولد. وقيل : العلم كله دنيا والآخرة منه العمل به ، والعمل (٢) كله هباء إلّا الإخلاص.

قال عيسى عليه‌السلام : «كيف يكون من أهل العلم من [مسيره إلى آخرته] (٣) وهو مقبل على دنياه؟ وكيف يكون من أهل العلم من يطلب العلم ليخبر به لا ليعمل به؟» (٤).

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «من طلب علما مما يبتغى به وجه الله تعالى ليصيب به غرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة» (٥).

وقد وصف الله عزوجل علماء السوء بأكل الدنيا بالعلم ، ووصف علماء الآخرة بالخشوع والزهد ، فقال في علماء الدنيا (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) (٦) ، وقال في علماء الآخرة (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) (٧).

__________________

(١) في المصدر : ولذلك قال بشر.

(٢) في «ح» بعدها : به.

(٣) من المصدر ، وفي النسختين : يكون سبيله إلى الفرقة.

(٤) انظر : الكافي ٢ : ٣١٩ / ١٣ ، باب حب الدنيا والحرص عليها ، منية المريد : ١٤١ ، بحار الأنوار ٢ : ٣٨ ـ ٣٩ / ٦٦.

(٥) منية المريد : ١٣٤ ، بحار الأنوار ٢ : ٣٨ / ٥٨ ، سنن أبي داود ٣ : ٣٢٣ / ٣٦٦٤.

(٦) آل عمران : ١٨٧.

(٧) آل عمران : ١٩٩.


وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «أوحى الله إلى بعض الأنبياء : قل للذين يتفقهون لغير الدين ، [ويتعلّمون] (١) لغير العمل ، ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة ، ويلبسون للناس ، قلوبهم كقلوب الذئاب ، وألسنتهم أحلى من العسل ، وقلوبهم أمرّ من الصبر : إياي تخادعون ، وبي تستهزءون؟ لأفتحن لهم فتنة تذر الحليم حيران») (٢) انتهى.

وفي كتاب (مصباح الشريعة) عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : «العالم حقا هو الذي تنطق عنه أعماله الصالحة وأوراده الزاكية وصدقه وتقواه ، لا لسانه وتطاوله في دعواه.

ولقد كان يطلب هذا العلم في غير هذا الزمان من كان فيه عقل ونسك وحكمة وحياء وخشية ، وإنا نرى طالبه اليوم من ليس فيه من ذلك شي‌ء ، والعالم يحتاج إلى عقل ورفق وشفقة ونصح وحلم وصبر وبذل ، والمتعلم يحتاج إلى رغبة وإرادة وفراغ ونسك وخشية وحفظ وحزم» (٣) انتهى.

وقال بعض الأجلّاء في وصف علماء الآخرة : (ومنها أن يكون عنايته بتحصيل العلم النافع في الآخرة المرغب في الطاعة ، مجتنبا للعلوم التي يقل نتجها ويكثر فيها الجدال والقيل والقال ، [فمثال] (٤) من يعرض عن علم الأعمال ، ويشتغل بالجدال ، مثل رجل مريض به علل كثيرة وقد صادف طبيبا حاذقا في وقت ضيّق يخشى فواته ، فاشتغل بالسؤال عن خاصية العقاقير والأدوية وغرائب الطب وترك مهمه الذي هو مؤاخذ به ، وذلك محض السفه. وقد روي أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له : علمني من غرائب العلم. فقال له : «ما صنعت في رأس العلم؟». قال : وما رأس العلم؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «هل عرفت الرب؟». قال : نعم. قال : «وما صنعت في حقّه؟». قال : ما شاء الله. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «هل عرفت الموت؟». قال : نعم.

__________________

(١) من المصدر ، وفي النسختين : ويعلمون.

(٢) إحياء علوم الدين ١ : ٦١ ـ ٦٢.

(٣) مصباح الشريعة : ١٤ ـ ١٥.

(٤) من المصدر ، وفي المخطوط : فمثل.


قال : «فما أعددت له؟». قال : ما شاء الله. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اذهب فاحكم ما هنالك ، ثم تعال نعلمك غرائب العلم» (١)) (٢) انتهى.

وقال المحدّث (٣) الكاشاني في بعض رسائله : (إن من أهل الشقاء لمن يبطن شقاءه فيلتبس أمره على الذين لا يعلمون. ثم إنه ليتوغل في الخفاء لتوغله في الشقاء ، فيذهب على الألباء اولي الذكاء ، حتى إنهم يحسبون أنهم مهتدون لشدة الشبه بين الفريقين ، وكثرة الشبه في النجدين ، وليس النفاق بالإذعان لمكان النفاق في نوع الإنسان. وكلّما كان أحد المتقابلين من الآخر أبعد كان الاشتباه أكثر وأشد ؛ فإن أرباب الرئاسة الدينيّة أمرهم في الأغلب غير مبين ؛ لمكان المرائين. وهذه هي المصيبة الكبرى في الدين ، والفتنة العظمى لبيضة المسلمين ، وهي التي أوقعت الجماهير في الحرج ، وأمالتهم عن سبيل المخرج ؛ إذ من الواجب اتباع الأذناب للرأس ، والرأس قد خفي في نفاق الناس ؛ ولأجل ذلك تقاتل التي تبغي حتى تفي‌ء إلى أمر الله) انتهى.

أقول : انظر إلى اندماج هذا الكلام على ما دل عليه ذلك الخبر من الاحتياج في تحصيل العالم الحقيقي إلى مزيد البحث والنظر ، وعدم الاكتفاء بمجرد ما ظهر وإن اشتهر.

ثمّ أقول : وممّا يؤيد ما ذكرناه ويؤكده ما سطرناه ما استفاض من الأخبار في وصف المؤمن ، وما ورد في وصف الشيعة ، وكفاك في ذلك حديث همام الذي رواه جملة من علمائنا الأعلام (٤).

__________________

(١) التوحيد : ٢٨٤ ـ ٢٨٥ / ٥ ، ولم ينقله بتمامه.

(٢) إحياء علوم الدين ١ : ٦٥.

(٣) في «ح» بعدها : المحسن.

(٤) انظر : نهج البلاغة : ٤٠٩ / الخطبة : ١٩٣ ، الكافي ٢ : ٢٢٦ ـ ٢٣٠ / ١ ، باب المؤمن وعلاماته ، الأمالي (الصدوق) : ٦٦٢ / ٦٧٠ / ١٨٩٦ ، بحار الأنوار ٦٤ : ٣٤١ ـ ٣٤٥ / ٥١.


ومن ذلك ما رواه في (الكافي) بسنده عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «المؤمن له قوة في دين ، وحزم في لين ، وإيمان في يقين ، وحرص في فقه ، ونشاط في هدى ، وبرّ في استقامة ، وعلم في حلم ، وكيس في رفق ، وسخاء في حقّ ، وقصد في غنى ، وبخل في فاقة ، وعفو في قدرة ، وطاعة لله في نصيحة ، وانتهاء في شهوة ، وورع في رغبة ، وحرص في جهاد ، وصلاة في شغل ، وصبر في شدّة. وفي الهزاهز وقور ، وفي (١) المكاره صبور ، وفي الرّخاء شكور. ولا يغتاب ، ولا يتكبّر ، ولا يقطع الرحم ، وليس بواهن ، ولا فظّ ، ولا غليظ ، لا يسبقه بصره ، ولا يفضحه بطنه ، ولا يغلبه فرجه ، ولا يحسد الناس ، يعيّر ولا يسوّف (٢) ، ينصر المظلوم ، ويرحم المسكين. نفسه منه في عناء ، والناس منه في راحة ، لا يرغب في عزّ الدنيا ، ولا يجزع من ذلها. للناس همّ قد أقبلوا عليه ، وله همّ قد شغله. لا يرى في حكمه نقص ، ولا في رأيه وهن ، ولا في دينه ضياع. يرشد من استشاره ، ويساعد من ساعده ، ويكيع عن الخنا والجهل» (٣).

وروى في الكتاب المذكور بسنده عنه عليه‌السلام : «شيعتنا الشاحبون (٤) الذابلون الناحلون ، الذين إذا جهنّم الليل استقبلوه بحزن» (٥).

وروى فيه أيضا بسنده عنه عليه‌السلام قال : «إيّاك والسفلة ، فإنما شيعة علي من عف بطنه وفرجه ، واشتدّ جهاده ، وعمل لخالقه ، ورجا ثوابه ، وخاف عقابه ، فإذا رأيت أولئك فاولئك شيعة جعفر» (٦).

__________________

(١) من «ح».

(٢) في «ح» : يسرف.

(٣) الكافي ٢ : ٢٣١ / ٤ ، باب المؤمن وعلاماته وصفاته.

(٤) في «ح» : السائحون ، وفي هامش «ح» ورد ما يلي : وفي بعض النسخ بالشين المعجمة ، وتقديم المهملة على الموحّدة. والشحبة : تغيّر اللون والهزال ، الذابل : اليابس الشفة ، والناحل : من ذهب جسمه من مرض ونحوه. (هامش «ح»).

(٥) الكافي ٢ : ٢٣٣ / ٧ ، باب المؤمن وعلاماته وصفاته.

(٦) الكافي ٢ : ٢٣٣ / ٩ ، باب المؤمن وعلاماته وصفاته.


وروى فيه أيضا بسنده عنه عليه‌السلام قال : «إن شيعة عليّ كانوا خمص (١) البطون ، ذبل الشفاه ، أهل رأفة وعلم وحلم ، يعرفون بالرهبانية ، فأعينوا على ما أنتم عليه بالورع والاجتهاد» (٢).

وروى فيه أيضا بسنده عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إنما شيعة عليّ الحلماء العلماء ، الذبل الشفاه ، تعرف الرهبانية على وجوههم» (٣).

وروى فيه أيضا بسنده إلى المفضّل بن عمر عن أبي عبد الله قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إذا أردت أن تعرف أصحابي ، فانظر إلى من اشتدّ ورعه ، وخاف خالقه ، ورجا ثوابه. فإذا رأيت هؤلاء فهؤلاء أصحابي» (٤).

إلى غير ذلك من الأخبار (٥) المتكاثرة والآثار المتضافرة. وهذه الأخبار وإن كانت محمولة على كل المؤمنين والشيعة ، إلّا إنه يجب بطريق الأولوية أن يكون النائب عنهم عليه‌السلام والخليفة القائم مقامهم في جملة الأحكام من المتصفين بتلك الأوصاف الشريفة والأخلاق المنيفة ، بل المتقدّمين فيها والسابقين إليها والفرد الأعلى فيها.

تذنيب : في حديث عنوان البصري

نقل شيخنا المجلسي ـ عطر الله مرقده ـ في (بحار الأنوار) قال : (وجدت بخط شيخنا البهائي ـ قدس الله روحه ـ ما هذا لفظه : قال الشيخ شمس الدين محمد بن مكي : نقلت من خط الشيخ أحمد الفراهاني رحمه‌الله عن عنوان البصري (٦) ـ

__________________

(١) خماص البطن : كناية عن قلة الأكل ، والقصد : عن أكل أموال الناس. (س) ، (هامش «ح»).

(٢) الكافي ٢ : ٢٣٣ / ١٠ ، باب المؤمن وعلاماته وصفاته.

(٣) الكافي ٢ : ٢٣٥ / ٢٠ ، باب المؤمن وعلاماته وصفاته.

(٤) الكافي ٢ : ٢٣٦ / ٢٣ ، باب المؤمن وعلاماته وصفاته.

(٥) انظر الكافي ٢ : ٢٣٦ ـ ٢٤١ / ٢٤ ـ ٣٩ ، باب المؤمن وعلاماته وصفاته.

(٦) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : الفهري.


وكان شيخا كبيرا قد أتى عليه أربع وتسعون سنة ـ قال : كنت أختلف إلى مالك ابن أنس سنين ، فلما قدم جعفر الصادق عليه‌السلام المدينة اختلفت إليه ، وأحببت أن آخذ عنه كما أخذت عن مالك ، فقال لي يوما : «إنّي رجل مطلوب ، ومع ذلك لي أوراد في كل ساعة من آناء الليل والنهار ، فلا تشغلني عن وردي ، وخذ عن مالك واختلف إليه كما كنت تختلف إليه».

فاغتممت من ذلك وخرجت من عنده ، وقلت في نفسي : لو تفرس فيّ خيرا لما زجرني عن الاختلاف إليه والأخذ عنه. فدخلت مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمت عليه ، ثم رجعت من الغد إلى الروضة وصليت فيها ركعتين ، وقلت : أسألك يا الله يا الله أن تعطّف عليّ (١) قلب جعفر ، وترزقني من علمه ما أهتدي به إلى صراطك المستقيم. ورجعت إلى داري مغتمّا ، ولم أختلف إلى مالك بن أنس لما اشرب قلبي من حبّ جعفر ، فما خرجت من داري إلّا إلى الصلاة المكتوبة ، حتى عيل صبري ، فلما ضاق صدري تنعلت وترديت ، وقصدت جعفرا. وكان بعد ما صليت العصر ، فلما حضرت باب داره استأذنت عليه ، فخرج خادم له فقال : ما (٢) حاجتك؟ فقلت : السّلام على الشريف. فقال : هو قائم في مصلّاه.

فجلست بحذاء بابه ، فما لبثت إلّا يسيرا ، إذ خرج خادم ، فقال : ادخل على بركة الله. فدخلت وسلمت عليه ، فردّ السّلام وقال : «اجلس غفر الله لك». فجلست ، فأطرق مليّا ، ثم رفع رأسه فقال : «أبو من؟». قلت : أبو عبد الله. قال : «ثبت الله كنيتك ، ووفقك يا أبا عبد الله ، ما مسألتك؟».

فقلت في نفسي : لو لم يكن لي من زيارته والتسليم عليه غير هذا الدعاء لكان كثيرا. ثم رفع رأسه ، فقال : «ما مسألتك؟». فقلت : سألت الله أن يعطّف قلبك علي ،

__________________

(١) سقط في «ح».

(٢) من «ح».


ويرزقني من علمك وأرجو أن الله تعالى أجابني في الشريف ما سألته. فقال : «يا أبا عبد الله ، ليس العلم بالتعلم إنما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه ، فإن أردت العلم ، فاطلب أولا في نفسك حقيقة العبودية ، واطلب العلم باستعماله ، واستفهم الله يفهمك». قلت : يا شريف. فقال : «قل : يا أبا عبد الله» : قلت : يا أبا عبد الله (١) ما حقيقة العبودية؟ قال : «ثلاثة أشياء : ألا يرى العبد [لنفسه فيما] (٢) خوّله الله ملكا ؛ لأن العبيد لا يكون لهم ملك ، يرون المال مال الله يضعونه حيث أمرهم الله به ، ولا يدبر العبد لنفسه تدبيرا ، وجملة اشتغاله فيما أمره الله تعالى به ونهاه عنه. فإذا لم ير العبد لنفسه فيما خوّله الله تعالى ملكا هان عليه الإنفاق فيما أمره الله تعالى أن ينفق فيه ، فإذا فوض العبد تدبير نفسه على مدبره هان عليه مصائب الدنيا ، وإذا اشتغل العبد بما أمره الله تعالى ونهاه ، لا يتفرّغ منهما (٣) إلى المراء والمباهاة مع الناس.

فإذا أكرم الله العبد بهذه الثلاثة هان عليه الدنيا وإبليس والخلق ، ولا يطلب الدنيا تكاثرا وتفاخرا ، ولا يطلب ما عند الناس عزّا وعلوّا ، ولا يدع أيامه باطلا ، فهذا أول درجة التقى ، قال الله تعالى (تِلْكَ الدّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (٤)».

قلت يا أبا عبد الله ، أوصني. قال : «أوصيك بتسعة أشياء فإنها وصيتي لمريدي الطريق إلى الله تعالى ، والله أسأل أن يوفّقك لاستعماله : ثلاثة منها في رياضة النفس ، وثلاثة منها في الحلم ، وثلاثة منها في العلم فاحفظها وإياك والتهاون بها».

قال عنوان : ففرغت قلبي له. فقال : «أما اللواتي في الرياضة ، فإياك أن تأكل مالا تشتهيه ، فإنه يورث الحماقة والبله. ولا تأكل إلّا عند الجوع. وإذا أكلت فكل حلالا ، وسم

__________________

(١) قلت : يا أبا عبد الله ، سقط في «ح».

(٢) من المصدر ، وفي النسختين : في نفسه لما.

(٣) في «ح» : يفزع منها ، بدل : يتفرّغ منهما.

(٤) القصص : ٨٣.


الله ، واذكر حديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما ملأ آدمي وعاء شرّا من بطنه ، فإن كان ولا بدّ فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه.

وأما اللواتي في الحلم ، فمن قال لك : إن قلت واحدة سمعت عشرا ، فقل : إن قلت عشرا لم تسمع واحدة. ومن شتمك فقل له : إن كنت صادقا فيما تقول فأسأل الله أن يغفر لي ، وإن كنت كاذبا فيما تقول فأسأل الله أن يغفر لك. ومن وعدك بالخيانة ، فعده بالنصيحة والدعاء.

وأما اللواتي في العلم ، فاسأل العلماء ما جهلت ، وإياك أن تسألهم تعنتا وتجربة ، وإياك أن تعمل برأيك شيئا. وخذ بالاحتياط في جميع ما تجد إليه سبيلا. واهرب من الفتيا هربك من الأسد ، ولا تجعل رقبتك للناس جسرا. قم عنّي يا أبا عبد الله ، فقد نصحت لك ولا تفسد عليّ وردي ؛ فإني امرؤ ضنين بنفسي ، والسّلام على من اتبع الهدى») (١).

تلخيص

قد استفيد من الخبر المذكور بمعونة ما ذكرنا من الأخبار وكلام (٢) علمائنا الأبرار امور : الأوّل (٣) : أنه لا يكتفى في الحكم بعدالة الفقيه وجواز تقليده والأخذ بفتياه وقبول أحكامه بعد اتّصافه بهذه العلوم الرسميّة ـ وإن كان فيها صاحب اليد الطولى والدرجة العليا والمرتبة القصوى ـ بمجرد الملكة على القول بها ، أو حسن الظاهر على القول الآخر والإسلام على القول الثالث ، بل لا بدّ من معرفة اتّصافه بعلوم الأخلاق النفسيّة من الملكات الصالحة الزكية و [اجتناب] (٤) المهلكات الردّية.

__________________

(١) بحار الأنوار ١ : ٢٢٤ ـ ٢٢٦.

(٢) في «ح» : كلمات.

(٣) في «ح» أ .. و، بدل : الأوّل .. السادس.

(٤) في النسختين : الاجتناب من.


الثاني : أن العلم الذي وردت بمدحه الآيات القرآنية والأخبار المعصومية ، والثناء على من اتصف به إنّما هو علم الأخلاق ، وهو العلم الموجب للفوز والقرب من الملك الخلّاق ، لا علم السلم والإجارة والسبق والرماية والنكاح والطلاق وإن كانت هذه العلوم وأمثالها فاضلة شريفة وواجبة كفاية إلّا إن حصول الشرف لصاحبها إنّما يتمّ بانضمام ذلك العلم لها ، وإلّا فهي بدونه إنما تكون على صاحبها وبالا وبعدا من الله تعالى ونكالا.

الثالث : شدة خطر هذا المقام ـ أعني : مقام الحكم والفتوى ـ وأنه في الدرجة العالية القصوى ، وهو مقام لا ينال بالتمنّي ، ولا يحصل بالتظني (١). فلا تغتر أيّها الطالب لنفائس المطالب ، وتحصيل ما هو الحق والواجب بكثرة المتصدرين في (٢) هذا المقام والناصبين أنفسهم للأنام وعكوف من عكف عليهم من الجهّال الذين هم كالأنعام. وقد سمعت ما تكرّر من كلام المحقّق الشارح المازندراني في معنى تلك الأخبار ، وما تكرر في كلام شيخنا الشهيد الثاني وأمثاله من علمائنا الأبرار ، وما وشّحنا به ذلك من الروايات الجارية في هذا المضمار.

الرابع : كثرة من تلبّس في هذه الصناعة بهذا اللباس من أتباع الوسواس الخناس ، حتى صار تمييز العالم الحقيقي في قالب الخفاء والالتباس. ومما يؤكد ذلك زيادة على ما قدّمناه ما رواه في كتاب (الاحتجاج) (٣) وهو في (تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام) ، حيث قال عليه‌السلام بعد ذمّ تقليد الشّيعة لفسقة علمائهم ، وأنهم مثل اليهود في تقليدهم لعلمائهم ما صورته : «فإمّا من كان من الفقهاء صائنا نفسه ، حافظا لدينه ، مخالفا على هواه مطيعا لمولاه ، فللعوام أن يقلدوه. وذلك لا يكون إلّا بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم ؛ فإن من ركب من القبائح والفواحش مركب فسقة

__________________

(١) كذا في النسختين.

(٢) سقط في «ح».

(٣) الاحتجاج ٢ : ٥١١ ـ ٥١٢ / ٣٣٧.


[فقهاء] العامّة ، فلا تقبلوا منهم عنّا شيئا ولا كرامة ، وإنّما كثر التخليط فيما يتحمّل عنا أهل البيت لذلك ؛ لأن الفسقة يتحمّلون عنا فيحرّفونه بأسره لجهلهم ، ويضعون الأشياء على غير وجهها لقلة معرفتهم» (١) الحديث.

الخامس : أن التمييز يحتاج إلى نظر دقيق وفكر جيّد عميق ، كما دلّ عليه الخبر ، وإليه يشير كلام المحدث المحسن الكاشاني المتقدّم نقله (٢) ، هذا فيما تقدّم من الزمان المملوء بالعلماء والفضلاء والأعيان ، وأما مثل أوقاتنا الآن فالأمر أظهر من أن يحتاج إلى تمييز (٣) وبيان ، حيث إن الناس لضعف اليقين والإيمان والحرص على تحصيل المطالب الدنيويّة كائنا ما كان لا يبالون عمّن يأخذون وعلى من يعتمدون ، ومن أمثالهم القبيحة : (قلد عالما واخرج سالما) وإن عرفوا من علمائهم الّذين يقلدونهم العمل بخلاف الدين ، والخروج عن حدود شريعة سيّد المرسلين.

ومن أجل ذلك رفع أكثر علمائهم الحجاب ، و [كشفوا] (٤) النقاب ورضوا لأنفسهم بما رضيه (٥) الجهّال ، وقنعوا به منهم من الفعال والمقال ، وأكثر ذلك وقوعا في بلدان العجم التي قد آلت به إلى الاضمحلال والعدم من إرجاع الامور الشرعية والأحكام الإلهية إلى كل من نصبه لهم حكام الجور بعنوان القاضي ، وشيخ الإسلام المبنية أحكامهم على الرشا ، زيادة على ما هم عليه من الجهل بين جملة الأنام.

وهؤلاء من جملة من أشار إليهم الإمام العسكري عليه‌السلام وشبّههم بمقلدة اليهود ، حيث قال عليه‌السلام بعد ذكر مقلدة اليهود : «وكذلك عوام أمتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق

__________________

(١) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٣٠٠ / ١٤٣.

(٢) انظر الدرر ٢ : ٧٧.

(٣) في «ح» : تميّز.

(٤) في النسختين : كشف.

(٥) في «ح» : بارضية.


الظاهر والعصبية الشديدة ، والتكالب على حطام الدنيا وحرامها ، وإهلاك من يتعصّبون عليه وإن كان لإصلاح أمره مستحقا ، وبالترفق بالبر والإحسان على من تعصبوا له وإن كان للإذلال والإهانة مستحقا ، فمن قلد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء ، فهو مثل اليهود الذين ذمّهم الله تعالى بالتقليد لفسقة علمائهم» (١) الحديث.

السادس : تعدد الأفراد لتعدّد المواد ؛ فمنهم من ليس له من العلم إلا اسمه ، وإنما هو متكلف جاهل وإن تسربل بالخضوع وأظهر التذلل والخشوع ، ومنهم العالم الخالي من التقوى ، ومنهم من هو عالم محافظ على الورع من المعايب التي توجب النزول عن أعين الخلق دون ما يوجب النزول من عين الحق ، ومنهم من هو محافظ على الورع عن الجميع غير أنه محبّ للرئاسات الدنيوية والتصدر على غيره من البرية يتوهم أن هذا أمر جائز له شرعا لما هو عليه من العلم ، وأن في ذلك إعزازا للعلم ورفعة (٢) لشأنه. وهذا هو البلاء العام الذي لا يكاد ينجو منه إلّا من أيّده الله منه بالاعتصام وقليل ما هم في الأنام.

ومما يرسّخ (٣) فساد هذا الوهم ويبين أنه من أقبح الأوهام ما رواه ثقة الإسلام (٤) وغيره (٥) من الأعلام عن محمّد بن سنان رفعه قال : قال عيسى بن مريم : «يا معشر الحواريين ، لي إليكم حاجة فاقضوها» ، قالوا : قضيت حاجتك يا روح الله. فقام ، [فغسل] (٦) أقدامهم ، فقالوا : كنا نحن (٧) أحقّ بهذا يا روح الله.

فقال : «إنّ أحق الناس بالخدمة العالم ، إنما تواضعت لكم لكيما تتواضعوا [بعدي] في الناس كتواضعي لكم».

__________________

(١) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري : ٣٠٠ / ١٤٣ ، الاحتجاج ٢ : ٥١١ / ٣٣٧.

(٢) في «ح» : رفقة.

(٣) في «ح» : يوضح.

(٤) الكافي ١ : ٣٧ / ٦ ، باب صفة العلماء.

(٥) منية المريد : ١٨٣.

(٦) من المصدر ، وفي النسختين : فقبل.

(٧) من «ح» والمصدر.


قال عيسى عليه‌السلام : «بالتواضع تعمر (١) الحكمة لا بالتكبر ، وكذلك في السهل ينبت الزرع لا في الجبل».

ومنهم من هو كامل في التقوى والورع ، ولكنه قاصر في العلوم واستنباط الأحكام ، ويظنّ أن ما يؤدّي إليه فهمه كاف في صحة دخوله في هذا المقام وقيامه به حقّ القيام ، وإليه يشير كلام شيخنا البهائي في القسم الثاني من شرح حديث كميل كما قدمنا نقله (٢) ، ويشير إليه هذا الخبر بقوله : «فرويدا لا يغرنكم حتى تنظروا ما عقله فما أكثر من ترك ذلك أجمع ، ثم لا يرجع إلى عقل متين فيكون ما يفسده بجهله أكثر مما يصلحه بفعله».

إلى غير ذلك من الأفراد (٣) التي لا يكاد يحصيها قلم التعداد ، والفرد المطلوب من بينها والمراد أقل قليل ، وهي صفة لكل شريف وجليل. وهذا في الأعصار المتقدمة ، وأما الآن فربما لا يكاد يوجد إلّا أن يكون في أعيان مبهمة.

ومما يعضد ما قلناه ما ذكره شيخنا الشهيد الثاني في كتابه المتقدم ذكره بعد ذكر الأمر ببذل الوسع في تكميل النفس ما صورته : (فإن العالم الصالح في هذا الزمان بمنزلة نبي من أنبياء بني إسرائيل ، بل هم في هذا الزمان أعظم ؛ لأن أنبياء بني إسرائيل كان يجتمع منهم في العصر الواحد ألوف ، والآن لا يوجد من العلماء إلّا الواحد بعد الواحد) (٤) انتهى.

فإذا كان هذه حال العلماء في زمانه قدس‌سره ، فمنه يعلم حال علماء هذا الزمان بالمقايسة.

وبالجملة ، فالفطن اللبيب والموفق المصيب إذا دقق النظر في هذا المقام ، وجده

__________________

(١) في «ح» : تعم.

(٢) انظر الدرر ٢ : ٧١ ـ ٧٢.

(٣) من «ح» ، وفي «ق» : الأخبار. وهو إشارة إلى أفراد العلماء الذين شرع بذكرهم في أوّل الأمر السادس.

(٤) منية المريد : ١٨٢.


من أعظم من مزالّ الأقدام ومداحض الأفهام ، وقلّ من وفق للنهوض به والقيام حق القيام ، ولا سيما في مثل هذه الأيام التي قد اندرست فيها معالم الإسلام ، وطمست رسوم الدّين المبين وعفت آثاره بين الأنام بتلبّس المفسدين بلباس العلماء الأعلام ، وتصدّرهم للنقض والإبرام في كلّ حلال وحرام. قال شيخنا الشهيد الثاني قدس‌سره في كتاب (منية المريد) بعد ذكر النهي عن المراء والجدل ، ونقل ما ورد في ذمه من الأخبار وذكر معائبه وقبائحه ما لفظه : (ومن خالط متفقهة هذا الزمان والمتسمّين بالعلم ، غلب على طبعه المراء والجدل ، وعسر عليه الصمت إذا ألقى إليه قرناء السوء. أن ذلك هو الفضل ، ففر منهم فرارك من الأسد) (١) انتهى.

فإذا كان هذا وأمثاله في متفقهة تلك الأزمان ، فبالأحرى وقوع أضعافه وأضعاف أضعافه الآن ؛ لما علم من تنزل الزمان وتسافله في جميع المراتب التي لا يحيط بها (٢) قلم البيان ، نسأل الله تعالى تعجيل الفرج وإزالة هذه الرتج بظهور صاحب الزمان والعصر ، أمدّه الله تعالى بالتأييد والنصر.

ولرب ناظر فيما ذكرناه في هذه الدرة بعينه العوراء ممن عادته في جميع أحواله التدليس والتلبيس والجدال والمراء ، يحمله طبعه المهيض ، وطرفه المريض على المقابلة لما ذكرناه بالاستبعاد واللدد والعناد. والسبب في ذلك إنما هو ضيق المسلك عليه والطريق ، وحرمانه من التوفيق بالشرب بذلك المشرب الرحيق ، وتسهيل الأمر على نفسه في التصدّر لذلك المقام والرئاسة على العوام.

ولا أظنك بعد التأمّل فيما شرحناه ، والنظر فيما أوضحناه تستريب في بعد ما ذكره شيخنا قدس‌سره في ذيل الخبر من التأويل ، وأنه لا اعتماد عليه ولا تعويل. وما

__________________

(١) منية المريد : ١٧٣.

(٢) في «ح» : يحيطها ، بدل : يحيط بها.


ذكره من القرائن التي اعتمدها للحمل على الإمام عليه‌السلام ، فإن مثلها وأمثالها ورد في حق المؤمن الصالح والمجاهد المناصح ، وكفاك (١) الحديث القدسي وقوله سبحانه : «إن العبد ليتقرب إليّ بالنوافل» (٢) إلى آخر الحديث.

وأبعد من ذلك قوله : (إن غرضه الردّ على الزيدية ومن حذا حذوهم) ، وأين الزيدية في أيام علي بن الحسين عليهما‌السلام؟ وغاية استبعاده قدس‌سره : أن تلك الصفات لا تحصل (٣) إلّا في الأولياء الكمل.

ولا ريب أن هذا مؤيد لما اخترناه على الوجه الأكمل ؛ فإن النائب عنهم عليهم‌السلام والخليفة الجالس في مجلسهم ومقامهم ، يجب البتّة (٤) أن يكون من الأولياء ، الكمل ، بل الفرد الأعلى في ذلك والأكمل ؛ لما هو معلوم عرفا وشرعا من المناسبة التامة ، والمشابهة الواقعة بين النائب والمنوب عنه ، فلا ينوب عنهم إلا الأكمل من أوليائهم. وقد عرفت بما ذا يحصل ذلك الكمال في الأقوال والأفعال ، والله الهادي لمن يشاء.

__________________

(١) في «ح» : الناصح وكذاك ، بدل : المناصح وكفاك.

(٢) الكافي ٢ : ٣٥٢ / ٧ ، ٨ ، باب من آذى المسلمين واحتقرهم.

(٣) لا تحصل ، من «ح».

(٤) ليست في «ح».


(٢٢)

درة نجفية

في صحة طلاق الحائل المراجعة قبل الدخول بها

من مسائل بعض الأخلّاء الأجلّاء وقد طلب فيها تحقيق الحال على وجه يحيط بأطراف المقال ويندفع به الإشكال ، وهي ما لو طلق الرجل امرأته وهي حائل ثم راجعها ولم يجامعها بعد المراجعة ، فهل يصح طلاقه لها ثانيا بمجرد تلك المراجعة ؛ سواء كان ذلك الطلاق الثاني في الطهر الأول أم في طهر آخر (١)؟

فكتبت له في الجواب مستعينا بمن به الهداية للصواب في كل باب أنه لا خلاف بين الأصحاب فيما أعلم في أنه لو طلق الرجل امرأته الحائل ، ثم راجعها وجامعها ، ثم طلّقها في طهر آخر ، فإن الطلاق الثاني يكون صحيحا ، أما في الصورة المذكورة في السؤال فالمشهور فيها ، بل كاد يكون إجماعا ، هو صحة الطلاق. ونقل عن ابن أبي عقيل رحمه‌الله العدم ، وهذه عبارته على ما نقله عنه جمع من أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ قال رحمه‌الله تعالى : (لو طلّقها من غير جماع بتدنيس (٢) مواقعة بعد الرجعة لم يجز ذلك ، لأنه طلقها من غير أن ينقضي الطهر الأول ، ولا ينقضي الطهر الأول إلّا بتدنيس (٣) المواقعة بعد المراجعة ، وإذا جاز

__________________

(١) في «ح» بعدها : أم لا.

(٢) في «ح» : بتدليس.

(٣) في «ح» : بتدليس.


أن يطلق التطليقة الثانية بلا طهر جاز أن يطلق كل تطليقة بلا طهر ، ولو جاز ذلك لما وضع الله الطهر (١)) (٢) انتهى.

واعترضه شيخنا الشهيد الثاني في ذلك ، فقال بعد نقل عبارته ما صورته : (وإنّما ذكرنا عبارته لاشتمالها على الاستدلال على حكمه ، وبه يظهر ضعف قوله مع شذوذه ؛ فإنا لا نسلم أن الطهر لا ينقضي بدون المواقعة ؛ للقطع بأن تخلل الحيض بين الطهرين يوجب انقضاء الطهر السابق ؛ سواء وقع فيه أم لا. ثم لا نسلم اشتراط انقضاء الطهر في صحة الطلاق مطلقا ، وإنّما الشرط انقضاء الطهر الذي واقعها فيه ، وهو منتف هنا ؛ لأن الطلاق الأوّل وقع بعده في طهر آخر لأنه الفرض فلا يشترط أمر آخر) (٣) انتهى.

__________________

(١) يؤيد ما قلناه ، ويثبت ما سطرناه في دفع كلامه قدس‌سره قول الإمام العسكري عليه‌السلام في تفسير قوله سبحانه (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) (١) ، قال عليه‌السلام «يعني : ممّن يرضون دينه وأمانته وصلاحه وعفّته ، وتيقظه فيما يشهد به وتحصيله وتمييزه ؛ فما كل صالح مميّز ولا محصّل ، ولا كل محصّل مميّز صالح. وإن من عباد الله لمن هو أهل لصلاحه وعفّته لو شهد لم تقبل شهادته لقلة تمييزه ، فإذا كان صالحا عفيفا مميّزا محصّلا مجانبا للمعصية والمراء والميل والتحامل ، فذلك الرجل الفاضل ، فبه فتمسّكوا وبهداه فاقتدوا ، وإن انقطع عنكم المطر فاستمطروا به وإن امتنع [عليكم النبات] (٢) فاستخرجوا به النبات ، وإن تعذّر عليكم الرزق فاستدرّوا به الرزق ؛ فإن ذلك ممّن لا يخيّب طلبه ولا تردّ مسألته» (٣) انتهى.

وهذا [..] (٤) مما تقدم في آخر الحديث المذكور مع أن كلامه إنما هو في حق الشاهد وبيان عدالته وكيفية عدالة الفقيه الجامع لشرائط الفتوى. منه رحمة الله عليه. (هامش «ح»).

(٢) عنه في مختلف الشيعة ٧ : ٣٧٢ ـ ٣٧٣ / المسألة : ٢٣ ، مسالك الأفهام ٩ : ١٣٧.

(٣) مسالك الأفهام ٩ : ١٣٧ ـ ١٣٨.

__________________

١ ـ البقرة : ٢٨٢.

٢ ـ من المصدر ، وفي المخطوط : نبات.

٣ ـ التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٦٧٢ / ٣٧٥.

٤ ـ كلمة غير مقروءة.


أقول : وتحقيق المقام على وجه لا يعتريه نقض ولا إبرام يتوقف على نقل ما ورد من الأخبار في هذا المجال ليتّضح بذلك حقيقة الحال ويندفع به الإشكال ، فنقول : من الأخبار الدالة على ما هو المشهور موثقة إسحاق بن عمار عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : قلت له : رجل طلق امرأته ثم راجعها بشهود ، ثم طلقها ، ثم بدا له فراجعها بشهود ، ثم طلقها [فراجعها] بشهود ، تبين منه؟ قال : «نعم».

قلت : كل ذلك في طهر واحد. قال : «تبين منه (١)» (٢).

وهي صريحة في أن مجرد الرجعة كان في صحة الطلاق ثانيا وإن كان في طهر الطلاق الأوّل.

وصحيحة عبد الحميد بن عواض ومحمد بن مسلم قالا : سألنا أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل طلق امرأته وأشهد على الرجعة ولم يجامع ، ثم طلق في طهر آخر على السنة ، أثبتت التطليقة الثانية من غير جماع؟ قال : «نعم إذا هو أشهد على الرجعة ولم يجامع كانت التطليقة ثانية» (٣). وهي صريحة أيضا في المدّعى ، إلا إن الطلاق الثاني هنا ليس في طهر الطلاق الأوّل.

وصحيحة البزنطي قال : سألت الرضا عليه‌السلام عن رجل طلق امرأته بشاهدين ، ثم راجعها ، ولم يجامعها بعد الرجعة حتى طهرت من حيضها ، ثم طلقها على طهر بشاهدين ، أتقع عليها التطليقة الثانية ، وقد راجعها ولم يجامعها؟ قال : «نعم» (٤).

__________________

(١) من «ح» والمصدر.

(٢) تهذيب الأحكام ٨ : ٩٢ / ٣١٧ ، الاستبصار ٣ : ٢٨٢ / ١٠٠٠ ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٤٤ ، أبواب أقسام الطلاق ، ب ١٩ ، ح ٥.

(٣) تهذيب الأحكام ٨ : ٤٥ / ١٣٩ ، الاستبصار ٣ : ٢٨١ / ٩٩٧ ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٤٣ ـ ١٤٤ ، أبواب أقسام الطلاق ، ب ١٩ ، ح ١.

(٤) تهذيب الأحكام ٨ : ٤٥ / ١٤٠ ، الاستبصار ٣ : ٢٨١ / ٩٩٨ ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٤٣ ـ ١٤٤ ، أبواب أقسام الطلاق ، ب ١٩ ، ح ٢.


وحسنة أبي علي بن راشد قال : سألته مشافهة عن رجل طلق امرأته بشاهدين على طهر ، ثم سافر وأشهد على رجعتها ، فلما قدم طلّقها من غير جماع ، أيجوز ذلك له؟ قال : «نعم قد جاز طلاقها» (١).

وهما صريحتان في المدعى.

واستدلّ جملة من الأصحاب (٢) على ذلك أيضا بما ورد من الأخبار دالّا على تحقق الرجعة مع عدم الجماع ، كصحيحة عبد الحميد الطائي عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قلت له : الرجعة بغير جماع تكون رجعة؟ قال : «نعم» (٣).

وظني أن هذا الاستدلال لا محل له ، فإنه لا يفهم من كلام ابن أبي عقيل منع حصول الرجعة إلا بالجماع معها ، بل ظاهر عبارته أن مراده انما هو كون الجماع شرطا في صحة الطلاق الواقع بعد الرجعة ، فالرجعة تقع وإن لم يكن ثمة جماع ، ولكن لو طلقها والحال كذلك لم يحسب به إلّا التطليقة الاولى دون هذه.

ويدل على ما ذهب إليه ابن أبي عقيل صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام في الرجل يطلق امرأته أله أن يراجع؟ قال : «لا يطلقن التطليقة الاخرى حتى يمسّها» (٤).

ورواية المعلّى (٥) بن خنيس عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الرجل يطلق امرأته

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٨ : ٤٥ ـ ٤٦ / ١٤١ ، الاستبصار ٣ : ٢٨١ ـ ٢٨٢ / ٩٩٩ ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٤٤ ، أبواب أقسام الطلاق ، ب ١٩ ، ح ٤.

(٢) انظر مسالك الأفهام ٩ : ١٤٣ ـ ١٤٤.

(٣) تهذيب الأحكام ٨ : ٤٤ ـ ٤٥ / ١٣٧ ، الاستبصار ٣ : ٢٨٠ ـ ٢٨١ / ٩٩٥ ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٤٢ ـ ١٤٣ ، أبواب أقسام الطلاق ، ب ١٨ ، ح ١.

(٤) الكافي ٦ : ٧٣ ـ ٧٤ / ٢ ، باب أن المراجعة لا تكون إلّا بالموافقة ، تهذيب الأحكام ٨ : ٤٤ / ١٣٤ ، الاستبصار ٣ : ٢٨٠ / ٩٩٣ ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٤١ ، أبواب أقسام الطلاق ، ب ١٧ ، ح ٢.

(٥) في «ح» : معلّى.


تطليقة ، ثم يطلقها الثانية قبل أن يراجع ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «لا يقع الطلاق الثاني حتى يراجع ويجامع» (١).

وموثقة إسحاق بن عمار عن أبي إبراهيم عليه‌السلام قال : سألته عن رجل يطلق امراته في طهر من غير جماع ، ثم يراجعها من يومه ذلك ، ثم يطلقها أتبين منه بثلاث طلقات في طهر واحد؟ فقال : «خالف السنة». قلت : فليس ينبغي له إذا هو راجعها أن يطلقها إلّا في طهر آخر؟ قال : «نعم». قلت : حتى يجامع؟ قال : «نعم» (٢).

وهذه الروايات الثلاث صريحة فيما ذهب إليه ابن أبي عقيل من عدم صحة الطلاق بعد المراجعة ، إلا مع الجماع ، سواء طلقها في الطهر الأول أو الثاني ، مع أنه لم ينقلها الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ له في كتب الاستدلال ، بل إنما استدلّ له في (المختلف) (٣). وتبعه على ذلك جملة المتأخرين (٤) عنه برواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «المراجعة هي الجماع وإلا فإنّما هي واحدة» (٥) وفي هذا الاستدلال ما عرفت.

والظاهر أنّهم فهموا من منع ابن أبي عقيل من الطلاق ثانيا بعد المراجعة بدون جماع أن الوجه فيه عدم حصول الرجعة بالكلية ، فيصير الطلاق لاغيا. وأنت خبير بأنه لا دلالة في كلامه على ذلك إذا قضى ما يدل عليه عدم صحة ذلك

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٨ : ٤٦ / ١٤٣ ، الاستبصار ٣ : ٢٨٤ / ١٠٠٤ ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٤٢ ، أبواب أقسام الطلاق ، ب ١٧ ، ح ٥.

(٢) الكافي ٦ : ٧٤ / ٤ ، باب أن المراجعة لا تكون إلّا بالمواقعة ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٤١ ، أبواب أقسام الطلاق وأحكامه ، ب ١٧ ، ح ٣.

(٣) مختلف الشيعة ٧ : ٣٧٣ / المسألة : ٢٣.

(٤) انظر مسالك الأفهام ٩ : ١٣٨.

(٥) الكافي ٦ : ٧٣ / ١ ، باب أن المراجعة لا تكون إلّا بالمواقعة ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٤٠ ـ ١٤١ ، أبواب أقسام الطلاق وأحكامه ، ب ١٧ ، ح ١.


الطلاق الأخير خاصة ، وأمّا أن العلّة فيه عدم حصول الرجعة ، فلا دلالة فيه عليه.

أقول : ويدلّ على هذا القول أيضا صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال : «كل طلاق لا يكون على السنة ، أو على العدة فليس بشي‌ء».

ثم فسّر عليه‌السلام طلاق السنّة بأن يطلقها في طهر لم يقربها فيه ، ثم يدعها حتى تمضي لها ثلاثة قروء ، وقد بانت منه.

وفسر طلاق العدّة بأن يطلقها في طهر لم يقربها فيه ، ثم يراجعها ويواقعها ، ثم يعتزلها حتى تحيض وتطهر ، ثم يطلّقها ، ثم يراجعها ويواقعها ، ثم يعتزلها حتى تحيض وتطهر ، ثم يطلّقها الثالثة ، وقد بانت منه (١).

وجه الاستدلال بها أنه من الظاهر أن الطلاق بعد المراجعة بدون مواقعة غير داخل في شي‌ء من ذينك (٢) الفردين ، فيثبت بموجب الخبر أنه ليس بشي‌ء.

وأجاب السيد السند قدس‌سره في (شرح النافع) عن هذه الرواية بـ (أن قوله : «ليس بشي‌ء» يعني ليس بشي‌ء يعتدّ به في الأدلة كما في هذين النوعين) (٣) ، وفيه من البعد ما (٤) لا يخفى.

ويدلّ عليه أيضا صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن طلاق السنّة ، [قال : «طلاق السنة] إذا أراد الرجل أن يطلق امرأته» ـ إلى أن قال عليه‌السلام ـ : «وأما طلاق الرجعة ، فإن يدعها حتى تحيض وتطهر ، ثم يطلق بشهادة شاهدين (٥) ، ثم يراجعها ويواقعها ، ثم ينتظر بها الطهر فإذا حاضت وطهرت أشهد شاهدين على تطليقة

__________________

(١) الكافي ٦ : ٦٥ / ٢ باب تفسير طلاق السنة والعدة وما يوجب الطلاق ، تهذيب الأحكام ٨ : ٢٦ / ٨٣ ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٠٣ ، أبواب أقسام الطلاق وأحكامه ، ب ١ ، ح ١ ، وفيه صدر الحديث ، و ٢٢ : ١٠٨ ـ ١٠٩ ، أبواب أقسام الطلاق وأحكامه ، ب ٢ ، ح ١.

(٢) من «ح» وفي «ق» : ذلك.

(٣) نهاية المرام ٢ : ٥٨.

(٤) في «ح» بما.

(٥) في «ح» بعدها : على تطليقة اخرى.


اخرى ، ثم يراجعها ويواقعها ثم ينتظر بها الطهر فإذا حاضت وطهرت أشهد شاهدين على التطليقة الثالثة ، ثم لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره. وعليها أن تعتدّ ثلاثة قروء من يوم طلقها التطليقة الثالثة.

فإن طلقها واحدة على طهر بشهود ، ثم انتظر بها حتى تحيض وتطهر ، ثم طلقها قبل أن يراجعها لم يكن طلاقه الثاني طلاقا ، لأنه طلق طالقا ؛ لأنه إذا كانت المرأة مطلقة من زوجها كانت خارجة عن ملكه حتى يراجعها ، فإذا راجعها صارت في ملكه ما لم يطلق التطليقة الثالثة ، فإذا طلّقها التطليقة الثالثة فقد خرج ملك الرجعة من يده ، فإن طلّقها على طهر بشهود ثم راجعها وانتظر بها الطهر من غير مواقعة فحاضت وطهرت ، ثم طلقها قبل أن يدنسها بمواقعة بعد الرجعة لم يكن طلاقه لها طلاقا ، لأنه طلّقها التطليقة الثانية في طهر الأولى ، ولا ينقضي الطهر إلّا بمواقعة بعد الرجعة. وكذلك لا تكون التطليقة الثالثة إلّا بمراجعة ومواقعة بعد المراجعة ، ثم حيض وطهر بعد الحيض ثم طلاق بشهود ، حتى يكون لكل تطليقة طهر من تدنيس المواقعة بشهود» (١).

أقول : ويقرب بالبال العليل والفكر الكليل أن هذا الخبر هو معتمد ابن أبي عقيل فيما ذهب إليه وإن دلّت أيضا تلك الأخبار عليه ، حيث إن الفاظ عبارته منه ، بل كلامه في التحقيق نقل للخبر المذكور بالمعنى في بعض ، وباللفظ في بعض آخر.

وحاصل معنى الخبر المذكور : أنه لو طلق ثم راجع من غير مواقعة ، ثم طلقها في طهر آخر لم يكن ذلك طلاقا ؛ لأنه وقع في طهر الطلقة الاولى. وقوله : «ولا

__________________

(١) الكافي ٦ : ٦٦ / ٤ باب تفسير طلاق السنة والعدة وما يوجب الطلاق ، تهذيب الأحكام ٨ : ٢٧ ـ ٢٨ / ٨٤ ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٠٤ ـ ١٠٥ ، أبواب أقسام الطلاق وأحكامه ، ب ١ ، ح ٣ ، و ٢٢ : ١٠٩ ـ ١١٠ ، أبواب أقسام الطلاق وأحكامه ، ب ٢ ، ح ٢.


ينقضي الطهر» ـ إلى آخره ـ في مقام التعليل لذلك ، بمعنى أن الطهر الآخر (١) الذي تصير به الطلقة الواقعة فيه ثانية وتكون صحيحة هو ما وقع بعد الرجعة المشتملة على المواقعة ، ثم الحيض بعدها والطهر منه.

ثم ذكر عليه‌السلام : «أنه لا تكون التطليقة الثالثة» ولا تصح «إلا بمراجعة» قبلها «ومواقعة» إلى آخره ، فالطهر المعتبر (٢) في كلامه هو الطهر من تدنيس المواقعة ، وهو خلاف ما هو الشائع على ألسنة الأصحاب والمعروف بينهم في هذا الباب من كون الطهر : عبارة عن النقاء بعد الحيض على الوجوه المقرّرة هناك.

ولهذا اعترض شيخنا الشهيد الثاني فيما تقدم من كلامه على عبارة ابن أبي عقيل التي هي مأخوذ من هذه الرواية كما ذكرناه ولم يدر قدس‌سره أن كلام ابن أبي عقيل إنما هو مأخوذ من هذا الخبر ، وأنّ الإشكال الذي في عبارته إنما نشأ من هنا ، وإن الطهر المراد في كلام ابن أبي عقيل كما في هذا الخبر ، ليس هو المعنى المعروف بينهم.

وحينئذ يتم ما ذكره ابن أبي عقيل في عبارته من قوله : (وإذا جاز أن يطلق التطليقة الثانية) إلى آخره ، ويندفع عنه ما أورده عليه شيخنا الشهيد الثاني أيضا هنا ؛ لأنه إذا فسّر الطهر في عبارته بالمعنى المذكور في الخبر ، وهو ما يكون خاليا عن المواقعة ، فلو طلّق بعد مراجعات عديدة من غير مواقعة في شي‌ء منها ، أو طلق بعد كل مراجعة وإن كان الطلاق بعد النقاء من الحيض ، فإنها تكون كلها في طهر واحد ، ولو اعتبرت هذه الطلقات وصحّت ، لم تكن لاعتبار الشارع الطهر وصفه له مزيد فائدة.

ولا أراك ترتاب بعد التأمل في مضمون الخبر في صحة ما ذكرناه من كون

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) في «ح» المعين.


عبارة ابن أبي عقيل مأخوذة من هذا الخبر وملخصة منه ، وبعد معلومية ذلك أيضا تظهر (١) صحة وجه ما قدّمنا ذكره من أن ابن أبي عقيل لم يذهب إلى اشتراط المواقعة في صحة الرجعة كما توهموه ، حسب ما ينادي به هذا الخبر الذي منه أخذت عبارته ، فإنه عليه‌السلام صرّح بأنه لو طلق قبل المراجعة «لم يكن طلاقه الثاني طلاقا ؛ لأنه طلّق طالقا» ، وعلله بأنّ المطلقة تخرج من ملك الزوج ولا تدخل في ملكه بالرجعة.

ثمّ صرّح عليه‌السلام أنه إذا طلقها ثم راجعها من غير مواقعة ثم طلّقها (٢) ، لم يكن طلاقه ذلك طلاقا ، وعلّله من حيث وقوع الطلاق في طهر الطلقة الاولى مع أن شرط صحة الطلاق المتعدد تعدد الأطهار.

وحينئذ ، فلو كانت الرجعة التي حصلت منه بعد الطلاق من غير جماع غير صحيحة كما يدعونه ، وأن المرأة باقية على مقتضى الطلاق الأول ، لعلّل به بما (٣) علل به سابقه من كونه طلق طالقا ، فإنه أوضح في التعليل وأظهر كما لا يخفى.

وبالجملة فالظاهر أن ما أدعوه من ذلك مجرد توهم نشأ من حكم ابن أبي عقيل ببطلان الطلاق الأخير ، ولا وجه له ظاهرا عندهم إلا ذلك ، حيث إن هذا الوجه الذي علل به الإبطال كما (٤) في الرواية غريب على قواعدهم ، بل لم يقفوا على هذه الرواية بالكلية ولم يتعرضوا لها في الكتب الاستدلالية.

وأما قوله عليه‌السلام في رواية أبي بصير السابقة : «المراجعة هي الجماع» فالظاهر أن المعنى فيها أن المراجعة الموجبة لصحة الطلاق بعدها هي ما اشتملت على الجماع كما يدل عليه قوله عليه‌السلام ، وإلّا فهي واحدة كما لا يخفى. إذا عرفت ذلك ،

__________________

(١) سقط في «ح».

(٢) ثم طلقها ، من «ح».

(٣) في «ح» بعدها : لعلّه عليه‌السلام.

(٤) ليست في «ح».


فالكلام في الجمع بين هذا الأخبار لا يخلو عن أحد وجوه :

الأول : ما ذكره الشيخ قدس‌سره في كتابي الأخبار من حمل (١) الأخبار الواردة بالنهي عن تكرار الطلاق بعد الرجعة بدون وطء ، وأن ذلك الطلاق لا يقع ـ على كون ذلك الطلاق للعدة ؛ لأنه كما تقرر مشروط بالرجعة والوطء بعدها (٢) ، وحمل أخبار الجواز على طلاق السنّة بالمعنى الأعمّ (٣). ونسبه المحقق في هذا الجمع إلى التحكم (٤).

قال في (المسالك) ، ووجهه : (أن كلا من الأخبار ورد في الرجل يطلق على الوجه المذكور ، ويجيب الإمام عليه‌السلام بالجواز أو النهي من غير استفصال ؛ فيفيد العموم من الطرفين ، ولأن شرط الطلاق العدّي الوطء بعده وبعد الرجعة منه في العدة ، وهاهنا شرط في جواز الطلاق ثانيا سبق الوطء ، وسبقه ليس بشرط في طلاق العدة ، وإنما الشرط تأخره ، فيلزم الشيخ أخذ غير الشرط مكانه).

ثم قال قدس‌سره : (وللشيخ أن يجيب بأنّ الباعث على الجمع التعارض ، فلا يضره عمومها من الطرفين على تقدير تسليمه ؛ لأن تخصيص العام لأجل الجمع جائز [و] (٥) خير من اطراح أحد الجانبين ، والوطء الذي جعل معتبرا في الطلاق ثانيا يجعل الطلاق السابق عدّيا ، وليس الحكم مختصّا بالطلاق الثاني ، بل بهما معا.

بمعنى أن من اراد طلاق المرأة للعدّة أزيد من مرّة ، فليس له ذلك ولا يتحقّق إلّا بالمراجعة والوطء ، ثم الطلاق ليصير الأوّل طلاق عدّه ، وإذا أراد الطلاق كذلك ثالثا لم يكن له ذلك إلّا بعد المراجعة ، والوطء ليصير الثاني عدّيا أيضا ، وليصير

__________________

(١) من «ح».

(٢) تهذيب الأحكام ٨ : ٤٦ / ذيل الحديث : ١٤٢ ، الاستبصار ٣ : ٢٨٤ / ذيل الحديث : ١٠٠٣.

(٣) تهذيب الأحكام ٨ : ٤٦ / ذيل الحديث : ١٤١ ، الاستبصار ٣ : ٢٨٢ / ذيل الحديث : ٩٩٩.

(٤) شرائع الإسلام ٣ : ١٥.

(٥) من النسخة الحجرية للمسالك : ٢٣.


الثالث بحكمها لتحرم (١) في الثالثة عليه قطعا ، بخلاف ما لو طلّقها على غير هذا الوجه ، فإن فيه أخبارا كثيرة تؤذن بعدم التحريم تقدم بعضها) (٢) انتهى.

أقول : واستند الشيخ في وجه الجمع الذي ذكره إلى رواية المعلّى بن خنيس عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «الذي يطلّق ثم يراجع ثم يطلق فلا يكون بين الطلاق والطلاق جماع ، فتلك تحل له قبل أن تتزوج زوجا غيره ، والتي لا تحلّ له حتى تنكح زوجا غيره ، هي التي تجامع فيما بين الطلاق والطلاق» (٣).

وأورد عليه أنه لا دلالة فيها إلا على أن الجماع بين الطلاقين شرط في التحريم المحوج إلى المحل. وأما التفصيل بالسني والعدّي واشتراط الجماع بعد الرجوع في العدّي خاصة ، فلا دلالة فيها عليه. وفي هذا الخبر أيضا من الإشكال ما يمنع من العمل به والاعتماد عليه ، لدلالته على أن غير الطلاق العدّي لا تبين به منه في الثالثة ، وهو خلاف ما عليه الأصحاب ، ومنهم الشيخ أيضا ، فهي مخالفة لقواعدهم. نعم ، ربما يمكن انطباقها على مذهب ابن أبي عقيل هذا. وعندي فيما ذهب إليه الشيخ رحمه‌الله من الجمع المذكور نظر من وجهين :

أحدهما : ما ذكره في (المسالك) ، في بيان أحد وجهي التحكم الذي نسبه المحقّق إلى الشيخ من أن الحمل على الطلاق العدّي يوجب اشتراطه بسبق الوطء مع أن الشرط فيه إنما هو تأخر الوطء وما أجاب به شيخنا الشهيد الثاني عنه من أن الواطئ الذي جعل معتبرا في الطلاق ثانيا يجعل الطلاق السابق عدّيا ـ إلى آخره ـ ينافي ما صرّح به الشيخ من أن مراده بالطلاق العدّي هو الثاني لا

__________________

(١) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : للتحريم.

(٢) مسالك الأفهام ٩ : ١٣٩ ـ ١٤٠.

(٣) تهذيب الأحكام ٨ : ٤٦ / ١٤٢ ، الاستبصار ٢ : ٢٨٤ / ١٠٠٣ ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٤٤ ، أبواب أقسام الطلاق ، ب ١٩ ، ح ٣.


الأوّل. فإنه قال في (الاستبصار) ـ بعد أن نقل (١) صحيحة عبد الحميد الطائي المتقدمة ، وصحيحة محمد بن مسلم الدالتين على أن الرجعة بغير جماع رجعة ما صورته ـ : (فالوجه في هذين الخبرين أنه تكون رجعة بغير جماع ، بمعنى أنه يعود إلى ما كان عليه من أنه يملك مواقعتها (٢) ، ولو لا الرجعة لم يجز ذلك ، وليس في الخبر أنه يجوز له أن يطلقها تطليقة اخرى للعدة وإن لم يواقع ، ونحن إنما اعتبرنا ، المواقعة فيمن أراد ذلك ، فأما من لا يريد ذلك فليس الوطء شرطا له) (٣) انتهى.

وهو صريح في أن مراده بالطلاق العدّي هو الثاني المسبوق بالمواقعة كما لا يخفى. وقال أيضا بعد إيراد صحيحة البزنطي ، وحسنة أبي علي بن راشد المتقدمتين الدالتين على وقوع الطلقة الثانية وجوازها بعد المراجعة من غير جماع ما لفظه : (لأنه ليس في هذه الأخبار ان له أن يطلّقها طلاق العدّة ونحن إنّما نمنع أن يجوز له أن يطلّقها طلاق العدة ، فامّا طلاق السنة فلا بأس أن يطلقها بعد ذلك) (٤) إلى آخره. فإنه كما ترى قد حمل قوله عليه‌السلام في صحيحة البزنطي : «تقع عليه التطليقة الثانية» وقوله في حسنة أبي علي : «يجوز له ذلك» على كون ذلك الطلاق الثاني سنيّا لا عدّيّا.

وبالجملة ، فحيث كان محل النزاع والاختلاف في الأخبار ، إنما هو بالنسبة إلى وقوع الطلقة الثانية الواقعة بعد الرجعة بغير مواقعة وصحتها وعدمه ، فبعض الأخبار دل على صحة ذلك الطلاق ، وبعضها على عدم صحته ووقوعه حمل (٥)

__________________

(١) في النسختين بعدها : في خبر أما.

(٢) من «ح» ، وفي «ق» موافقتها.

(٣) الاستبصار ٣ : ٢٨١ / ذيل الحديث : ٩٩٦.

(٤) الاستبصار ٣ : ٢٨٢ / ذيل الحديث : ٩٩٩.

(٥) جملة جواب الشرط لاسم الشرط : حيث.


الشيخ أخبار عدم الصحة على ما إذا كان قصد المطلق بذلك الطلاق العدي ، فإنه لا يجوز له ذلك ولا يصحّ منه ولا يقع للعدّة لعدم المواقعة قبله ، وإنما يقع للسنة خاصّة ، هذا حاصل مراد الشيخ رحمه‌الله وصريح عبائره كما لا يخفى. وحينئذ ، فيتجه عليه ما تقدم إيراده ، ولا يندفع بما اعتذر عنه في (المسالك) فتدبّر وانصف.

الثاني : أن مقتضى ما ذكره الشيخ رحمه‌الله من الحمل ، هو صحّة الطلاق الثاني وإن كان لا يقع للعدة بزعمه ، بل يقع للسنة ، والمفهوم من الأخبار المانعة هو الابطال رأسا ، وعدم وقوع الطلاق مطلقا أما في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج ، فللنهي عنه ، وما أجيب به من أن النهي إنّما يقتضي الفساد في العبادات (١). لا في المعاملات ليس على إطلاقه كما حققناه في موضع أليق.

ويؤيده ما صرّح به جملة من أصحابنا من أن النكاح أشبه شي‌ء بالعبادات (٢) ، وأما رواية المعلّى بن خنيس ، فإنها قد صرحت بأنه لا يقع الطلاق الثاني حتى يراجع ويجامع ، وهو صريح في فساده وبطلانه أصلا ورأسا. ومثل ذلك موثقة إسحاق بن عمار.

فهذه الأخبار دالة بإطلاقها على الإبطال رأسا ، وأما صحيحة زرارة فهي دالة على أن ما ليس للعدّة ولا للسنّة بالمعنى المذكور فيها ، فليس بشي‌ء ، وهو ظاهر في الإبطال أيضا ، فإن هذا القسم ليس داخلا في شي‌ء من الفردين المذكورين فيها. وأما صحيحة أبي بصير فهي أوضح في الدلالة على البطلان من أن تحتاج إلى البيان ، غير قابلة لما ذكر من التأويل بوجه ولا سبيل.

وبالجملة ، فالأخبار المذكورة آبية الانطباق على الحمل المذكور.

__________________

(١) مسالك الأفهام ٩ : ١٤٤.

(٢) مسالك الأفهام ٧ : ٨٦ ، جامع المقاصد ١٢ : ٦٩ ، ٨٦.


الثاني : ما اختاره جماعة من أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ منهم شيخنا الشهيد الثاني قدس‌سره في (المسالك) وسبطه صاحب (المدارك) ، في (شرح النافع) ، من حمل النهي على الكراهة ، بمعنى استحباب الجماع بين الطلاقين بعد الرجعة وأخبار الجواز على أصل الإباحة.

قال في (المسالك) : (ووجه أولوية الجماع ، البعد عن مذهب المخالفين المجوزين لتعدّد الطلاق كيف اتفق ، ليصير الأمران على طرف النقيض حيث إن ذلك معدود عند أصحابنا من طلاق البدعة كما سلف. ثم لو لم يظهر الوجه في الجمع لكان متعيّنا حذرا من اطراح أحدهما رأسا ، أو الجمع بما لا تقتضيه اصول المذهب كما جمع به الشيخ ، والحمل على الجواز والاستحباب سالم عن ذلك وموجب لإعمال الجميع) (١) انتهى.

وفيه أن ذلك وإن أمكن في بعض الأخبار إلّا إنه لا يجري في جميعها ، مثل رواية المعلّى الدالة على أنه لا يقع ، فإنها صريحة في الإبطال رأسا ، ومثل صحيحة زرارة ، وصحيحة أبي بصير ، فإنّهما صريحتان في الابطال. ولكن العذر لمثل شيخنا المشار إليه في ذلك واضح ، حيث إنهم لم يتعرضوا لرواية المعلى ولا للصحيحتين المذكورتين.

الثالث : ما ذهب إليه المحدث الكاشاني في كتاب (الوافي) (٢) و (المفاتيح) (٣) من أنه إن كان غرضه من الرجعة أن يطلقها تطليقة اخرى حتى تبين منه ، فلا يتم مراجعتها ولا يصح طلاقها بعد الرجعة ، ولا يحسب من الثلاث حتى يمسّها ، وإن كان غرضه من الرجعة أن تكون في حبالته وله فيها حاجة ، ثم بدا له أن يطلّقها ،

__________________

(١) مسالك الأفهام ٩ : ١٤١ ـ ١٤٢.

(٢) الوافي ٢٣ : ١٠٤٦.

(٣) مفاتيح الشرائع ٢ : ٣٢٠ / المفتاح : ٧٨٤.


فلا حاجة إلى المسّ ويصح طلاقها ويحسب من الثلاث.

قال : (وإنّما جاز هذا التأويل ، لأنه كان أكثر ما يكون غرض الناس من المراجعة الطلاق والبينونة ، كما يستفاد من كثير من الأخبار ، ويشار إليه بقوله عليه‌السلام : «وإلّا فإنما هي (١) واحدة» ، حتى إنه صدر ذلك عن الأئمَّة عليهم‌السلام ، كما مضى في حديث أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال : «إنما فعلت ذلك بها لأنه لم يكن لي بها حاجة») انتهى كلامه رفع مقامه.

وأشار بحديث أبي جعفر عليه‌السلام إلى رواية أبي بصير قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الطلاق التي لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ، فقال : «اخبرك بما صنعت أنا بامراة كانت عندي ، وأردت أن اطلقها ، فتركتها حتى إذا طمثت وطهرت ، طلقتها من غير جماع ، وأشهدت على ذلك شاهدين ، ثم طلقتها (٢) ، حتى إذا كادت أن تنقضي عدّتها راجعتها ودخلت بها ، وتركتها (٣) حتى إذا طمثت وطهرت ، ثم طلقتها على طهر من غير جماع بشاهدين ، ثم تركتها حتى إذا كان قبل أن تنقضي عدتها راجعتها ودخلت بها ، حتى إذا طمثت وطهرت ثم طلقتها على طهر (٤) بغير جماع بشهود ، وإنما فعلت ذلك بها لأنه لم يكن لي بها حاجة» (٥).

وما ذكره قدس‌سره من الجمع لا يخلو عندي من قرب ، ويؤيده ما ورد في تفسير قوله سبحانه (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) (٦) من رواية الحلبي عن أبي

__________________

(١) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : فانها ، بدل : فإنما هي.

(٢) في «ح» : تركتها.

(٣) ليست في «ح».

(٤) من غير جماع بشاهدين .. على طهر ، سقط في «ح».

(٥) الكافي ٦ : ٧٥ ـ ٧٦ / ١ ، باب التي لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجا غيره ، وسائل الشيعة ٢ : ١١٩ ، أبواب أقسام الطلاق وأحكامه ، ب ٤ ، ح ٣.

(٦) البقرة : ٢٣١.


عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن قول الله عزوجل (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) ، قال : «الرجل يطلق حتى إذا كادت أن يخلو أجلها راجعها ، ثم طلقها يفعل ذلك ثلاث مرّات ، فنهى الله تعالى عن ذلك» (١).

ورواية الحسن بن زياد عنه عليه‌السلام قال : «لا ينبغي للرجل أن يطلق امرأة ، ثم يراجعها ، وليس له فيها حاجة ، ثم يطلّقها ؛ فهذا الضرار الذي نهى الله عزوجل عنه إلّا أن يطلق ويراجع ، وهو ينوي الإمساك» (٢).

فإن هاتين الروايتين صريحتان في أنه (٣) متى كان قصده من المراجعة مجرد البينونة فلا يجوز له ذلك ، ولا يصحّ طلاقه الثاني لما فيه من الإضرار بها في مدة العدد الثلاث بعدم الجماع ، وقد يكون المدة تسعة أشهر ، مع أن غاية ما رخص به الشارع في ترك الجماع إذا كانت زوجة أربعة أشهر. وحينئذ ، فالزيادة على ذلك إضرار محض ، فنهى الله سبحانه عنه.

والظاهر أنه من أجل هذا النهي الموجب للتحريم ، بل وبطلان الطلاق كان الإمام صلوات الله عليه (٤) لما قصد بالمراجعة والطلاق بعدها البينونة لقوله : «وانما فعلت ذلك ..» ـ إلى آخره ـ يجامع بعد كل رجعة.

وبالجملة ، فهذا الوجه عندي ـ لما ذكرته ـ في غاية القوة ، وعليه تجتمع أكثر أخبار المسألة ، ولعل في قوله في موثقة إسحاق بن عمار الاولى (٥) : (ثم بدا له فراجعها) إشارة إلى ذلك ، بمعنى بدا له وظهر له إرادة المعاشرة فراجع. وعلى

__________________

(١) الفقيه ٣ : ٣٢٣ / ١٥٦٧ ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٧٢ ، أبواب أقسام الطلاق وأحكامه ، ب ٣٤ ، ح ٢.

(٢) الفقيه ٣ : ٣٢٣ ـ ٣٢٤ / ١٥٦٨ ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٧١ ـ ١٧٢ ، أبواب أقسام الطلاق وأحكامه ، ب ٣٤ ، ح ١.

(٣) في «ح» : فإنه ، بدل : في أنه.

(٤) سقط في «ح».

(٥) انظر الدرر ٢ : ٩١.


هذا (١) يمكن تطبيق الروايات الثلاث الاول التي ذكرناها في أدلّة (٢) مذهب ابن أبي عقيل فإنها وإن كانت مطلقة بالنسبة إلى ذلك إلّا إنها بالتأمّل في مضامينها والتعمق في معانيها ، يظهر أنها إنما خرجت من ذلك القبيل.

أما صحيحة عبد الرحمن فإنه إنما سأل عن الرجل إذا طلق ، فهل له أن يراجع أم لا ، فأجاب عليه‌السلام : «لا يطلق التطليقة الاخرى حتى يمسّها» (٣). وأنت خبير بأن هذا الجواب بحسب الظاهر غير منطبق على السؤال.

والظاهر أنه عليه‌السلام فهم من السائل بقرينة حالية أو مقالية وإن لم ينقل في الخبر أن مراده السؤال عن الرجعة لمجرد إيقاع الطلاق بعدها ، فأجاب عليه‌السلام بالنهي عن ذلك الطلاق على هذا النحو : «إلّا أن يمسها» ، كما فعله الباقر عليه‌السلام فيما تقدم من حديث أبي بصير ، ومعناها يرجع إلى معنى رواية أبي بصير كما أوضحناه سابقا.

وأما رواية المعلى فالظاهر أن غرض السائل أنه هل يصحّ الطلاق من غير رجعة ، بمعنى أنه يترتّب عليه ما يترتّب على الواقع بعد الرجعة من البينونة ونحوها؟ وغرضه من ذلك استعلام ما لو قصد البينونة بالطلاق على هذا النحو ، فإنه لا ثمرة للطلقة الثانية لو صحت إلّا قصد ذلك وحصوله ، فأجاب عليه‌السلام بأنه «لا يقع الطلاق الثاني على هذا الوجه ، إلّا مع الجماع بعد المراجعة».

وأما موثقة إسحاق بن عمار ، فهي صريحة في ذلك ، فإن إيقاع ذلك في يوم أو في طهر ، دليل على كون الباعث على تلك الرجعة ، هو مجرد قصد البينونة ؛ فلذا نسبه إلى مخالفة السنة.

__________________

(١) في «ح» بعدها : الوجه.

(٢) في أدلّة ، سقط في «ح».

(٣) الكافي ٦ : ٧٣ ـ ٧٤ / ٢ ، باب أن المراجعة لا تكون إلّا بالموافقة ، تهذيب الأحكام ٨ : ٤٤ / ١٣٤ ، الاستبصار ٣ : ٢٨٠ / ٩٩٣ ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٤١ ، أبواب أقسام الطلاق ، ب ١٧ ، ح ٢.


بقي هنا شي‌ء ، وهو أن هذا الوجه وإن اجتمعت عليه أدلّة القول المشهور ، وهذه الروايات الثلاث التي ذكرناها في الاستدلال لابن أبي عقيل ، لكن يبقى الإشكال في كلامه قدس‌سره من وجهين :

أحدهما : من قوله : (فلا يتم مراجعتها) ، فإن فيه دلالة على أن المراجعة بدون النكاح بعدها إذا كان قصده مجرد البينونة لا يقع ، وهو موافق لما صرّح به غيره من الأصحاب ، كما قدمنا ذكره حيث أوردوا في الاستدلال صحيحة عبد الحميد الطائي ، ورواية أبي بصير وقد أوضحنا لك ، أنه لا دليل على عدم وقوع الرّجعة ، وإنما غاية ما يستفاد من الأخبار عدم صحة الطلاق (١). وحينئذ ، فتبقى بعد الرجعة على حكم الزوجية إذا طلّقها ضرارا بغير جماع.

وثانيهما : من جهة صحيحة أبي بصير التي هي معتمد ابن أبي عقيل ، وصريح عبارته كما قدّمنا بيانه ، فإنها لا تندرج تحت هذا التأويل ؛ حيث إنه عليه‌السلام قد علّل فساد الطلاق الواقع على ذلك الوجه فيها بوجه آخر ، من كونه لم يقع في غير (٢) طهر الطلقة الاولى. وعلى هذا فيبقى الإشكال بحاله في المسألة ؛ لأن الظاهر أن معتمد ابن أبي عقيل في الاستدلال على ما ذهب إليه ، هو هذه الرواية كما أوضحناه آنفا ، وهي غير منطبقة على شي‌ء من هذه الوجوه الثلاثة التي نقلناها في الجمع بين أخبار المسألة وما عداها من الأخبار ، وإن دل بحسب الظاهر على مذهب ابن أبي عقيل ، إلّا إنه لم يستند إليه في الاستدلال ولم يصرّح به. ومع هذا ، فإنه يمكن تطبيقه كما ذكرناه.

وأما هذه الصحيحة ، فهي صريحة في مدّعاه وغير قابلة لذلك ، مع كونها مشتملة على ما عرفت من إطلاق الطهر ، على خلاف ما هو المعهود من معناه في

__________________

(١) في «ح» بعدها : خاصة.

(٢) سقط في «ح».


الأخبار وكلام الأصحاب ، ولم أر من تعرض للكلام فيها من المحدثين الذين نقلوها في كتب الأخبار ، ولم ينقلها أحد في كتب الفروع الاستدلالية ، بل لم يستوفوا الأخبار فيها بالكليّة ، ولا يحضرني الآن وجه يمكن حملها عليه سوى الردّ والتسليم وإرجاء الحكم فيها إلى العالم من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والله العالم.



(٢٣)

درة نجفية

في انتقال ما في ذمّة المقتول ظلما إلى ذمّة القاتل

قد وجدت في جملة من المواضع نقلا عن بعض أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ وربما أسند في بعض المواضع إلى شيخنا الشهيد ـ عطر الله مرقده ـ أنه متى قتل أحد أحدا ظلما انتقل ما في ذمة المقتول من الحقوق المالية وغيرها الآدمية والإلهية إلى ذمة القاتل. واستشكل ذلك جملة ممّن وقف عليه ممن اطلعت على كلامه ، وردّوه بعدم الدليل ، بل ربما رموا قائله بالتجهيل. وقد وقفت في بعض الأجوبة المنسوبة إلى السيد العلّامة السيد ماجد البحراني قدس‌سره المقبور في شيراز في جوار السيد أحمد ابن مولانا الكاظم عليه‌السلام المشهور بـ (شاه چراغ) على الجواب عن هذه المسألة بما صورته ، حيث قال السائل : (سيدنا ، ما قولكم فيمن قتل شخصا ، هل ينتقل كل ما على ذمة المقتول إلى القاتل من الإلهية والآدمية ؛ مالية وغيرها ، أم لا؟).

فقال السيد قدس‌سره في الجواب : (أما انتقال ما على المقتول إلى ذمّة القاتل من الحقوق الماليّة والإلهية ، فلا نعرف له وجها وإن وجد في بعض الفوائد منقولا عن بعض الأعيان) انتهى.

أقول : وقد وقفت في بعض الأخبار على ما يؤيّد هذا القول المذكور ويدلّ


عليه ، وهو ما رواه المحدث الكاشاني في تفسيره (الصافي) (١) ، عن شيخنا الصدوق ـ عطر الله مرقده ـ في كتاب (عقاب الأعمال) (٢) بسنده عن الباقر عليه‌السلام قال : «من قتل مؤمنا أثبت الله على قاتله جميع الذنوب وبرئ المقتول منها» ، وذلك قول الله عزوجل (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النّارِ) (٣) ، وهو كما ترى صريح في الدلالة على انتقال الحقوق الإلهية من ذمة المقتول إلى ذمة القاتل.

والكتاب المذكور لا يحضرني الآن لألاحظ سند الرواية المذكورة ، إلّا إن الأمر على ما نذهب إليه من صحة أخبارنا المروية في كتب أصحابنا المشهورة ، وعدم العمل على الاصطلاح المحدث بين متأخري أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ من تنويع الأخبار إلى الأنواع الأربعة عار عن الإشكال ، وبه يتم الاستدلال.

وأنت خبير بأنه مع قطع النظر عن ورود هذا الخبر ، فظاهر الآية المذكورة دال على ذلك ؛ إذ ظاهر الإضافة في قوله (بِإِثْمِي) هو العموم لكل إثم للمقتول ، وما تأوله المفسرون من تقدير مضاف ، أي (بإثم قتلي إن قتلتني ، وإثمك الذي كان منك قبل قتلي) ، أو المراد : (إثمي لو بسطت يدي إليك وإثمك ببسط يدك إليّ) (٤) ، فتكلف مخالف للظاهر كما لا يخفى. والظاهر أن الحامل عليه هو عدم الوقوف على القائل بمقتضى ظاهر الآية ، وعدم الاطلاع على الدليل الدال على ذلك.

ويدلّ على ذلك أيضا ـ بالنسبة إلى الحقوق المالية الآدمية ـ ما رواه في (الكافي) بسند حسن عن الوليد بن صبيح قال : جاء رجل إلى أبي عبد الله عليه‌السلام يدعي على المعلّى بن خنيس دينا ، فقال : ذهب بحقي ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام :

__________________

(١) التفسير الصافي ٢ : ٢٧.

(٢) عقاب الأعمال (في ذيل ثواب الأعمال) : ٣٢٨ / ٩.

(٣) المائدة : ٢٩.

(٤) من «ح».


«ذهب بحقك الذي قتله». ثم قال للوليد : «قم إلى الرّجل فاقضه من حقه ، فإني اريد أن أبرّد عليه جلده [الذي] (١) كان باردا» (٢).

فإن ظاهر قوله عليه‌السلام : «ذهب بحقّك الذي قتله» ، يعطي انتقال الدين إلى ذمة القاتل وأنه هو المطالب به. واحتمال التجوّز باعتبار حيلولة القاتل بينه وبين وفاء الدين بسبب قتله ، فكأنه ذهب به ينافيه قوله عليه‌السلام : «أريد أن أبرد جلده [الذي] (٣) كان باردا» فإنه يقتضي براءة ذمته من الدّين كما هو ظاهر. وإن إعطاء الإمام عليه‌السلام عنه ذلك إنما هو تفضل وتكريم للمعلّى ، وإلّا فذمّته خلية وعهدته برّية.

وبالجملة ، فظاهر الخبر ، الدلالة على ما قلنا إلا بتكلف وإخراج عن الظاهر ، وارتكاب التأويلات وإن بعدت ، والتكلّفات وإن غمضت غير عسير ، إلّا إن الاستدلال إنما يبنى على ظاهر المقال ، وارتكاب التأويل إنما يكون عند معارض أقوى في ذلك المجال ، وهو هنا مفقود كما لا يخفي على ذوي الكمال.

نعم ، الحكم المذكور غريب ؛ لعدم تصريح أحد من معتبريهم به ، بل ربما كان فيه نوع مخالفة لمقتضى القواعد المقررة عندهم من عدم عدّ القتل في النوافل الشرعية إلّا إن مثله في الأحكام الشرعية غير عزيز ؛ فإنه قد دلت الأخبار وصرّح به الأصحاب على انه لو أوصى شخص إلى آخر ومات قبل بلوغ الخبر الوصي ، وجب على الوصي القبول والقيام بما أوصى بما الميت إليه. وفيه ـ كما ترى ـ إثبات حق وإيجابه على الغير من غير موجب ، سوى تعيين الميّت وجعله وصيّا ، وهو مخالف لمقتضى قواعدهم أيضا ، فإنه لم يعهد في الأحكام الشرعية اشتغال ذمة شخص بمجرد قول شخص آخر ، وإثبات يد وتسلط على من لا سبيل عليه بوجه شرعي.

__________________

(١) من المصدر ، وفي النسختين : وإن.

(٢) الكافي ٥ : ٩٤ / ٨ ، باب الدين.

(٣) من المصدر ، وفي النسختين : وإن.


وبالجملة ، فمع وجود الدليل على الحكم ـ كما ذكرنا ـ لا ينبغي الاستبعاد وتخصيص ما يدّعى من القواعد الشرعية الدالة على خلاف ذلك ممكن ، كما هو متفق عليه بينهم في غير مقام.

فإن قيل : إن قوله سبحانه (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (١) ينافي ذلك.

قلنا : مقتضى قوله سبحانه (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعاً) (٢).

وما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : أن «من سنّ سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» (٣) الدالة على أنه بالدلالة والتسبيب الذي هو وزره يكون مستوجبا لحمل وزر من تبعه في ذلك ، يخصص الآية المذكورة إذ كما خصّت بالآية والخبر ، فلا مانع من تخصيصها بظاهر الآية المتقدّمة والخبرين السابقين. هذا غاية ما يمكن الاستدلال به في هذا المجال وبه يعلم أن المسألة لا تخلو من شوب الإشكال ، والله تعالى وأولياؤه أعلم بحقيقة الحال.

__________________

(١) الأنعام : ١٦٤.

(٢) المائدة : ٣٢.

(٣) بحار الأنوار ٧١ : ٢٠٤ ، ، النهاية في غريب الحديث والأثر ١ : ١٠٦ ، المعجم الكبير ٢ : ٣٤٤ ـ ٣٤٦ / ٢٤٣٩ ـ ٢٤٤٨.


(٢٤)

درة نجفية

في مشروعية العمل بالاحتياط وعدمها

اختلف علماؤنا ـ رضوان الله عليهم ـ في الاحتياط وجوبا واستحبابا ؛ فالمجتهدون منهم على الثاني مطلقا ، والأخباريون على الأول في بعض المواضع ، وربما ظهر من كلام بعض متأخري المجتهدين ، عدم مشروعيته.

قال المحقق قدس‌سره في كتاب (الاصول) على ما نقله عنه غير واحد من علمائنا الفحول : (العمل بالاحتياط غير لازم ، وصار آخرون إلى وجوبه ، وقال آخرون : مع اشتغال الذمّة يكون العمل بالاحتياط واجبا ، ومع عدمه لا يجب. مثال ذلك : إذا ولغ الكلب في الإناء نجس ، واختلفوا ؛ هل يطهر بغسلة واحدة ، أم لا بدّ من سبع؟ وفيما (١) عدا الولوغ هل يطهر بغسلة ، أم لا بدّ من ثلاث؟

احتج القائلون بالاحتياط بقوله : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (٢) ، وبأن الثابت اشتغال الذمّة بيقين فيجب ألّا يحكم ببراءتها إلّا بيقين ، ولا يكون هذا إلّا مع الاحتياط.

والجواب عن الحديث أنه خبر واحد لا يعمل بمثله في مسائل الاصول.

__________________

(١) في «ح» : في غير ، بدل : فيما.

(٢) عوالي اللآلي ١ : ٣٩٤ / ٤٠ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٧٣ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٦٣ ، الجامع الصحيح ٤ : ٦٦٨ / ٢٥١٨ ، المستدرك على الصحيحين ٢ : ٢١٦٩ / ٢١٧٠.


سلمناه ، لكن إلزام المكلف بالأثقل مظنة الريبة ؛ لأنه إلزام مشقة لم يدلّ الشرع عليها ، فيجب اطّراحها بموجب الخبر.

والجواب عن الثاني أن نقول : البراءة الأصلية مع عدم الدلالة الناقلة حجة ، وإذا كان التقدير عدم الدلالة الشرعية على الزيادة في المثال المذكور كان العمل بالأصل أولى. وحينئذ لا نسلم اشتغالها مطلقا ، بل لا نسلم اشتغالها إلا بما حصل الاتفاق عليه ، أو اشتغالها بأحد الأمرين. ويمكن أن يقال : قد أجمعنا على الحكم بنجاسة الإناء ، واختلفنا فيما به يطهر ، فيجب أن نأخذ بما حصل الإجماع عليه في الطهارة ، ليزول ما أجمعنا عليه من النجاسة بما أجمعنا عليه من الحكم بالطهارة) (١) انتهى كلامه زيد مقامه. وفيه نظر من وجوه :

أحدها : أن ما جعله موضوعا (٢) للنزاع من مسألة إناء الولوغ ونحوها ليس كذلك على إطلاقه ؛ لأنّه مع تعارض الأدلة ، فللناظر الترجيح بينها والعمل بما ترجّح في نظره من أدلّة أي الطرفين. وحينئذ ، فلا مجال هنا للقول بوجوب الاحتياط. وأما الاحتياط (٣) ، فيمكن إذا ترجح عنده الأقل ، فإنّه يمكن حمل الزائد على الاستحباب كما هو المعروف عندهم في أمثال ذلك.

نعم ، مع عدم الترجيح ، فالمتّجه ـ كما سيأتي تحقيقه ـ وجوب الاحتياط في العمل والتوقّف في الحكم.

وثانيها : ما أجاب به أولا عن الخبر المذكور ، فإنه مبنيّ على اشتراط القطع في الاصول ، أو عدم العمل بالآحاد مطلقا. وكلاهما محل نظر.

أما الأول ، فلعدم الدليل عليه ، ومن تأمل اختلافاتهم في الاصول ، وتكثر أقوالهم وادعاء كل منهم التبادر على خلاف ما يدعيه الآخر ، علم أن البناء على

__________________

(١) معارج الاصول : ٢١٦ ـ ٢١٧ ، باختلاف يسير.

(٢) سقط في «ح».

(٣) في «ح» : الاستحباب.


غير أساس ، ومن ثم وقع الإشكال في جلّ مسائله والالتباس ، ولو كانت أدلته مما يفيد القطع ـ كما يدّعونه ـ لما انتشر فيه الخلاف كما لا يخفى على ذوي الإنصاف ، على أنه لو ثبت دليل شرعي على اشتراط القطع في الاصول لوجب تخصيصه بالاصول الكلامية والعقائد الدينية ؛ إذ هي المطلوب فيها ذلك بلا خلاف دون هذه التي لم يرد لها أصل في الشريعة ، وإنما هي من محدثات العامة ومخترعاتهم ، كما حقّقناه في محل أليق.

وأما الثاني ، فلما صرّح به جمّ غفير من علمائنا ـ رضوان الله عليهم ـ متقدّميهم ومتأخريهم ، ولا سيّما هذا القائل نفسه في كتاب (المعتبر) (١) وكذا في كتابه في (الاصول) (٢) ، بل الظاهر أنه إجماعي كما أدّعاه غير واحد (٣) منهم من حجيّة خبر الواحد والاعتماد عليه. وعلى ذلك يدلّ من الأخبار ما يضيق عن نشره نطاق البيان ، وما سبق إلى بعض الأوهام من تناقض كلام الشيخ رحمه‌الله في العمل بخبر الواحد ، ودعوى المرتضى الاجماع على عدم (٤) جواز العمل به ، فهو توهّم نشأ عن قصور التتبع في كلامهم والتطلّع في نقضهم ، وابرامهم كدلالة كلام الشيخ رضي‌الله‌عنه في غير موضع من كتبه على صحّة أخبارنا واعتضادها بالقرائن الملحقة لها بالمتواتر.

وأن المراد بالخبر الواحد الممنوع من جواز التعبّد به : هو ما كان من طريق المخالفين مما لم تشتمل عليه اصولنا التي عليها مدار شريعتنا قديما وحديثا.

وكلامه قدس‌سره في كتاب (العدة) (٥) طافح الدلالة ظاهر المقالة فيما ذكرناه.

__________________

(١) المعتبر ١ : ٢٩.

(٢) معارج الاصول : ١٤١.

(٣) في «ح» : غيره ، بدل : غير واحد.

(٤) من «ح».

(٥) العدّة في اصول الفقه ١ : ١٢٦.


ولتصريح المرتضى رضي‌الله‌عنه (١) على ما نقله عنه جمع ، منهم صاحب (المعالم) : (بأن أكثر أخبارنا المروية في كتبنا معلومة مقطوع [بصحتها] (٢) إما بالتواتر ، أو بأمارة وعلامة دلّت على صحتها وصدق رواتها ، فهي موجبة للعلم مقتضية للقطع وإن وجدناها مودعة في الكتب بسند مخصوص من طرق الآحاد) (٣) انتهى.

ونقل الشيخ قطب الدين أبو الحسين سعيد بن هبة الله بن الحسين الراوندي قدس‌سره في كتاب (فقه القرآن) عن المرتضى رضي‌الله‌عنه في بعض مسائله (الطبرستانية) أنه قال : (إن فروع الدين كأصوله في أن على كل واحد منها أدلّة قاطعة واضحة لائحة ، وأن التوصل بكل واحد من الأمرين ـ يعني الاصول والفروع ـ ممكن صحيح ، وأن الظن لا مجال له في شي‌ء من ذلك ، ولا الاجتهاد المفضي إلى الظن دون العلم) (٤) إلى آخر كلامه قدس‌سره ، وحينئذ (٥) فيرجع كلامه إلى كلام الشيخ في معنى الخبر الواحد الممنوع من جواز التعبد به ، وصحة أخبارنا كما ادعيناه.

وثالثها : ما أجاب به عن الدليل الثاني من الاستناد إلى حجية البراءة الأصلية ، وفيه ما صرح به قدس‌سره في كتاب (المعتبر) من أن الاعتماد على البراءة الأصلية إنما يتّجه فيما يعلم أنه لو كان هناك دليل لعثر عليه ، أما لا مع ذلك فإنه يجب التوقّف.

والدليل في الجملة هنا موجود ، ووجود المعارض لا يخرجه عن كونه دليلا ، ولو عورض بمرجوحية في مقابلة المعارض ، فلا يصلح للدلالة. فالدليل العام على وجوب الاحتياط كاف في الخروج عن قضيّة الأصل ووجوب الزيادة (٦).

ورابعها : قوله : (ويمكن أن يقال قد أجمعنا) ـ إلى آخره ـ فإن فيه أن ثبوت

__________________

(١) رسائل الشريف المرتضى (المجموعة الاولى) : ٢٦.

(٢) في النسختين : على صحّتها.

(٣) معالم الاصول : ٢٧٤.

(٤) رسائل الشريف المرتضى (المجموعة الاولى) : ١٥٤.

(٥) ليست في «ح».

(٦) المعتبر ١ : ٣٢.


الإجماع إنما هو قبل الغسل بالمرة ، وأما بعد الغسلة الواحدة فليس ثمة إجماع ؛ فالاستصحاب غير ثابت. على أن في الاستدلال ما قد عرفت آنفا.

نعم ، يمكن أن يقال : إن مقتضى صحاح الأخبار أن يقين كل من الطهارة والنجاسة لا يزول إلا بيقين مثله ، فالنجاسة هنا ثابتة بيقين قبل الغسل بالكليّة ، ولا تزول إلا بيقين ، وهو الغسل بالأكثر ، وزوالها بالأقل مشكوك فيه ، وهو لا يرفع يقين النجاسة. والاستصحاب هذا مما لا خلاف في حجيته لدلالة صحاح الأخبار عليه ، كما سبق تحقيقه في الدرّة المتقدمة في مسألة الاستصحاب.

هذا ، والتحقيق في المقام على ما أدى إليه النظر القاصر [في] (١) أخبار أهل الذكر عليهم‌السلام هو أن يقال : إنه لا ريب في رجحان الاحتياط شرعا واستفاضة الأمر به كما سيمر بك شطر من أخباره ؛ وهو عبارة عما يخرج به المكلّف من عهدة التكليف على جميع الاحتمالات ، ومنه ما يكون واجبا ، ومنه ما يكون مستحبّا.

فالأول كما إذا تردد المكلّف في الحكم إما لتعارض أدلته ، أو لتشابهها وعدم وضوح دلالتها ، أو لعدم الدليل بالكليّة بناء على نفي البراءة الأصلية ، أو لحصول الشك في اندراج بعض الأفراد تحت بعض الكليات المعلومة الحكم ، أو نحو ذلك.

والثاني كما إذا حصل الشكّ باحتمال وجود النقيض لما قدم عليه الدليل الشرعي احتمالا مستندا إلى بعض الأسباب المجوزة ، كما إذا كان مقتضى الدليل إباحة شي‌ء وحلّيته ، لكن يحتمل قريبا بسبب بعض الأسباب أنه مما حرمه الشارع وإن لم يعلم به المكلف مثل جوائز الظالم ، ونكاح امراة بلغك أنها ارضعتك ، أو أرضعت معك الرضاع المحرّم ، إلّا إنه لم يثبت ذلك شرعا. ومنه أيضا الدليل المرجوح في نظر الفقيه.

__________________

(١) في النسختين : من.


أما إذا لم يحصل له ما يوجب الشك والريبة في ذلك ، فإنه يعمل على ما ظهر له من الدّليل وإن احتمل النقيض في الواقع ، ولا يستحب له الاحتياط هنا ، بل ربما كان مرجوحا لاستفاضة الأخبار بالنهي عن السؤال عند الشراء من سوق المسلمين ما يحتمل تطرق النجاسة أو الحرمة إليه ، كاخبار الجبن وأخبار الفراء ؛ عملا بمقتضى سعة الحنفيّة كما أشار إليه عليه‌السلام في صحيحة البزنطي الواردة في السؤال عن شراء جبة خزّ ، لا يدري أذكيّة هي أم غير ذكيّة ليصلي فيها ، حيث قال : «ليس عليكم المسألة إن أبا جعفر عليه‌السلام كان يقول : إنّ الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم ، وإنّ الدين أوسع من ذلك» (١).

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أن الاحتياط قد يكون متعلّقا بنفس الحكم الشرعي ، وقد يكون متعلّقا بأفراد موضوعه ، وكيف كان ، فقد يكون متعلّقا بالفعل ، وقد يكون بالترك ، وقد يكون بالجمع بين الافراد المشكوك فيها.

ولنذكر جملة من الأمثلة ليتضح بها ما أجملناه ، ويظهر منها ما قلناه ، فمن الاحتياط الواجب في الحكم الشرعي المتعلّق بالفعل إذا اشتبه الحكم من الدليل بأن تردد بين احتمال الوجوب والاستحباب ، فالواجب هو التوقف في الحكم ، والاحتياط بالإتيان بذلك الفعل ، ومن يعتمد على أصالة البراءة يجعلها هنا مرجحة للاستحباب. وفيه :

أولا : ما عرفت من عدم الاعتماد على البراءة الأصلية في الأحكام الشرعية ، كما تقدّم في الدرة التي في المسألة.

وثانيا : أن ما ذكروه يرجع إلى أن الله تعالى حكم بالاستحباب لموافقة البراءة الأصلية ، ومن المعلوم أن أحكامه تعالى تابعة للحكم والمصالح المنظورة له تعالى ، وهو أعلم بها. ولا يمكن أن يقال : مقتضى المصلحة البراءة الأصلية ؛ فإنه

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٢ : ٣٦٨ / ١٥٢٩ ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٩١ ، أبواب النجاسات ، ب ٥ ، ح ٣.


رجم بالغيب ، وجرأة بلا ريب.

ومن هذا القسم أيضا ما تعارضت فيه الأخبار على وجه يتعذّر الترجيح بينها بالمرجّحات المنصوصة ، فإن مقتضى الاحتياط التوقف عن الحكم ، ووجوب الإتيان بالفعل ، متى كان مقتضى الاحتياط ذلك.

فإن قيل : إن الأخبار في الصورة المذكورة قد دلّ بعضها على الإرجاء ، وبعضها على العمل من باب التسليم.

قلنا : هذا أيضا من ذلك ، فإن التعارض المذكور مع عدم ظهور مرجح لأحد الطرفين ، ولا وجه يمكن الجمع به في البين مما يوجب دخول الحكم المذكور في المتشابهات المأمور فيها بالاحتياط.

ومن هذا القسم أيضا ما لم يرد فيه نص من الأحكام التي يعمّ بها البلوى عند من لم يعتمد على البراءة الأصلية ، فإن الحكم فيه ما ذكر كما سلف بيانه في درّة البراءة الأصلية (١) ، ومن الاحتياط الواجب في الحكم الشرعي ، لكن في الترك ما لو تردّد الفعل بين كونه واجبا أو محرما ، فإن المستفاد من الأخبار أن الاحتياط هنا بالترك ، كما تدلّ عليه موثقة سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه : أحدهما يأمر بأخذه ، والآخر ينهاه عنه ، كيف يصنع؟ قال : «يرجئه حتى يلقى من يخبره ، فهو في سعة حتى يلقاه» (٢).

وموثقة زرارة في اناس حجّوا بامرأة ، فقدموا إلى الوقت وهي لا تصلي ، وجهلوا أن مثلها ينبغي أن يحرم ، فمضوا بها كما هي ، حتى قدموا مكة ، وهي

__________________

(١) انظر الدرر ١ : ١٥٥ ـ ١٨٦ / الدرة : ٦.

(٢) الكافي ١ : ٦٦ / ٧ ، باب اختلاف الحديث ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٨ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٥.


طامث حلال ، فسألوا الناس ، فقالوا : تخرج إلى بعض المواقيت فتحرم منه ، وكانت إذا فعلت لم تدرك الحج ، فسألوا أبا جعفر عليه‌السلام ، فقال : «تحرم من مكانها ، فقد علم الله نيتها» (١).

وجه الدلالة أن المرأة المذكورة قد تركت واجبا لاحتمال حرمته شرعا ، والإمام عليه‌السلام قرّرها على ذلك ولم ينكره عليها ، بل استحسن ذلك من فعلها بقوله : «فقد علم الله نيتها» ، أي علم أن تركها للإحرام إنما نشأ من حيث اعتقادها تحريمه ، فهو يشعر بأن الحكم فيما لو كان كذلك هو الترك. وما توهّمه بعض مشايخنا المعاصرين ـ رضوان الله عليهم ـ من دلالة هذه الرواية على عدم الاحتياط حتى نظمها في سلك أخبار زعم أنها تدلّ على عدم الاحتياط ، وجعلها معارضة لأخبار الاحتياط غفلة ناشئة عن عدم إعطاء التأمل حقه من التحقيق ، وعدم النظر في الأخبار بعين التدقيق.

ومن الاحتياط المستحب في الحكم الشرعي بالفعل أو الترك ما إذا تعارضت الأدلّة في حكم بين فعله وجوبا أو استحبابا ، وترجح في نظر الفقيه الثاني بأحد القرائن أو المرجّحات الشرعية ، فإنّ الإتيان بالفعل أحوط ؛ ولذا ترى الفقهاء في مثل هذا الموضع يحملون الدليل المرجوح على الاستحباب ، تفاديا من طرحه ، كأخبار غسل الجمعة المتعارضة وجوبا واستحبابا عند من يرجح أخبار الاستحباب ، أو تعارضت الأخبار بين الحرمة والكراهة مع ترجيح الثاني ، فإنّ الاحتياط هنا بالترك. وعلى هذا أيضا جرى الفقهاء ـ رضوان الله عليهم ـ في غير موضع.

ومن الاحتياط الواجب في جزئيات موضوع الحكم الشرعي بالإتيان بالفعل

__________________

(١) الكافي ٤ : ٣٢٤ / ٥ ، باب من جاوز ميقات أرضه بغير إحرام .. ، وسائل الشيعة ١١ : ٣٣٠ ، أبواب المواقيت ، ب ١٤ ، ح ٦.


ما إذا علم أصل الحكم وكان هو الوجوب ، ولكن حصل الشك في اندراج بعض الأفراد تحته ، وستأتي صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج الواردة في جزاء الصيد دالة على ذلك. ومن هذا القسم ـ لكن مع كون الاحتياط بالترك ـ ما إذا كان الحكم الشرعي في المقام التحريم ، وحصل الشك في اندراج بعض الجزئيات كما ذكرنا ، فإن الاحتياط هنا بالترك كحكم السجود على الخزف ، والحكم بطهارته بالطبخ ، فإن أصل الحكم في كل من المسألتين معلوم ، ولكن هذا الفرد بسبب الشك في استحالته بالطبخ وعدمها ، قد حصل الشك في اندراجه تحت أصل الحكم.

فالاحتياط عند من يحصل له الشك المذكور واجب بترك السجود عليه وترك التيمم به ، لعدم الجزم ببقائه على أصل الأرضية ومنك الشك في اندراج بعض الأصوات ودخوله في الغناء المعلوم تحريمه ، فإن الاحتياط واجب بتركه. وأما من يعمل بالبراءة الأصليّة فإنه يرجح بها هاهنا جانب العدم فلا يتجه ذلك عنده.

ومن الاحتياط الواجب بالجمع بين الأفراد المشكوك فيها ما إذا اشتغلت ذمته تعيينا بواجب ، ولكن تردّد بين فردين أو أزيد من أفراد ذلك الواجب ، فإنه يجب عليه الإتيان بالجميع من قبيل ما لا يتم الواجب إلّا به ، فهو واجب ، كما إذا اشتغلت الذمة بفريضة من الصلوات الخمس مع جهلها في الخمس مثلا ، فإنّه يجب عليه الإتيان بالخمس مقتصرا فيما اشترك فيها في عدد بالإتيان بذلك العدد بنيّة (١) مرددة.

ومنه التردد في وجوب الجمعة ، فإنه يجب عليه الجمع بينها وبين الظهر.

إلى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها المتتبع.

__________________

(١) من «ح».


ولا باس بنقل جملة من الأخبار المشتملة على ذكر الاحتياط ، وتذييل كل منها بما يوقف الناظر على سواء الصراط ؛ فإن جملة من مشايخنا ـ رضوان الله عليهم ـ قد اشتبه عليهم ما تضمّنته من الأحكام حتى صرحوا بتعارضها في المقام على وجه يعسر الجمع بينها والالتئام كما تقدمت الإشارة إلى ذلك. فمن ذلك صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان ؛ الجزاء عليهما ، أم على كل واحد منهما؟ قال : «لا ، بل عليهما أن يجزي كل واحد منهما عن الصيد». قلت : إن بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه ، فقال عليه‌السلام : «إذا اصبتم بمثل هذا فلم تدروا ، فعليكم بالاحتياط» (١).

وهذه الرواية قد دلّت على وجوب الاحتياط في بعض جزئيات موضوع الحكم الشرعي مع الجهل بالحكم وعدم إمكان السؤال ، وذلك لأن ظاهر الرواية ، أن السائل عالم بأصل وجوب الجزاء ، وإنما شك في موضعه بكونه عليهما معا جزاء واحدا وعلى كل واحد جزاء بانفراده.

ومن ذلك صحيحته الاخرى عن أبي إبراهيم عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يتزوج المرأة في عدتها بجهالة ، أهي ممن لا تحل له أبدا؟ فقال : «لا ، أما إذا كان بجهالة فليتزوجها بعد ما تنقضي عدتها ، وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك».

فقلت : أي الجهالتين أعذر بجهالته أن يعلم أن ذلك محرّم عليه ، أم بجهالته أنها في عدة؟ فقال : «إحدى الجهالتين أهون من الاخرى : الجهالة بأنّ الله حرم عليه ذلك ، وذلك أنه لا يقدر على الاحتياط معها». فقلت : هو في الاخرى معذور؟ فقال : «نعم ،

__________________

(١) الكافي ٤ : ٣٩١ / ١ ، باب القوم يجتمعون على الصيد وهم محرمون ، تهذيب الأحكام ٥ : ٤٦٦ ـ ٤٦٧ / ١٦٣١ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٥٤ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ١.


إذا انقضت عدتها ، فهو معذور في أن يتزوّجها» (١).

أقول : هذه الرواية قد اشتملت على أحد فردي الجاهل بالحكم الشرعي ، والجاهل ببعض جزئيات موضوعه ، ودلت على معذورية كل منهما ، إلّا إن الأوّل أعذر ؛ لعدم قدرته على الاحتياط.

وبيان ذلك أن الجاهل بالحكم الشرعي ـ وهو تحريم التزويج في العدة جهلا ساذجا غير متصور له بالمرة ـ لا يتصور الاحتياط في حقه بالكلية ، لعدم تصوره الحكم بالمرة كما عرفت.

وأما الجاهل بكونها في عدة مع علمه بتحريم التزويج في العدة ، فهو جاهل بموضوع الحكم المذكور مع معلومية أصل الحكم له ، ويمكنه الاحتياط بالفحص والسؤال عن كونها ذات عدة أم لا ، إلّا إنه غير مكلف به ، بل ظاهر الأخبار مرجوحية السؤال والفحص كما تقدمت الإشارة إليه عملا بسعة الحنفية السمحة السهلة.

نعم ، لو كان في مقام الريبة ، فالأحوط السؤال كما يدلّ عليه بعض الأخبار ، ومن ذلك رواية عبد الله بن وضاح قال : كتبت إلى العبد الصالح عليه‌السلام : يتوارى القرص ويقبل الليل ، ثم يزيد الليل ارتفاعا وتستر عنا الشمس وترتفع فوق الجبل حمرة ، ويؤذن عندنا المؤذنون ، فاصلّي حينئذ وأفطر إن كنت صائما ، أو أنتظر حتى تذهب الحمرة التي فوق الجبل؟ فكتب إليّ : «أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة ، وتأخذ بالحائطة لدينك» (٢).

__________________

(١) الكافي ٥ : ٤٢٧ / ٣ ، باب المرأة التي تحرم على الرجل فلا تحلّ له أبدا ، تهذيب الأحكام ٧ : ٣٠٦ / ١٢٧٤ ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٤٥٠ ـ ٤٥١ ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، ب ١٧ ، ح ٤.

(٢) تهذيب الأحكام ٢ : ٢٥٩ / ١٠٣١ ، الاستبصار ١ : ٢٦٤ / ٩٥٢ ، وفيه : عبد الله بن صباح ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٦٦ ـ ١٦٧ أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٤٢.


أقول : والاحتياط هنا بالتوقف على ذهاب الحمرة عند من قام له الدليل على أن الغروب عبارة عن استتار القرص المعلوم ، لعدم رؤيته عند المشاهدة ، مع عدم الحائل محمول على الاستحباب ، وأما عند من يجعل أمارة الغروب زوال الحمرة كما هو المختار عندنا ـ لحمل تلك الأخبار على التقية ـ فهو محمول على الوجوب. وكلامه عليه‌السلام هنا محتمل لكل من الأمرين.

ومن ذلك صحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر عن الرضا عليه‌السلام في المتمتع بها ، حيث قال فيها : «اجعلوهن من الأربع» ، فقال له صفوان بن يحيى : على الاحتياط؟ قال : «نعم» (١).

والظاهر كما استظهره أيضا جملة من أصحابنا (٢) ـ رضوان الله عليهم ـ حمل الاحتياط هنا على المحاذرة من العامة والتقية منهم ؛ لاستفاضة النصوص وذهاب جمهور الأصحاب إلى عدم الحصر في المتعة ، وأنها ليست من السبعين (٣) فضلا عن الأربع. ولعل وجهه أنه إذا اقتصر على جعلها رابعة لم يمكن الاطلاع عليه بكونها متعة ليطعن عليه بذلك ويتيسّر له دعوى الدوام لو أنهم بخلاف ما إذا كانت زائدة على الأربع ، فإنه لا يتم له الاعتذار ولا النجاة من اولئك الفجار.

ومن ذلك رواية شعيب الحداد قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل من مواليك يقرئك السّلام ، وقد أراد أن يتزوج امرأة قد وافقته وأعجبه بعض شأنها ، وقد كان لها زوج فطلّقها ثلاثا على غير السنة ، وقد كره أن يقدم على تزويجها حتى

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٧ : ٢٥٩ / ١١٢٤ ، الاستبصار ٣ : ١٤٨ / ٥٤٢ ، وسائل الشيعة ٢١ : ٢٠ ، أبواب المتعة ، ب ٤ ، ح ٩.

(٢) وسائل الشيعة ٢١ : ٢٠ ، أبواب المتعة ، ب ٤ ، ذيل الحديث : ٩.

(٣) الكافي ٥ : ٤٥١ / ٤ ، باب أنهن بمنزلة الإماء .. ، وسائل الشيعة ٢١ : ١٩ ، أبواب المتعة ، ب ٤ ، ح ٧.


يستأمرك ، فتكون أنت آمره. فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «هو الفرج وأمر الفرج شديد ، ومنه يكون الولد ، ونحن نحتاط فلا يتزوجها» (١).

أقول : ظاهر هذا الخبر كما ترى كون المطلق مخالفا ، ولا خلاف بين الأصحاب في إلزامه بما ألزم به نفسه من صحة الطلاق ، وبه استفاضت جملة من الأخبار أيضا ، وحينئذ فيحمل الاحتياط هنا على الاستحباب ، إلّا إن الأقرب عندي هو أن يقال : إن الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ وإن اتّفقوا على الحكم المذكور ، إلا إن الروايات فيه مختلفة ؛ فإن جملة من الأخبار وإن دلّت على ما ذهب إليه الأصحاب إلا إن جملة منها قد دلّت على أنه : «إياكم وذوات الأزواج المطلقات على غير السنة» (٢).

وحمل بعض الأصحاب لها على غير المخالف يردّه ما اشتمل عليه بعضها من ذكر المخالف.

والحكم حينئذ لا يخلو من نوع اشتباه ؛ لتعارض الأخبار ، والاحتياط فيه مطلوب ، والأمر بالاحتياط في هذا الخبر مما قوّى الشبهة وأكّدها. وحينئذ ، فلا يبعد وجوب الاحتياط هنا. ويحتمل أن يكون هذا الخبر من جملة الأخبار المانعة وإن عبر عن ذلك بالاحتياط ، وجعله في قالبه ، فيتحتّم كون الاحتياط فيه على جهة الوجوب ، والله سبحانه وقائله أعلم بحقيقة الحال.

وأما الأخبار الدالة على رجحان العمل بالاحتياط على الإطلاق ، فهي كثيرة ، ومنها قول أمير المؤمنين عليه‌السلام لكميل بن زياد ، فيما رواه الشيخ رحمه‌الله في (الأمالي)

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٧ : ٤٧٠ / ١٨٨٥ ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٢٥٨ ، أبواب مقدمات النكاح ب ١٥٧ ، ج ١.

(٢) الكافي ٥ : ٤٢٣ / ١ ، باب تزويج المرأة التي تطلق على غير السنة ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٤٩٥ ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، ب ٣٥ ، ح ٢.


مسندا عن الرضا عليه‌السلام : «يا كميل ، أخوك دينك فاحتط لدينك» (١).

وما رواه الشهيد عن الصادق عليه‌السلام في حديث عنوان البصري : «وخذ بالاحتياط لدينك في جميع امورك ما تجد إليه سبيلا» (٢).

وما رواه الفريقان عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (٣) ، وما روي عنهم عليهم‌السلام : «ليس بناكب عن الصراط من سلك طريق الاحتياط» (٤) وقد تقدم جملة من الأخبار في درة البراءة الأصلية (٥) ناصة على وجوب التوقف في مقام الشبهة وعدم العلم. وحينئذ ، فما ذهب إليه ذلك البعض المتقدّم ذكره في صدر المسألة من عدم مشروعية الاحتياط خروج عن سواء الصراط ، حيث قال : (إن الاحتياط ليس بحكم شرعي فلا يجوز العمل بمقتضاه ، بل الواجب أن يعمل به هو ما ساق إليه الدليل (٦)) انتهى.

وهو غفلة عما فصّلته هذه الأخبار التي ذكرناها ، وأجملته الأخبار التي تلوناها. ولعل كلام هذا القائل مبنية على حجيّة البراءة الأصلية والعمل عليها ، إلّا

__________________

(١) الأمالي : ١١٠ / ١٦٨ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٦٧ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٤٦.

(٢) انظر : بحار الأنوار ١ : ٢٢٦ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٧٢ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٦١.

(٣) عوالي اللآلي ١ : ٣٩٤ / ٤٠ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٧٣ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٦٣ ، الجامع الصحيح ٤ : ٦٦٨ / ٢٥١٨ ، المستدرك على الصحيحين ٢ : ١٦ / ٢١٦٩ ـ ٢١٧٠.

(٤) ذكره زين الدين الميسي في إجازته لولده ، انظر بحار الأنوار ١٠٥ : ١٢٩ ، وذكره الشيخ محمود بن محمد الأهمالي في إجازته للسيد الأمير معين الدين ابن شاه أبي تراب ، انظر بحار الأنوار ١٠٥ : ١٨٧ ، ولم يورداه على انه حديث.

(٥) انظر الدرر ١ : ١٥٥ ـ ١٨٦ / الدرة : ٦.

(٦) في «ح» بعدها : ورجحه وكل ما ترجح عنده تعيّن عليه وعلى مقلده العمل به ، والعمل بالاحتياط عمل ما لم يؤدّ إليه الدليل.


إن الأخبار كما عرفت في الدرة الموضوعة فيها تدفعه ، وجملة من علمائنا الاصوليين ، فضلا عن جملة أصحابنا الأخباريين ، قد منعوا من العمل بها. وما ادّعاه من أن الواجب هو (١) العمل بما قام عليه الدليل مسلم ، إلّا إنه بناء على عدم العمل (٢) بالبراءة الأصلية ، فالأدلة تتصادم وتتعارض على وجه لا يمكن الترجيح فيها ، وقد تتشابه فلا يكون الحكم ظاهرا منها ، وقد لا يوجد دليل على الحكم المطلوب بالكلية.

والأخبار قد استفاضت بالردّ إليهم عليهم‌السلام في بعض الأحكام ، والوقوف كما تقدمت في درّة البراءة الأصلية ، والمستفاد من الأخبار كما قدّمناه في الدرة المشار إليها أن الله سبحانه كما تعبد بالعمل بالأمر والنهي في بعض الأحكام ، تعبد بالتوقف في بعض والعمل بالاحتياط ، فقوله : (إن الاحتياط ليس بدليل شرعي) على إطلاقه ممنوع.

نعم ، لو كان ذلك الاحتياط إنما نشأ من الوساوس الشيطانية والأوهام النفسانية كما يقع من بعض الناس المبتلين بالوسواس ، فهذا ليس باحتياط ، بل الظاهر من الأخبار تحريمه ؛ لما ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله : «الوضوء بمدّ والغسل بصاع ، وسيأتي أقوام [بعدي] يستقلون ذلك ، فاولئك على غير سنتي ، والثابت على سنتي معي في حظيرة القدس» (٣).

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) من «ح».

(٣) الفقيه ١ : ٢٣ / ٧٠ ، وسائل الشيعة ١ : ٤٨٣ ، أبواب الوضوء ، ب ٥٠ ، ح ٦.



(٢٥)

درّة نجفيّة

في الشبهة المحصورة وغير المحصورة

الظاهر من كلام جمهور الأصحاب ، بل لا أعرف فيه خلافا إلّا من بعض متأخّري المتأخّرين ممن سيأتي ذكرهم هو الفرق بين المحصور وغير المحصور بالنسبة إلى اشتباه الحلال بالحرام والنجس بالطاهر ، بمعنى أنه لو اختلط الحلال بالحرام ، والنجس بالطاهر في أفراد محصورة حكم بتحريم الجميع ونجاسته ، ولو اشتبه أحدهما بالآخر في أفراد غير محصورة كان كل من تلك الأفراد على ظاهر الحليّة والطهارة ، حتى يعلم الحرام أو النجس بعينه.

ووجه الفرق بينهما ظاهر ؛ وذلك فإنه مع كون تلك الأفراد محصورة في عدد معيّن وأشخاص متميزة ، فإنه يعلم وجود الحرام قطعا ، والشارع قد أوجب اجتنابه مطلقا ـ أعم من أن يكون متعينا متشخصا ، أو مختلطا بأفراد محصورة ـ إذ الأدلة الدالة على وجوب اجتنابه مطلقة ، فإن قوله سبحانه (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) (١) شامل بإطلاقه لما لو كانت الميتة متميزة ، ولما لو كانت مشتبهة بفردين أو ثلاث مثلا. وقوله سبحانه (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ) (٢) الآية ، شامل بإطلاقه لما لو كانت الامّ متشخّصة ، ولما لو كانت مشتبهة بأجنبية أو

__________________

(١) المائدة : ٣.

(٢) النساء : ٢٣.


مختلطة بامرأتين أو أكثر. وهكذا باقي المحرمات في الآية.

غاية الأمر أن وجوب الاجتناب في موضع الاشتباه لمّا كان لا يمكن ولا يتم إلّا باجتناب جملة الأفراد المختلطة بها ، وجب اجتناب الجميع ، من باب (ما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب) ، وأمّا في غير المحصورة فإنه لا يعلم وجود الحرام ثمة ، ولا يقطع بحصوله ، فلا يتعلق التكليف الشرعي باجتنابه ووجوده في الواقع ونفس الأمر بحيث يحتمل كون هذا الفرد والأفراد منه لا يجدي نفعا في المقام ؛ لأن الشارع لم يجعل الواقع ونفس الأمر مناطا للأحكام الشرعية ، وإنما جعلها منوطة بنظر المكلف وعلمه كما لا يخفى على من أحاط خبرا بالقواعد الشرعية والضوابط المرعية. ولم أر من خالف في هذه القاعدة الكلية والضابطة الجلية ، سوى جماعة من متأخّري المتأخّرين وذلك في مقامين :

المقام الأول : في مسألة الإناءين

حيث إن الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ بناء على القاعدة المذكورة المؤيدة بالأخبار ، ولا سيما في خصوص المسألة المذكورة ـ أوجبوا اجتنابهما معا ، بل نقل الإجماع على ذلك جماعة من أجلاء الأصحاب منهم الشيخ في (الخلاف) (١) ، والمحقق في (المعتبر) (٢) والعلّامة في (المختلف) (٣) ، واحتج في (المعتبر) بعد نقل الاتفاق على ذلك : بأن (يقين الطهارة في كل منهما معارض بيقين النجاسة ولا رجحان ، فيتحقق المنع) (٤).

وأورد عليه في (المعالم) بأن يقين الطهارة في كل واحد بانفراده إنما يعارضه الشك في النجاسة لا اليقين (٥). ونقل السيد السند في (المدارك) عن العلّامة أنه

__________________

(١) الخلاف ١ : ١٩٦ / المسألة : ١٥٣.

(٢) المعتبر ١ : ١٠٣.

(٣) مختلف الشيعة ١ : ٨١ / المسألة : ٤٣.

(٤) المعتبر ١ : ١٠٣.

(٥) معالم الدين وملاذ المجتهدين / قسم الفقه ١ : ٣٧٨.


احتج في (المختلف) أيضا على ذلك بأن اجتناب النجس واجب قطعا ، وهو لا يتمّ إلّا باجتنابهما معا ، وما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب (١). واعترضه بأن (اجتناب النجس لا يقطع بوجوبه إلّا مع تحققه بعينه لا مع الشكّ فيه ، واستبعاد سقوط حكم هذه النجاسة شرعا إذا لم يحصل المباشرة بجميع ما وقع فيه الاشتباه غير ملتفت إليه. وقد ثبت نظيره في حكم واجدي المني في الثوب المشترك ، واعترف به الأصحاب في غير المحصور أيضا ، والفرق بينه وبين المحصور غير واضح عند التأمل) (٢) انتهى.

وقد تقدّمه في هذا الكلام شيخه المولى الأردبيلي قدس‌سرهما (٣) ، وقد جرى على هذا المنوال جملة ممن تأخّر عنهما (٤) ، وحيث إن المسألة المذكورة ممّا لم يعطها حقها من التحقيق أحد من الأصحاب ، ولم يميز القشر منها من اللباب مع تكثر أفرادها في الأحكام ودورانها في كلام علمائنا الأعلام ، فحريّ بنا أن نبسط فيها الكلام بما يقشع عنها غياهب الظلام ، ونبيّن ما في كلام هؤلاء الأعلام من سقوط ما اعترضوا به في المقام ، فنقول :

أولا : لا يخفى على من مارس الأحكام ، وخاض في تيّار ذلك البحر القمقام أن القواعد الكليّة الواردة عنهم عليهم‌السلام (٥) في الأحكام الشرعية كما تكون باشتمال القضية على سور الكلية ، كذلك تحصل بتتبع الجزئيات الواردة عنهم عليهم‌السلام ، كما في القواعد النحوية ، وما صرّح به الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ في حكم

__________________

(١) مختلف الشيعة ١ : ٨١ / المسألة : ٤٣ ، وقد ذكر الحكم دون العلّة ، وهي مذكورة في مدارك الأحكام ١ : ١٠٧.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ١٠٧ ـ ١٠٨.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٨٢ ، وفيه القول بالاحتياط دون الوجوب.

(٤) ذخيرة المعاد : ١٣٨.

(٥) في «ق» بعدها : كما في القواعد النحوية ، وما أثبتناه وفقا لـ «ح».


المحصور وغير المحصور في هذا المقام ، وإن كان لم يرد في الأخبار بقاعدة كلية ، إلّا إن المستفاد منها على وجه لا يزاحمه الريب في خصوصيات الجزئيات التي تصلح للاندراج تحت كل من المحصور وغير المحصور هو ما ذكروه وصرّحوا به من التفصيل ، بل في بعض الأخبار تصريح بكلية الحكم في بعض تلك الأفراد كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وها أنا أذكر لك ما وقفت عليه من المواضع والجزئيات المتعلّقة بكل من ذينك الفردين ؛ فأما ما دل على حكم المحصور وأنه يلحق المشتبه فيه حكم ما اشتبه به من نجاسة أو تحريم :

فأحدها : ما نحن فيه من مسألة الإناءين ، فقد روى عمار في الموثق عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه سئل عن رجل معه إناءان فيهما ماء ووقع في أحدهما قذر لا يدري أيهما هو قال : «يهريقهما ويتيمم» (١).

ومثله روى سماعة في الموثق (٢).

وهما صريحتان في الحكم.

وطعن جملة من متأخّري المتأخّرين (٣) في الخبرين بضعف السند بناء على الاصطلاح المحدّث بينهم ، وبعض منهم جبر ضعفهما بعمل الأصحاب بهما (٤).

وجملة منهم إنّما اعتمدوا على الإجماع المدّعى في هذه المسألة (٥). والكل

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ : ٢٤٨ / ٧١٢ ، وسائل الشيعة ١ : ١٥٥ ـ ١٥٦ ، أبواب الماء المطلق ، ب ٨ ، ح ٤.

(٢) الكافي ٣ : ١٠ / ٦ ، باب الوضوء من سؤر الدواب ، وسائل الشيعة ١ : ١٥١ ، أبواب الماء المطلق ، ب ٨ ، ح ٢.

(٣) معالم الدين وملاذ المجتهدين / قسم الفقه ١ : ٣٩٨ ، مدارك الأحكام ١ : ١٠٧ وقد نسب الضعف لجماعة من الفطحية في سندها.

(٤) ذخيرة المعاد : ١٣٨.

(٥) مشارق الشموس : ٢٨٨.


بمكان من الضعف فإنه لم يقم لنا دليل على صحة هذا الاصطلاح الذي اعتمدوه ، بل كلماتهم في غير مكان ممّا تدلّ على أنه متداعي الأركان منهدم البنيان كما أوضحناه في مواضع من مؤلفاتنا ، ولا سيما كتاب (المسائل الشيرازية) وكتاب (الحدائق الناضرة) (١).

وثانيها : الثوب الطاهر المشتبه بثوب آخر نجس ، فإنه لا خلاف بين الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ ممن منع الصلاة عاريا في أنه يجب الصلاة فيهما على جهة البدلية حتى من هؤلاء الفضلاء المنازعين في هذه المسألة ، ولم يجوّز أحد منهم الصلاة في واحد منهما خاصة ، مع أن مقتضى ما قالوه في مسألة الإناءين جواز ذلك.

ويدل على الحكم المذكور من النصوص حسنة صفوان بن يحيى عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه كتب إليه يسأله عن رجل كان معه ثوبان ، فأصاب أحدهما بول ، ولم يدر أيهما هو ، وحضرت الصلاة وخاف فوتها ، وليس عنده ماء ، كيف يصنع؟

قال : «يصلي فيهما» (٢).

قال شيخنا الصدوق رضي‌الله‌عنه في (الفقيه) بعد نقل الرواية : (يعني على الانفراد) (٣).

قال في (المدارك) ـ بعد أن نقل القول بذلك عن الشيخ (٤) وأكثر الأصحاب ، وقال : إنّه المعتمد ، ونقل عن بعض الأصحاب أنه يطرحهما ويصلي عريانا (٥) ـ ما صورته : (ومتى امتنع الصلاة عاريا ثبت وجوب الصلاة في أحدهما ، أو كلّ

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٥٠٢ ـ ٥٠٤.

(٢) الفقيه ١ : ١٦١ / ٧٥٧ ، وسائل الشيعة ٣ : ٥٠٥ ، أبواب النجاسات ، ب ٦٤ ، ح ١ ، وفيهما : يصلي فيهما جميعا.

(٣) الفقيه ١ : ١٦١ / ذيل الحديث : ٧٥٧.

(٤) الخلاف ١ : ١٩٦ / المسألة : ١٥٣ ، المبسوط ١ : ٣٩ ، النهاية : ٥٥.

(٥) انظر السرائر ١ : ١٨٤ ـ ١٨٥.


منهما ؛ إذ المفروض انتفاء غيرهما ، والأول منتف ؛ إذ لا قائل به ، فيثبت (١) الثاني ، ويدلّ عليه ما رواه صفوان) (٢) ، ثم ساق الرواية.

وأنت خبير بما فيه ؛ فإن مقتضى ما ذكره في مسألة الإناءين واختاره فيها ، وما ذكره أيضا في مسألة السجود مع حصول النجاسة في المواضع المتسعة ـ حيث قال بعد البحث في المسألة : (والذي يقتضيه النظر عدم الفرق بين المحصور وغيره ، وأنه لا مانع من الانتفاع بالمشتبه فيما يفتقر إلى الطهارة إذا لم يستوعب المباشرة بجميع ما وقع فيه الاشتباه (٣) ـ أنه يجزي هنا الصلاة في ثوب واحد ، وتوقّف القول به على وجود القائل جار في الموضعين الآخرين ، فإنه لم يخالف في تينك (٤) المسألتين أحد سواه ومن حذا حذوه واقتفاه.

والجواب عنه بوجود النص المعتمد في الثوب النجس ، وعدم وجوده ثمة ؛ لضعف النص في مسألة الإناءين عنده ، وعدم النص في مسألة السجود ضعيف :

أولا : بأنّه بالتأمل في النصوص الواردة في الأحكام المتفرقة ، وضم بعضها إلى بعض ـ كما سنوضحه إن شاء الله تعالى ـ يعلم أن ذلك حكم كلي.

وثانيا : أن ما ذكره من التعليل في الموضعين يعطي كون الحكم عنده كليا في مسألة الطاهر المشتبه بالنجس مطلقا لا بخصوص تينك (٥) المسألتين ، ولا ريب أن وجود الرواية في هذا الجزئي ممّا يبطل دعوى كون الحكم كليا.

وثالثها : الثوب النجس بعضه مع وقوع الاشتباه في جميع أجزاء الثوب ، فإنه لا خلاف بين الأصحاب حتى من هذا الفاضل ومن تبعه ، وقال بمقالته أنه لا يحكم بطهارة الثوب إلّا بغسله كملا ، وبه استفاضت الأخبار ، ففي صحيحة محمد بن

__________________

(١) في «ح» : فثبت.

(٢) مدارك الأحكام ٢ : ٣٥٦.

(٣) مدارك الأحكام ٣ : ٢٥٣.

(٤) من «ق» وفي النسختين : تلك.

(٥) من «ق» ، وفي النسختين : تلك.


مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام أنه قال في المني يصيب الثوب : «فإن عرفت مكانه فاغسله ، وإن خفي عليك فاغسل الثوب كله» (١).

ومثلها صحيحة زرارة (٢) وحسنة محمد بن مسلم (٣) ورواية ابن أبي يعفور (٤) وغيرها (٥).

قال السيد في (المدارك) بعد نقل عبارة المصنف (٦) في ذلك : (هذا قول علمائنا ، وأكثر العامة ـ قاله في (المعتبر (٧)) (٨) ـ واستدل عليه بأن النجاسة موجودة بيقين ، ولا يحصل اليقين بزوالها إلّا بغسل جميع ما وقع فيه الاشتباه.

ويشكل بأن يقين النجاسة يرتفع بغسل جزء ممّا وقع فيه الاشتباه يساوي قدر النجاسة ، وإن لم يحصل القطع بغسل ذلك المحل بعينه) (٩) انتهى ، وفيه :

أولا : أن الظاهر أن ما ذكره المحقق رحمه‌الله من التعليل هنا وفي مسألة الإناءين ، بل في سائر المواضع المنصوصة إنما هو على جهة التوجيه للنص وبيان حكمة الأمر فيه ؛ لأنّه مع وجود النص فلا ضرورة تلجئ إلى التعليل بالوجوه العقلية.

على أن أحكام الشرع توقيفية لا تعلل بالعقول ، كما أطال به المحقق الكلام في أوّل كتاب (المعتبر) (١٠) ، وغيره في غيره. وحينئذ ، فلا إشكال.

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ : ٢٦٧ / ٧٨٤ ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٢٣ ، أبواب النجاسات ، ب ١٦ ، ح ١.

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ٤٢١ / ١٣٣٥ ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٠٢ ، أبواب النجاسات ، ب ٧ ، ح ٢.

(٣) تهذيب الأحكام ١ : ٢٥١ / ٧٣٠ ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٢٤ ، أبواب النجاسات ، ب ١٦ ، ح ٢.

(٤) الكافي ٣ : ١٥٣ / ١ ، باب المنهي والمذي يصيبان الثوب والجسد ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٢٥ ، أبواب النجاسات ، ب ١٦ ، ح ٦.

(٥) الكافي ٣ : ٥٤ / ٤ ، باب المني والمذي يصيبان الثوب والجسد ، تهذيب الأحكام ١ : ٢٥٢ / ٧٢٨ ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٠٣ ، أبواب النجاسات ، ب ٧ ، ح ٥.

(٦) شرائع الإسلام ١ : ٤٦.

(٧) في «ح» : قتلهم الله ، بدل : قاله في المعتبر.

(٨) المعتبر ١ : ٤٣٧.

(٩) مدارك الأحكام ٢ : ٣٣٤.

(١٠) المعتبر ١ : ٢٨ ـ ٣٣.


نعم ، هذا الإشكال موافق لما اختاره في ذينك الموضعين ، ولكنه وارد عليه في هذا الموضع ، حيث إن مقتضى ما اختاره ثمة الاكتفاء بغسل جزء من الثوب ، كما ذكره ولكن النصوص تدفعه ، وهو دليل على ما ادّعيناه وصريح فيما قلناه من القاعدة المقرّرة والضابطة المعتبرة ، وأن كلامه قدس‌سره ثمة مجرد استبعاد عقلي وخيال وهمي.

وثانيا : أنه متى كان يقين النجاسة هنا يرتفع بغسل جزء ممّا وقع فيه من الاشتباه ـ بمعنى (١) أنا لا نقطع حينئذ ببقاء النجاسة ؛ لجواز كونها في ذلك الجزء الذي قد غسل ـ فإنا نقول أيضا مثله في مسألة الإناءين : إنه بعد وقوع النجاسة في واحد منهما لا على التعيين ، فقد زال يقين الطهارة الحاصل أولا من كل ذينك الإناءين. وهكذا في الثوب والمكان المحصورين ، فإنه قد يتساوى (٢) احتمال الملاقاة وعدم الملاقاة في كل جزء جزء من تلك (٣) الأجزاء المشكوك فيها. وهذا القدر يكفي في زوال ذلك اليقين الحاصل قبل الملاقاة والخروج عن مقتضاه.

ورابعها : اللحم المختلط ذكيه بميّته ، فقد ذهب الأصحاب إلى تحريم الجميع من غير خلاف يعرف وعليه دلّت الأخبار ، ومنها حسنة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه سئل عن رجل كانت له غنم وبقر ، وكان يدرك الذكي منها فيعزله ويعزل الميتة ، ثم إن الميتة والذكي اختلطا كيف يصنع؟ قال : «يبيعه ممّن يستحلّ الميتة ويأكل ثمنه» (٤).

__________________

(١) من «ح».

(٢) في «ح» : تساوي.

(٣) من «ح».

(٤) الكافي ٦ : ٢٦٠ / ٢ ، باب اختلاط الميتة بالذكي ، وسائل الشيعة ١٧ : ٩٩ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٧ ، ح ٢.


ومثلها حسنته الاخرى أيضا (١).

ويأتي بمقتضى ما ذكره السيد ومن تبعه أن كل قطعة لاحظناها من هذا اللحم فهي حلال لا يحكم بنجاستها ولا يحرم أكلها ؛ لأن الواجب إنما هو اجتناب ما تحقق تحريمه بعينه لا ما اشتبه بالحرام (٢). والنصوص كما عرفت تدفعه.

ولو قيل : إنه ربما يتمسّك هنا بأصالة عدم التذكية.

قلنا : يعارضه التمسّك بأصالة الطهارة وأصالة الحليّة.

وأما ما ورد في غير المحصور فهو في مواضع ، منها الأخبار الدالة على أن :«كلّ شي‌ء طاهر حتى تعلم أنه قذر» (٣).

ومنها الأخبار الدالة على أن كل شي‌ء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه (٤). وحيث كان هذا الفرد غير محلّ النزاع في المقام ، فلا فائدة في التطويل (٥) والكلام. وسيأتي في المقام الثاني إن شاء الله تعالى من البسط في البحث ما يتقشع به غياهب الظلام.

هذا ، وأما ما أورده في (المعالم) (٦) على المحقق ، فيندفع بما أشرنا إليه آنفا من أنه قد حصل لنا اليقين بنجاسة أحد الإناءين لا (٧) على التعيين ، وهذا اليقين

__________________

(١) الكافي ٦ : ٢٦٠ / ١ ، باب اختلاط الميتة بالذكي ، وسائل الشيعة ١٧ : ٩٩ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٧ ، ح ١.

(٢) من «ح» ، وفي «ق» : التحريم.

(٣) تهذيب الأحكام ١ : ٢٨٤ / ٨٣٢ ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٦٧ ، أبواب النجاسات ، ب ٣٧ ، ح ٤ ، وفيهما : نظيف ، بدل : طاهر.

(٤) انظر : الكافي ٥ : ٣١٣ / ٣٩ ـ ٤٠ ، باب نوادر كتاب المعيشة ، الفقيه ٣ : ٢١٦ / ١٠٠٢ ، تهذيب الأحكام ٧ : ٢٢٦ / ٩٨٨ ، و ٩ : ٧٩ / ٣٣٧ ، وسائل الشيعة ١٧ : ٨٩ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤ ، ح ٤.

(٥) في «ح» : تطويل البحث فيه.

(٦) معالم الدين وملاذ المجتهدين / قسم الفقه ١ : ٣٧٨.

(٧) من «ح».


أوجب حدوث حالة متوسطة بين الطهارة والنجاسة في كل واحد من ذينك الإناءين على حدة ، فهو ليس بمتيقن الطهارة ولا متيقن النجاسة ، وحينئذ فهو من باب نقض اليقين بيقين مثله.

وأما ما ذكره السيد قدس‌سره من أن اجتناب النجس لا يقطع بوجوبه إلّا مع تحققه بعينه (١) فمردود بأن الأخبار ـ كما عرفت ـ ممّا قدمنا في الصور المعدودة وغيرها ممّا سيأتي في المقام الآتي إن شاء الله تعالى ، كما أنها دلّت على وجوب الاجتناب مع اليقين دلّت على وجوب الاجتناب مع الاشتباه بمحصور. وقياس هذه المسألة على مسألة واجدي المني في الثوب المشترك قياس مع الفارق ؛ لوجود النصوص الدالة على الاجتناب في هذه المسألة ونظائرها ـ كما عرفت ـ وعدم النص في تلك المسألة على ما ذكره الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ فيها من الأحكام.

فإن قيل : كلام الأصحاب وإن كان من غير نص في الباب ليعترض به هنا ، فينبغي أن يقبل ما ذكروه في هذه المسألة مع اعتضاده بالنصوص والنظائر المذكورة بالإجمال والخصوص ، وإلّا فلا معنى للإيراد بكلامهم.

على أنا نقول : إنه حيث لا نص عندهم في تلك المسألة فمن الجائز أن يكون حكمها شرعا هو الدخول تحت هذه الكلية المعتضدة بالنصوص الجلية (٢) ، وإيجاب الغسل على كل من الواجدين للمني.

وبالجملة ، فالإيراد بالمسألة المذكورة إنما يتم لو اعتضد ما ذكروه فيها بالنص ليدافع ما أوردناه من النصوص. وأما قوله : (والفرق بين غير المحصور والمحصور غير واضح) ، ففيه أنا قد أشرنا في صدر الكلام إلى وجه الفرق بينهما ،

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ١٠٧ ـ ١٠٨.

(٢) من «ح».


ويزيده بيانا ما يأتي في المقام الثاني إن شاء الله تعالى من البيان الواضح البرهان.

المقام الثاني : في الحلال المختلط بالحرام إذا كان محصورا

فإن الحكم فيه بمقتضى القاعدة المتقدّمة المعتضدة بالأخبار وإجماع الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ هو التحريم في الجميع كما عرفت. والمفهوم من كلام الفاضل المولى محمد باقر الخراساني في (الكفاية) والمحدث الكاشاني في (المفاتيح) هو حلّ الجميع.

قال الفاضل المشار إليه في الكتاب المذكور في مسألة اللحم المختلط ذكيّه بميّته ما لفظه : (والمشهور بين المتأخّرين أنه إذا اختلط ولم يعلم وجب الاجتناب من الجميع حتى يعلم الذكي بعينه ، ومستند ذلك عندهم قاعدة معروفة عندهم ، هي أن الحرام يغلب الحلال في المشتبه ، وبعض الروايات العاميّة ، وبعض الاعتبارات العقلية. وفي الكل نظر.

وقول الصادق عليه‌السلام في صحيحة عبد الله بن سنان : «كل شي‌ء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه» (١) يدل على الحلّ وكذلك غيرها من الأخبار) (٢) انتهى.

وقال المحدّث الكاشاني في (المفاتيح) في مسألة اللحم المختلط أيضا : (وإذا اختلط الذكيّ بالميت وجب الامتناع منه حتى يعلم الذكي بعينه ، لوجوب اجتناب الميت ، ولا يتم إلّا بذلك ، كذا قالوه. وفي الصحيحين : «إذا اختلط الذكي

__________________

(١) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٣٩ ، باب نوادر كتاب المعيشة ، تهذيب الأحكام ٩ : ٧٩ / ٣٣٩ ، وسائل الشيعة ٢٤ : ٢٣٦ ، أبواب الأطعمة المحرّمة ، ب ٦٤ ، ح ٢.

(٢) كفاية الأحكام : ٢٥١.


والميتة باعه ممن يستحلّ الميتة ويأكل ثمنه» (١)) (٢) انتهى.

وقال في مسألة ما يحلّ ويحرم بالعارض : (وإذا اختلط الحلال بالحرام ، فهو له حلال حتى يعرف الحرام بعينه للصحيح وغيره ، حتى يعرف أنه حرام بعينه كما مرّ) (٣) انتهى.

واستدل (٤) في شرح (المفاتيح) لهذا القول نصرة لعمه قدس‌سرهما بصحيحة عبد الله بن سنان المتقدّمة في كلام الفاضل الخراساني ، وموثقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول : «كل شي‌ء هو لك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل ثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، أو المملوك عندك ولعلّه حرّ وقد باع نفسه أو خدع فبيع أو قهر ، أو امرأة تحتك وهي اختك أو رضيعتك. والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك ، أو تقوم به البينة» (٥).

وموثقة سماعة قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أصاب مالا من عمل بني امية ، وهو يتصدّق منه ، ويصل قرابته ، ويحجّ ليغفر له ما اكتسب ، وهو يقول : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) (٦). فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إنّ الخطيئة لا تكفّر الخطيئة ، ولكن الحسنة تحطّ الخطيئة». ثم قال : «إن كان خلط الحلال بالحرام فاختلطا جميعا ،

__________________

(١) الكافي ٦ : ٢٦٠ / ١ ، ٢ ، باب اختلاط الميتة بالذكي ، تهذيب الأحكام ٩ : ٤٧ ـ ٤٨ / ١٩٨ ـ ١٩٩ ، وسائل الشيعة ٢٤ : ١٨٧ ، أبواب الأطعمة المحرمة ، ب ٣٦ ، ح ١ ، ٢.

(٢) مفاتيح الشرائع ٢ : ١٩٢ / المفتاح : ٦٤٦.

(٣) مفاتيح الشرائع ٢ : ٢٢٤ / المفتاح ٦٨٠.

(٤) هو المولى محمد هادي ابن المولى مرتضى بن محمد المؤمن ، ومحمد المؤمن هذا أخو الفيض الكاشاني ، فيكون عم أبي الشارح. انظر الذريعة إلى تصانيف الشيعة ١٤ : ٧٩ / ١٨١٦.

(٥) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٤٠ ، باب نوادر كتاب المعيشة ، وسائل الشيعة ١٧ : ٨٩ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤ ، ح ٤ ، وفيهما : تعلم ، بدل : تعرف.

(٦) إشارة إلى الآية : ١١٤ من سورة هود.


فلا يعرف الحلال من الحرام فلا بأس» (١).

وصحيحة أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن شراء السرقة والخيانة ، فقال : «لا ، إلّا أن يكون قد اختلط معه غيره. فأما السرقة بعينها ، فلا إلّا أن تكون من متاع السلطان فلا بأس بذلك» (٢).

وحسنة الحلبي قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «كل ربا أكله الناس بجهالة ثم تابوا ، فإنّه يقبل منهم إذا عرف منهم التوبة».

وقال : «لو أن رجلا ورث من أبيه مالا ، وقد عرف أن في ذلك المال ربا ، ولكن قد اختلط في التجارة بغيره حلالا (٣) كان حلالا طيّبا فليأكله ، وإن عرف منه شيئا معزولا أنه ربا ، فليأخذ رأس ماله منه وليردّ الربا. وأيما رجل أفاد مالا كثيرا قد أكثر فيه من الربا ، فجهل ذلك ، ثم عرفه بعد ، فأراد أن ينزعه فما مضى فله ويدعه فيما يستأنف» (٤). هذا ما نقله الشارح المشار إليه.

وما ربما يتوهّم دلالته على ذلك أيضا رواية عبد الله بن سنان عن الصادق عليه‌السلام قال : سألته عن الحضيرة من القصب تجعل للحيتان في الماء ، فيموت بعضها فيها قال : «لا بأس» (٥).

وموثقة حنان بن سدير عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه سئل عن جدي رضع (٦) من خنزيرة حتى شبّ واشتدّ عظمه ، استفحله رجل في غنم له فخرج له نسل ، ما

__________________

(١) الكافي ٥ : ١٢٦ / ٩ ، باب المكاسب الحرام ، وسائل الشيعة ١٧ : ٨٩ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤ ، ح ٢.

(٢) تهذيب الأحكام ٦ : ٣٧٤ / ١٠٨٨ ، وسائل الشيعة ١٧ : ٣٣٥ ، أبواب عقد البيع وشروطه ، ب ١ ، ح ٤.

(٣) في المصدر : حلال ، بالرفع.

(٤) الكافي ٥ : ١٤٥ / ٤ ، باب الربا ، وسائل الشيعة ١٨ : ١٢٨ ، أبواب الربا ، ب ٥ ، ح ٢.

(٥) الفقيه ٣ : ٢٠٧ / ٩٥٠ ، وسائل الشيعة ٢٤ : ٨٥ ، أبواب الذبائح ، ب ٣٥ ، ح ٥.

(٦) في «ح» : وضع.


تقول في نسله؟ فقال : «أمّا ما عرفت من نسله بعينه ، فلا تقربه وأما ما لم تعرفه فهو بمنزلة الجبن» (١).

والذي يدل على القول المشهور ، وهو المؤيّد المنصور :

أولا : إطلاق الآيات بالتقريب الذي ذكرناه في صدر المسألة ؛ فإن قوله سبحانه (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) (٢) ـ الآية ـ دالّ بإطلاقه على التحريم في المشتبه بمحصور (٣) ، ويلزم هذا القائل بناء على ما ذكره من العمل بعموم تلك الأخبار أنه لو اشتبهت امه أو اخته أو ابنته من النسب أو الرضاع بامرأتين أو ثلاث من الأجانب حلّ له نكاح الجميع ، ولا أظنه يلتزمه. ومثله يأتي في قوله سبحانه (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) (٤).

وثانيا : الأخبار ومنها صحيحة ضريس قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن السمن والجبن نجده في أرض المشركين بالروم أنأكله؟ فقال : «أمّا ما (٥) علمت أنه قد خلطه (٦) الحرام فلا تأكل ، وأما ما لم تعلم فكله حتى تعلم أنه حرام» (٧). وهي نص في المطلوب.

وصحيحتنا الحلبي المتقدمتان في المقام الأول في اللحم المختلط ذكيّه بميّته ، ولو لا حرمة اللحم بذلك لما أمره ببيعه على مستحل الميتة بالخصوص دون أكله.

وموثقة أبي بصير وموثقة سماعة الواردتان في الإناءين ، فإنهما دالتان على تحريم شربهما والانتفاع بهما مطلقا ؛ للأمر فيهما بالإراقة.

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٣ : ٢١٢ / ٩٨٧ ، وسائل الشيعة ٢٤ : ١٦١ ، أبواب الأطعمة المحرّمة ، ب ٢٥ ، ح ١.

(٢) النساء : ٢٣.

(٣) في «ح» : محصور.

(٤) المائدة : ٣.

(٥) ليست في «ح».

(٦) ليست في «ح».

(٧) تهذيب الأحكام ٩ : ٧٩ / ٣٣٦ ، وسائل الشيعة ٢٤ : ٢٣٥ ـ ٢٣٦ ، أبواب الأطعمة المحرّمة ، ب ٦٤ ، ح ١.


ورواية عبد الله بن سليمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الجبن ، قال : «كلّ شي‌ء لك حلال حتى يجيئك شاهدان أن فيه ميتة» (١).

وثالثا : أن مقتضى القواعد الشرعيّة في المال المختلط حلاله بحرامه ـ وبذلك صرّح الأصحاب من غير خلاف يعرف ـ أنه إن علم صاحب المال الحرام وجب التخلص منه بأي نحو كان ، وإن لم يعلم أخرج خمسه وحل له الباقي.

وقيل : إنه مع معرفة كميتة وعدم العلم بصاحبه يتصدّق عنه به (٢).

ويدل على الأول ـ وهو وجوب التخلّص من صاحبه متى علم ـ الآية والرواية ، كقوله سبحانه (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) (٣) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا يحلّ مال امرئ إلّا بطيب نفس منه» (٤).

وأما الثاني ـ وهو إخراج الخمس ـ فلما رواه الشيخ بإسناده عن الحسن بن زياد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال «إن رجلا أتى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : يا أمير المؤمنين ، إني أصبت مالا لا أعرف حلاله من حرامه ، فقال : أخرج الخمس من ذلك المال ، فإنّ الله عزوجل قد رضي من ذلك المال بالخمس ، واجتنب ما كان صاحبه يعمل» (٥).

وما رواه ثقة الإسلام قدس‌سره بسند عن السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن آبائه عن علي عليه‌السلام أنه أتاه رجل ، فقال : إنّي كسبت مالا أغمضت في مطالبه حلالا وحراما ، وقد أردت التوبة ، ولا أدري الحلال منه والحرام ، وقد اختلط عليّ ، فقال عليه‌السلام :

__________________

(١) الكافي ٦ : ٣٣٩ / ٢ ، باب الجبن ، وفيه : يشهدان عندك .. ، بعد قوله : شاهدان.

(٢) انظر النهاية : ١٩٧ ، البيان : ٣٤٧.

(٣) البقرة : ١٨٨.

(٤) الفقيه ٤ : ٦٦ / ١٩٥ ، وسائل الشيعة ٥ : ١٢٠ ، أبواب مكان المصلّي ، ب ٣ ، ح ١ ، وفيهما : فانه لا يحلّ دم امرئ مسلم ولا ماله إلّا بطيبة نفسه.

(٥) تهذيب الأحكام ٤ : ١٢٤ / ٣٥٨ ، وسائل الشيعة ٩ : ٥٠٥ ـ ٥٠٦ ، أبواب ما يجب فيه الخمس ، ب ١٠ ، ح ١.


«تصدّق بخمس مالك ، فإنّ الله رضي من الأشياء بالخمس وسائر المال لك حلال» (١).

وما رواه الصدوق قدس‌سره قال : جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أصبت مالا أغمضت فيه ، أفلي توبة؟ فقال : «ايتني بخمسه». فأتاه بخمسه ، فقال : «هو لك ، إن الرجل إذا تاب ماله معه (٢)» (٣).

وأما الثالث ، فيدلّ عليه أخبار عديدة ، لكن موردها المال المتميز. وهذا هو الموافق للأصول الشرعية والضوابط المرعية ، لا ما توهمه ذلك القائل من حلّ ذلك مطلقا.

ورابعها : أنه يلزم على ما ذكره هذا القائل من حلّ المال المختلط حلاله وحرامه مطلقا ـ سيّما على ظاهر صحيحة أبي بصير التي ذكرها ، الدالة على صحة شراء مال الخيانة والسرقة متى اختلط بغيره ، مع العلم بكونه خيانة وسرقة ـ فتح باب مفسدة في الدين ، وبيان حيلة شرعية للسارقين والغاصبين ، فيسرق السارق ويغصب الغاصب ما يريد ، ثم يخلطه بماله فيأكله حلالا ويبيعه ويأكل ثمنه حلالا ، وإنما يجب عليه القيمة أو المثل فيما أخذه ، فيملكه بخلطه بماله.

وهذا من قبيل ما ذهب إليه أبو حنيفة من أن الغاصب والسارق يملكان ما أخذاه بتغييره عما كان عليه ، كجعل الحنطة دقيقا (٤). وفي التزامه من الشناعة ما لا يخفى ، فضلا عن مخالفة اصول الدين والمذهب. ويأتي على هذا القول أيضا أنه متى اشتبهت أجنبية بزوجات الرجل ، بحيث لم تعرف من بينهم حلّ له نكاحها في جملة الجميع.

__________________

(١) الكافي ٥ : ١٢٥ / ٥ ، باب المكاسب الحرام ، وسائل الشيعة ٩ : ٥٠٩ ، أبواب ما يجب فيه الخمس ، ب ١٠ ، ح ٤.

(٢) في «ح» : معه ماله.

(٣) الفقيه ٢ : ٢٢ / ٨٣ ، وسائل الشيعة ٩ : ٥٠٩ ، أبواب ما يجب فيه الخمس ، ب ١٠ ، ح ٣.

(٤) انظر : الخلاف ٣ : ٤٠٧ / المسألة : ٢٠ ، المبسوط (السرخسي) ١١ : ٨٧.


وبالجملة ، فمفاسد هذا القول أكثر من أن تذكر ، وأظهر من أن تنشر. ثم إنا لو سلمنا صراحة ما استدل به الخصم في المقام ، لكان الجواب عنه بأن يقال : إن من القواعد المقرّرة عن أهل العصمة ـ صلوات الله عليهم ـ أنه مع اختلاف الأخبار في حكم من الأحكام تعرض على كتاب الله سبحانه ، فيؤخذ بما وافقه ويطرح ما خالفه. ولا ريب في موافقة أخبار التحريم لـ (الكتاب) ؛ لما عرفت من أن قوله سبحانه (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) شامل بإطلاقه لما لو كانت متميزة متشخصة ، أو كانت مشتبهة بأفراد محصورة ، فإنه يجب اجتنابها.

ولكن وجوب الاجتناب مع الاشتباه لمّا كان لا يتمّ إلّا باجتناب الجميع وجب اجتناب الجميع ؛ لأن ما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب. ولهذا نظائر عديدة في الأحكام الشرعية ، منها قضاء الفريضة المشتبهة بالفرائض الخمس اليومية ، فإنه يجب عليه قضاء الخمس بالاتفاق نصا وفتوى. وكذلك وجوب تعدّد الصلاة في الثوبين المشتبه نجسهما بطاهرهما ، وغير هذا مع تسليم دلالة تلك الأخبار على ما ادّعاه ، وإلّا فهي عند النظر بعين التحقيق والتأمل بالفكر الصائب الدقيق لا تدلّ على ما ادّعاه.

وها نحن نفصل لك ذلك (١) بأوضح تفصيل ، ونشرحه بما يرفع عنه غشاوة القال والقيل ، فنقول : أما الروايات الدالة على أن كلّ ما فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه ـ وهي عمدة الشبهة ، فيما ذهبوا إليه ـ فالجواب عنها من وجوه :

الأول : أن الظاهر من سياق مقالها وقرائن أحوالها إنما هو بالنسبة إلى غير المحصور ، يعني : أن كل شي‌ء من الأشياء ونوع من الأنواع له أفراد بعضها (٢) في

__________________

(١) في «ح» بعدها : مع تسليم دلالة تلك الأخبار على ما ادعاه ، وإلّا فهي عند النظر بعين ذلك.

(٢) من «ح» ، وفي «ق» : منها.


الواقع حلال وبعضها حرام ، مثل اللحم بعضه ذكي وبعضه ميتة ، والأمتعة ، والفواكه ونحوها في أيدي المسلمين ، وأسواقهم فيها المغصوب والسرقة والمملوك ، فكل فرد من تلك الأفراد رأيته حكمت عليه بالحلية ، حتى تعلم أنه حرام. يدل على ذلك قوله عليه‌السلام في موثقة مسعدة بن صدقة : «وذلك مثل الثوب» إلى آخر الرواية.

فإن جميع تلك الأمثلة التي أوردها عليه‌السلام إنما هي من قبيل غير المحصور كما ذكرناه.

لا يقال : إن التمثيل لا يخصص عموم الحكم المستفاد من صدر الخبر.

لأنا نقول : إن اريد أن التمثيل بخصوص هذه الأمثلة المذكورة في الخبر لا يخصص فمسلم ولكن لا يضرنا ، وإن اريد التمثيل بها وبما كان من قبيلها من الامور الغير المحصورة فهو ممنوع. كيف ، والأمثلة إذا ذكرت بعد القواعد الكلية صارت موضحة لها ومبيّنة لها ، فتحمل تلك القواعد عليها وعلى نظائرها؟ ألا ترى أنه لو قال القائل : أكرم الناس مثل العلماء ، فإنه لم يتبادر منه إلّا الأمر بإكرام العلماء خاصة من بين أصناف الناس؟

وبالجملة ، فالقدر المقطوع به من الخبر الذي لا يعتريه الشكّ في صحيح النظر إنما هو ما ذكرناه ، كما يشهد به أيضا قوله عليه‌السلام في آخر الخبر المشار إليه بعد تعداد تلك الأمثلة (١) : «والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين [لك] غير ذلك ، أو تقوم به البيّنة» (٢).

وهذه العبارة في الحقيقة عند التأمل هي معنى قوله عليه‌السلام في صدر الخبر : «كل شي‌ء هو لك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه فتدعه» أعادها عليه‌السلام تأكيدا وإيضاحا.

__________________

(١) في «ح» بعدها : المذكورة.

(٢) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٤٠ ، باب نوادر كتاب المعيشة ، وسائل الشيعة ١٧ : ٨٩ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤ ، ح ٢.


وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر بأوضح الظهور عند من سلم حسه من الفتور والقصور.

ونزيد لذلك توضيحا وبيانا أن هذه العبارة في أكثر الأخبار إنما خرجت عنهم عليهم‌السلام في أخبار الجبن ، فإنه قد كثرت الأسئلة عنه في زمانهم عليهم‌السلام ، وهو قرينة واضحة على أن مورد تلك الكلية إنما هي في الأفراد التي مثل الجبن في كونه غير محصور ، ففي رواية عبد الله بن سليمان عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الجبن ، فقال : «لقد سألتني عن طعام يعجبني». ثم أعطى الغلام درهما ، فقال : «يا غلام ، ابتع لنا جبنا». ثم دعا بالغداء فتغدينا معه ، فاتي بالجبن وأكل وأكلنا ، فلما فرغنا من الغداء قلت : ما تقول في الجبن فقال : «أو لم ترني أكلته؟». فقلت (١) : بلى ، ولكني أحبّ أن أسمعه منك. فقال : «سأخبرك عن الجبن وغيره ؛ كل ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه» (٢).

فقوله عليه‌السلام : «سأخبرك عن الجبن وغيره» ، يعني ما كان في الانتشار وعدم الانحصار.

ورواية عبد الله بن سليمان أيضا المتقدّمة في أدلة القول المشهور ، ورواية معاوية بن عمار عن رجل من أصحابنا قال : كنت عند أبي جعفر عليه‌السلام فسأله رجل عن الجبن ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : «إنّه لطعام يعجبني ، وسأخبرك عن الجبن وغيره (٣) ، كلّ شي‌ء فيه الحلال والحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه» (٤).

الثاني : أنه بمقتضى ما قدّمنا من الآيات القرآنية والسنة المستفيضة الدالة على وجوب اجتناب الحرام مطلقا أعمّ من أن يكون متميزا متشخّصا أو مختلطا

__________________

(١) من «ح» ، وفي «ق» : فقال.

(٢) الكافي ٦ : ٣٣٩ / ١ ، باب الجبن ، وسائل الشيعة ٢٥ : ١١٧ ـ ١١٨ ، أبواب الأطعمة المباحة ، ب ٦١ ، ح ١.

(٣) يعني ما كان في .. وغيره ، من «ح».

(٤) المحاسن ٢ : ٢٩٧ / ١٩٨٠ ، وسائل الشيعة ٢٥ : ١١٩ ، أبواب الأطعمة المباحة ، ب ٦١ ، ح ٦.


بأفراد محصورة يجب تقييد هذه الأخبار بها جمعا بين الأدلّة ، فتخص هذه الأخبار بما كان غير محصور.

فإن قيل (١) : تخصيص الأخبار الدالة على أن كل شي‌ء فيه حلال وحرام ، فهو لك حلال ، بتلك الأدلة الدالة على وجوب اجتناب الحرام ـ كما تدّعونه ـ ليس أولى من العكس كما يدّعيه الخصم.

قلنا : لا ريب أن التخصيص على ما ندعيه ، هو الأوفق بالقواعد الشرعية والاحتياط في الدين ؛ لما عرفت ممّا يترتب على ذلك القول من المفاسد التي (٢) لا يلتزمها ذلك القائل من تحليل الزنا ، ونكاح المحارم ، وأكل أموال الناس بالباطل ، وفتح باب الحلية للسارقين والغاصبين ؛ فإن جميع ذلك ممّا يتفرّع على إبقاء عموم «كل شي‌ء فيه حلال وحرام فهو لك حلال» ، وشموله للمحصور وغير المحصور. وتخصيص عموم تلك الأدلة به كما يقوله الخصم ، وهذا ممّا لا يلتزم به (٣) مسلم جاهل فضلا عن عالم عامل.

الثالث : معارضة عموم هذه الأخبار بالأخبار الخاصة التي نقلناها مثل صحيحة ضريس وما بعدها. ومقتضى القاعدة المتفق عليها من تقديم الخاص وتخصيص العام به ، وتقييد المطلق بالمقيّد هو العمل بتلك الأخبار الخاصة ، وتقييد عموم أخبار الخصم بها.

وأما عن موثقة سماعة الواردة في الرجل الذي إذا أصاب مالا من عمل بني اميّة واختلط الحلال بالحرام منه ، فإنها معارضة بما قدمناه من الأخبار المعتضدة بعمل الأصحاب قديما وحديثا الدالة على وجوب إخراج الخمس ممّا (٤) هذا

__________________

(١) في «ح» بعدها : ان.

(٢) في «ح» : الذي.

(٣) من «ح» ، وفي «ق» : يستلزمه ، بدل : يلتزم به.

(٤) في «ح» : فيما.


شأنه إذا لم يعلم صاحبه ولا قدره.

وحينئذ ، فالواجب في هذه الرواية هو حملها على ما دلّت عليه تلك الأخبار وحمل المطلق على المقيّد ، كما هي القاعدة المعروفة والطريقة المألوفة.

ويحتمل أيضا ـ ولعلّه الأقرب ـ أن الإمام عليه‌السلام نظر إلى ما صرفه من وجوه البرّ والخيرات وعرف بقرينة المقام ، وما استفاده من ذلك الكلام أنه قد بلغ الخمس أو زاد عليه ، فنفي البأس عن الباقي حينئذ. ولا ينافي ذلك قوله عليه‌السلام في صدر الخبر : «إنّ الخطيئة لا تكفر الخطيئة» ؛ لأن المفروض في صدر الخبر ـ كما هو ظاهر الكلام ـ أن جملة ذلك المال كان حراما ، ومتى كان كذلك ، فإن الحكم الشرعي في مثله مع جهل صاحبه أن يتصدق به كملا كما تضمنته الأخبار العديدة.

وحينئذ ، فتصدقه ببعضه ليأكل الباقي حلالا بزعمه ليس في محله ، وأما إذا اختلط بالحلال ، فإن الحكم فيه التصدق بالخمس فيحل له الباقي. فحاصل كلامه عليه‌السلام أن فعله ذلك وتصدقه مع كون المال كملا حراما لا يفيد حل الباقي منه.

نعم ، لو اختلط بالحلال أفاد تصدقه منه إذا بلغ مال الصدقة خمس المال المشار إليه. ويؤيد ما قلناه فصل هذه الجملة عما تقدم بقوله : (ثم قال) ، فإنه يعطي أنه فرض منه عليه‌السلام وإن لم يكن مال ذلك الرجل كذلك.

لا يقال : إنه لم يذكر في الخبر كون ما صرفه في ذلك الذي حملتموه على الخمس في بني هاشم الذين هم المصرف المعيّن شرعا للخمس.

لأنّا نقول : ظاهر الأخبار المتقدمة كما صرّح به غير واحد من أفاضل متأخّري المتأخّرين منهم السيد السند في (المدارك) (١) ، والمحدث الكاشاني في (الوافي) (٢) أن مصرف هذا الخمس لا يختص ببني هاشم.

__________________

(١) مدارك الأحكام ٥ : ٣٨٨.

(٢) الوافي ١٠ : ٣١٦.


وأما عن صحيحة أبي بصير (١) ، فهي على ظاهرها مخالفة للأصول الشرعية والضوابط المرعية ، فإن ظاهرها جواز شراء مال السرقة والخيانة وإن عرف صاحبه وهذا ممّا اتّفقت كلمة الأصحاب والأدلّة الشرعية من آية قرآنية وسنة نبوية على بطلانه.

ولهذا أن المحدّث الكاشاني الذي هو أحد القائلين بهذا القول المذكور في كتاب (الوافي) بعد نقل الرواية المذكورة قال ما صورته : (بيان الاختلاط إنما يتحقّق إذا تعذّر التمييز ، ثم إن عرف صاحبها صالحه عليها ، وإلّا تصدق عنه) (٢) انتهى.

وهو كما ترى تأويل للرواية بما ترجع به إلى الاصول المقرّرة والقواعد المعتبرة. ولو قيل بالعمل بما دل عليها ظاهرها للزم منه المفاسد التي قدّمناها في الوجه الرابع من أدلة القول المشهور.

والأظهر عندي في تأويل الصحيحة المشار إليها هو حمل الاختلاط على الاشتباه ، وذلك فإن المتبادر من لفظ الاختلاط وإن كان هو الامتزاج والاجتماع والتداخل ، كما في خلط اللبن بالماء ، وخلط الحنطة بالشعير ، وخلط الدراهم جيدها برديئها ، ونحو ذلك ، لكن هذا ليس بمراد في الخبر قطعا ؛ لما عرفت من وجوه الفساد المترتبة عليه ، بل المراد به الاشتباه ، وذلك بأن يسرق السارق شيئا ، ثم يرى في يده شي‌ء يبيعه يشبه ما سرقه من غير أن يعلم كونه هو المسروق ، وإن كان هو هو في الواقع ونفس الأمر ، فإنه يجوز شراؤه اتفاقا ؛ بناء على حمل تصرف المسلم على الصحة وإن كان فاسقا. فمعنى قوله عليه‌السلام : «إلّا أن يختلط بغيره» يعني إلّا أن يشتبه بغيره ، لا بمعنى يمتزج به ، ويجتمع معه ويداخله.

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٦ : ٣٧٤ / ١٠٨٨ ، وسائل الشيعة ١٧ : ٣٣٥ ، أبواب عقد البيع وشروطه ، ب ١ ، ح ٤.

(٢) الوافي ١٧ : ٢٩٠.


وأما عن حسنة الحلبي (١) الواردة في الربا ، فنقول :

أولا : الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ في وجوب ردّ ما اخذ من الربا على مالكه إذا كان الآخذ عالما بالتحريم. أما لو كان جاهلا حال أخذه ، ثم علم فتاب منه ، فهل يجب عليه ردّ ما أخذه بجهالة أم لا؟ قولان اختار ثانيهما الشيخ رحمه‌الله في (النهاية) (٢) والصدوق في (المقنع) (٣) ، ورواه في (من لا يحضره الفقيه) (٤) ، ويدل عليه ظاهر الآية (٥) ، وبه استفاضت الأخبار ، كحسنة الحلبي المذكورة ، وحسنة اخرى (٦) له أيضا ، ورواية أبي الربيع الشامي (٧) ، وصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام وفيها قال : دخل رجل من أهل خراسان [على أبي جعفر عليه‌السلام] قد عمل الربا حتى كثر ماله ثم إنه سأل الفقهاء ، فقالوا : ليس يقبل منك شي‌ء إلّا أن ترده إلى أصحابه. فجاء إلى أبي جعفر عليه‌السلام ، فقص عليه قصّته فقال له أبو جعفر : «مخرجك من كتاب الله عزوجل (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) (٨) ، والموعظة : التوبة (٩)» (١٠).

وما رواه الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي ـ طاب ثراه ـ في كتاب

__________________

(١) الكافي ٥ : ١٤٥ / ٤ ، باب الربا ، وسائل الشيعة ١٨ : ١٢٨ ، أبواب الربا ، ب ٥ ، ح ٢.

(٢) النهاية : ٣٧٦.

(٣) لم نعثر عليه في المقنع ، عنه في مختلف الشيعة ٥ : ١٠٩ / المسألة : ٧٤.

(٤) الفقيه ٣ : ١٧٥ / ٧٨٧ ـ ٧٨٨ ، وسائل الشيعة ٨ : ١٢٩ ، أبواب الربا ، ب ٥ ، ذيل الحديث : ٢.

(٥) البقرة : ٢٧٥ ، انظر مختلف الشيعة ٥ : ١١٠ / المسألة : ٧٤.

(٦) الكافي ٥ : ١٤٥ / ٥ ، باب الربا ، وسائل الشيعة ١٨ : ١٢٩ ، أبواب الربا ، ب ٥ ، ح ٣.

(٧) الكافي ٥ : ١٤٦ / ٩ ، باب الربا ، وسائل الشيعة ١٨ : ١٣٠ ، أبواب الربا ، ب ٥ ، ح ٤.

(٨) البقرة : ٢٧٥.

(٩) إن كان آخذ الربا كافرا وتاب عن كفر حلّ له ما في يده منه ، وإلّا فلا. ولا نسلم أن دلالة الأخبار على أكثر من هذا (أحمد) ، (هامش «ع»).

(١٠) تهذيب الأحكام ٧ : ١٥ / ٦٨ ، وسائل الشيعة ١٨ : ١٣٠ ـ ١٣١ ، أبواب الربا ، ب ٥ ، ح ٨.


(الوسائل) عن كتاب (نوادر أحمد بن محمد بن عيسى) عن أبيه قال : إن رجلا أربى دهرا من الدهر ، فخرج قاصدا أبا جعفر عليه‌السلام ـ يعني الجواد عليه‌السلام ـ فقال : «مخرجك من كتاب الله ، يقول الله (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) ـ قال : ـ فما مضى فحلال وما بقي فليتحفظ» (١).

وحينئذ ، فالواجب الوقوف على ظاهر هذه الأخبار من تخصيص حل الحرام المختلط بالحلال بهذه الصورة ، لدلالة الآية والروايات على ذلك ، ومحل النزاع أعم ، فلا يجدي الاستدلال بهذه الأخبار نفعا للخصم. وأما عن رواية عبد الله بن سنان الواردة في الحيتان ، فنقول :

أولا : اعلم أنه قد اختلف الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ في السمك المختلط حيّه بميته في الحضيرة والشبكة بعد اتّفاقهم على أن ما مات من السمك في الماء في غير الشبكة فهو حرام ؛ فذهب جمع من الأصحاب إلى حل الجميع مع عدم التمييز (٢) ، وربما قيل بالحل أيضا وإن تميّز (٣). والمشهور بينهم البناء في ذلك على قاعدة المحصور وغير المحصور ممّا قدّمنا ذكره ، وهذا من المحصور ، فيحرم جميعه مع عدم التميّز ، وإن تميز اختص التحريم به.

والذي وقفت عليه من الأخبار في هذه المسألة رواية عبد الله بن سنان المتقدّمة ، وصحيحة الحلبي عنه عليه‌السلام قال : سألته عن الحضيرة من القصب تجعل في الماء يدخل فيها الحيتان ، فيموت بعضها فيها ، قال : «لا بأس به ، إن تلك الحضيرة إنما جعلت ليصاد بها» (٤).

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ١٣١ ، أبواب الربا ، ب ٥ ، ج ١٠.

(٢) انظر : النهاية : ٥٧٨ ، شرائع الإسلام ٣ : ١٦٣ ، المهذب ٢ : ٤٣٨.

(٣) وهو المنقول عن ابن أبي عقيل ، انظر الدروس ٢ : ٤٠٩.

(٤) تهذيب الأحكام ٩ : ١٢ / ٤٣ ، وسائل الشيعة ٢٤ : ٨٤ ، أبواب الذبائح ، ب ٣٥ ، ح ٣.


وصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام في الرجل ينصب شبكة في الماء ، ثم يرجع إلى بيته ويتركها منصوبة ، ويأتيها بعد ذلك ، وقد وقع فيها سمك فيمتن ، فقال : «ما عملت يده فلا بأس بأكل ما وقع فيه» (١).

وظاهر الصحيحتين المذكورتين حلّ الميت فيها وإن كان متميزا ؛ معلّلا بأن الحضيرة إنما جعلت ليصاد بها ، وتنزيلا لها منزلة يده. ولكن الشيخ حمله على عدم المتميّز (٢).

وموثقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «إذا ضرب صاحب الشبكة بالشبكة فما أصاب فيها من حيّ أو ميت فهو حلال» (٣).

وهو ظاهر ـ كما ترى ـ في تميز الميت من الحي حين إصابته ما فيها. وحمله الشيخ على ما لم يتميز فيه الميت (٤).

وفي كتاب (قرب الإسناد) عن علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام ، قال : سألته عن الصيد يحبسه فيموت في مصيدته ، أيحل أكله؟ قال : «إذا كان محبوسا فكله ، فلا بأس» (٥).

وأنت خبير بأن القول في هذه الأخبار لا يخلو عن [أحد] ثلاثة وجوه :

أحدها : العمل بظاهرها من حل الميت وإن تميز. وحينئذ ، فلا دليل للخصم فيها ؛ فإنه لا يقول به في المقام.

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٩ : ١١ ـ ١٢ / ٤٢ ، وسائل الشيعة ٢٤ : ٨٣ ـ ٨٤ ، أبواب الذبائح ، ب ٣٥ ، ح ٢.

(٢) تهذيب الأحكام ٩ : ١٢ / ذيل الحديث : ٤٣.

(٣) الكافي ٦ : ٢١٨ / ١٥ ، باب صيد السمك ، تهذيب الأحكام ٩ : ١٢ / ٤٥ ، وسائل الشيعة ٢٤ : ٨٥ ، أبواب الذبائح ، ب ٣٥ ، ح ٤.

(٤) تهذيب الأحكام ٩ : ١٢ / ذيل الحديث : ٤٥.

(٥) قرب الإسناد : ٢٧٩ / ١١١١.


وثانيها : القول بالحلّ مع الاشتباه ، وهو وإن وافق ما ذهب إليه في المسألة إلّا إنه خاصّ بالسمك في الشبكة ، فلا يتعدّى إلى غيره ، والمدّعى أعمّ من ذلك.

وثالثها : ردّ هذه الأخبار كما هو القول المشهور ، وربما حمل بعضهم الأخبار المذكورة على التقية ، والأمر حينئذ أظهر من أن ينكر.

وأما عن موثقة حنان بن سدير (١) الواردة في الجدي الذي رضع من خنزير ، فإن ظاهر تنظيره عليه‌السلام لما لا يعرف من نسل ذلك الفحل بالجبن يدلّ على أن وجود نسله غير متحقّق ولا معلوم في جملة الغنم ، لاحتمال أنه سرق أو ضلّ أو ذبح أو بيع أو نحو ذلك. فغاية الأمر أنه يحصل الاشتباه دون تحقق الوقوع كما هو محل النزاع بالنسبة إلى المحصور ، وذلك فإن الجبن ـ كما عرفت من الأخبار المتقدمة ـ قد كثر السؤال عنه وصار مشهورا في ذلك الوقت ، باعتبار أنه ربما يعمل بالإنفحة المأخوذة من الميتة ، فيصير نجسا بذلك وحراما.

والأئمّة ـ صلوات الله عليهم ـ قد أجابوا عن ذلك بالعمل فيه على أصالة المحلّ حتى يعلم الفرد الذي عمل بالميتة. ومن ذلك رواية أبي الجارود المروية في (المحاسن) قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الجبن ، وقال : أخبرني من رأى أنه يجعل فيه الميتة ، فقال : «أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم جميع ما في الأرض؟ فما علمت منه ميتة فلا تأكله ، وما لم تعلم فاشتر وبع وكل. والله إني لأعترض السوق فأشتري بها اللحم والسمن والجبن والله ما أظن كلّهم يسمون ، هذه البربر وهذه السودان» (٢).

وحينئذ ، فالتنظير بالجبن لكونه معلوما يومئذ على الوجه الذي ذكرنا يدل

__________________

(١) الكافي ٦ : ٢٤٩ / ١ ، باب الحمل والجدي يرضعان من لبن الخنزيرة ، وسائل الشيعة ٢٤ : ١٦١ ، أبواب الأطعمة المحرّمة ، ب ٢٥ ، ح ١.

(٢) المحاسن ٢ : ٢٩٦ / ١٩٧٦.


على عدم تحقّق وجود ذلك النسل الحرام في جملة الغنم ، وإن احتمل تحقيقا للتنظير ، كما لا يخفى على الفطن الخبير.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن شارح (المفاتيح) في هذه المسألة قد اختلف كلامه وزلت أقدامه ، ولعل نسبة الزلل إلى القلم (١) أولى من النسبة إلى زلة القدم ، حيث قال في مسألة اللحم المختلط ذكيّه بميته ما صورته : (وإذا اختلط اللحم الذكي بالميت وجب الاجتناب عنهما حتى يعلم الذكي بعينه على المشهور ؛ لوجوب التجنب عن الميتة ، ولا يتم ذلك إلّا بالكف عنهما.

ولما رواه الراوندي في نوادره بإسناده عن موسى بن جعفر عليهما‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام ، قال : سئل علي ـ صلوات الله عليه ـ عن شاة مسلوخة واخرى مذبوحة عمي على صاحبها ، فلا يدري الذكيّة من الميتة ، قال : «يرمي بهما جميعا إلى الكلاب» (٢).

وفي (الدعائم) عن علي عليه‌السلام أنه سئل عن شاتين إحداهما ذكية والاخرى غير ذكية ، ولم يعرف الذكية منهما قال : «يرمى بهما جميعا» (٣).

وقيده الأكثر بكونه محصورا دفعا ؛ للحرج ، وهو في محله. ويؤيده ظاهر الخبرين.

وربما قيل بمنع الاجتناب منهما مطلقا ، بل التحريم مخصوص بما إذا كان غير المذكّى معيّنا معلوما ؛ للأخبار الصحيحة المتقدّمة.

ويرد عليه أن مورد تلك الصحاح هو الشي‌ء المجهول الذي لا يعلم كونه حلالا أو حراما ، والمتنازع فيه إنما هو المشتبه المشتمل على الميتة قطعا ، فلا يلزم من الحكم بحلية أحدهما حلية الآخر وإن كان ظاهر قوله عليه‌السلام : «فهو لك

__________________

(١) في «ح» : نسبته إلى زلة القلم ، بدل : نسبة الزلل إلى القلم.

(٢) نوادر الراوندي (ضمن مجموعة رسائل) : ٤٦.

(٣) دعائم الإسلام ٢ : ١٤٠ / ٦٥٥.


حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه» يقتضي حلية كل واحد من المشتبهين ، إلّا إن الجمع بين الأخبار بعد رعاية الاحتياط مستدع لما قلنا) انتهى.

وأشار بالأخبار الصحيحة المتقدمة إلى ما قدمه قبيل هذا الكلام من بعض أخبار : «كل شي‌ء فيه حلال وحرام فهو لك حلال» إلى آخره.

ثم قال ـ في مسألة ما يحلّ ويحرم بالعارض في شرح قول المصنف ثمة : (وإذا اختلط بالحرام فهو له حلال) (١) إلى آخره ـ ما صورته : (وإذا اختلط الحلال بالحرام فهو له حلال حتى يعرف الحرام بعينه فيدعه ؛ لقول الصادق عليه‌السلام في صحيحة عبد الله بن سنان (٢)).

ثم ساق الأخبار التي قدمنا نقلها عنه في أدلة القول المشار إليه ، ثم قال : (ويستفاد من ظواهرها عدم وجوب الاجتناب عن اللحم المذكّى المختلط بالميتة ، إلّا إن المشهور وجوبه كما مرّ. ولعل الفرق بين الميتة وبين السرقة والربا ـ حيث وجب الاجتناب عن المختلط بها دون المختلط بهما ـ إنما هو أصالة الحرمة فيها وعروضه فيهما ، ويحتمل تنزيل الأخبار فيها على الاستحباب. وفي جواز بيع المختلط بها ممّن يستحل الميتة نوع إيماء إلى أن النهي تنزيهي ، والعلم عند الله) انتهى.

أقول : أنت خبير بأن كلامه الأول صريح في موافقة القول المشهور بالتفصيل بين المحصور وغير المحصور ، وحمل الأخبار الدالة على أن «كل شي‌ء فيه حلال وحرام ..» ـ إلى آخره ـ على غير المحصور خاصة ؛ فإن قوله أولا في بيان حجة القول المشهور في وجوب الاجتناب عن اللحم المختلط ذكيّه بميتته ، لوجوب

__________________

(١) مفاتيح الشرائع ٢ : ٢٢٤ / المفتاح : ٦٨١.

(٢) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٩ ، وسائل الشيعة ٢٤ : ٢٣٦ ، أبواب الأطعمة والأشربة ، ب ٦٤ ، ح ٢.


التجنب عن الميتة : (ولا يتم إلّا بالكف عنهما) آت أيضا في غيره من أفراد الحلال المختلط بالحرام ، لوجوب الاجتناب عن الحرام ، ولا يتم إلّا بالكفّ عن الجميع.

ثم قوله : (وقيده الأكثر بكونه محصورا دفعا للحرج ، وهو في محله) جار أيضا في مطلق الحلال المختلط بالحرام ، وأظهر منه ردّه للقول بتخصيص وجوب الاجتناب بما إذا كان غير المذكّى معيّنا معلوما ، حيث إن ذلك القائل استند إلى تلك الصحاح الدالة على أن «كل شي‌ء فيه حلال وحرام فهو حلال حتى تعرف الحرام بعينه».

فأجاب بأن مورد تلك الصحاح هو الشي‌ء المجهول ـ أي الذي لا يعلم كونه حلالا ولا حراما ـ والمتنازع فيه هو المشتبه المشتمل على الميتة قطعا ، إلى آخر كلامه. وهذا بعينه هو ما قلناه في المسألة من أن مورد تلك الأخبار إنما هو غير المحصور ممّا لم يعلم وجود الحرام المقطوع به فيه وإن احتمل كونه كذلك في الواقع ، إلّا إن الأحكام الشرعية لم تبن على الواقع ، وإنما بنيت على ما يظهر عند المكلف بخلاف محل النزاع ، فإنه يعلم وجود الحرام قطعا ، والشارع قد أوجب اجتنابه. ولكن حيث إن اجتنابه لا يتمّ إلّا باجتناب الجميع وجب اجتناب الجميع.

فكلامه ـ طاب ثراه ـ وإن كان في خصوص اللحم المختلط ذكيّه بميته ، إلّا إن سياق استدلاله كما ترى ظاهر في العموم والجري على مقتضى تلك القاعدة الكلية ، ثم خالف نفسه في البحث الأخير باعتبار إيراده في تلك الأخبار المذكورة صحيحة أبي بصير (١) الدالة على جواز شراء مال الخيانة والسرقة إذا

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٦ : ٣٧٤ / ١٠٨٨ ، وسائل الشيعة ١٧ : ١٩ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤ ، ح ٦.


اختلط بغيره ، وحسنة الحلبي (١) الدالة على حل الربا ، فقال بعد ذكر تلك الأخبار : (ويستفاد من ظواهرها) إلى آخر كلامه. وظاهر كلامه هنا موافقة المصنف في دعوى أنه إذا اختلط الحلال بالحرام فهو له حلال حتى يعلم الحرام بعينه في محصور كان أو غير محصور ، وإنما استشكل في خصوص اللحم المختلط خاصة. ثم تكلف الفرق بين الميتة وبين مال السرقة والربا بما ذكره من الوجوه البعيدة المتعسفة. وكل ذلك تخليط واضطراب نشأ عن الخروج عن مقتضى تلك القاعدة المقررة في ذلك الباب كما لا يخفى على ذوي الأذهان والألباب.

أما أوّلا ، فلما حقّقه في المسألة المتقدّمة ، فإنه هو الحق الحقيق بالاتّباع والكثير الأعوان والأتباع ، كما أوضحنا من الأخبار بيانه ، وشددنا من الآثار أركانه.

وأما ثانيا ، فإن القائلين بالحلية في المحصور لم يفرقوا بين مسألة اللحم المختلط وغيرها ، كما هو صريح عبارة الفاضل الخراساني (٢) المتقدمة ، وظاهر عبارة عمّه المحدّث الكاشاني أيضا ، حيث قال بعد ذكر فتوى الأصحاب في اللحم المختلط : (كذا قالوه) (٣). ولا يخفى أن مرمى هذه العبارة هو عدم موافقته لهم في ذلك ، ولهذا إنه في المسألة الأخيرة أفتى بأنه إذا اختلط الحلال بالحرام فهو له حلال ، ولم يستثن مسألة اللحم ولا غيرها. فتكلف الشارح هنا الفرق بين المسألتين خروج عن القولين.

وأما ثالثا ، فإن الأخبار الدالة على التحريم في المحصور (٤) ليست منحصرة في أخبار اللحم المختلط خاصة ، حتى إنه يتكلف التأويل فيما يسلم من المعارض

__________________

(١) الكافي ٥ : ١٤٥ / ٤ ، باب الربا ، وسائل الشيعة ١٨ : ١٢٨ ، أبواب الربا ، ب ٥ ، ح ٢.

(٢) كفاية الأحكام : ٢٥١.

(٣) مفاتيح الشرائع ٢ : ١٩٢ / المفتاح : ٦٤٦.

(٤) في «ح» : (المحصول). وقد شطب عنها ، ولعله اريد تصحيحها إلى (المحصور).


ويندفع عنه في المسألة المناقض ، بل صحيحة ضريس وما بعدها من الأخبار المتقدمة صريحة في ذلك.

وأما رابعا ، فإن الفرق بأصالة الحرمة وعدمها ممّا لا دليل من خارج عليه ، ولا صار أحد من الأصحاب في باب من الأبواب إليه ، وذكر المصنف ما يحل ويحرم بالعارض في مقالة على حدة ، إنما هو من قبيل اصطلاحاته التي بنى عليها في هذا الكتاب ، لا لاختصاصها بأحكام تزيد على المحرم والمحلّل أصالة أو تنقص كما لا يخفى على ذوي الألباب. وأبعد من ذلك حمل أخبار اللحم المختلط على الاستحباب ، فإنه ينافي تحقيقه الذي قدّمه في المقام ، ويدفعه دفعا ظاهر الخبرين المنقولين في كلامه عن (نوادر الراوندي) وكتاب (دعائم الإسلام).

وأما خامسا ، فإن عمدة شبهته في الكلام الذي قد خالف فيه ما قدّمه من التحقيق ووقع بسببه في لجج المضيق ، إنما هو صحيحة أبي بصير الواردة في جواز شراء مال السرقة والخيانة إذا اختلط ، وحسنة الحلبي الواردة في الربا ، وقد عرفت الجواب عنهما موضحا مبرهنا.

وبالجملة ، فإنه لا يخفى على من نظر في المسألة بنور التحقيق الساطع ، وعض على غوامض أحكامها بضرس التدقيق القاطع أن المشتبه بالحرام أو النجس المحصورين كائنا ما كان في لحم أو غيره قد صارت له حالة ثالثة غير حالتي يقين الحلّ ويقين الحرمة ، ويقين الطهارة ويقين النجاسة ؛ وذلك فإن الإنسان إذا شرى قطعة من اللحم من سوق المسلمين ـ مثلا ـ فإنه لا ريب في حلّها وطهارتها ، فيقين الحل والطهارة ممّا لا ريب فيه ولا إشكال يعتريه. ثم لو قطع قطعة لحم من ميتة ، فإنه لا ريب أيضا في يقين الحرمة والنجاسة في تلك


القطعة ، ثم لو خلط بين [تينك] (١) القطعتين بحيث اشتبهت إحداهما بالاخرى ، فإنه لا ريب أنه بسبب الخلط والاشتباه قد زال يقين الحليّة والطهارة ، ويقين الحرمة والنجاسة عن كل واحدة من تلك القطعتين. وحدثت هنا حالة ثالثة غير ذينك اليقينين ، وهو تعارض الاحتمالين من غير ترجيح ، فالمتمسك هنا بيقين الطهارة والحلية في كل واحدة كما يدعيه الخصم ، إنما نشأ من حيث وجود القطعة الحلال الطاهرة ، فلخصمه أن يعارضه ويتمسك بالحرمة والنجاسة ، لوجود القطعة الاخرى التي هي نجسة وحرام.

وبالجملة ، ثبوت هذه الحالة الخارجة عن اليقين في كل من الموضعين ممّا لا ريب فيها عند الناظر المنصف دون المكابر المتعسّف. والمفهوم من الأخبار التي ذكرناها في المقامين أن الشارع قد أعطى المتّصف بهذه الحالة حكم متيقّن النجاسة في الاختلاط بالنجس وحكم متيقّن الحرمة في الاختلاط بالحرام ، وألحقه بهما في جملة من الأحكام ، والله سبحانه العالم بحقائق أحكامه ، وأولياؤه الامناء على حلاله وحرامه.

__________________

(١) في النسختين : تلك.


(٢٦)

درّة نجفيّة

في قراءة القرآن والدعاء بغير العربية

روى الثقة الجليل عبد الله بن جعفر الحميري في كتاب (قرب الإسناد) عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة قال : سمعت جعفر بن محمد عليهما‌السلام يقول :«إنك قد ترى من المحرم من العجم لا يراد منه ما يراد من العالم الفصيح ، وكذلك الأخرس في القراءة في الصلاة والتشهد وما أشبه ذلك فهذا بمنزلة العجم ، المحرم لا يراد منه ما يراد من العاقل المتكلم الفصيح. ولو ذهب العالم المتكلّم الفصيح حتى يدع ما قد علم أنه يلزمه ويعمل به وينبغي له أن يقوم به حتى يكون ذلك منه بالنبطية والفارسية ، لحيل بينه وبين ذلك بالأدب ، حتى يعود إلى ما قد علمه وعقله».

قال : «ولو ذهب من لم يكن في مثل حال [الأعجمي] (١) المحرم ففعل فعال الأعجمي والأخرس على ما قد وصفنا إذا لم يكن أحد فاعلا لشي‌ء من الخير ولا يعرف الجاهل من العالم» (٢).

أقول : في هذا الخبر فوائد :

الأولى : قال في (النهاية) فيه : (فأرسل إليّ ناقة محرمة) المحرمة : هي

__________________

(١) من المصدر ، وفي «ح» : الاعجم ، وفي «ق» : العجم.

(٢) قرب الإسناد : ٤٩ / ١٥٨.


التي لم تركب ولم تذلل (١).

وفي (الصحاح) : (جلد محرّم ، أي لم تتم دباغته ، وسوط محرم لم يليّن بعد ، وناقة محرّمة ، أي لم تتمّ رياضتها بعد) (٢).

وقال : (كل من لا يقدر على الكلام أصلا ، فهو أعجم ومستعجم ، والأعجم : الذي لا يفصح ولا يبين كلامه) (٣) انتهى.

وحينئذ ، فإطلاق المحرم على بعض العجم الذي لا يمكنه الإتيان بالقراءة ونحوها على وجهها من إخراج الحروف من مخارجها ولا يفصح بالكلام ؛ لشبهه بالدابة ونحوها في عدم لين لسانه وتذليله بالنطق بالعربية. وقد صرّح الخبر بأنه يجزيه ما يأتي به من القراءة والتشهد ، ونحوهما من التلبيات مثلا والعقود الشرعية ، وإن لم يكن على نهج العربية إعرابا ونطقا ، وينبغي أن يقيد بما إذا ضاق وقته عن التعلم كما ذكره الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ في حكم القراءة في الصلاة أو عدم إمكان الإصلاح بالكلية كالألكن والألثغ (٤).

الثانية : يفهم من هذا الخبر وجوب إخراج الحروف في القراءة والأذكار الواجبة من مخارجها المقررة. وبيانه أن القول في ذلك لا يخلو عن أحد أمرين :

أحدهما : أنّه يجوز لكل أحد من عربي أو عجمي أن يقرأ بما جرى به لسانه من المخارج. وهذا قد صرّح الخبر برده ، فأوجب على الفصيح المتكلم الغير الأعجمي أن يأتي بما علمه وعقله من المخارج المقررة والقراءة المعتبرة ، وإنما اغتفر المخالفة فيها للأعجمي من حيث العذر ، وعدم انطلاق لسانه بذلك.

فلم يبق إلّا الأمر الثاني الذي أوجبه عليه‌السلام على المتكلم الفصيح القادر على إخراج

__________________

(١) النهاية في غريب الحديث والأثر ١ : ٣٧٤ ـ حرم.

(٢) الصحاح ٥ : ١٨٩٦ ـ حرم.

(٣) الصحاح ٥ : ١٩٨٠ ـ ١٩٨١ ـ عجم.

(٤) في «ح» بعدها : ونحوهما.


الحروف من مخارجها المقررة. واحتمال أن يكون هنا مخارج مقررة غير ما قرره علماء الفن رمي في الظلام ، ونفخ في غير ضرام ، وإحالة على ما لا تقبله الأفهام. وبذلك يظهر لك ما في الاستشكال بعض الأعلام في وجوب إخراج الحروف من تلك المخارج التي ذكرها علماء الفن في المقام.

الثالثة : المشهور بين الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ اشتراط اللغة العربية في العقود ، فلا تجزي الترجمة. واستدل على ذلك بأن الشارع عربي ، والعقود اللازمة الناقلة شرعية ، ويتوقف النقل على ما عهد من الشارع ، وإلّا فالأصل عدم النقل.

وأورد عليه بأن الشارع لم ينصّ في العقود على لفظ خاص ، فالتعيين يحتاج إلى دليل خصوصا في مثل البيوع والصلح والهبات ، ونحو ذلك ممّا جرى بين الناس من العرب والعجم العاملة به من غير نكير.

وأنت خبير بأن ظاهر هذا الخبر هو التفصيل بالضرورة وعدمها ، فمع الضرورة يجزي ذلك كما يدل عليه قوله : «إنه لا يراد» من المحرم من العجم «ما يراد من العالم الفصيح» ، ومع عدمها فلا كما ينادي به قوله : «ولو ذهب العالم» إلى آخره.

وهو جمع حسن بين القولين.

وأما ما ورد في رواية وهب بن وهب عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم‌السلام قال : «كل طلاق بكل لسان فهو طلاق» (١) ، فقد قيده جمع من علمائنا بتعذر العربية ؛ لما روي من أنه لا يصحّ الطلاق إلّا بتلك الصيغة الخاصة (٢).

الرابعة : أنه هل يشترط الإعراب في ترتّب الثواب على قراءة (القرآن)

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٨ : ٣٨ / ١١٢ ، وسائل الشيعة ٢٢ : ٤٣ ، كتاب الطلاق ، ب ١٧ ، ح ١.

(٢) السرائر ٢ : ٦٧٦ ، شرائع الإسلام ٣ : ٨ ـ ٩ ، قواعد الأحكام ٣ : ١٢٧ ، وسائل الشيعة ٢٢ : ٤٣ ، كتاب الطلاق ، ب ١٧ ، ح ١.


واستجابة الدعاء؟ ظاهر بعض الأخبار ذلك ، كما روي عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال : «ما استوى رجلان في حسب ودين قط إلّا كان أفضلهما عند الله عزوجل آدبهما». قال : قلت : جعلت فداك ، قد علمت فضله عند الناس في النادي والمجالس ، فما فضله عند الله عزوجل؟ قال : «بقراءة القرآن كما انزل ، ودعاء الله عزوجل من حيث لا يلحن ، وذلك أن الدعاء الملحون لا يصعد إلى الله عزوجل» (١).

وروى في (الكافي) في صحيحة جميل بن دراج قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «أعربوا حديثنا ، فإنا قوم فصحاء» (٢).

وأنكر الفاضل الزاهد العابد الشيخ أحمد بن فهد الحلي قدس‌سره في كتاب (عدّة الداعي) (٣) ذلك ، وبالغ وأطال في إنكاره ، وجعل صحة الدعاء وترتب استجابته إنما هو على القصد والنية.

وأجاب عن قوله في الخبر الأوّل : «إن الدعاء الملحون لا يصعد إلى الله» ، أي لا يصعد إليه ملحونا ، يشهد عليه الحفظة بما يوجبه اللحن إذا كان مغيّرا للمعنى ويجازى عليه كذلك ، بل يجازيه على قدر قصده ومراده من دعائه. واستدل بما رواه في (الكافي) عن علي بن إبراهيم عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن الرجل الأعجمي من امتي ليقرأ القرآن بعجميته ، فترفعه الملائكة على عربيته» (٤).

وبقوله عليه‌السلام : «إنّ سين بلال عند الله شين» (٥).

__________________

(١) عدة الداعي : ١٨ ، وسائل الشيعة ٦ : ٢٢٠ ـ ٢٢١ ، أبواب قراءة القرآن ، ب ٣٠ ، ح ٣.

(٢) الكافي ١ : ٥٢ / ١٣ ، باب رواية الكتب والحديث ، وسائل الشيعة ٢٧ : ٨٣ ، كتاب القضاء ، ب ٨ ، ح ٢٥.

(٣) عدّة الداعي : ١٩.

(٤) الكافي ٢ : ٦١٩ / ١ ، باب أن القرآن يرفع كما انزل ، وسائل الشيعة ٦ : ٢٢١ ، أبواب قراءة القرآن ، ب ٣٠ ، ح ٤.

(٥) عدة الداعي : ٢١.


وروى في الكتاب المذكور أنه جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن بلالا كان يناظر اليوم فلان فجعل يلحن في كلامه ، وفلان يعرب ويضحك من بلال. فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «يا عبد الله ، إنما يراد إعراب الكلام وتقويمه لتقويم الأعمال وتهذيبها ، ما ينفع فلان إعرابه وتقويمه لكلامه إذا كانت أفعاله ملحونة أقبح لحن؟ وما يضر فلان لحنه في كلامه إذا كانت أفعاله مقومة أحسن تقويم ومهذبة أحسن تهذيب؟» (١).

قال : (مع أنا نجد في أدعية أهل البيت عليهم‌السلام ألفاظا لا نعرف معانيها ، وذلك كثير ـ فمنه أسماء وأقسامات ؛ ومنه أغراض وحاجات ، وفوائد وطلبات ، فنسأل من الله بالأسماء ، ونطلب منه تلك الأشياء ، ونحن غير عارفين بالجميع ، ولم يقل أحد : إن مثل هذا الدعاء إذا لم يكن معربا يكون مردودا مع أن فهم العامي لمعاني الألفاظ الملحونة أكثر من فهم النحوي لمعاني دعوات عربية لم يقف على تفسيرها ولغاتها ، بل عرف مجرد إعرابها ، بل الله سبحانه يجازيه على قدر قصده ، ويثيبه على قدر نيته ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنما الأعمال بالنيات» (٢) ، وقوله : «نية العبد خير من عمله» (٣)) (٤). هذا ملخص ما ذكره قدس‌سره.

أقول : لا يخفى أن الظاهر من الخبر المنقول خلاف ما ذكره قدس‌سره ؛ لأن ظاهره أن المراد من العالم الفصيح القادر على الإتيان بالقراءة والدعاء ونحوهما على وجوهها من إعراب وغيره لا يجزيه غير ذلك ، وجهله لا يكون عذرا شرعيا

__________________

(١) عدّة الداعي : ٢١ ـ ٢٢.

(٢) الأمالي (الطوسي) : ٦١٨ / ١٢٧٤ ، وسائل الشيعة ١ : ٤٨ ، أبواب مقدّمة العبادات ، ب ٥ ، ح ٦ ، وليس فيه : إنما.

(٣) الكافي ٢ : ٨٤ / ٢ ، باب النيّة ، وسائل الشيعة ١ : ٥٠ ، أبواب مقدمة العبادات ، ب ٦ ، ح ٣ ، وفيهما : المؤمن ، بدل : العبد.

(٤) عدّة الداعي : ٢١ ـ ٢٢.


موجبا لصحة قراءته ، ولا استجابة دعائه. وهذا هو صريح الخبر الذي نقلناه عن أبي جعفر عليه‌السلام فإنه عليه‌السلام جعل فضل ذلك الرجل عند الله سبحانه بقراءة (القرآن) كما انزل ، ودعاء الله عزوجل من حيث لا يلحن. وجميع ما أورده من الأدلة والتأويلات محل نظر ظاهر : أما قوله ـ في معنى قوله عليه‌السلام : «إنّ الدعاء الملحون لا يصعد إلى الله» ـ : (أي لا يصعد إليه ملحونا) ـ إلى آخره ـ ففيه أن محلّ الاستدلال إنما هو ما ذكرناه من بيانه عليه‌السلام لفضل ذلك الرجل ، فجعل فضله من حيث إنه يقرأ (القرآن) كما انزل ، ويدعو الله عزوجل من حيث لا يلحن. وحينئذ ، فلو لم يقرأ (القرآن) كما انزل ولحن في دعائه لم يكن له فضل. والمراد بالفضل عند الله سبحانه هو الثواب كما لا يخفى.

وحينئذ ، فقوله عليه‌السلام بعد ذلك : «إن الدعاء الملحون لا يصعد» إنما هو تعليل لوجه الفضل في دعائه من حيث لا يلحن ، ففيه حث وتأكيد على الأمر بالإعراب في الدعاء والقراءة كما لا يخفى.

وأمّا استدلاله برواية السكوني فليس في محله ؛ لأنها أخص من المدعى ، ونحن لا نمنع أنه مع تعذر الإعراب عليه ، وإخراج الحروف من مخارجها فإن قراءته صحيحة ، ودعاءه صحيح مستجاب ، وكله مخصوص بعدم الإمكان. ومثله حديث : «إن سين بلال عند الله شين» ، بمعنى أنه يتعذّر عليه إخراج الشين من مخرجها الحقيقي ويخرجها سينا مهملة.

وأما الحديث الذي نقله عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في مناظرة بلال لذلك الرجل ، وقول أمير المؤمنين عليه‌السلام ما قال ، فهو بالدلالة على خلاف ما يدعيه أنسب ، وذلك فإن ظاهر الخبر أن ذلك الرجل الذي كان يناظر بلالا إنما كان من المخالفين


لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهو عليه‌السلام قد ذكر بأنّه : «إنما يراد إعراب الكلام وتقويمه ، لتقويم الأعمال وتهذيبها».

وهذا ممّا ينادي بظاهره على اشتراط الإعراب في قراءة (القرآن) والدعاء والأذكار ونحوها ، وأن تقويمها الموجب لتقويم الأعمال وتهذيبها ـ أي قبولها عند الله عزوجل ـ إنما يحصل به. ثم أخبر عليه‌السلام عن ذلك الرجل بأن أفعاله لمّا كانت غير مقبولة عند الله سبحانه لقبح ما هو عليه ، فهي ملحونة أقبح لحن لا يؤثر في رفع لحنها (١) تقويمه لكلامه بالإعراب في قراءة ولا دعاء ولا نحوهما.

وأما بلال فهو بالعكس ، فلا يضره عدم تقويم كلامه وإن كان غير جائز إلّا إنه لا يؤثر في حسن أعماله ولا يقبّحها ، بل هو مكفر بتلك الحسنات التي له (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) (٢).

وأما ما ذكره من (أنا نجد في أدعية أهل البيت عليهم‌السلام) ـ إلى آخره ـ فليس في محله ؛ لأن الكلام إنما هو فيما دلت عليه تلك الأخبار من اشتراط الإعراب على القادر عليه ، وأن الجهل به لا يكون عذرا شرعيا ، والخروج عنها يحتاج إلى دليل ، وجميع ما ذكره رحمه‌الله تطويل بلا طائل.

وأما خبر : «إنما الأعمال بالنيات» ، ونحوه ، فهو لا ينافي التوقف على امور اخر خارجة عن النية إذا قام الدليل عليها ، وإلّا لصحت صلاة الجهّال بمجرد النيات وإن أخلّوا فيها بالواجبات.

ثم العجب من شيخنا المحدّث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح قدس‌سره في كتاب (منية الممارسين في أجوبة الشيخ ياسين) (٣) أنه نقل هذا الكلام وصحّحه

__________________

(١) في «ح» : دفع قبحها ، بدل : رفع لحنها.

(٢) هود : ١١٤.

(٣) منية الممارسين : ٤٥٧ ـ ٤٦٣.


وارتضاه واستظهر أن الإعراب غير شرط في استجابة الدعاء مطلقا ، واكتفى بنقل كلام الشيخ المشار إليه من أوله إلى آخره من كتاب (العدة) ، وجمد عليه ، وفيه ما عرفت. وفيما حذفناه أيضا من كلامه مناقشات أعرضنا عن ذكرها والتطويل بها.


(٢٧)

درّة نجفيّة

هل تصدّق المرأة على نفسها في إخبارها

لو أخبرت المرأة بموت زوجها أو طلاقه لها ، فهل تصدق (١) بمجرد ذلك أم لا؟

المفهوم من كلام الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ الأوّل ، وهو مقتضى قواعدهم من قبول قول من لا منازع له كما صرحوا به في مواضع عديدة ، ويؤيده إطلاق الأخبار الدالة على تصديق المرأة في الحيض والعدة ، وعدم الزوج. ففي رواية ميسر (٢) ـ وهي صحيحة ـ إليه قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ألقى المرأة في الفلاة التي ليس فيها أحد ، فأقول لها : ألك زوج؟ فتقول : لا. فأتزوجها؟ قال : «نعم هي المصدّقة على نفسها» (٣).

وفي رواية أبان بن تغلب عنه عليه‌السلام : «ليس هذا عليك إنما عليك أن تصدّقها في نفسها» (٤).

وإطلاق الجواب فيها شامل لما نحن فيه. وعلل أيضا بأن قبول قولها ليس

__________________

(١) في «ح» : الصدق.

(٢) في المصدر : ميسرة.

(٣) الكافي ٥ : ٤٦٢ / ٢ ، باب أنها مصدّقة على نفسها ، و ٥ : ٣٩٢ / ٤ ، باب التزويج بغير الولي ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٢٦٩ ، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ، ب ٣ ، ح ٥.

(٤) الكافي ٥ : ٤٦٢ / ١ ، باب أنها مصدّقة على نفسها ، وسائل الشيعة ٢١ : ٣١ ، أبواب المتعة ، ب ١٠ ، ح ١.


بأبعد من قبول قول ذي اليد في انتقال مال غيره إليه ، ونحو ذلك مع اتفاقهم على قبوله ؛ ولأنه ربما مات الزوج وتعذّر مصادفته بعينه ، فلو لم يقبل ذلك منها لزم الضرر والحرج عليها المنفيان بالآية والرواية.

ويؤيده ما في رواية أحمد بن محمد بن أبي نصر وغيره قال : قلت للرضا عليه‌السلام : الرجل يتزوج المرأة ، فيقع في قلبه أن لها زوجا قال : «ما عليه ، أرأيت لو سألها البينة كان يجد من يشهد أن ليس لها زوج؟» (١).

وهي صريحة في المطلوب.

أقول : ويؤيد ذلك أيضا أن الأخبار الواردة في إثبات الدعاوى بالبينات والأيمان لا عموم فيها على وجه يشمل هذه المسألة ؛ فإن موردها إنما هو النزاع بين الخصمين وحصول مدع ومنكر هنا ، كما لا يخفى على من أحاط خبرا بجميع مواردها ، وهو ظاهر في تأييد ما ذكروه من القاعدة المشار إليها آنفا. وقد ورد في النصوص مواضع عديدة حكم الشارع فيها بقبول قول المدعي إذا لم يكن له منازع.

ومنها ما رواه في (الكافي) و (التهذيب) ، عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت : عشرة كانوا جلوسا وفي وسطهم كيس فيه ألف درهم ، فسأل بعضهم بعضا : ألكم هذا الكيس؟ فقالوا كلهم : لا. وقال واحد منهم : هو لي. فلمن هو؟ قال : «هو للذي ادّعاه» (٢).

وبالجملة ، فالمؤيدات لذلك كثيرة ومن أوضحها صحيحة حماد عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل طلق امرأته ثلاثة فبانت منه ، فأراد مراجعتها ، فقال لها : إني أريد

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٧ : ٢٥٣ / ١٠٩٤ ، وسائل الشيعة ٢١ : ٣٢ ، أبواب المتعة ، ب ١٠ ، ح ٥.

(٢) الكافي ٧ : ٤٢٢ / ٥ ، باب نوادر كتاب القضاء ، تهذيب الأحكام ٦ : ٢٩٢ / ٨١٠.


مراجعتك ، فتزوّجي زوجا غيري ، فقالت : لي قد تزوجت زوجا غيرك ، وحللت لك نفسي ، أتصدّق ويراجعها؟ وكيف يصنع؟ قال : «إذا كانت المرأة ثقة صدقت في قولها» (١) ، فإنه عليه‌السلام لم يوجب عليها بينة ولا يمينا في قولها.

قال شيخنا الشهيد الثاني في (المسالك) : (وكما يقبل قولها في حق المطلق يقبل في حقّ غيره ، وكذا الحكم في كل امرأة كانت مزوّجة وأخبرت بموته أو فراقه ، وانقضاء العدة في وقت محتمل. ولا فرق بين أن يتعين الزوج وعدمه ، ولا بين إمكان استعلامه وعدمه (٢)) (٣) انتهى.

نعم ، يبقى الكلام في اشتراطه عليه‌السلام في هذا الخبر كون المرأة ثقة ، فإنه مخالف لظاهر كلام الأصحاب ، وإطلاق غيره من الأخبار الدالة [جميعها] (٤) على قبول قولها وتصديق أخبارها مطلقا ، وحملها بعض الأصحاب على الاستحباب وأن المراد بكونها ثقة ، يعني ممن يوثق بخبرها وتسكن النفس إليه ، وإن لم يحصل مع ذلك العدالة المعتبرة في قبول الشهادة. وهو متجه ، ومرجعه عدم التهمة لها في أخبارها.

وبما حققناه في المقام يظهر لك ضعف توقف الفاضل محمد باقر (٥) الخراساني قدس‌سره (٦) في كتاب (الكفاية) في المسألة المذكورة والله العالم.

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٨ : ٣٤ / ١٠٥ ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٣٣ ، أبواب أقسام الطلاق ، ب ١١ ، ح ١.

(٢) من «ح».

(٣) مسالك الأفهام ٩ : ١٨١.

(٤) في النسختين : جميع ذلك.

(٥) محمد باقر ، ليس في «ح».

(٦) كفاية الأحكام : ٢٠٦.



(٢٨)

درّة نجفيّة

فيمن طلّق زوجته ثم راجعها ولم يبلغها خبر الرجعة

قال شيخنا المحدّث الصالح الشيخ عبد الله بن الصالح البحراني قدس‌سره ـ وقد سئل عمّن طلق زوجته ثم راجعها وأشهد على ذلك ، ولم يبلغها خبر الرجعة إلّا بعد أن انقضت العدة وتزوجت وولدت من ذلك الزوج ، بعد أن نقل عن الأصحاب أنه يحكم بها للزوج الأول (١) ، وبعد أن نقل كلام (المسالك) (٢) في المقام الدال على ذلك ، وقال بعده : (وفي الكل إشكال ، لعدم الظفر بنص في ذلك كله ، إلّا إن أصل المسألة ليس بموضع إشكال عندهم كما يعرف من كلامهم ، وإن كان عندي أيضا فيها توقف) (٣) ـ ما صورته : (وهذه هي المسألة التي وقع النزاع فيها بين الشيخ الثقة الجليل زين الدين علي بن سليمان القدمي البحراني ، والشيخ أحمد بن الشيخ محمد بن علي بن يوسف بن سعيد المقشاعي (٤) الأصبعي ، وقد حكم الشيخ أحمد بقبول الدعوى مع قبول البينة ، وألحقها بالأول ومنع الثاني ، وخالفه الشيخ علي وحكم بها للثاني ، ولم يسمع دعوى الأول ؛ احتجاجا بأن الرجوع

__________________

(١) انظر الخلاف ٤ : ٢٨٢ / المسألة : ٤٥.

(٢) مسالك الأفهام ٩ : ٢٠١ ـ ٢٠٢.

(٣) المسائل الحسينية في بعض المسائل الدينية : ١٨.

(٤) في «ح» : المشاعي ، والمقشاع : إحدى القرى البحرانية قرب الساحل الشمالي لجزيرة البحرين. أعلام الثقافة الإسلاميّة في البحرين ١ : ٤٣٣ / ٩٢.


لا بدّ فيه من الإعلام في العدة ، والنكاح قد وقع صحيحا مطابقا للشرع ، فلا ينتفي بالرجوع الذي لم يحصل العلم به إلّا بعد التزويج. واستفتيا فيها فقهاء العصر ، وكتبا فيها إلى سائر البلدان ، كشيراز ، وأصفهان ، فصححوا كلام الشيخ أحمد ، وخطّئوا الشيخ عليا.

والحق أن هذا هو ظاهر كلام الأصحاب ، لأنّهم لم يشترطوا في صحة الرجوع الإعلام ، وليس هو من باب عزل الوكيل ، كما يجي‌ء بيانه وإن كان لي فيها تأمّل ؛ لعدم النص الصريح في المسألة) (١) انتهى كلامه زيد مقامه.

فظاهر كلامه قدس‌سره كما ترى يدل على عدم وجود نصّ في الحكم المذكور لا بنفي ولا إثبات ، وهو عجيب منه ـ طاب ثراه ـ مع ما هو عليه في الأخبار من سعة الباع وزيادة الاطّلاع. والذي وقفت عليه من الروايات المتعلّقة بالمسألة ما رواه ثقة الإسلام الكليني ـ نوّر الله تعالى مرقده ـ في (الكافي) بسند صحيح إلى المرزبان قال : سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن رجل قال لامرأته : اعتدّي فقد خلّيت سبيلك. ثم أشهد على رجعتها بعد ذلك بأيام ، ثم غاب عنها قبل أن يجامعها ، حتى مضت لذلك أشهر بعد العدة أو أكثر ، فكيف تأمره؟ فقال : «إذا أشهد على رجعته فهي زوجته» (٢).

وهذه الرواية ـ كما ترى ـ صريحة الدلالة على أنه بالإشهاد على الرجعة في العدة ، تثبت الزوجية ؛ وهي دالّة بإطلاقها على ذلك سواء بلغها الخبر أو لم يبلغها ، ولا فرق في ذلك من تزويجها بعد العدة مع عدم بلوغها الخبر ولا عدمه.

وليس في سند الخبر من ربما يتوقف في شأنه ، سوى المرزبان ، وهو ابن

__________________

(١) المسائل الحسينية في بعض المسائل الدينيّة : ١٨.

(٢) الكافي ٦ : ٧٤ / ٢.


عمران بن عبد الله ، وقد ذكر النجاشي أن له كتابا (١) ، وهو ممّا يؤذن بكونه من أصحاب الاصول. وروى الكشي حديثا (٢) يشعر بحسن حاله ؛ ولهذا عد شيخنا المجلسي قدس‌سره في (الوجيزة) حديثه في الحسن (٣).

وروى في (الكافي) بسنده عن الحسن بن صالح قال : سألت جعفر بن محمد عليهما‌السلام عن رجل طلّق امرأته وهو غائب في بلدة اخرى ، وأشهد على طلاقها رجلين ، ثم إنه راجعها قبل انقضاء العدة [ولم يشهد على الرجعة ثم إنه قدم عليها بعد انقضاء العدّة] وقد تزوّجت ، فأرسل إليها : إني قد كنت (٤) راجعتك قبل انقضاء العدة ولم اشهد. قال : «لا سبيل له عليها ؛ لأنّه قد أقر بالطلاق ، وادّعى الرجعة بغير بيّنة ؛ فلا سبيل له عليها ؛ ولذلك ينبغي لمن طلق أن يشهد على الرجعة كما أشهد على الطلاق. وإن كان أدركها قبل أن تزوّج كان خاطبا من الخطاب» (٥).

وجه الدلالة فيها أن قوله : «وادّعى الرجعة بغير بينة ولا سبيل (٦) له عليها» يدل بمضمونه (٧) على أنه لو كان له بينة على الرجعة كان له السبيل عليها ، مؤكدا ذلك بالأمر لمن راجع أن يشهد على الرجعة ، كما يشهد على الطلاق حتى تثبت الزوجية في الأوّل ، كما تنتفي في الثاني.

وظاهر كلمة الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ الاتّفاق على القول بأنه يملك رجعتها متى رجع وإن لم يبلغها الخبر ، وأنه بالإشهاد على الرجعة يستردّ نكاحها لو نكحت غيره ، مع عدم بلوغها الخبر.

__________________

(١) رجال النجاشي : ٤٢٣ / ١١٣٤.

(٢) رجال الكشي : ٥٠٥ / ٩٧١.

(٣) الوجيزة : ٣١٩ ـ ٣٢٠ / ١٨٤٢.

(٤) من «ح» والمصدر.

(٥) الكافي ٦ : ٨٠ / ٤ ، باب طلاق الغائب ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٣٧ ـ ١٣٨ ، كتاب الطلاق ، ب ١٥ ، ح ٣.

(٦) سبيل عليها ولذلك ينبغي لمن طلّق .. سبيل ، من «ح».

(٧) في «ح» : بمفهومه.


قال شيخنا الشهيد الثاني قدس‌سره في (المسالك) : (الرابع : أن يقع النزاع بعد ما نكحت غيره ، فإذا نكحت ثم جاء الأوّل وادّعى الرجعة سواء كان عذرها في النكاح لجهلها بالرجعة أم نسبهما إلى الخيانة والتلبيس ، نظر ؛ فإن أقام عليها بينة ، فهي زوجة الأول سواء دخل بها الثاني أم لم يدخل ، ويجب لها مهر المثل على الثاني إن دخل بها) (١) انتهى.

وقال العلّامة في (قواعد الأحكام) : (ولا يشترط علم الزوجة في الرجعة ولا رضاها ، فلو لم تعلم وتزوّجت ردّت إليه وإن دخل الثاني بعد العدة. ولا يكون الثاني أحقّ بها) (٢) انتهى.

وعبارته وإن كانت مطلقة بالنسبة إلى ثبوت الرجعة وعدمه ، إلّا إن مراده بعد الثبوت بالشهادة ؛ لما صرّح به قبيل هذا الكلام من قوله : (ويستحب الإشهاد ، وليس شرطا ، لكن لو ادّعى بعد العدة وقوعها فيها لم يقبل دعواه إلّا بالبينة) (٣) انتهى.

وقال في (التحرير) : (ولا يشترط في صحة الرجعة إعلام الزوجة ولا الشهادة ، فلو راجعها بشهادة اثنين وهو غائب في العدة صحّت الرجعة ، فإن تزوّجت حينئذ كان فاسدا سواء دخل الثاني أم لا. ولا مهر على الثاني مع عدم الدخول ولا عدة ، ومع الدخول المهر والعدّة ، وترجع إلى الأول بعدها) (٤) ، إلى غير ذلك من عباراتهم التي يقف عليها المتتبع.

ويؤيد ذلك أيضا زيادة على ما قدّمناه من الروايتين إطلاق جملة من الأخبار ، مثل قول أبي جعفر عليه‌السلام في صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم : «وإن الرجعة بغير

__________________

(١) مسالك الأفهام ٩ : ٢٠١.

(٢) قواعد الأحكام ٢ : ٦٦.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) تحرير الأحكام ٢ : ٥٥ ـ ٥٦.


شهود رجعة ، ولكن ليشهد بعد فهو أفضل» (١).

وقوله عليه‌السلام في حديث (٢) محمد بن مسلم : «وإن أراد أن يراجعها أشهد على رجعتها قبل أن تنقضي أقراؤها» (٣).

وقوله عليه‌السلام أيضا في حديث آخر لمحمد بن مسلم ، وقد سئل عن رجل طلق امرأته واحدة ، ثم راجعها قبل أن تنقضي عدّتها ، ولم يشهد على رجعتها ، قال : «هي امرأته ما لم تنقض العدة (٤) ، وقد كان ينبغي له أن يشهد على رجعتها ، فإن جهل ذلك ، فليشهد حين علم. ولا أرى بالذي صنع بأسا» (٥) الحديث. إلى غير ذلك ممّا هو على هذا المنوال.

وهي كما ترى شاملة بإطلاقها ، لما لو علمت المرأة أو لم تعلم ، تزوجت أو لم تتزوج ، فإنها بمجرد الرجعة في العدة تكون زوجته شرعا واقعا ، وإنما الإشهاد على ذلك لدفع النزاع وثبوت الزوجية في ظاهر الشرع. فلو فرضنا أن الزوجة صدقته ووافقته على دعواه قبل التزويج بغيره صح نكاحه لها. فتوقّف شيخنا المحدث الصالح المتقدم ذكره في المسألة ـ لعدم النص ـ عجيب.

وأعجب منه حكم شيخنا قدوة المحدّثين ورئيس المحققين الشيخ علي بن سليمان المتقدم ذكره بعدم صحة الرجعة ، مع عدم بلوغ الخبر لها في العدة ؛ لما ذكره من التعليل. ولا ريب أن ما ذكره من التعليل قويّ متين ، لأن الأحكام

__________________

(١) الكافي ٦ : ٧٣ / ٣ ، باب الإشهاد على الرجعة ، تهذيب الأحكام ٨ : ٤٢ / ١٢٨ ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٣٤ ـ ١٣٥ ، أبواب أقسام الطلاق وأحكامه ، ب ١٣ ، ح ٣.

(٢) في «ح» : صحيحة.

(٣) الكافي ٦ : ٦٤ / ١ ، باب تفسير طلاق السنة والعدة ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٣٥ ، أبواب أقسام الطلاق وأحكامه ، ب ١٣ ، ح ٤.

(٤) في المصدر : عدّتها.

(٥) الكافي ٦ : ٧٣ / ٤ ، باب الإشهاد على الرجعة ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٣٥ ، أبواب أقسام الطلاق وأحكامه ، ب ١٣ ، ح ٦.


الشرعية لم تبن على ما في نفس الأمر والواقع ، والنكاح الذي وقع أخيرا وقع صحيحا بحسب ظاهر الشرع ، وإبطاله بما حصل في نفس الأمر مشكل ؛ لما ذكرناه. ولكن لمّا دلّت الأخبار ـ كما ذكرنا ـ على خلافه وجب الخروج عنه.

إلّا إنه أيضا قد روى ثقة الإسلام ـ عطر الله مرقده ـ في (الكافي) في الصحيح ـ وإن كان المشهور عدّه في الحسن بإبراهيم بن هاشم ، إلّا إن الأظهر عندي وفاقا لجمع من أفاضل متأخّري المتأخّرين (١) نظم حديثه في الصحيح ـ عن محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه‌السلام ، أنه قال في رجل طلّق امرأته وأشهد شاهدين ، ثم أشهد على رجعتها سرّا منها واستكتم الشهود ، فلم تعلم المرأة بالرجعة ، حتى انقضت عدّتها ، قال : «تخيّر المرأة ، فإن شاءت زوجها وإن شاءت غير ذلك ، وإن تزوّجت قبل أن تعلم بالرجعة التي أشهد عليها وزوجها ، فليس للذي طلقها عليها سبيل ، وزوجها الأخير أحقّ بها» (٢). وهي كما ترى صريحة فيما ذهب إليه شيخنا الشيخ علي المذكور.

ولعلّ اعتماده فيما ذهب إليه كان على هذه الرواية الصحيحة الصريحة ، وإن لم ينقل ذلك عنه ، فإنه في الاطلاع على الأخبار وزيادة الفحص فيها ممّا لا ثاني له في زمانه ، حتى اشتهر في بلاد العجم تسميته بـ (أم الحديث).

ورأيت في بعض الحواشي المنسوبة إلى شيخنا العلّامة المجلسي قدس‌سره على هذا الخبر ما صورته : (ظاهره اشتراط علم الزوجة في تحقق الرجعة ، ولم أر به قائلا ،

__________________

(١) روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه ١٤ : ٢٣ ، معراج أهل الكمال : ٧٨ ، وفيه : عن الشيخ البهائي عن والده أنه سمعه يقول : إنّي أستحي ألّا أعدّ حديث إبراهيم بن هاشم من الصحاح.

(٢) الكافي ٦ : ٧٥ / ٣ ، باب أن المراجعة لا تكون إلّا بالمواقعة ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٣٧ ، كتاب الطلاق ، ب ١٥ ، ح ٢.


ويمكن حمله على ما إذا لم يثبت بالشهود ، وهو بعيد) (١) انتهى.

وبالجملة ، فالمسألة لهذه الرواية الصحيحة الصريحة قد بقيت في زاوية الإشكال ، وأصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ في كتبهم الفروعية الاستدلالية لم ينقلوا شيئا من الروايات بالكلية ، وفي كتب الأخبار لم يتعرّضوا للكلام في ذلك بشي‌ء ، وربما يوهم سكوتهم في الموضعين اتفاق الأدلة وكلامهم على ذلك.

والحال كما ترى. ولم يحضرني الآن أقوال العامّة في هذه المسألة.

ولعل هذه الصحيحة قد خرجت مخرج التقيّة لاتّفاق ظواهر الأخبار المتقدمة مما ذكرناه ، وكذا غيره على ما اتفقت عليه كلمة الأصحاب في هذه المسألة.

ثم إني وقفت في (كتاب سليم بن قيس) ـ وهو من الاصول المشهورة المعتمد عليها عند محققي أصحابنا ، كما صرّح به شيخنا المجلسي قدس‌سره في كتاب (البحار) (٢) ـ على رواية له عن علي عليه‌السلام يذكر فيها بدع عمر وإحداثه ، ومن جملتها قال عليه‌السلام : «وأعجب من ذلك أن أبا كنف العبدي أتاه فقال : إني طلقت امرأتي وأنا غائب ، فوصل إليها الطلاق ، ثم راجعتها وهي في عدّتها ، وكتبت إليها فلم يصل الكتاب حتى تزوجت. فكتب له : إن كان هذا الذي تزوجها دخل بها فهي امرأته ، وإن كان لم يدخل بها فهي امرأتك. وكتب له ذلك وأنا شاهد ولم يشاورني ولم يسألني ، يرى استغناءه بعلمه عني! فأردت أن أنهاه ، ثم قلت : ما ابالي أن يفضحه الله. ثم لم تعبه الناس ، بل استحسنوه واتخذوه سنة وقبلوه عنه ورأوه صوابا ، وذلك قضاء لا يقضي به مجنون» (٣).

وهذا الخبر وإن اشتمل على أن مذهب عمر كان هو التفصيل بين بلوغ الخبر

__________________

(١) مرآة العقول ٢١ : ١٢٧.

(٢) بحار الأنوار ١ : ٣٢.

(٣) كتاب سليم بن قيس : ١٣٩.


قبل الدخول وعدمه ، إلّا إنه نصّ في كونه بعد الدخول لا رجعة للأول منها. كما اشتمل عليه ذلك الخبر ، وإن اشتمل أيضا على الرجعة قبل الدخول. ولعلّ مذهب أوليائه وأتباعه استقر بعده على عدم الرجعة مطلقا تزوّجت أو لم تتزوج ، والله سبحانه أعلم بحقائق احكامه.


(٢٩)

درّة نجفيّة

اختلاف علماء الرجال في إسحاق بن عمّار

اختلف متأخّر وعلمائنا ـ رضوان الله عليهم ـ في إسحاق بن عمار الواقع في طرق الأخبار في اتّحاده وتعدّده ، فالأكثر ، ومنهم العلّامة في (الخلاصة) (١) والميرزا محمد الأسترابادي في كتاب (الرجال) (٢) والشيخ عبد النبي الجزائري في (الحاوي) (٣) وشيخنا العلّامة أبو الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني في (حواشي الخلاصة) (٤) وشيخنا المجلسي (٥) ـ عطر الله مراقدهم ـ على القول بالاتّحاد. وذهب جماعة منهم شيخنا البهائي في كتاب (مشرق الشمسين) (٦) وتلميذه المحدّث الشيخ علي بن سليمان البحراني (٧) في حواشي كتب الحديث إلى التعدّد ، وأنّهما اثنان :

أحدهما : إسحاق بن عمار بن موسى الساباطي ، وهو فطحي.

والثاني : إسحاق بن عمار بن حيان ، إمامي.

__________________

(١) خلاصة الأقوال : ٣١٧ / ١٢٤٤.

(٢) المصدر غير متوفّر لدينا ، ولم ينقله عنه أحد ممّن سبق المصنّف رحمه‌الله فيما بين أيدينا ، لكن نقله عنه في منتهى المقال ٢ : ٢٥.

(٣) حاوي الأقوال ٣ : ١٧١ / ١١٣٣.

(٤) المصدر غير متوفّر لدينا ، وقد ذكره في كتابه معراج أهل الكمال : ٢١٩.

(٥) الوجيزة : ١٠٨ / ١٧٣.

(٦) مشرق الشمسين : ٩٥.

(٧) عنه في معراج أهل الكمال : ٢١٩.


حتى إن الشيخ عليّا المذكور قدس‌سره صرّح في حواشي كتب الحديث بأنه متى وردت رواية إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، فهو ابن حيان الثقة الإمامي.

ويفهم منه أن إسحاق بن عمار الساباطي لم يدرك الصادق عليه‌السلام. وحينئذ ، فاحتمال الاشتراك إنما يحصل فيما إذا روى إسحاق بن عمار عن الكاظم عليه‌السلام.

أقول : والأظهر عندي هو التعدد كما هو المستفاد من التتبّع لكتب الرجال ، والمعلوم من القرائن والأمارات الواردة في هذا المجال. والظاهر أن منشأ الشبهة عند من ذهب إلى الاتّحاد ، هو كلام العلّامة في (الخلاصة) حيث إنه جمع بين عبارتي النجاشي و (الفهرست) على وجه كأنهما عبارة واحدة ، والعبارتان عند الرجوع إلى الكتابين على غاية من التباعد والتنافي ؛ إذ الموجود في (الفهرست) ، هو إسحاق بن عمار الساباطي الفطحي ، والمذكور في (كتاب النجاشي) هو أبو حيان الصيرفي الإمامي.

قال النجاشي في كتابه : (إسحاق بن عمار بن حيان مولى بني تغلب أبو يعقوب الصيرفي ، شيخ من أصحابنا ، ثقة ، وإخوته يونس ويوسف وقيس وإسماعيل. وهو في بيت كبير من الشيعة. وابنا أخيه : علي بن إسماعيل ، وبشر بن إسماعيل كانا من وجوه من روى الحديث. روى إسحاق عن أبي عبد الله وأبي الحسن عليهما‌السلام) (١) انتهى.

وقال الشيخ في (الفهرست) : (إسحاق بن عمار الساباطي : له أصل ، وكان فطحيا إلّا إنه ثقة ، وأصله معتمد) (٢) انتهى.

والعلّامة في (الخلاصة) جمع بين ما أخذه من العبارتين ، فقال : (إسحاق بن عمار مولى بني تغلب أبو يعقوب. كان شيخا في أصحابنا ، ثقة. روى عن

__________________

(١) رجال النجاشي : ٧١ / ١٦٩.

(٢) الفهرست : ٥٤ / ٥٢.


الصادق ، والكاظم عليهما‌السلام ، وكان فطحيا. قال الشيخ : (إلّا إنه ثقة ، وأصله معتمد عليه). وكذا قال النجاشي ؛ فالأولى عندي التوقف فيما ينفرد به) (١) انتهى (٢).

ومن هذه العبارة ، سرى الوهم والاشتباه عند من عند تأخّر عنه ممن لم يحقّق الحال ، ولم يتدبر في قرائن الأحوال التي هي المدار في باب علم الرجال.

ومما يدل على التعدّد أن المذكور في (رجال النجاشي) إسحاق بن عمار بن حيان ، وأنه صيرفي ، وأن له إخوة وأبناء إخوة مشاركين له في النسب والنسبة ، والمذكور في (الفهرست) ابن عمار بن موسى الساباطي. ولعمار إخوة أيضا متصفون بهذه النسبة ، ولم يذكر في ترجمة أحد من ولد عمار بن حيان ، مع تعدّدهم في كتب الرجال وروايتهم للأخبار أنه ساباطي ، ولا في أحد من ولد عمار بن موسى أنه صيرفي ، مع استقصاء علماء الرجال لذكر الصفات المميّزة.

ففي ترجمة قيس من (الخلاصة) أنه (ابن عمار بن حيان ، قريب الأمر) (٣).

وفي ترجمة إسماعيل أنه (ابن عمار الصيرفي الكوفي وأنه أخو إسحاق) (٤).

وفي الحديث أن الصادق عليه‌السلام إذا رآهما قال : «وقد يجمعهما لأقوام» (٥). يعني الدنيا والآخرة.

وفي الصحيح عن عمار بن حيان قال : خبّرت أبا عبد الله عليه‌السلام ببرّ إسماعيل ابني بي ، فقال : «لقد كنت احبه وقد ازددت له حبا» (٦).

وفي ذلك ما يشهد بجلالتهما.

__________________

(١) خلاصة الأقوال : ٣١٧ ـ ٣١٨ / ١٢٤٤.

(٢) وقال الشيخ في (الفهرست) : إسحاق .. ينفرد به ، انتهى ، من «ح».

(٣) خلاصة الأقوال : ٢٣١ / ٧٨٧.

(٤) خلاصة الأقوال : ٣١٧ / ١٢٤٣ ، وليس فيه أنه كوفي صيرفي.

(٥) اختيار معرفة الرجال ٢ : ٤٠٢ / ٧٥٢.

(٦) الكافي ٢ : ١٦١ / ١٢ ، باب البر بالوالدين ، بحار الأنوار ٧١ : ٥٥ / ١٢.


وفي ترجمة محمد بن إسحاق من (رجال الكشي) (١) و (الخلاصة) (٢) : (محمد ابن إسحاق بن عمار بن حيان التغلبي الصيرفي. ثقة عين).

وروى في كتاب (العلل) عن إسحاق بن عمار قال : دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام فخبّرته أنه ولد لي غلام ، فقال : «ألا سميته محمدا؟». فقلت : قد فعلت. فقال : «لا تشتمه ، جعله الله لك قرة عين في حياتك ، وخلف صدق بعدك» (٣).

وفي هذا الحديث المتضمن لدعاء الإمام عليه‌السلام لمحمد المذكور ما يدفع ما ذهب إليه ابن بابويه من كون محمد المذكور واقفيا (٤).

وفي ترجمة يونس من (رجال البرقي) (٥) : (يونس بن عمار الصيرفي ، تغلبي).

وفي ترجمة يوسف من (الخلاصة) أنه (ابن عمار بن حيان (٦). ثقة) (٧).

وبشر بن إسماعيل المشار إليه في ترجمة إسحاق بن عمار من (رجال النجاشي) (٨) لم تذكر له ترجمة في كتب الرجال ، لكن وقفت على حديث رواه في (التهذيب) في باب الزيادات في فقه الحج ، وفيه : فلقي إسماعيل بن حميد بشر بن إسماعيل بن عمار الصيرفي ، فأخبره (٩) ، فدخل عليه (١٠) ، فسأله عنها ،

__________________

(١) لم نعثر عليه في رجال الكشي والظاهر أنه النجاشي انظر رجال النجاشي : ٣٦١ / ٩٦٨.

(٢) خلاصة الأقوال : ٢٦٢ / ٩٢١.

(٣) علل الشرائع ٢ : ٢٤٧ ـ ٢٤٨ / ب ٣١٤ ، ح ١.

(٤) عنه في خلاصة الأقوال : ٢٦٢ / ٩٢١ ، وقد روى الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ٢ : ٢١٣ / ٢٠ ، ما يدلّ على أنه واقفي حيث قال : عن أبي مسروق : دخل على الرضا عليه‌السلام جماعة من الواقفة فيهم علي بن أبي حمزة البطائني ومحمد بن إسحاق بن عمار ..

(٥) في النسخ الخطيّة والنسخة الحجريّة : الرمز (ق) ، والظاهر ما أثبتناه ، انظر رجال البرقي : ٢٩ ، وفيه التغلبي ، بدل : تغلبي.

(٦) في المصدر : حنان.

(٧) خلاصة الأقوال : ٢٩٦ / ١١٠٢.

(٨) رجال النجاشي : ٧١ / ١٦٩.

(٩) بالمسألة التي هي مدار الحديث.

(١٠) أي على الإمام عليه‌السلام.


فقال : «نعم هو واجب» (١) الحديث.

وأنت خبير بأن المستفاد من جميع ذلك كون إسحاق بن عمار المذكور في (رجال النجاشي) من الشيعة الإمامية ، وأن جميع إخوته وأبناء إخوته المذكورين كذلك وإن جهل الأمر في بعض ، ولم يوصف أحدهم (٢) بالفطحية ولا بكونه ساباطيا بخلاف عمار بن موسى الساباطي ، فإنه حيث يذكر هو أو أحد من ولده أو إخوته يوصف بذلك ؛ ففي عبارة (الفهرست) في إسحاق ما عرفت (٣) ، وفي ترجمة عمار أنه (ابن موسى الساباطي) (٤).

وفي ترجمة أخيه صباح من (الخلاصة) أنه ابن موسى الساباطي (أخو عمار الساباطي. ثقة) (٥).

وفي حواشي شيخنا الشهيد الثاني على (الخلاصة) : (ولم يكن فطحيا كأخيه عمار) (٦).

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنه قد ورد في عدة من الأخبار وصف إسحاق بن عمار بكونه صيرفيا ، ففي باب إخراج القيمة في زكاة الفطرة من (الاستبصار) رواية إسحاق بن عمار الصيرفي عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٧).

والواجب بالنظر إلى ما ذكرناه حمله على المذكور في (رجال النجاشي) ، وهو (الثقة الإمامي) ، فيكون حديثه صحيحا. وصاحب (المدارك) (٨) عده في الموثق بناء على الاتحاد ، وهو غلط محض كما عرفت.

وفي باب (من أفتى المحرم بتقليم الظفر فأدماه فعليه شاة) : زكريا المؤمن عن

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٥ : ٤٣٩ / ١٥٢٤.

(٢) في «ح» : أحد منهم.

(٣) الفهرست : ٥٤ / ٥٢.

(٤) الفهرست : ١٨٩ / ٥٢٦.

(٥) خلاصة الأقوال : ١٧٠ / ٤٩٩.

(٦) عنه في حاوي الأقوال ١ : ٤٣٨ / ٣٢٩.

(٧) الاستبصار ٢ : ٥٠ / ١٦٦.

(٨) مدارك الأحكام ٥ : ٣٣٦.


إسحاق بن عمار الصيرفي قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام (١) الحديث. والواجب أيضا حمله على المذكور.

وممّا ورد دالّا على روايته عن الكاظم عليه‌السلام ما رواه في كتاب (ثواب الأعمال (٢)) (٣) عن محمّد بن سليمان الديلمي عن أبيه (٤) سليمان الديلمي ، عن إسحاق بن عمار الصيرفي عن أبي الحسن الماضي عليه‌السلام.

وفي باب الصرف من كتاب (الأخبار) (٥) روايات عديدة عن إسحاق بن عمار عنه عليه‌السلام في أحكام الصرف. والواجب حمله في تلك الروايات على ابن حيان المذكور في (رجال النجاشي) (٦) ، فتكون أحاديثه مع السلامة من مطعون فيه صحيحة.

وفي حاشية كتاب (الرجال الصغير) للميرزا محمد الأسترابادي على ترجمة إسحاق بن عمار ما يدل على تفطنه للتعدّد ، بعد ذلك والعدول عما ذكره في متن الكتاب ، حيث قال : (والظاهر من التتبع أن إسحاق بن عمار اثنان : ابن عمار بن حيان الكوفي ـ وهو المذكور في (رجال النجاشي) ـ وابن عمار بن موسى الساباطي ، وهو المذكور في (الفهرست). وأن الثاني فطحي دون الأوّل) انتهى.

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٥ : ٣٣٣ / ١١٤٦ ، وسائل الشيعة ١٣ : ١٦٥ ، أبواب بقية كفارات الإحرام ، ب ١٣ ، ح ١ ، وفيهما : لأبي إبراهيم عليه‌السلام ، بدل : أبي عبد الله ، وليس فيهما : بن عمار.

(٢) كذا في «ق» و «ح» و «م» ، وفي «ع» : مواهب الأعمال ، غير أن الحديث مذكور في عقاب الأعمال. انظر الهامش التالي.

(٣) عقاب الأعمال (في ذيل ثواب الأعمال) : ٢٥٥ / ٣.

(٤) في النسختين بعدها : عن ، وما أثبتناه وفق المصدر.

(٥) تهذيب الأحكام ٧ : ١٠٣ / ٤٤٤ ، و ٧ : ١٠٧ / ٤٥٩.

(٦) رجال النجاشي : ٧١ / ١٦٩.


(٣٠)

درّة نجفيّة

في مدلول الأمر والنهي

قد طال التشاجر بين علماء الاصول في مدلول الأمر والنهي حقيقة من أنه هو الوجوب والتحريم أو غير ذلك من الأقوال (١) التي حرروها والحجج التي سطروها ، ومدوا أطناب الإطناب في ذلك الباب بما لا يرجع إلى سنة ولا كتاب ، وزيّف كل منهم ما أورده الآخر من الاستدلال ، وأكثروا في المقام من القيل والقال ، مع أن (الكتاب) العزيز وأخبار أهل الذكر عليهم‌السلام مملوءة من الدلالة على الوجوب والتحريم بما لا يحوم حوله الإيراد ، وهي أولى بالاتباع والاعتماد ، وأظهر في الدلالة على المراد. فمنها قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا

__________________

(١) اعلم أن صيغة (افعل) تستعمل في خمسة عشر معنى على سبيل البدل :

الأوّل : الإيجاب ، كقوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ) (١).

الثاني : الندب ، كقوله تعالى (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) (٢).

الثالث : الإرشاد ، كقوله تعالى (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) (٣).

الرابع : التهديد ، كقوله تعالى (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) (٤).

الخامس : الإهانة ، كقوله تعالى (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) (٥).

السادس : الدعاء ، نحو (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا) (٦).

__________________

١ ـ الإسراء : ٧٨ ، لقمان : ١٧.

٢ ـ النور : ٣٣.

٣ ـ البقرة : ٢٨٢.

٤ ـ فصّلت : ٤٠.

٥ ـ الدخان : ٤٩.

٦ ـ البقرة : ١٤٧.


الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (١) ، وليس الطاعة إلّا الانقياد لما يقوله الآمر من الأمر والنهي ، كما صرّح به أرباب اللغة (٢) ، وترك الطاعة عصيان ، لنص أهل اللغة (٣) على ذلك. والعصيان حرام لقوله سبحانه (مَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) (٤).

__________________

السابع : الإباحة ، كقوله تعالى (فَاصْطادُوا) (١).

الثامن : الامتنان ، كقوله تعالى (كُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللهُ) (٢).

التاسع : الإكرام ، كقوله تعالى (ادْخُلُوها بِسَلامٍ) (٣).

[...] (٤).

الحادي عشر : التعجيز ، كقوله تعالى (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) (٥).

الثاني عشر : التسوية ، كقوله تعالى (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا) (٦).

الثالث عشر : التمنّي :

ألا (٧) أيها الليل الطويل ألا انجل

بصبح وما الإصباح منك بأمثل (٨)

الرابع عشر : الاحتقار (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) (٩).

الخامس عشر : التكوين ، كقوله تعالى (كُنْ فَيَكُونُ) (١٠) ... (٢) ، (هامش «ح»).

(١) النساء : ٥٩.

(٢) العين ٢ : ٢٠٩ ـ عطو ، جمهرة اللغة ٣ : ١٠٧ ـ طعو ، الصحاح ٣ : ١٢٥٥ ـ طوع.

(٣) الصحاح ٦ : ٢٤٢٩ ـ عصا ، لسان العرب ٩ : ٢٥١ ـ عصا ، القاموس المحيط ٤ : ٥٢٦ ـ العصيان.

(٤) الجن : ٢٣.

__________________

١ ـ المائدة : ٢.

٢ ـ المائدة : ١٤٢.

٣ ـ الحجر : ٤٦ ، وق : ٣٤.

٤ ـ لم يذكر المحشّي رحمه‌الله المعنى العاشر ، بل تجاوزه إلى المعنى الحادي عشر. وقد أوصل بعض علماء الاصول مفادات الأمر إلى أكثر من ذلك ، فقد أضافوا (التسخير والاذن والتأديب والالتماس والتفويض والتعجب والتكذيب والاعتبار والمشورة والإنعام). انظر : مفاتيح الاصول : ١١٠ ، الإبهاج في شرح المنهاج ٢ : ١٥ ـ ١٦.

٥ ـ البقرة : ٢٣.

٦ ـ الطور : ١٦.

٧ ـ في المخطوط بعدها : يا.

٨ ـ البيت من الطويل ، وهو لامرئ القيس. انظر : شرح المعلّقات السبع : ٢٩.

٩ ـ يونس : ٨٠. ١٠ ـ البقرة : ١١٧ ، وغيرها.


ومنها قوله تعالى (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) (١) ، والتقريب ما تقدم.

ومنها قوله تعالى (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢).

ومنها قوله تعالى (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (٣).

ومن الأخبار الدالة على ذلك ما استفاض من وجوب طاعة الأئمَّة عليهم‌السلام وأن طاعتهم كطاعة الله عزوجل ورسوله. وقد عقد له في (الكافي) بابا عنونه (باب فرض طاعة الأئمَّة عليهم‌السلام) (٤).

ومن أخباره حسنة الحسين بن أبي العلاء قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الأوصياء طاعتهم مفترضة؟ قال : «نعم ، هم الذين قال الله تعالى (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٥)» (٦) الحديث.

وصحيحة الكناني قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «نحن قوم فرض الله طاعتنا» (٧) الحديث.

ورواية الحسين بن المختار عن أبي جعفر عليه‌السلام في قول الله تعالى (وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) (٨) قال : «الطاعة للإمام» (٩).

__________________

(١) النساء : ٨٠.

(٢) النور : ٦٣.

(٣) الحشر : ٧.

(٤) الكافي ١ : ١٨٥ / ١٩٠ ، باب فرض طاعة الأئمَّة.

(٥) النساء : ٥٩.

(٦) الكافي ١ : ١٨٩ / ١٦ ، باب فرض طاعة الأئمَّة.

(٧) الكافي ١ : ١٨٦ / ٦ ، باب فرض طاعة الأئمة.

(٨) النساء : ٥٤.

(٩) الكافي ١ : ١٨٦ / ٤ ، باب فرض طاعة الأئمَّة.


إلى غير ذلك من الأخبار المذكورة في ذلك الباب وغيره (١).

ومن الأخبار الدالة على أصل المدّعى صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم ، قالا : قلنا لأبي جعفر عليه‌السلام ما تقول (٢) في صلاة السفر ؛ كيف هي؟ وكم هي؟ فقال : «إنّ الله عزوجل يقول (إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) (٣) ، فصار القصر من الصلاة واجبا كوجوب التمام في الحضر». قال : قلنا : إنما قال الله عزوجل (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا) ، ولم يقل افعلوا ، فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر؟ فقال عليه‌السلام : «أو ليس قد قال الله عزوجل : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) (٤)؟ ألا ترون أن الطواف بهما واجب مفروض؟» (٥) الحديث.

والتقريب أن زرارة ومحمد بن مسلم علقا (٦) استفادة الوجوب على صيغة أفعل مجردة (٧) ، وسألا عن وجوب القصر مع عدم الصيغة المذكورة ، وهما من أهل اللسان وخواص الأئمَّة عليهم‌السلام ، والإمام عليه‌السلام قررهما على ذلك.

ومنها صحيحة عمر بن يزيد (٨) قال : اشتريت إبلا وأنا بالمدينة فأعجبتني إعجابا شديدا ، فدخلت على أبي الحسن الأول عليه‌السلام فذكرتها ، فقال : «مالك وللإبل؟ أما علمت أنها كثيرة المصائب؟».

قال : فمن إعجاب بها أكريتها ، وبعثت بها مع غلمان لي إلى الكوفة ، فسقطت كلها.

__________________

(١) الكافي ١ : ٢٠٨ ـ ٢١٠ ، باب ما فرض الله عزوجل ..

(٢) ما تقول ، ليس في «ح».

(٣) النساء : ١٠١.

(٤) البقرة : ١٥٨.

(٥) الفقيه ١ : ٢٧٨ / ١٢٦٦ ، وسائل الشيعة ٨ : ٥١٧ ـ ٥١٨ ، أبواب صلاة المسافر ، ب ٢٢ ، ح ٢.

(٦) من «ح».

(٧) من «ح».

(٨) الكافي ٦ : ٥٤٣ / ٧ ، باب اتّخاذ الإبل.


قال : فدخلت فأخبرته ، فقال (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١).

ومنها ما ورد في رسالة الصادق عليه‌السلام إلى أصحابه ، المروية في (روضة الكافي) حيث قال فيها : «اعلموا أن ما أمر الله أن (٢) تجتنبوه ، فقد حرمه». إلى أن قال في أثنائها أيضا : «واعلموا أنه إنما أمر ونهى ليطاع فيما يأمر به ، ولينتهى عما نهى عنه ..

فمن اتّبع أمره فقد أطاعه ، ومن لم ينته عما نهى عنه فقد عصاه ، فإن مات على معصية أكبّه الله على وجهه في النار» (٣).

ومنها صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «العمرة واجبة على الخلق بمنزلة الحجّ ؛ لأنّ الله تعالى يقول (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ) (٤)» (٥) الحديث.

وذهب جمع من المتأخّرين ومتأخريهم ، منهم المحقق الشيخ حسن ابن شيخنا الشهيد الثاني ، والسيّد السند صاحب (المدارك) ـ بل الظاهر أنه أوّل من ذهب إلى ذلك فيما أعلم ـ إلى منع دلالة صيغة الأمر والنهي على الوجوب والتحريم في كلام الأئمَّة عليهم‌السلام وإن كانت كذلك في كلام الله تعالى وكلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مستندين إلى كثرة ورود الأوامر والنواهي عنهم عليهم‌السلام ، للاستحباب والكراهة وشيوعها إلى ذلك.

قال في كتاب (المعالم) : (فائدة : يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المرويّة عن الأئمَّة عليهم‌السلام أن استعمال صيغة الأمر في الندب كان شائعا في عرفهم عليهم‌السلام ، بحيث صار من المجازات الراجحة المساوي احتمالها من اللفظ لاحتمال الحقيقة عند

__________________

(١) النور : ٦٣.

(٢) ليست في «ح».

(٣) الكافي ٨ : ٦ ، ٩.

(٤) البقرة : ١٩٦.

(٥) تهذيب الأحكام ٥ : ٤٣٣ / ١٠٥٢ ، وسائل الشيعة ١٤ : ٢٩٥ ، أبواب العمرة ، ب ١ ، ح ٢.


انتفاء المرجّح المجازي. فيشكل التعلق في إثبات وجوب أمر بمجرد ورود الأمر به منهم عليهم‌السلام) (١) انتهى.

وبمثل هذه المقالة صرّح السيد السند في موضع من (المدارك) (٢) ، ونسج على منوالهما جملة ممن تأخر عنهما ؛ منهم المولى محمد باقر الخراساني في (الذخيرة) (٣) و (الكفاية) (٤) ، ومنهم المحقّق الخونساري شارح (الدروس) (٥).

ومنهم شيخنا أبو الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني (٦) وغيرهم.

وعندي فيه نظر من وجوه :

أحدها : أن تلك الأوامر والنواهي هي في الحقيقة أوامر الله سبحانه ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا فرق بين صدورها من الله سبحانه ورسوله ولا منهم (٧) ؛ لكونهم حملة ونقلة لقولهم عليه‌السلام : «إنا إذا حدثنا حدثنا عن الله ورسوله ، ولا نقول من أنفسنا» (٨).

وحينئذ ، فحيث إن هذا القائل يسلم أن أوامر الله عزوجل ورسوله ونواهيهما الصادرة عنهما لا بواسطة واجبة الاتّباع ، فيجب عليه القول فيما كان بواسطتهم أيضا. وهل يجوز أو يتوهم نقلهم عليه‌السلام ذلك اللفظ عن معناه الحقيقي الذي

هو الوجوب أو التحريم ، واستعماله في معنى مجازي من غير نصب قرينة وتنبيه على ذلك؟ وهل هو إلّا من قبيل التعمية والألغاز ، وشفقتهم على شيعتهم وحرصهم على هدايتهم ، بل علوّ شأنهم وعصمتهم يمنع من ذلك؟

وثانيهما : أن ما استند إليه هذا القائل من كثرة ورود الأوامر والنواهي في

__________________

(١) معالم الاصول : ٧٤.

(٢) انظر مدارك الأحكام ٤ : ٣٨٣.

(٣) ذخيرة المعاد : ١٠٨.

(٤) كفاية الأحكام : ٩٩.

(٥) مشارق الشموس في شرح الدروس : ١٢ ـ ١٣.

(٦) أزهار الرياض : ٩٨ ، أجوبة سليمان بن عبد الله : ٤٤ ، العشرة الكاملة : ٢١٩.

(٧) ولا فرق .. منهم ، من «ح» ، وفي «ق» بدله : ولا يفهم.

(٨) رجال الكشي : ٢٢٤ / ٤٠١ ، بحار الأنوار ٢ : ٢٥٠ / ٦٢.


أخبارهم للاستحباب والكراهة مردود بأنه إن كان دلالة تلك الأوامر والنواهي باعتبار قرائن قد اشتملت عليها تلك الأخبار حتى دلّت بسببها على الاستحباب والكراهة ، فهو لا يقتضي حمل ما لا قرينة فيه على ذلك ، وهل هو إلّا مع وجود الفارق؟ وإلّا فهو عين المتنازع فيه (١) ، فلا يتم الاستدلال. وهذا بحمد الله سبحانه واضح المقال (٢) لمن يعرف الرجال بالحقّ لا الحقّ بالرجال.

وثالثها : أن ما قدّمنا من الآيات والأخبار الدالة على فرض طاعتهم ووجوب متابعتهم عامة شاملة لجميع الأوامر والنواهي ، إلّا ما دلّت القرائن على خروجه.

فحينئذ ، لو حمل الأمر والنهي الوارد في كلامهم بدون القرائن الصارفة على الاستحباب والكراهة المؤذن بجواز الترك في الأول والفعل في الثاني ، لم يحصل العلم بطاعتهم ولا اليقين بمتابعتهم ، وكان المرتكب لذلك في معرض الخوف والخطر والتعرّض لحرّ (٣) سقر ؛ لاحتمال كون (٤) ما أمروا به إنما هو على وجه (٥) الوجوب والحتم ، وما نهوا عنه إنما هو على جهة التحريم والزجر. بل هو ظاهر تلك الأوامر والنواهي بالنظر إلى ما قلنا إلّا مع الصارف ، بخلاف ما إذا حملا على الوجوب والتحريم فإن المكلف حينئذ متيقن البراءة والخروج من العهدة.

ولو قيل : إن الحمل على الاستحباب والكراهة معتضد بالبراءة الأصلية ، إذ الأصل براءة الذّمة حتى يقع دليل قاطع على ما يوجب شغلها.

قلنا : فيه :

أولا : ما عرفت في مسألة (٦) البراءة الأصلية ـ كما تقدم تحقيقه في الدرّة (٧) التي

__________________

(١) من «ح».

(٢) في «ح» : المجال.

(٣) في «ح» : بحر.

(٤) في «ح» : كونها.

(٥) من «ح».

(٦) من «ح».

(٧) انظر الدرر ١ : ١٥٥ ـ ١٨٦ / الدرة : ٦.


في المسألة المذكورة ـ من عدم قيام الدليل عليها ، بل قيامه على خلافها.

وثانيا : أنه بعد ورود الأمر والنهي مطلقا لا مجال للتمسّك بها ؛ إذ المراد بها ؛ إما أصالة البراءة قبل تعلق التكاليف ، وحينئذ فبعد التكليف لا مجال لاعتبارها وإما أصالة البراءة ؛ لعدم الاطلاع على الدليل. والحال أن الدليل في الجملة موجود.

نعم يبقى الشكّ في الدليل ، وتردّده بين الوجوب والاستحباب والتحريم والكراهة ، وهذا أمر آخر ، فالخروج من قضية البراءة الأصلية معلوم.

وبالجملة ، فأصالة البراءة عبارة عن خلوّ الذمّة من تعلق التكليف مطلقا إيجابيا أو ندبيّا ؛ وهو هنا ممتنع بعد وجود الدليل ولو في الجملة.

ورابعها : أنه لا أقل أن يكون الحكم بالنظر إلى ما ذكرنا من الآيات والروايات من المتشابهات التي استفاضت الأخبار بالوقوف فيها على ساحل الاحتياط : «حلال ، بين وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، فمن تجنب (١) الشبهات نجا من الهلكات» (٢).

ومن الظاهر البيّن أن الاحتياط في جانب الوجوب والتحريم هذا.

وما اعتضد به شيخنا أبو الحسن قدس‌سره في كتاب (العشرة الكاملة) ، حيث اقتفى أثر اولئك القوم في هذه المقالة ، من أن الصدوق رحمه‌الله في كتاب (من لا يحضره الفقيه) ، قد حمل كثيرا من الأوامر على الندب (٣) ، وجمّا غفيرا من النواهي على الكراهة والتنزيه (٤) ، ففيه أنه إن كان ذلك كذلك ، فيمكن حمله على ظهور قرائن

__________________

(١) في المصدر : ترك.

(٢) الكافي ١ : ٦٨ / ١٠ ، باب اختلاف الحديث ، تهذيب الأحكام ٦ : ٣٠١ / ٨٤٥ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٥٧ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٩.

(٣) الفقيه ١ : ٢٣٧ / ذيل الحديث : ١٠٤٢ ، و ٢ : ٢٣٧ / ذيل الحديث : ١١٢٩.

(٤) الفقيه ٢ : ٩٠ / ذيل الحديث : ٣٩٩ ، و ٢ : ٩٣ / ذيل الحديث : ٤١٦.


المجاز له ؛ إذ هي بالنسبة إلى مثله من أرباب الصدر الأوّل غير عزيزة. ويمكن أيضا ، أن يكون ذلك في مقام الجمع بين الأخبار ، بأن يكون في الأخبار المعارضة ما يدلّ على نفي الوجوب في الأول والجواز في الثاني مع قوته ورجحانه. وهذا من جملة القرائن الموجبة للخروج عن ذينك المعنيين الحقيقيين.



(٣١)

درّة نجفيّة

في تقليد الفقيه بمسألة مع ثبوت خلافها للمكلف

من جملة مسائل بعض الإخوان الأعلام والخلان الكرام ، قال : (موضوع الحكم الشرعي هل يجب على من عدا الفقيه أن يقلّده فيه ، كما لو ثبت استحقاق زيد مثلا للزكاة عند الفقيه ولم يثبت عند من عليه الزكاة مع معرفته بشروط الاستحقاق؟ وكذا هلال الشهر أخذا في الصوم أو في الافطار؟ وكذا جهة القبلة أو هما في ذلك سواء؟).

فكتبت له في الجواب مستمدّا منه سبحانه الهداية إلى إصابة الصواب (١) ما صورته : إن الظاهر من كلام الأصحاب (٢) ـ رضوان الله عليهم ـ في مسألة رؤية الهلال أنه يكفي حصول الثبوت عند كل من الحاكم الشرعي والمكلّف ، فلو ثبت عند الحاكم الشرعي رؤية الهلال لفطر كان أو صيام بالشهادة أو الشياع وجب على من عداه العمل بذلك ؛ وكذا لو ثبت بأحد الوجهين عند المكلف.

ويظهر من بعض أفاضل متأخّري المتأخّرين أنه لا يجب على المكلّف العمل بما ثبت عند الحاكم هنا ، بل إن حصل الثبوت عنده وجب عليه العمل بمقتضى ذلك ، وإلّا فلا. قال : لأن الأدلة الدالة على الفطر أو الصيام من الأخبار ؛ إما رؤية

__________________

(١) في «ح» : الثواب.

(٢) تحرير الأحكام ١ : ٨٢ ، مسالك الأفهام ٢ : ٥١ ، مدارك الأحكام ٦ : ١٩٦.


المكلف نفسه ، أو ثبوتها بالشياع ، أو السّماع من رجلين عدلين ، أو مضيّ ثلاثين يوما من شعبان أو شهر رمضان ، وإما ثبوت دليل خامس ؛ وهو حكم الحاكم ، فلم نجد له ما يعتمد عليه ويركن إليه.

وظاهر كلامه إجراء البحث في غير مسألة الرؤية أيضا. حيث قال بعد كلام له في المقام : (فلو ثبت عند الحاكم غصبية (١) الماء ، فلا دليل على أنه يجب على المكلف الاجتناب عنه وعدم التطهير به).

قال : (وكذا لو حكم بأنّه دخل الوقت في زمان معيّن ، فلا حجة على أنه يصحّ للمكلف إيقاع الصلاة فيه وإن لم يلاحظه أو لاحظه واستقر ظنّه بعدم الدخول.

ولهذا نظائر كثيرة لا يخفى على البصير المتتبع) انتهى.

أقول : والأظهر بالنسبة إلى موضوع المسألة ، هو التفصيل في المقام بأن يقال : إنه إما أن يكون الحكم ممّا يتوقف ثبوته وحصوله على الإثبات الشرعي ولو في الجملة أو لا.

والأول إما أن يكون من قبيل الحقوق التي يقع فيها التنازع بين الخصوم ، أو الحقوق التي لله سبحانه أو لا.

والأوّل من الثاني ممّا لا خلاف في اختصاصه بالفقيه.

والثاني من الثاني ، هو موضوع المسألة ومحل البحث ، وهي الأحكام التي تتعلّق بالمكلّف نفسه مع حصولها بالإثبات الشرعي ، ولو في الجملة.

والثاني من الأوّل ليس ممّا نحن فيه في شي‌ء ، وذلك مثل جهة القبلة ، فإن الشارع أوجب على كل مكلّف من فقيه ومقلد الصلاة إلى جهة القبلة مع علمها ، ومع فقد العلم يرجع إلى الظن على التفصيل المذكور في محله. ومع تعذّره يصلي

__________________

(١) في مصححة «ح» : نجاسة.


إلى أربع جهات على المشهور أو إلى أيّ جهة شاء على القول الآخر (١) ، ولا مدخل للشاهدين ولا للإثبات الشرعي في ذلك.

وكذا الوقت ، فإن الشارع قد جعل لدخوله علامات يعرف بها ، وأوجب على كل مكلّف العمل بها ، فإن حصل شي‌ء منها بنى عليه وإلّا بنى على الظن أو الاحتياط بالتأخير ، إلى أن يتيقن دخول الوقت.

وكذا الدفع إلى مستحق الزكاة مثلا ؛ فإن المدار فيه على اتّصاف المستحق بالفقر ، وقوله مقبول فيه اتفاقا ما لم يظهر خلافه ، سواء كان الدافع إليه الفقيه أو من عليه الزكاة ، فلا مدخل لهذه المعدودات ولا لأمثالها فيما نحن فيه.

وإنما الكلام في مثل رؤية الهلال لصوم أو فطر ، التي هي أحد أسبابها الشهادة على الرؤية ، والحكم بنجاسة الماء مثلا ، الذي أحد أسبابه الشهادة أيضا ، والحكم بعدالة شخص أو فسقه الذي هو كذلك أيضا. وأمثال ذلك أيضا ممّا هو من هذا القبيل.

فلو ثبت شي‌ء من هذه الامور عند الحاكم الشرعي ، فهل يجب على المكلف العمل به أم لا ، بل لا بدّ من سماعه هو نفسه من الشاهدين؟ لم أقف في المقام على كلام لأحد من علمائنا الأعلام سوى ما في مسألة الرؤية ، حيث إن السيد السند السيد محمدا قدس‌سره في كتاب (المدارك) نقل عن العلّامة (٢) وغيره (٣) ، أنهم صرحوا بأنّه لا يعتبر في ثبوت الهلال بالشاهدين في الصوم والفطر حكم الحاكم ، فلو رآه اثنان ولم يشهدا عند الحاكم وجب على من سمع شهادتهما وعرف عدالتهما الصوم والفطر.

__________________

(١) انظر مختلف الشيعة ٢ : ٨٤ / المسألة : ٢٨.

(٢) تحرير الأحكام ١ : ٨٢.

(٣) مسالك الأفهام ٢ : ٥١.


قال : (وهو كذلك ؛ لقول الصادق عليه‌السلام في صحيحة منصور بن حازم : «فإن شهد عندك شاهدان مرضيان بأنّهما رأياه فاقضه» (١).

وفي صحيحة الحلبي (١) وقد قال له : أرأيت إن كان الشهر تسعة وعشرين يوما؟ أقضي ذلك اليوم؟ قال : «لا إلّا أن يشهد لك (٢) بينة عدول ، فإن شهدوا أنّهم رأوا الهلال قبل ذلك اليوم فاقض ذلك اليوم» (٣)) (٤).

ومقتضى هذا الكلام أنه يجب العمل بحكم الحاكم بالرؤية متى ثبت عنده بالبينة وإن كان ذلك غير منحصر فيه ، بل يكفي سماع المكلّف منهما بعد معرفته بعدالتهما. وإنما يحصل التوقف عنده ، فيما لو انفرد الحاكم بالرؤية ، فهل يجب على من عداه العمل بقوله أم لا؟ حيث قال في الكتاب المذكور : (السادس : هل يكفي قول الحاكم الشرعي في ثبوت الهلال؟ فيه وجهان :

أحدهما : نعم ، وهو خيرة (الدروس) (٢) ؛ لعموم ما دلّ على أن للحاكم أن يحكم

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٤ : ١٥٧ / ٤٣٦ ، الاستبصار ٢ : ٦٣ / ٢٠٥ ، وسائل الشيعة ١٠ : ٢٨٧ ، أبواب أحكام شهر رمضان ، ب ١١ ، ح ٤.

(٢) أقول : ينبغي أن يعلم أن صحيحة الحلبي قد رواها الشيخ بطرق ثلاثة ـ منها الصحيح وغيره ـ بهذا المتن المنقول في الأصل. ورواها أيضا بطريقين آخرين عن عبد الله بن سنان : في الأوّل : «إلى أن يشهد بذلك بينة عدول» (١) ، وفي الثاني : «إلّا أن يشهد بينة عدول». ومدار الاستدلال على ما ذكرنا من الطرق الثلاثة والمتن المذكور في الأصل واضح لا يخفى. منه رحمه‌الله ، (هامش «ح»).

(٣) في «ح» : يشهدك ، بدل : يشهد لك.

(٤) تهذيب الأحكام ٤ : ١٥٦ / ٤٣٤ ، وسائل الشيعة ١٠ : ٢٦٤ ، أبواب أحكام شهر رمضان ، ب ٥ ، ح ٩.

(٥) مدارك الأحكام ٦ : ١٦٩.

(٦) فإن صورة كلامه في الدروس هكذا : (وهل يكفي قول الحاكم وحده في ثبوت الهلال؟ الأقرب نعم) (٢) انتهى. منه رحمه‌الله ، (هامش «ح»).

__________________

١ ـ تهذيب الأحكام ٤ : ١٦٣ / ٤٥٩ ، وسائل الشيعة ١٠ : ٢٦٧ ، أبواب أحكام شهر رمضان ، ب ٥ ، ح ١٩.

٢ ـ الدروس ١ : ٢٨٦.


بعلمه ، ولأنه لو قامت عنده البيّنة فحكم بذلك وجب الرجوع إلى حكمه كغيره من الأحكام. والعلم أقوى من البيّنة ، ولأن المرجع في الاكتفاء بشهادة العدلين وما يتحقّق به العدالة).

إلى قوله : (فيكون مقبولا في جميع الموارد ، ويحتمل العدم ؛ لإطلاق قوله عليه‌السلام : «لا اجيز في رؤية الهلال إلّا شهادة رجلين عدلين (١)» (٢)) (٣) انتهى.

وظاهر ما ذكره قدس‌سره من التعليل لكلام (الدروس) هو وجوب الرجوع إلى ما يثبت بالبيّنة عند الحاكم في كلّ أمر من الامور التي فصّلناها آنفا ـ ومنها محل البحث ـ ولم يتوقف إلّا في الاعتماد على قول الحاكم إذا كان هو الرائي ، فاحتمل عدم العمل بقوله ؛ نظرا إلى إطلاق الخبر الذي نقله. وبمضمونه أيضا عدة أخبار.

وظاهر المحقق الفاضل المولى محمد باقر الخراساني صاحب (الكفاية) (٤) و (الذخيرة) (٥) موافقة كلام (الدروس) في هذا المقام ، حيث علّل كلام (الدروس) بما ذكره السيد هنا وجمد عليه ، ولم يذكر احتمال العدم ولا دليله ، وكأنه مخصّص هذه الأخبار بغير الصورة المذكورة ، وكلامهما قدس‌سرهما كما ترى ظاهر الدلالة في وجوب الرجوع للحاكم متى ثبت عنده بالبينة.

ولعلّ مستندهما في ذلك الأخبار الدالة بعمومها أو إطلاقها على وجوب الرجوع إلى ما يحكم به الفقيه المنصوب من قبلهم عليهم‌السلام ، مثل قول الصادق عليه‌السلام في مقبولة عمر بن حنظلة : «فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل (٦) منه ، فإنما استخفّ بحكم الله ،

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) الكافي ٤ : ٧٦ / ٢ ، باب الأهلّة والشهادة عليها ، الفقيه ٢ : ٧٧ / ٣٣٨ ، وسائل الشيعة ١٠ : ٢٨٦ ، أحكام شهر رمضان ، ب ١١ ، ح ١.

(٣) مدارك الأحكام ٦ : ١٧٠ ـ ١٧١.

(٤) كفاية الأحكام : ٥٢.

(٥) ذخيرة المعاد : ٥٣١.

(٦) في المصدر : يقبله.


وعلينا ردّ والراد علينا الرادّ على الله» (١).

وقول صاحب الزمان عليه‌السلام في توقيع إسحاق بن يعقوب : «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنّهم حجتي عليكم وأنا حجة الله» (٢).

وأمثال ذلك ممّا يدلّ (٣) على وجوب الرجوع إلى نائبهم عليه‌السلام.

وخصوص صحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إذا شهد عند الإمام شاهدان أنّهما رأيا الهلال منذ ثلاثين يوما أمر الإمام بالإفطار» (٤) الحديث.

ويعضده أيضا الأخبار المطلقة بشهادة العدلين في الرؤية. وأنت خبير بأن للمناقشة في ذلك مجالا.

أما المقبولة المذكورة ونحوها فإن المتبادر منها بقرينة السياق إنما هو وجوب الرجوع فيما يتعلّق بالقضاء بين الخصوم أو الفتوى في الأحكام ، وهو ممّا لا نزاع فيه لاختصاص الحاكم به إجماعا نصّا وفتوى.

وأما صحيحة محمّد بن قيس فالظاهر من لفظ «الإمام» فيها إنّما هو إمام الأصل ، أو ما هو أعمّ منه ومن إمام الجور والخليفة المتولّي لأمر العامّة ، بمعنى أن الواجب على الإمام القائم بامور المسلمين ذلك ؛ فإن الإمام إنما يحتمل انصرافه إلى من عدا من ذكرنا في مثل إمامة الجماعة والجمعة حيث يشترط بالإمام. وأما في مثل هذا المقام فلا مجال لغير ما احتملناه بحيث يدخل فيه الفقيه.

__________________

(١) الكافي ١ / ٦٧ / ١٠ ، باب اختلاف الحديث ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٣٦ ـ ١٣٧ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١١ ، ح ١.

(٢) كمال الدين : ٤٨٤ / ٤ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٤٠ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١١ ، ح ٩.

(٣) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٣٦ ـ ١٥٣ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١١.

(٤) الكافي ٤ : ١٦٩ / ١ ، باب ما يجب على الناس .. ، وسائل الشيعة ٧ : ٤٣٢ ـ ٤٣٣ ، أبواب صلاة العيد ، ب ١ ح ١.


نعم ، للقائل أن يقول : إذا ثبت ذلك للإمام الأصل ثبت لنائبه بحق النيابة ، إلّا إنه لا يخلو من شوب الإشكال وقيام الاحتمال أيضا ؛ لعدم الوقوف على دليل لهذه الكلية ، وظهور وجود أفراد كثيرة يختصّ بها الإمام دون نائبه.

وأما باقي الأخبار الواردة في المسألة فهي وإن كانت مطلقة إلّا إنه يمكن حملها على المقيّد التي تقدّم بعضها.

وبالجملة ، فالمسألة عندي موضع توقف وإشكال ؛ لعدم الدليل الواضح في وجوب الأخذ بحكم الحاكم بحيث يشمل موضع النزاع. ثم أنت خبير أيضا بأنّه بمقتضى ما ذكروه من العموم أنه لو ثبت عند الحاكم بالبيّنة نجاسة الماء أو حرمة اللحم ، ولم يثبت عند المكلف لعدم سماعه من البيّنة مثلا ، فإن تنجيس الأول وتحريم الثاني بالنسبة إليه بناء على وجوب الأخذ عليه بحكم الحاكم ينافي الأخبار الدالة على : «أن كل شي‌ء طاهر حتى تعلم أنه قذر» (١) ، و «كل شي‌ء فيه حلال وحرام ، فهو لك حلال حتى تعلم الحرام بعينه فتدعه» (٢) ، حيث لم يجعلوا من طرق العلم في القاعدتين المذكورتين حكم الحاكم بذلك ، وإنما ذكروا أخبار المالك وشهادة الشاهدين. وعلى ذلك تدلّ الأخبار أيضا.

وظاهر كلامهم هو شهادتهما عند المكلف وسماعه منهما ؛ ولهذا أن بعضهم اكتفى هنا بالعدل الواحد كما تقدم بيانه في الدرة الأولى من درر هذا الكتاب (٣).

وممّا يدل على أن المدار إنما هو على سماع المكلف من الشاهدين ، قول

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ : ٢٨٤ ـ ٢٨٥ / ٨٣٢ ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٦٧ ، أبواب النجاسات ، ب ٣٧ ، ح ٤ ، وفيهما : «نظيف» بدل : «طاهر».

(٢) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٣٩ ، باب نوادر كتاب المعيشة ، الفقيه ٣ : ٢١٦ / ١٠٠٢ ، وسائل الشيعة ١٧ : ٨٩ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤ ، ح ٤.

(٣) انظر الدرر ١ : ٦٣ ـ ٧٥.


الصادق عليه‌السلام في بعض أخبار الجبن : «كلّ شي‌ء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان عندك أن فيه ميتة» (١).

وبالجملة ، فإن غاية ما يستفاد من الأخبار وهو اختصاص الفتوى في الأحكام الشرعية والحكم بين الناس ، وكذا ما يتعلق بالحقوق الإلهية بالنائب عنهم عليه‌السلام ، وهو الفقيه الجامع لشرائط النيابة. وجملة من الأخبار ـ كما عرفت ـ قد دلّت على أنه يكفي في ثبوت الحكم عند المكلف فيما نحن فيه سماعه من الشاهدين من غير توقف على حكم الحاكم.

وحينئذ ، فلا يكون ذلك ممّا يختصّ بالحاكم ، فوجوب رجوعه إلى الحاكم فيما نحن فيه يحتاج إلى دليل. ومجرد نيابته عنهم عليهم‌السلام وأنهم لو حكموا بذلك وجب اتّباعهم ، فكذا نائبهم ؛ قضاء لحق النيابة ، قد عرفت ما فيه.

نعم ، ربما يشكل ممّا إذا كان المكلف جاهلا لا يعرف معنى العدالة ليحصل ثبوت الحكم عنده بشهادة العدلين كما يشير إليه كلام السيد السند فيما تقدم ، إلّا إن فيه أن الظاهر أن هذا ليس بعذر شرعي يسوغ له وجوب الرجوع إلى حكم الحاكم لاستناده إلى تقصيره بالبقاء على الجهل وعدم تحصيله العلم الذي استفاضت الأخبار بوجوبه عليه. ونظائره في الأحكام الشرعيّة كثيرة ، والله سبحانه العالم بحقيقة الحال.

__________________

(١) الكافي ٦ : ٣٣٩ / ٢ ، باب الجبن ، وسائل الشيعة ٢٥ : ١١٨ ، أبواب الأطعمة المباحة ، ب ٦١ ، ح ٢.


(٣٢)

درّة نجفيّة

في مراتب المعرفة

قد نقل غير واحد (١) من علمائنا ـ رضوان الله عليهم ـ منهم شيخنا البهائي قدس‌سره في كتاب (الأربعين) عن المحقّق الطوسي ـ عطر الله مرقده ـ أنه قال : (إن مراتب معرفة الله ، مثل مراتب معرفة النار مثلا ، فإن أدناها من سمع أن في الوجود شيئا يعدم كل شي‌ء يلاقيه ، ويظهر أثره في كلّ شي‌ء يحاذيه ، وأي شي‌ء أخذ منه لم ينقص منه شي‌ء. ويسمّى ذلك الموجود (٢) نارا. ونظير هذه المرتبة في معرفة الله معرفة المقلّدين الذين صدّقوا بالدين من غير وقوف على الحجة.

وأعلى منها مرتبة من وصل إليه دخان النار ، وعلم أنه لا بدّ له من مؤثر ، فحكم بذات له أثر ، هو الدخان. ونظير هذه المرتبة في معرفة الله سبحانه وتعالى معرفة أهل النظر والاستدلال الذين حكموا بالبراهين القاطعة على وجود الصانع.

وأعلى منها من أحس بحرارة النار بسبب مجاورتها ، وشاهد الموجودات بنورها وانتفع بذلك الأثر. ونظير هذه [المرتبة] (٣) في معرفة الله معرفة المؤمنين

__________________

(١) عين الحياة ١ : ٨٦ ـ ٨٧ ، الفوائد الطوسية : ٣٠٥ / الفائدة : ٧١ ، مجمع البحرين ٥ : ٩٦ ـ ٩٧ ـ عرف.

(٢) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : الوجود.

(٣) من المصدر ، وفي النسختين : المعرفة.


الخلّص الذين اطمأنّت قلوبهم بالله ، وتيقنوا أن الله نور السماوات والأرض كما وصف به نفسه.

وأعلى منها مرتبة من احترق بالنار بكلّيته وتلاشى فيها بجملته. ونظير هذه المرتبة في معرفة الله تعالى معرفة أهل الشهود والفناء في الله ، وهي المرتبة العليا والدرجة القصوى. رزقنا الله الوصول إليها والوقوف عليها بمنه وكرمه (١)) (٢) انتهى كلامه زيد مقامه.

أقول : ما نقله هؤلاء الفحول عن هذا المحقق المقدّم في المعقول والمنقول (٣) وتلقّوه منه بالتسليم والقبول ، مخدوش عندي ومدخول بمخالفته للمأثور عن أهل الذكر ـ صلوات الله عليهم ـ والمنقول ، الذين هم الاولى بالاتّباع في بديهة العقول. وها أنا اوضّح ذلك على وجه تشتاقه الطباع السليمة ، وتهش إليه القرائح المستقيمة ، فأقول : اعلم أن مراتب معرفة الله سبحانه على ما يستفاد من أخبارهم عليهم‌السلام ثلاث :

فالمرتبة الأولى جبلّية فطرية.

والثانية نظريّة تكليفية.

والثالثة إشراقيّة كشفية.

وكلّ من المرتبتين الأخيرتين يشتمل على مراتب أيضا ، كما سيأتي التنبيه عليه. وتفصيل هذا الإجمال أن يقال :

أما المرتبة الأولى ، فهي الإقرار بوجود الصانع ، وهو من أضرّ (٤) الضروريات اليقينية ، وأجلى الامور الفطرية كما ترادفت به الأدلة العقلية والنقليّة من الآيات

__________________

(١) رزقنا الله .. وكرمه ، من «ح» والمصدر.

(٢) الأربعون حديثا : ٨١ ـ ٨٢ / شرح الحديث : ٢.

(٣) ليست في «ح».

(٤) كذا في النسختين.


القرآنية والسنّة النبويّة على الصادع بها وآله أفضل الصلاة والسلام والتحية : (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١) فلا ضرورة إلى ما دوّنه المتكلمون في (٢) مصنفاتهم ومقالاتهم ؛ فإن كل بالغ عاقل قد ظهر له من آثار القدرة الإلهية ما يدلّ على وجود مؤثر ولو لم ينظر إلّا إلى نفسه من كونه وجد بعد العدم ، وخلق من نطفة من ماء مهين ، ثم لم يزل ينمو ويكبر حتى ربما يبلغ الهرم ، فإنه يجزم بأنه لم يخلق نفسه ولا خلقه أبواه. ألا ترى إلى قوله سبحانه في الإخبار عن الكفار (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) (٣) ، (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * بَلْ إِيّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) (٤) ، وقال سبحانه حاكيا عن عبّاد الأصنام (ما نَعْبُدُهُمْ إِلّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (٥) وقال (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) (٦) ، وهو الفطرة (الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها) (٧) ، والصبغة التي أشار سبحانه إليها بقوله (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) (٨) ، كما استفاضت به الأخبار (٩) في تفسير الآيتين المذكورتين.

وفي الخبر المأثور عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «كل مولود يولد على الفطرة ـ يعني المعرفة ـ وإنما يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه أبواه» (١٠).

__________________

(١) إبراهيم : ١٠.

(٢) في «ح» بعدها : مطوّلاتهم ، ولا ما أكثروا به في.

(٣) لقمان : ٢٥.

(٤) الأنعام : ٤٠ ـ ٤١.

(٥) الزمر : ٣.

(٦) النمل : ١٤.

(٧) الروم : ٣٠.

(٨) البقرة : ١٣٨.

(٩) مجمع البيان ١ : ٢٨١ ، ٨ : ٣٩١ ـ ٣٩٢.

(١٠) عوالي اللآلي ١ : ٣٥ / ١٨ ، وفيه : حتى يكون أبواه يهوّدانه .. ، بدل : وإنما يهودانه .. أبواه.


وفي خبر آخر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا تضربوا أطفالكم على بكائهم فإن بكاءهم أربعة أشهر لا إله إلّا الله» (١) الحديث.

وقد صرّح جملة من علمائنا بهذه المقالة ، ولا سيّما السيد الزاهد العابد المجاهد رضي الدين علي بن طاوس الحسني ـ نوّر الله تعالى مرقده ـ في وصاياه لابنه ؛ فإنه قد أطال في إيضاحها وضرب الأمثلة في انشراحها. وعسى ننقل بعض كلماته في ذيل الكلام في هذا المقام. وكذا شيخنا الصدوق في كتاب (التوحيد) وغيرهما ، ومما لا خلاف فيه بين العلماء الأعلام. وعليه تدلّ أخبار أهل الذكر عليهم الصلاة والسلام [من] أنّ من بلغ عاقلا ولم يقر بالصانع فإنّه يحكم بكفره ، ويجب قتله واستباحة ماله (٢).

ولو كانت المعرفة كما [ادعاها] (٣) نظريّة ، لوجب إمهاله مدة من السنين ، حتى يتعلم علم الكلام ويعرف الاستدلال.

قال بعض المحققين بعد ذكر جملة من الأخبار ما هذا لفظه : (وقد ظهر من هذه الكلمات أن كلّ مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه وينصرانه ويمجّسانه كما ورد في الحديث النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ ولهذا جعل الناس معذورين في تركهم لاكتساب المعرفة بالله ، متروكين على ما فطروا عليه ، مرضيا عنهم بمجرد الإقرار بالقول ، ولم يكلّفوا الاستدلالات العقلية في ذلك. قال نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أمرت أن اقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الا الله» (٤) ، وإنما التعمّق لزيادة البصيرة ، ولطائفة مخصوصة ، والردّ على أهل الضلال ؛ ولهذا أمرت الأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ بقتل من أنكر

__________________

(١) التوحيد : ٣٣١ / ١٠ ، وسائل الشيعة ٢١ : ٤٤٧ ، أبواب أحكام الأولاد ، ب ٦٣ ، ح ١.

(٢) وسائل الشيعة ٢٨ : ٣٢٦ ، أبواب حد المرتدّ ، ب ٢.

(٣) في «ح» : من ادعاه ، وفي «ق» : ادعاه.

(٤) كنز العمّال ١ : ٨٨ / ٣٧٥.


وجود الصانع فجأة بلا استتابة ولا عقاب ، لأنّه ينكر ما هو من ضروريات الامور) (١) انتهى.

ومن الأخبار الواردة في المقام ما رواه شيخنا الصدوق قدس‌سره في كتاب (التوحيد) بسنده عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن قول الله تعالى (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها) (٢) ، قال «التوحيد» (٣).

وروى بهذا المضمون روايات عديدة (٤).

وفي بعضها قال : «التوحيد ، ومحمد رسول الله ، وعلي أمير المؤمنين» (٥).

وفي بعض آخر قال : «فطرهم على التوحيد عند الميثاق على معرفته أنه ربّهم».

قلت : وخاطبوه؟ قال : فطأطأ رأسه ثم قال : «لو لا ذلك لم يعلموا من ربّهم ولا من رازقهم» (٦).

وروى أحمد بن أبي عبد الله البرقي رحمه‌الله في كتاب (المحاسن) بسنده عن زرارة قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله تبارك وتعالى (حُنَفاءَ لِلّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) (٧) ما الحنفيّة؟ قال : «هي الفطرة التي فطر الناس عليها. فطر [الله] الخلق على معرفته» (٨).

وروى فيه عن زرارة أيضا قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله تبارك وتعالى (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها)؟ قال : «فطرهم على معرفة أنه ربّهم ، ولو لا ذلك لم يعلموا إذا سئلوا من ربهم ولا من رازقهم» (٩).

__________________

(١) علم اليقين ١ : ٣١.

(٢) الروم : ٣٠.

(٣) التوحيد : ٣٢٨ ـ ٣٢٩ / ١ ـ ٢.

(٤) التوحيد : ٣٢٩ / ٣ ـ ٦.

(٥) التوحيد : ٣٢٩ / ٧.

(٦) التوحيد : ٣٣٠ / ٨.

(٧) الحجّ : ٣١.

(٨) المحاسن ١ : ٣٧٥ / ٨٢٤.

(٩) المحاسن ١ : ٣٧٥ / ٨٢٥.


وروى فيه بسنده عن زرارة قال (١) : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) (٢) ، قال : «ثبت المعرفة في قلوبهم ونسوا الموقف وسيذكرونه يوما ، ولو لا ذلك لم يدر أحد من خالفه ولا من رازقه» (٣).

وروى فيه عن صفوان قال : قلت لعبد صالح عليه‌السلام : في الناس استطاعة يتعاطون بها المعرفة؟ قال : «لا ، إنما هو تطوّل من الله» (٤) الحديث.

وروى فيه (٥) بسنده إلى عبد الأعلى مولى آل سام عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لم يكلّف الله العباد المعرفة ، ولم يجعل لهم إليها سبيلا» (٦).

وروى فيه بسنده إلى أبي العباس البقباق قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزوجل (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) (٧) ، هل لهم في ذلك صنع؟ قال : «لا» (٨).

وروى فيه بسنده قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الإيمان ، هل للعباد فيه صنع؟ قال : «لا ولا كرامة ، بل هو من الله وفضله» (٩).

وفي كتاب (التوحيد) أيضا بسنده إلى بريد (١٠) بن معاوية العجلي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «ليس لله على خلقه أن يعرفوا قبل أن يعرّفهم ، ولله على الخلق إذا عرّفهم أن يقبلوا» (١١).

وروى الثقة الجليل علي بن إبراهيم القمّي في تفسيره عن علي بن موسى الرضا عليه‌السلام عن أبيه عن جدّه عن أبيه محمد بن علي بن الحسين ـ صلوات الله

__________________

(١) سألت أبا جعفر عن قول الله تبارك وتعالى (فطرة ...) قال ، من «ح».

(٢) الأعراف : ١٧٢.

(٣) المحاسن ١ : ٣٧٦ / ٨٢٦.

(٤) المحاسن ١ : ٤٣٧ ـ ٤٣٨ / ١٠١٤.

(٥) ليست في «ح».

(٦) المحاسن ١ : ٣١٥ / ٦٢٤.

(٧) المجادلة : ٢٢.

(٨) المحاسن ١ : ٣١٥ ـ ٣١٦ / ٦٢٥.

(٩) المحاسن ١ : ٣١٦ / ٦٢٦.

(١٠) في «ح» : يزيد.

(١١) التوحيد : ٤١٢ / ٧.


عليهم ـ في قوله (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها) (١) قال : «هو لا إله إلّا الله محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله علي أمير المؤمنين [ولي الله] ، إلى هاهنا التوحيد» (٢).

إلى غير ذلك من الأخبار المستفيضة ، بل المتواترة معنى (٣) كما لا يخفى على من أحاط بها خبرا.

قال المحدّث الأمين الأسترآبادي قدس‌سره في كتاب (الفوائد المدنية) : (قد تواترت الأخبار عن أهل بيت النبوة متّصلة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن معرفة الله تعالى بعنوان أنه خالق العالم ، وأن له رضا وسخطا ، وأنه لا بدّ (٤) من معلم من جهته فيعلم الخلق ما يرضيه وما يسخطه ، من الامور الفطرية التي وقعت في القلوب بإلهام فطري الهي.

وتوضيح ذلك أنه تعالى ألهمهم تلك القضايا ـ أي خلقها في قلوبهم ـ وألهمهم دلالات واضحة على تلك القضايا. ثم أرسل إليهم الرسول ، وأنزل عليه (الكتاب) ، وأمر فيه ونهى ، وكل من بلغته دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقع في قلبه من الله يقين بصدقه ، فإنه قد تواترت الأخبار عنهم عليه‌السلام بأنه ما من أحد إلّا وقد يرد عليه الحق حتى يصدع قلبه ؛ قبله أو تركه (٥)) (٦) انتهى.

وأمّا ما ورد من الآيات القرآنية الدالة بظاهرها على الاستدلال على هذا المطلب بآثار القدرة الإلهية كقوله عزوجل في غير موضع (وَمِنْ آياتِهِ) (٧) ، وقوله في غير مقام بعد تعداد جمل من المحدثات وآثار الصنع

__________________

(١) الروم : ٣٠.

(٢) تفسير القمي ٢ : ١٥٤.

(٣) انظر : المحاسن ١ : ٣١٤ ـ ٣١٧ ، باب المعرفة ، التوحيد : ٤١٠ ـ ٤١٧ ، ب ٦٤.

(٤) في «ق» بعدها : له ، وما أثبتناه وفق «ح» والمصدر.

(٥) في «ح» وتركبه ، بدل : أو تركه ، وقد شطب عن (قبله) والهمزة من (أو) في «ح».

(٦) الفوائد المدنية : ٢٠٢.

(٧) الروم : ٢٠ ، وغيرها.


(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) (١) ونحو ذلك ، فهو محمول على قصد إزالة الشبهة عمن غطّت على بصر بصيرته غشاوة الشبهات ؛ فإن عروض الشبهة لا يقدح في بداهة البديهي كما صرّح به جملة من العلماء الأعلام وأرباب النقض والإبرام. وخفاء التصديق على بعض الأذهان لخفاء تصوّرات بعض أطرافه غير قادح في ضرورية الضروري ؛ ولهذا إنه يزول بأدنى تنبيه عند طالب الحقّ الفطن النبيه.

ويدل على ذلك أيضا (٢) ما حكاه العلّامة القطب الشيرازي في كتاب (درة التاج) من (أن بعض الملوك كان له شك في الصانع جل شأنه ، فعلم بذلك وزيره ، وكان حكيما عاقلا ، فعمد إلى أرض خربة موات وأجرى إليها أنهارا جارية ، وأحدث فيها عمارات عالية ومجالس فاخرة ، وعمل فيها بساتين رائقة ، وغرس فيها أشجارا ، فلمّا تمّ ما حاوله ، وفرغ ممّا دبره ، أشار إلى الملك ليخرج يوما إلى النزهة ، ثم تعمد المرور به على تلك العمارات والبساتين ، ولم يكن الملك يدري بإحداثه لها ، فسأله عمّن أحدثها وعمرها؟ فقال الوزير : حدثت بنفسها. فغضب الملك ، وقال : تخاطبني بهذا الكلام الذي يخاطب به المجانين ، أيحدث الشي‌ء بنفسه؟ فقال الوزير : إذا جاز حدوث السماوات والأرض والمواليد وغيرها بأنفسها ، فكيف لا يجوز حدوث هذه بأنفسها؟ فتفطن الملك ورجع إلى الجزم بالتوحيد) (٣).

ونقل سيدنا المرتضى علم الهدى رضي‌الله‌عنه في كتاب (الفصول) الذي جمعه من إملاء شيخنا مفيد الطائفة المحقّة ، وهو المشهور بكتاب (العيون والمحاسن) قال : (أخبرني الشيخ ـ أدام الله عزه ـ أيضا قال : دخل أبو الحسن علي بن ميثم رحمه‌الله على

__________________

(١) يونس : ٦٧ ، وغيرها.

(٢) ليست في «ح».

(٣) عنه في زهر الرياض : ٦٥٤ ـ ٦٥٥.


الحسن بن سهل وإلى جانبه ملحد قد عظمه ، والناس حوله ، فقال : لقد رأيت ببابك عجبا. قال : وما هو؟ قال : رأيت سفينة تعبّر الناس من جانب إلى جانب بلا ملّاح ولا ماصر (١)! قال : فقال له صاحبه الملحد ـ وكان بحضرته ـ : إن هذا أصلحك الله لمجنون! قال : قلت : وكيف ذاك؟ قال : خشب جماد لا حيلة له ولا قوة ولا حياة فيه ولا عقل كيف يعبر بالناس؟! قال : فقال أبو الحسن : وأيما أعجب هذا أو هذا الماء الذي يجري على وجه الأرض يمنة ويسرة بلا روح ولا حيلة ولا قوى ، وهذا النبات الذي يخرج من الأرض والمطر الذي ينزل من السماء؟ تزعم أنت أنه لا مدبر لهذا كله ، وتنكر أن تكون سفينة تتحرك بلا مدبر وتعبر بالناس؟ فبهت الملحد) (٢) انتهى.

وفي (تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام) أنه سئل مولانا الصادق عليه‌السلام عن الله ، «فقال للسائل : يا عبد الله ، هل ركبت سفينة قط؟ قال : بلى. قال : فهل كسرت بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟ قال : بلى. قال : فهل تعلق قلبك هناك أن شيئا قادر على أن يخلّصك من ورطتك؟ قال : بلى. قال الصادق عليه‌السلام فذلك الشي‌ء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي ، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث» (٣).

وبما حقّقناه يظهر لك ما في كلام هذا المحقق من الغفلة في المرتبة الاولى من المراتب التي ذكرها حيث ادّعى التقليد فيها ؛ فإنه (٤) لا يلائم البداهة والضرورة

__________________

(١) الماصر : حبل يلقى في الماء ليمنع السفن عن السير حتى يؤدي صاحبها ما عليه من الحق للسلطان. لسان العرب ١٣ : ١٢٢ ـ مصر.

(٢) الفصول المختارة من العيون والمحاسن (ضمن مؤلّفات الشيخ المفيد) ٢ : ٧٦.

(٣) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٢٢ / ٦.

(٤) في «ح» : فإنه فيها.


الوجدانية ؛ إذ التقليد إنما يكون في الامور النظرية. وكذا في المرتبة الثانية المتضمنة للاستدلال بالأثر على المؤثر ، فإنه متى كان وجوده عزوجل بديهيا ضروريا فإنه لا يحتاج إلى استدلال. وتوهم ذلك من الآيات التي أشرنا إليها قد عرفت ما فيه.

ولا بأس بنقل شي‌ء من كلمات السيد رضي الدين بن طاوس عليه الرحمة في المقام وإن طال به زمام الكلام فإنه من أهم المهام ، وخصوصا أن الكتاب المذكور فيه قليل الوجود والدوران في أيدي الإخوان ، فأقول : قال ـ قدس الله تعالى نفسه ، وطيب رمسه ـ في كتاب (كشف المحجة لثمرة المهجة) : (واعلم يا ولدي يا محمد ، وجميع ذريتي وذوي مودتي أنني وجدت كثيرا ممن رأيته وسمعت به من علماء الإسلام قد ضيقوا على الأنام ما كان سهّله الله جل جلاله ، ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله من معرفة مولاهم ومالك دنياهم واخراهم ؛ فإنك تجد كتب الله جل جلاله السالفة و (القرآن) الشريف مملوءة من التنبيهات بالدلالات على معرفة محدث الحادثات ومغيّر المغيرات ومقلّب الأوقات. وترى علوم سيدنا خاتم الأنبياء وعلوم من سلف من الأنبياء ـ صلوات الله عليه وآله وعليهم ـ على سبيل كتب الله جل جلاله المنزلة عليهم في التنبيه اللطيف والتشريف بالتكليف ، ومضى على ذلك الصدر الأول من علماء المسلمين وإلى أواخر من كان ظاهرا من الأئمَّة المعصومين عليهم‌السلام أجمعين ، فإنّك تجد من نفسك بغير إشكال أنك لم تخلق جسدك ولا روحك ولا حياتك ولا عقلك ولا ما خرج عن اختيارك من الآمال والأحوال والآجال ، ولا خلق ذلك أبوك ولا امّك ولا من تقلبت بينهم من الآباء والامهات ، ولأنك تعلم يقينا أنهم كانوا عاجزين عن هذه المقامات. ولو كان لهم قدرة على تلك المهمات ، ما كان قد حيل بينهم وبين المرادات وصاروا من الأموات ، فلم يبق مندوحة أبدا عن واحد منزّه عن إمكان المتجدّدات خلق هذه


الموجودات ، وإنما تحتاج إلى أن تعلم ما هو عليه جل جلاله من الصفات.

أقول : ولأجل شهادة العقول الصريحة والأفهام الصحيحة بالتصديق بالصانع أطبقوا جميعا على فاطر وخالق ، وإنما اختلفوا في ماهيته وحقيقة ذاته وفي صفاته بحسب اختلاف الطريق.

أقول (١) وإني وجدت قد جعل الله جل جلاله في جملتي حكما أدركته عقول العقلاء ، فجعلني من جواهر وأعراض ، وعقل روحاني ، ونفس وروح. ولو سألت بلسان الحال الجواهر التي في صورتي ، هل كان لها نصيب من خلقي وفطرتي؟

لوجدتها تشهد بالعجز والافتقار وأنها لو كانت قادرة على هذا المقدار ما اختلفت عليها الحادثات والتغييرات والتقلبات ، ووجدتها معترفة (٢) أنها ما كان لها حديث في تلك التدبيرات ، وأنها ما تعلم كيفية ما فيها من التركيبات ولا عدد ولا وزن ما جمع فيها من المفردات.

ولو سألت بلسان الحال الأعراض ، لقالت : أنا أضعف من الجواهر ، لأنني فرع عليها فأنا أفقر منها لحاجتي إليها.

ولو سألت بلسان الحال عقلي وروحي ونفسي لقالوا جميعا : أنت تعلم أن الضعف يدخل بعضنا بالنسيان وبعضنا بالموت وبعضنا بالذل والهوان ، وأنّنا تحت غيرنا ممن ينقلنا كما يريد من نقص إلى تمام ، ومن تمام إلى نقصان ، وينقلنا كما يشاء مع تقلبات الأزمان) (٣).

إلى أن قال : (إياك وما عقده المعتزلة ومن تابعهم على طريقتهم البعيدة من اليقين ، فإنني اعتبرتها فوجدتها كثيرة الاحتمالات لشبهات المعترضين إلّا قليلا

__________________

(١) من «ح» والمصدر.

(٢) في «ح» : معرفة.

(٣) كشف المحجة لثمرة المهجة : ٤٨ ـ ٥٠.


منها سلكه أهل الدين. وبيان ذلك أنّك تجد ابن آدم إذا كان له نحو من سبع سنين وإلى قبل بلوغه إلى مقام المكلّفين لو كان جالسا مع جماعة فالتفت إلى ورائه فجعل واحد منهم بين يديه شيئا مأكولا أو غيره من الأشياء ، فإنه إذا رآه سبق إلى تصوّره وإلهامه أن ذلك المأكول أو غيره ما حضر بذاته وإنما أحضره غيره ، ويعلم ذلك على غاية عظيمة من التحقيق والكشف والضياء والجلاء.

ثم إذا التفت مرة اخرى إلى ورائه فأخذ بعض الحاضرين ذلك من بين يديه ، فإنه إذا آنها التفت إليه ولم يره موجودا فإنه لا يشكّ أنه أخذه أحد سواه ، ولو حلف له كل من حضر أنه حضر ذلك الطعام بذاته وذهب بذاته كذب الحالف ورد عليه دعواه.

فهذا يدلك على أن فطرة ابن آدم ملهمة معلّمة من الله تعالى جل جلاله ، بأن ذلك الأثر دل دلالة بديهية على مؤثره بغير ارتياب ، والحادث دل على محدث بدون حكم الألباب).

إلى ان قال : (ومما يدلك يا ولدي ـ جملك الله جل جلاله بإلهامك وإكرامك ، وجعلك من أعيان دار دنياك ودار مقامك ـ أن المعرفة محكوم بحصولها للإنسان دون ما ذكره أصحاب اللسان ؛ لأنهم لو عرفوا من مكلف ولد على الفطرة حر عاقل عقيب بلوغ رشده بأحد أسباب الرشاد أنه قد ارتد بردّة يحكم فيها ظاهر الشرع بأحكام الارتداد ، وأشاروا بقتله ، وقالوا : قد ارتدّ عن فطرة الإسلام ، وتقلدوا إباحة دمه وماله ، وشهدوا أنه كفر بعد إسلام.

فلو لا أن العقول قاضية بالاكتفاء والغناء (١) بإيمان الفطرة دون ما ذكروه من طول الفكرة ، كيف كان يحكم على هذا بالردة وقد عرفوا أنه ما يعلم حقيقة من

__________________

(١) من «ح» : والمصدر.


حقائقهم ولا سلك طريقا من طرائقهم ولا تردّد إلى معلّم من علماء المسلمين ولا فهم شيئا من ألفاظ المتكلمين؟ ولو اعتذر إليهم عن معرفة الدليل بالأعذار التي أوجبوها عليه من النظر الطويل ما قبلوها منه ونقضوا ما كانوا أوجبوه وخرجوا عنه) (١) انتهى كلامه زيد مقامه ، واقتصرنا منه على قليل من كثير.

وأمّا المرتبة الثانية ، فهي معرفته عزوجل بصفات كماله ونعوت جلاله التي ورد بها (القرآن) العزيز والسنّة النبوية على الصادع بها وآله أفضل صلاة وتحية. وهذه المرتبة هي التي تعبّد الله عزوجل بها خلقه ، وكلّفهم العمل عليها ، وردع جملة من العقول القاصرة والأوهام الحائرة عن تجاوزها والارتقاء إلى ما فوقها. وهذه المرتبة كما أشرنا إليها آنفا مشتملة على مراتب متعدّدة متفاوتة بتفاوت أفهام الناس وعقولهم في المعرفة قوة وضعفا ، وحصول الاطمئنان كمّا وكيفا ، وسرعة وبطء ما رزقوه ووفّقوا له. وأعلى مراتب هذه المرتبة ربما قرب من المرتبة الآتية.

وفي الخبر عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «إنّ الله وضع الإيمان على سبعة أسهم : على البرّ والصدق (٢) واليقين والرضا والوفاء والعلم والحلم. ثم قسم ذلك بين الناس ، فمن جعل فيه السبعة الأسهم فهو كامل محتمل ، وقسم لبعض الناس السهم ولبعض السهمين ولبعض الثلاثة حتى انتهوا إلى سبعة».

ثم قال : «لا تحملوا على صاحب السهم سهمين ، وعلى صاحب السهمين ثلاثة فتبهظوهم».

ثم قال : «كذلك حتى [ينتهي] (٣) إلى سبعة» (٤).

وروى في الكتاب المذكور عن عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «يا

__________________

(١) كشف المحجّة لثمرة المهجة : ٥١ ـ ٥٤.

(٢) في «ح» : التقوى.

(٣) من المصدر ، وفي النسختين : انتهى.

(٤) الكافي ٢ : ٤٢ / ١ ، باب درجات الإيمان.


عمر ، لا تحملوا على شيعتنا وارفقوا بهم ، فإنّ الناس لا يحتملون ما تحملون» (١).

وروى في الكتاب المذكور بسنده عن شهاب قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «لو علم الناس كيف خلق الله تبارك وتعالى هذا الخلق لم يلم أحد أحدا».

فقلت : أصلحك الله ، فكيف ذلك؟ فقال : «إنّ الله خلق أجزاء بلغ بها تسعة وأربعين جزءا ، ثم جعل الأجزاء أعشارا فجعل الجزء عشرة أعشار ، ثم قسمه بين الخلق فجعل في رجل عشر جزء وفي آخر (٢) عشري جزء حتى بلغ به جزءا تامّا ، وفي آخر جزءا وعشر جزء وفي آخر جزءا وعشري جزء [وآخر جزءا] وثلاثة أعشار جزء حتى بلغ به جزءين تامّين. ثم بحساب ذلك حتى بلغ بأرفعهم تسعة وأربعين جزءا ، فمن لم يجعل فيه إلّا عشر جزء لم يقدر أن يكون مثل العشرين ، وكذلك صاحب العشرين لا يكون مثل صاحب الثلاثة الأعشار ، وكذلك من تمّ له جزء لا يقدر على أن يكون مثل صاحب الجزءين. ولو علم الناس أن الله عزوجل خلق هذا الخلق على هذا لم يلم أحد أحدا» (٣).

وروى فيه عن عبد العزيز القراطيسي قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : «يا عبد العزيز ، إن الإيمان عشر درجات بمنزلة السلّم يصعد منه مرقاة بعد مرقاة ، فلا يقولن صاحب الاثنين لصاحب الواحد : لست على شي‌ء حتى ينتهي إلى العاشرة. فلا تسقط من هو دونك فيسقطك من هو فوقك. وإذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليك برفق ولا تحملن عليه ما لا يطيق فتكسره ، فإنّ من كسر مؤمنا فعليه جبره» (٤).

وروى هذا الخبر الصدوق رحمه‌الله في (الخصال) بطريقين ، وزاد فيه في الروايتين :

__________________

(١) الكافي ٨ : ٣٣٤ / ٥٢٢.

(٢) من «ح» والمصدر.

(٣) الكافي ٢ : ٤٤ / ١ ، باب آخر من درجات الإيمان.

(٤) الكافي ٢ : ٤٤ ـ ٤٥ / ٢ ، باب آخر من درجات الإيمان.


«وكان المقداد في الثامنة ، وأبو ذر في التاسعة ، وسلمان في العاشرة» (١).

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالة على هذا المضمون.

وتفصيل ذلك وبيانه أن الإيمان إنما يكون بقدر العلم بالله عزوجل الذي هو حياة القلوب ، وهو نور يحصل في القلب ، كما ورد : «ليس العلم بكثرة التعلم ، وإنما هو نور يقذفه الله عزوجل في قلب من يريد هدايته» (٢).

وهذا النور قابل للشدة والضعف ؛ بسبب صقل مزايا القلوب بالطاعات والعبادات والرياضات والمجاهدات ، وإزالة ما تراكم عليها من الصدأ والخبث بقاذورات المعاصي والشهوات وعدم ذلك.

وكلما ازداد صقلها بما ذكرناه ازدادت نورانية القلب ، وبه يزداد صاحبه في المعرفة ، ويرتفع من درجة من تلك الدرجات

إلى ما فوقها حتى يصل إلى ما وفّق له ، وكتب له (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (٣).

وفي الحديث النبوي : «من علم وعمل بما علم ، ورّثه الله علم ما لم يعلم» (٤).

وبذلك يظهر لك ما في كلام المحقق المذكور قدس‌سره في المرتبة الثالثة المخصوصة بالخلّص من المؤمنين ، فإنه بناء على ما قدّمنا تحقيقه من سقوط المرتبتين الاوليين من كلامه يلزم أن يكون ما عدا خلّص المؤمنين ممّن نقص درجة عنهم غير موجود في المراتب المذكورة.

وبالجملة ، فكلامه قدس‌سره وإن تلقّاه جملة من علمائنا ـ رضوان الله عليهم ـ بالقبول ، إلّا إنه لا ينطبق كما عرفت على أخبار آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، التي هي المعتمد في كل معقول ومنقول. وهذه المرتبة الثالثة التي ذكرها قدس‌سره هي من أعلى درجات

__________________

(١) الخصال ٢ : ٤٤٧ ـ ٤٤٨ / ٤٨ ـ ٤٩ ، باب العشرة.

(٢) علم اليقين : ٨.

(٣) العنكبوت : ٦٩.

(٤) حلية الأولياء ١٠ : ١٥ ، وفيه : عمل ، بدل : علم وعمل.


هذه المرتبة التي نحن في الكلام عليها.

ومن الأخبار الواردة في أصحاب هذه المرتبة ما رواه في (الكافي) عن الفتح ابن يزيد قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن أدنى المعرفة فقال : «الإقرار بالله لا إله غيره ، ولا شبه له ولا نظير ، وأنه قديم مثبت موجود غير فقيد ، وأنه ليس كمثله شي‌ء» (١).

وروى فيه بسنده عن علي بن الحسين عليه‌السلام أنه سئل عن التوحيد فقال : «إن الله عزوجل علم أنه يكون في آخر الزمان قوم متعمقون ، فأنزل (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (٢) ، والآيات من سورة الحديد إلى قوله (عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٣)» (٤).

ورواه الصدوق في كتاب (التوحيد) وزاد فيه : «فمن رام ما وراء ذلك فقد هلك» (٥).

وما توهمه المحدّث الكاشاني في (الوافي) من إنزال السورة المذكورة والآيات المزبورة إنما هو لأجل التعمّق ، وأن في الخبر دلالة على مدح التعمق ، فهو من جملة خطرات أوهامه الجارية على مذاق الصوفية التي يميل إليها ، والخبر الآتي أظهر دليل على ذلك. والأخبار مستفيضة بالنهي عن التعمق في الكلام إلّا على ما علم من جهتهم عليهم‌السلام.

وروى في الكتاب المذكور بسنده عن الرضا عليه‌السلام أنه سئل عن التوحيد فقال : «كل من قرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) وآمن بها فقد عرف التوحيد». قلت : كيف يقرؤها؟

قال : «كما يقرأ الناس» (٦).

وروى فيه بسنده إلى أبي عبد الله عليه‌السلام في جواب كتاب من كتب إليه يسأله عن التوحيد : «واعلم يرحمك الله أن المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن من

__________________

(١) الكافي ١ : ٨٦ / ١ ، باب أدنى المعرفة.

(٢) الإخلاص : ١.

(٣) الحديد : ١ ـ ٦.

(٤) الكافي ١ : ٩١ / ٣ ، باب النسبة.

(٥) التوحيد : ٢٨٣ ـ ٢٨٤ / ٢.

(٦) الكافي ١ : ٩١ / ٤ ، باب النسبة.


صفات الله جلّ وعزّ ، فانف عن الله البطلان والتشبيه فلا نفي ولا تشبيه ، هو الله الثابت الموجود تعالى الله عما يصفه الواصفون ، ولا تعدوا القرآن فتضلوا بعد البيان» (١).

وروى فيه عن الكاظم عليه‌السلام : «فصفوه بما وصف به نفسه وكفوا عمّا سوى ذلك» (٢).

وفي خبر آخر أيضا عنه عليه‌السلام : «لا تجاوزوا القرآن» (٣).

وفي خبر آخر أيضا عن أبي محمد عليه‌السلام في جواب كتاب كتبه إليه سهل بأن منهم من يقول : جسم ، ومنهم من يقول : صورة ، فوقع عليه‌السلام بخطه : «سألت عن التوحيد ، هذا عنكم معزول. الله واحد أحد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، وليس بمخلوق ، يخلق تبارك وتعالى ما يشاء من الأجسام وغير ذلك ، وليس بجسم ويصور ما يشاء ، وليس بصورة جل ثناؤه وتقدست أسماؤه أن يكون له شبه هو لا غيره ليس كمثله شي‌ء وهو السميع البصير» (٤).

ومن الأخبار الدالة على ردع العقول عن التطلع إلى ما زاد على ذلك خوفا من الوقوع في شباك المهالك ما رواه السيد الرضي رضي‌الله‌عنه في (نهج البلاغة) عن مسعدة بن صدقة عن الصادق عليه‌السلام ـ ورواه الصدوق في (التوحيد) (٥) أيضا ـ قال : خطب أمير المؤمنين عليه‌السلام بهذه الخطبة على منبر الكوفة ، وذلك أن رجلا أتاه فقال : يا أمير المؤمنين ، صف لنا ربنا لنزداد له حبا ومعرفة. فغضب عليه‌السلام ونادى : «الصلاة جامعة» فاجتمع الناس حتى غصّ المسجد بأهله فصعد المنبر وهو مغضب متغير اللون ، فحمد الله سبحانه وصلى على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال : «الحمد لله» (٦) ـ وساق

__________________

(١) الكافي ١ : ١٠٠ / ١ ، باب النهي عن الصفة ..

(٢) الكافي ١ : ١٠٢ / ٦ ، باب النهي عن الصفة ..

(٣) الكافي ١ : ١٠٢ / ٧ ، باب النهي عن الصفة ..

(٤) الكافي ١ : ١٠٣ / ١٠ ، باب النهي عن الصفة ..

(٥) التوحيد : ٥٥ ـ ٥٦ / ١٣.

(٦) الحمد لله ، ليس في «ح».


الخطبة في الكتابين المذكورين إلى أن قال ـ : قال عليه‌السلام : «فانظر أيها السائل ما دلك القرآن عليه من صفته فائتم به واستضئ بنور هدايته ، وما كلفك الشيطان علمه ممّا ليس في الكتاب عليك فرضه ولا في سنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأيمة الهدى أثره فكل علمه إلى الله سبحانه ؛ فإن ذلك مقتضى حق الله عليك.

واعلم أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم الله عن اقتحام السّدد المضروبة دون الغيوب ، والإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب ، فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما وسمى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عن كنهه رسوخا. فاقتصر على ذلك ولا تقدر عظمة الله سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين» (١).

وأما ما ذكره المحقّق الفيلسوف الشيخ ميثم البحراني قدس‌سره في شرح كتاب (نهج البلاغة) ممّا يدلّ على أن الأمر بالوقوف (٢) على ظاهر الشريعة إنما (٣) هو مخصوص بضعفة العقول ، وإلّا فمتى عرفوا من أحد قوة الاستعداد ألقوا إليه من الأسرار الدالة على منازل السلوك (٤) إلى آخر كلامه ، ففيه :

أولا : أن الذي وصل إلينا من أخبارهم ينافي ذلك وإن اشتهر بين متكلمي أصحابنا القول بما ذكره قدس‌سره ، إلّا إن الأخبار مستفيضة بل متواترة معنى بالردع عن الخوض في الكلام والتكلم في ذاته سبحانه والوقوف على ما جاءت به الشريعة المطهّرة كتابا وسنّة.

ومن أظهر ذلك ما رواه في (التوحيد) عن الرضا عليه‌السلام من أنه كتب إليه بعض الشيعة يسأله أنه قد روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام النهي عن الكلام ، فتأوله بعض

__________________

(١) نهج البلاغة : ١٤٩ ـ ١٥٠ / الخطبة : ٩١.

(٢) من «ح» ، وفي «ق» : الوقوف.

(٣) من «ح» ، وفي «ق» : اما.

(٤) شرح نهج البلاغة ٢ : ٣٣٦ ، اختيار مصباح السالكين : ٢١٩.


مواليك بأن المراد به : من لا يحسن الكلام ، فكتب عليه‌السلام : «من يحسن ومن لا يحسن» (١).

ومن الأخبار الواردة في النهي عمّا ذكرنا ما رواه في (الكافي) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «تكلموا في خلق الله ولا تكلّموا في الله ، فإنّ الكلام في الله لا يزداد صاحبه الّا تحيرا» (٢).

وروى فيه عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «إنّ الله تعالى يقول (أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) (٣) ، فإذا انتهى الكلام إلى الله فأمسكوا» (٤).

والأخبار بهذا المضمون أكثر من أن يأتي عليها قلم البيان في هذا المكان كما لا يخفى على من راجع كتاب (الكافي) (٥) و (التوحيد) (٦) و (المحاسن) (٧) وأمثالها (٨).

وثانيا : أنا نقول : إن من عداهم عليهم‌السلام وعدا من يرونه في زمانهم أهلا للتحمل ، فهو من ضعفة العقول ؛ فالواجب على من عدا ذينك الفردين الوقوف على ساحل هذه الأخبار ، وعدم الخوض في تلك البحار المغرقة بمجرد العقول والأفكار ، وكونهم عليهم‌السلام في زمانهم ربما ألقوا شيئا من تلك الأسرار إلى من يرونه أهلا لتحملها لا يكون سببا في الجرأة على ولوج هذا الباب بمجرد ظن المرء نفسه

__________________

(١) التوحيد : ٤٥٩ / ٢٦ ، وفيه : المحسن وغير المحسن لا يتكلّم فيه.

(٢) الكافي ١ : ٩٢ / ١ ، باب النهي عن الكلام في الكيفية.

(٣) النجم : ٤٢.

(٤) الكافي ١ : ٩٢ / ٢ ، باب النهي عن الكلام في الكيفية.

(٥) الكافي ١ : ٩٢ ـ ٩٤ ، باب النهي عن الكلام في الكيفية.

(٦) التوحيد : ٤٥٤ ـ ٤٦١ ، باب النهي عن الكلام والجدال والمراء في الله عزوجل.

(٧) المحاسن ١ : ٣٧٠ / ٨٠٦ ـ ٨١١ ، ٨١٤ ـ ٨١٦.

(٨) الأمالي (الصدوق) : ٥٠٣ / ٦٩٠.


أنه من أولي تلك العقول والألباب ، والخروج عن جادة هذه الأخبار.

فكم رأينا من ولج في هذا الباب بمجرد ظنه وزعمه أنه من اولئك المذكورين ، فزلت قدمه عن الطريق المستقيمة ، وزاغ بصر بصيرته عن المناهج القويمة ، كما وقع من الجماعة المعروفين بالصوفية (١) وما خرجوا به عن جادة الشريعة المطهرة كما لا يخفى على من أحاط خبرا باصولهم وعقائدهم الخبيثة الباطلة ، كما أوضحناه في رسالتنا التي في الردّ على بعض علمائهم.

وثالثا : أنّه بمقتضى كلام هذا القائل أن من علم بعض تلك الأسرار إنما علمها بتعليمهم وإفادتهم إياه لا بمجرد عقله وفكره ، وهو ممّا لا نزاع فيه ولا إشكال يعتريه ، ويعضده قول الصادق عليه‌السلام لمّا قال له السائل : سمعتك تنهى عن الكلام ، وتقول : «ويل لأهل الكلام» ، فقال : «إنما أعني : ويل لهم إن ذهبوا إلى ما يقولون وتركوا ما أقول» (٢).

وإلى أصحاب الدرجة العليا من هذه المرتبة يشير ما ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) : «من عرف الله وعظمه ، منع فاه من الكلام وبطنه من الطعام وعفى نفسه بالصيام والقيام».

قالوا : بآبائنا وامّهاتنا يا رسول الله ، هؤلاء أولياء الله. قال : «إنّ أولياء الله سكتوا فكان سكوتهم فكرا (٤) ، وتكلموا فكان كلامهم ذكرا (٥) ، ونظروا فكان نظرهم عبرة ، ونطقوا فكان نطقهم حكمة ، ومشوا فكان مشيهم بين الناس بركة. لو لا الآجال التي قد كتبت عليهم لم تقر أرواحهم في أجسادهم خوفا من العذاب وشوقا إلى الثواب» (٦).

__________________

(١) انظر حلية الأولياء ١٠ : ٣٣ ـ ٤١.

(٢) الكافي ١ : ١٧١ / ٤ ، باب الاضطرار إلى الحجّة ، وفيه : قلت ، بدل : أعني ، مع تقديم وتأخير فيه.

(٣) في «ح» بعدها : من قوله.

(٤) في المصدر : ذكرا.

(٥) وتكلموا فكان كلامهم ذكرا ، ليس في المصدر.

(٦) الكافي ٢ : ٢٣٧ / ٢٥ ، باب المؤمن وعلاماته وصفاته.


أقول : وهؤلاء هم أصحاب الرياضات والمجاهدات ، والزهد في الدنيا والعبادات (١) ، وهم المشار إليهم فيما استفاض من الأخبار في وصف الشيعة من أنهم ذبل الشفاه من الظماء ، عمش العيون من البكاء ، خمص البطون من الطوى ، أهل رأفة وعلم وحلم ، إذا جنّهم الليل استقبلوه بحزن (٢). وهؤلاء هم الذين وصفهم أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ في حديث همام المشهور (٣).

وروى في (الكافي) عن إسحاق بن عمار قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صلى بالناس الصبح فنظر إلى شاب في المسجد وهو يخفق ويهوي برأسه مصفرّا لونه قد نحف جسمه وغارت عيناه في رأسه ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كيف أصبحت يا فلان؟ قال : أصبحت يا رسول الله موقنا. فعجب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله ، وقال له : إن لكل يقين حقيقة فما حقيقة يقينك؟ فقال : إن يقيني يا رسول الله ، هو الذي أحزنني وأسهر ليلي وأظمأ هواجري ، فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها حتى كأني أنظر إلى عرش ربي وقد نصب للحساب وحشر الخلائق لذلك وأنا فيهم ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتنعمون وعلى الأرائك متكئون ، وكأني أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذبون مصطرخون. وكأني الآن أسمع زفير النار يدور في مسامعي. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأصحابه : هذا عبد نوّر الله قبله بالإيمان (٤)) (٥) الحديث.

وروى بهذا المضمون أيضا حديثا آخر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله مع حارثة بن مالك بن النعمان الأنصاري (٦).

__________________

(١) أي وأصحاب العبادات.

(٢) انظر الكافي ٢ : ٢٣٣ / ١٠ ، باب المؤمن وعلاماته وصفاته ، بالمعنى.

(٣) انظر الكافي ٢ : ٢٢٦ ـ ٢٣٠ / ١ ، باب المؤمن وعلاماته وصفاته.

(٤) في «ح» : بالايمان قلبه ، بدل : قبله بالإيمان.

(٥) الكافي ٢ : ٥٣ / ٢ ، باب حقيقة الإيمان واليقين.

(٦) الكافي ٢ : ٥٤ / ٣ ، باب حقيقة الإيمان واليقين.


وأمّا المرتبة الثالثة ، فهي معرفته جل شانه بإشراق أنوار تجلياته ولمعان بروق عظمته ومخاطباته على مرايا قلوب صقلت بمصاقل العبادات والمجاهدات والرياضات ، وتجردت عن قيود الذنوب والمعاصي والشهوات ، فسمت إلى عالم المجردات.

وتفصيل هذه الجملة أن الله عزوجل اصطفى في عالم الأزل عبادا قرّبهم من حضرة قدسه ، وأجلسهم على بساط انسه ، وعصمهم من المعاصي والآثام ، وفتح مسامع قلوبهم لما أغلق على غيرهم من الأنام ، وخلق أرواحهم وأجسادهم ممّا لم يخلق منه سائر الأرواح والأجساد ، فجعلهم سادة للعباد ، وأنوارا في البلاد ، وسفرة بينه وبين الخلائق ، وأبوابا ونوّابا يرجع إليهم في تحقيق الحقائق وفك المغالق ، قد اجهدوا أنفسهم في مراضيه ، ووقفوها على القيام بأوامره ونواهيه ، كما أشار إلى ذلك أمير المؤمنين وسيّد الموحدين ـ صلوات الله عليه ـ في جملة من كلماته ، منها ما في (نهج البلاغة) حيث قال : «إنّ من أحبّ عباد الله إليه عبدا أعانه على نفسه فاستشعر الحزن وتجلبب الخوف ، فزهر مصباح الهدى في قلبه».

إلى أن قال : «خلع [سرابيل] الشهوات ، وتخلى من الهموم إلّا همّا واحدا انفرد به فخرج من صفة العمى ومشاركة أهل الهوى ، وصار من مفاتيح أبواب الهدى ومغاليق أبواب الردى. قد أبصر طريقه وسلك سبيله وعرف مناره وقطع غماره ، واستمسك من العرى بأوثقها ، ومن الحبال بأمتنها. فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس قد نصب نفسه لله في أرفع الامور من إصدار كلّ وارد عليه ، وتصيير كل فرع إلى أصله. مصباح ظلمات ، كشّاف عشوات ، مفتاح مبهمات ، دفّاع معضلات ، دليل فلوات ، يقول فيفهم ، ويسكت فيسلم ، قد أخلص لله سبحانه فاستخلصه ، فهو من معادن دينه وأوتاد أرضه ، قد ألزم نفسه العدل فكان أوّل عدله نفي الهوى عن نفسه ، يصف الحق ويعمل به. ولا يدع للخير غاية إلّا أمّها ، ولا مظنّة إلّا قصدها ، قد أمكن الكتاب من زمامه فهو قائدة


وإمامه ، يحل حيث حل ثقله ، وينزل حيث كان منزله» (١).

وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ في كلام آخر أيضا : «قد أحيا قلبه وأمات نفسه ، حتى دقّ جليله ، ولطف غليظه ، وبرق له لامع كثير البرق ، فأبان له الطريق وسلك به السبيل ، وتدافعته الأبواب إلى باب السلامة ودار الإقامة ، وثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه في قرار الأمن والراحة بما استعمل قلبه وأرضى ربه» (٢).

وقال عليه‌السلام في حديث كميل : «الناس ثلاثة : عالم رباني ، ومتعلم على سبيل النجاة ، وهمج رعاع».

إلى أن قال : «اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة ، إما ظاهرا مشهورا أو خائفا مغمورا ، لئلا تبطل حجج الله وبيناته ، وكم ذا وأين أولئك؟

اولئك (٣) والله الأقلون عددا الأعظمون قدرا ، بهم يحفظ لله حججه وبيّناته حتى يودعوها نظراءهم ويوزعوها في قلوب أشباههم ، هجم به العلم على حقيقة البصيرة ، وباشروا روح اليقين ، واستلانوا ما استوعره المترفون ، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون ، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالملأ الأعلى .. أولئك خلفاء الله في أرضه ، والدعاة إلى دينه. آه آه شوقا إلى رؤيتهم» (٤).

إلى غير ذلك من كلامه ممّا هو هذا القبيل (٥).

ولا يخفى عليك أن أصحاب المرتبة الثانية إنما منعوا من التطلّع إلى هذه المرتبة من حيث ابتلاؤهم بمجاهدة تلك النفوس المجبولة على كل ضرر وبوس :

__________________

(١) نهج البلاغة : ١٣٨ ـ ١٤٠ / الخطبة : ٨٧.

(٢) نهج البلاغة : ٤٥٧ / الكلام : ٢٢٠.

(٣) ليست في «ح».

(٤) نهج البلاغة : ٦٨٤ ، ٦٨٦ ـ ٦٨٧ / الحكمة : ١٤٧.

(٥) الكافي ٢ : ٤٥٦ / ١٣ ، باب محاسبة العمل.


(وَأَمّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) (١) ، وابتلاؤهم بمجاهدة الشيطان الغرور الذي قد استوطن منهم الصدور ، وجرى مجرى الدم في أبدانهم ، فلا انفكاك لهم منه في ورود ولا صدور. وقصارى أمرهم ـ إن ساعد التوفيق الرباني ـ الخلاص من مكائد ذينك العدوين ، والنجاة من شباكهما المنصوبة رأي العين ، فلم يبلغوا أهلية هذه المرتبة المذكورة.

وهي ـ كما عرفت ـ لا تحصل بمجرد الكدح والطلب ، ولا الوراثة من الجد والأب ؛ فإنها قميص لم يفصّل على كل ذي قد ، ولا ينال بشرف الأب والجد ، بل العمدة في حصولها هو ما قدّمناه في صدر الكلام ؛ فلذا ردعوا عن ذلك ؛ لطفا بهم ، وعناية لهم ، وخوفا عليهم من الوقوع في مهاوي الضلال الموجب لمزيد البعد من حضرة ذي الجلال.

وأما من خلص من تلك القيود ، وقام حق القيام بوظائف الملك المعبود ـ وقيل ما هم ـ فهو ممّن فاز من (٢) ذلك بالمعلّى والرقيب وحاز النصيب الأوفر من وصل الحبيب (٣) ؛ ولهذا أن جملة ممن داخله العجب بنفسه والاغترار ، ولم يلتفت إلى ما ورد من المنع في هذه الأخبار ، وولج بزعمه في ذلك الباب ، وخاض في ذلك البحر العباب (٤) وقع في لجج المضيق ، وصار فيه غريقا وأيّ غريق. وهم مشايخ الصوفية الذين يكادون بدعاويهم يزاحمون مقام الربوبية ؛ فما بين من وقع في القول بالحلول أو الاتحاد ، أو وحدة الوجود الموجب جميعه للزندقة والإلحاد ، وأمثال ذلك من المقالات الظاهرة الفساد.

وبالجملة ، فإن هذه المرتبة إنما هي لمن خصهم الله عزوجل من بين عباده في

__________________

(١) النازعات : ٤٠ ـ ٤١.

(٢) ممّن فاز من ، من «ح» وفي «ق» من فاز.

(٣) من «ح».

(٤) في «ح» : الغيّاب.


عالم الأزل بالانتخاب والاصطفاء ؛ لما علمه منهم من الصدق في القيام بواجب حقه والوفاء. وفي هذه المرتبة أيضا درجات متفاوتة (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) (١).

وإلى هذه المرتبة يشير أيضا ما ورد عن أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ حيث سأله سائل : هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين؟ فقال : «ويحك ، ما كنت أعبد ربا لم أره». قال كيف رأيته؟ قال : «ويحك ، لا تدركه العيون بمشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان» (٢).

ومثل ذلك أيضا روى عن الباقر عليه‌السلام (٣).

وهذه الرؤية عبارة عن الانكشاف التام والظهور ، وهذا مخصوص ـ كما ذكرنا ـ بالأنبياء وبهم عليهم‌السلام ، المخلوقين من أنوار العظمة الإلهية لا يزاحمهم فيها مزاحم من البريّة. ولهذا أن شيخنا المجلسى ـ عطّر الله مرقده ـ في كتاب (عين الحياة) في شرح قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي ذرّ رضي‌الله‌عنه : «يا أبا ذر ، اعبد الله كأنّك تراه ، فإن كنت لا تراه فإنه يراك» (٤) ، قال بعد أن ذكر للرؤية معنيين : أحدهما : الرؤية البصرية ، والثاني : الرؤية بمعنى الانكشاف التام ـ ما صورته : ولمّا كان هذا القسم من الانكشاف مخصوصا بالأنبياء والأئمَّة عليهم‌السلام ، وأنه غير متصور من أبي ذر ولا من مثله قال له : اعبد الله كأنك وصلت إلى هذه المرتبة. كما أن الرؤية في تتمة الكلام بهذا المعنى ، فإن رؤية الله سبحانه لعبده ليس بالعين فإنه تنزّه عن الأعضاء والجوارح (٥). انتهى.

ثم إنّه ينبغي أن يعلم [أن] هذه الرؤية القلبية التي ذكرها الإمامان عليهما‌السلام لا يجوز

__________________

(١) البقرة : ٢٥٣.

(٢) الكافي ١ : ١٣٨ / ١ ، باب جوامع التوحيد.

(٣) الكافي ١ : ٩٧ / ٥ ، باب في إبطال الرؤية.

(٤) مكارم الأخلاق ٢ : ٣٦٣ / ٢٦٦١.

(٥) انظر عين الحياة ١ : ٣٢ ، ٣٣ ـ ٣٤ ، بالمعنى.


تعلّقها بذاته جل شأنه ؛ لأن الأخبار كما استفاضت بنفي الرؤية البصرية استفاضت أيضا بنفي إدراكه بالعقول وإحاطة الأوهام به ، ففي الخبر : «إنّ الله احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار ، وإنّ الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم» (١).

وفي (الكافي) بسنده عن أبي هاشم الجعفري عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : سألته عن الله هل يوصف؟ فقال : «أما تقرأ القرآن؟». قلت : بلى. قال : «أما تقرأ قوله تعالى (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) (٢)؟». قلت : بلى. قال : «فتعرفون الأبصار؟». قلت : بلى قال : «ما هي؟» قلت : أبصار العيون. فقال : «إنّ أوهام القلوب أكثر من أبصار العيون ، فهو لا تدركه الأوهام وهو يدرك الأوهام» (٣).

وفي خبر آخر عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قوله (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) قال : «إحاطة الوهم به ، ألا ترى إلى قوله (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) (٤)؟ ليس يعني بصر العيون إنما عنى إحاطة الوهم» (٥).

وفي خبر آخر عن أبي هاشم الجعفري عن الباقر عليه‌السلام في الآية المذكورة قال : «يا أبا هاشم ، أوهام القلوب أدقّ من أبصار العيون ، أنت تدرك بوهمك السند والهند والبلدان التي لم تدخلها ولا تدركها ببصرك ، وأوهام القلوب لا تدركه ، فكيف أبصار العيون؟» (٦).

ومفاد هذه الأخبار الثلاثة وما في معناها : أن المراد بالأبصار التي لا تدركه

__________________

(١) الأربعون حديثا (البهائي) : ٨٠ / شرح الحديث : ٢ ، علم اليقين ١ : ٣٩ ، بحار الأنوار ٦٦ : ٢٩٢.

(٢) الأنعام : ١٠٣.

(٣) الكافي ١ : ٩٨ / ١٠ ، باب في إبطال الرؤية.

(٤) الأنعام : ١٠٤.

(٥) الكافي ١ : ٩٨ / ٩ ، باب في إبطال الرؤية.

(٦) الكافي ١ : ٩٩ / ١١ ، باب في إبطال الرؤية.


سبحانه أبصار القلوب. وحينئذ ، فالرؤية القلبية التي ذكراها عليهما‌السلام إنما هي عبارة عن انكشاف أنوار العظمة الإلهية وظهور لوامع البروق السبحانية على مرايا قلبيهما ، الموجب لليقين التام الذي لا ينقص عن المشاهدة بالبصر ، كما يشير إليه قول أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ : «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا» (١).

وروى في (الكافي) عن يعقوب بن إسحاق عن أبي محمد عليه‌السلام قال : سألته : هل رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ربّه؟ فوقّع عليه‌السلام : «إنّ الله تعالى أرى رسوله بقلبه من نور عظمته ما أحب» (٢).

وفي خبر آخر رواه في كتاب (الاحتجاج) عن الكاظم عليه‌السلام عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث يذكر فيه مناقب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والإسراء به ، قال فيه : «وعرج به في ملكوت السماوات مسيرة خمسين ألف عام في أقل من ثلث ليلة ، حتى انتهى إلى ساق العرش ، فدنا بالعلم فتدلّى له من الجنة رفرف خضر ، وغشي النور بصره فرأى عظمة ربه عزوجل بفؤاده ولم يرها بعينه (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى * فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) (٣)» (٤) الحديث.

وإلى هذه المرتبة أيضا الاشارة بما ورد عن الصادق عليه‌السلام من الحديث القدسي حيث قال سبحانه : «وما يتقرب إليّ عبدي بشي‌ء أحبّ ممّا افترضت عليه ، وإنّه ليتقرّب إليّ بالنوافل حتى احبّه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ولسانه الذي ينطق به ، ويده التي يبطش بها ، إن دعاني أجبته ، وإن سألني أعطيته» (٥).

__________________

(١) غرر الحكم ودرر الكلم : ٥٦٦ / ١.

(٢) الكافي ١ : ٩٥ / ١ ، باب في إبطال الرؤية.

(٣) النجم : ٩ ـ ١٠.

(٤) الاحتجاج ١ : ٥٢١ ـ ٥٢٢ / ١٢٧.

(٥) الجواهر السنية في الأحاديث القدسيّة : ٩٩.


ولا ريب أنه لم يعلم حبه عزوجل لأحد ، ولا حبّ أحد له بما يبلغ هذه المرتبة غير أنبيائه عليهم‌السلام وأوصيائهم الذين خلقوا من أنوار (١) عزته ، وعصموا من مباشرة معصيته. ولفظه وإن كان عاما إلّا إنه يجب تخصيصه بهم لما ذكرنا.

وربما تمسك بهذا الخبر الصوفية القائلون بوحدة الوجود كما هو دأبهم من التمسك فيما يذهبون إليه بالآيات والأخبار المتشابهة (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) (٢). وسيأتي إن شاء الله تعالى في آخر البحث (٣) نبذة من الكلام معهم في ذلك.

ونحن قد قدمنا الكلام في معنى الخبر المذكور في بعض درر الكتاب (٤) ، ونقلنا ما ذكره في بيان معناه جملة من العلماء الأنجاب بما يزيل عن صحيح معناه غشاوة الشكّ والارتياب.

ولا يخفى عليك أن أصحاب هذه المرتبة ـ وهم الذين ذكرناهم من الأنبياء وخواص الأوصياء ـ صلوات الله عليهم ـ هم أهل الكشف والفناء في الله كما يشير إليه قول أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث كميل في وصف أوصيائه من أنبيائه ـ صلوات الله عليه وعليهم ـ : «صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالملأ الأعلى ، وهم الذين عندهم علم ما كان وما يكون ، وهم الذين كشف لهم عن علم الغيوب ، وأظهر لديهم كل مكنون ومحجوب» (٥).

ويؤيد ذلك خبر أبي الدرداء في الغشية التي كانت تعتري (٦) مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فيصير كالخشبة الملقاة (٧) ، وما اشتهر من أنه كانت تنزع السهام

__________________

(١) في «ح» : أطوار.

(٢) آل عمران : ٧.

(٣) من «ح».

(٤) انظر الدرر ١ : ٣٤٥ ـ ٣٦٢ / الدرّة : ١٤.

(٥) نهج البلاغة : ٦٨٧ / الحكمة : ١٤٧.

(٦) من «ح» ، وفي «ق» : تصري.

(٧) الأمالي (الصدوق) : ١٣٧ / ١٣٦.


العصيّة (١) الخروج منه في وقت اشتغاله بالصلاة فلا يحس بها ولا يتألم لأجلها (٢).

وما ورد عن الصادق عليه‌السلام إنه كان يصلي في بعض الأيام فخر مغشيا عليه في أثناء الصلاة فسئل بعدها عن سبب غشيته؟ فقال : «ما زلت اردد هذه الآية ـ يعني : (إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ) (٣) ـ حتى سمعتها من قائلها» (٤).

إذا عرفت ذلك فاعلم أن ما ذكره المحقق المذكور في المرتبة الرابعة من تشبيه صاحبها بمن احترق بالنار بكليته وتلاشى فيها بجملته ؛ إمّا أن يحمل على ما تدلّ عليه حقائق هذه الألفاظ ، ولا ريب في فساده وعدم استقامته بالكلية ؛ فإنه لا يخفى على كل عاقل أن المحترق بالنار والمتلاشي فيها يضمحلّ من الوجود بالكلّيّة ويصير عدما محضا ، والضرورية قاضية بكون العارف بالله على الوجه المذكور لا يضمحل كما يضمحل المحترق بالنار. ولا يعقل أيضا أن يوصف بذلك مع كونه موجودا فيلزم أن يكون موجودا معدوما ، ومتلاشيا متماسكا ، وباقيا محترقا. وليت شعري أي نبيّ من الأنبياء احترق بنور المعرفة وتلاشى حتى لم يبق منه شي‌ء بالكلية؟

وإن أريد بهذه الألفاظ في المشبّه به الحقيقة وفي المشبه المجاز ، لزم فساد التشبيه ؛ لعدم الاتفاق في وجه الشبه ، ولا يبعد أن يحمل كلامه على ما صرّح به جملة من علماء الصوفيّة ، ومنهم الملّا محسن الكاشي في كلماته ، حيث قال في معنى الفناء في الله (٥) ، والبقاء بالله تعالى : (قال أهل المعرفة : المراد بفناء العبد ليس

__________________

(١) العصية ، من «ح» ، وفي «ق» : الصعبة.

(٢) الأربعون حديثا (الماحوزي) : ١٨٦ / شرح الحديث : ١٦.

(٣) الفاتحة : ٥.

(٤) كنز الدقائق ١ : ٥٥.

(٥) وعن كتاب (لوامع الأنوار في شرح عيون الأخبار) للسيد نعمة الله الجزائري رحمه‌الله أنه قال في شرح لفظ (الله) من قول الماتن رحمه‌الله : (الحمد لله) ما صورته : (الله : اسم للموجود الحق الجامع الصفات الإلهية ، المتفرّد بالوجود الحقيقي ، فإن كل موجود سواه غير مستحق للوجود بذاته ،


فناء ذاته ، بل المراد : فناء الجهة البشرية التي له في جهة (١) ربوبية الحق ، فإن كل عبد له جهة من الحضرة الإلهية ، (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها) (٢). وهذا الفناء لا يحصل إلّا بالتوجه التامّ إلى جانب الحقّ المطلق حتى تغلب الجهة الحقيّة على الجهة الخلقيّة ، كقطعة الفحم المجاورة للنار فإنها بسبب المجاورة والاستعداد لقبول النارية تشتعل قليلا قليلا إلى أن تصير نارا ، فيحصل منها ما يحصل من الاحتراق والإنضاج والإضاءة وغيرها ، وقبل الاشتعال كانت باردة كدرة.

وذلك التوجه لا يمكن إلّا بالاجتناب عما يضادّها ويناقضها ، وهو التقوى ممّا عداها ؛ فالمحبة هي المركب ؛ والمراد هو التقوى) (٣) انتهى.

ويؤكد ما ذكرناه ما وقفت عليه في رسالة (أوصاف الأشراف) لهذا المحقق أيضا ، حيث ذكر فيها مراتب المعرفة أيضا على نحو أبسط من هذه العبارة التي نقلها عنه شيخنا البهائي وغيره ، وفي آخرها ما ترجمته ـ حيث إن الرسالة كتبها بالفارسيّة ـ : (ومن جملة هؤلاء جماعة معرفتهم من باب المعاينة ، وهؤلاء المسمّون بأهل الحضور والانس والانبساط ، وهم الخواص ، مثل الإنسان

__________________

وإنما استفاد الوجود منه فهو من حيث ذاته هالك ، ومن حيث جملة ماهيته موجود ، وكل موجود إلّا وجهه فتحقيقه أن وجود الموجودات من جملة الحيثيات المحتاجة إلى وجوده عزّ شأنه ، فهي من حيث ذاتها عدم محض وبهذا فسّر جماعة من المحققين معنى وحدة الموجود وأنه لا موجود إلّا الله كما فسّره الصوفيّة تارة بحلول ذاته سبحانه وتعالى في جميع الموجودات أو في الصور الحسان منا على اختلاف القولين ، واخرى ما فسّر بعضهم من معنى وحدة الوجود فقال : شمول الأصل الواحد إلى أمثلة مختلفة لمعان مقصودة لا تحصل إلّا بها ، يعني أنه سبحانه بمنزلة المصدر الموجود في ضمن المشتقات ، فهي من نسبة إنيّته ومن العوارض والمشخّصات. والأشبه كما قاله الغزالي : إن لفظ (الله) جار في الدلالة على هذا المعنى مجرى أسماء الأعلام. فكل ما ذكر في اشتقاقه وتصرّفه تعسف وتكلف). منه رحمه‌الله ، (هامش «ح»).

(١) من «ح».

(٢) إشارة إلى الآية : ١٤٨ ، من سورة البقرة.

(٣) كلمات مكنونة من علوم أهل الحكمة : ١٢٢.


المحترق بالنار ولم يبق منه شي‌ء) انتهى.

أقول : فيه :

أولا : أن ظاهر هذا الكلام وما يتبادر منه إلى الأفهام كفر محض ، فإن اتّصاف العبد بصفات الربوبية ـ كاتّصاف الفحم بصفات النار المعدودة حتى يصير نارا ، ويترتب عليه ما يترتب على النار من الإحراق والإنضاج والإضاءة ونحوها ـ عين القول بوحدة الوجود أو الاتحاد ، كما نقله غير واحد من علمائنا عن الصوفية.

قال في كتاب (حديقة الشيعة) ما هذه ترجمته ـ حيث إن الكتاب مكتوب بالفارسية ـ : (الثاني : الاتحادية ، وهم القائلون بأن الله تعالى متّحد معنا وكذلك يتحد بجميع العارفين. والعقل قاض ببطلان هذا المذهب ، وهذه الفرقة يشبهون الله تعالى بالنار وأنفسهم بالحديد والفحم ، فكما أنهما بسبب ملاقاة النار ومصاحبتها يصيران نارا فالعارف أيضا بواسطة قربه إلى الله تعالى يصير إلها.

وهذا الكلام كفر محض وزندقة ، وكل ذي عقل يعلم أن الممكن إذا انقلبت طبيعته إلى طبيعته ممكن آخر أو اتّصف بصفة لم يلزم من ذلك صيرورة الواجب ممكنا أو الممكن واجبا. وكذلك كل ذي لب يعلم أن قياس الممكنات بالواجب والواجب بالممكنات غير معقول) إلى آخر كلامه.

وثانيا : أنا لا نسلم أن ما ذكره من الإحراق والإضاءة والإنضاج ونحوها مترتب على الفحم المذكور ، بل إنما هو مترتب على النار التي في الفحم ، وقوله : (إن الفحم يصير نارا) ممنوع ، بل إنما يصير ذا نار.

وبيان ذلك أنه لا يخفى أن النار الموجودة في هذه النشأة لا وجود لها في الخارج إلّا مع الاشتعال في جسم من الأجسام من فحم أو حديد أو حطب أو


فتيلة سراج أو نحو ذلك. وحينئذ ، فجميع الأحكام المترتبة على النار إنما تنسب إليها لا إلى ما اشتعلت فيه من تلك الأجسام التي قامت بها ووجدت فيها.

ولو فرض نسبة شي‌ء من تلك الأحكام إلى شي‌ء من تلك الأجسام فإنما هو لمجاز المجاورة والقيام. ألا ترى أنه متى اطفئت النار من الفحم بصبّ الماء عليه وكذا على الحديد ونحوه فإنه يعود إلى ما كان عليه أولا؟ ومجرد كون الفحم قد صار بسبب المجاورة على حالة تضاد الحالة الاولى ممّا كان عليه من البرودة والكدورة ونحوهما لا يوجب ما ذكره ؛ فإن المطبوخ بالنار بعد النضج يكون كذلك ولا يلزم منه ما ذكره.

غاية الأمر أن الفحم بسبب اشتعال النار فيه واستيلائها عليه قد تلون بلونها ، والمطبوخ ليس كذلك ، وإلّا فكل منهما إنما خرج عما كان عليه أولا بعمل الحرارة النارية فيه.

وثالثا : ذكره الآية القرآنية واقتباسه لها دليلا على ما ادعاه ، فإنه من قبيل تفسير (القرآن) بالرأي [الذي] (١) منعت منه النصوص الإمامية والأخبار المعصومية (٢) وإن كان ذلك قد صار طريقا للصوفية.

وهذا القائل قد صرّح في مقدمات تفسيره (الصافي) : بأن معنى الأخبار المانعة من تفسير (القرآن) بالرأي هو (أن يكون للمفسر في الشي‌ء رأي وإليه ميل من طبعه وهواه ، فيتأول (القرآن) على وفق رأيه وهواه ليحتج على تصحيح غرضه ومدعاه) (٣).

ولا يخفى أن هذه الآية وإن لم يقف في تفسيرها على نص ، إلّا إن الذي صرّح

__________________

(١) في النسختين : التي.

(٢) تفسير العياشي ١ : ٢٩ ـ ٣٠ / ٢ ـ ٦.

(٣) التفسير الصافي ١ : ٣٦.


به هذا القائل في تفسيره المشار إليه في بيان معناها المراد منها هو ما صورته : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ) (١) : ولكل قوم قبلة وملة وشرعة ومنهاج يتوجهون إليها (هُوَ مُوَلِّيها) : الله مولّيها إياهم) (٢) ، ولم يذكر في تفسيره هذا المعنى الذي ذكره هنا ، فيكون إنما حمله عليه هنا تصحيح غرضه وميل هواه إلى ذلك ، حسبما حمل عليه تلك الأخبار وكفى به عارا وأيّ عار.

ولو قيل : إنّه إنما ذكر ذلك نقلا عن غيره.

قلنا : نسبة ذلك القائل إلى كونه [من] أهل المعرفة يؤذن بجموده على ذلك واختياره له وقوله بمضمونه. وهذا من جملة ما أشرنا إليه في اغترارهم بأنفسهم وولوجهم في ذلك الباب الذي قد أسدلت الأخبار المعصوميّة دونه الستر والحجاب.

والتحقيق في بيان معنى الفناء في الله سبحانه هو أن أهله لا يلاحظون في الوجود سواه سبحانه وتعالى ولا يرون إلّا ذاته ، وجميع الأعيان (٣) تلاشت في أنظارهم ، فيستدلون على الخلق بالله حيث إنه أظهر الموجودات لا بالخلق عليه سبحانه. ومن هنا قال سيّد الشهداء وإمام السعداء ـ صلوات الله عليه ـ في دعاء عرفة : «كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك؟! متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟! ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟ عميت عين لا تراك ولا تزال عليها رقيبا ، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيبا».

وقال عليه‌السلام (٤) : «تعرفت لكل شي‌ء فما جهلك شي‌ء».

__________________

(١) البقرة : ١٤٨.

(٢) التفسير الصافي ١ : ٢٠٠.

(٣) في «ح» بعدها : قد.

(٤) في «ح» بعدها : أيضا.


وقال : «تعرفت إليّ في كل شي‌ء ، فرأيتك ظاهرا في كلّ شي‌ء ، فأنت الظاهر لكلّ شي‌ء» (١).

ويوضح ذلك بأتم إيضاح ما ذكره بعض المحقّقين في هذا المقام حيث قال : (اعلم أن أظهر الموجودات وأجلاها هو الله عزوجل ، فكان هذا يقتضي أن تكون معرفته أول المعارف وأسبقها إلى الأفهام وأسهلها على العقول ، وترى الأمر بالضد من ذلك ، فلا بد من بيان السبب فيه) (١).

ثم أطال الكلام في بيان السبب المذكور ، إلى أن قال : (فهذا هو السبب في قصور الأفهام ، وأما من قويت (٢) بصيرته ولم تضعف منته فإنه في حال أمره لا يرى إلّا الله ، وأفعاله أثرا من آثار قدرته فهي تابعة له ، فلا وجود لها بالحقيقة وإنما الوجود للواحد الحق الذي به وجود الأفعال كلّها.

ومن هذا حاله فلا ينظر في شي‌ء من الأفعال إلّا ويرى فيها الفاعل ، ويذهل عن الفعل من حيث هو سماء وأرض وحيوان وشجر ، بل ينظر فيه من حيث إنه

__________________

(١) الإقبال بالأعمال الحسنة : ٣٤٩ ـ ٣٥٠. قال في (بحار الأنوار) : (أقول : قد أورد الكفعميّ رحمه‌الله أيضا هذا الدعاء في (البلد الأمين) وابن طاوس في (مصباح الزائر) .. ولكن ليس في آخره فيهما بقدر ورق تقريبا ، وهو من قوله : «إلهي أنا الفقير في غناي» (١) ، إلى آخر هذا الدعاء. وكذا لم يوجد هذه الورقة في بعض النسخ العتيقة من (الإقبال) أيضا (٢).

وعبارات هذه الورقة لا تلائم سياق أدعية السادة المعصومين أيضا ، وإنما هي على وفق مذاق الصوفية ؛ ولذلك قد مال بعض الأفاضل إلى كون هذه الورقة من مزيدات مشايخ الصوفية ومن إلحاقاته وإدخالاته) (٣).

(٢) إحياء علوم الدين ٤ : ٣٢٠ ، وفيه : وكان ، بدل : فكان.

(٣) من «ح» ، وفي «ق» : قربت.

__________________

١ ـ يذكر أنّ العبارة التي استشهد بها المصنّف رحمه‌الله هي من ضمن هذا المقدار من الدعاء.

٢ ـ ويذكر أيضا أنّ نسخة الإقبال الكومبيوترية التي بين أيدينا لم تذكر هذا المقدار من الدعاء.

٣ ـ بحار الأنوار ٩٥ : ٢٢٧.


صنع ، فلا يكون نظره مجاوزا له إلى غيره ، كمن نظر في شعر إنسان أو خطّه أو تصنيفه ورأى فيه الشاعر والمصنف ورأى آثاره من حيث هي آثاره لا من حيث إنه حبر وعفص (١) وزاج (٢) مرقوم على بياض ، فلا يكون له نظر إلى غير المصنف.

فكل العوالم تصنيف الله تعالى ، فمن نظر إليها من حيث إنها فعل الله وعرفها من حيث إنها فعل الله وأحبها من حيث إنها فعل الله ، لم يكن ناظرا إلّا في الله ولا عارفا إلّا بالله ، ولا محبّا إلّا لله ، وكان هو الموحّد الحق الذي لا يرى إلّا الله ، بل لا ينظر إلى نفسه من حيث نفسه بل من حيث هو عبد الله.

فهذا هو الذي يقال فيه : فني في التوحيد ، فإنه فني من نفسه ، وإليه الإشارة بقول من قال : (كنا بنا ففنينا عنا فبقينا بلا نحن). فهذه معلومة عند ذوي البصائر ، أشكلت لضعف الأفهام عن دركها ، وقصور قدوة العلماء عن إيضاحها أو بيانها بعبارة مفهمة موصولة للغرض إلى الأفهام ، أو لاشتغالهم بأنفسهم ، واعتقادهم أن بيان ذلك لغيرهم ممّا لا يعنيهم.

فهذا هو السبب في قصور الأفهام عن معرفة الله تعالى ، وانضم إليه أن المدركات كلّها التي هي شاهدة على الله إنما يدركها الإنسان في الصبي عند فقد العقل قليلا قليلا ، وهو مستغرق الهمّ في شهواته ، وقد أنس بمدركاته (٣) ومحسوساته وألفها ، فسقط وقعها من قلبه بطول الانس ، ولذلك إذا رأى على سبيل الفجأة حيوانا غريبا أو فعلا من أفعاله تعالى خارقا للعادة عجيبا انطلق لسانه بالمعرفة طبعا ، فقال : سبحان الله ، وهو يرى طول النهار نفسه وأعضاءه

__________________

(١) العفص : الذي يتخذ منه الحبر ، مولّد. مختار الصحاح : ٢٤٢ ـ عفص.

(٢) الزاج : الشبّ اليماني ، وهو من أخلاط الحبر. لسان العرب ٦ : ١٠٩ ـ زوج.

(٣) في «ح» بعدها : الإنسان.


وسائر الحيوانات المألوفة ، وكلّها شواهد قاطعة ، ولا يحس بشهادتها ؛ لطول الانس بها.

ولو فرض أكمه بلغ عاقلا ثم انقشعت الغشاوة عن عينه فامتدّ بصره إلى السماء والأرض والأشجار والنبات والحيوان دفعة واحدة على سبيل الفجأة ، [لخفيف] (١) على عقله (٢) أن ينبهر لعظم تعجبه من شهادة هذه العجائب على خالقها. فهذا وأمثاله من الأسباب مع الانهماك في الشهوات [هو الذي سدّ] (٣) على الخلق سبل الاستضاءة بأنوار المعرفة أو السياحة في بحارها الواسعة) (٤) انتهى.

وهو تحقيق رشيق لا ما ذكره من حاد عن سواء الطريق حتى وقع في لجج المضيق.

ورابعا : أن ما ذكره المحقّق المذكور في الرسالة المذكورة من أن رؤية أولئك الجماعة الذين سمّاهم بأهل الحضور والانس والانبساط من باب المعاينة إن اريد به ما يقتضيه ظاهر هذه العبارة فهو كفر محض ، سواء حمل المعاينة (٥) على المعاينة بالبصر أو البصيرة ، فإن كلا منهما ممّا نفته الأخبار المتقدمة في حق الذات السبحانية. والكلام هنا مفروض في حق ذاته سبحانه كما يعطيه التمثيل بالنار وآثارها في مراتبه التي ذكرها.

ولا ريب أنه لم يبلغ أحد في المعرفة والقرب من الحضرة السبحانية وانكشاف أنوار العظمة الإلهية ما بلغ إليه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله كقاب (قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) (٦) ، ولم ينقل

__________________

(١) من المصدر ، وفي النسختين : يخاف.

(٢) في «ح» : قلبه.

(٣) من المصدر ، وفي النسختين : التي سدّت.

(٤) إحياء علوم الدين ٤ : ٣٢٢.

(٥) إن اريد به .. حمل المعاينة ، من «ح».

(٦) النجم : ٩ ـ ١٠.


عنه (١) دعوى المعاينة ، ولا أنه احترق بأنوار العظمة الإلهية وتلاشى عما كان عليه من الصورة البشرية.

روى الكليني قدس‌سره في (الكافي) بسنده عن صفوان قال : سألني أبو قرة المحدّث أن ادخله على أبي الحسن الرضا عليه‌السلام ، فاستأذنته في ذلك فأذن لي ، فدخل عليه فسأله عن الحلال والحرام والأحكام حتى بلغ سؤاله إلى التوحيد ، فقال أبو قرة : إنا روينا أن الله قسم الرؤية والكلام بين اثنين ، قسم الكلام لموسى عليه‌السلام ولمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله الرؤية. فقال أبو الحسن عليه‌السلام : «فمن يبلّغ عن الله إلى الثقلين من الجن والإنس (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) (٢) (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (٣) ، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‌ءٌ) (٤)؟ أليس محمّد؟». قال : بلى.

قال : «كيف يجي‌ء رجل إلى الخلق جميعا فيخبرهم أنه جاء من عند الله وأنه يدعوهم إلى الله بامر الله ، فيقول (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) ، (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) ، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‌ءٌ) ثم يقول أنا رأيته بعيني وأحطت به علما ، وهو على صورة البشر؟! أمّا تستحون (٥)؟ ، ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا [أن يكون يأتي من عند الله بشي‌ء ثم يأتي بخلافه من وجه آخر]؟». قال أبو قرة : فإنه يقول : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) (٦)؟

فقال أبو الحسن عليه‌السلام : «إن بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى ، حيث قال (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) (٧) ما كذب فؤاد محمد ما رأت عيناه ، ثم أخبر بما رأى فقال

__________________

(١) ولم ينقل عنه ، من «ح» ، وفي «ق» بدلها : من.

(٢) الأنعام : ١٠٣.

(٣) طه : ١١٠.

(٤) الشورى : ١١.

(٥) في «ح» : تستحيون.

(٦) النجم : ١٣.

(٧) النجم : ١١.


(لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) (١) وآيات الله غير الله. وقد قال (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (٢) وإذا رأته الأبصار فقد أحاطت به العلم ووقعت المعرفة». فقال أبو قرة : فتكذّب الروايات؟ فقال أبو الحسن عليه‌السلام : «إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبناها.

وما أجمع المسلمون عليه أنه لا يحاط به علما ، ولا تدركه الأبصار ، وليس كمثله شي‌ء» (٣).

وأنت خبير بأن القائل بهذه المرتبة على وجه الحقيقة أو ما قاربها إنما أراد فتح باب القول بالحلول أو الاتحاد أو وحدة الوجود كما هو المأثور المشهور عن الصوفية ، كما يعطيه التمثيل بالفحم المحترق بالنار حتى صار نارا (٤) يترتب عليه ما يترتب على النار بزعمهم ، وقد عرفت ما فيه.

تذييل جليل ينبئ عن السبب في هذا الضلال والتضليل

أقول : ينبغي أن يعلم أن الأصل في هذه المقالات ـ يعني دعوى الكشف والوصول إلى الله على الوجه الذي تدعيه الصوفية من الرؤية والمعاينة والفناء في الله بالاحتراق ، ونحو ذلك من تلك الخرافات بمجرد العقول والأفكار والرياضات التي يعملونها والأوراد والأذكار ـ هم الفلاسفة الكفرة والحكماء الفجرة لدفع نبوّة الأنبياء المبعوثين في زمانهم لهم ولغيرهم. كما نقل عن أفلاطون أنه لما دعاه عيسى ـ على نبينا وعليه‌السلام ـ أجابه بأنك إنما ارسلت إلى ضعفة العقول

__________________

(١) النجم : ١٨.

(٢) طه : ١١٠.

(٣) الكافي ١ : ٩٥ ـ ٩٦ / ٢ ، باب في إبطال الرؤية.

(٤) أقول : قال الشيخ البهائي رحمه‌الله : (قال الشيخ العارف مجد الدين البغدادي : رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام فقلت : ما تقول في حق ابن سينا؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : هو رجل أراد أن يصل إلى الله تعالى بلا واسطتي فمحقته بيدي هكذا ، فسقط في النار. (هامش «ح»).


لتكميل عقولهم ، وأما مثلي فلا حاجة به إليك (١).

ألا ترى إلى ما تحكم به الحكماء من أحوال الأفلاك السماوية والأقاليم الأرضية كما هو مذكور في علم الهيئة المدون في كلامهم؟ كما قيل : إن فيثاغورس صاحب (علم الموسيقى) وضع الألحان على أصوات حركات الفلك (٢).

ونقل عن بطليموس أنه عرف حركات الأفلاك (٣) ، ثم أخذ ذلك صوفية العامة لمّا ابتدعوا هذه المقالة في عصر الأئمَّة عليهم‌السلام لمعارضتهم عليهم‌السلام والرد عليهم ، وجروا على قواعد الفلاسفة في أكثر أحكامهم وقواعدهم ، وادّعوا لأنفسهم هذه المكاشفات والإخبار بالمغيّبات والكرامات ، وتبعهم ضلّال العامة العمياء ، ونقلوا لهم من المعجزات والكرامات ما هو مذكور في كتبهم كما لا يخفى على من طالعها.

وجميع ذلك إنما قصدوا به يومئذ معارضة الأئمَّة ـ صلوات الله عليهم ـ فيما يأتون به من المعجزات والكرامات ، ثم انتهى الأمر إلى أن قال بهذه المقالة جملة من الشيعة الذين أخذوا من قواعد الفلسفة ، وسلكوا تلك المسالك المتعسفة ، حتى ادّعوا ـ لفرط غلوهم في القول بمذهب الصوفية ـ أن صوفية زمانهم عليهم‌السلام كانوا من خلص الشيعة الإمامية كما صرّح به جملة منهم ، كالقاضي نور الله في (مجالس

__________________

(١) انظر : الأنوار النعمانية ٣ : ١٣٠. ويذكر أن كتب التراجم التي بين أيدينا تشير إلى أن أفلاطون عاش قبل النبي عيسى عليه‌السلام بأربعة قرون تقريبا ، فهو قد توفي عام (٣٤٧) ق. م كما في موسوعة المورد ٨ : ٤٨ ، الموسوعة الفلسفية المختصرة : ٤٥ ، موسوعة أعلام الفلسفة ١ : ٩٧ ، المنجد (الأعلام) ٢ : ٥٨. ويبعد حمله على أفلوطين أيضا ؛ إذ إنه توفي عام (٢٧٠) م كما في موسوعة المورد ٨ : ٥١ ، موسوعة أعلام الفلسفة ١ : ١٠٦ ، المنجد (الأعلام) ٢ : ٥٨.

(٢) انظر رسائل إخوان الصفا ١ : ٢٠٨.

(٣) انظر الملل والنحل ٢ : ٤٠٤ ، بالمعنى.


المؤمنين) (١) ، وصاحب الرسالة التي أشرنا فيما تقدم إلى ردها. وقد استوفينا جملة من الأبحاث والكلام في الرسالة التي كتبناها في الرد على الرسالة المذكورة ، وأوضحنا فضائحهم ، ونشرنا قبائحهم بما لا يقبل الاستتار ولا يداخله الاعتداد.

__________________

(١) انظر مجالس المؤمنين ٢ : ٣٨.


(٣٣)

درّة نجفيّة

هل يقدم دليل العقل على دليل النقل؟

قد اشتهر بين أكثر أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ الاعتماد على الأدلة العقلية في الاصول والفروع ، وترجيحها على الأدلة النقلية ؛ ولذا تراهم في الاصولين متى تعارض الدليل العقلي والسمعي ، قدّموا الأول واعتمدوا عليه وتأولوا الثاني بما يرجع إليه وإلّا اطّرحوه بالكلية.

وفي كتبهم الاستدلالية في الفروع الفقهية أول ما يبدءون في الاستدلال بالدليل العقلي ، ثم ينقلون الدليل السمعي مؤيدا له. ومن ثم قدم أكثرهم العمل بالبراءة الأصليّة والاستصحاب ونحوهما من الأدلة العقلية على الأخبار الضعيفة باصطلاحهم بل الموثّقة.

قال المحقق ـ رضوان الله عليه ـ في بعض مصنّفاته في مسألة جواز إزالة الخبث بالمائع وعدمه ـ حيث إن السيد المرتضى رضي‌الله‌عنه اختار الطهارة من الخبث به ، ونسب ذلك إلى مذهبنا ، مؤذنا بدعوى الإجماع عليه ـ ما صورته : (أما علم الهدى فإنه ذكر في (الخلاف) (١) أنه إنما أضاف ذلك إلى المذهب ؛ لأن من أصلنا

__________________

(١) هو كتاب الخلاف في اصول الفقه ، ذكره النجاشي : ٢٧١ / ٧٠٨.


العمل بدليل العقل ما لم يثبت الناقل. وليس في [الشرع] (١) ما يمنع من استعمال المائعات في الإزالة ولا ما يوجبها. ونحن نعلم أنه لا فرق بين الماء والخل في الإزالة ، بل ربما كان غير الماء أبلغ ، فحكمنا حينئذ بدليل العقل).

ثم قال المحقق قدس‌سره بعد كلام في البين : (أما نحن فقد فرقنا بين الماء والخل ، فلم يرد علينا ما ذكره علم الهدى) (٢) إلى آخر كلامه.

فانظر إلى موافقته المرتضى فيما نقله عنه من أصالة العمل بدليل العقل في الفروع الشرعية ، وإنما نازعه في هذا الجزئي وحصول الفرق فيه بين الفردين المذكورين.

وبالجملة ، فكلامهم تصريحا في مواضع وتلويحا في اخرى متّفق الدلالة على ما نقلناه ، ولم أر من ردّ ذلك وطعن فيه من أصحابنا سوى المحدّث المحقق السيد نعمة الله الجزائري ـ طيب الله تعالى مرقده ـ في مواضع من مصنفاته ؛ منها في كتاب (الأنوار النعمانية) ، وهو كتاب جليل يشهد بسعة دائرته ، وكثرة اطّلاعه على الأخبار ، وجودة متبحرة في العلوم والآثار ، حيث قال فيه ـ ونعم ما قال ؛ فإنه الحق الذي لا تعتريه غياهب الإشكال ـ : (إن أكثر أصحابنا قد تبعوا جماعة من المخالفين من أهل الرأي والقياس ، ومن أهل الطبيعة والفلاسفة وغيرهم من الذين اعتمدوا على العقول واستدلالاتها ، وطرحوا ما جاءت به الأنبياء عليهم‌السلام ، حيث لم يأت على وفق عقولهم ، حتى نقل أن عيسى ـ على نبينا وعليه‌السلام ـ لما دعا أفلاطون إلى التصديق بما جاء به أجاب بأن عيسى رسول إلى ضعفة العقول ، وأما أنا وأمثالي فلسنا نحتاج في المعرفة إلى إرسال الأنبياء.

__________________

(١) من المصدر ، وفي النسختين : الأدلة العقلية ، ونقل العبارة في الحدائق ١ : ٤٠٢ ؛ بلفظ : الأدلّة النقليّة.

(٢) المسائل المصريّة (ضمن الرسائل التسع) : ٢١٦.


والحاصل أنهم ما اعتمدوا في شي‌ء من امورهم إلّا على العقل ، فتابعهم بعض أصحابنا وإن لم يعترفوا بالمتابعة ، فقالوا : إذا تعارض الدليل العقلي والنقلي طرحنا النقلي أو تأولنا النقلي بما يرجع إلى العقل. ومن هنا تراهم في مسائل من الاصول يذهبون إلى أشياء كثيرة قد قامت الدلائل النقلية على خلافها لوجود ما تخيلوا أنه دليل عقلي مثل قولهم بنفي الإحباط في العمل تعويلا على ما ذكروه في محلّه من مقدمات لا تفيد ظنا فضلا عن العلم ، وسنذكرها إن شاء الله في أنوار القيامة مع وجود الدلائل من (الكتاب) والسنة ، على أن الإحباط الّذي هو الموازنة بين الأعمال وإسقاط المتقابلين وإبقاء الرجحان حق لا شك فيه ولا ريب يعتريه.

ومثل قولهم : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يحصل له الإسهاء من الله تعالى في صلاة قط ، تعويلا على ما قالوه من أنه لو جاز السهو عليه في الصلاة لجاز عليه في الأحكام ، مع وجود الدلائل الكثيرة من الأحاديث الصحاح والحسان والموثقات والضعيفات والمجاهيل على حصول مثل هذا (١) الإسهاء ؛ وعلل في تلك الروايات بأنه رحمة للأمّة لئلّا يعيّر الناس بعضهم بعضا بالسهو. وسنحقق هذه المسألة في نور من هذا الكتاب إن شاء الله إلى غير ذلك من مسائل الاصول.

وأما مسائل الفروع فمدارهم على طرح الدلائل النقلية ، والقول بما أدت إليه الاستحسانات العقلية وإذا عملوا بالدلائل النقلية يذكرون أولا الدلائل العقلية ، ثم يجعلون دليل النقل مؤيدا لها وعاضدا إياها ، فيكون المدار والأصل إنما هو العقل.

وهذا منظور فيه لأنا نسألهم عن بعض (٢) الدليل العقلي الذي جعلوه أصلا في الاصولين والفروع ، فنقول : إن أردتم ما كان مقبولا عند العقول فلا يثبت ولا يبقى

__________________

(١) سقط في «ح».

(٢) في «ح» : معنى.


لكم دليل عقلي ، وذلك كما تحققت أن العقول مختلفة في مراتب الإدراك ، وليس لها حدّ تقف عنده. فمن ثم ترى كلّا من اللاحقين يتكلم على دلائل السابقين وينقضها ، ويأتي بدلائل اخرى على ما ذهب إليه (١). ولذلك لا ترى دليلا واحدا مقبولا عند عامة العقلاء والأفاضل وإن كان المطلوب متحدا ، فإن جماعة من المحققين اعترفوا بأنه لا يتم دليل من الدلائل على إثبات الواجب ؛ وذلك أن الدلائل التي ذكروها مبنية على إبطال التسلسل ، ولم يتم برهان على بطلانه.

فإذا لم يتم دليل على هذا المطلب الجليل الذي توجهت إلى الاستدلال عليه كافة الخلائق ، فكيف يتم على غيره ممّا توجهت إليه آحاد المحققين وإن كان المراد به ما كان مقبولا بزعم المستدل به واعتقاده؟ فلا يجوز لنا تكفير الحكماء والزنادقة ، ولا تفسيق المعتزلة والأشاعرة ، ولا الطعن على من ذهب إلى مذهب يخالف ما نحن عليه. وذلك أن أهل كل مذهب استندوا في تقوية ذلك المذهب إلى دلائل كثيرة من العقل وكانت مقبولة في عقولهم ، معلومة لهم ، ولم يعارضها سوى دلائل العقل لأهل القول الآخر أو دلائل النقل.

وكلاهما لا يصلح دليل (٢) المعارضة لما علمتم ؛ لأن دليل النقل يجب تأويله ، ودليل العقل لهذا الشخص لا يكون حجة على غيره ؛ لأن عنده مثله ويجب عليه العمل بذلك ، مع أن الأصحاب (٣) ذهبوا إلى تكفير الفلاسفة ومن يحذو حذوهم وتفسيق أكثر طوائف المسلمين ؛ وما ذلك إلّا لأنهم لم يقبلوا منهم تلك الدلائل ولم يعدوها من دلائل العقل) (٤) انتهى كلامه زيد في الخلد إكرامه.

__________________

(١) إذا بطل العقلي فالنقلي أولى بالبطلان ، ولعمري إن هذا إبطال لدليل العقل بالعقل. (ح) لمحرره ، (هامش «ع»).

(٢) ليست في «ح».

(٣) انظر كشف اللثام ٢ : ٤١٢ ، ففيه إشارة إلى ذلك.

(٤) الأنوار النعمانية ٣ : ١٢٩ ـ ١٣٢.


أقول : وقد سبق إلى هذه المقالة الإمام الرازي حيث قال : (هذه الأشياء المسمّاة بالبراهين لو كانت في أنفسها براهين لكان كل من سمعها ووقف عليها وجب أن يقبلها وألّا ينكرها أصلا.

وحيث نرى أن الذي يسميه أحد الخصمين برهانا فإن الخصم الثاني يسمعه ويعرفه ولا يفيد له ظنا ضعيفا ، علمنا أن هذه الأشياء ليست في أنفسها براهين ، بل هي مقدمات ضعيفة انضافت العصبية والمحبة إليها فتخيّل بعضهم كونها برهانا مع أن الأمر في نفسه ليس كذلك. وأيضا فالمشبّه يحتج على القول بالتشبيه بحجة (١) ، ويزعم أن تلك الحجّة أفادته الجزم واليقين :

فإما أن يقال : إن كل واحدة من هاتين الحجتين صحيحة يقينية ، فحينئذ يلزم صدق النقيضين وهو باطل.

وإما أن يقال : إحداهما صحيحة والاخرى فاسدة ، إلّا إنه متى كان الأمر كذلك كانت مقدمة واحدة من مقدمات تلك الحجّة باطلة في نفسها ، مع أن الذي تمسّك بتلك الحجة جزم بصحة تلك المقدمة ابتداء.

فهذا يدل على أن العقل يجزم بصحة الفاسد جزما ابتداء ، فإذا كان كذلك كان العقل غير مقبول القول في البديهيات ، وإذا كان كذلك ، فحينئذ [تنسدّ] (٢) جميع الدلائل.

فإن قالوا : إن العقل إنما جزم بصحة ذلك الفاسد بشبهة متقدمة.

فنقول : قد حصل في تلك الشبهة المتقدمة مقدمة فاسدة ، فإن كان ذلك لشبهة اخرى لزم التسلسل ، فإن كان ابتداء فقد توجّه الطعن.

وأيضا فإنا نرى الدلائل القويّة في بعض المسائل العقلية متعارضة ، مثل

__________________

(١) في «ح» : لحجة.

(٢) من المصدر ، وفي «ق» : تفسد.


مسألة الجوهر الفرد ، فإنا نقول : إن (١) كل متحيز فإن يمينه غير يساره ، وكلّ ما كان كذلك فهو منقسم ، ينتج أن كل متحيّز منقسم. ثم نقول : [الآن الحاضر غير منقسم وإلّا [لم يكن [كله] حاضرا بل بعضه ، وإذا كان غير منقسم كان أوّل عدمه في آن آخره متصل بآن وجوده ، فلزم تتالي الآنات ، ويلزم منه كون الجسم مركبا من أجزاء لا تتجزّأ ، فهذان الدليلان متعارضان.

ولا نعلم جوابا شافيا عن أحدهما. ونعلم أن أحد الكلامين يشتمل على مقدمة باطلة ، وقد جزم العقل بصحّتها ابتداء (٢) فصار العقل مطعونا فيه) (٣) ، ثم أخذ في تفصيل هذه الوجوه بكلام طويل (٤) كما هي عادته.

فإن قلت : فعلى ما ذكرت من عدم الاعتماد على الدليل العقلي يلزم ألّا يكون العقل معتبرا بوجه من الوجوه ، مع أنه قد استفاضت الآيات القرآنية والأخبار المعصومية بالاعتماد على العقل والعمل على ما يرجّحه ، وأنه حجة من حجج الله عزوجل كقوله تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٥) في غير موضع من (الكتاب) العزيز ، أي يعملون بمقتضى عقولهم ، (الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٦) (لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) (٧) (لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) (٨) (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٩) (لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) (١٠).

وقد ذم عزوجل قوما لم يعملوا بمقتضى عقولهم ، فقال سبحانه

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) في المصدر : أبدا.

(٣) عنه في الأنوار النعمانية ٣ : ١٢٧ ـ ١٢٨.

(٤) وردت هذه العبارة في الأنوار النعمانية في ذيل نقل السيد الجزائري لكلام الرازي.

(٥) الرعد : ٤ ، النحل : ١٢.

(٦) الرعد : ٣ ، الروم : ٢١ ، الزمر : ٤٢ ، الجاثية : ١٣.

(٧) آل عمران : ١٩٠.

(٨) طه : ٥٤ ، ١٢٨.

(٩) الرعد : ١٩ ، الزمر : ٩.

(١٠) الزمر : ٢١.


(أَفَلا يَعْقِلُونَ) (١) ، ولكن (أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (٢) (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) (٣) (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (٤) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على مدح العمل بمقتضى العقل وذم عكسه.

وفي الحديث (٥) عن أبي الحسن عليه‌السلام حين سئل : فما الحجة على الخلق اليوم؟

فقال عليه‌السلام : «العقل ، يعرف به الصادق على الله فيصدقه ، والكاذب على الله فيكذبه» (٦).

وفي آخر عن الصادق عليه‌السلام قال : «حجة الله على العباد النبي (٧) ، والحجة فيما بين الله وبين العباد (٨) العقل» (٩).

وفي آخر عن الكاظم عليه‌السلام : «يا هشام ، إن لله على الناس حجتين : حجة ظاهرة وحجة باطنة ؛ فأما الحجة الظاهرة فالأنبياء والرسل والأئمَّة ، وأمّا الباطنة فالعقول» (١٠).

قلت : لا ريب أن العقل الصحيح الفطري حجة من حجج الله سبحانه وسراج منير من جهته جلّ شأنه وهو موافق للشرع ، بل هو شرع من داخل كما أن ذاك شرع من خارج ، لكن ما لم تغيّره غلبة الأوهام الفاسدة وتتصرف فيه العصبية أو حب الجاه أو نحو ذلك من الأغراض الكاسدة ، وهو يدرك الأشياء قبل ورود الشرع بها فيأتي الشرع مؤيدا له ، وقد لا يدركها قبله ويخفى عليه الوجه فيها فيأتي الشرع كاشفا ومبينا.

وغاية ما تدلّ عليه الأدلة مدح العقل الفطري الصحيح الخالي من شوائب

__________________

(١) يس : ٦٨.

(٢) المائدة : ١٠٣ ، العنكبوت : ٦٣ ، الحجرات : ٤.

(٣) المائدة : ٥٨ ، الحشر : ١٤.

(٤) محمّد : ٢٤.

(٥) في «ح» : الحسن.

(٦) الكافي ١ : ٢٥ / ٢٠.

(٧) من «ح» ، والمصدر.

(٨) في «ح» والمصدر : بين العباد وبين الله.

(٩) الكافي ١ : ٢٥ / ٢٢.

(١٠) الكافي ١ : ١٦ / ١٢ ، وفيه : فالرسل والأنبياء ، بدل : فالأنبياء والرسل.


الأوهام ، العاري عن التلوث بتلك الآلام والأسقام ، وأنه بهذا المعنى حجة إلهية ؛ لإدراكه بصفاء نورانيته وأصل فطرته بعض الامور التكليفية ، وقبوله لما يجهل منها متى ورد عليه الشرع بها ، وهو أعمّ من أن يكون بإدراكه ذلك أولا أو قبوله لها ثانيا كما عرفت. ولا ريب أن الأحكام الفقهيّة من عبادات وغيرها كلّها توقيفية تحتاج إلى السماع من حافظ الشريعة.

ولهذا قد استفاضت الأخبار ـ كما مرّ بك الإشارة إلى شطر منها في درر هذا الكتاب ، ولا سيما في درة البراءة الأصلية ، والدرّة التي في (١) مقبولة عمر بن حنظلة ـ بالنهي عن القول في الأحكام الشرعية بغير سماع منهم عليهم‌السلام وعلم مأثور عنهم ـ صلوات الله عليهم ـ ووجوب التوقف عن الفتوى والرجوع إلى الاحتياط في العمل متى انسدّ طريق العلم منهم عليهم‌السلام ، ووجوب الرد إليهم فيما خفي وجهه وأشكل أمره من الأحكام.

وما ذاك إلّا لقصور العقل المذكور عن الاطلاع على أغوارها ، وإحجامه عن التلجج في لجج بحارها. بل لو تم للعقل الاستقلال بذلك لبطل إرسال الرسل ، وإنزال الكتب ؛ ومن ثم تواترت الأخبار ناعية على أصحاب القياس بذلك.

ومن الأخبار المؤكدة لما ذكرنا رواية أبي حمزة عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث طويل قال : «إنّ الله لم يكل أمره إلى (٢) خلقه لا إلى ملك مقرب ولا إلى نبي مرسل ، ولكنه أرسل رسولا من ملائكته فقال له : قل : كذا وكذا فأمرهم بما يحبّ ونهاهم عما يكره» (٣) الحديث.

ومنها رواية أبي بصير عنه عليه‌السلام قال : قلت : ترد علينا أشياء ليس نعرفها في

__________________

(١) في «ح» بعدها : شرح.

(٢) في «ح» : ولا.

(٣) الكافي ٨ : ١٠١ / ٩٢ ، باب حديث آدم عليه‌السلام عليه‌السلام مع الشجرة ، وسائل الشيعة ٢٧ : ٣٥ ـ ٣٦ ، أبواب صفات القاضي ب ٦ ، ح ١.


كتاب ولا سنة ، فننظر فيها؟ فقال : «لا ، أما إنك إن أصبت لم تؤجر ، وإن أخطأت كذبت على الله» (١).

ورواية يونس عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : «من نظر برأيه هلك ، ومن ترك أهل بيت نبيه ضلّ» (٢).

وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (٣) : «إنّ المؤمن لم يأخذ دينه عن رأيه ، ولكن أتاه من ربه فأخذ به» (٤).

وفي (٥) آخر لما قال له السائل : ما رأيك في كذا؟ قال عليه‌السلام : «وأي محل للرأي هنا؟ إنّا إذا قلنا ، حدثنا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن جبرئيل عن الله عزوجل» (٦).

إلى غير ذلك من الأخبار المستفيضة (٧) الدالة على كون الشريعة توقيفية لا مدخل للعقل في استنباط شي‌ء من أحكامها بوجه من الوجوه.

نعم ، عليه القبول والانقياد والتسليم لما يراد ، وهو أحد فردي ما دلت عليه تلك الأدلة التي أوردها المتعرض.

نعم يبقى الكلام بالنسبة إلى ما لا يتوقف على التوقيف ، فنقول : إن كان الدليل العقلي المتعلّق بذلك بديهيا ظاهر البداهة كقولهم : الواحد نصف الاثنين فلا ريب

__________________

(١) الكافي ١ : ٥٦ / ١١ ، باب البدع والرأي والمقاييس ، وسائل الشيعة ٢٧ : ٤٠ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٦ ، ب ٦.

(٢) الكافي ١ : ٥٦ / ١٠ ، باب البدع والرأي والمقاييس ، وسائل الشيعة ٢٧ : ٤٠ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٦ ، ح ٧.

(٣) من نظر برأيه هلك .. عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، من «ح».

(٤) الكافي ٢ : ٤٥ ـ ٤٦ ، باب نسبة الإسلام ، وسائل الشيعة ٢٧ : ٤٢ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٦ ، ح ١٤.

(٥) في «ح» بعدها : حديث.

(٦) انظر بحار الأنوار ٢ : ٢٥٠ / ٦٢.

(٧) وسائل الشيعة ٢٧ : ٣٥ ـ ٦٢ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٦.


في صحة العمل به ، وإلّا فإن لم يعارضه دليل عقلي ولا نقلي فكذلك ، وإن عارضه دليل عقلي آخر فإن تأيّد أحدهما بنقلي كان الترجيح للمتأيد بالدليل النقلي وإلّا فإشكال ، وإن عارضه دليل نقلي فإن تأيد ذلك العقلي أيضا بنقلي كان الترجيح للعقليّ.

إلّا إن هذا في الحقيقة تعارض في النقليات ، وإلّا فالترجيح للنقلي وفاقا للسيد المحدث المتقدم ذكره ، وخلافا للأكثر.

هذا بالنسبة إلى العقلي بقول مطلق ، أما لو اريد به المعنى الأخصّ ، وهو الفطري الخالي عن شوائب الأوهام ، الذي هو حجة من حجج الملك العلّام وإن شذ وجوده بين الأنام ، ففي ترجيح النقلي عليه إشكال ، والله العالم بحقيقة الحال (١).

__________________

(١) بحقيقة الحال ، ليس في «ح».


(٣٤)

درّة نجفيّة

في حقيقة الرؤيا وأشكالها

روى الصدوق ـ عطر الله مرقده ـ في كتاب (عيون أخبار الرضا عليه‌السلام) (١) وفي كتاب (المجالس) (٢) بسنده عن الحسن بن علي بن فضال عن الرضا عليه‌السلام أنه قال له رجل من أهل خراسان. يا بن رسول الله ، رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام كأنه يقول لي : كيف أنتم إذا دفن في أرضكم بضعتي ، واستحفظتم وديعتي ، وغيب في ثراكم نجمي؟ فقال الرضا عليه‌السلام : «أنا المدفون في أرضكم ، وأنا بضعة من نبيّكم ، وأنا الوديعة والنجم».

إلى أن قال عليه‌السلام : «ولقد حدثني أبي عن جدي عن أبيه عليهم‌السلام أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من رآني (٣) في منامه فقد رآني ؛ لأن الشيطان لا يتمثل في صورتي ولا في صورة أحد من أوصيائي ولا في صورة أحد من شيعتهم ، وإن الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزءا من النبوة».

أقول : [الكلام في الرؤيا يقع في خمسة مقامات]

المقام الأول : في تحقيق حقيقة الرؤيا وصدقها وكذبها

والأقوال في ذلك ثلاثة :

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٥٧ / ١١.

(٢) الأمالي : ١٢٠ ـ ١٢١ / ١١١.

(٣) في عيون الأخبار : زارني.


أحدها : قول الحكماء ، فإنهم بنوا ذلك على ما أسسوه من انطباع صور الجزئيات في النفوس المنطبعة الفلكية ، وصور الكليات في العقول المجردة وقالوا : إن النفس في حالة النوم قد تتصل بتلك المبادئ العالية ، فيحصل لها بعض العلوم الحقة الواقعة ، فهذه هي الرؤيا الصادقة. وقد تركب المتخيلة بعض الصور المخزونة في الخيال ببعض ، وهذه هي الرؤيا الكاذبة.

وردّ هذا القول بأنّه رجم بالغيب ، وتقوّل بالظن والريب ، ولم يستند إلى دليل ولا برهان ، ولا إلى مشاهدة وعيان ، ولا إلى وحي إلهي مع ابتنائه على إثبات العقول المجردة والنفوس الفلكية المنطبعة (١) ، وهما ممّا نفتهما الشريعة المقدّسة كما تقرر في محله (٢).

وثانيها : قول المتكلمين ، قال في (المواقف) وشرحه : (وأما الرؤيا فخيال باطل عند المتكلمين ـ أي جمهورهم ـ أما عند المعتزلة فلفقد شرائط الإدراك حالة النوم من المقابلة ، و [انبثاث] (٣) الشعاع ، وتوسط الهواء الشفاف ، والبينة المخصوصة ، وانتفاء الحجاب إلى غير ذلك من الشرائط المعتبرة في الإدراكات فما يراه النائم ليس من الإدراكات في شي‌ء ، بل هو من قبيل الخيالات الفاسدة والأوهام الباطلة.

وأما عند الأصحاب ، إذ لم يشترطوا في الإدراك شيئا من ذلك ، فلأنه خلاف العادة ـ أي لم تجر عادته تعالى بخلق الإدراك في الشخص وهو نائم ـ ولأن النوم ضد الإدراك فلا يجامعه ، فلا تكون الرؤيا إدراكا حقيقة بل (٤) من

__________________

(١) يعني أن صور ما يجري في الأرض أو في العالم العادي كالنقوش. منه رحمه‌الله ، (هامش «ح»).

(٢) انظر بحار الأنوار ٥٨ : ١٩٦ ـ ١٩٧.

(٣) من المصدر ، وفي النسختين : اثبات.

(٤) في النسختين بعدها : هو ، وما أثبتناه وفق المصدر.


قبيل الخيال الباطل) (١) انتهى.

وقال شيخنا المفيد ـ عطر الله مرقده ـ على ما نقله عنه الكراجكي رحمه‌الله في كتاب (كنز الفوائد) ما ملخصه : والرؤيا في المنام تكون من أربع جهات :

أحدها : حديث النفس بالشي‌ء والفكر فيه حتى يحصل كالمنطبع في النفس ، فيخيّل إلى النائم ذلك بعينه وأشكاله ونتائجه ، وهذا معروف بالاعتبار.

والجهة الثانية : من الطباع ، و [ما] يكون من قهر بعضها لبعض ، فيضطرب له المزاج ويتخيل لصاحبه ما يلائم ذلك الطبع الغالب من مأكول ومشروب ومرئيّ وملبوس ومبهج ومزعج. وقد نرى تأثير الطبع (٢) في اليقظة والشاهد حتى إن من غلبت عليه الصفراء يصعب عليه الصعود إلى المكان العالي ؛ يتخيل له وقوعه منه ، ويناله من الهلع والجزع ما لا ينال غيره. ومن غلبت عليه السوداء يتخيل له أنه قد صعد في الهواء وناجته الملائكة ويظن صحة ذلك ، حتى إنه ربما اعتقد في نفسه النبوّة وأن الوحي يأتيه من السماء ، وما أشبه ذلك.

والجهة الثالثة : ألطاف من الله عزوجل لبعض خلقه من تنبيه وتيسير ، وإعذار وإنذار ، فيلقي [في روعه] (٣) ما ينتج له تخييلات امور تدعوه إلى الطاعة والشكر على النعمة ، وتزجره عن المعصية وتخوّفه الآخرة ، ويحصل له بها مصلحة وزيادة وفائدة فكر يحدث له معرفة (٤).

والجهة الرابعة : أسباب من الشيطان ووسوسة يفعلها للإنسان يذكره بها امورا تحزنه وأسبابا تغمّه فيما لا يناله ، أو يدعوه إلى ارتكاب محظور يكون فيه عطبه ، أو تخيل شبهة في دينه يكون منها هلاكه. وذلك مخصوص بمن عدم التوفيق

__________________

(١) شرح المواقف ٦ : ١١١ ـ ١١٢.

(٢) في «ح» بعدها : الغالب.

(٣) من المصدر ، وفي النسختين : من روحه.

(٤) في «ح» : معرفته.


لعصيانه وكثرة تفريطه في طاعات الله سبحانه ، ولن ينجو من باطل المنامات و [أحلامها] (١) إلّا الأنبياء والأئمّة ـ صلوات الله عليهم ـ ومن رسخ من الصالحين.

وقد كان شيخي رضي‌الله‌عنه قال لي : (إن كل من كثر علمه واتسع فهمه قلّت مناماته ، فإن رأى مع ذلك مناما وكان جسمه من العوارض سليما فلا يكون منامه إلّا حقا). يريد بسلامة الجسم : عدم الأمراض المهيجة للطباع وغلبة بعضها على ما تقدم به البيان.

والسكران أيضا لا يصح له منام ، وكذلك الممتلئ من الطعام ؛ لأنه كالسكران (٢). انتهى المقصود نقله من كلامه.

وقال السيد المرتضى رضي‌الله‌عنه في كتاب (الغرر والدرر) في جواب سائل سأله : ما القول في المنامات ؛ أصحيحة هي أم باطلة؟ ومن فعل من هي؟ وما وجه صحتها في الأكثر؟ وما وجه الإنزال عند رؤية المباشرة في المنام؟ وإن كان فيها صحيح وباطل فما وجه (٣) السبيل إلى تمييز أحدهما من الآخر؟

الجواب : (اعلم أن النائم غير كامل العقل ؛ لأن النوم ضرب من السهو ، والسهو ينفي العلوم ، ولهذا يعتقد النائم الاعتقادات الباطلة لنقصان عقله وفقد علومه.

وجميع المنامات إنما هي اعتقادات [يبتدأ بها] (٤) النائم في نفسه).

إلى أن قال : (وينبغي أن يقسم ما يتخيل النائم أنه يراه إلى أقسام ثلاثة (٥) : منها ما يكون في غير سبب يقتضيه ، ولا داع يدعو إليه اعتقادا مبتدئا.

ومنها ما يكون من وسواس الشيطان ، [ومعنى هذه الوسوسة أن الشيطان]

__________________

(١) من المصدر ، وفي النسختين : اخلافها.

(٢) كنز الفوائد ٢ : ٦٠ ـ ٦١.

(٣) ليست في «ح».

(٤) من المصدر ، وفي النسختين : يبديها.

(٥) في «ح» : ثلاثة أقسام.


يفعل في داخل سمعه كلاما خفيا يتضمن أشياء مخصوصة ، فيعتقد النائم إذا سمع ذلك الكلام أنه يراه ، فقد نجد كثيرا من النيام يسمعون حديث من يتحدث بالقرب منهم فيعتقدون أنّهم يرون ذلك الحديث في منامهم.

ومنها ما يكون سببه والداعي إليه خاطرا يفعله الله تعالى أو يأمر بعض الملائكة بفعله. ومعنى هذا الخاطر أن يكون كلاما يفعل في داخل السمع فيعتقد النائم أيضا ما يتضمن ذلك الكلام.

والمنامات الداعية إلى الخير والصلاح في الدين يجب أن تكون إلى هذا الوجه مصروفة ، كما أن ما يقتضي الشر منها الأولى أن تكون إلى وسواس الشيطان مصروفة. وقد يجوز على هذا فيما يراه النائم في منامه ثم يصح ذلك حتى يراه في يقظته على حد ما يراه في منامه ، وفي كل منام يصح تأويله أن يكون سبب صحته أن الله تعالى يفعل كلاما في سمعه لضرب من المصلحة بأن شيئا يكون أو قد كان على بعض الصفات ، فيعتقد النائم أن الذي يسمعه هو يراه ، فإذا صح تأويله على ما يراه فما ذكرناه إن لم يكن مما يجوز أن يتفق فيه الصحة اتفاقا ، فإن في المنامات ما يجوز أن يصح بالاتفاق ، وما يضيق فيه مجال نسبته إلى الاتّفاق. فهذا الذي ذكرناه يمكن أن يكون وجها فيه) (١) إلى آخر كلامه قدس‌سره.

وثالثها : ما استفدته من الوالد ـ قدس الله نفسه وطيب رمسه ـ مذاكرة ، وهو الأقرب إلى الأخبار الواردة عن الأئمَّة الأطهار ـ صلوات الله عليهم ـ وهو أن الروح قبل حلولها البدن ـ سواء قلنا بتجردها كما هو أحد الأقوال (٢) ، أو بتجسّمها كما هو ظاهر بعض الآيات وجملة من الروايات ، أو بكونها في قالب مثالي كما قيل به أيضا ـ لما كانت مخلوقة قبل الجسد كما استفاضت به

__________________

(١) لم نعثر عليه في كتاب الغرر والدرر ، والكلام موجود برمّته في رسائل الشريف المرتضى ، (المجموعة الثانية) : ٩ ـ ١١.

(٢) انظر كشف المراد : ١٨٤.


الأخبار (١) ، ولها عالم آخر غير هذا العالم العنصري فهي في حال النوم تخرج من هذا الجسد إلى ذلك العالم الذي هو عالمها الأصلي وتسرح إليه ، فربما اطّلعت ثمة على بعض الامور الغيبية التي تقع في هذا العالم اطّلاعا حقيقيا فيقع كما رأته في اليقظة ، وربما اطّلعت عليه بوجه ما لأسباب وعوارض اقتضت ذلك.

وهذه الرؤيا المحتاجة إلى تعبير وتأويل ، وكلا الأمرين من قسم الرؤيا الصادقة.

وربما يتخيل لها أشياء لا (٢) حقائق لها لأسباب يأتي الإشارة إليها إن شاء الله تعالى ، وهذه هي الرؤيا الكاذبة المعبّر عنها بأضغاث الأحكام.

قال بعض مشايخنا ـ عطر الله مراقدهم ـ : (إن الروح في حال النوم تخرج من البدن إلى عالم آخر وهو عالم الملكوت ، وتطّلع هناك على بعض التقديرات المثبتة في الألواح المشتملة على الأقضية والأقدار ، فإن كان لها صفاء ولعينها ضياء فإنها ترى الأشياء كما اثبتت ، وهذا في رؤيا الأنبياء والأئمَّة عليهم‌السلام ممّا لا ريب فيه وكذلك بعض الصلحاء. وحينئذ ، فلا تحتاج إلى تأويل ولا تعبير.

وإن كانت قد اسدلت على أعينها أغشية ظلمات التعلّقات الجسمانية والشهوات النفسانيّة ، فإنها ترى الأشياء بصور شبيهة لها.

كما أن ضعيف البصر ومن بعينه آفة يرى الأشياء على غير ما هي عليه ، وهذه الرؤيا المحتاجة إلى التعبير ، وقد يرى في الهواء قبل الاتصال بذلك العالم أو بعد الرجوع منه أشياء وهي الرؤيا الكاذبة ، وهي تقع من الشياطين والمردة المترددين في الهواء (٣) ، انتهى ملخصا وهو جيد.

__________________

(١) انظر الأنوار النعمانية ٤ : ٥١.

(٢) في النسختين : ولا.

(٣) بحار الأنوار ٥٨ : ٢١٨.


إلّا إن ما ذكره في سبب الرؤيا الصادقة (١) المحتاجة إلى تأويل وتعبير من إسدال أغشية الظلمات ـ إلى آخره ـ يشكل برؤيا يوسف ـ على نبينا وآله وعليه‌السلام ـ التي حكاها الله عزوجل في كتابه المجيد من سجود الشمس والقمر المؤوّل بالملك والسلطنة.

ورؤيا الإمام زين العابدين عليه‌السلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنه زوّجه بحوراء من حور (١) الجنة فجامعها وحملت فأمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يسميه زيدا ، وفي صبيحة ذلك اليوم كان يقص الرؤيا على أصحابه ، فإذا عند انتهاء كلامه قد ورد عليه رسول المختار ومعه الجارية التي أهداها إليه ، وكان قد اشتراها بمبلغ خطير وكانت فائقة في الجمال.

قال الراوي : فلما رأينا شغفه بالجارية انصرفنا عنه ، وفي العام القابل أتيته

__________________

(١) قال المحقق الشارح المازندراني في (شرح الاصول) بعد نقل جملة من أقوال الفلاسفة في هذا المقام ، وأقوال المتكلمين ما صورته : (ولا يبعد أن يقال : جميع ما كان وما يكون وما هو كائن في اللوح المحفوظ ، فإذا تعطلت الحواس بالنوم ، وفرغت النفس [عن الاشتغال] (٢) بها يعرض [عليها] ملك الرؤيا ما كان فيه بقدر استعدادها ، وما كان من هذا القبيل فهي الرؤيا الصادقة و [لذلك] (٣) قد يخبر النائم بما وقع في العالم وبما هو واقع وبما يقع بعد ، وتلك الرؤيا هي التي تعدّ جزءا من أجزاء النبوّة.

وقد تشتغل النفس بالصور والمعاني التي في الحسّ المشترك والخيال وتركبها على أنحاء مختلفة ، وقد يكون التركيب مطابقا لما في نفس الأمر وقد لا يكون ، وهذه قد تكون صادقة وقد تكون كاذبة وأضغاث أحلام ، وقد يعرض عليها الشيطان و [يشوشه] (٤) ويفزعه ، وهذا من تسويله وتحذيره. وفي بعض الروايات تعليم دعاء للفرار من ذلك المكروه (١)) (٢). انتهى كلامه. منه رحمه‌الله ، (هامش «ح»).

(٢) ليست في «ح».

__________________

١ ـ من المصدر ، وفي الأصل : بالاشتعال.

٢ ـ من المصدر ، وفي الأصل : كذلك.

٣ ـ من المصدر ، وفي الأصل : يوسوسه.

٤ ـ فلاح السائل : ٢٨٩ ـ ٢٩٠.

٥ ـ شرح الكافي ١١ : ٤٤٣ ـ ٤٤٤.


أزوره فخرج وعلى يده زيد ، وهو يقول (هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) (١) الحديث (٢).

فإن الرؤيا في هذين الموضعين من قسم الرؤيا المحتاجة إلى تأويل ، مع أنه لا يجوز أن يكون السبب فيها ما ذكره لوقوعها في الموضعين من المعصوم.

وبالجملة ، فما ذكره قدس‌سره وإن تم بالنسبة إلى بعض الناس إلّا إنه لا يمكن الحكم به كليا ، لما عرفت. وها نحن نسوق لك (٣) ما وقفنا عليه من الأدلة في المقام ، ونوضحه إيضاحا يرفع عنه غشاوة الإبهام ، فنقول : ممّا يدل على ذلك الآية الشريفة ، وهي قوله عزوجل (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) (٤) وهي ـ كما ترى ـ صريحة في خروج النفس من البدن حال النوم كخروجها حال الموت على التفصيل الآتي بيانه.

قال أمين الإسلام الطبرسي قدس‌سره (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) أي ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها ، والتي تتوفى عند النوم هي النفس التي يكون بها العقل والتمييز ، فهي التي تفارق النائم فلا يعقل.

والتي تتوفى عند الموت هي نفس الحياة التي إذ زالت زال معها النفس ، والنائم يتنفس. والفرق بين قبض النوم وقبض الموت بأن قبض النوم يضاد اليقظة ، وقبض الموت يضاد الحياة. وقبض النوم يكون الروح معه ، وقبض الموت تخرج الروح من البدن.

ونقل عن ابن عباس أن في بني آدم نفسا وروحا وبينهما شعاع كشعاع (٥)

__________________

(١) يوسف : ١٠٠.

(٢) الأمالي (الصدوق) : ٤١٥ / ٥٤٥.

(٣) من «ح» ، وفي «ق» : ذلك.

(٤) الزمر : ٤٢.

(٥) في «ح» : مثل شعاع ، بدل : شعاع كشعاع.


الشمس. والنفس التي بها العقل والتمييز ، والروح التي بها النفس والتحريك ، فإذا نام قبض الله نفسه ولم يقبض روحه ، وإذا مات قبض الله نفسه وروحه.

أقول (١) : ويؤيده ما رواه العياشي بإسناده عن الحسن بن محبوب عن عمرو (٢) ابن ثابت أبي المقدام عن أبيه عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «ما من أحد ينام إلّا عرجت نفسه إلى السماء ، وبقيت روحه في بدنه ، وصار بينهما سبب كشعاع الشمس ، فإذا أذن الله في قبض الأرواح أجابت الروح النفس ، وإن أذن الله في رد الروح أجاب النفس الروح ، وهو قوله سبحانه (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) الآية. فمهما رأت في ملكوت السماوات فهو ممّا له تأويل ، وما رأت فيما بين السماء والأرض فهو ممّا يخيله الشيطان ولا تأويل له») (٣).

وروي في كتاب (المناقب) لابن شهر آشوب في حديث أن نصرانيّين سألا أمير المؤمنين عليه‌السلام عن مسائل كان من جملتها السؤال عن الرؤيا الصادقة والكاذبة فقال عليه‌السلام : «إنّ الله تعالى خلق الروح وجعل لها سلطانا فسلطانها النفس ، فإذا نام العبد خرج الروح وبقي سلطانه ، فيمر به جيل من الملائكة وجيل من الجن ، فمهما كان من الرؤيا الصادقة فمن الملائكة ، ومهما كان من الرؤيا الكاذبة فمن الجن» (٤).

وروى في كتاب (جامع الأخبار) أنه سأل أبو بصير أبا عبد الله عليه‌السلام : الرجل النائم هنا (٥) والمرأة النائمة يريان أنهما بمكة أو بمصر من الأمصار ، أرواحهما (٦) خارج من أبدانهما؟ قال : «لا يا أبا بصير ، [فإن الروح] إذا فارقت البدن لم تعد إليه غير أنها بمنزلة عين الشمس ، هي (٧) مركوزة في السماء في كبدها وشعاعها في الدنيا» (٨).

__________________

(١) ليست في المصدر.

(٢) من «ح» والمصدر ، وفي «ع» : عمر.

(٣) مجمع البيان ٨ : ٦٤٥.

(٤) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٩٨.

(٥) ليست في المصدر.

(٦) في المصدر : أو روحهما.

(٧) ليست في المصدر.

(٨) جامع الأخبار : ٤٨٨ ـ ٤٨٩ / ١٣٦٠.


وروى فيه عن أبي جعفر عليه‌السلام : «إنّ العباد إذا ناموا خرجت أرواحهم إلى سماء الدنيا ، فما رأت الروح في سماء الدنيا فهو الحق ، وما رأت في الهواء فهو الأضغاث» (١).

وروى فيه عن أبي الحسن عليه‌السلام أنه قال : «إنّ المرء إذا نام (٢) فإنّ روح الحيوان باقية في البدن والذي يخرج منه روح العقل» (٣) الحديث.

وروى الصدوق في كتاب (العلل) (٤) و (الخصال) (٥) بسنده عن أبي بصير ومحمد بن مسلم عن أبي عبد الله عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم‌السلام قال (٦) : «لا ينام الرجل (٧) وهو جنب ولا ينام إلّا على طهور ، فإن لم يجد الماء فليتيمم بالصعيد ، فإن روح المؤمن ترفع إلى الله تبارك وتعالى فيصلها (٨) ويبارك عليها ، فإن كان أجلها قد حضر جعلها في كنوز (٩) رحمته ، وإن لم يكن أجلها قد حضرت بعث بها مع امناء ملائكته فيردونها في جسده».

وروى في كتاب (المجالس) بسنده عن معاوية بن عمار عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إنّ العباد إذا ناموا خرجت أرواحهم إلى السماء ، فما رأت الروح في السماء فهو الحق ، وما رأت في الهواء فهو الأضغاث ، إلّا وإن الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف ، فإذا كانت الروح في السماء تعارفت وتباغضت ، فإذا تعارفت في السماء تعارفت في الأرض ، وإذا تباغضت في السماء تباغضت في الأرض» (١٠).

__________________

(١) جامع الأخبار : ٤٨٩ / ١٣٦١.

(٢) في المصدر بدلها : خرجت روحه.

(٣) جامع الأخبار : ٤٨٩ / ١٣٦٢.

(٤) علل الشرائع ١ : ٣٤٣ / ب ٢٣٠ ، ح ١. وفيه : عن أبي بصير.

(٥) الخصال ٢ : ٦١٣ / ١٠ ، حديث أربعمائة ، وفيه عن محمد بن مسلم.

(٦) من «ح».

(٧) في المصدر : المسلم.

(٨) في علل الشرائع : فيلقاها ، وفي الخصال : فيقبلها.

(٩) في المصدر : مكنون.

(١٠) الأمالي : ٢٠٩ / ٢٣٢.


وروى ثقة الإسلام في (الكافي) بسنده عن عمرو (١) بن أبي المقدام عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «والله ما من عبد من شيعتنا ينام إلّا صعد الله بروحه إلى السماء فيبارك عليها ، فإن كان قد أتى عليها أجلها جعلها في كنوز رحمته ورياض جنته (٢) وفي ظل عرشه ، وإن كان أجلها متأخرا بعث بها مع أمنته من الملائكة ليردها إلى الجسد الذي خرجت منه لتسكن فيه» (٣) الحديث (٤).

وروى (٥) الصدوق رحمه‌الله في كتاب (المجالس) بسنده عن محمد بن القاسم النوفلي قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : المؤمن يرى الرؤيا فتكون كما رآها (٦) ، وربما رأى الرؤيا فلا تكون شيئا؟ فقال : «إنّ المؤمن إذا نام خرجت من روحه حركة ممدودة صاعدة إلى السماء ، فكل ما رآه روح المؤمن في ملكوت السماء في موضع التقدير والتدبير فهو الحق ، وكل ما رآه في الأرض فهو أضغاث أحلام». فقلت له : وهل تصعد روح المؤمن إلى السماء؟ قال : «نعم». قلت : حتى لا يبقى شي‌ء في بدنه؟

فقال : «لا ، لو خرجت كلّها حتى لا يبقى [منها شي‌ء] (٧) إذن لمات». قلت : فكيف تخرج؟ فقال : «أما ترى الشمس في السماء في موضعها وضوؤها وشعاعها في الأرض؟ فكذلك (٨) الروح أصلها في البدن وحركتها ممدودة» (٩).

__________________

(١) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : عمر.

(٢) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : رحمته.

(٣) الكافي ٨ : ١٨١ / ٢٥٩.

(٤) وفي الحديث : «الأرواح جنود مجندة» ، أقول : معناه الإخبار عن مبدأ كون الأرواح ، وتقدمها الأجساد ، أي أنها خلقت أوّل خلقها من ائتلاف واختلاف كالجنود المجموعة إذا تقابلت وتواجهت. ومعنى تقابل الأرواح : ما جبلها الله عليه من السعادة والشقاوة ، والاختلاف في مبدأ الخلق : أن الأجساد التي فيها الأرواح تبقى في الدنيا فتأتلف وتختلف على حسب ما خلقت عليه ، ولهذا ترى الخيّر يحب الخيار ويميل إليهم والشرير يحب الأشرار ويميل اليهم. (٢) ، (هامش «ح»).

(٥) من «ح» ، وفي «ق» : ورواه.

(٦) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : يراها.

(٧) من المصدر ، وفي النسختين : منه.

(٨) في «ح» : وكذلك.

(٩) الأمالي : ٢٠٩ / ٢٣١.


وروى الصدوق في (المجالس) بسنده عن الحسن بن راشد عن أبي عبد الله عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم‌السلام قال : «قال لي (١) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله» ـ وساق الحديث إلى أن قال ـ : «يا علي ، إن أرواح شيعتك لتصعد إلى السماء في رقادهم ووفاتهم ، فتنظر الملائكة إليها كما ينظر الناس إلى الهلال ؛ شوقا إليهم ، ولما يرون من منزلتهم عند الله عزوجل» (٢) الحديث.

وروى في (المجالس) أيضا بسنده عن عيسى بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده (٣) علي عليه‌السلام قال : «سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الرجل ينام فيرى الرؤيا ، فربما كانت حقا وربما كانت باطلا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا علي ، ما من عبد ينام إلّا عرج بروحه إلى رب العالمين ، فما رأى عند رب العالمين فهو حق ثم [إذا] أمر الله العزيز الجبار برد روحه إلى جسده ، فصارت الروح بين السماء والأرض فما رأته فهو أضغاث أحلام» (٤).

وروى فيه (٥) أيضا بإسناده (٦) عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سمعته يقول : «إنّ لإبليس شيطانا يقال له هزع يملأ المشرق والمغرب في كل ليلة يأتي الناس في المنام» (٧).

وروى البرقي في (المحاسن) بسنده عن جميل بن درّاج قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إنّ المؤمنين إذا أخذوا مضاجعهم صعد الله بأرواحهم إليه ، فمن (٨) قضى عليه الموت (٩) جعله في رياض الجنة بنور رحمته ونور عزته ، وإن لم يقدّر (١٠) عليه الموت

__________________

(١) من «ح» والمصدر.

(٢) الأمالي : ٦٥٧ ـ ٦٥٨ / ٨٩١.

(٣) في النسختين بعدها : عن.

(٤) الأمالي ٢٠٩ ـ ٢١٠ / ٢٣٣.

(٥) ليست في «ح».

(٦) من «ح» ، وفي «ق» : اسناده.

(٧) الأمالي : ٢١٠ / ٢٣٤.

(٨) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : فمنهم من.

(٩) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : بالموت.

(١٠) في «ح» : يقدم.


بعث بها مع امنائه من الملائكة إلى الأبدان التي هي فيها» (١).

أقول : فهذه جملة من الأخبار ـ كما ترى ـ ظاهرة الدلالة متعاضدة المقالة في أن الروح حال النوم تخرج من البدن وتفارقه على الوجه (٢) المذكور فيها ، وأن الرؤيا صادقها وكاذبها عبارة عما تراه بعد خروجها من البدن. وفيها كما ترى أوضح رد على أقول المتكلّمين ومن قدمنا كلامه في المقام (٣) ، لكن يبقى الكلام فيها في مواضع :

الأول : أن المستفاد من جملة من الأخبار أن الرؤيا تقع على وجوه ؛ منها ما يكون على جهة البشرى للمؤمن من الله عزوجل.

ومنها ما يكون على جهة التخويف له والإنذار من المعاصي ليرجع إلى الله سبحانه ويتوب إليه.

ومنها ما يكون تحزينا من الشيطان.

ومنها ما يكون ناشئا عما يحدّث المرء به نفسه في اليقظة فيراه في منامه بصورته أو بما يشبهه (٤) ؛ ففي كتاب (النصرة (٥)) لعلي بن بابويه بسنده عن موسى ابن إسماعيل بن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الرؤيا على ثلاثة (٦) : بشرى من الله ، وتحزين من الشيطان ، والذي يحدث به الإنسان نفسه فيراه في منامه» (٧) الحديث.

وروى في (الكافي) بسنده عن سعد بن أبي خلف عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

__________________

(١) المحاسن ١ : ٢٨٤ ـ ٢٨٥ / ٥٦٠.

(٢) في «ح» : وجه.

(٣) في «ح» : المنام.

(٤) في «ح» بعدها : ويدل عليه.

(٥) كذا في النسختين ، وما في البحار : (التبصرة) ، ولم يشر إليه في الذريعة ، والذي له كتاب الإمامة والتبصرة من الحيرة ، غير أن ابن النديم ذكر أن له أكثر من (٢٠٠) كتاب كما نقله عن خط ولده محمد الصدوق ، انظر الفهرست : ٢٤٦.

(٦) على ثلاثة من «ح» والمصدر.

(٧) عنه في بحار الأنوار ٥٨ : ١٩١ / ٥٨.


«الرؤيا على ثلاثة : بشارة من الله للمؤمن ، وتحذير من الشيطان ، وأضغاث أحلام» (١).

قال بعض مشايخنا المحدّثين (٢) : الظاهر أن لفظ «تحذير» في هذا الخبر إنما هو تصحيف تحزين ، كما هو في الخبر الأول ليوافق الآية وهي قوله تعالى (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) (٣).

وقال المحقق (٤) المازندراني في شرح الخبر من كتاب اصول (الكافي) : (إنما نسب الاولى إلى الله تعالى) ـ إلى أن قال ـ : (والرؤيا التي منه تعالى غير منحصرة في البشارة ؛ إذ قد تكون إنذارا منه ، لاعتنائه بعبده لئلا يأتي ما قدر عليه أو يتوب ويرجع عما فعله من المعاصي ، ويكون منه على حذر ، كما يقع ذلك في كثير من الصالحين. ونسب الثاني إلى الشيطان ؛ لأنها نشأت من تشويشاته وتدليساته تحذيرا من شي‌ء أو ترغيبا فيه ، ليشغل بال الرائي ويدخل الضرر والهم فيه) (٥) انتهى.

أقول : والأظهر عندي أن لفظ «تحذير» في الخبر واقع في محله لا تصحيف فيه ، وأنه ليس المراد منه : ما ذكره المحقق الشارح المشار إليه حتى يتم استدركه على عبارة الخبر المذكور بقوله : (والرؤيا التي منه تعالى غير منحصرة) إلى آخره ، بل المراد بالتحذير في الخبر إنما هو هذا المعنى الذي استدركه. وحينئذ ، فلفظ المصدر إنما اضيف إلى المفعول لا الفاعل كما ظنه قدس‌سره.

غاية الأمر أن المعنى الذي ذكره ـ وهو الذي اشير إليه في الخبر الأول بالتحذير (٦) من الشيطان ـ غير مذكور في الخبر ، ولعله ادرج في أضغاث الأحلام كما سيأتي بيانه. ويدل على هذا الفرد الذي ذكرناه ما رواه في كتاب

__________________

(١) الكافي ٨ : ٧٦ / ٦١.

(٢) بحار الأنوار ٥٨ : ١٨١ / ٣٢ ، بالمعنى.

(٣) المجادلة : ١٠.

(٤) في «ح» بعدها : الشارح.

(٥) شرح الكافي ١١ : ٤٤٧.

(٦) من «ح» وفي «ق» : بالتحزين.


(الاختصاص) قال : قال الصادق عليه‌السلام : «إذا كان العبد على معصية الله عزوجل وأراد الله به خيرا ، أراه في منامه رؤيا تروّعه ، فينزجر بها عن تلك المعصية» (١).

وما رواه في كتاب (المحاسن) عن صفوان عن داود عن أخيه عبد الله قال : بعثني إنسان إلى أبي عبد الله عليه‌السلام زعم أنه يفزع في منامه من امرأة تأتيه ، قال : فصحت حتى سمع الجيران. قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «اذهب فقل : إنك لا تؤدّي الزكاة».

قال : بلى ، والله إني لأؤدّيها. قال عليه‌السلام : «قل له : إن كنت تؤدّيها لا تؤديها إلى أهلها» (٢).

ومثل هذا الخبر ورد في حق شهاب بن عبد ربه (١).

وأنت خبير بأن ما اشتملت عليه الأخبار المتقدمة من تقسيم الرؤيا إلى صادقة وكاذبة ، وأن الاولى هي ما تراه بعد الصعود إلى السماء ، والثانية ما تراه في الهواء لا ينافي هذه الأخبار ، بل يحقّقها ؛ لأن ما يكون من الله سبحانه على جهة البشارة أو الإنذار والتخويف هي الرؤيا الصادقة التي تراها في السماء ، وما عداها فهو من الرؤيا الكاذبة التي تراها في الهواء.

وحينئذ ، فما عبّر به في بعض الأخبار المتقدمة عما يراه في الهواء بأنه من

__________________

(١) وهو ما رواه في (الكافي) (١) وتهذيب الأحكام (٢) بسندهما إلى الوليد بن صبيح قال : قال لي شهاب بن عبد ربّه : أقرئ أبا عبد الله عليه‌السلام عني السّلام ، وأعلمه أنه يصيبني فزع في منامي.

قال : فقلت له : إن شهابا يقرئك السّلام ويقول لك : إنه يصيبني فزع في منامي. قال : «قل له فليزكّ ماله». قال فأبلغت شهابا ذلك فقال لي : فتبلغه عني؟ فقلت : نعم. فقال : قل له : إن الصبيان فضلا عن الرجال ليعلمون أني ازكّي. فابلغته فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «قل له : إنك تخرجها ولا تضعها مواضعها».

١ ـ الاختصاص (ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد) ١٢ : ٢٤١.

٢ ـ المحاسن ١ : ١٦٨ / ٢٥١.

__________________

١ ـ الكافي ٣ : ٥٤٦ / ٤ ، باب الزكاة لا تعطى غير أهل الولاية.

٢ ـ تهذيب الأحكام ٤ : ٥٢ / ١٣٦.


الأضغاث شامل لما يحصل على جهة التحزين من الشيطان ولما يحدث المرء به نفسه.

ولا يخفى أن ما اشتملت عليه هذه الأخبار من أقسام الرؤيا لا يدل على الانحصار ، لأنه كثيرا ما يرى الإنسان الرؤيا على غير هذه الوجوه فيقع أثرها وتكون صادقة ، أو لا يقع فتكون كاذبة.

هذا وقد تقدم في كلام شيخنا المفيد قدس‌سره أن بعض أقسام الرؤيا ما يكون ناشئا عن غلبة الطباع بعضها على بعض. ولم أقف له على مستند من الأخبار ، إلّا إن جملة من العلماء قد صرحوا به.

قال بعض فضلائنا المحققين نقلا عن بعض المعبّرين للرؤيا أنه قال : (الرؤيا ثمانية ؛ سبعة لا تعبّر ، ومن السبعة أربعة نشأت من الخلط الغالب على مزاج الرائي : فمن غلب على مزاجه الصفراء رأى الألوان الصفر والطعوم المرة والسموم والصواعق ؛ لأن الصفراء مسخنة مرة.

ومن غلب عليه الدم رأى الألوان الحمر والطعوم الحلوة وأنواع الطرب ؛ لأن الدم مفرح حلو.

ومن غلب عليه البلغم رأى الألوان البيض والمياه والأمطار والثلج.

ومن غلب عليه السواد رأى الألوان السود والأشياء المحرقة والطعوم الحامضة ؛ لأنه طعام السوداء. ويعرف ذلك بالأدلة الطبية الدالة على غلبة ذلك الخلط على الرائي.

والخامس (١) : ما كان عن حديث النفس ، ويعرف ذلك بجولانه في اليقظة ،

__________________

(١) من أنواع المنامات الثمانية.


فيستولي على النفس فيتكلف به ، فيراه في النوم.

والسادس : ما هو من الشيطان ، ويعرف ذلك بكونه فيه حض على أمر تنكره الشريعة ، أو يأمره بجائز يؤول إلى منكر ، كأمره بالحج مثلا ، ويؤدّي إلى تضييع ماله أو عياله أو نفسه.

والسابع : ما كان فيه احتلام.

والثامن : هو الذي يجوز تعبيره ، وهو ما خرج عن هذه السبعة ، و (١) هو ما ينقله ملك الرؤيا من اللوح المحفوظ من أمر الدنيا والآخرة من كل خير وشر ، فإن الله تعالى وكّل ملكا باللوح المحفوظ ينقل لكل واحد من اللوح ما يبيّن ذلك ، علمه من علمه وجهله من جهله) (٢) انتهى.

الثاني : أن ما دل عليه حديث أبي المقداد (٣) المروي من (تفسير العياشي) من خروج النفس حالة النوم وبقاء الروح في البدن ، وكذا حديث ابن عباس وأمثالهما يتوقف بيانه على بيان هذين الفردين المذكورين.

وتحقيق ذلك ما ذكره الإمام الغزالي في كتاب (الأربعين) حيث قال : (الروح هي نفسك وحقيقتك ، وهي أخفى الأشياء عليك .. وأعني بـ (نفسك) : روحك التي [هي] خاصة (٤) الإنسان المضافة إلى الله بقوله (٥) (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (٦) ، وقوله (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) (٧) دون الروح الجسماني اللطيف الذي هو حامل قوة الحس والحركة التي تنبعث من القلب ، وتنتشر (٨) في جملة البدن

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) شرح الكافي (المازندراني) ١١ : ٤٤٧ ـ ٤٤٨.

(٣) في «ح» : المقدام.

(٤) في الأربعين : خاصية.

(٥) في الأربعين : في قوله ، بدل : بقوله.

(٦) الإسراء : ٨٥.

(٧) الحجر : ٢٩ ، ص : ٧٢.

(٨) في «ح» : تنشر.


في تجويف العروق الضوارب ، فيفيض منها نور حس البصر على العين ، ونور السمع على الأذن ، وكذلك سائر القوى والحركات والحواس ، كما يفيض من السراج نور على حيطان البيت إذا ادير في جوانبه.

فإن هذه الروح تتشارك البهائم فيها ، وتنمحق بالموت ؛ لأنه بخار اعتدل نضجه عند اعتدال مزاج الأخلاط ، فإذا انحلّ المزاج بطل كما يبطل النور الفائض من السراج عند انطفاء السراج بانقطاع الدهن عنه أو بالنفخ فيه ، وانقطاع الغذاء عن الحيوان يفسد هذه الروح ؛ لأن الغذاء له كالدهن للسراج ، والقتل له كالنفخ في السراج.

وهذه الروح هي التي يتصرّف في تقويمها وتغذيتها علم الطب. ولا تحمل هذه الروح المعرفة والأمانة ، بل الحامل للأمانة الروح الخاصة للإنسان. ونعني بـ (الأمانة) : تقلد عهدة التكليف بأن يتعرّض لخطر الثواب والعقاب) (١) انتهى.

غاية الأمر أنه عليه‌السلام في هذا الخبر سمى الخارجة نفسا ، والباقية روحا ، ولكن في خبر (المناقب) (٢) قد عكس فسمى الخارجة روحا ، والباقية نفسا.

وفي الخبر المروي عن أبي الحسن عليه‌السلام من كتاب (جامع الأخبار) ، قد أطلق على كل من الخارجة والباقية : الروح ، ولا منافاة.

بقي الكلام في الجمع بين هذه الأخبار وبين باقي الأخبار الدالة على أنها روح واحدة أصلها في البدن ، كرواية (٣) محمد بن القاسم النوفلي (٤) ، ورواية أبي بصير (٥) المنقولة في كتاب (جامع الأخبار) ، حيث دلتا على أنها روح واحدة أصلها في البدن كالشمس المركوزة في الفلك وضياؤها وشعاعها في أقطار

__________________

(١) الأربعين في اصول الدين : ١٦٦.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٩٨.

(٣) في «ح» : كروايات.

(٤) انظر جامع الأخبار : ٤٩٨ / ١٣٦٧.

(٥) انظر جامع الأخبار : ٤٨٨ ـ ٤٨٩ / ١٣٦٠.


الأرض ، وهو ظاهر إطلاق جملة من أخبار (١) الباب.

ولعل اعتبار الاتحاد مبني على زيادة العلاقة وشدة الاتّصال ، وإن كانت الروح الباقية في البدن مركبا للخارجة وقت النوم ، وهي سلطانها المشار إليه في رواية (المناقب) بمعنى ما به تسلّطها واقتدارها على ما تريده ، فهي بمنزلة أصلها الباقي في البدن وقت النوم ، وتلك الخارجة كالشعاع الخارج من جرم الشمس. وهذا هو الأنسب ممّا نقلناه عن الإمام الغزالي.

أو نقول : إن الروح واحدة ، إلّا إن لها قوتين :

إحداهما : ما [بها] الحركة والتنفس ، وهذه هي الباقية في البدن حال النوم.

والثانية : ما [بها] (٢) العقل (٣) والتمييز ، وهي الخارجة في تلك الحال ، والله العالم.

الثالث : ظاهر الآية المتقدمة وأكثر الأخبار ، أن جميع الأرواح وقت النوم مؤمنها وكافرها ترفع إلى السماء ، ويحصل لها الاطلاع على الوجه المتقدم.

إلّا إن أرواح الشيعة والمؤمنين هي المخصوصة بالقرب والبشرى من رب العالمين ، كما صرّح به في حديث أبي بصير (٤) ، ومحمد بن مسلم (٥) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وحديث عمرو بن أبي المقدام المروي في (الكافي) (٦) ، وحديث الحسن بن راشد (٧). ويؤيده ما ورد في عدة أخبار في تفسير قوله تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) (٨) ، حيث قالوا عليهم‌السلام : «أما البشرى في الحياة الدنيا فهي الرؤيا الحسنة يراها المؤمن فيبشّر بها في الدنيا ،

__________________

(١) انظر بحار الأنوار ٥٨ : ١٥٨ ـ ١٩٣.

(٢) في النسختين : به.

(٣) في «ح» : العقد.

(٤) علل الشرائع ١ : ٣٤٣ / ب ٢٣٠ ، ح ١.

(٥) الخصال ٢ : ٦١٣ / ١٠ ، حديث أربعمائة.

(٦) الكافي ٨ : ١٨١ / ٢٥٩.

(٧) الأمالي (الصدوق) : ٦٥٧ / ٨٩١.

(٨) يونس : ٦٣ ـ ٦٤.


وأما قوله (فِي الْآخِرَةِ) فإنها بشارة المؤمن عند الموت يبشر بها عند موته ، أن الله قد غفر لك ولمن يحملك إلى قبرك» (١).

وعلى هذا فالرؤيا الصادقة كما تحصل للمؤمن تحصل للكافر أيضا ، كرؤيا ملك مصر التي حكاها الله سبحانه في كتابه (سَبْعَ بَقَراتٍ) و (سَبْعَ سُنْبُلاتٍ) (٢) ، ورؤيا الفتيين في السجن (٣) ، إلّا إنها في غير المؤمن على جهة الندرة ، لما دلّ عليه بعض الأخبار من اشتراط الصلاح والتقوى في صحة الرؤيا ، ففي كتاب (جامع الأخبار) قال : وفي كتاب (التعبير) عن الأئمّة عليهم‌السلام : «إنّ رؤيا المؤمن صحيحة ؛ لأن نفسه طيبة ويقينه صحيح ، وتخرج [روحه] فتتلقى من الملائكة ، فهي وحي من الله العزيز الجبار» (٤).

وقال عليه‌السلام : «انقطع الوحي وبقي المبشرات ، ألا وهي نوم الصالحين والصالحات» الحديث (٥).

وقد تقدم في الخبر المذكور وكذا في غيره من : «إن الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزءا من النبوة» (٦) ورؤيا غير المؤمن لا تكون كذلك كما سيأتي بيانه في المقام [الرابع] إن شاء الله تعالى.

المقام الثاني : في معنى رؤيتهم عليهم‌السلام

قال شيخنا المفيد ـ عطر الله مرقده ـ في تتمة الكلام المنقول عنه آنفا : (أمّا رؤية الإنسان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو لأحد من الأئمّة عليهم‌السلام في المنام ، فإن ذلك عندي على ثلاثة أقسام : قسم أقطع على صحته ، وقسم أقطع على بطلانه ، وقسم أجوّز فيه الصحة والبطلان :

__________________

(١) البرهان ٢ : ١٩٠ / ٤.

(٢) يوسف : ٤٣.

(٣) إشارة إلى الآية : ٣٦ ، من سورة يوسف.

(٤) جامع الأخبار : ٤٩٠ / ١٣٦٤.

(٥) جامع الأخبار : ٤٩٠ / ١٣٦٥.

(٦) جامع الأخبار ٤٩٠ ـ ٤٩١ / ١٣٦٦.


فأما الذي أقطع على صحته (١) فهو كل منام رؤي فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو أحد الأئمّة عليهم‌السلام ، وهو فاعل لطاعة أو آمر بها ، وناه عن معصية أو مبيّن لقبحها ، وقائل بالحق أو داع إليه ، وزاجر عن باطل أو ذامّ لمن هو عليه.

وأما الذي أقطع على بطلانه ، فهو كل ما كان بضد ذلك ؛ لعلمنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الإمام عليه‌السلام صاحبا حقّ ، وصاحب الحقّ بعيد عن الباطل.

وأما الذي يجوز منه الصحة والبطلان ، فهو المنام الذي يرى فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الإمام عليه‌السلام وليس هو آمرا ولا ناهيا ولا على حال يختصّ بالديانات ، مثل أن يراه راكبا أو ماشيا أو جالسا ، أو نحو ذلك.

فأمّا الخبر الذي روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله : «من رآني ، فإن الشيطان لا يتشبّه بي» ، فإنه إذا كان المراد به المنام يحمل على التخصيص دون أن يكون في كل حال ، ويكون المراد به القسم الأول من الثلاثة الأقسام ؛ لأن الشيطان لا يتشبه بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في شي‌ء من الحقّ والطاعات.

وأما ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله : «من رآني نائما فكأنما رآني يقظان» فإنه يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون المراد به رؤية المنام ، فيكون (٢) خاصا كالخبر الأول على القسم الذي قدمناه.

والثاني : أن يكون أراد به رؤية اليقظة دون المنام ، ويكون قوله : «نائما» حالا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وليست حالا لمن رآه ، فكأنّه قال : من رآني وأنا نائم فكأنما رآني وأنا منتبه.

__________________

(١) وقسم أقطع على بطلانه .. أقطع على صحته ، سقط في «ح».

(٢) في «ح» : ويكون.


والفائدة في هذا المقال أن يعلمهم بأنه يدرك في الحالين إدراكا واحدا ، فيمنعهم ذلك إذا حضروا عنده وهو نائم أن يفيضوا فيما لا يحسن أن يذكر بحضرته وهو منتبه. وقد روي عنه عليه‌السلام أنه غفا ثم قام يصلي من غير تجديد وضوء ، فسئل عن ذلك فقال : «إني لست كأحدكم تنام عيناي ولا ينام قلبي». وجميع هذه الروايات أخبار آحاد ، فإن سلمت فعلى هذا المنهاج.

وقد كان شيخي رحمه‌الله يقول : إذا جاز من بشر أن يدعي في اليقظة أنه إله كفرعون ومن جرى مجراه مع قلة حيلة البشر وزوال اللبس في اليقظة ، فما المانع من أن يدعي إبليس عند النائم بوسوسته له أنه نبي مع تمكن إبليس ممّا لا يتمكن منه البشر وكثرة اللبس المعترض في المنام؟! وممّا يوضح لك أن من المنامات التي يتخيل للإنسان أنه قد رأى فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام [منها] ما هو حق و [منها] ما هو باطل ، أنك ترى الشيعي يقول : رأيت في المنام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومعه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وهو يأمرني بالاقتداء به دون غيره ، ويعلمني أنه خليفته من بعده ، وأن أبا بكر وعمر وعثمان هم ظالموه وأعداؤه ، وينهاني عن موالاتهم ، ويأمرني بالبراءة منهم ، ونحو ذلك مما يختص بمذهب الشيعة. ثم ترى الناصبي يقول رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في النوم ، ومعه أبو بكر وعمر وعثمان ، وهو يأمرني بمحبتهم وينهاني عن بغضهم ويعلمني أنهم أصحابه في الدنيا والآخرة ، وأنهم معه في الجنة ، ونحو ذلك ممّا يختص بمذهب الناصبة. فتعلم لا محالة أن أحد المنامين حق والآخر باطل.

فأولى الأشياء أن يكون الحق منهما ما ثبت بالدليل في اليقظة على صحة ما تضمّنه ، والباطل ما أوضحت الحجة عن فساده وبطلانه ، وليس يمكن الشيعي أن يقول للناصبي : إنك تكذب في قولك إنك رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنه يقدر أن يقول له مثل هذا بعينه.


وقد شاهدنا ناصبيا تشيّع وأخبرنا في حال تشيعه أنه يرى منامات بالضدّ ممّا كان يراه في حال نصبه. فبان بذلك أن أحد المنامين باطل وأنه من نتيجة حديث النفس أو من وسوسة إبليس ، ونحو ذلك. وإن المنام الصحيح هو لطف من الله تعالى بعبده على المعنى المتقدم وصفه.

وقولنا في المنام الصحيح : إن الإنسان إذا رأى في نومه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما معناه : أنه كان قد رآه ، وليس المراد به التحقيق في اتّصال شعاع بصره بجسد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأيّ بصر يدرك به في حال نومه؟ وإنما هي معان تصوّرت في نفسه يخيل له فيها أمر لطف الله تعالى له به قام مقام العلم ، وليس هذا بمناف للخبر الذي روي من قوله : «من رآني فقد رآني ..» ؛ لأن معناه : فكأنما رآني) (١) انتهى كلامه زيد مقامه.

وقال السيد المرتضى رضي‌الله‌عنه في تتمة ما قدمنا نقله عنه في المقام (٢) الأول : (فإن قيل : فما تأويل ما يروى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله : «من رآني فقد رآني فإن الشيطان لا يتخيل بي» ، وقد علمنا أن المحق والمبطل والمؤمن والكافر قد يرون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في النوم ويخبر كل واحد منهم عنه بضد ما يخبر الآخر؟ فكيف يكون رائيا له في الحقيقة مع هذا؟

قلنا : هذا خبر واحد ضعيف من أضعف أخبار الآحاد ، ولا معوّل على مثل ذلك. على أنه يمكن مع تسليم صحته أن يكون المراد به : من رآني في اليقظة فقد رآني على الحقيقة ؛ لأن الشيطان لا يتمثل بي لليقظان ، فقد قيل : إن الشياطين ربما تمثلت بصور البشر. وهذا التشبيه أشبه بظاهر ألفاظ الخبر ؛ لأنه قال : «من رآني فقد رآني ..» ، فأثبت غيره رائيا له ، ونفسه مرئية ، وفي النوم لا رائي له في

__________________

(١) عنه في كنز الفوائد ٢ : ٦٤ ـ ٦٥.

(٢) ليست في «ح».


الحقيقة ولا مرئي ، وإنما ذلك في اليقظة.

ولو حملناه على النوم لكان تقدير الكلام : من اعتقد أنه يراني في منامه ـ وإن كان غير راء له على الحقيقة ـ فهو في الحكم كأنه قد رآني ، وهذا عدول عن ظاهر لفظ (١) الخبر وتبديل (٢) لصيغته) (٣) انتهى.

أقول : أنت خبير بما في كلام هذين العمدتين قدس‌سرهما ، ولكنه مبنيّ على ما تقدم نقله عنها في المقام الأول من منع صحة الرؤية في المنام ، وسيأتيك إن شاء الله تعالى في المقام ما يظهر به ما فيه ، ويكشف عن باطنه وخافيه.

ثم إنه قد اختلف العلماء من الخاصة والعامة في أن المراد : رؤيتهم عليهم‌السلام في صورهم الأصلية ، أو بأي صورة كانت. وظاهر الأكثر من الطرفين هو الرؤية بأيّ صورة كانت. والأخبار الواردة في المقام محتملة للأمرين. وكيف كان فالكلام هنا يقع في موضعين :

أحدهما : في كون هذه الرؤية هل هي على سبيل الحقيقة ، بمعنى أن الرائي له صلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام مثل الرائي له (٤) في اليقظة؟

ظاهر الأخبار ذلك ؛ لأن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من رآني فقد رآني ..» معناه في حال نومه فقد رآني حقيقة كما أنا عليه في اليقظة. قال في (النهاية) : (الحق ضد الباطل ، ومنه الحديث : «من رآني فقد رأى الحق ..» ، أي رؤيا صادقة ، ليست من أضغاث الأحلام. وقيل : فقد رآني حقيقة غير مشبّه) (٥) انتهى.

__________________

(١) في «ح» : لفظه.

(٢) ليست في «ح».

(٣) لم نعثر عليه في الغرر والدرر ، بل هو موجود بنصّه في رسائل الشريف المرتضى (المجموعة الثانية) : ١٢ ـ ١٣ ، ونقله عنه في الغرر والدرر المجلسي في مرآة العقول ٢٥ : ٢١٢ ـ ٢١٣.

(٤) ليست في «ح».

(٥) النهاية في غريب الحديث والأثر ١ : ٤١٣ ـ حقق.


وقد عرفت في كلام الشيخ المفيد من تأويله الخبر بقوله : (فكأنما رآني) ، وحمله الرؤية على تخيّل صورته في نفس الرائي.

وقال شيخنا المجلسي ـ عطر الله مرقده ـ في كتاب (البحار) بعد نقل جملة من كلمات العامة الدالة على حمل الرؤية على الحقيقة ما صورته : (والظاهر أنها ليست رؤية بالحقيقة ، وإنّما هو بحصول الصورة في الحس المشترك أو غيره بقدرة الله تعالى.

والغرض من هذه العبارة بيان حقيّة (١) الرؤيا ، وأنها من الله لا من الشيطان.

وهذا المعنى هو الشائع في مثل هذه العبارة ، كأن يقول رجل : من أراد أن يراني فلير فلان ، أو من رأى فلان فقد رآني ، أو من وصل فلان فقد وصلني. فإن كل هذه محمولة على التجوز والمبالغة ، ولم يرد بها معناها حقيقة) (٢) انتهى.

ولا يخفى بعده :

أما أولا ، فلما رواه في كتاب (كمال الدين) من أنه روى في الأخبار الصحيحة ، عن أئمّتنا عليهم‌السلام : أن من رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أو أحدا من الأئمّة ـ صلوات الله عليهم ـ قد دخل مدينة أو قرية في منامه ، فإنه أمن لأهل المدينة أو القرية ممّا يخافون ويحذرون ، وبلوغ لما يأملون ويرجون. فإن ترتّب هذه الامور على مجرد وجود الصورة في الحس المشترك ونحوه بعيد غاية البعد.

وأمّا ثانيا ، فلما تقدم من أن الرؤيا الصادقة عبارة عما تراه الروح بعد خروجها من الجسد حال النوم وصعودها إلى الملكوت ، فكل ما رأته (٣) فهو حق. وهذا القائل قد اعترف بذلك في الكتاب المشار إليه ، فما المانع من أن تتّصل بأحد

__________________

(١) في «ح» : حقيقة.

(٢) بحار الأنوار ٥٨ : ٢٣٧.

(٣) في «ح» بعدها : ثمّة.


منهم ـ صلوات الله عليهم ـ وهم في ذلك العالم بلا ريب؟

ولما (١) ورد في الأخبار من أنهم ـ صلوات الله عليهم ـ ينقلون بعد الدفن بأجسادهم الشريفة إلى السماء (٢) ، وأن الزائر إنما يزور مواضع قبورهم ، فهم أحياء في السماء منعّمون كما كانوا في الدنيا ، فأيّ مانع من اتّصال الروح بهم هناك حينئذ (٣)؟

وأما ثالثا ، فلا ريب أن الأخبار قد استفاضت بأنه ما من ميت يموت في شرق الأرض ولا غربها إلّا ويرى حال موته النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين عليه‌السلام ، وليست هذه الرؤية بحاسة البصر ؛ لشمول ذلك للأعمى ، ومن تعطل بصره في تلك الحال ، بل الرؤية إنما هي بهذه الروح التي تصعد وقت النوم ، وهذه الرؤية حال النوم على حسب تلك الرؤية حال الموت. ولا أظن هذا القائل يلتزم التجوز في رؤيتهما ـ صلوات الله عليهما ـ حال الموت ، لاستفاضة الأخبار وصحّتها وصراحتها بكون الرؤية حقيقة.

غاية الأمر أن في المقام إشكالا مذكورا في محله من أنه كيف يمكن القول بحضورهم عليهم‌السلام على جهة الحقيقة مع جواز أن يموت في ساعة واحدة ألوف من الناس في أطراف الأرض من شرقها وغربها وشمالها وجنوبها؟

وهذا مجرد استبعاد عقلي ، فإنا لمّا قام لنا الدليل على ذلك ، وجب علينا القول به ، وبيان كيفية ذلك غير واجب علينا ، فإن ذواتهم المقدّسة عليها مسحة من الذات الإلهية التي تاهت في بيداء معرفتها العقول ، وضلّت في الوصول إلى حقيقتها ألباب الفحول ، ونورهم الذي خلقوا منه منشعب من نور ذاته السبحانية ،

__________________

(١) عطف على قوله : فلما تقدّم المارّ في أوّل الفقرة السابقة.

(٢) بصائر الدرجات : ٤٤٥ / ب ١٣ ، ح ٩ ، بحار الأنوار ٢٧ : ٢٩٩ / ٣.

(٣) ليست في «ح».


ومشتق من لوامع تلك البروق الصمدانية. ولذا ورد في الخبر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يا علي ، ما عرف الله إلّا أنا وأنت ، ولا عرفني إلّا الله وأنت ، ولا عرفك إلّا الله وأنا» (١) ، وهذه المعرفة جارية (٢) فيهما وفي أبنائهما المعصومين ، صلوات الله عليهم أجمعين.

وحينئذ ، فلا مطمع للوقوف على كنه حقائقهم [و] ذواتهم (٣) المقدّسة كسائر الأنام ، وقياسهم على غيرهم من البشر في أمثال هذه الأحكام. ومن نظر إلى عباداتهم وأذكارهم وتسبيحهم في عالم الأرواح ، علم أنه لا مساح له عما ذكرنا ولا براح.

الثاني : أنه كيف يمكن القول بهذا الخبر على إطلاقه ، وهو يستلزم التناقض الذي نبه عليه شيخنا المفيد ، وسيدنا المرتضى ـ رضي‌الله‌عنهما ـ من رؤية المحقّ والمبطل ، والمؤمن والكافر له صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإخبار كل منهم عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله بما يوافق اعتقاده؟

والجواب عن ذلك أنه لا بدّ من تخصيص الخبر المذكور برؤيا المؤمن خاصة لما عرفت آنفا من اشتراط صحة الرؤيا غالبا بالإيمان والصلاح والتقوى ، وإن فرضنا صدق رؤيا غيره فهو نادر ، فيحمل الخبر على ما هو الأكثر الغالب. ومثل هذا الحمل غير عزيز في الأخبار كما لا يخفى على من جاس خلال تلك الديار.

قال القرطبي من علماء المخالفين في شرح قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزءا من النبوة» : (الرؤيا لا تكون جزءا من النبوة إلّا إذا وقعت من مسلم صالح صادق ؛ لأنّه الذي يناسب حاله حال النبي ، وكفى بالرؤيا شرفا أنها نوع ممّا أكرمت به الأنبياء ، وهو الاطلاع على شي‌ء من علم الغيب ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لم

__________________

(١) مشارق أنوار اليقين : ١١٢ ، وفيه : ما عرفك إلّا الله وأنا ، وما عرفني إلّا الله وأنت ، وما عرف الله إلّا أنا وأنت.

(٢) من «ح».

(٣) في «ح» : حقائق ذواتهم ، بدل : حقائقهم وذواتهم.


تبق من مبشرات النبوة إلّا (١) الرؤيا الصادقة يراها الرجل المسلم».

وأما الكافر والكاذب والمخلط وإن صدقت رؤياهم في بعض الأحيان ، فلأنها (٢) لا تكون من الوحي ولا من النبوة ؛ إذ ليس كل من صدق في حديث عن غيب يكون خبره نبوة ، بدليل الكاهن والمنجم ، فإن أحدهم قد يحدث ويصدق ، لكن على الندرة. وكذلك الكافر قد تصدق رؤياه ، كرؤيا العزيز سبع بقرات (٣) ، ورؤيا الفتيين في السجن (٤). ولكن ذلك قليل بالنسبة إلى مناماتهم المخلّطة الفاسدة) (٥) انتهى.

وأما ما ذكره شيخنا المفيد قدس‌سره من التقسيم ، فظني أن شكله عقيم ؛ إذ لا مانع من أن يتصور إبليس بصورته صلى‌الله‌عليه‌وآله في حال الأمر بالطاعة والنهي عن المعصية. وقوله : (لأن الشيطان لا يتشبه بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في شي‌ء من الحق والطاعات) مجرد دعوى ؛ فإنه إذا جوّز تصوره بصورته في إحدى الحالين جاز في الحالة الاولى ، والتلبس بالطاعة وعدمها لا يصلح للفرق ، ولا سيما بناء على ما ذكره من أن رؤيته صلى‌الله‌عليه‌وآله إنما هي عبارة عن معان تصوّرت في نفس الرائي يخيّل إليه منها أنه رآه.

المقام الثالث : في حجّية قول المعصوم في المنام

في أنه هل يكون ما يراه الرائي ويسمعه من فعله عليه‌السلام وقوله حجة في الأحكام الشرعية أم لا؟ لم أقف لأحد في ذلك على كلام إلّا لشيخنا العلّامة ـ أجزل الله تعالى إكرامه ـ في أجوبة مسائل السيد السعيد مهنا بن سنان المدني رحمه‌الله حيث قال : (ما يقول سيدنا فيمن رأى في منامه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو بعض الأئمّة عليهم‌السلام ، وهو

__________________

(١) في «ق» بعدها : ان ، وما اثبتناه وفق «ح» والمصدر.

(٢) في «ح» : فإنها.

(٣) إشارة إلى الآية : ٤٣ من سورة يوسف.

(٤) إشارة إلى الآية : ٣٦ من سورة يوسف.

(٥) الجامع لأحكام القرآن ٩ : ١٢٤ ـ ١٢٥ ، عنه في شرح الكافي (المازندراني) ١١ : ٤٤٥.


يأمره بشي‌ء أو ينهاه عن شي‌ء؟ هل يجب عليه امتثال ما أمر به أو اجتناب ما نهاه عنه أم لا يجب ذلك مع ما صح عن سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : «من رآني في منامه فقد رآني (١) ، فإن الشيطان لم يتمثل بي» ، وغير ذلك من الأحاديث (٢)؟

وما قولكم ، لو كان ما أمر به أو نهى عنه على خلاف ما في أيدي الناس من ظاهر الشريعة ، هل بين الحالين فرق أم لا؟ أفتنا في ذلك مبيّنا ، جعل الله كل صعب عليك هيّنا).

فأجاب ـ نوّر الله مرقده ، وأعلى الله مقعده ـ : (أما ما يخالف الظاهر فلا ينبغي المصير إليه ، وأما ما يوافق الظاهر فالأولى المتابعة من غير وجوب ؛ لأن رؤيته عليه‌السلام لا تعطي وجوب الاتباع في المنام) (٣) انتهى.

أقول : لا يخفى ما في كلام السائل والمسؤول من التأييد لما قدمناه ، من كون رؤيته صلى‌الله‌عليه‌وآله في المقام رؤية حقيقة ، لا أنها عبارة عن مجرّد حصول الصورة في الحس المشترك الذي هو عبارة عن مجرد تخيّله وتصوره ؛ إذ مجرد التخيّل والتصوّر لا يصح أن يترتب عليه حكم شرعي لا وجوبا ولا استحبابا.

وحاصل جواب العلّامة قدس‌سره أنه وإن كان قد رآه في المنام إلّا إنه لم يقم دليل على وجوب الاتباع في الرؤية النومية. وهو جيد :

أما أولا ، فلأن الأدلة الدالة على وجوب متابعتهم وأخذ الأحكام عنهم ـ صلوات الله عليهم ـ إنما تحمل على ما هو المعروف المتكرر دائما ؛ لما حققناه في غير موضع من زبرنا ومصنفاتنا من أن الأحكام المودعة في الأخبار إنما تحمل على الأفراد المتكررة الكثيرة الدوران ، فإنها هي التي ينصرف إليها

__________________

(١) فقد رآني ، من «ح» والمصدر.

(٢) انظر في هذا الحديث وغيره بحار الأنوار ٥٨ : ٢٣٤ ـ ٢٤٤.

(٣) أجوبة المسائل المهنائية : ٩٧ ـ ٩٨ / المسألة : ١٥٩.


الإطلاق دون الفروض النادرة الوقوع. ولا ريب أن الشائع الذائع المتكرر إنّما هو أخذ الأحكام منهم حال اليقظة.

وأما ثانيا ، فإن الرؤيا وإن كانت صادقة فإنها قد تحتاج إلى تأويل وتعبير ، وهو لا يعرفه ، فالحكم بوجوب العمل بها والحال كذلك مشكل.

وأما ثالثا ، فلأن الأحكام الشرعية إنما بنيت على العلوم الظاهرة ، لا على العلم بأي وجه اتفق ، ألا ترى أنهم عليهم‌السلام إنما يحكمون في الدعاوى بالبينات والأيمان وربما عرفوا المحقّ من المبطل واقعا ، وربما عرفوا كفر المنافقين وفسق الفاسقين ونجاسة بعض الأشياء بعلومهم المختصة بهم؟ إلّا إن الظاهر أنهم ليسوا مأمورين بالعمل بتلك العلوم في أحكام الشريعة ، بل إنما يعملون على ظاهر علوم الشريعة ، وقد روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنا نحكم بالظاهر ، والله المتولّي للسرائر» (١).

وأما رابعا ، فلما ورد بأسانيد متعدّدة عن الصادق عليه‌السلام ، في أحاديث الأذان : «إنّ الله تبارك وتعالى أعزّ من أن يرى في النوم» (٢).

المقام الرابع : في معنى أن الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزءا من النبوّة

قد تضمّن الخبر المذكور أن الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزءا من النبوة ، وقد ورد هذا المضمون في جملة من أخبار الخاصّة والعامّة ففي (الكافي) عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول : «رأى المؤمن ، ورؤياه في آخر الزمان جزء من سبعين جزءا من (٣) النبوة» (٤).

__________________

(١) إيضاح الفوائد ٣ : ٤٨٦ ، الإحكام في اصول الأحكام ١ : ٢٣٨ / المسألة : ٢٥ ، ٢ : ٣٤٤ / المسألة : ٨ ، ٤ : ٣١٨ / المسألة : ٥٣.

(٢) علل الشرائع ٢ : ٥ / ب ١ ، ح ١ ، بحار الأنوار ٧٩ : ٢٣٧ / ١.

(٣) في المصدر بعدها : أجزاء.

(٤) الكافي ٨ : ٧٦ / ٥٨.


وفي كتاب (المؤمن) للحسين بن سعيد بإسناده عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «[إنّ المؤمن رؤياه] (١) جزء من سبعين جزءا من النبوة ، ومنهم من يعطى على الثلاث» (٢).

قال بعض مشايخنا ـ عطر الله مراقدهم ـ : (إن معنى قوله : «ومنهم من يعطى على الثلاث» أن بعض الكمّل من المؤمنين يكون رأيه ورؤياه ثلاثة من أجزاء النبوة) (٣) انتهى.

وفي كتاب (جامع الأخبار) عنه عليه‌السلام : «ولقد حدّثني أبي عن جدي عن أبيه عليه‌السلام أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من رآني في منامه فقد رآني ؛ فإنّ الشيطان لا يتمثل في صورتي ولا في صورة أحد من أوصيائي ولا في صورة أحد من شيعتهم. وإنّ الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزءا من النبوة» (٤).

وأكثر أخبار العامة دلّت على أنّها جزء من ستة وأربعين جزءا (٥).

والكلام هنا في موضعين :

أحدهما : في معنى كون الرؤيا الصادقة جزءا من أجزاء النبوة ، فقيل : (إن المراد : الإشارة إلى أن الرؤيا الصادقة من المؤمن الصالح في الصدق والصحة كالنبوة (٦) ؛ لما فيها من الإعلام الذي هو على معنى النبوة على أحد الوجهين. وقد قال كثير من الأفاضل : إن للرؤية الصادقة ملكا وكّل بها ، يرى الرائي من ذلك ما فيه من تنبيه على ما يكون له ، أو يقدّر عليه من خير أو شر.

وهذا معنى النبوة ؛ لأن النبي إما (فعيل) بمعنى مفعول ، أي يعلمه الله ويطلعه في

__________________

(١) من المصدر : وفي «ح» : رأى المؤمن.

(٢) المؤمن : ٣٥ / ٧١.

(٣) بحار الأنوار ٥٨ : ١٩١.

(٤) جامع الأخبار : ٤٩٠ / ١٣٦٦.

(٥) صحيح البخاري ٦ : ٥٦٢ ـ ٢٥٦٤ / ٦٥٨٢ ، ٦٥٨٦ ـ ٦٥٨٨ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٢٨٢ / ٣٨٩٣ ـ ٣٨٩٤.

(٦) كذا في النسختين ، وفي المصدر ، جزء من أجزاء النبوّة ، بدل : في الصدق والصحّة كالنبوّة.


منامه من غيبه ما لا يظهر عليه أحدا إلّا من ارتضى من رسول ؛ أو بمعنى فاعل كـ (عليم) ، أي يعلم غيره بما القي عليه. وهذا أيضا صورة صاحب الرؤيا) (١). وقد تقدم من كلام القرطبي في المقام الثاني ما يؤيد ذلك.

وقيل : (المراد أنّها جزء من أجزاء علم النبوة ، وعلم النبوة باق وإن كانت النبوة غير باقية) (٢).

وقيل : (إنما كانت جزءا من النبوة في حق الأنبياء دون غيرهم) (٣).

قال ابن الأثير في (النهاية) : (الجزء : القطعة والنصيب من الشي‌ء ومنه الحديث : «الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة» ، وإنّما خصّ هذا العدد ؛ لأن عمره صلى‌الله‌عليه‌وآله في أكثر الروايات الصحيحة كان ثلاثا وستين سنة ، وكانت مدة نبوته منها ثلاثا وعشرين سنة ، لأنه بعث عند استيفاء الأربعين.

وكان في أوّل الأمر يرى الوحي في المنام ودام كذلك نصف سنة ، ثم رأى الملك في اليقظة ، فإذا نسبت مدّة الوحي في النوم وهي نصف سنة إلى مدة نبوته وهي ثلاث وعشرون سنة كانت نصف جزء من ثلاثة وعشرين جزء ، وذلك جزء واحد من ستة وأربعين جزءا) (٤) انتهى.

وظاهر كلامه ـ كما ترى ـ حمل الخبر على المعنى الأخير ، ولكن قد أورد عليه أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يوحى إليه في سائر أيّام حياته في النوم في أحكام الشريعة ، وأنه يرى الرؤيا كما دلّت عليه الآيات من قوله عزوجل (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ) (٥) ، وقوله عزوجل (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلّا فِتْنَةً لِلنّاسِ) (٦).

__________________

(١) شرح الكافي (المازندراني) ١١ : ٤٤٥.

(٢) انظر مرآة العقول ٢٥ : ٢٠٤.

(٣) شرح السنة ٧ : ١٤٨.

(٤) النهاية في غريب الحديث والأثر ١ : ٢٦٥ ـ جزأ.

(٥) الفتح : ٢٧.

(٦) الإسراء : ٦٠.


وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لهم يوم احد : «رأيت في سيفي ثلمة ، ورأيت كأني مردف كبشا» (١) ، فتأول ثلمة السيف أنه يصاب في أصحابه ، وأنه يقتل كبش القوم. ومتى اضيفت هذه الروايات إلى ما ذكره بطلت القسمة وسقط الحساب الذي (٢) ذكره (٣).

وبالجملة ، فالظاهر حمل الخبر على أحد المعنيين اللذين ذكرناهما أولا لا غير.

وثانيهما : في بيان السبب لهذه النسبة المخصوصة ـ أعني : كونها جزءا من سبعين جزءا ـ فقيل : يحتمل أن تكون هذه التجزئة من طريق الوحي ، وأن (٤) منه ما سمع من الله تعالى بدون واسطة ، كما قال الله تعالى (مِنْ وَراءِ حِجابٍ) (٥) ، ومنه ما سمع بواسطة الملك ، ومنه ما يلقى في القلب ، كما قال تعالى (إِنْ هُوَ إِلّا وَحْيٌ يُوحى) (٦) أي إلهام ، ومنه ما يأتي به الملك وهو (٧) على صورته ، ومنه ما يأتيه به وهو على صورة آدمي ، ومنه ما يأتيه في منامه بحقيقته ، ومنه ما يأتيه تمثال أحيانا يسمع الصوت ويرى الضوء ، ومنه ما يأتيه كصلصلة الجرس ، ومنه ما يلقيه روح القدس في روعه ، إلى غير ذلك ممّا وقفنا عليه ومما لم نقف عليه.

ويكون مجموع الطرق سبعين ، ولا يلزم أن نبيّن تلك الأجزاء كملا ؛ لأنه لا يلزم العلماء أن يعلموا كلّ شي‌ء جملة وتفصيلا ، وقد جعل الله سبحانه لهم في ذلك حدا يوقف عنده ؛ فمنها ما لا يعلم أصلا ، ومنها ما يعلم جملة ولا يعلم تفصيلا ـ وهذا منه ـ ومنها ما يعلم جملة وتفصيلا ، لا سيما فيما طريقه السمع وبيّنه الشارع.

__________________

(١) كنز العمّال ١٥ : ٣٨٠ / ٤١٤٦٧ ، وفيه : رأيت كأني مردف كبشا ، وكأن ظبة سيفي انكسرت.

(٢) ليست في «ح».

(٣) شطب عنها في «ح».

(٤) في «ح» : فان.

(٥) الأحزاب : ٥٣ ، الشورى : ٥١.

(٦) النجم : ٤.

(٧) من «ح».


وقيل : (مجموع خصال النبوة سبعون وإن لم يعلمها تفصيلا ومنها الرؤيا ، والمنام الصادق من المؤمن خصلة واحدة لها هذه النسبة مع تلك الخصال) (١).

أقول : ولا يبعد عندي أن يكون ذكر السبعين إنما خرج مخرج التمثيل ، كما قيل في قوله سبحانه (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) (٢) ، وكذا قيل في قوله تعالى (ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً) (٣) ، أي طويلة. وحينئذ ، فلا ضرورة إلى هذه التكلفات ، والله العالم.

المقام الخامس : في أنه هل تكون رؤيا المعصوم شيطانية؟

قد روى الثقة الجليل علي بن إبراهيم القمي في تفسيره في تفسير قوله تعالى : (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ) (٤) ـ الآية ـ عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «كان سبب نزول هذه الآية أن فاطمة عليها‌السلام رأت في منامها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله همّ أن يخرج هو وفاطمة وعلي والحسن والحسين ـ صلوات الله عليهم ـ من المدينة ، فخرجوا حتى جاوزوا من حيطان المدينة ، فعرض لهم طريقان ، فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات اليمين حتى انتهى إلى موضع فيه نخل وماء ، فاشترى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شاة [كبراء] وهي التي في أحد اذنيها نقط بيض ، فأمر بذبحها ، فلما أكلوا ماتوا في [مكانهم] (٥) منامهم ، فانتبهت فاطمة عليها‌السلام باكية ذعرة ، فلم تخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك.

فلما أصبحت جاء (٦) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بحمار ، فأركب عليه فاطمة عليها‌السلام ، وأمر أن يخرج أمير المؤمنين عليه‌السلام والحسن والحسين عليهما‌السلام من المدينة كما رأت فاطمة عليها‌السلام في نومها ، فلما خرجوا من حيطان المدينة عرض لهم طريقان فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات اليمين

__________________

(١) شرح الكافي (المازندراني) ١١ : ٤٤٦.

(٢) التوبة : ٨٠.

(٣) الحاقة : ٣٢.

(٤) المجادلة : ١٠.

(٥) من المصدر ، وفي النسختين : منامهم.

(٦) ليست في «ح».


كما رأت فاطمة عليها‌السلام ، حتى انتهوا إلى موضع فيه نخل وماء ، فاشترى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شاة كما رأت فاطمة عليها‌السلام فأمر بذبحها فذبحت وشويت ، فلمّا أرادوا أكلها قامت فاطمة وتنحت ناحية منهم ، تبكي مخافة أن يموتوا ، فطلبها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى وقع عليها وهي تبكي ، فقال : ما شأنك يا بنية؟ قالت : يا رسول الله ، رأيت البارحة كذا وكذا في نومي وقد فعلت أنت كما رأيته ، فتنحيت عنكم لئلا أراكم تموتون.

فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فصلى ركعتين ، ثم ناجى ربه ، فنزل عليه جبرئيل فقال : يا محمد هذا شيطان يقال له الزها ، وهو الذي أرى فاطمة هذه الرؤيا ، ويؤذي (١) المؤمنين في نومهم بما يغتمون به.

فأمر جبرئيل عليه‌السلام فجاء به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فقال له : أنت الذي أريت فاطمة هذه الرؤيا؟ فقال : نعم يا محمد. فبزق عليه ثلاث بزقات ، فشجّه في ثلاثة مواضع.

ثم قال جبرئيل لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا محمد (٢) إذا رأيت في منامك شيئا تكرهه ، أو رأى أحد من المؤمنين ، فليقل : أعوذ بما عاذت به ملائكة الله المقربون وأنبياء الله المرسلون وعباده الصالحون من شر ما رأيت من رؤياي. ويقرأ الحمد والمعوذتين ، و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (٣) ؛ ويتفل عن يساره ثلاث تفلات ، فإنه لا يضره ما رأى ، فأنزل الله على رسوله (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ) الآية» (٤).

ووجه الإشكال في هذا الخبر من وجهين :

أحدهما : ما يدل عليه بظاهره من تمثل الشيطان بصورهم عليهم‌السلام ، لتصريح الخبر بأن الشيطان المذكور هو الذي أرى فاطمة عليها‌السلام هذه الرؤيا. وقد دل الخبر المذكور وغيره على أن الشيطان لا يتمثّل بصورة أحدهم ، بل ولا أحد من شيعتهم كما عرفت.

__________________

(١) كذا في المصدر ، والظاهر أنها : يري.

(٢) قوله عليه‌السلام : يا محمد ، ليس في «ح».

(٣) الإخلاص : ١.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٣٦٧ ـ ٣٦٨.


وثانيهما : كون رؤيا المعصوم شيطانيا ، وتسلط الشيطان عليه في المنام ، وهو مناف لشرف (١) عصمتهم ـ صلوات الله عليهم ـ وقد وقفت على كلام لبعض مشايخنا المتأخّرين يتضمن الجواب عن الإشكال الثاني ، قال قدس‌سره بعد نقل الخبر المذكور : (وتعرض الشيطان لفاطمة عليها‌السلام ، وكون منامها المضاهي للوحي شيطانيا وإن كان بعيدا ، ولكن باعتبار عدم بقاء الشبهة وزوالها سريعا ، وترتب المعجز من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك ، والمنفعة المستمرة للامة ببركتها يقل الاستبعاد. والحديث مشهور متكرر في الاصول) (٢) انتهى.

وأما الإشكال الأول فلم أقف على كلام لأحد يتضمن ذكره فضلا عن الجواب عنه ، ويخطر بالبال الفاتر والخيال القاصر أحد وجهين :

الأول : أنه لعل ما دلّت عليه الأخبار المتقدمة من أن الشيطان لا يتصور في صورة أحد منهم عليهم‌السلام ، إنما وقع بعد هذه القضية ، إلّا إنه لا يخلو من بعد.

الثاني : أن يخص تعرض الشيطان لها عليها‌السلام في المنام بإراءته لها أنهم قد ماتوا بعد الأكل ، وإلّا فجميع ما رأته كان حقّا وصدقا ، والذي تخلف منه إنما هو رؤيتها لموتهم بعد الأكل.

وحينئذ ، فيحمل قولهم في الخبر إن الشيطان أراها عليها‌السلام هذه الرؤيا على هذا القدر منها. وباب التجوز واسع كما لا يخفى ، وظني قرب هذا الجواب ، وأنه لا يعدل عنه في الباب ، والله العالم.

__________________

(١) في «ح» : بشرف.

(٢) بحار الأنوار ٥٨ : ١٨٨ / ٥٣.


(٣٥)

درّة نجفيّة

حكم محاذاة ضريح المعصوم عليه‌السلام في الصلاة

قد اشتهر في هذه الأيام ـ لاندراس العلم وشيوع الجهل بين الأنام ـ المنع من الصلاة بجنب الشبكة التي تحاذي رأس مولانا الحسين عليه‌السلام بحيث يكون المصلّي مسندا ظهره إلى الجدار ، وحكم جماعة ممن يدعي أنه من أهل العلم من أهل البلاد ببطلان الصلاة في الموضع المذكور ؛ بدعوى أنه يلزم من ذلك مساواة القبر الشريف ، ومساواته حال الصلاة غير جائزة ، وشنعوا على من يصلي في هذا المكان أتم التشنيع ، ورموه بالذم الفظيع ، وتبعهم على ذلك أكثر الرعاع الذين هم كالأغنام العديمي العقول والأفهام.

وأنا مبين في هذه المقالة ، وموضح في هذه العجالة ضعف ما ذهبوا إليه ، وبطلان ما اعتمدوا عليه ، وأن ما ذكروه إنما نشأ عن عدم إعطاء التأمل حقه في الأخبار ، وعدم الاطلاع على كلام من تقدم من العلماء الأبرار ، وليس القصد في علم الله سبحانه إلّا إلى تحقيق الحق واليقين ، وتمييز الغث من السمين ، وإزالة هذه الشبهة عن قلوب المؤمنين ، فأقول : إن ما ذهبوا إليه باطل من وجوه :

الأول : أن الأصل في العبادة الصحة حتى يقوم دليل الإبطال ، وليس فليس. أما دعوى أصالة الصحة في العبادة [فهي] (١) ممّا لا يمتري [فيها] (٢) من له ذوق

__________________

(١) في النسختين : فهو.

(٢) في النسختين : فيه.


العلم ، ولا يخفى على ذي رؤية ممن شم رائحة الفهم.

وأما عدم دليل على الإبطال ، فلأنه ليس لهم ممّا يمكن أن يتشبثوا به إلّا التوقيع المروي في كتاب (الاحتجاج) عن الحميري أنه كتب إلى الإمام القائم عليه‌السلام ، يسأله : هل يجوز لمن صلى عند بعض قبورهم عليهم‌السلام أن يقوم وراء القبر ويجعل القبر قبلة ، أم يقوم عند رأسه أو رجليه؟ وهل يجوز (١) أن يتقدم القبر ويصلي ويجعل القبر خلفه أم لا؟ فأجاب عليه‌السلام : «وأما الصلاة فإنها خلفه ، ويجعل القبر أمامه ، ولا يجوز أن يصلي بين يديه ولا عن يمينه ولا عن يساره ؛ لأن الإمام عليه‌السلام لا يتقدّم ولا يساوى» (٢).

والجواب عنه أن هذا الحديث وإن كان يدلّ على ما ذكروه من النهي عن المساواة ، إلّا إن الشيخ ـ رضوان الله عليه ـ قد روى هذا الخبر عن (٣) الحميري أيضا في (التهذيب) بسند صحيح ، وفيه جوابا عن السؤال المذكور ما صورته : «وأما الصلاة فإنها خلفه يجعله الإمام ، ولا يجوز أن يصلي بين يديه ؛ لأن الإمام لا يتقدم ، ويصلّى عن يمينه وشماله» (٤) ، وهو ـ كما ترى ـ ظاهر في جواز المساواة كما تدل عليه الأخبار الآتية.

وبذلك أيضا صرّح شيخنا البهائي ـ عطر الله مرقده ـ في كتاب (الحبل المتين) حيث قال ـ بعد نقل الخبر المذكور بطوله ـ : (هذا الخبر يدل على عدم جواز وضع الجبهة على قبر الإمام عليه‌السلام).

إلى أن قال : (وعلى عدم جواز التقدم على الضريح المقدس حال الصلاة ؛ لأن قوله عليه‌السلام : «يجعله الإمام» صريح في جعل القبر بمنزلة الإمام في الصلاة ، فكما أنه

__________________

(١) لمن صلّى عند بعض قبورهم .. وهل يجوز ، من «ح» والمصدر.

(٢) الاحتجاج ٢ : ٥٨٣ / ٣٥٧.

(٣) من «ح».

(٤) تهذيب الأحكام ٢ : ٢٢٨ / ٨٩٨.


لا يجوز للمأموم أن يتقدم على الإمام بأن يكون موقفه أقرب إلى القبلة من موقف الإمام ، بل يجب أن يتأخر عنه أو يساويه في الموقف يمينا وشمالا فكذا هنا. وهذا هو المراد بقوله عليه‌السلام : «ولا يجوز أن يصلي بين يديه ؛ لإن الإمام لا يتقدم ، ويصلي عن يمينه وشماله».

والحاصل أن المستفاد من الحديث ، أن كل ما ثبت للمأموم من وجوب التأخر عن الإمام أو المساواة له ، وتحريم التقدم عليه ثابت للمصلي بالنسبة إلى الضريح المقدّس من غير فرق ، فينبغي لمن يصلي عند رأس الإمام عليه‌السلام أو عند رجليه أن يلاحظ ذلك.

وقد نبهت على هذا جماعة من إخواني المؤمنين في المشهد المقدس الرضوي ـ على مشرفه السّلام ـ فإنهم كانوا يصلّون في الصفة التي عند رأسه عليه‌السلام صفين ، فبينت لهم أن الصفّ الأول أقرب إلى القبلة من الضريح المقدس ، على صاحبه السّلام. وهذا ممّا ينبغي ملاحظته لمن يصلي في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكذا في سائر المشاهد المقدسة على ساكنيها أفضل التسليمات) (١) انتهى كلامه ، زيد مقامه ، وعلت في الخلد أقدامه.

وهو ظاهر الجودة والرشاقة لمن رغب لتحقيق الحق واشتاقه ، صريح الدلالة واضح المقالة في أن الممنوع شرعا إنما هو التقدم على الضريح المقدس ـ على ساكنه الصلاة والسّلام ـ دون المساواة والتأخّر.

وهذا الكلام قد نقله عنه شيخنا المجلسي قدس‌سره في كتاب الصلاة من (البحار) (٢) ، ولم يعترضه بشي‌ء ، وهو مؤذن بميله إليه واعتماده عليه ، وربما (٣) يتوهم أو

__________________

(١) الحبل المتين : ١٥٨ ـ ١٥٩.

(٢) بحار الأنوار ٨٠ : ٣١٥.

(٣) في «ح» : وما ربّما.


يتمحل من احتمال عطف «ويصلي» على قوله : «ولا يجوز أن يصلي» أو على قوله : «لا يتقدم» ، وهو (١) تعسف ظاهر عند ذوي الأفهام ، بل ممّا يجلّ عنه كلام الإمام الذي هو إمام الكلام ؛ إذ لا يخفى على من عضّ على البلاغة بضرس قاطع ، وتتبع كلام البلغاء في جملة المواضع أن المتبادر من قول القائل : ما جاءني زيد وجاءني عمرو ، إنما هو نفي المجي‌ء عن زيد مع إثباته لعمرو ، لا نفيه عنه أيضا.

ومتى أريد نفي المجي‌ء عن عمرو اعيدت أداة النفي ، فقيل : ما جاءني زيد ولا عمرو (٢) ، كما هو مذكور في الرواية التي استند إليها الخصم.

وحينئذ ، فإذا كان الشيخ قدس‌سره قد روى الرواية المذكورة بهذا اللفظ الدال على جواز المساواة ـ ومما لا ريب فيه عند المحدّثين ولا خلاف فيه بين المحققين ، هو ترجيح العمل بروايات الكتب الأربعة التي عليها المدار في جميع الأعصار والأمصار ، لشهرتها ومعلوميتها ، كالشمس في دائرة النهار ، حتى إن المشهور بين أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ هو الاقتصار في الأحكام على ما فيها خاصة دون غيرها من كتب الأخبار ؛ لوجوه حرروها وأدلة ذكروها ، وإن كنا لا نعتمد ذلك ولا نرتضيه ، إلّا إنه في مقام التعارض بين ما فيها وفي غيرها فالترجيح لما فيها البتة ، ولا سيما مع صحة السند كما ذكرناه وضعف الرواية المقابلة. وحينئذ ، فيتعين العمل على رواية (التهذيب) ويسقط العمل بتلك الرواية بالكلية ، كما [هي] (٣) قضيّة الترجيح في مقام التعارض من تقديم العمل بالراجح وإرجاء المرجوح ، سيما مع تأيّد رواية (التهذيب) بالأخبار الآتية ، وعمل الأصحاب قديما وحديثا بها ، مع غض الطرف عن الترجيح فالمقام لنا فسيح وأي فسيح ـ

__________________

(١) في «ح» : فهو.

(٢) في «ح» بعدها : وهو.

(٣) في النسختين : هو.


فلنا (١) أن نقول أيضا : إن الخبرين قد تعارضا فتساقطا ، فرجعنا إلى البقاء على أصالة الصحّة ـ كما قدمنا ـ حتى يقوم دليل الإبطال. وهذا بحمد الله الملك المتعال ظاهر لمن يعرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال.

الثاني : الأخبار الواردة عنهم عليهم‌السلام في الزيارة وكيفيتها ، وذكر مكان صلاة الزيارة ، فإن جملة من الأخبار قد وردت بأنّها عند الرأس الشريف وجملة أخرى خلف القبر ، بل دل بعض تلك الأخبار على أنّها عند الرأس أفضل.

فمن الأخبار في ذلك رواية جعفر بن ناجية ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «صلّ عند رأس قبر الحسين عليه‌السلام» (٢) الحديث.

ومنها رواية أبي حمزة الثمالي ، عن الصادق عليه‌السلام ، وفيها بعد ذكر زيارة علي بن الحسين عليهما‌السلام وما يفعله عند قبره : «ثم تأتي قبر الحسين عليه‌السلام ، ثم تدور من خلفه إلى عند رأس الحسين عليه‌السلام ، وصل عند رأسه ركعتين ، تقرأ في الأولى الحمد ويس ، وفي الثانية الحمد والرحمن ، وإن شئت صليت خلف القبر وعند رأسه أفضل ، فإذا فرغت فصل ما أحببت إلّا إن الركعتين ركعتي الزيارة لا بدّ منهما عند كل قبر» (٣) الحديث.

ومنها رواية صفوان عن الصادق عليه‌السلام وفيها : «ثم قم فصّل ركعتين عند الرأس .. اقرأ فيهما ما [أحببت] (٤) ..» (٥) الحديث.

ومنها ما نقله شيخنا المجلسي قدس‌سره في كتاب مزار (البحار) ، عن الشيخ

__________________

(١) جواب أداة الشرط (إذا) في قوله : فإذا كان الشيخ قد روى الرواية المذكورة ..

(٢) كامل الزيارات : ٤٢٤ / ٦٤٠ ، وسائل الشيعة ١٤ : ٥١٩ ، أبواب المزار وما يناسبه ، ب ٦٩ ، ح ٥.

(٣) كامل الزيارات : ٤١٧ / ٦٣٩.

(٤) من المصدر ، وفي النسختين : أحسنن.

(٥) مصباح المتهجد : ٦٦٠ ـ ٦٦٥ ، بحار الأنوار ٩٨ : ٢٠٠ / ٣٢.


المفيد (١) ، ومؤلف (المزار الكبير) (٢) قال : (قالا : زيارة اخرى له عليه‌السلام برواية اخرى غير مقيدة بوقت من الأوقات) (٣).

وساق الكلام إلى أن قال : «ثم انحرف عند الرأس فصل ركعتين ، تقرأ في الاولى فاتحة الكتاب» (٤) الحديث.

ومنها رواية اخرى لصفوان أيضا عن الصادق عليه‌السلام وفيها : «ثم ادخل عند القبر وقم عند الرأس خاشعا قلبك و [قل] (٥) : السّلام عليك».

إلى أن قال : «ثم صل عند الرأس ركعتين» (٦) الحديث.

ومنها ما نقله في كتاب مزار (البحار) أيضا عن السيد الزاهد العابد المجاهد ، رضي الدين بن طاوس ـ نوّر الله تعالى مرقده ـ في (مصباح الزائر) (٧) في زيارة طويلة حيث قال فيها : (ثم اعدل إلى موضع الرأس ، فاستقبل القبلة وصل ركعتين صلاة الزيارة ، تقرأ في الاولى (الحمد) وسورة (الأنبياء) ، وفي الثانية (الحمد) وسورة (الحشر) أو ما تهيّأ لك) (٨) إلى آخره.

أقول : وهذه الزيارة إمّا أن تكون من مرويات السيد قدس‌سره ، فيكون سبيلها سبيل الروايات المتقدمة ، أو تكون من إنشائه ، كما يقع ذلك منه كثيرا ، فيكون فيه تأييد لما ذكرناه لدلالته على كون ذلك هو المختار عنده والأفضل لديه أو المتعين.

ومنها ما ورد في زيارة الرضا عليه‌السلام ، كما نقله شيخنا المجلسي ـ عطر الله مرقده ـ في كتاب (تحفة الزائر) في باب زيارته عليه‌السلام قال : ففي خبر معتبر عن

__________________

(١) المزار (ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد) ٥ : ٩٩ ، ١١٥.

(٢) المزار الكبير : ٣٧٠ ، ٣٨٥ ، ب ١٥.

(٣) بحار الأنوار ٩٨ : ٢٠٦ / ٣٣.

(٤) بحار الأنوار ٩٨ : ٢١٥ / ٣٣.

(٥) من المصدر ، في النسختين : قال.

(٦) المزار الكبير : ٤٣١ ـ ٤٣٢ / ٣ ، بحار الأنوار ٩٨ : ٢٦٠ / ٤١.

(٧) مصباح الزائر : ٢٤٠.

(٨) بحار الأنوار ٩٨ : ٢٤٦.


الإمام الهادي عليه‌السلام أنه يصلّى عند رأسه عليه‌السلام.

ومثله في رواية أخرى أيضا قال : (ثم تحول عند رأسه وصل ركعتين ، تقرأ في الاولى سورة يس ، وفي الثانية سورة (الرحمن) ..) (١).

وكلام من وقفت على كلامه من الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ كله متطابق على العمل بهذه الروايات. ومنهم شيخنا الصدوق ـ عطر الله مرقده ـ في كتاب (الفقيه) حيث قال في باب زيارة الإمامين الكاظم والجواد عليهما‌السلام ما صورته : (ثم صلّ في القبة التي فيها محمد بن علي عليهما‌السلام أربع ركعات بتسليمتين عند رأسه : ركعتين لزيارة موسى بن جعفر ، وركعتين لزيارة محمد بن علي عليهما‌السلام ، ولا تصلّ عند رأس موسى عليه‌السلام ، فإنه يقابل قبور قريش ، ولا يجوز اتّخاذها قبلة إن شاء الله تعالى) (٢) انتهى.

وقال شيخنا الشهيد في (الدروس) : (وسادسها صلاة ركعتين للزيارة عند الفراغ ، فإن كان زائرا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ففي الروضة ، وإن كان لأحد الأئمّة عليهم‌السلام فعند رأسه ، ولو صلاهما بمسجد المكان جاز ، ورويت رخصة في صلاتهما إلى القبر) (٣) إلى آخره.

وقال في (الذكرى) : (وهي ركعتان بعد الفراغ من الزيارة ، تصلّى عند الرأس) (٤) انتهى.

وبالجملة ، فالظاهر أنه لما كان المشهور عندهم هو كراهة الصلاة إلى القبر ـ كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى ـ كان وظيفة صلاة الزيارة عندهم عند الرأس حسب ما دلّت عليه هذه الأخبار ، وهو مؤذن بجواز المساواة ، وأنه هو المعمول عليه بينهم والمعوّل عليه عندهم.

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٩ : ٤٨ / ٢.

(٢) الفقيه ٢ : ٣٦٣ / ٢٢٢.

(٣) الدروس ٢ : ٢٣.

(٤) ذكرى الشيعة ٤ : ٢٨٧.


وأنت خبير بأنه لا يخفى على الفطن المنصف والفهم الغير المتعسف أن المتبادر من كونها عند الرأس هو كون المصلي محاذيا للرأس الموجب للمساواة سيما مع المقابلة بالخلف في جملة من الأخبار ، وبذلك صرّح شيخنا المجلسي ـ طاب ثراه ـ في كتاب (تحفة الزائر) حيث قال : (الفصل السابع : في فضيلة الصلاة في الروضة المقدسة ونواحيها ، وكيفية الصلاة للزيارة وغيرها. وقد مرّ سابقا أحاديث في فضيلة الصلاة عند رأسه الشريف وخلف ضريحه وكذا مرّ في الباب الأول أخباره وبيان الصلاة خلف أضرحة الأئمَّة عليهم‌السلام. وما يستفاد من الأخبار جواز الصلاة للزيارة وغيرها عند رأسهم وخلف أضرحتهم عليهم‌السلام) (١).

فانظر إلى اعترافه أولا بدلالة الأخبار على جواز الصلاة فوق الرأس خارجا عن القبر محاذيا له ، وإنما ذكر التأخير يسيرا في كلامه من باب الاحتياط عنده.

ولو زعم الخصم أن الصلاة عند الرأس أعم من المحاذاة أو التأخر قليلا.

قلنا : يكفينا في الدلالة على ما ندّعيه العموم المذكور ، والتخصيص يحتاج إلى دليل ، وليس فليس.

ولو قيل : إن الحديث المنقول عن (الاحتجاج) مخصص.

قلنا : قد بيّنا بحمد الله فيما مضى سقوطه بما عارضه من صحيحة (التهذيب) ،

__________________

(١) وردت هذه العبارة في النسختين باللغة الفارسية ، ونصها : (فصل هفتم : در فضيلت نماز كردن در روضه مقدسه وحوالى آن ، وكيفيت نماز زيارت وغير آنست. در فصول سابقه ، چند حديث در فضيلت نماز نزد سر حضرت ودر عقب قبر مقدس گذشت ودر باب أول أخبار وبيان نماز در عقب قبور أئمه عليهم‌السلام گذشت. وآنچه از أخبار ظاهر مى‌شود آنست كه نماز زيارت وغير آن را در عقب قبر آن حضرت وبالاى سر آن حضرت كردن هر دو خوبست واگر بالاى سر كند پشت‌سرتر (١) بايستد كه محاذى اصل قبر مقدّس نباشد).

__________________

١ـ في «ح» : بشت‌تر ، وفي «ق» : بشتر ، والظاهر ما أثبتناه.


كما لا يخفى على الموفق المصيب ، ومن له من المعرفة والإنصاف أدنى نصيب.

الثالث : أنه لا يخفى على كل ناظر ذي عينين ممن لم يطمس بصر بصيرته بغشاوة التعصب والرين أن المصلي في الموضع المذكور متى كان مسندا ظهره للجدار كما هو المفروض أولا ، فإنه لا يكون مساويا للقبر ، بل هو متأخر عنه ، والقبر إنما يحاذي موضع سجوده. وهذا لا يسمى مساواة لا عرفا ولا شرعا ؛ لأن المساواة عبارة عن الاستواء.

فإذا قيل : ساواه في المكان ، يعني : صار محاذيا له ومستويا معه (١) ، كصلاة المأموم الواحد مع الإمام يقوم إلى جنبه محاذيا له ، كما عرفته من كلام شيخنا البهائي المتقدّم.

ولو قيل : إن القبر عبارة عن مجموع الصندوق الموضوع على القبر ـ كما يتوهمه بعض الجهلة ـ فهو ممّا لا يستحق قائله الجواب ؛ لخروجه عن زمرة ذوي العقول والألباب ؛ لأن القبر شرعا ولغة وعرفا إنّما هو عبارة عن الموضع الذي يدفن فيه الميت ، وهو هنا في وسط الصندوق الكبير ، وقد جعل عليه علامة الصندوق الصغير المطروح فوق الصندوق الكبير ، وهو الذي تطرح عليه الزينة والثياب المطرزة المذهبة في جميع قبور الأئمّة عليهم‌السلام ، فإنّهم يطرحون ذلك علامة للقبر (٢) ، ليكون موضعه معلوما للناظر لأجل الآداب المتعلّقة به والأعمال الراجعة إليه.

الرابع : أنه لا يخفى أن القبر الآن قد صار مستورا بهذا الصندوق الموضوع عليه ، والأحكام الواردة في الأخبار إنما ترتبت على القبر مع ظهوره وبروزه ، ولو جاز أن ترتب عليه مع خفائه ، لصدق أيضا ذلك بالنسبة إلى من صلّى خارج

__________________

(١) في «ح» بعدها : فيه.

(٢) ليست في «ح».


القبة الشريفة ، مع أن الخصم لا يقول به (١).

وأيضا فإنه كما تزول الكراهة أو التحريم (٢) بالنسبة إلى الصلاة خلف القبر بالحيلولة بهذا الصندوق بناء على ما عليه الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ كما يأتي ذكره ، كذلك تزول بالنسبة إلى المساواة لو سلمنا التحريم أو الكراهة.

الخامس : ورود النهي عن الصلاة خلف القبر مطلقا قبر إمام أو غيره ، كما قد استفاضت به الأخبار (٣). وبه قال جملة علمائنا الأبرار ؛ كراهة على المشهور (٤) أو تحريما على قول آخرين ، فإن المشهور بينهم هو كراهة الصلاة إلى القبر وجعله قبلة ، سواء كان قبر إمام أو غيره ما لم يحصل ما به تزول الكراهة من البعد المقرر أو الحائل.

وظاهر عبارة شيخنا الصدوق قدس‌سره المتقدّمة (٥) ، هو التحريم مطلقا ، وكذلك نقله عنه العلّامة في (منتهى المطلب) (٦) ، وأنه نقل عنه عدم جواز الصلاة إلى القبور مطلقا. وبه صرّح شيخنا المفيد ـ عطر الله مرقده ـ في (المقنعة) حيث قال : (ولا تجوز الصلاة إلى شي‌ء من القبور حتى يكون بينه وبينه حائل ، ولو قدر لبنة أو عنزة (٧) منصوبة أو ثوب موضوع).

ثم قال : (وقد روي أنه لا بأس بالصلاة إلى قبلة فيها قبر إمام ، والأصل ما قدمناه) (٨) انتهى.

__________________

(١) يرد عليه أن معناه جواز الصلاة أمام القبر لخفائه بالصندوق واختصاص الأحكام بظهور القبر فقط ، فتأمل.

(٢) في «ح» : التجري.

(٣) وسائل الشيعة ٥ : ١٥٩ ـ ١٦٢ ، أبواب مكان المصلّي ، ب ٢٥ ، ح ٢ ، ٥ ، ٦ ، ٧ ، ٨ ، ب ٢٦ ، ح ١ ، ٢ ، ٣ ، ٥.

(٤) منتهى المطلب ٤ : ٣١٣.

(٥) انظر الدرر ٢ : ٢٩٧.

(٦) منتهى المطلب ٤ : ٣١٦.

(٧) العنزة : عصا في قدر نصف الرمح يتوكأ عليها الشيخ. لسان العرب ٩ : ٤٢٤ ـ عنز.

(٨) المقنعة (ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد) ١٤ : ١٥١ ـ ١٥٢.


والظاهر أنه أشار بقوله : (وقد روي) إلى رواية التوقيع المنقول في (التهذيب) (١) عن الحميري. ونقل (٢) عن أبي الصلاح القول بالتحريم ، وتردّد في الإبطال.

ومن الأخبار الدالة على ما ذهبوا إليه رواية معمر بن خلاد عن الرضا عليه‌السلام : «لا بأس بالصلاة بين المقابر ما لم تتّخذ قبلة» (٣).

ورواية أبي اليسع المنقولة في (الأمالي) قال : سأل رجل أبا عبد الله عليه‌السلام وأنا أسمع قال : إذا أتيت قبر الحسين عليه‌السلام أجعله قبلة إذا صليت؟ قال : «تنحّ هكذا ناحية» (٤).

وروى فيه بهذا المضمون خبرا آخر (٥) ، نقل (٦) ذلك شيخنا المجلسي رحمه‌الله في كتاب مزار (البحار) ، وصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قلت له : الصلاة بين القبور؟ قال : «صلّ بين (٧) خلالها ، ولا تتخذ شيئا منها قبلة ؛ فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن ذلك ، وقال : لا تتخذوا قبري قبلة ولا مسجدا ، فإن الله عزوجل لعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (٨).

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٢ : ٢٢٨ / ٨٩٧ ، وسائل الشيعة ٥ : ١٦٠ ، أبواب مكان المصلّي ، ب ٢٦ ، ح ١.

(٢) انظر : مختلف الشيعة ٢ : ١٢٤ ـ ١٢٥ / المسألة : ٦٦ ، روض الجنان : ٢٢٨.

(٣) تهذيب الأحكام ٢ : ٢٢٨ / ٨٩٧ ، الاستبصار ١ : ٣٩٧ / ١٥١٤ ، وسائل الشيعة ٥ : ١٥٩ ، أبواب مكان المصلي ، ب ٢٥ ، ح ٣.

(٤) لم نعثر عليه في الأمالي وهو موجود بنصّه في كامل الزيارات : ٤٢٥ / ٢ ، وعنه نقله كل من صاحب بحار الأنوار ٩٨ : ٢٨١ ، ووسائل الشيعة ١٤ : ٥٢٠ ، أبواب المزار وما يناسبه ، ب ٦٩ ، ح ٨.

(٥) بحار الأنوار ٩٨ : ٨١ ـ ٨٢ / ٥.

(٦) من «ق» ، وفي «ح» : نقله.

(٧) في علل الشرائع : في ، بدل : بين.

(٨) علل الشرائع ٢ : ٥٦ / ب ٧٥ ، ح ١ ، وسائل الشيعة ٥ : ١٦١ ، أبواب مكان المصلّي ، ب ٢٦ ، ح ٥.


وموثقة عمار الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يصلي بين القبور ، فقال : «لا يجوز ذلك إلّا أن يجعل بينه وبين القبر إذا صلى عشرة أذرع من بين يديه ، وعشرة أذرع من خلفه ، وعشرة أذرع عن يمينه ، وعشرة أذرع عن يساره ، ثم يصلي إن شاء» (١).

وروى الصدوق في (الفقيه) مرسلا قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا تتخذوا قبري قبلة ولا مسجدا ، فإن (٢) الله عزوجل لعن اليهود لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (٣).

فهذه جملة من الأخبار الواضحة في المنع من الصلاة خلف القبر ، المؤيّدة بعمل الأصحاب قديما وحديثا. ومتى امتنع الصلاة خلفه لم يبق بالنظر إلى الأخبار إلّا الصلاة عند الرأس ، لما عرفت من الأخبار المتقدّمة الناصّة على ذلك.

السادس : أن هذه الأخبار الدالة على المنع من الصلاة خلف القبر أكثر عددا وأوضح سندا من ذلك الخبر ، مع اعتضادها بعمل الأصحاب ، كما عرفت ؛ فهي أولى بالعمل عليها والأخذ بما فيها ، مع أن ذلك القائل لا يرتضيه ، فما باله قد اولع بالتشنيع والقول الفظيع على من خالف تلك الرواية بزعمه؟ وإلّا فقد عرفت أنه ليس من المخالفة في شي‌ء لما بيّناه في الوجه الثالث. وهو قد خالف هذه الأخبار التي عكف على العمل بها جملة علماء الأمصار في جميع الأعصار.

فإن اعتذر بأن هذه الأخبار قد ورد بإزائها ما يوجب تأويلها وإخراجها عن ظاهرها.

قلنا : لا مندوحة لك عن الكراهة البتة ، وهو وجه الجمع بين ما دل على الجواز وما دل على المنع ، فلتحمل تلك الرواية ـ مع إرخاء العنان وتسليم صحتها في

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٩٠ / ١٣ ، باب الصلاة في الكعبة وفوقها .. ، وسائل الشيعة ٥ : ١٦١ ، أبواب مكان المصلّي ، ب ٢٦ ، ح ٥.

(٢) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : وإن.

(٣) الفقيه ١ : ١١٤ / ٥٣٢ ، وسائل الشيعة ٥ : ١٦١ ، أبواب مكان المصلي ، ب ٢٦ ، ح ٣.


المقام ـ على الكراهة جمعا بينها وبين ما عارضها.

فالكراهة حينئذ حاصلة في الموضعين ، فبأي وجه استحق العامل (١) بأحد المكروهين التشنيع دون الآخر مع أن الكراهة ثمة أشدّ لقوة دليلها ووضوح سبيلها؟

وإن أجاب : بأن الكراهة قد زالت بالحيلولة بهذا الصندوق الموضوع الآن.

قلنا : فما بال هذه الكراهة أو التحريم على القول به تزول بالحيلولة بذلك الصندوق ولا تزول الكراهة أو التحريم المدعى في المساواة بذلك؟ ولكن الإنصاف مفقود في هذا الزمان وإن كان من العلماء الأعيان.

إلحاق فيه إشفاق في الردع عن بعض العادات

هذا ومن العجب العجاب عند ذوي الألباب ـ وإن كان لا عجب في مثل هذا الزمان الذي عظم فيه الانقلاب ، وتغيرت فيه رسوم السنة و (الكتاب) ـ أنه قد بلغ بالمجاورين لهذا المشهد الشريف الكريم من قلّة الاحترام له والتعظيم والجرأة فيه بقلة الكمال في حقه والآداب إلى ما نسأل الله سبحانه العفو عن المؤاخذة به في الاولى والمآب ، وقد اتفق على ذلك الرعاع منهم والعلماء الأعلام الذين هم المرجع في تشريع الأحكام للأنام ، وتحليل الحلال وتحريم الحرام من التحدث في الروضة المقدّسة بالأحاديث الدنيوية ، والجلوس حلقا مجتمعين على تلك العادات الرديّة ، والجلوس في وقت الحر مكشّفي الرؤوس محلّلي الأزرار وفي أيديهم المراوح ، يروحون أنفسهم عن الحر حال الزيارة وحال الجلوس. وربما ترى أحدهم يخلع ثيابه كملا ويبقى في قميص واحدة مكشوف الرأس ، كأنه جالس في بيته مع زوجته.

__________________

(١) في «ح» : القائل.


هذه عاداتهم القبيحة لا تناكر بينهم في ذلك ، ولا يزري أحد على أحد فيما هنالك ؛ لاتّفاق الجميع عليه من جاهل وعالم ، وصالح وظالم ، كأنهم لم يعوا ولم يسمعوا ما ورد في حق هذا المقام من مزيد التعظيم له والإكرام. أو لم يسمعوا ويحهم ما ورد عنهم عليهم‌السلام من أن الزائرين له عليه‌السلام بمرأى ومنظر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن علي عليه‌السلام وفاطمة عليها‌السلام ومنه (١) عليهم جميعا أفضل الصلاة والسّلام ، وأنهم ينادون زوارهم ويخاطبونهم ويبشرونهم بما لهم عند الله سبحانه وعندهم ـ صلوات الله عليهم ـ من رفيع الدرجات ومزيد الأجر في أعلى قصور الجنات (٢)؟

وحينئذ ، فهل يجوز لمن كان بمرأى منهم ومنظر في هذا المكان أن يأتي بهذه (٣) الأفعال الغير اللائقة والامور الغير الموافقة لتعظيمهم ولا المطابقة؟ أو لم يعلموا ويحهم أن حرمته عليه‌السلام ميتا كحرمته حيا؟ أرأيت أنه لو كان جالسا في مجلس فهل يجوز لمؤمن بالله سبحانه وبهم ـ صلوات الله عليهم ـ أن يأتي بأقل قليل من هذه الأفعال في مجلسه بمحضره ومنظره ، وقد ورد أن حرمة المؤمن حيا كحرمته ميتا (٤)؟ فكيف بالمعصوم عليه‌السلام؟! وقد ورد في عدة أخبار أن أبا بصير دخل على الصادق عليه‌السلام وهو جنب قبل الغسل ، فنظر إليه الإمام عليه‌السلام شزرا وقال : «يا أبا بصير ، أهكذا (٥) تدخل بيوت الأنبياء؟» (٦).

وفي دعاء الاستئذان المروي عنهم عليهم‌السلام : «اللهم إني وقفت على باب من بيوت

__________________

(١) أي صاحب الضريح المقدّس إن لم يكن من غير المذكورين ، عليهم الصلاة والسّلام.

(٢) بحار الأنوار ٩٨ : ٥١ ـ ٦٨ ، ب ٩.

(٣) من «ح» ، وفي «ق» : بغير هذه.

(٤) تهذيب الأحكام ١ : ٤٦٥ / ١٥٢٢ ، وسائل الشيعة ٣ : ٢١٩ ، أبواب الدفن ، ب ٥١ ، ح ١.

(٥) في المصدر : هكذا ، بدل : يا أبا بصير أهكذا.

(٦) اختيار معرفة الرجال : ١٧٠ / ٢٨٨ ، وسائل الشيعة ٢ : ٢١٢ ، أبواب الجنابة ، ب ١٦ ، ح ٥.


نبيّك وآل نبيّك» (١) إلى آخره.

وحينئذ ، فهل يجوز في العقول السليمة والألباب القويمة أن يعمل في بيوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الأفعال الخارجة عن جادة الكمال والشاهد على صاحبها أنه من أجهل الجهال؟ ثم أرأيت أنه لم يقرع أسماعهم ما استفاض في الأخبار من الآداب في زيارته عليه‌السلام بأنه ينبغي أن يكون الزائر له أشعث أغبر مشغولا بالحزن والدعاء ، جائعا عطشان مشغولا مدة الكون في حضرته والجلوس في روضته بالحزن والبكاء أو الصلاة أو التلاوة والدعاء ونحو ذلك ، وأن يكون الزائر له على سكينة ووقار (٢)؟

هذا مع أن أحدهم لو دخل مجلس من لا يقاس بمقامه عليه‌السلام من سلطان أو أمير أو غني أو كبير لتأدب في مجلسه بالآداب الكاملة ، فكيف لا يرون له عليه‌السلام ما يرونه لسائر الناس ، ولكن العقول عن الطريق القويم ضالة ، والأقدام عن سواء الصراط زالّة.

ومن أعجب العجاب أنه بعد هذه الامور التي حكيناها عنهم يقومون ويقفون حول شباكه عليه‌السلام ويخاطبونه ويلتمسون منه المطالب ويلجئون إليه فيما يريدونه من المآرب ، فيما ذوي العقول الضعيفة والألباب السخيفة إن كان معتقدكم أنه عليه‌السلام حاضر يسمع من يناديه ويرى من يناجيه ، فما لكم تأتون بهذه الأفعال الناشئة عن قلّة الأدب والاحترام والمنافية للتعظيم والإكرام؟! وإن كان معتقدكم أنه ليس بحاضر ولا ناظر ، فلمن تناجون؟ ولمن تخاطبون؟

فانظر ـ أيدك الله تعالى ـ بتأييده إلى هؤلاء العاكفين على هذه الامور الموجبة

__________________

(١) المزار الكبير : ٥٥ ، مصباح الزائر : ٤٤ ، بحار الأنوار ٩٧ : ١٦٠ / ٤١.

(٢) كامل الزيارات : ٢٥٠ ـ ٢٥٢ / ٣٧٤ ـ ٣٧٧ ، وسائل الشيعة ١٤ : ٥٢٧ ـ ٥٢٨ ، أبواب المزار وما يناسبه ، ب ٧١.


لضيق الصدور ، لا تناكر فيها بينهم في ورود ولا صدور ، وقد صارت سنة مستحسنة جارية بينهم ، ومع هذا يذمون ويزرون على من يصلّي في الموضع المشار إليه آنفا ، وهو ـ كما عرفت من الأخبار وكلام الأصحاب ـ من وظائف السنن. فانظر إلى ما يأتي به هذا الدهر المعكوس والزمن المنكوس من جعل السنن بدعا ، والبدع القبيحة سننا :

يا ناعي الإسلام قم فانعه

قد مات عرف وأتى منكر

أقول : وقد نقل بعض علماء الرجال أن عبد الله بن مسكان هو (١) أحد أجلاء أصحاب الصادق عليه‌السلام كان يمتنع من الدخول عليه خوفا ألّا يوفيه حقه من الإجلال والإعظام ، وإنما يروي عنه بالواسطة (٢). فانظر إلى من عرف حقوقهم عليهم‌السلام كيف بلغت بهم المراقبة لهم والتعظيم لحقوقهم إلى أي مبلغ ، فما ظنك بمن يفعل هذه الحقارات في بيوتهم بمحضرهم. ولكن أين القلوب المستضيئة بمصابيح النصائح ، والألباب المستنيرة بذلك والقرائح؟ ومن تدبر في الروايات الواردة في كيفية زيارته عليه‌السلام وما ينبغي أن يفعله الزائر من حين خروجه من بيته إلى أن يأتي لزيارته (٣) ، ظهر له صحة ما ذكرناه وحقية ما سطرناه.

ولعل السر فيما ورد في بعض الأخبار (٤) من الأمر للزائر بالانصراف بعد الزيارة وعدم اتخاذه وطنا ، هو الخوف من الوقوع في أمثال هذه الحقارات الغير المناسبة ، والجراءات التي تصير بها الأعمال ذاهبة ، بحصول القسوة في القلب الموجبة لقلة الاحترام ، كما وقع لهؤلاء ، وإن كانوا من العلماء الأعلام.

__________________

(١) في «ح» : الذي.

(٢) خلاصة الأقوال : ١٩٤ / ٦٠٧.

(٣) ثواب الأعمال : ١١٤ / ٢١ ، كامل الزيارات : ٢٥٢ / ٣٧٦ ، بحار ٩٨ : ١٤٠ / ٢.

(٤) كامل الزيارات : ٢٥٢ / ٣٧٦ ، وسائل الشيعة ١٤ : ٥٢٨ ، أبواب المزار وما يناسبه ، ب ٧١ ، ح ٢ ، ب ٧٧ ، ح ١ ـ ٥.


ولا يبعد أيضا أن يكون ما يقع من هؤلاء هو السبب الحامل لما يفعله بعض حكام هذه المشاهد في بعض الأوقات من طردهم من الروضة ومنعهم من الصلاة فيها وتقصدهم بالأذى بأنواعه ؛ فإنه لا يبعد أن يكون من آثار هذه الامور المنكرة والأفعال المستنكرة ، وإن كانت في نظر صاحبها مستحسنة نضرة.

تأييد سديد في بعض آداب الزيارة

قال شيخنا المجلسي ـ عطر الله مرقده ـ في كتاب مزار (البحار) في باب آداب الزيارات وأحكام الروضات بعد ذكر جملة من الآيات : (أقول : الآية الاولى (١) تومئ إلى إكرام الروضات المقدسة ، وخلع النعل فيها عند القرب منها ، لا سيما الطف والغريّ ؛ لما روي أن الشجرة كانت في كربلاء (٢) ، وأن الغريّ قطعة من الطور (٣). والثانية (٤) تدلّ على لزوم غضّ الصوت عند قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعدم جهر الصوت [لا] بالزيارة ولا بغيرها ؛ لما روي أن حرمتهم بعد موتهم كحرمتهم في حياتهم ، وكذا عند قبور سائر الأئمّة عليهم‌السلام ، لما ورد أن حرمتهم كحرمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ويؤيّد ما ذكرناه ما رواه الكليني بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام في خبر طويل يذكر فيه وفاة الحسن عليه‌السلام قال : «فلما أن صلّي عليه»).

ثم ساق قدس‌سره الخبر بما يدل على حمل الحسن عليه‌السلام إلى قبر جده ، وخروج عائشة ومنعها من دفنه ، وكلام الحسين عليه‌السلام معها وقوله لها : «ولعمري لقد أدخل أبوك وفاروقه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بقربهما منه الأذى وما رعيا من حقه ما أمرهما الله به على

__________________

(١) قوله تعالى (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً). طه : ١٢.

(٢) مختصر بصائر الدرجات : ١٨٦ ، بحار الأنوار ١٣ : ٢٥ / ١.

(٣) تهذيب الأحكام ٦ : ٢٣ / ٥١ ، كامل الزيارات : ٩٠ / ٩١ ، بحار الأنوار ٩٧ : ٢٥٨ / ٤ ، وسائل الشيعة ١٤ : ٣٨٥ ، أبواب المزار وما يناسبه ، ب ٢٧ ، ح ١.

(٤) قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ...) الحجرات : ٢.


لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن الله حرم من المؤمنين أمواتا ما حرم منهم أحياء» (١).

إلى أن قال قدس‌سره : (أقول : هذا الخبر يدل على أنه ينبغي يراعى في روضاتهم ما كان ينبغي أن يراعي في حياتهم من الآداب والتعظيم والإكرام) ثم نقل حديث أبي بصير ودخوله على (٢) الصادق عليه‌السلام جنبا كما قدمنا الإشارة إليه (٣) ، انتهى.

وقال شيخنا الشهيد في مزار كتاب (الدروس) : (للزيارة آداب : أحدهما : الغسل) ـ إلى أن قال ـ : (وثانيها : الوقوف على بابه ، والدعاء ، والاستئذان [بالمأثور] (٤) ، فإن وجد خشوعا ورقّة دخل ، وإلّا فالأفضل له تحرّي زمان الرقة ؛ لأن الغرض الأهمّ حضور القلب ؛ ليلقى الرحمة النازلة من الرب).

إلى أن قال : (وثالث عشرها : تعجيل الخروج عند قضاء الوطر من الزيارة لتعظم (٥) الحرمة ، ويشتد الشوق ، وروي أن الخارج يشمي القهقرى حتى يتوارى (٦)) (٧) انتهى.

وأنت خبير بأنّه لا يبعد أن ما ورد من الترغيب في ثواب الصلاة في روضته عليه‌السلام ، وأن صلاة الفريضة تعدل ثواب حجة ، وصلاة النافلة تعدل ثواب عمرة ، وأمثال ذلك إنما هو لمن أتى بالآداب المروية ، وقام بالسنن المرعية وراعى الحرمة (٨) النبوية ، لا بمثل هؤلاء الذين حكينا عنهم ما تقدم من سوء الأدب وقلة الاحترام والجرأة عليهم ، بل على الملك العلّام ، نسأل الله عزوجل لنا ولهم العفو والمغفرة عن زلّات الأقدام ومحيطات الأجرام.

__________________

(١) الكافي ١ : ٣٠٣ / ٣ ، باب الإشارة والنص على الحسين عليه‌السلام ..

(٢) من «ق» ، وفي «ح» : دخول ، بدل : دخوله على.

(٣) بحار الأنوار ٩٧ : ١٢٥ ـ ١٢٦.

(٤) من المصدر ، وفي النسختين : المأمور.

(٥) في «ح» : لتعظيم.

(٦) المزار الكبير : ٤٣٤ / ٣ ، بحار الأنوار ٩٨ : ٢٦٢ / ٤١.

(٧) الدروس ٢ : ٢٢ ـ ٢٤.

(٨) سقط في «ح».


هذا وإني قد تشرفت بتقبيل أعتاب هذا المقام النير الأعلام قبل هذه الأيام بما يقرب من خمسة عشر أو أزيد من السنين والأعوام ، وذلك قبل أن تحدث هذه العمارة التي في ظهر القبر الشريف ، وكان أكثر الناس إنما يتنافسون في الصلاة مما يلي الرأس. وكان شيخنا العلّامة الأفخر الشيخ حسين ابن الشيخ محمد بن (١) جعفر ـ أيده الله تعالى بتأييده ـ مجاورا تلك السنة في هذا المكان ، وكان أكثر أوقاته إنما يصلي صلاة الظهرين في هذا المكان الذي قد اشتهر المنع عنه الآن ، والطعن على من يصلي فيه هذا الزمان.

وكان في البلد جملة من العلماء من العرب والعجم من سكنة البلد وغيرهم ، ولم (٢) نسمع لهذه المسألة صيتا ولا ذكرا بالكلية ، ولا رأينا أحدا أنكر على شيخنا المشار إليه ، ولا اعترض لا طعن بهذا الفعل عليه ، والله سبحانه العالم بحقائق أحكامه.

__________________

(١) سقط في «ح».

(٢) من «ح» ، وفي «ق» : لا.



(٣٦)

درّة نجفيّة

في أن الأئمّة عليهم‌السلام يوقعون الاختلاف بين شيعتهم

المشهور بين أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ تخصيص الحمل على التقية في الأخبار بوجود قائل من العامة بذلك. والذي يظهر لي من الأخبار خلاف ما هنالك ، وهو أنهم عليهم‌السلام يوقعون الاختلاف بين الشيعة وإن لم يكن ثمة قول للعامة (١). فمن الأخبار في ذلك ما رواه ثقة الإسلام في (الكافي) في الموثق عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن مسألة ، فأجابني فيها ، ثم جاء رجل آخر

__________________

(١) يقول الفقير إلى الله الغني محمد علي بن علي بن غانم القطري البحراني : إن ما ذكره شيخنا المصنّف ـ أفاض الله ـ عليه شآبيب رحمته ـ من جواز حمل بعض الأخبار على التقية وإن لم يوجد بها قائل من العامّة ، فيه نظر : أما أوّلا ، فلأن الأخبار التي استدل بها وما ضاهاها لا دلالة فيها على مدّعاه بوجه.

وأمّا ثانيا ، فلتصريح ما رواه الشيخ في كتاب الخلع من (تهذيب الأحكام) موثقا عن الحسن بن أيوب عن أبي بكير عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «ما سمعت مني يشبه قول الناس فيه التقيّة ، وما سمعت مني لا يشبه قول الناس فلا تقية» (١) بأن (٢) ما ورد من الأحكام الغير المشابهة لقول العامّة فليس فيه التقيّة ، بل هو الحق الذي لا مرية فيه ، فتأمّل.

(هامش «ع»).

__________________

١ـ تهذيب الأحكام ٨ : ٩٨ / ٣٣٠ ، وسائل الشيعة ٢٢ : ٢٨٥ ، أبواب الخلع والمباراة ، ب ٣ ، ح ٧.

٢ـ متعلّق قوله : لتصريح.


فسأله عنها ، فأجابه بخلاف ما أجابني ، ثم جاء آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي ، فلما خرج الرجلان قلت : يا بن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رجلان من العراق من شيعتكم قدما يسألان ، فأجبت كل واحد منهما بخلاف (١) ما أجبت به صاحبه؟ فقال : «يا زرارة ، إن هذا خير لنا ولكم ، فلو اجتمعتم على أمر لصدقكم الناس علينا ، ولكان أقل لبقائنا وبقائكم».

قال : ثم قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : شيعتكم لو حملتموهم على الألسنة أو على النار لمضوا وهم يخرجون من عندكم مختلفين؟ قال : فأجابني بمثل جواب أبيه (٢).

أقول : انظر إلى صراحة هذا الخبر في اختلاف أجوبته عليه‌السلام في مسألة واحدة في مجلس واحد وتعجب زرارة. ولو كان الاختلاف إنما وقع لموافقة العامة لكفى جوابا واحدا بما هم عليه يومئذ ، ولما تعجب زرارة من ذلك ؛ لعلمه بفتواهم عليهم‌السلام أحيانا بما يوافق العامة تقية.

وانظر إلى صراحة جوابه عليه‌السلام في تعليل الاختلاف بما يؤيد ما قلنا من أنّهم إنما خالفوا بين الشيعة لئلّا يصدّقهم العامة عليهم ، بل يكذبوهم في روايتهم ذلك عنهم عليه‌السلام (٣).

ولعل السر في ذلك أن الشيعة إذا خرجوا عنهم مختلفين ؛ كل ينقل عن إمامه خلاف ما ينقله الآخر ، سخف مذهبهم في نظر العامة ، وكذبوهم في نقلهم ، ونسبوهم إلى الجهل وعدم الدين ، وهانوا في نظرهم ، بخلاف ما إذا اتّفقت كلمتهم ، وتعاضدت مقالتهم ؛ فإنّهم يصدقونهم ويشتدّ بغضهم لهم ولإمامهم

__________________

(١) في «ح» : بغير.

(٢) الكافي ١ : ٦٥ / ٥ ، باب اختلاف الحديث.

(٣) أحيانا بما يوافق العامة تقيّة .. ذلك عنهم عليهم‌السلام ، من «ح».


ومذهبهم ، فيصير ذلك سببا لثوران العداوة.

ومن ذلك أيضا ما رواه الشيخ في (التهذيب) في الصحيح على الظاهر عن سالم بن (١) أبي خديجة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سأله إنسان وأنا حاضر فقال : ربما دخلت المسجد وبعض أصحابنا يصلّي العصر وبعضهم يصلّي الظهر ، فقال : «أنا أمرتهم بهذا ، لو صلوا على وقت واحد لعرفوا ، فاخذوا برقابهم» (٢).

وهو أيضا صريح في المطلوب ؛ إذ لا يخفى أنه لا تطرق للجهل هنا على موافقة العامة ، لاتفاقهم على التفريق بين وقتي (٣) الظهر والعصر ومواظبتهم على ذلك.

وما رواه الشيخ في (العدّة) مرسلا عن الصادق عليه‌السلام أنه سئل عن اختلاف أصحابنا في المواقيت ، فقال : «أنا (٤) خالفت بينهم» (٥).

وما رواه في (الاحتجاج) بسنده فيه عن حريز عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له : إنّه ليس شي‌ء أشد عليّ من اختلاف أصحابنا. قال : «ذلك من قبلي».

وما رواه في كتاب (معاني الأخبار) عن الخزّاز. عمن حدثه عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : «اختلاف أصحابي لكم رحمة». وقال : «إذا كان ذلك جمعتكم على أمر واحد». وسئل عن اختلاف أصحابنا؟ فقال عليه‌السلام : «أنا فعلت ذلك بكم ، ولو اجتمعتم على أمر واحد لأخذ برقابكم».

وما رواه في (الكافي) بسنده فيه عن موسى بن أشيم قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام فسأله رجل عن آية من (كتاب الله) ، فأخبره بها ، ثم دخل عليه داخل فسأله عن ذلك ، فأخبره بخلاف ما أخبر به الأول ، فدخلني من ذلك ما شاء الله.

__________________

(١) من «ح».

(٢) تهذيب الأحكام ٢ : ٢٥٢ / ١٠٠٠.

(٣) في «ح» : وقت.

(٤) في «ح» : إذا.

(٥) العدّة في اصول الفقه ١ : ١٣.


إلى أن قال : فبينما أنا كذلك إذ دخل عليه آخر فسأله عن تلك الآية ، فأخبره بخلاف ما أخبرني (١) وأخبر صاحبي ، فسكنت نفسي وعلمت أن ذلك منه تقية.

ثم التفت إلى فقال : «يا بن أشيم ، إن الله فوّض إلى سليمان بن داود ، فقال (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٢) ، وفوض إلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (٣) ، فما فوض إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد فوض إلينا» (٤).

ولعلك بمعونة ذلك تعلم أن الترجيح بين الأخبار بالتقية بعد العرض على (الكتاب) العزيز أقوى المرجحات ، فإن جل الاختلاف الواقع في أخبارنا بل كله عند التأمل والتحقيق إنما نشأ من التقية. ومن هنا دخلت الشبهة على جمهور متأخري أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ فظنوا أن هذا الاختلاف إنما نشأ من دس أخبار الكذب في أخبارنا ، فوضعوا الاصطلاح المشهور في تنويع الحديث إلى الأنواع الأربعة ؛ ليتميز به صحيحها من سقيمها ، وغثّها من سمينها. وقوّى الشبهة فيما ذهبوا إليه شيئان :

أحدهما : رواية مخالف المذهب وظاهر الفسق والمشهور بالكذب من فطحي وواقفي وزيدي وعامي وكذاب وغال ونحوهم.

وثانيهما : ما ورد عنهم عليه‌السلام من أن «لكل رجل منا رجل يكذب عليه» (٥) ، وأمثاله (٦) ممّا يدل على دس بعض الأخبار الكاذبة في أحاديثهم عليهم‌السلام.

__________________

(١) كذا في المصدر ، مع أن المتكلّم وهو موسى بن أشيم لم يسأل الإمام عليه‌السلام.

(٢) ص : ٣٩.

(٣) الحشر : ٧.

(٤) الكافي ١ : ٢٦٥ ـ ٢٦٦ / ٢ ، باب التفويض إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ..

(٥) اختيار معرفة الرجال : ١٠٤ / ١٧٤.

(٦) بحار الأنوار ٢ : ٢١٧ ـ ٢١٨ / ١١ ، ١٣ ـ ١٤.


ولم يتفطنوا ـ نوّر الله تعالى ضرائحهم ـ إلى أن هذه الأحاديث التي بأيدينا إنما وصلت لنا بعد أن سهرت العيون في تصحيحها وذابت الأبدان في تنقيحها ، وقطعوا في تحصيلها من معادنها البلدان ، وهجروا في تنقيتها الأولاد والنسوان ، كما لا يخفى على من تتبع السير والأخبار ، وطالع الكتب المدونة في تلك الآثار.

فإن المستفاد منها على وجه لا يزاحمه الريب ولا يداخله القدح والعيب أنه كان دأب قدماء أصحابنا المعاصرين لهم عليهم‌السلام إلى وقت المحمدين الثلاثة في مدة تزيد على ثلاثمائة سنة ضبط الأحاديث وتدوينها في مجالس الأئمّة عليهم‌السلام ، والمسارعة إلى إثبات ما يسمعونه ، خوفا من تطرق السهو والنسيان ، وعرض ذلك عليهم.

وقد صنفوا تلك الاصول الأربعمائة المنقولة كلّها من أجوبتهم عليهم‌السلام ، ولهم ما كانوا يستحلّون رواية ما لم يجزموا بصحته.

وقد روي أنه عرض على الصادق عليه‌السلام (كتاب عبيد الله بن علي الحلبي) فاستحسنه وصحّحه (١) ، وعلى العسكري عليه‌السلام (كتاب يونس بن عبد الرحمن) (٢) ، و (كتاب الفضل بن شاذان) (٣) فأثنى عليهما.

وكانوا عليهم‌السلام يوقفون شيعتهم على أحوال أولئك الكذابين ، ويأمرونهم بمجانبتهم ، وعرض ما يرد من جهتهم على (الكتاب) العزيز والسنة النبوية ، وترك ما خالفهما. فروى الثقة الجليل أبو عمرو الكشي في كتاب (الرجال) : (بإسناده عن محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس بن عبد الرحمن أن بعض أصحابنا سأله وأنا حاضر فقال : يا أبا محمد ، ما أشدّك في الحديث ، وأكثر إنكارك لما يرويه أصحابنا! فما الذي يحملك على رد الحديث؟ فقال : حدثني هشام بن الحكم أنه

__________________

(١) الفهرست : ١٧٤ / ٤٦٦ ، خلاصة الأقوال : ٢٠٣ / ٦٤٤.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٤٨٤ ـ ٤٨٥ / ٩١٥.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٥٣٧ ـ ٥٣٨ / ١٠٢٣.


سمع أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «لا تقبلوا علينا حديثا إلّا ما وافق القرآن والسنة أو تجدوا معه شاهدا من أحاديثنا المتقدمة ، فإنّ المغيرة بن سعيد ـ لعنه الله ـ دس في كتب أبي أحاديث لم يحدث بها أبي ، فاتقوا الله ، ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا وسنة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله».

قال يونس : وافيت العراق ، فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر عليه‌السلام ، ووجدت أصحاب أبي عبد الله عليه‌السلام متوافرين ، فسمعت منهم وأخذت كتبهم وعرضتها من بعد على أبي الحسن الرضا عليه‌السلام ، فأنكر منها أحاديث كثيرة أن تكون من أحاديث أبي عبد الله عليه‌السلام وقال : «إن أبا الخطاب كذب على أبي عبد الله عليه‌السلام ، لعن الله أبا الخطاب ، وكذلك أصحاب أبي الخطاب ؛ يدسّون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد الله عليه‌السلام ، فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن ، فإنا إن تحدثنا حدثنا بموافقة القرآن وموافقة السنة ، إنا عن الله وعن رسوله نحدّث ، ولا نقول : قال فلان وفلان فنناقض (١) كلامنا ، إن كلام آخرنا مثل كلام أولنا ، وكلام أولنا مصداق لكلام آخرنا ، فإذا أتاكم من يحدثكم بخلاف ذلك فردوه عليه وقولوا : أنت أعلم وما جئت به. فإن لكلامنا (٢) حقيقة وعليه نورا ، فما لا حقيقة له ولا نور عليه فذلك قول الشيطان») (٣).

أقول : انظر ـ أيّدك الله ـ إلى ما دل عليه هذا الخبر من توقّف يونس في الأحاديث واحتياطه فيها ـ وهذا شأن غيره أيضا كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى ـ وأمرهم عليه‌السلام بعرض ما يأتي من الأخبار برواية غير المؤتمنين على (الكتاب) والسنة تحرّزا من تلك الأحاديث المكذوبة. فهل يجوز في العقول السليمة والطباع المستقيمة أن مثل هؤلاء الثقات العدول إذا سمعوا من

__________________

(١) في «ح» : متناقض.

(٢) في المصدر : مع كل قول منّا ، بدل : لكلامنا.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٢٢٤ ـ ٢٢٥ / ٤٠١.


أئمّتهم عليهم‌السلام مثل هذا الكلام أن يستحلّوا بعد ذلك نقل ما لا يثقون بصحته ، ولا يعتمدون على حقيقته؟! بل من المقطوع والمعلوم عادة من أمثالهم أنهم لا يروون ولا يذكرون في مصنفاتهم إلّا ما اتضح لهم فيه الحال أنه في الصدق والاشتهار كالشمس في دائرة النهار ، كما سمعت من حال يونس.

وهذا كان دأبهم عليهم‌السلام في الهداية لشيعتهم ، يوقفونهم على جميع ما وقع وما عسى أن يقع في الشريعة من تغيير وتبديل ؛ لأنهم ـ صلوات الله عليهم ـ حفّاظ الشريعة وحملتها وضبّاطها وحرسها ، ولهم نوّاب فيها من ثقات أصحابهم وخوّاص رواتهم ، يوحون إليهم أسرار الأحكام ، ويوقفونهم على غوامض الحلال والحرام ، كما قد روي ذلك بأسانيد عديدة (١).

على أن المفهوم من جملة من الأخبار أن تلك الأحاديث المكذوبة كلّها كانت من أحاديث الكفر والزندقة والغلوّ والإخبار بالغرائب ، فمن ذلك ما رواه في الكتاب المتقدم عن يونس عن هشام بن الحكم أنه سمع أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «كان المغيرة بن سعيد يتعمّد الكذب على أبي ويأخذ كتب أصحابه ، وكان أصحابه المستترون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها إلى المغيرة ، فكان يدسّ فيها الكفر والزندقة ، ويسندها إلى أبي (٢) عليه‌السلام ، ثم يدفعها إلى أصحابه ويأمرهم أن يثبتوها في الشيعة ، وكل ما كان في كتب أصحاب أبي (٣) عليه‌السلام من الغلو ؛ فذاك ممّا دسّه (٤) المغيرة بن سعيد في كتبهم» (٥).

وبإسناده عن حماد عن حريز قال : قال ـ يعني أبا عبد الله عليه‌السلام ـ : «إنّ أهل

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٣٦ ـ ١٥٣ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١١.

(٢) في «ح» بعدها : عبد الله.

(٣) في «ح» بعدها : عبد الله.

(٤) في «ح» : لممارسة.

(٥) اختيار معرفة الرجال : ٢٢٥ / ٤٠٢.


الكوفة [قد نزل] (١) فيهم كذاب ، أما المغيرة فإنه يكذب على أبي ـ يعني أبا جعفر عليه‌السلام ـ قال : حدّثني (٢) أن نساء آل محمد إذا حضن قضين الصلاة ، وكذب والله ـ عليه لعنة الله ـ ما كان من ذلك شي‌ء ولا حدّثه. وأما أبو الخطاب فكذب عليّ وقال إني أمرته هو وأصحابه ألا يصلّي المغرب حتى يروا الكواكب (٣)» (٤) الحديث.

على أن مقتضى الحكمة الربانية وشفقة الأئمّة عليهم‌السلام على من في أصلاب الرجال من شيعتهم تمنع من أن يتركوهم هملا يمشون على غير طريق واضح ولا منار لائح ، فلا يميزون لهم الغثّ من السمين ، ولا يهدونهم إلى جادة الحق المبين ، ولا يوقفونهم على ما وقع في الشريعة من تغيير وتبديل ، وما يحدثه الكفار (٥) المغترّون من البدع والضلال والتضليل! كلّا ثم كلّا ، بل أوضحوا الدين المبين غاية الإيضاح ، وصفّوه عن شوب كل كدر ، حتى أسفر كضوء الصباح.

ألا ترى إلى (٦) ما ورد عنهم من حثّ الشيعة على الكتابة لما يسمعونه منهم ، وأمرهم بحفظ الكتب لمن يأتي بعدهم ، كما ورد في جملة من الأخبار التي رواها ثقة الإسلام في جامعه (الكافي) (٧) وغيره في غيره (٨) ، وإلى تحذيرهم الشيعة عن مداخلة كل من أظهر البدع ، وأمرهم بمجانبتهم وتعريفهم لهم بأعيانهم (٩) ، كما عرفت فيما تلوناه من الأخبار المتقدمة.

ومثله ما خرج من الأئمّة المتأخّرين ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ في لعن

__________________

(١) من المصدر ، وفي النسختين : لم يزل.

(٢) في المصدر : حدّثه.

(٣) في المصدر : كوكب كذا يقال له القنداني ، والله إن ذلك لكوكب ما أعرفه.

(٤) اختيار معرفة الرجال : ٢٢٨ / ٤٠٧.

(٥) في «ح» : الكذابون.

(٦) ليست في «ح».

(٧) الكافي ١ : ٥٢ ـ ٥٣ / ٨ ، ٩ ، ١٠ ، ١١ ، ١٥ ، باب رواية الكتب والحديث ..

(٨) عوالي اللآلي ١ : ٦٨ / ١١٩ ، منية المريد : ٣٤٠ ـ ٣٤١ ، بحار الأنوار ٢ : ١٥١ ـ ١٥٣ / ٣٥ ، ٣٦ ، ٣٧ ، ٣٨ ، ٣٩ ، ٤٠ ، ٤٦ ، ٤٧.

(٩) الكافي ١ : ٥٤ ، باب البدع والرأي المقاييس.


جماعة ممن كانوا كذلك ، مثل فارس بن حاتم القزويني (١) ، والحسن بن محمد بن بابا (٢) ، ومحمد بن نصير النميري (٣) ، وأبي طاهر محمد بن علي بن هلال (٤) ، وأحمد بن هلال (٥) ، والحسين بن منصور الحلاج (٦) ، وابن أبي العزاقر (٧) ، وأبي دلف (٨) ، وجمع كثير (٩) ممن يتستر بالشيعة ، ويظهر المقالات الشنيعة من الغلو والإباحات ، والقول بالحلول والاتحاد والتناسخ ونحو ذلك.

وقد خرجت بلعنهم التوقيعات عنهم عليهم‌السلام في جميع الأماكن ، والأمر بالبراءة منهم ، وقد ذكر الشيخ قدس‌سره في كتاب (الغيبة) (١٠) جمعا من هؤلاء ، وأورد الكشي أخبارا فيما أحدثوه ، وما خرج فيهم من التوقيعات (١١) ، لذلك من أحب الوقوف عليها ؛ فليرجع إليه.

وقد شدد أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام (١٢) في ذلك ، حتى ربما تجاوزوا المقام ، حتى إنهم كانوا يجانبون الرجل بمجرد التهمة بذلك ، كما وقع لأحمد بن محمد بن عيسى مع أحمد بن محمد بن خالد من إخراجه من برقة قم لمّا طعن عليه

__________________

(١) الغيبة (الطوسي) : ٣٥٢ / ٣١٢.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٥٢٠ / ٩٩٩.

(٣) خلاصة الأقوال : ٤٠١ / ١٦١٤.

(٤) الغيبة (الطوسي) : ٣٥٣ ، وفيه : بلال ، بدل : هلال.

(٥) الغيبة (الطوسي) : ٣٥٣ / ٣١٣.

(٦) الغيبة (الطوسي) : ٤٠٢ / ٣٧٧ ، ونسب اللعن فيه للأصحاب.

(٧) رجال النجاشي : ٣٧٨ / ١٠٢٩.

(٨) الغيبة (الطوسي) : ٤١٢ / ٣٨٥ ، ونسب اللعن فيه للأصحاب.

(٩) انظر الهامش التالي.

(١٠) الغيبة : ٦٣ ـ ٧٠ / ٦٥ ـ ٧٥ ، و ٣٥١ ـ ٣٥٣ / ٣١١ ـ ٣١٣.

(١١) اختيار معرفة الرجال : ٥٢٠ / ٩٩٩ ، وقد ذكر الحسن بن محمّد المعروف بابن بابا ومحمد ابن نصير النميري وفارس بن حاتم القزويني.

(١٢) في «ح» بعدها : الأمر.


القمّيون ، ثم إعادته إليها لما ظهرت له براءته ، ومشى في جنازته حافيا ؛ إظهارا لنزاهته ممّا رمي (١) به. وكما أخرج سهل بن زياد الآدمي وأظهر البراءة منه (٢).

ومنع الناس من السماع عنه. وكما استثنى محمد بن الحسن بن الوليد شيخ القميين جملة من الرواة منهم جماعة ممن روى عنهم محمد بن أحمد بن يحيى الأشعري (٣) وغيرهم (٤) ، ونسبوهم إلى الكذب والافتراء.

ومنهم من خرجت فيه التوقيعات ، ومنهم من اطلعوا على حاله الموجب لضعفه ، وقد عدوا من ذلك جماعة ، منهم محمد بن علي الصيرفي أبو سمينة (٥) ، ومحمد بن سنان (٦) ويونس بن ظبيان (٧) ، ويزيد الصائغ (٨) وغيرهم (٩).

وذلك ظاهر لمن تصفّح كتب الرجال واطّلع على ما فيها من الأحوال ، ومن الظاهر البين الظهور أنه مع شهرة الأمر في هؤلاء المعدودين وأمثالهم ، فإنه لا يعتمد أحد ممن اطلع على أحوالهم على رواياتهم ، ولا يدونونها في اصولهم إلّا مع اقترانها بما يوجب صحّتها ويعلن بثبوتها ، كما صرّح به شيخنا البهائي في كتاب (مشرق الشمسين) (١٠).

وها نحن ننقل لك انموذجا يعتمد عليه ممّا ذكره شيخنا الصدوق ـ عطر الله مرقده ـ في كتبه ؛ قال في كتاب (عيون أخبار الرضا عليه‌السلام) ـ بعد نقل حديث في سنده محمد بن عبد الله المسمعي ـ ما هذا لفظه : (قال مصنف هذا الكتاب : كان شيخنا محمد بن الحسن بن الوليد سيئ الرأي في محمد بن عبد الله المسمعي

__________________

(١) خلاصة الأقوال : ٦٣ / ٧٢.

(٢) خلاصة الأقوال : ٣٥٦ / ١٤١١.

(٣) نقد الرجال ٤ : ١٢٨ / ٤٤٥٩.

(٤) الفهرست : ٢٢٣ / ٦٢٦.

(٥) الفهرست : ٢٢٣ / ٦٢٤.

(٦) الفهرست : ٢١٩ / ٦١٩.

(٧) خلاصة الأقوال : ٤١٩ / ١٧٠١.

(٨) رجال النجاشي : ٤٤٨ / ١٣١٠.

(٩) اختيار معرفة الرجال : ٥٤٦ / ١٠٣٣.

(١٠) مشرق الشمسين : ٢٦ ـ ٢٧.


راوي هذا الحديث ، وإنما أخرجت هذا الخبر في هذا الكتاب ؛ لأنه كان في كتاب (الرحمة (١)) وقد قرأته عليه فلم ينكره ، ورواه لي) (٢).

أقول وكتاب (الرحمة) (٣) لسعد بن عبد الله.

وقال في (من لا يحضره الفقيه) ـ في باب ما يجب على من أفطر أو جامع في شهر رمضان ، حيث روى عن المفضل بن عمر ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل أتى امرأته وهي صائمة وهو صائم ، فقال : «إن كان أكرهها فعليه كفارتان ، وإن كانت طاوعته فعليه كفارة» الحديث ـ ما صورته : (قال مصنف هذا الكتاب رضي‌الله‌عنه : لم أجد ذلك في شي‌ء من الاصول ، وإنما تفرد بروايته علي بن إبراهيم بن هاشم) (٤). وقال في كتاب (الغيبة (٥)) ـ بعد أن نقل حديثا عن أحمد بن زياد ما صورته ـ : (قال مصنف هذا الكتاب رضي‌الله‌عنه : لم أسمع هذا الحديث إلّا من أحمد بن زياد رضي‌الله‌عنه بهمدان بعد منصرفي من حج بيت الله الحرام ، وكان رجلا ثقة ديّنا فاضلا رحمة الله ورضوانه عليه) (٦).

وقال أيضا في الكتاب المذكور ـ بعد نقل حديث عن علي بن عبد الله الوراق ـ : (قال مصنف هذا الكتاب رضي‌الله‌عنه : لم أسمع هذا الحديث إلّا من علي بن عبد الله الوراق ، ووجدته بخطه مثبتا ، فسألته عنه فرواه لي عن سعد بن عبد الله عن أحمد بن إسحاق كما ذكرته) (٧) انتهى.

وقال أيضا في كتاب (معاني الأخبار) في باب معنى ما جاء في لعن الذهب

__________________

(١) من «ح» ، وفي «ق» : الترجمة.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢١ ـ ٢٢ / ٤٥.

(٣) وهو كتاب الوضوء ، والصلاة ، والزكاة ، والحج ، والصيام. انظر : رجال النجاشي : ١٧٧ / ٤٦٧ ، الذريعة ١٠ : ١٧٢ / ٣٤٣.

(٤) الفقيه ٢ : ٧٣ / ٣١٣.

(٥) من «ح» ، وفي «ق» : الفقيه.

(٦) كمال الدين : ٣٦٩ / ٦.

(٧) كمال الدين : ٣٨٥ / ١.


والفضة : (قال مصنف هذا الكتاب رحمه‌الله : هذا حديث لم أسمعه إلّا من الحسن بن حمزة العلوي رضي‌الله‌عنه ، ولم أروه عن شيخنا محمد بن الحسن بن الوليد ، ولكنه صحيح عندي) (١).

إلى غير ذلك من المواضع التي يضيق عن نشرها المقام ، كما لا يخفى على من أحاط خبرا بكتبه لا سيما (علل الشرائع والأحكام (٢)) (٣).

ولا يخفى على الفطن اللبيب والموفق المصيب أن تذييله هذه الأخبار ونحوها بأمثال هذا الكلام ، يدلّ دلالة واضحة على أن جميع ما ينقله من الأخبار في كتبه ساكتا عن الكلام عليه ، فهو صحيح عنده متنا وسندا. وفيه أيضا دلالة واضحة على أن جميع تلك الأخبار مستفيضة عنده منقولة من الاصول المعتمدة الموثوق بها.

وبالجملة ، فالخوض في بحور كتب الرجال ، والنظر في مصنفات المتقدّمين ، والاطلاع على سيرتهم وطريقتهم يفيد الجزم بما قلناه. وأما من أخذ بظاهر المشهور من غير تدبر لما هو ثمة مذكور ، فهو فيما ذهب إليه معذور ، وكل ميسر لما خلق له. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

__________________

(١) معاني الأخبار : ٣١٤ / ١.

(٢) ليست في «ح».

(٣) علل الشرائع ٢ : ١٥٩ / ب ٢٠٤ ، ح ١.


(٣٧)

درّة نجفيّة

في تقسيم الأحاديث

قد صرّح جملة من أصحابنا المتأخّرين (١) بأن الأصل في تنويع الحديث إلى الأنواع الأربعة المشهورة هو العلّامة ، أو شيخه جمال الدين أحمد بن طاوس ـ نوّر الله تعالى مرقديهما ـ وأما المتقدمون ، فالأخبار عندهم كلّها صحيحة إلّا ما نبهوا على ضعفه ، والصحيح عندهم ليس باعتبار السند ، بل هو عبارة عما اعتضد بما يوجب الاعتماد عليه من القرائن والأمارات التي ذكرها الشيخ قدس‌سره في كتاب (العدة) (٢).

وعلى هذا جملة من أصحابنا المحدّثين (٣) ، وطائفة من متأخري متأخري (٤) المجتهدين ، كشيخنا المجلسي (٥) ـ رحمه‌الله تعالى ـ وجملة ممن تأخر عنه. وقد اتّسع خرق الخلاف بين المجتهدين من أصحابنا والأخباريين في جمل عديدة من مسائل الاصول الفقهية ، وبسط كل من علماء الفريقين لسان التشنيع على الأخر بما لا ينبغي التعرض له بالكلية.

والحق الحقيق بالاتّباع ما سلكه طائفة من متأخّري المتأخّرين كشيخنا

__________________

(١) منتقى الجمان ١ : ١٤ ، مشرق الشمسين : ٣١ ـ ٣٢ ، وسائل الشيعة ٣٠ : ٢٦٢.

(٢) العدة في اصول الفقه ١ : ١٤٣ ـ ١٥٥.

(٣) الوافي ١ : ٢٢ ـ ٢٤.

(٤) ليست في «ح».

(٥) ملاذ الأخيار ١ : ٢٥ ـ ٢٧.


المجلسي رحمه‌الله (١) وطائفة ممن أخذ عنه وأتى بعده ، فإنّهم سلكوا من طرق الخلاف بين ذينك الفريقين طريقا وسطا من القولين ، ونجدا أوضح من ذينك النجدين ، وخير الامور أوسطها.

والحق هنا في الكلام على الأخبار صحة وضعفا مع الأخباريين ومتقدمي أصحابنا المجتهدين ، وأنا مبين في هذه الدرة ذلك على وجه الحق واليقين ، وموضحه بالأدلة القاطعة والبراهين ، فأقول :

أولا : قد صرّح شيخنا البهائي في كتاب (مشرق الشمسين) (٢) ، وقبله المحقق الشيخ حسن قدس‌سرهما في مقدمات كتاب (المنتقى) (٣) بما ملخصه ؛ وهو أن (٤) الداعي إلى تقرير المتأخّرين رضي‌الله‌عنه هذا الاصطلاح في تنويع الحديث إلى الأنواع الأربعة هو أنه لما طالت المدة فيما بينهم وبين الصدر الأول ، وبعدت عليهم الشقة ، وخفيت عليهم تلك القرائن التي أوجبت صحة الأخبار عند المتقدّمين ، فضاق عليهم ما كان متسعا على غيرهم ، التجئوا إلى العمل بالظن بعد فقد العلم ؛ لكونه أقرب مجازا إلى الحقيقة عند تعذرها.

وبسبب التباس الأخبار ؛ غثّها بسمينها ، وصحيحها بسقيمها (٥) التجئوا إلى هذا الاصطلاح الجديد ، وقربوا لنا البعيد ، ونوّعوا الحديث إلى الأنواع الأربعة.

وزاد في كتاب (مشرق الشمسين) أنهم ربما سلكوا طريقة القدماء في بعض الأحيان ، ثم عد قدس‌سره مواضع من ذلك القبيل. هذا خلاصة ما ذكروه في تعليل ذلك.

ونحن نقول : لنا على بطلان هذا الاصطلاح والحكم بصحّة أخبارنا وجوه من الأدلّة التي لا يداخلها عيب ولا علّة :

__________________

(١) ملاذ الأخيار ١ : ٢٧.

(٢) مشرق الشمسين : ٣٠ ـ ٣٢.

(٣) منتقى الجمان ١ : ١٤.

(٤) في «ح» : بعدها : السبب.

(٥) ليست في «ح».


الأوّل : ما قد عرفت في الدرة المتقدمة من أن منشأ الاختلاف في أخبارنا إنّما هو التقيّة من ذوي الخلاف ، لا من دسّ الأخبار المكذوبة ؛ حتى يحتاج إلى هذا الاصطلاح. على أنه متى كان الداعي إلى هذا الاصطلاح إنما هو دسّ الأحاديث المكذوبة ، كما توهموه ـ رضوان الله عليهم ـ ففيه أنه لا ضرورة تلجئ إلى اصطلاحهم ؛ لأنّهم عليه‌السلام قد أمرونا بعرض ما نشك فيه من الأخبار على (الكتاب) والسنة ، فيؤخذ بما وافقهما ويطرح ما خالفهما.

فالواجب في خبر (١) تمييز الخبر الصادق من الكاذب مراعاة ذلك ، وفيه غنية عما تكلّفوه. ولا ريب أن اتّباع الأئمّة عليهم‌السلام أولى من اتّباعهم.

الثاني : أن التوثيق والجرح اللذين بنوا عليهما تنويع الأخبار إنما أخذوه من كلام القدماء ، وكذلك الأخبار التي رويت في أحوال الرواة مدحا وذمّا ، فإنّما أخذوها عنهم ، فإذا اعتمدوا عليهم في مثل ذلك فكيف لا يعتمدون عليهم في تصحيح ما حكموا بصحته من الأخبار واعتمدوه وضمنوا صحّته؟! كما صرّح به جملة منهم ، ومنهم رئيس المحدّثين الصدوق في كتاب (الفقيه) (٢) ، وقد عرفت ممّا تقدّم في الدرة المتقدمة (٣) أنه المعلوم من سيرته وطريقته (٤) في جميع مصنفاته.

ومنهم ثقة الإسلام الكليني في ديباجة كتابه (الكافي) (٥) ، والشيخ في (العدة) (٦) ، وديباجة كتاب (الاستبصار) (٧) ، فإن كانوا ثقات عدولا في الأخبار بما أخبروا ، ففي الجميع ، وإلّا فالواجب تحصيل الجرح والتعديل من غير كتبهم ، وأنى به؟

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) الفقيه ١ : ٣.

(٣) انظر الدرر ٢ : ٣١١ ـ ٣٢٢ / الدرّة : ٣٦.

(٤) ليست في «ح».

(٥) الكافي ١ : ٨ ـ ٩.

(٦) العدة في اصول الفقه ١ : ٣ ـ ٤.

(٧) الاستبصار ١ : ٤ ـ ٥.


لا يقال : إن إخبارهم بصحة ما رووه في كتبهم ، يحتمل الحمل على الظن القوي باستفاضة ، أو شياع ، أو شهرة يفيد بها ، أو قرينة ، أو نحو ذلك ممّا يخرجه عن محوضة الظن كما أجاب به شيخنا أبو الحسن قدس‌سره في كتابه (العشرة الكاملة) (١) ، حيث إنه فيه كان شديد التعصب لهذا الاصطلاح وترويج القول بالاجتهاد ، إلّا إن مصنفاته المتأخرة تدلّ على عدوله عن ذلك التعصّب الخارج عن طريق السداد ، وميله إلى الطريقة الوسطى التي أشرنا إليها آنفا.

لأنا نقول : فيه :

أولا : أن أصحاب هذا الاصطلاح ـ كما سمعت من كلام الشيخين المتقدّمين ـ مصرحون بأن مفاد الأخبار عند المتقدّمين هو القطع واليقين ، كما صرحت به عبائرهم على الخصوص والتعيين ، وأنّهم إنما عدلوا عنه إلى الظن ؛ لانسداد الطرق التي كانت مفتوحة لأولئك ؛ وعدم تيسّر ذلك لهم لما ذكروا من بعد الشقة وخفاء القرائن.

وأما ثانيا : ما صرحت به تلك العبارات ، ونصّت [عليه] (٢) من أن مرادهم هو القطع واليقين بثبوت تلك الأخبار عن المعصومين.

فإن قيل : تصحيح ما حكموا بصحته أمر اجتهادي لا يجب تقليدهم فيه ، ونقلهم المدح والذمّ رواية يعتمد عليهم فيها.

قلنا : فيه أن إخبارهم بكون ذلك الراوي ثقة أو كذابا أو نحو ذلك ، إنما هو أمر (٣) اجتهادي استفادوه بالقرائن المطلعة على أحواله أيضا.

الثالث : تصريح جملة من العلماء الأعلام بل أساطين الإسلام ومنهم المعتمد

__________________

(١) العشرة الكاملة : ٢١٥.

(٢) في النسختين : عليهم.

(٣) ليست في «ح».


في النقض والإبرام من متقدمي الأصحاب ، ومن متأخريهم الذين هم أصحاب هذا الاصطلاح أيضا بصحة هذه الأخبار وثبوتها عن الأئمّة الأبرار. ولكنا نقتصر على نقل ما ذكره أرباب هذا الاصطلاح في المقام ، فإنه أقوى حجة في النقض والإلزام فمن ذلك ما صرّح به شيخنا الشهيد قدس‌سره في كتاب (الذكرى) في الاستدلال على وجوب اتّباع مذهب الإمامية المنسوب إلى الأئمّة عليهم‌السلام ، حيث قال : (التاسع : اتفاق الامّة على طهارتهم وشرف اصولهم وظهور عدالتهم ، مع تواتر الشيعة (١) إليهم والنقل عنهم بما لا سبيل إلى إنكاره ، حتى إنه كتب من أجوبة مسائل أبي عبد الله عليه‌السلام أربعمائة مصنّف لأربعمائة مصنّف ، ودوّن من رجاله المعروفين أربعة آلاف رجل من أهل العراق والحجاز وخراسان والشام.

وكذلك عن مولانا الباقر عليه‌السلام.

ورجال باقي الأئمّة عليهم‌السلام معروفون مشهورون ، اولو مصنفات مشتهرة ومباحث متكثرة قد ذكر كثيرا منهم العامة (٢) في رجالهم. ونسبوا بعضهم إلى التمسّك بأهل البيت عليهم‌السلام.

وبالجملة ، اشتهار النقل والنقلة عنهم عليهم‌السلام يزيد أضعافا مضاعفة (٣) كثيرة عن النقلة عن كل واحد من رؤساء العامة. فالإنصاف يقتضي الجزم بنسبه ما نقل عنهم إليهم عليهم‌السلام).

إلى أن قال : (ومن رام معرفة رجالهم والوقوف على مصنفاتهم فليطالع (كتاب الحافظ ابن عقدة) ، وفهرست النجاشي ، وابن الغضائري ، والشيخ أبي جعفر الطوسي ، وكتاب (الرجال) لأبي عمرو الكشّي ، وكتب الصدوق أبي جعفر بن

__________________

(١) في «ح» : التقية.

(٢) تهذيب التهذيب ١ : ٨١.

(٣) ليست في «ح» ، والمصدر.


بابويه القمي ، وكتاب (الكافي) لأبي جعفر الكليني ، فإنه وحده يزيد على ما في الصحاح الستّة للعامة متونا وأسانيد ، وكتاب (مدينة العلم) ، و (من لا يحضره الفقيه) قريب من ذلك ، وكتابا (التهذيب) و (الاستبصار) (١) ، ونحو ذلك بالأسانيد الصحيحة المتصلة المنتقدة والحسان والقوية. فالإنكار بعد ذلك ، مكابرة محضة وتعصب صرف).

ثم قال : (لا يقال : فمن أين وقع الاختلاف العظيم بين فقهاء الإمامية إذا كان نقلهم عن المعصومين وفتواهم عن المطهّرين؟

لأنا نقول : محل الخلاف إما من المسائل المنصوصة ، أو ممّا فرعه العلماء.

والسبب في الثاني اختلاف الأنظار ومبادئها ، كما هو بين سائر علماء الأمة ، وأما الأول فسببه اختلاف الروايات ظاهرا ، وقلّما يوجد فيها التناقض بجميع شروطه.

و (٢) كانت الأئمّة في زمن تقية واستتار من مخالفيهم ، فكثيرا ما يجيبون السائل على وفق معتقده أو معتقد بعض الحاضرين أو بعض من عساه يصل إليه من المناوئين ، أو يكون عاما مقصورا على سببه ، أو قضية في واقعة مختصة بها ، أو اشتباها على بعض النقلة عنهم ، أو عن بعض الوسائط بيننا وبينهم) (٣) انتهى.

ولعمري إنه نفيس يستحق أن يكتب بالنور على وجنات الحور ، ويجب أن يسطر ولو بالخناجر على الحناجر. فانظر إلى تصريحه ، بل جزمه بصحّة تلك الروايات التي تضمّنتها هذه الكتب المعدودة ونحوها. وتخلّصه من الاختلاف الواقع في الأخبار بوجوه تنفي احتمال تطرّق دخول الأحاديث الكاذبة فيها.

ومن ذلك ما صرّح به شيخنا الشهيد الثاني ـ أعلى الله رتبته ـ في (شرح

__________________

(١) في «ح» : وكتاب التهذيب ، بدل : وكتابا التهذيب والاستبصار.

(٢) في «ح» : وقد.

(٣) ذكرى الشيعة ١ : ٥٨ ـ ٦٠.


الدراية) ، حيث (١) قال : (كان قد استقر أمر الإمامية على أربعمائة مصنف سموها اصولا ؛ فكان عليها اعتمادهم ، [ثم] تداعت الحال إلى ذهاب معظم تلك الاصول ولخّصها جماعة في كتب خاصة ؛ تقريبا على المتناول. وأحسن ما جمع منها (الكافي) ، و (التهذيب) ، و (الاستبصار) ، و (الفقيه) ..) (٢) انتهى.

وانظر إلى شهادته قدس‌سره بكون أحاديث كتبنا هي أحاديث تلك الاصول بعينها.

وحينئذ ، فالطاعن في هذه كالطاعن في تلك الاصول مع أنه اعترف بأنّه قد استقر أمر الإمامية ومذهبهم عليها.

ثم إن الظاهر أن تخصيصه هذه الكتب الأربعة بالأحسنية إنما هو من حيث اشتمالها على أبواب الفقه كملا على الترتيب بخلاف غيرها من كتب الأخبار ، كما لا يخفى على من جاس خلال تلك الديار. ولا يتوهّم من قوله : (تداعت الحال إلى ذهاب معظم تلك الاصول ، ولخّصها) ـ إلى آخره (٣) ـ أن تلخيص تلك الجماعة إنما وقع بعد ذهاب معظمها ؛ فإن ذلك باطل من وجوه :

أولها : أن التلخيص وقع عطفه في كلامه بالواو دون ثم المفيدة للترتيب.

وثانيها : أن الظاهر ـ كما نبّه عليه بعض فضلائنا ـ أن (٤) اضمحلال تلك الاصول إنما وقع بسبب الاستغناء عنها بهذه الكتب التي دونها أصحاب الأخبار ؛ لكونها أحسن منها جمعا وأسهل تناولا ، وإلّا فتلك الاصول قد بقيت إلى زمن السيد رضي الدين بن طاوس رضي‌الله‌عنه ، كما ذكر أن أكثر تلك الاصول كانت عنده ، ونقل منها شيئا كثيرا كما يشهد به تتبّع مصنّفاته.

وبذلك يشهد كلام ابن إدريس في آخر كتاب (السرائر) حيث نقل ممّا

__________________

(١) من «ح» ، وفي «ق» : أنه حيث.

(٢) الرعاية في علم الدراية : ٧٢ ـ ٧٣.

(٣) إلى آخره ، ليس في «ح».

(٤) من «م» ، وفي النسختين : فان.


استطرفه من جملة منها شطرا وافرا من الأخبار ، ويزيدك بيانا لما ذكرناه ما صرّح به شيخنا البهائي ـ عطر الله مرقده ـ في أول كتاب (مشرق الشمسين) حيث عد من جملة الامور الموجبة للقطع بصحة الأخبار عند المتقدّمين وجوده في كثير من الاصول الأربعمائة المتّصلة بأصحاب العصمة عليهم‌السلام ، قال : (وكانت متداولة بينهم في تلك الأعصار مشتهرة بينهم اشتهار الشمس في رابعة النهار) (١) انتهى.

وبالجملة ، فاشتهار تلك الاصول في زمن اولئك الفحول لا ينكره إلّا معاند جهول.

ومن ذلك ما صرّح به المحقّق الشيخ حسن ابن شيخنا الشهيد الثاني ، حيث قال في بحث الإجازة من كتاب (المعالم) ما صورته : (إن أثر الإجازة بالنسبة إلى العمل إنما يظهر حيث لا يكون متعلقها معلوما بالتواتر ونحوه ، ككتب أخبارنا ، فإنها متواترة إجمالا (٢). والعلم بصحة مضامينها تفصيلا يستفاد من قرائن الأحوال ولا مدخل للإجازة فيه غالبا) (٣).

ومن ذلك ما صرّح به شيخنا البهائي ـ نوّر الله تعالى مرقده ـ في وجيزته ، حيث قال : (جميع أحاديثنا إلّا ما ندر ينتهي إلى أئمتنا الاثني عشر عليهم‌السلام ، وهم ينتهون فيها إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله).

إلى أن قال : (وقد كان جمع قدماء محدثينا ما وصل إليهم من كلام أئمتنا عليهم‌السلام في أربعمائة كتاب تسمى (الاصول) ، ثم تصدّى جماعة من المتأخّرين ـ شكر الله سعيهم ـ لجمع تلك الكتب وترتيبها ؛ تقليلا للانتشار ، وتسهيلا على طالبي تلك

__________________

(١) مشرق الشمسين : ٢٦ ـ ٢٧.

(٢) من «ح».

(٣) معالم الدين وملاذ المجتهدين / قسم الفقه ١ : ١٠٥.


الأخبار ، فألّفوا كتبا مضبوطة مهذّبة مشتملة على الأسانيد المتّصلة بأصحاب العصمة عليهم‌السلام كـ (الكافي) ، و (من لا يحضره الفقيه) ، و (التهذيب) و (الاستبصار) ، و (مدينة العلم) ، و (الخصال) ، و (الأمالي) ، و (عيون الأخبار) وغيرها) (١).

هذا ما حضرني من كلامهم ، نوّر الله تعالى مراقدهم وأعلى مقاعدهم. وأما كلام المتقدّمين كالصدوق في ديباجة كتابه (من لا يحضره الفقيه) (٢) وثقة الإسلام في ديباجة (الكافي) (٣) ، والشيخ الطوسي في جملة من مؤلفاته (٤) ، وعلم الهدى (٥) وغيرهم ممن نقلنا كلامهم في غير هذا الكتاب ، فهو ظاهر البيان ساطع البرهان في هذا الشان.

ثم العجب من هؤلاء الفضلاء الذين نقلنا كلامهم هنا أنه إذا كان الحال على ما صرحت به عبائرهم هنا من صحة هذه الأخبار عن الأئمّة عليهم‌السلام ، فما الموجب لهم إلى المتابعة في هذا الاصطلاح؟ وأعجب من ذلك كلام شيخنا البهائي رحمه‌الله في كتاب (مشرق الشمسين) حيث ذكر ما ملخصه أن اجتناب الشيعة لمن كان منهم ، ثم أنكر إمامة بعض الأئمّة كان أشد من اجتناب المخالفين في المذهب ، وكانوا يحترزون عن مجالستهم والتكلم معهم ، فضلا عن أخذ الحديث عنهم.

فإذا نقل علماؤنا رواية رواها رجل من ثقات أصحابنا عن أحد هؤلاء وعولوا عليها وقالوا بصحّتها مع علمهم بحاله ، فقبولهم لها وقولهم بصحتها لا بدّ من ابتنائه على وجه صحيح لا يتطرق إليه القدح ، ولا إلى ذلك الرجل الثقة الراوي عمّن هذا حاله ، كأن يكون سماعه منه قبل عدوله عن الحق ، وقوله

__________________

(١) الوجيزة (ضمن رسائل الشيخ بهاء الدين) : ٦ ـ ٧.

(٢) الفقيه ١ : ٣.

(٣) الكافي ١ : ٨ ـ ٩.

(٤) تهذيب الأحكام ١ : ٣ ، العدّة في اصول الفقه ١ : ١٢٦.

(٥) رسائل الشريف المرتضى ١ : ٢٦ ، عنه في معالم الاصول ٢٧٤.


بالوقوف ، أو بعد توبته ورجوعه إلى الحق ، أو إن النقل إنما وقع من أصله الذي ألفه واشتهر عنه قبل الوقف ، أو من كتابه الذي ألّفه بعد الوقف.

ولكنه أخذ (١) ذلك الكتاب عن شيوخ أصحابنا الذين عليهم الاعتماد ، ككتب علي بن الحسن الطاطري (٢) ، فإنه وإن كان من أشد الواقفة عنادا للإمامية إلّا إن الشيخ شهد له في (الفهرست) (٣) بأنّه روى كتبه عن الرجال الموثوق بهم وبرواياتهم ، إلى غير ذلك من المحامل الصحيحة (٤) ، إلى آخر كلامه ـ طاب ثراه ـ ولقد أجاد فيما أفاد.

ولكنه ناقض نفسه فيما أورده من العذر للمتأخرين في عدولهم إلى تجديد هذا الاصطلاح ؛ لأن قوله : (كانوا يحترزون عن مجالستهم ، فضلا عن أخذ الحديث عنهم) ، وقوله : (فقبولهم لها وقولهم بصحتها لا بدّ من ابتنائه على وجه صحيح) يستلزم أن تكون أحاديث كتب هؤلاء الأئمّة الثلاثة الّذين شهدوا بصحة ما رووه فيها كلّها صحيحة.

الرابع : أنه لو تمّ ما ذكروه وصحّ ما قرروه للزم فساد الشريعة وإبطال الدين ؛ لأنه متى اقتصر في العمل على هذا القسم الصحيح أو مع الحسن خاصة أو بإضافة الموثّق أيضا ، ورمى بقسم الضعيف [ب] اصطلاحهم من البين ـ والحال أن جل الأخبار من هذا القسم كما لا يخفى على من طالع كتاب (الكافي) اصولا وفروعا ، وكذا غيره من سائر كتب الأخبار وسائر الكتب الخالية من الأسانيد ـ لزم ما ذكرناه ، وتوجّه الطعن به علينا من العامة بأن جل أحاديثنا مكذوبة مزوّرة ، ولذا ترى شيخنا الشهيد في (الذكرى) كيف تخلّص من ذلك بما قدمنا نقله عنه (٥)

__________________

(١) في «ح» بعدها : من.

(٢) في «ح» : الطاهري.

(٣) الفهرست : ١٥٦ / ٣٩٠.

(٤) مشرق الشمسين : ٥٩ ـ ٦١.

(٥) ليست في «ح».


دفعا لما طعنوا به علينا ونسبوه إلينا.

ولله درّ المحقق رحمه‌الله في (المعتبر) حيث قال : (أفرط الحشوية في العمل بخبر الواحد ، حتى انقادوا لكل خبر ، وما فطنوا إلى ما تحته من التناقض ، فإن من جملة الأخبار قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ستكثر بعدي القالة» (١)).

إلى أن قال : (واقتصر بعض عن هذا الإفراط ، فقال : كل سليم السند يعمل به ، وما علم أن الكاذب قد يصدق ، والفاسق قد يصدق. ولم يتنبّه أن ذلك طعن في علماء الشيعة ، وقدح في المذهب ؛ إذ لا مصنف إلّا وهو يعمل بخبر المجروح ، كما يعمل بخبر العدل).

إلى أن قال : (وكل هذه الأقوال منحرفة عن السنن ، والتوسّط أقرب ، فما قبله الأصحاب أو دلت القرائن على صحته عمل به ، وما أعرض الأصحاب عنه أو شذ يجب اطراحه) (٢) انتهى.

وهو قوي متين وجوهر ثمين وإن كان صاحبه قد خالفه في مواضع من كتابه المذكور.

الخامس : أن ما اعتمدوه من ذلك الاصطلاح غير منضبط القواعد والبنيان ، ولا مشيد الجوانب والأركان :

أما أولا : فلأن اعتمادهم في التمييز بين أسماء الرواة المشتركة على الأوصاف (٣) والألقاب والنسب والراوي والمروي عنه ونحوها. ولم لا يجوز الاشتراك في هذه الأشياء ؛ وذلك لأن الرواة عنهم عليهم‌السلام ليسوا محصورين في عدد مخصوص ولا بلد واحد؟

__________________

(١) المعتبر ١ : ٢٩.

(٢) المعتبر ١ : ٢٩.

(٣) شبه الجملة خبر للحرف المشبّه بالفعل.


وقد نقل الشيخ المفيد في إرشاده أن الذين رووا عن الصادق عليه‌السلام خاصة من الثقات على اختلافهم في الآراء والمقالات كانوا أربعة آلاف رجل (١). ونحو ذلك ذكر ابن اشوب‌آشوب في كتاب (معالم العلماء) (٢) والطبرسي في كتاب (إعلام الورى).

والجميع قد وصفوا هؤلاء الأربعة آلاف بالتوثيق ، وهو مؤيّد لما ادّعيناه ، ومشيّد لما أسّسناه. فإذا كان هؤلاء الرواة عن الصادق عليه‌السلام خاصة ، فما بالك بالرواة عن الباقر إلى العسكري عليه‌السلام؟ فأين تأثير القرائن في هذه الأعداد؟ وأين الوصول إلى تشخيص المطلوب منها والمراد؟

وأما ثانيا : فلأن مبنى (٣) تصحيح الحديث عندهم على نقل توثيق رجاله في أحد كتب المتقدّمين ككتاب (الكشي) ، و (النجاشي) ، و (الفهرست) ، و (الخلاصة) ونحوها نظرا إلى أن نقلهم ذلك شهادة منهم بالتوثيق ، حتى إن المحقق الشيخ حسنا في كتاب (المنتقى) لم يكتف في تعديل الراوي بنقل واحد من هؤلاء ، بل أوجب في تصحيح الحديث نقل اثنين منهم لعدالة الراوي ؛ نظرا إلى أنها شهادة فلا يكفي فيها الواحد.

وأنت خبير بما بين مصنّفي تلك الكتب ، وبين رواة الأخبار من المدة والأزمنة المتطاولة ، فكيف اطّلعوا على أحوالهم الموجبة للشهادة بالعدالة أو الفسق؟

والاطلاع على ذلك بنقل ناقل أو شهرة أو قرينة حال أو نحو ذلك ـ كما هو معتمد مصنفي تلك الكتب في الواقع ـ لا يسمى شهادة ، وهم قد اعتمدوا على ذلك وسمّوه شهادة. وهب أن ذلك كاف في الشهادة ، لكن لا بدّ في العمل بالشهادة

__________________

(١) الإرشاد (ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد) ١١ / ٢ : ١٧٩.

(٢) مثل هذا الكلام غير موجود في (معالم العلماء) ، بل ذكره المصنّف في مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٦٨ ـ ٢٦٩.

(٣) في «ح» : معنى.


من السماع من الشاهد ، لا مجرد نقله في كتابه ، فإنه لا يكفي في كونه شهادة.

هب أنه يكفي في ذلك ، فما الفرق بين هذا النقل في هذه الكتب ، وبين نقل أولئك الأجلّاء الذين هم أساطين المذهب صحة ما رووه في كتبهم ، وأنها مأخوذة عن الصادقين عليهم‌السلام ، فيعتمد عليهم في أحدهما دون الآخر؟

وأما ثالثا ، فلمخالفتهم أنفسهم فيما قرّروه من ذلك الاصطلاح ، حيث حكموا بصحة جملة من الأحاديث التي هي ضعيفة بمقتضى ذلك الاصطلاح ، فخرجوا عن مقتضى اصطلاحهم فيها ، كمراسيل ابن أبي عمير وصفوان بن يحيى ، وغيرهما ؛ زعما منهم أن مثل هؤلاء لا يرسلون إلّا عن ثقة ، ومثل بعض الأحاديث الضعيفة المشهور عمل المتقدّمين بها ، فيتستّرون لأجل العمل بها بكونها مجبورة بالشهرة ، ومثل أحاديث جملة من مشايخ الإجازة الذين لم يذكروا في كتب الرجال بمدح ولا قدح ؛ زعما منهم أن هؤلاء مشايخ الإجازة ، وهم مستغنون عن التوثيق. وأمثال ذلك كثير يظهر بالتتبّع (١).

وأما رابعا ، فلاضطراب كلامهم في الجرح والتعديل على وجه لا يقبل الجمع والتأويل ، فترى الواحد منهم يخالف نفسه فضلا عن غيره ، فهذا يقدم الجرح على التعديل ، وهذا يقول : لا يقدم إلّا مع إمكان الجمع ، وهذا يقدم النجاشي على الشيخ ، وهذا ينازعه ويطالبه بالدليل.

وبالجملة ، فالخائض في الفن يجزم بصحة ما ادّعيناه ، والبناء من أصله لمّا كان على غير أساس كثير الانتقاض فيه والالتباس.

السادس : أن أصحاب هذا الاصطلاح قد اتفقوا على أن مورد التقسيم إلى الأنواع الأربعة المذكورة إنما هو خبر الواحد العاري عن القرائن ، وقد عرفت من

__________________

(١) في «ح» مشطوب عنها ، وقد وضعت عليها علامة تصحيح لكن لم يشر لها في الهامش.


كلام اولئك الفضلاء المتقدم نقله ـ وبذلك صرّح غيرهم أيضا أن (١) أخبار كتبنا المشهورة محفوفة بالقرائن الدالة على صحتها.

وحينئذ يظهر عدم وجود مورد التقسيم المذكور في أخبار هذه الكتب ، وقد ذكر صاحب (المنتقى) أن أكثر أنواع الأحاديث المذكورة في دراية الحديث بين المتأخّرين من مستخرجات العامّة بعد وقوع معانيها في أحاديثهم ، وأنه لا وجود لأكثرها في أحاديثنا (٢). وأنت إذا تأملت بعين الحق واليقين وجدت هذا التقسيم هنا من ذلك القبيل.

السابع : أن التعديل والجرح [موقوفان] (٣) على معرفة ما يوجب الجرح ، ومنه الكبائر ، وقد اختلفوا فيها اختلافا منتشرا فلا يمكن الاعتماد على تعديل المعدل وجرحه إلّا مع العلم بموافقة مذهبه لمذهب من يريد العلم (٤). وهذا العلم ممّا لا يمكن أصلا ؛ إذ المعدّلون والجارحون من علماء الرجال ليس مذهبهم في عدد الكبائر معلوما. قال شيخنا البهائي قدس‌سره على ما نقل (٥) عنه من المشكلات : (إنا لا نعلم مذهب (٦) الطوسي في العدالة ، وأنه يخالف مذهب العلّامة ، وكذا لا نعلم مذاهب بقية أصحاب الرجال كالكشي والنجاشي وغيرهم ، ثم نقبل تعديل العلّامة في التعويل على تعديل أولئك.

وأيضا كثير من الرجال ينقل عنه أنه كان على خلاف المذهب ، ثم رجع وحسن إيمانه ، والقوم يجعلون روايته من الصحيح مع أنهم غير عالمين بأن أداء الرواية متوقع بعد التوبة أم قبلها. وهذان المشكلان لا أعلم أن أحدا قبلي تنبه لشي‌ء منهما) انتهى.

__________________

(١) من «ح» ، وفي «ق» : إذ.

(٢) منتقى الجمان ١ : ٩ ـ ١٠.

(٣) في النسختين : موقوف.

(٤) في «ح» : العمل.

(٥) الوافية : ٢٧٤.

(٦) في «ح» بعدها : الشيخ.


الثامن (١) : أن العدالة بمعنى الملكة المخصوصة عند المتأخّرين ممّا لا يجوز إثباتها بالشهادة ؛ لأن الشهادة وخبر الواحد ليس حجة إلّا في المحسوسات دون الامور الباطنة ، كالعصمة ، فلا تقبل فيها الشهادة ؛ فلا اعتماد على تعديل المعدلين بناء على اعتقاد المتأخّرين. وهذا الوجه ممّا أورده المحدّث الأمين الأسترابادي قدس‌سره (٢).

التاسع (٣) : أنه قد تقرر في محله أن شهادة فرع الفرع غير مسموعة ؛ إذ لا يقبل إلّا من شاهد الأصل أو من (٤) شاهد الفرع خاصة ، مع أن شهادة علماء الرجال على أكثر المعدلين والمجروحين إنما من شهادة فرع الفرع ؛ فإن الشيخ والنجاشي ونحوهما لم يلقوا أصحاب الباقر والصادق عليهما‌السلام ، فليست شهادتهم إلّا من قبيل شهادة فرع الفرع (٥) بمراتب كثيرة ، فكيف يجوز العمل شرعا على شهادتهم بالجرح والتعديل (٦)؟ وهذا الوجه أيضا ممّا أفاده الفاضل المحدث المشار إليه ـ أفاض الله تعالى شآبيب جوده عليه ـ إلى غير ذلك من الوجوه الكثيرة. وطالب الحق المنصف تكفيه الإشارة ، والمكابر المتعسف لا ينتفع ولو بألف عبارة.

__________________

(١) سقط في «ح».

(٢) الفوائد المدنيّة : ٢٩٣ ـ ٢٩٤.

(٣) في «ح» : الثامن.

(٤) في «ح» : و، بدل : أو من.

(٥) الشيخ والنجاشي .. فرع الفرع ، من «ح».

(٦) من «ح».



(٣٨)

درّة نجفيّة

جواز استنباط الحكم الشرعي من القرآن

لا خلاف بين أصحابنا الاصوليين في العمل بـ (القرآن) في الأحكام الشرعية والاعتماد عليه ، حتى صنف جملة منهم كتبا في الآيات المتعلّقة بالأحكام الشرعية ، وهي خمسمائة آية عندهم.

وأما الأخباريون منهم ـ وهو المحدّث الأمين الأسترآبادي قدس‌سره ومن تأخر عنه ، فإنه لم يفتح هذا الباب أحد قبله ـ فهم في هذه المسألة ما بين الإفراط والتفريط ، فمنهم من منع فهم شي‌ء منه مطلقا حتى مثل قوله تعالى (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (١) إلّا بتفسير من أصحاب العصمة عليهم‌السلام. قال الفاضل المحدّث الفاضل السيد نعمة الله الجزائري رحمه‌الله في بعض رسائله : (إني كنت حاضرا في المسجد الجامع من شيراز ، وكان الاستاذ المجتهد الشيخ جعفر البحراني ، والشيخ المحدّث صاحب (جوامع الكلم) يتناظران في هذه المسألة فانجر الكلام بينهما حتى قال له الفاضل المجتهد : ما تقول في معنى (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) فهل يحتاج في فهم معناها إلى الحديث؟

فقال : نعم ، لا نعرف معنى الأحدية ، ولا الفرق بين الأحد والواحد ، ونحو ذلك إلّا بذلك) (٢) انتهى.

__________________

(١) الإخلاص : ١.

(٢) ذكر في الأنوار النعمانية ١ : ٣٠٨ ، قريبا منها ، ولم يصرّح فيه باسمي المتناظرين.


ومنهم من جوّز ذلك حتّى كاد يدّعي المشاركة لأهل العصمة عليهم‌السلام في تأويل مشكلاته وحل مبهماته وبيان مجملاته ، كما يعطيه كلام المحدّث المحسن الكاشاني في مقدمات تفسيره (الصافي) (١) جريا على قواعد الصوفية الذين يدّعون مزاحمة الأئمّة عليهم‌السلام في تلك المقامات العلية ، كما لا يخفى على من تتبع كلامه في تفسيره المشار إليه.

والتحقيق في المقام أن يقال : إن الأخبار متعارضة من الجانبين ، ومتصادمة من الطرفين ، إلّا إن أخبار المنع أكثر عددا وأصرح دلالة ، فروى في (الكافي) بإسناده عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «ما ادّعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله كما انزل إلّا كذاب ، وما جمعه وحفظه كما أنزل الله إلّا علي بن أبي طالب والأئمّة من بعده عليهم‌السلام» (٢).

وبإسناده عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «ما يستطيع أحد أن يدعي أن عنده جميع القرآن كله ظاهره وباطنه غير الأوصياء» (٣).

وفي (الكافي) أيضا في حديث الباقر عليه‌السلام مع قتادة : «ويحك يا قتادة ، إن كنت إنما فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت ، وإن كنت أخذته من الرجال فقد هلكت وأهلكت».

إلى أن قال عليه‌السلام : «ويحك يا قتادة ، إنما يعرف القرآن من خوطب به» (٤).

وروى في كتاب (العلل) في حديث دخول أبي حنيفة على الصادق عليه‌السلام أنه قال له : «يا أبا حنيفة ، تعرف كتاب الله حق معرفته ، وتعرف الناسخ من المنسوخ؟».

__________________

(١) التفسير الصافي ١ : ٣٥ ـ ٣٦.

(٢) الكافي ١ : ٢٢٨ / ١ ، باب أنه لم يجمع القرآن كلّه إلّا الأئمّة عليهم‌السلام ، وفيه : نزله ، بدل : أنزل.

(٣) الكافي ١ : ٢٢٨ / ٢ ، باب أنه لم يجمع القرآن كلّه إلّا الأئمّة عليهم‌السلام.

(٤) الكافي ٨ : ٢٥٩ / ٤٨٥.


فقال : نعم. فقال : «يا أبا حنيفة ، لقد ادّعيت علما ، ويلك ما جعل الله ذلك إلّا عند أهل الكتاب الذي أنزله عليهم» (١) الحديث.

وفي جملة من الأخبار الواردة في تفسير قوله تعالى (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا) .. (٢) ـ الآية ـ دلالة على اختصاص ميراث (الكتاب) بهم عليهم‌السلام.

وفي (٣) جملة في (٤) تفسير قوله تعالى (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) (٥) بأن المراد بهم : الأئمّة ، صلوات الله عليهم (٦).

وفي (٧) جملة في تفسير (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (٨) قال : «إيانا عنى» (٩).

ومثل ذلك (١٠) في تفسير قوله سبحانه (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) (١١). وكذا (١٢) في تفسير قوله (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (١٣).

وفي جملة من الأخبار : «ليس شي‌ء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن» (١٤).

وفي مناظرة الشامي لهشام بن الحكم بمحضر الصادق عليه‌السلام المروية في

__________________

(١) علل الشرائع ١ : ١١٢ / ب ٨١ ، ح ٥.

(٢) فاطر : ٣٢.

(٣) من «ح».

(٤) ليست في «ح».

(٥) العنكبوت : ٤٩.

(٦) الكافي ١ : ٢١٤ / ٢ ، باب أن الأئمّة عليهم‌السلام قد أوتوا العلم ..

(٧) من «ح».

(٨) الرعد : ٤٣.

(٩) الكافي ٨ : ٢٢٩ / ٦ ، باب أنه لم يجمع القرآن كلّه إلّا الأئمّة عليهم‌السلام.

(١٠) التفسير الصافي ١ : ٣٩٣.

(١١) الزخرف : ٤٤.

(١٢) التفسير الصافي ١ : ٣١٨ ـ ٣١٩.

(١٣) آل عمران : ٧.

(١٤) تفسير العياشي ١ : ٢٣ / ٨ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٠٣ ـ ٢٠٤ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٣ ، ح ٧٣.


(الكافي) (١) وغيره (٢) قال هشام للشامي : فبعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من الحجة؟ قال الشامي : (الكتاب) والسنة. قال هشام : فهل ينفعنا (الكتاب) والسنة في دفع الاختلاف عنا؟ قال الشامي : نعم. قال هشام : فلم اختلفت أنا وأنت ، وصرت إلينا من الشام في مخالفتنا إياك؟ فسكت الشامي ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «مالك لا تتكلم؟». فقال : إن قلت : لم نختلف كذبت ، وإن قلت : (الكتاب) والسنة يرفعان عنا الاختلاف أحلت (٣) ؛ لأنهما يحتملان الوجوه. [وإن قلت : قد اختلفنا ، وكل واحد منّا يدّعي الحقّ ، فلم ينفعنا إذن (الكتاب) والسنة].

إلى أن قال الشامي لهشام : والساعة من الحجة؟ فقال هشام : هذا القاعد الذي تشدّ إليه الرحال ، ويخبرنا بأخبار السماء ، الحديث. ولا يخفى ما فيه من الصراحة في المطلوب.

وفي رسالة الصادق عليه‌السلام (٤) للشيعة وأمرهم بمدارستها (٥) ، المروية في روضة (الكافي) بأسانيد ثلاثة ما صورته : «قد أنزل الله القرآن وجعل فيه تبيان كل شي‌ء ، وجعل للقرآن ولتعلم القرآن أهلا لا يسع أهل علم القرآن الذين أتاهم الله (٦) علمه أن يأخذوا فيه بهوى ولا رأي ولا مقاييس ، أغناهم الله عن ذلك بما آتاهم الله من علمه ، وخصّهم به وضعه عندهم كرامة من الله أكرمهم بها. وهم أهل الذكر الذين أمر الله هذه الامّة بسؤالهم ، وهم الذين من سألهم ـ وقد سبق في علم الله أن يصدقهم ويتبع أثرهم ـ أرشدوه وأعطوه من علم القرآن ما يهتدي به إلى الله بإذنه وإلى جميع سبل الحق.

وهم الذين لا يرغب عنهم وعن مسألتهم وعن علمهم الذي أكرمهم الله به وجعله

__________________

(١) الكافي ١ : ١٧٢ / ٤ ، باب الاضطرار إلى الحجّة.

(٢) الاحتجاج ٢ : ٢٧٧ ـ ٢٨٢ / ٢٤١ ، بحار الأنوار ٢٣ : ٩ ـ ١٣ / ١٢.

(٣) في المصدر : أبطلت.

(٤) في «ح» بعدها : التي كتبها.

(٥) من «ق» : وفي النسختين : بدراستها.

(٦) ليست في «ح».


عندهم إلّا من سبق عليه في علم الله الشقاء في أصل الخلق تحت الأظلّة ، فاولئك الذين يرغبون عن سؤال أهل الذكر ، والذين أتاهم الله علم القرآن ووصفه عندهم وأمرهم بسؤالهم» (١) الحديث.

وفي بعض خطب أمير المؤمنين عليه‌السلام المروية في روضة (الكافي) أيضا : «فإنّ علم القرآن ليس يعلم ما هو إلّا من ذاق طعمه فعلم بالعلم جهله ، وأبصر به عماه ، وسمع به صممه وأدرك به علم ما فات ، وحيا به بعد إذ مات ، وأثبت عند الله ـ تعالى ذكره ـ به الحسنات ، ومحابه السيئات ، وأدرك به رضوانا من الله تعالى ، فاطلبوا ذلك من عند أهله خاصة ؛ فإنّهم خاصة نور يستضاء به ، وأيمة يهتدى بهم ، وهم (٢) عيش العلم وموت الجهل» (٣) الحديث.

وفي كتاب (المحاسن) في باب (أنزل الله في (القرآن) تبيانا لكلّ شي‌ء) : عنه عن أبيه عمّن ذكره عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رسالة : «وأما ما سألت من القرآن فذلك أيضا من خطراتك المتفاوتة المختلفة ؛ لأن القرآن ليس على ما ذكرت ، وكل ما سمعت فمعناه غير ما ذهبت إليه. وإنما القرآن أمثال لقوم يعلمون دون غيرهم ؛ ولقوم يتلونه حق تلاوته ، وهم الذين يؤمنون به ويعرفونه ، فأمّا غيرهم ، فما أشد استشكاله عليهم وأبعده من مذاهب قلوبهم! ولذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : انه ليس شي‌ء (٤) بأبعد من قلوب الرجال من تفسير القرآن ، وفي ذلك تحير الخلائق أجمعون إلّا من شاء الله. وإنما أراد بتعميته في ذلك أن ينتهوا إلى بابه وصراطه ، وأن يعبدوه وينتهوا في قوله إلى طاعة القوّام (٥) بكتابه والناطقين عن أمره ، وأن يستنبطوا ما احتاجوا إليه من ذلك عنهم لا عن أنفسهم».

__________________

(١) الكافي ٨ : ٤ ـ ٥.

(٢) في «ح» : هو.

(٣) الكافي ٨ : ٣١٩ ـ ٣٢٠ / ٥٨٦.

(٤) من «ح» والمصدر.

(٥) في «ح» : العامّة.


ثم قال (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (١) فأما غيرهم فليس يعلم ذلك أبدا ولا يوجد ، وقد علمت أنه لا يستقيم أن يكون الخلق كلّهم ولاة الأمر ؛ إذ لا يجدون من يأتمرون عليه ولا من يبلغونه أمر الله ونهيه ، فجعل الله الولاة خواصّ ليقتدي بهم من لم يخصّهم بذلك ، فافهم ذلك إن شاء الله.

وإياك وتلاوة القرآن برأيك ، فإنّ الناس غير مشتركين في علمه كاشتراكهم فيما سواه من الامور ، ولا قادرين عليه ولا على تأويله ، إلّا من حدّه وبابه الذي جعله الله له ، فافهم إن شاء الله ، واطلب الأمر من مكانه تجده إن شاء الله» (٢) ، ولا يخفى ما فيه من الصراحة في الدلالة على المطلوب.

وفي بعض الأخبار قال له السائل : أو ما يكفيهم (القرآن)؟ قال عليه‌السلام : «بلى ، لو وجدوا له مفسّرا». قال : وما فسّره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ قال : «بلى فسّره لرجل ، وفسّر للأمّة شأن ذلك الرجل» (٣) الحديث.

وروى العياشي في تفسيره عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من فسر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر وإن أخطأ فهو أبعد من السماء» (٤).

وفي (الكافي) عن الصادق عليه‌السلام : «ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض إلّا كفر» (٥).

وروى الصدوق رحمه‌الله في (المجالس) بسنده عن الرضا عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : قال الله جل جلاله : ما آمن بي من فسر

__________________

(١) النساء : ٨٣.

(٢) المحاسن ١ : ١٤٧ ـ ١٤٨ / ٩٦٠.

(٣) الكافي ١ : ٢٥٠ / ٦ ، باب في شأن (إِنّا أَنْزَلْناهُ).

(٤) تفسير العياشي ١ : ٢٩ / ٤.

(٥) الكافي ٢ : ٦٣٢ ـ ٦٣٣ / ١٧ ، ٢٥ ، باب نوادر كتاب فضل القرآن.


برأيه كلامي ، وما عرفني من شبهني بخلقي» (١) الحديث.

وروى جمع من أصحابنا (٢) وغيرهم (٣) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «من فسر القرآن برأيه فأصاب الحقّ فقد أخطأ».

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من فسر القرآن برأيه فليتبوّأ (٤) مقعده من النار» (٥).

وحمل الرأي في هذه الأخبار على الهوى والميل الطبيعي ـ لترتب الأغراض الفاسدة على ذلك ـ بعيد غاية البعد عن

مناطيق هذه الأخبار ، بل الظاهر منها ـ وهو الذي تجتمع به مع الأخبار المتقدّمة ـ إنما هو ما فسّر بمجرد العقل من غير نقل عن المعصومين ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ ولو تمّ للخصم التأويل في هذه الأخبار بما ذكره ، فهو غير تامّ له في الأخبار المتقدمة ، وصراحتها في المدعى (٦) لا ينكره (٧) إلّا من قال (٨) بالصدّ عن الحق واستكبر.

ويدلّ على ذلك الحديث المتواتر بين الفريقين من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض» (٩).

فإن الظاهر من عدم افتراقهما إنما هو باعتبار الرجوع في معاني (القران) إلى العترة ، صلوات الله عليهم. ولو تم فهمه كلا (١٠) أو بعضا بالنسبة إلى الأحكام

__________________

(١) الأمالي : ٥٥ / ١٠.

(٢) مجمع البيان ١ : ١١ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٠٥ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ٧٩.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ١ : ٣٢ ، وفيه : قال ، بدل : فسر.

(٤) من «ق» ، وفي النسختين : يتبوأ.

(٥) الجامع لأحكام القرآن ١ : ٣٢.

(٦) في «ح» بعدها : مما.

(٧) من «ح» ، وفي «ق» ينكر.

(٨) في «ح» : إلا عند من قائل ، بدل : إلا من قال.

(٩) الأمالي (الصدوق) : ٥٠٠ / ٦٨٦ ، الإرشاد (ضمن سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد) ١١ / ١ : ٢٣٣ ، بحار الأنوار ٢٣ : ١٢٦ / ٥٤ ، مسند أحمد بن حنبل ٣ : ١٧ ، المعجم الكبير ٥ : ١٦٩ ـ ١٧٠ / ٤٩٨٠ ـ ٤٩٨١.

(١٠) في «ح» : كملا.


الشرعية والمعارف الإلهية بدونهم عليهم‌السلام ، لصدق الافتراق ولو في الجملة. فهو خلاف ما دل عليه الخبر ؛ فإن معناه أنهم عليهم‌السلام لا يفارقون (القرآن) ، بمعنى أن أفعالهم وأعمالهم وأقوالهم كلّها جارية على نحو ما في (الكتاب العزيز) ، و (القرآن) لا يفارقهم ، بمعنى أن أحكامه ومعانيه لا تؤخذ إلّا عنهم.

ويؤيد ذلك ما استفاض عن أمير المؤمنين عليه‌السلام من قوله عليه‌السلام : «أنا كتاب الله الناطق ، وهذا كتاب الله الصامت» (١) ، فلو فهم معناه بدونه عليه‌السلام لم يكن لتسميته صامتا معنى.

ويقوّي ذلك أيضا أن (القرآن) مشتمل على الناسخ والمنسوخ ، والمحكم والمتشابه ، والخاص والعام ، والمطلق والمقيد ، والمجمل والمبين ، والتقديم والتأخير ، والتبديل والتغيير ، واستفادة الأحكام الشرعية من مثل ذلك لا تتيسّر إلّا للعالم بجميع ما هنالك ، وليس غيرهم ، صلوات الله عليهم. ولا يخفى على الفطن المنصف المتصف (٢) بالسداد صراحة هذه الأدلّة في المطلوب والمراد. وظني أن ما يقابلها مع تسليم التكافؤ لا صراحة له (٣) ولا سلامة من تطرق الإيراد ، فمن جملة ما استدلوا به الأخبار الواردة بعرض الأخبار المختلفة في الأحكام الشرعية أو غيرها على (القرآن) ، والأخذ بما وافقه وردّ ما خالفه.

وجه الاستدلال أنه لو لم يفهم منه شي‌ء إلّا بتفسير أهل البيت عليهم‌السلام انتفى فائدة العرض (٤).

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ٣٤ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٥ ، ح ١٢ ، بحار الأنوار ٣٩ : ٢٧٢ / ٤٦.

(٢) ليست في «ح».

(٣) من «ق».

(٤) المراد : أنه لو وقع التعارض في الأخبار المفسّرة ، فعلى ما ذا تعرض؟ فتأمّل ، فكأنه قال : لا يفهم شي‌ء من (الكتاب) العزيز إلّا بالخبر ، ولا يعرف الخبر إلّا بـ (الكتاب) وهذا دور ظاهر ، وهو ظاهر البطلان ، فتأمّل. (هامش «ع»).


والجواب أنه لا منافاة ، فإن تفسيرهم عليهم‌السلام إنما هو حكاية مراد الله تعالى ، فالأخذ بتفسيرهم أخذ بـ (الكتاب). ألا ترى أن من عمل بحديث أو بآية قد استفاد معناهما المراد منهما من استاذه أو من تفسير أو شرح ونحو ذلك لا ينسب علمه إلى ذلك الذي استفاد منه معنى الخبر أو الآية ، وإنما [ينسبه] (١) إلى الآية أو الخبر. وهذا بحمد الله تعالى ظاهر لا سترة (٢) عليه.

وأما ما لم يرد فيه تفسير عنهم عليهم‌السلام ، فيجب التوقّف فيه وقوفا على تلك الأخبار ، وتقييدا لهذه الأخبار بتلك. ومن ذلك ، الآيات كقوله سبحانه (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ‌ءٍ) (٣) ، وقوله (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ‌ءٍ) (٤) ، وقوله (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ) (٥) ، وقوله (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (٦).

والجواب أن الآيتين الاوليين لا دلالة فيهما على أكثر من استكمال (القرآن) لجميع الأحكام ، وهو غير منكور. وأما كون فهم تلك الأحكام مشتركا بين كافة الناس كما هو المطلوب بالاستدلال فلا ، كيف وجل آيات (الكتاب) سيما ما يتعلق بالفروع الشرعية كلّها ما بين مجمل ومطلق ، وعام ومتشابه لا يهتدى منه ـ مع قطع النظر عن السنة ـ إلى سبيل ، ولا يعتمد منه على دليل. بل قد ورد من استنباطهم عليهم‌السلام جملة من الأحكام من الآيات ما لا يجسر عليه سواهم ولا يهتدي إليه غيرهم ـ وهو مصداق قولهم فيما تقدم : «ليس شي‌ء أبعد من عقول الرجال من

__________________

(١) في النسختين : ينسب.

(٢) في «ح» : واضح لا سترة ، وفي «ق» : ظاهر لا تستّر.

(٣) النحل : ٨٩.

(٤) الأنعام : ٣٨.

(٥) النساء : ٨٣.

(٦) محمّد : ٢٤.


تفسير القرآن» (١) ، وقولهم : «إنما يعرف القرآن من خوطب به» (٢) ، وقولهم : «إنما أراد تعميته في ذلك لينتهوا إلى بابه» (٣) ـ كالأخبار الدالة على حكم الوصية بالجزء من المال ، حيث فسره عليه‌السلام بالعشر مستدلا بقوله سبحانه (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) (٤) قال : «وكانت الجبال عشرة» (٥).

والوصية بالسهم ، حيث فسره عليه‌السلام بالثمن (٦) ، لقوله سبحانه (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) (٧) الآية.

والنذر بمال كثير حيث فسره عليه‌السلام بالثمانين (٨) ؛ لقوله سبحانه (فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) (٩) وكانت ثمانين موطنا.

ومنه أيضا ما روي (١٠) أن الحسن عليه‌السلام تلا قوله سبحانه (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (١١) ، فقال له معاوية : أين قصة (١٢) لحيتي ولحيتك في (الكتاب)؟ وقد كان الحسن عليه‌السلام حسن اللحية ، وكان معاوية كوسجا قبيح اللحية ، فقال عليه‌السلام (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلّا نَكِداً) (١٣).

وما ورد في حديث أبي الجارود قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : «إذا حدثتكم بشي‌ء (١٤) فاسألوني [عنه] من كتاب الله».

__________________

(١) المحاسن ١ : ٤١٨ / ٩٦٠ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٩١ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٣ ، ح ٣٨.

(٢) الكافي ٨ : ٢٥٩ / ٤٨٥ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٨٥ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٣ ، ح ٢٥.

(٣) المحاسن ١ : ٤١٨ / ٩٦٠ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٩١ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٣ ، ح ٣٨.

(٤) البقرة : ٢٦٠.

(٥) تفسير العياشي ١ : ١٦٤ / ٤٧٥.

(٦) تفسير العياشي ٢ : ٩٦ / ٦٦.

(٧) التوبة : ٦٠.

(٨) تفسير العياشي ٢ : ٩٠ / ٣٧.

(٩) التوبة : ٢٥.

(١٠) الاصول الأصلية : ١٥.

(١١) الأنعام : ٥٩.

(١٢) من «ح» وهو الموافق للمصدر ، وفي «ق» : قصر.

(١٣) الأعراف : ٥٨.

(١٤) في «ح» : بحديث.


ثم قال في بعض حديثه : «نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن القيل والقال ، وفساد المال ، وكثرة السؤال». فقيل له : يا بن رسول الله ، أين هذا من (كتاب الله)؟ قال : «إنّ الله تعالى يقول (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النّاسِ) (١) ، وقال (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) (٢) ، وقال (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (٣)» (٤).

إلى غير ذلك ممّا يطول به الكلام.

وأما الآية الثالثة فظاهر سياقها ، وقوله سبحانه (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (٥) [يدلان] (٦) على كون المستنبطين هم الأئمّة عليهم‌السلام ، وبذلك تواترت أخبارهم عليهم‌السلام. ففي (الجوامع) عن الباقر عليه‌السلام في تفسيرها : «هم الأئمّة المعصومون» (٧).

والعياشي عن الرضا عليه‌السلام : «هم آل محمد ، وهم الذين يستنبطون من القرآن ويعرفون الحلال والحرام (٨)» (٩).

وفي (الإكمال) (١٠) عن الباقر عليه‌السلام مثل ذلك. وقد تقدم في بعض الأخبار التي قدمناها ما يشعر بذلك أيضا.

وأما الآية الرابعة ، فإنا ـ كما سيتضح لك ـ لا نمنع فهم شي‌ء من (القرآن) بالكلية ، كما يدّعيه بعضهم ، ليمتنع وجود مصداق الآية ، فإن دلالة الآيات على

__________________

(١) النساء : ١١٤.

(٢) النساء : ٥.

(٣) المائدة : ١٠١.

(٤) الكافي ٥ : ٣٠٠ / ٢ ، باب في حفظ المال .. ، تهذيب الأحكام ٧ : ٢٣١ ـ ٢٣٢ / ١٠١٠ ، وسائل الشيعة ١٩ : ٨٣ ، كتاب الوديعة ، ب ٦ ، ح ٢.

(٥) النساء : ٨٣.

(٦) في النسختين : يدل.

(٧) جوامع الجامع : ٢٧٤.

(٨) في «ح» بعدها : والحرام.

(٩) تفسير العياشي ١ : ٢٨٦ ـ ٢٨٧ / ٢٠٦.

(١٠) كمال الدين ١ : ٢١٨ / ٢ ، بالمعنى.


الوعد والوعيد والزجر لمن تعدى الحدود الالهية (١) والترغيب والترهيب ظاهر لا مرية فيه ، وهو المراد من التدبر في الآية كما ينادي عليه سياق الكلام.

والقول الفصل والمذهب الجزل في هذا المقام ما أفاده شيخ الطائفة ـ رضوان الله عليه ـ في كتاب (التبيان) ، وتلقّاه بالقبول جملة من علمائنا الأعيان ، حيث قال بعد نقل جملة من أدلّة الطرفين ما لفظه : (والذي نقوله : إن معاني (القرآن) على أربعة أقسام :

أحدها : ما اختص الله بالعلم به ، فلا يجوز لأحد تكلّف القول فيه ولا تعاطي معرفته ، وذلك مثل قوله (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السّاعَةِ أَيّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلّا هُوَ) (٢) ، ومثل قوله (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ) (٣) إلى آخرها. فتعاطي ما اختص الله بالعلم به خطأ.

وثانيها : ما يكون ظاهره مطابقا لمعناه ، فكل من عرف اللغة التي خوطب بها عرف معناه ، مثل قوله (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلّا بِالْحَقِّ) (٤) ، ومثل قوله : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (٥) ، وغير ذلك.

وثالثها : ما هو مجمل لا ينبئ ظاهره عن المراد به مفصّلا ، مثل قوله (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) (٦) ، وقوله (وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ) (٧) وقوله (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) (٨) ، وقوله (فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) (٩) وما أشبه ذلك.

فإن تفصيل أعداد الصلاة وأعداد ركعاتها ، وتفصيل مناسك الحج وشروطه ،

__________________

(١) في «ح» بعدها : والتهديد.

(٢) الأعراف : ١٨٧.

(٣) لقمان : ٣٤.

(٤) الأنعام : ١٥١ ، الإسراء : ٣٣.

(٥) الإخلاص : ١.

(٦) البقرة : ٤٣ ، ٨٣ ، ١١٠ ، وغيرها.

(٧) آل عمران : ٩٧.

(٨) الأنعام : ١٤١.

(٩) المعارج : ٢٤.


ومقادير النصاب في الزكاة لا يمكن (١) في استخراجه إلّا ببيان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ووحي من جهة الله تعالى ، فتكلّف القول في ذلك خطأ ممنوع منه ، يمكن أن تكون الأخبار متناولة له.

ورابعها : ما كان اللفظ مشتركا بين معنيين فما زاد عليهما ، ويمكن أن يكون كل واحد منهما مرادا ، فإنه لا ينبغي أن يقدم أحد فيقول : (إن مراد الله منه بعض ما يحتمله) إلّا بقول نبي أو إمام معصوم) (٢) إلى آخر كلامه زيد في إكرامه.

أقول : وعلى هذا التفصيل تجتمع الأخبار ، وهو وسط بين ذينك القولين ، وخير الامور أوسطها.

ويؤيده ما رواه الفاضل أبو منصور أحمد بن أبي طالب الطبرسي قدس‌سره في كتاب (الاحتجاج) عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث الزنديق الذي جاء إليه بآي من (القرآن) زاعما تناقضها حيث قال عليه‌السلام في أثناء الحديث : «إنّ الله جل ذكره بسعة رحمته ورأفته بخلقه وعلمه بما يحدثه المبدلون من تغيير كتابه قسم كلامه ثلاثة أقسام : [فجعل] قسما منه يعرفه العالم والجاهل ، وقسما لا يعرفه إلّا من صفا ذهنه ولطف حسه وصح تمييزه ممّن شرح الله صدره للإسلام (٣) ، وقسما لا يعرفه إلّا الله وأنبياؤه والراسخون في العلم. وإنما فعل ذلك لئلا يدّعي أهل الباطل ، المستولون على ميراث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من علم الكتاب ما لم يجعل الله لهم ، وليقودهم الاضطرار إلى الائتمار لمن (٤) ولاه أمرهم».

إلى أن قال عليه‌السلام : «وأما ما علمه الجاهل والعالم من فضل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من كتاب الله ، فهو قوله سبحانه (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (٥) ، وقوله : (إِنَّ اللهَ

__________________

(١) في «ح» : يتمكن في ، بدل : يمكن.

(٢) التبيان في تفسير القرآن ١ : ٥ ـ ٦.

(٣) وقسما لا يعرفه إلّا من صفا ذهنه .. للإسلام ، سقط في «ح».

(٤) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : عن.

(٥) النساء : ٨٠.


وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (١) ؛ ولهذه الآية ظاهر وباطن ؛ فالظاهر ، هو قوله (صَلُّوا عَلَيْهِ) و [الباطن قوله] (سَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٢) ، أي سلموا لمن وصّاه واستخلفه عليكم ما عهد إليه ، تسليما.

وهذا ممّا أخبرتك به أنه لا يعلم تأويله (٣) إلّا من لطف حسه وصفا ذهنه وصح تميزه.

وكذلك قوله سلام على آل ياسين (٤) ؛ لأن الله سمّى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بهذا الاسم حيث قال (يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٥) ، لعلمه أنّهم يسقطون السّلام على آل محمد كما أسقطوا غيره» (٦) الحديث.

أقول : والقسم الثاني من كلام الشيخ قدس‌سره هو الأوّل من كلامه عليه‌السلام ، وهو الذي يعرفه العالم والجاهل ، وهو ما كان محكم الدلالة. وهذا ممّا لا ريب في صحة الاستدلال به والمانع مكابر (٧). والقسم الرابع من كلامه ـ رضوان الله عليه ـ هو الثاني من كلامه ـ صلوات الله عليه ـ وهو الذي «لا يعرفه إلّا من صفا ذهنه ولطف حسه».

والظاهر أنه أشار بذلك إلى الأئمّة عليهم‌السلام ؛ فإنهم هم المتصفون بتلك الصفات على الحقيقة وإن ادّعى بعض من أشرنا إليه آنفا دخوله في ذلك ، والآيات التي عدها عليه‌السلام من هذا القسم مؤيدة لذلك ، فإنّها كما أشار إليه ـ صلوات الله عليه ـ من التفسير الباطن الذي لا يمكن التهجّم (٨) عليه إلّا من جهتهم.

__________________

(١) الأحزاب : ٥٦.

(٢) ولهذه الآية ظاهر وباطن .. تسليما ، من «ح» والمصدر.

(٣) لا يعلم تأويله ، من «ح» ، والمصدر ، وفي «ق» : يعرفه.

(٤) الصافّات : ١٣٠.

(٥) يس : ١ ـ ٣.

(٦) الاحتجاج ١ : ٥٩٦ ـ ٥٩٧ / ١٣٧.

(٧) والمانع مكابر ، من «ح».

(٨) كذا في النسختين ، وهو مأخوذ من كلام أمير المؤمنين الآتي ، وإن كان هناك بلفظ (هجم) ؛ فيكون مصدره : الهجوم.


لا يقال : إنه يلزم اتّحاد القسم الثاني من كلامه ـ صلوات الله عليه ـ بما بعده ؛ لكون القسم الثالث أيضا من المعلوم لهم عليهم‌السلام.

لأنا نقول : الظاهر تخصيص القسم الثالث بعلم الشرائع الذي يحتاج إلى توقيف ، وأنه لا يعلمه إلّا هو جلّ شأنه أو أنبياؤه بالوحي إليهم وإن علمه الأئمّة عليهم‌السلام بالوراثة من الأنبياء ، بخلاف الثاني ؛ فإنه ممّا يستخرجونه بصفاء جواهر أذهانهم ، ويستنبطونه بإشراق لوامع أفهامهم.

وحينئذ ، فالقسم الثالث من كلام الشيخ قدس‌سره ، هو الثالث من كلامه عليه‌السلام ، ولعل عدم ذكره ـ صلوات الله عليه ـ القسم الأوّل من كلام الشيخ لقلّة أفراده في (القرآن) المجيد ؛ إذ هو مخصوص بالخمسة المشهورة ، أو أن الفرض التام إنما يتعلّق بذكر الأقسام التي أخفاها جلّ (١) شأنه عن تطرق تغيير المبدلين وإن ذكر منها القسم الأول استطرادا.

ومرجع هذا الجمع الذي ذكره الشيخ قدس‌سره إلى حمل أدلّة الجواز على القسم الثاني من كلامه ـ طاب ثراه ـ وأخبار المنع على ما عداه.

وأما ما يفهم من كلام المحدّث الكاشاني في المقدمة الخامسة من المقدمات التي ذكرها في أول كتابه (الصافي) من الجمع بين الأخبار باعتبار تفاوت أفراد المفسرين ، وحمل أحاديث الجواز على من أخلص الانقياد لله ولرسوله ولأهل البيت عليهم‌السلام ، وأخذ علمه منهم وتتبع آثارهم ، واطّلع على جملة من أسرارهم بحيث يحصل له الرسوخ في العلم ، والطمأنينة في المعرفة وانفتح عينا قلبه ، وهجم به العلم على حقائق الامور ، وباشر روح اليقين ، واستلان ما استوعره المترفون ، وآنس بما استوحش منه الجاهلون ، وصحب الدنيا ببدن (٢) روحه

__________________

(١) في «ح» : من.

(٢) من «ح».


متعلّقة بالمحلّ الأعلى ، فله أن يستفيد من (القرآن) بعض غرائبه ويستنبط منه نبذا من عجائبه ، [و] ليس ذلك من كرم الله بغريب ، ولا من جوده بعجيب ، فليست السعادة وقفا على قوم دون آخرين.

وقد عدّوا عليهم‌السلام جمعا من أصحابهم المتصفين بهذه الصفات من أنفسهم ، كما قالوا : «سلمان منا أهل البيت» (١). فمن هذه صفته لا يبعد دخوله في الراسخين في العلم ، العالمين (٢) بالتأويل ، بل في قولهم : «نحن الراسخون في العلم» (٣) كما دريت في المقدمة السابقة.

وحمل أحاديث النهي على أن يكون للمفسر في الشي‌ء رأي (٤) ، وإليه ميل من طبعه وهواه ، فيتأول (القرآن) على وفق رأيه وهواه ، ليحتجّ على تصحيح غرضه ومدّعاه. ولو لم يكن له ذلك الرأي والهوى لكان لا يلوح له من (القرآن) ذلك المعنى ، أو أن يتسارع إلى تفسير (القرآن) بظاهر العربية من غير استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلّق بغرائب (القرآن) وما فيها من الألفاظ المبهمة والمبدلة ، وما فيها من الاختصار ، والحذف والإضمار ، والتقديم والتأخير ، وفيما يتعلّق بالناسخ والمنسوخ ، والخاص والعام ، والرخص والعزائم ، والمحكم والمتشابه ، إلى غير ذلك من وجوه الآيات.

فمن لم يحكم ظاهر التفسير ومعرفة وجوه الآيات المفتقرة إلى السماع ، وبادر إلى استنباط المعاني بمجرّد فهم العربية كثر غلطه ودخل في زمرة من يفسّر

__________________

(١) الاحتجاج ١ : ٦١٦ / ١٣٩ ، بحار الأنوار ١٠ : ١٢٣ / ٢.

(٢) من «ح» ، وفي «ق» : القائلين.

(٣) بصائر الدرجات : ٢٠٤ / ب ١٠ ، ح ٦ ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٩٨ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٣ ، ح ٥٣.

(٤) للمفسّر في الشي‌ء رأي ، من «ح» ، وفي «ق» : المفسر في الشي‌ء براي.


بالرأي (١) ، انتهى ملخصا ، فظني (٢) بعده غاية البعد وإن جرى فيه على عادته وعادة أصحابه الصوفية من (٣) دعوى المزاحمة للأئمّة عليهم‌السلام في تلك المراتب العلية ، كما سيظهر لك في المقام إن شاء الله تعالى بأوضح دلالة جلية (٤) :

أما أولا ، فلأن ما ذكره ـ من حمل أخبار الجواز على من اتّصف بتلك الصفات التي من جملتها أنه حصل له الرسوخ في العلم ، إلى آخره ـ مسلم ، لكنا لا نسلّم أن هذه الصفات على الحقيقة تحصل لغيرهم ـ صلوات الله عليهم ـ وإن زعم هو وغيره من الصوفية العامية العمياء مزاحمتهم في ذلك.

وبيان ذلك أن هذا الكلام ممّا ذكره أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث كميل بن زياد مشيرا إلى أوصيائه من أبنائه الأئمّة الطاهرين ، وهم لفرط غرورهم ينتحلون ذلك لأنفسهم ، وينقلون حديث كميل في مقام مدح علمائهم ، زاعمين (٥) أن هذا الكلام هم المرادون به. وها أنا أسوق لفظ الخبر لتطّلع على ما فيه ، وتفهم ما هو الحق منه وتعيه ، قال عليه‌السلام : «يا كميل ، إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها ، [ف] احفظ مني (٦) ما أقول لك : الناس ثلاثة : عالم رباني ، ومتعلم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع أتباع كلّ ناعق ، يميلون مع كل ريح ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق. يا كميل ، العلم خير من المال ؛ العلم يحرسك وأنت تحرس المال ، والمال تنقصه النفقة ، والعلم يزكو بالإنفاق .. يا كميل [معرفة] العلم دين الله به يدان (٧) ، يكسب الإنسان الطاعة في حياته وجميل الاحدوثة بعد وفاته .. يا كميل (٨) مات خزان الأموال ، والعلماء

__________________

(١) التفسير الصافي ١ : ٣٦ ـ ٣٧.

(٢) جواب (أما) الوارد في قوله المار : وأمّا ما يفهم من كلام المحدث الكاشاني ..

(٣) من «ح».

(٤) من «ح» ، وفي «ق» : عليه.

(٥) في «ح» بعدها : على.

(٦) في «ح» : عني.

(٧) في «ح» : يدان به.

(٨) ليست في «ح».


باقون ما بقي الدهر ، أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة.

آه آه إن هاهنا ـ وأشار إلى صدره ـ لعلما جمّا لو أصبت له حملة ، بلى أصبت له لقنا (١) غير مأمون يستعمل آلة الدين [للدنيا] (٢) ، ويستظهر بحجج الله على خلقه وبنعمه على عباده ، أو منقادا للحق ولا بصيرة له في [أحنائه] (٣) ، ينقدح الشكّ في قلبه لأوّل عارض شبهة ـ ألا لا ذا ولا ذاك ـ أو منهوما باللذات سلس القياد للشهوات ، أو مغرى بالجمع و [الادّخار] (٤) ليسا من رعاة الدين في شي‌ء ، أقرب شبها بهما الأنعام السائمة ، كذلك يموت العلم بموت حامليه.

اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة ظاهر مشهور أو مستتر مغمور ؛ لئلّا تبطل حجج الله وبيّناته. [وكم ذا] وأين اولئك؟ اولئك (٥) والله الأقلّون عددا ، الأعظمون [قدرا] (٦) ، بهم يحفظ الله حججه وبيّناته حتى يودعوها نظراءهم (٧) ، ويزرعوها في قلوب أشباههم ، هجم بهم (٨) العلم على حقائق الامور ، وباشروا أرواح اليقين واستلانوا ما استوعره المترفون ، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون ، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالملأ الأعلى ، اولئك خلفاء الله في أرضه ، والدعاة إلى دينه. آه آه شوقا إليهم» (٩) الحديث.

ولا أراك في شك بعد نظرك في الخبر (١٠) المذكور بعين التأمل والإنصاف

__________________

(١) اللقن : سريع الفهم ، يريد عليه‌السلام : أنه أصاب فهما غير ثقة. لسان العرب ١٢ : ٣١٧ ـ لقن.

(٢) من المصدر ، وفي النسختين : في الدنيا.

(٣) من المصدر ، وفي النسختين : احسانه.

(٤) من المصدر ، وفي «ح» : الارخاء.

(٥) ليست في «ح».

(٦) من المصدر ، وفي النسختين : خطرا.

(٧) في «ق» بعدها : ويزعمون ، وما أثبتناه وفق «ح» والمصدر.

(٨) في «ح» : به.

(٩) نهج البلاغة : ٦٨٥ ـ ٦٨٧ / ١٤٧ ، الأمالي (الطوسي) : ٢٠ / ٢٣.

(١٠) في «ح» : للخبر ، بدل : في الخبر.


مجانبا للتعصب والاعتساف من صحة ما ذكرناه من أن مراده عليه‌السلام هم الأئمّة من ولده ـ صلوات الله عليه وعليهم ـ فإنهم هم الحجج لله سبحانه بعد الأنبياء عليهم‌السلام ، الذين لا يجوز أن تخلو الأرض من واحد منهم ؛ إما ظاهر مشهور ، أو مستتر مغمور.

وهؤلاء هم الموصوفون بالصفات التي ذكرها ذلك القائل في كلامه ، وزعم أنه وأمثاله مرادون منها ، والحال أنه عليه‌السلام إنما أراد منها الأئمّة ـ صلوات الله عليهم ـ لأنها مؤذنة بعصمة المتّصف فيها ، كما لا يخفى على من تأمل في مضامينها حقّ التأمل. وبذلك أيضا صرّح شيخنا البهائي ـ عطر الله مرقده ـ في كتاب (الأربعين) (١) في شرح الحديث المذكور.

وأما قوله : (وليست السعادة وقفا على قوم دون آخرين) على إطلاقه فممنوع أشد المنع كما عرفت وستعرف. وقوله : (وقد عدوا جمعا من أصحابهم) ـ إلى آخره ـ فيه أنه أيضا قد قالوا : «شيعتنا منا» (٢) ، وقال سبحانه حكاية عن إبراهيم عليه‌السلام ـ (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) (٣).

ومن الظاهر أن (المنية) لا دلالة فيها على أزيد من الاختصاص والقرب ، وإن تفاوت أفراده شدّة وضعفا ، وسبب هذا القرب وإن كان هو تنوّر القلب بأنوار ولايتهم والاقتداء بهم في سنّتهم وطريقتهم ، إلّا إنه لا يستلزم المشاركة لهم في خصوص ما دلّت الأخبار على اختصاصهم به من المزايا الإلهية والخصائص السبحانية.

وأما قوله : (ومن هذه صفته لا يبعد دخوله في الراسخين في العلم) ، [ف] مسلم

__________________

(١) الاربعون حديثا : ٣٤٠ / شرح الحديث : ٢٦.

(٢) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ٧٩ / ٤٠ ، وسائل الشيعة ٩ : ٢٢٩ ، أبواب المستحقين للزكاة ، ب ٧ ، ح ٦.

(٣) إبراهيم : ٣٦.


لو سلم وجود تلك الصفات في غيرهم ـ صلوات الله عليهم ـ لكنه كما عرفت ممنوع أشدّ المنع. ومما يدلّك على صحة ما ذكرناه الأخبار التي قدّمناها دالّة على اختصاصهم عليهم‌السلام بذلك ، ولا سيما حديث (المحاسن) (١) الذي نقلناه بطوله.

ولا بأس بنقل بعض الأخبار التي أجّلنا ذكرها آنفا ؛ لدفع هذه الترّهات الفاسدة وكسر سورة هؤلاء المدّعين لهذه الدعاوى الكاسدة ، وأنهم من جملة الراسخين المرادين من قوله سبحانه (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (٢) ، فروى ثقة الإسلام قدس‌سره بسنده عن منصور بن حازم قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الله أجل وأكرم من أن يعرف بخلقه ـ إلى أن قال ـ : وقلت للناس : أليس تعلمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان الحجّة من الله على خلقه؟ قالوا : بلى. قلت : فحين مضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من كان الحجة لله على خلقه؟ قالوا : (القرآن) ، فنظرت في (القرآن) فإذا هو يخاصم به المرجئ والقدري والزنديق الذي لا يؤمن به حتى يغلب الرجال بخصومته ، فعرفت أن (القرآن) لا يكون حجة إلّا بقيّم ، فما قال فيه من شي‌ء كان حقا ـ إلى أن قال ـ : فأشهد أن عليا كان قيم (القرآن) ، وكانت طاعته مفروضة (٣). الحديث.

وروى في الكتاب المذكور عن عبد الرحمن بن كثير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «الراسخون في العلم : أمير المؤمنين عليه‌السلام والأئمّة من ولده عليهم‌السلام» (٤).

وبهذا الإسناد عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث في قوله تعالى (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) قال : «أمير المؤمنين والأئمّة عليهم‌السلام» (٥).

__________________

(١) المحاسن : ٤١٧ ـ ٤١٨ / ٩٦٠.

(٢) آل عمران : ٧.

(٣) الكافي ١ : ١٦٨ ـ ١٦٩ / ٢ ، باب الاضطرار إلى الحجة.

(٤) الكافي ١ : ٢١٣ / ٣ ، باب أن الراسخين في العلم هم الأئمّة عليهم‌السلام.

(٥) الكافي ١ : ٤١٤ ـ ٤١٥ / ١٤ ، باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية.


وفي رواية أبي بصير قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول في هذه الآية (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) (١) فأومأ بيده (٢) إلى صدره (٣).

وفي رواية عبد العزيز العبدي عن أبي عبد الله عليه‌السلام في تفسير الآية المذكورة قال : «هم الأئمّة عليهم‌السلام» (٤).

ومثله في رواية هارون بن حمزة عنه عليه‌السلام (٥).

وفي رواية بريد بن معاوية قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (٦)؟ قال : «إيّانا عنى وعليّ أولنا وأفضلنا وخيرنا» (٧).

وفي كتاب (التوحيد) بسنده فيه إلى الصادق عليه‌السلام عن أبيه عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام : «إن أهل البصرة كتبوا إلى الحسين عليه‌السلام يسألونه عن الصمد ، فكتب إليهم : بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد : فلا تخوضوا في القرآن ولا تجادلوا فيه ، ولا تتكلّموا فيه بغير علم ، فإني سمعت جدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : من قال في القرآن بغير علم (٨) فليتبوّأ مقعده من النار» (٩) الحديث.

وهو ظاهر فيما قدمنا ذكره من أن المراد بالرأي المنهي عن تفسير (القرآن) به هو ما لم يكن بعلم مستفاد منهم ، صلوات الله عليهم.

وفي خطبة يوم الغدير المروية في كتاب (الاحتجاج) وغيره بعد ذكره صلى‌الله‌عليه‌وآله.

__________________

(١) العنكبوت : ٤٩.

(٢) ليست في «ح».

(٣) الكافي ١ : ٢١٣ / ١ ، باب أن الأئمّة عليهم‌السلام قد اوتوا العلم.

(٤) الكافي ١ : ٢١٤ / ٢ ، باب أن الأئمّة عليهم‌السلام قد أوتوا العلم ..

(٥) الكافي ١ : ٢١٤ / ٤ ، باب أن الأئمّة عليهم‌السلام قد اوتوا العلم.

(٦) الرعد : ٤٣.

(٧) الكافي ١ : ٢٢٩ / ٦ ، باب أنه لم يجمع القرآن كله إلّا الأئمَّة عليهم‌السلام.

(٨) بغير علم ، من «ح» والمصدر.

(٩) التوحيد ٩٠ ـ ٩١ / ٥.


لـ (القرآن) : «معاشر الناس تدبروا [القرآن] وافهموا (١) آياته وانظروا في محكماته ، ولا تتبعوا متشابهه ، فو الله لن يبيّن لكم زواجره ، ولا يوضّح لكم (٢) تفسيره إلّا الذي أنا آخذ بيده ورافع بعضده» (٣) إلى آخره. إلى غير ذلك من الأخبار التي يضيق عنها المقام.

وأما ثانيا ، فلأن ما ذكره في حمل أحاديث النهي من أن المراد : (أن يكون للمفسر في الشي‌ء رأي) ـ إلى آخره ، على تقدير تسليمه ـ إنما يتمشى له في الأخبار الدالّة على النهي عن تفسير (القرآن) بالرأي ، وأما الأخبار المستفيضة المتكاثرة التي قدمنا جملة منها دالّة بأوضح دلالة على اختصاصهم عليه‌السلام بذلك ، فإنه لا مجال لإجراء هذا الجواب فيها. والذي تجتمع عليه الأخبار في المقام وتنتظم انتظاما لا يعتريه الإيهام والإبهام هو حمل الرأي في تلك الأخبار على ما لم يكن بتفسير منهم عليهم‌السلام ، كما دلّت عليه رواية (التوحيد) المتقدمة ، والله العالم.

__________________

(١) في «ح» : اذا فهموا.

(٢) في النسختين بعدها : عن ، وما أثبتناه وفق المصدر.

(٣) الاحتجاج ١ : ١٤٦ / ٣٢.


(٣٩)

درّة نجفيّة

في نضح الماء للجهات الأربع لمن لم يجد ماء كافيا لغسله

روى الشيخ قدس‌سره في (التهذيب) في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يصيب الماء في ساقية ، أو مستنقع أيغتسل منه للجنابة ، أو يتوضأ منه للصلاة إذا كان لا يجد غيره ، والماء لا يبلغ صاعا للجنابة ، ولا مدّا للوضوء ، وهو متفرق؟ فكيف يصنع به ، وهو يتخوف أن يكون السباع قد شربت منه؟ فقال : «إذا كانت يده نظيفة ، فليأخذ كفّا من الماء بيد واحدة فلينضحه خلفه ، وكفّا [عن] أمامه ، وكفّا عن يمينه وكفّا عن شماله ، فإن خشي ألّا يكفيه غسل رأسه ثلاث مرات ، ثم مسح جلده بيده ، فإن ذلك يجزيه.

وإن كان الوضوء ، غسل وجهه ومسح يده على ذراعيه ورأسه ورجليه ، وإن كان الماء متفرّقا فقدر أن يجمعه ، وإلّا اغتسل من هذا وهذا ، فإن كان في مكان واحد وهو قليل لا يكفيه لغسله فلا عليه أن يغتسل ويرجع الماء فيه فان ذلك يجزيه» (١).

أقول : هذا الخبر من مشكلات (٢) الأخبار ومعضلات الآثار ، وقد تكلم فيه جملة من علمائنا الأبرار ـ رفع الله أقدارهم في دار القرار ـ فرأينا في هذا الكتاب بسط (٣) الكلام فيه وإردافه بما يكشف عن باطنه وخافيه ، فنقول : الكلام

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ : ٤١٦ ـ ٤١٧ / ١٣١٥.

(٢) من «ح» ، وفي «ق» : المشكلات.

(٣) قوله : الكتاب بسط ، من «ح».


فيه يقع في مواضع :

الموضع الأول : في موضع النضح

قد اختلف أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ في أن النضح للجوانب الأربعة في الخبر المذكور هل هو للأرض أم البدن؟ وعلى أي منهما فما الغرض منه وما الحكمة فيه؟

القول بأنّ موضع النضح هو الأرض

فقيل (١) : إن محل النضح هو الأرض. وقد (٢) اختلف في وجه الحكمة على هذا القول ، فظاهر الخبر المشار إليه ـ وبه صرّح البعض (٣) ـ أن ذلك لدفع النجاسة الوهمية الناشئة من تخوف شرب السباع التي من جملتها الكلاب ونحوها ، مع قلّة الماء.

ولكن فيه أن تعداد النضح في الجهات الأربع لا يظهر له وجه ترتّب على ذلك ؛ إذ يكفي النضح إلى جهة واحدة. ولعل الأقرب كون ذلك لما ذكر (٤) ، مع منع رجوع الغسالة إلى الماء ، كما يشير إليه قوله عليه‌السلام في آخر الخبر : «وإن كان في مكان واحد وهو قليل لا يكفيه لغسله فلا عليه أن يغتسل ويرجع الماء فيه» ، فإنه يشعر بكون النضح أولا لمنع رجوع الغسالة ، لكن مع قلة الماء على الوجه المذكور لا عليه أن يغتسل ، ويرجع الماء إلى مكانه.

ويؤيّد ذلك ويوضحه أن الذي صرّح به غير هذا الخبر من الأخبار الواردة في هذا المضمار هو أن العلة منع رجوع الغسالة ، ومنها رواية ابن مسكان قال :

__________________

(١) من «ح» ، وفي «ق» : فقل.

(٢) في «ح» : فقد.

(٣) بحار الأنوار ٧٧ : ١٣٨ / ذيل الحديث : ٨.

(٤) في «ح» بعدها : و.


حدّثني صاحب لي ثقة أنه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل ينتهي إلى الماء القليل في الطريق ويريد أن يغتسل وليس معه إناء ، والماء في وهدة ، فإن هو اغتسل رجع غسله في الماء ، كيف يصنع؟ قال : «ينضح بكفّ بين يديه وكفّا من خلفه وكفّا عن يمينه وكفّا عن شماله ، ثم يغتسل» (١).

وما رواه في (المعتبر) (٢) ، و (المنتهى) (٣) عن (جامع البزنطي) عن عبد الكريم عن محمد بن ميسر عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الجنب ينتهي إلى الماء القليل والماء في وهدة ، فإن هو اغتسل رجع غسله في الماء ، كيف يصنع؟ قال : «ينضح بكفّ بين يديه وكفّا خلفه وكفّا عن يمينه وكفّا عن شماله ، ويغتسل (٤)».

وبذلك أيضا صرّح شيخنا الصدوق ـ عطر الله مرقده ـ في (من لا يحضره الفقيه) حيث قال : (فإن (٥) اغتسل الرجل في وهدة ، وخشي أن يرجع ما ينصبّ عنه إلى الماء الذي يغتسل منه ، أخذ كفّا وصبّه أمامه ، وكفّا عن يمينه وكفّا عن يساره (٦) ، وكفّا من خلفه ، واغتسل منه) (٧).

وقال أيضا والده في رسالته إليه : (وإن اغتسلت من ماء في وهدة وخشيت أن يرجع ما ينصب عنك إلى المكان الذي تغتسل فيه ، أخذت له كفّا وصببته عن يمينك ، وكفّا عن يسارك ، وكفّا خلفك وكفّا أمامك ، واغتسلت) (٨).

والخبران المنقولان مع العبارتين المذكورتين وإن اشتركا في كون العلة منع رجوع الغسالة ، لكنها مجملة بالنسبة إلى كون المنضوح الأرض أو البدن.

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ : ٤١٧ ـ ٤١٨ / ١٣١٨ ، وسائل الشيعة ١ : ٢١٧ ـ ٢١٨ ، أبواب الماء المضاف ، ب ١٠ ، ح ٢.

(٢) المعتبر ١ : ٨٨.

(٣) منتهى المطلب ١ : ٢٣.

(٤) من «ح» والمصدر.

(٥) في «ق» قبلها : ويغتسل ، وما أثبتناه وفق «ح» والمصدر.

(٦) في «ق» شماله يساره ، وما أثبتناه وفق «ح» والمصدر.

(٧) الفقيه ١ : ١١ ـ ١٢ / ذيل الحديث : ٢٠.

(٨) انظر المقنع : ٤٦.


وما ذكره في كتاب (المعالم) من أن (العبارة المحكية عن رسالة ابن بابويه ظاهرة في الأوّل حيث قال فيها : (أخذت له كفّا) إلى آخره ، والضمير في قوله : (له) عائد إلى المكان الذي يغتسل فيه ؛ لأنه المذكور قبله في العبارة. وليس المراد به : محل الماء ، كما وقع في عبارة ابنه ، حيث صرّح بالعود إلى الماء الذي يغتسل منه ، وكأن تركه للتصريح بذلك اتّكال على دلالة لفظ الرجوع عليه ، فالجار في قوله : (إلى المكان) متعلق بـ (ينصبّ) ، وصلة (يرجع) غير مذكورة لدلالة المقام عليها) (١) ـ انتهى ـ فظني (٢) أنه بعيد ؛ لاحتمال كون الضمير في (له) عائدا إلى ما يفهمه سوق الكلام من خوف رجوع ما ينصبّ عنه ، بمعنى أنك إذا خشيت ذلك أخذت لدفع ما تخشاه كفّا.

ويؤيّده السلامة من تقدير صلة لـ (يرجع) ، بل صلته هو قوله : (إلى المكان).

غاية الأمر أنه عبّر هنا عن الماء الذي يغترف منه ، كما وقع في عبارة ابنه بالمكان الذي يغتسل فيه ، وهو سهل.

وقيل (٣) : إن (٤) الحكمة فيه اجتماع أجزاء الأرض ، فيمتنع سرعة انحدار ما ينفصل عن البدن إلى الماء (٥) ، وردّه ابن إدريس وبالغ في ردّه بأن استعداد الأرض برشّ الجهات المذكورة موجب لسرعة نزول ماء الغسل (٦). والظاهر أن لكل من القولين وجها باعتبار اختلاف (٧) الآراض (٨) وأن بعضها بالابتلال يكون

__________________

(١) معالم الدين وملاذ المجتهدين / قسم الفقه ١ : ٣٤٦ ـ ٣٤٧.

(٢) خبر (ما) المتضمّنة للشرط في قوله المارّ : (وما ذكر في كتاب المعالم).

(٣) انظر وجوه الحكمة في ذلك في بحار الأنوار ٧٧ : ١٣٨ ـ ١٣٩.

(٤) في «ح» : بان.

(٥) انظر المعتبر ١ : ٨٨.

(٦) السرائر ١ : ٩٤ ، عنه في مشارق الشموس : ٢٥١.

(٧) في «ح» : باختلاف ، بدل : باعتبار اختلاف.

(٨) في «ح» : الأرض.


قبولها للابتلاع للماء (١) الكثير أكثر ، وبعضها بالعكس.

وقيل : إن الحكمة هي عدم عود ماء الغسل ، لكن لا من جهة كونه غسالة ، بل من جهة النجاسة الوهمية التي في الأرض. فالنضح إنما هو لإزالة النجاسة الوهمية منها (٢). والظاهر بعده ؛ لأنه لا إيناس في الخبر المذكور ولا في غيره من الأخبار التي قدمناها بذلك.

وقيل بأن الحكمة إنما هي رفع ما يستقذر منه الطبع من الكثافات بأن يأخذ من وجه الماء أربع أكفّ وينضح على الأرض. صرّح بذلك السيد السند صاحب (المدارك) في حواشي (الاستبصار (٣)) وأيّده بحسنة الكاهلي قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «إذا أتيت ماء وفيه قلة فانضح عن يمينك وعن يسارك وبين يديك وتوضأ» (٤).

ورواية أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنا نسافر ، فربما بلينا بالغدير من المطر يكون إلى جانب القرية فيكون فيه العذرة ، ويبول فيه الصبي ، وتبول فيه الدابة ، فقال : «إن عرض في قلبك منه شي‌ء [فافعل] (٥) هكذا» (٦) ، يعني فرّج الماء بين يديك ، ثم توضأ. وفيه :

أولا : أنه يكفي على هذا مطلق النضح ، وإن كان إلى جهة واحدة ، مع أن الخبر قد تضمّن تفريقه في الجهات الأربع ، ومثله الخبران الآخران المتقدمان. وأما النضح إلى الجهات الثلاث في خبر الكاهلي ، فالظاهر أنه عبارة عن تفريج الماء ، كما في خبر أبي بصير.

__________________

(١) في «ح» : لابتلاع الماء ، بدل : للابتلاع للماء.

(٢) انظر مشارق الشموس : ٢٥١ ـ ٢٥٢.

(٣) في حواشي الاستبصار ، من «ح».

(٤) تهذيب الأحكام ١ : ٤٠٨ / ١٢٨٣.

(٥) من الاستبصار ، وفي النسختين : نقل.

(٦) تهذيب الأحكام ١ : ٤١٧ / ١٣١٦ ، الاستبصار ١ : ٢٢ / ٥٥ ، وسائل الشيعة ١ : ١٦٣ ، أبواب الماء المطلق ، ب ٩ ، ح ١٤.


وثانيا : أن ظاهر الخبرين اللذين قدمناهما ، وكذا كلام الصدوقين منع رجوع الغسالة ، وهذا الخبر وإن كان مجملا بالنسبة إلى ذلك إلّا إن الظاهر ـ كما قدمنا لك ـ أن ذلك ممّا استشعره الإمام عليه‌السلام من سؤال السائل كما يشعر به آخر الخبر ، ولا ينافي ذلك ظهور ما ادّعاه في حسنة الكاهلي ورواية أبي بصير ، فإن الظاهر أن هذا حكم آخر مرتب على علة اخرى غير ما تضمنته هذه الأخبار.

وثالثا : أن ظاهر الخبر ـ كما أشرنا إليه آنفا ـ إنّما هو إزالة النجاسة الوهمية من الماء ، وربما احتمل بعضهم ـ بناء على ذلك ـ أن المنضوح (١) الماء. وأيده أيضا بحسنة الكاهلي ورواية أبي بصير. ولا يخفى بعده وإن قرب احتماله في الخبرين المذكورين.

القول بأنّ موضع النضح هو البدن

هذا كله بناء على أن محل النضح هو الأرض ، وقيل بأن محل النضح هو البدن (٢). وقد اختلف أيضا في وجه الحكمة على هذا (٣) القول على أقوال (٤) : منها أن الحكمة في ذلك ، هو ترطيب البدن قبل الغسل ؛ لئلّا ينفصل عنه ماء الغسل كثيرا ، فلا يفي بغسله لقلّة الماء (٥). وفيه :

أولا : أن ذلك وإن احتمل بالنسبة إلى الخبر المذكور ، لكنه لا يجري في خبري ابن مسكان وخبر جامع البزنطي المتقدّمين ؛ لظهورهما في كون العلة إنّما هي خوف (٦) رجوع الغسالة. والظاهر ـ كما قدمنا الإشارة إليه ـ كون مورد الأخبار الثلاثة أمرا واحدا.

__________________

(١) في «ح» بعدها : هو.

(٢) انظر المعتبر ١ : ٨٨.

(٣) في «ح» : ظاهر.

(٤) انظر وجوه الحكمة في ذلك في بحار الأنوار ٧٧ : ١٣٩ ـ ١٤٠.

(٥) انظر مرآة العقول ١٣ ـ ١٨.

(٦) من «ح».


وثانيا : أنه يلزم من ذلك عدم جواب الإمام عليه‌السلام في الخبر المبحوث عنه عن إشكال السائل المتخوّف من ورود السباع.

ومنها أن الحكمة إزالة توهّم ورود الغسالة ؛ إما بحمل ما يرد على الماء على وروده ممّا نضح على البدن قبل الغسل الذي ليس من الغسالة ؛ وإما إنه مع الاكتفاء بالمسح بعد النضح لا يرجع إلى الماء شي‌ء. ولا يخلو أيضا من المناقشة.

ومنها أن الحكمة في ذلك ليجري ماء الغسل على البدن بسرعة ، ويكمل الغسل قبل وصول الغسالة إلى ذلك الماء.

واعترض عليه ، بأن سرعة جريان ماء الغسل على البدن مقتض لسرعة تلاحق أجزاء الغسالة وتواصلها ، وهو يعين على سرعة الوصول إلى الماء.

واجيب بأن انحدار الماء من أعالي البدن إلى أسافله أسرع من انحداره إلى الأرض المائلة إلى الانخفاض ؛ لأنه طالب للمركز على أقرب الطرق ، فيكون انفصاله عن البدن أسرع من اتصاله بالماء الذي يغترف منه. هذا إذا لم تكن المسافة بين مكان الغسل وبين الماء الذي يغترف منه قليلة جدا ، فلعله كان في كلام السائل ما يدل على ذلك ، كذا نقل عن شيخنا البهائي قدس‌سره (١).

الموضع الثاني : في اشتمال الخبر على بعض الأحكام الشاذة

أن هذا الخبر قد اشتمل على جملة من الأحكام المخالفة لما عليه علماؤنا الأعلام ، منها أمره عليه‌السلام بغسل رأسه ثلاث مرات ومسح بقية بدنه ، فإنه يدل على إجزاء المسح عن الغسل عند قلّة الماء. وهو غير معمول عليه عند جمهور الأصحاب عدا ابن الجنيد ، فإن المنقول عنه وجوب غسل الرأس ثلاثا والاجتزاء

__________________

(١) مشرق الشمسين : ٤٠٨.


بالدهن في بقية البدن. إلّا (١) إن أخبار الدهن الواردة في الوضوء (٢) تساعده.

ومنها قوله عليه‌السلام : «فإن كان في مكان واحد ..» ـ إلى آخره ـ فإنه يدل على أن الجنب إذا لم يجد من الماء إلّا ما يكفيه لغسل بعض أعضائه ، غسل ذلك البعض به وغسل الآخر بغسالته ، وأنه لا يجوز ذلك إلّا مع قلة الماء ، كما يفيده مفهوم الشرط.

وهو مؤيد لما ذهب إليه المانعون من استعمال الغسالة ثانيا (٣) ، ومؤذن بما أشرنا إليه سابقا من أن النضح المأمور به في صدر الخبر إنما هو للمنع من رجوع الغسالة ، إلّا إن الأكثر يحملون ذلك على الفضل والكمال.

الثالث ) : في دلالة الخبر على المنع من استعمال الماء ثانية

أنه على تقدير جعل متعلق النضح في الخبرين المذكورين (٥) الأرض ، وأن وجه الحكمة فيه هو عدم رجوع ماء الغسل إلى الماء الذي يغتسل منه ـ كما هو أظهر الاحتمالات المتقدّمة مع اعتضاده بخبري ابن مسكان ، ومحمد بن ميسر المتقدّمين ـ يكون ظاهر الدلالة على ما ذهب إليه المانعون من استعمال المستعمل ثانيا. وظاهر الأكثر حمل ذلك على الاستحباب ، كما صرّح به العلّامة في (المنتهى) (٦) مقربا له بحسنة الكاهلي (٧) المتقدمة.

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) انظر وسائل الشيعة ١ : ٢١٦ ، أبواب الماء المضاف والمستعمل ، ب ١٠ ، ح ١ ، و ٢ : ٢٤٠ ، أبواب الجنابة ، ب ٣١ ، ح ٦.

(٣) شرائع الإسلام ١ : ٨ ، المعتبر ١ : ٩١ ، إصباح الشيعة : ٢٥.

(٤) من «ح» ، وفي «ق» : الثاني.

(٥) في «ح» : الخبر المذكور ، بدل : الخبرين المذكورين.

(٦) منتهى المطلب ١ : ٢٣.

(٧) من «ح» ، وفي «ق» : الباهلي.


وجه التقريب أن الاتفاق واقع على عدم المنع من المستعمل في الوضوء ، فالأمر بالنضح له في الحديث محمول على الاستحباب عند الكل ، فلا يبعد أن تكون تلك الأوامر الواردة في تلك الأخبار كذلك.

وأنت خبير بأنّه يأتي ـ بناء على ما حققناه في موضع آخر ـ ابتناء ذلك على ما هو الغالب من بقاء النجاسة إلى آن الغسل ، إلّا إنه يدفعه في الخبر المبحوث عنه قوله في آخره في صورة فرض قلة الماء : «فلا عليه أن يغتسل ويرجع فيه فإنه يجزيه».

الرابع : في المنع في رجوع الغسالة إلى الماء

روى في كتاب (الفقه الرضوي) قال عليه‌السلام : «إن اغتسلت من ماء في وهدة ، وخشيت أن يرجع ما تصب عليك أخذت كفّا فصببت على رأسك ، وعلى جانبيك كفّا كفّا ، ثم أمسح بيدك وتدلك (١) بدنك» (٢).

أقول : وهذا الخبر قد ورد بنوع آخر في منع رجوع الغسالة ، وهو أن تغتسل على الكيفية المذكورة في الخبر. والظاهر

تقييد ذلك بقلّة الماء ، كما دلّ عليه الخبر المبحوث عنه ؛ إذ الاجتزاء بالغسل المذكور مع كثرة الماء وإتيانه على الغسل الكامل لا يخلو من الإشكال إلّا على مذهب المانعين من استعمال الغسالة.

الخامس : في فساد الماء القليل بنزول الجنب إليه

قال الشيخ في (النهاية) : (متى حصل الإنسان عند غدير أو قليب ولم يكن معه ما يغترف به الماء لوضوئه ، فليدخل يده ويأخذ منه ما يحتاج إليه وليس عليه شي‌ء ، وإن أراد الغسل للجنابة وخاف إن نزل إليها فساد الماء ، فليرشّ عن

__________________

(١) في «ح» : وتدلك بيدك ، بدل : بيدك وتدلك.

(٢) الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا عليه‌السلام : ٨٥.


يمينه ويساره وأمامه وخلفه ، ثم ليأخذ كفّا كفّا من الماء فليغتسل به) (١) انتهى.

قال في (المعالم) ـ بعد نقل ذلك عنه ـ : (وهو لا يخلو من إشكال ؛ فإن ظاهره كون المحذور في الفرض المذكور هو فساد الماء بنزول الجنب إليه واغتساله فيه ، ولا ريب أن هذا يزول بالأخذ من الماء والاغتسال خارجه. وفرض إمكان الرش يقتضي إمكان الأخذ ، فلا يظهر لحكمة بالرشّ حينئذ وجه).

ثم نقل عن المحقق في (المعتبر) أنه تأوّله فقال : (إن عبارة الشيخ لا تنطبق على الرشّ إلّا أن يجعل في (نزل) ضمير ماء الغسل ، ويكون التقدير : وخشي إن نزل ماء الغسل فساد الماء. وإلّا بتقدير أن يكون في (نزل) ضمير المريد لا ينتظم المعنى ؛ لأنه إن أمكنه الرشّ لا مع النزول أمكنه الاغتسال من غير نزول) (٢).

ثم قال بعده : (وهذا الكلام حسن وإن اقتضى كون المرجع غير مذكور صريحا ، فإن محذوره هين بالنظر إلى ما يلزم على التقدير الآخر خصوصا بعد ملاحظة كون الغرض بيان الحكم الذي وردت به النصوص ، فإنه لا ربط للعبارة به على ذلك التقدير.

وفي بعض نسخ (النهاية) : (وخاف أن ينزل إليها فساد الماء) ، على صيغة المضارع ، فالإشكال حينئذ مرتفع ؛ لأنّه مبني على كون العبارة عن النزول بصيغة الماضي ، وجعل (ان) مكسورة الهمزة شرطية ، وفساد الماء مفعول (خشي) ، وفاعل (نزل) ، الضمير العائد إلى المريد. وعلى النسخة التي ذكرناها يجعل (أن) مفتوحة الهمزة مصدرية ، وفساد الماء فاعل (ينزل) ، والمصدر المؤوّل من (أن ينزل) مفعول (خشي) (٣) ، وفاعله ضمير المريد.

__________________

(١) النهاية : ٨ ـ ٩.

(٢) المعتبر ١ : ٨٨.

(٣) كذا في المخطوط والمصدر ، وإلّا فالفعل (خاف) وليس (خشي) كما هي العبارة المذكورة في أوّل الفقرة.


وحاصل المعنى أنه مع خشية نزول الماء المنفصل من بدن المغتسل إلى المياه التي يريد الاغتسال منها وذلك بعود الماء الذي اغتسل به إليها ، فإن المنع المتعلق به يتعدّى إليها بعوده فيها ، وهو معنى نزول الفساد إليها ، فيجب الرشّ حينئذ حذرا من ذلك الفساد. وهذا عين كلام باقي الجماعة ومدلول الأخبار ، فلعل الوهم في النسخة التي وقع فيها لفظ الماضي ، فإن حصول الاشتباه في مثله وقت الكتابة ليس بمستبعد) (١) انتهى كلامه زيد مقامه.

أقول : ما نقله عن بعض نسخ (النهاية) من التعبير في تلك اللفظة بلفظ المضارع هو الموجود في أصل النسخة التي عندي ، وهي معتمدة ، إلّا إن الياء قد حكّت ، وعلى الهامش مكتوب بخط شيخنا العلّامة أبي الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني ـ نوّر الله تعالى مرقده ـ : (نزل) بيانا لذلك. ولا ريب أنه على تقدير النسخة المذكورة يضعف الإشكال ، كما ذكره قدس‌سره ، إلّا إنه من المحتمل بل الظاهر أنه على تقدير نسخة الماضي أن المعنى : أنه إذا أراد الغسل للجنابة وخاف بنزوله في الماء للغسل ارتماسا فساد الماء ؛ إما باعتبار نجاسة بدنه أو باعتبار إثارة (٢) الحمأة أو نحو ذلك ، فإنه يغتسل ترتيبا خارج الماء ، ولكن يرش الأرض لأحد الوجوه المتقدمة التي أظهرها وأوفقها بمذهبه منع رجوع الغسالة.

ولا ريب أنه معنى صحيح لا غبار عليه ولا إشكال يتطرق إليه ، والله العالم بحقائق أحكامه ، ونوّابه القائمون بمعالم حلاله وحرامه.

__________________

(١) معالم الدين وملاذ المجتهدين / قسم الفقه ١ : ٣٤٨ ـ ٣٥٠.

(٢) شطب عنها في «ح».



(٤٠)

درّة نجفيّة

في حجيّة الإجماع

قد عدّ جملة من أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ من جملة الأدلة الشرعية الإجماع ، وردّه آخرون لعدم الدليل على ذلك. ومجمل الكلام في المقام ما أفاده المحقق طاب ثراه في (المعتبر) واقتفاه فيه جمع ممن تأخر (١) ، قال قدس‌سره : (وأما الإجماع ، فعندنا هو حجة بانضمام المعصوم ، فلو خلا المائة من فقهائنا عن قوله لما كان حجة ولو حصل في اثنين لكان قولهما حجة ، لا باعتبار اتفاقهما ، بل باعتبار قوله. فلا تغتر إذن بمن يتحكّم فيدّعي الإجماع باتّفاق الخمسة والعشرة من الأصحاب مع جهالة قول الباقين) (٢) انتهى كلامه زيد مقامه.

وحينئذ ، فالحجة هو قوله عليه‌السلام ، لا مجرد الاتفاق ؛ فيرجع الكلام على تقدير ثبوت الإجماع المذكور إلى خبر منسوب إلى المعصوم إجمالا. وترجيحه على الأخبار المنسوبة إليه تفصيلا غير معقول ، وكأنهم زعموا أن انتسابه إليه في ضمن الإجماع قطعي ، وإلّا في ضمنه (٣) ظني وهو ممنوع. على أن تحقّق هذا الإجماع في زمن الغيبة متعذّر ، لتعذّر ظهوره عليه‌السلام ، وعسر ضبط العلماء على وجه يتحقّق

__________________

(١) تمهيد القواعد : ٢٥١ ، معالم الاصول : ٢٤٠ ، وقريب منهما ما في مبادئ الوصول إلى علم الاصول : ١٩٠.

(٢) المعتبر ١ : ٣١.

(٣) في «ح» : ولا فضمنه ، بدل : وإلّا في ضمنه.


دخول قوله في جملة أقوالهم ، إلّا أن ينقل ذلك بطريق التواتر أو الآحاد المشابه له نقلا مستندا إلى الحسّ بمعاينة أعمال جميع من يتوقف انعقاد الإجماع عليه ، أو سماع أقوالهم على وجه لا يمكن حمل القول والعمل على التقية ونحوها ، ودونه خرط القتاد (١) ؛ لما يعلم يقينا من تشتت العلماء وتفرّقهم في أقطار الأرض ، بل انزوائهم في بلدان المخالفين وحرصهم على ألّا يطّلع على عقائدهم ومذاهبهم.

وما يقال من أنه إذا وقع إجماع الرعيّة على الباطل يجب على الإمام أن يظهر ويباحثهم حتى يردّهم إلى الحقّ ؛ لئلا يضل الناس ، أو أنه يجوز أن تكون هذه الأقوال المنقولة في كتب الفقهاء التي لا يعرف قائلها قولا للإمام عليه‌السلام ألقاه بين أقوال العلماء ، حتى لا يجمعوا على الخطأ كما ذهب إليه بعض المتأخّرين ، حتى إنه قدس‌سره كان يذهب إلى اعتبار تلك الأقوال المجهولة القائل ؛ لذلك ، فهو ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه ، ولا يعرّج في مقام التحقيق عليه :

أما الأوّل منهما ، فلما هو ظاهر لكل ناظر من تعطيل الأحكام جلها ، بل كلّها في زمن الغيبة ، ولا سيما في مثل زماننا هذا الذي قد انطمست فيه معالم الدين ، وصار جملة أهله شبه المرتدّين ، وقد صار المعروف فيهم منكرا والمنكر معروفا ، وصارت الكبائر لهم إلفا مألوفا.

وأما الثاني منهما ، فكيف يكفي في الحجية مجرد احتمال كون ذلك هو المعصوم مع أنهم في الأخبار يبالغون في تنقية أسانيدها والطعن في رواتها ، ولا يحتجون إلّا بصحيح السند منها ، ولا يكتفون بمجرد الاحتمال هناك مع توفر

__________________

(١) إشارة إلى المثل المشهور : (دون ذلك خرط القتاد) ، يضرب للأمر دونه مانع. مجمع الأمثال ١ : ٤٦٧ / ١٣٩٥.


القرائن على الصحة كما قدمناه في بعض الدرر المتقدمة (١)؟ فكيف يتم ما ذكروه هنا؟ ما هذا إلّا تخريص في الدين وجمود على مجرد التخمين ، وهو ممّا قد نهت عنه شريعة سيد المرسلين (٢) ، واستفاضت برده آيات (٣) (الذكر) المبين (٤).

وعلى هذا فليس في عد الإجماع في الأدلة الشرعية إلّا مجرّد تكثير العدد وإطالة الطريق ؛ لأنه علم دخوله عليه‌السلام فلا بحث ولا مشاحّة في إطلاق اسم الإجماع عليه ، وإسناده الحجية إليه ولو تجوّزا ، وإلّا فإن ظنّ ـ ولو بمعاضدة خبر واحد ـ فكذلك ، وإلّا فليس نقل الإجماع بمجرده موجبا لظن دخول المعصوم ولا كاشفا عنه كما ذكروه.

نعم ، لو انحصر جملة الحديث في قوم معروفين أو بلد محصورة في وقت ظهوره عليه‌السلام كما في وقت الأئمّة الماضين ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ اتّجه القول بالحجية ؛ إذ من المعلوم الذي لا يداخله الشكّ والريب أنه كان في عصرهم ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ جماعة كثيرة (٥) من العلماء الأتقياء ونقله الحديث وحفّاظ الرواية قرنا بعد قرن وخلفا بعد سلف في مدة كثيرة (٦) تقرب من ثلاثمائة سنة ، وكانوا مشهورين بالعلم والتقوى ، ومنصوبين للإفادة عنهم والفتوى ، يختلفون إلى مجالسهم ، ويأخذون الأحكام عنهم مشافهة إن أمكن أو بوسائط.

وقد صنّفوا عنهم الاصول الأربعمائة المشهورة ، وخرجت المدائح والأثنية البالغة عنهم عليهم‌السلام في جمع كثير منهم ، فكانوا (٧) من الفائزين بأخذ العلوم منهم

__________________

(١) انظر الدرر ٢ : ٣٢٣ ـ ٣٣٧ / الدرّة : ٣٧.

(٢) مجمع البيان ٩ : ١٧٤ ، كنز الدقائق ٩ : ٦٠٧.

(٣) انظر : الآية : ٣٦ من سورة يونس ، والآية : ٢٨ من سورة النجم ، والآية : ١٢ من سورة الحجرات.

(٤) من «ح» ، وفي «ق» : الحكيم.

(٥) من «ح».

(٦) ليست في «ح».

(٧) في «ح» بعدها : فيه.


بطريق العلم واليقين دون الظن والتخمين والعمل (١) على الأقيسة والآراء ، والظنون والأهواء.

ومن المعلوم أنهم إذا اتّفقوا كملا ، أو علم اتفاق جمع منهم وإن لم يعلم حال الباقين (٢) على الحكم من الأحكام ، علم بذلك أنه مذهب الأئمّة ـ صلوات الله عليهم ـ إذ من المعلوم عادة أنه يمتنع اتفاقهم على الباطل ؛ لما ذكرنا مع تمكّنهم من العلم.

وأيضا فإن مذهب كل إمام لا يعلم إلّا بنقل أتباعه وشيعته ومقلديه ، فإنه لا يعلم مذهب أبي حنيفة في الفروع والاصول إلّا بنقل أتباع مذهبه ، وهكذا الشافعي وباقي المذاهب أصولا وفروعا.

ويقرب من هذا أيضا ما لو أفتى جماعة من الصدر الذي يقرب منهم (٣) ـ عصر الصدوق وثقة الإسلام الكليني ونحوهما ، عطر الله مراقدهم ـ من أرباب النصوص بفتوى لم نقف فيها على خبر ولا مخالف منهم ، فإنه أيضا ممّا يقطع بحسب العلم العادي فيها بالحجية ، وأن ذلك قول المعصوم عليه‌السلام ؛ لوصول نص لهم في ذلك. ومن هنا نقل جمع من أصحابنا ـ رضي‌الله‌عنهم ـ أن المتقدّمين كانوا إذا أعوزتهم النصوص يرجعون إلى فتاوى علي بن الحسين بن بابويه رضي‌الله‌عنه (٤).

وأنت خبير بأن جملة من متأخري أصحابنا المحققين وأن عدوا الإجماع في جملة الأدلة في كتبهم الاصولية واستسلفوه أيضا في مواضع من الكتب الفروعية إلّا إنهم في مقام الترجيح والتحقيق يتكلمون فيه ويمزّقونه تمزيقا لا يبقي له عينا ولا أثرا كما لا يخفى على من طالع كتبهم الاستدلالية كـ (المسالك) (٥) ،

__________________

(١) من «ح» ، وفي «ق» : التعلم.

(٢) في هامش «ح» بعدها : منهم.

(٣) من «ح».

(٤) انظر ذكرى الشيعة ١ : ٥١.

(٥) مسالك الأفهام ٦ : ٢٩٨ ـ ٢٩٩.


و (المدارك) (١) ، و (الذكرى) (٢) ونحوها.

قال المحقق الشيخ في (المعالم) في بيان تحقق امتناع الإجماع المذكور في زمن الغيبة : (الحق امتناع الاطّلاع عادة على حصول الإجماع في زماننا هذا وما ضاهاه من غير جهة النقل ؛ إذ لا سبيل إلى العلم بقول الإمام ، كيف ، وهو موقوف على وجود المجتهدين من المجهولين ليدخل في جملتهم ، ويكون قوله مستورا بين أقوالهم؟ وهذا ممّا يقطع بانتفائه.

فكل إجماع في كلام الأصحاب ممّا يقرب من عصر الشيخ إلى زماننا هذا ، وليس مستندا إلى نقل متواتر أو آحاد حيث يعتبر ، أو مع القرائن المفيدة للعلم فلا بدّ أن يراد به ما ذكره الشهيد من الشهرة.

وأما الزمان السابق على ما ذكرناه ، المقارب لعصر ظهور الأئمّة عليهم‌السلام ، وإمكان العلم بأقوالهم ، فيمكن فيه حصول الإجماع والعلم به بطريق التتبّع. وإلى مثل هذا نظر بعض علماء أهل الخلاف ، حيث قال (٣) : الإنصاف أنه لا طريق إلى معرفة حصول الإجماع ، إلّا في زمان الصحابة ، حيث كان المؤمنون قليلين يمكن معرفتهم بأسرهم (٤) على التفصيل) (٥) انتهى كلام المحقق المذكور. ومن أراد زيادة كشف في المقام ، فليرجع إلى كلام الشهيد في أول كتابه (الذكرى) (٦).

وبالجملة ، فالتحقيق أن أساطين الإجماع كالشيخ والمرتضى وابن إدريس وأضرابهم قد كفونا مؤنة القدح فيه وإبطاله بمناقضة بعضهم بعضا في دعوى الإجماع المذكور ، بل مناقضة الواحد منهم نفسه في ذلك كما لا يخفى على المتتبع البصير ، ولا ينبّئك مثل خبير.

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ٢٧٥.

(٢) ذكرى الشيعة ١ : ٤٩ ـ ٥٢.

(٣) المحصول في علم الاصول ٢ : ٨.

(٤) من «ح» والمصدر ، وفي «ق» : أصلهم.

(٥) معالم الاصول : ٢٤٢ ـ ٢٤٣.

(٦) ذكرى الشيعة ١ : ٤٩ ـ ٥٢.


ولقد كان عندي رسالة ، الظاهر أنها من تصانيف شيخنا الشهيد الثاني قدس‌سره ، كتبها في الإجماعات التي ناقض الشيخ رحمه‌الله نفسه فيها ، وقد ذهبت في بعض الحوادث التي جرت على جزيرتنا (البحرين).

فإن قيل : إن بعض الأخبار ممّا يدل على حجية الإجماع واعتباره ، فيكون لذلك دليلا شرعيا ، كمقبولة عمر بن حنظلة ، حيث قال عليه‌السلام في جواب السائل لما قال : فإنّهما عدلان مرضيان عند أصحابنا ، فقال عليه‌السلام : «ينظر إلى ما كان من روايتهما في ذلك الذي حكما به ، المجمع عليه بين أصحابك ، فيؤخذ [به] من حكمنا ، ويترك الشاذ النادر الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» (١) الحديث.

وما رواه في (الكافي) في باب إبطال الروية في الصحيح عن صفوان قال : سألني أبو قرّة المحدّث أن ادخله على أبي الحسن الرضا عليه‌السلام ـ إلى أن قال ـ فقال أبو قرة : فتكذب بالروايات؟ فقال أبو الحسن عليه‌السلام : «إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها ، وما أجمع عليه المسلمون ، أنه لا يحاط به علما ولا تدركه الأبصار» (٢) الحديث.

وما رواه في (الكافي) أيضا في الباب المذكور ، عن محمد بن عبيدة قال : كتبت إلى أبي الحسن الرضا عليه‌السلام أسأله عن الرؤية ، وما ترويه العامة والخاصة ، وسألته أن يشرح لي ذلك ، فكتب عليه‌السلام بخطه : «اتفق الجميع لا تمانع بينهم أن المعرفة من جهة الرؤية» (٣) الحديث.

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٨ / ١٠ ، باب اختلاف الحديث ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٦ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ١.

(٢) الكافي ١ : ٩٦ / ٢ ، باب في إبطال الرؤية.

(٣) الكافي ١ : ٩٦ / ٣ ، باب في إبطال الرؤية.


فالجواب عن ذلك ممكن إجمالا وتفصيلا :

أما الأول ، فلأن المسألة من الاصول المنوطة بالقطع والعلم عندهم دون الظن ، والأخبار المذكورة لا تخرج عن حيز الآحاد الذي قصاراه الظن عندهم ، فلا يتم الاستدلال.

وأما الثاني ، فأما عن الخبر الأول :

فأوّلا : أن غاية ما يستفاد منه كون الإجماع مرجّحا لأحد الخبرين على الخبر عند التعارض ، وهو ممّا لا نزاع فيه ، إنما النزاع في كونه دليلا مستقلا برأسه ، والخبر لا يدل عليه.

وثانيا : فإن ظاهره بل صريحه كون الإجماع في الرواية ، وهو ممّا لا نزاع فيه لا في الفتوى ، كما هو المطلوب بالاستدلال ، والذي فيه الدعوى.

وأما عن الأخيرين فيمكن :

أولا : الحمل على كون الاستدلال جدليا إلزاميا للخصم القائل بجواز الرؤية بالإجماع الذي يعتقد حجيته على ما ينافي مدّعاه من جوازها.

وثانيا : بأنه على تقدير دلالتهما على الحجية في الجملة فلا دلالة لهما على العموم في الامور العقلية والنقلية ؛ إذ متعلق الاستدلال هنا الامور العقلية.

والجواب أنه (لا قائل بالفرق) مردود بأن اللازم من ذلك الاستدلال بفرع من فروع الحجية : الإجماع قبل ثبوت أصل حجيّته. على أن المفهوم من رسالة الصادق عليه‌السلام التي كتبها لشيعته وأمرهم بتعاهدها والعمل بما فيها ، المروية في أول روضة (الكافي) بأسانيد ثلاثة أن أصل الإجماع من مخترعات العامة ، حيث قال عليه‌السلام : «وقد عهد إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل موته فقالوا : نحن بعد ما قبض الله تعالى رسوله ليسعنا أن نأخذ ما أجمع عليه رأي الناس بعد قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله».


إلى أن قال عليه‌السلام : «فما أحد أجرأ على الله ولا أبين ضلالة ممّن يأخذ بذلك ، وزعم أن ذلك يسعه» (١) الحديث.

وبالجملة ، فإنه لا شبهة ولا ريب في أنه لا مستند لهذا الإجماع من (كتاب) ولا سنة ، وإنما يجري ذلك على مذاق العامة ومخترعاتهم. ولكن جملة من أصحابنا تبعوهم فيه غفلة ، كما جروا على جملة من اصولهم في مواضع عديدة مع مخالفتها لما هو المستفاد من الأخبار ، كما لا يخفى على المتتبع البصير ، ولا ينبئك مثل خبير.

هذا وقد نقل المحدّث السيد نعمة الله الجزائري قدس‌سره عن بعض مشايخه في بيان وجه العذر لمشايخنا المتقدّمين في اختلاف الإجماعات المنقولة عنهم ما ملخصه أن الاصول التي كان عليها المدار وهي التي انتخبوا منها كتب الحديث المشهورة الآن كانت بأيديهم ، وإنما حدث فيها التلف والاضمحلال من زمان ابن إدريس لأسباب ذكرها ، وكانوا بملاحظة ما اشتملت عليه جميعها أو أكثرها من الأحكام يدّعون عليه الإجماع ، وربما اختلفت الأخبار في ذلك الحكم بالتقية وعدمها ، والجواز والكراهة ونحوها ، فيدّعي كل منهم الإجماع على ما يؤدي إليه نظره وفهمه من تلك الأخبار بعد اشتمال تلك الاصول أو كلّها على الأخبار المتعلّقة بما يختاره ويؤدّي إليه نظره.

أقول : وعندي أن (٢) هذا الاحتمال غير بعيد عند التأمل الدقيق والرجوع إلى التحقيق ؛ وذلك فإن الظاهر أن مبدأ التفريع في الأحكام والاستنباط إنما هو من زمن الشيخ والمرتضى ـ رضوان الله عليهما ـ فإن كتب من تقدمهما من المشايخ إنما اشتملت على جمع الأخبار وتأليفها ، وإن كان بعضها قد اشتمل على مذهب

__________________

(١) الكافي ٨ : ٥.

(٢) من «ح».


واختيار في المسألة فإنما يشار إليه في عنوان الأبواب ، أو ينقل بما يخصه من الأخبار كما لا يخفى على من لاحظ (الكافي) و (الفقيه) ، ونحوهما من كتب الصدوق وغيره ، وكذلك أيضا فتاويهم المحفوظة عنهم لا تخرج عن موارد الأخبار.

وحينئذ ، فنقل الشيخ والسيد قدس‌سرهما إجماع الطائفة على الحكم ، مع كون عمل الطائفة قبلهما إنما هو على ما ذكرنا من الأخبار ، وكونهما على أثر اولئك الجماعة الذين هذه طريقتهم من غير فاصلة إنما يريدون به الإجماع في الرواية.

ألا ترى أن الشيخ في (الخلاف) ، والمرتضى في (الانتصار) إنما استندا إلى مجرد الإجماع ، وجعلوه هو الدليل المعتمد والمعتبر (١) ، مع كون الأخبار بمرأى منهما ومنظر ، وليس ذلك إلّا لرجوعه إليها وكونه عبارة عن الإجماع فيها؟ وهذه أحد الوجوه التي اعتذر بها شيخنا الشهيد في (الذكرى) (٢) عن اختلافهم في تلك الإجماعات ، وهو أوجهها وأظهرها وإن جعله آخرها.

__________________

(١) في «ح» : المعتبر والمعتمد.

(٢) ذكرى الشيعة ١ : ٥٠ ـ ٥١.



(٤١)

درّة نجفيّة

في مشروعية الاصول الخارجة عن غير الأئمّة عليهم‌السلام

روى الجليل أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي في كتاب (الجامع) على ما نقله عنه ابن إدريس في مستطرفات (السرائر) عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّما علينا أن نلقي إليكم الاصول ، وعليكم أن تفرعوا» (١).

وروى عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام ـ بواسطة ـ قال : «علينا إلقاء الاصول ، وعليكم التفريع» (٢).

أقول : لا يخفى ما في الخبرين المذكورين ـ من حيث تقديم الظرف المؤذن بحصر ذلك فيهم ـ من الدلالة على بطلان الاصول الخارجة من غيرهم ، بمعنى حصر إلقاء الاصول فيهم عليهم‌السلام ، فكأنه عليه‌السلام قال : تأصيل الاصول الشرعية للأحكام علينا لا عليكم ، وإنما (٣) عليكم التفريع عليها.

وحينئذ ؛ فكل أصل لا يوجد له مستند ولا دليل من كلامهم عليهم‌السلام فهو بمقتضى الخبرين المذكورين ممّا (٤) لا يجوز الاعتماد عليه ولا الركون إليه. ثم إنه ممّا ينبغي أن يعلم أن خروج تلك الاصول والقواعد عنهم عليهم‌السلام قد تكون بالقضايا

__________________

(١) السرائر (المستطرفات) ٣ : ٥٧٥.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) في «ح» : يعني ، بدل : بمعنى حصر إلقاء الاصول .. لا عليكم وإنما.

(٤) من «ح» ، وفي «ق» : فمن.


المستورة بالكلية ، وقد تكون بتتبّع الجزئيات الواردة عنهم عليهم‌السلام في أحكام المسألة ، كما في القواعد النحوية المستنبطة من تتبع كلام العرب ، كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى.

ولنورد هنا جملة ممّا جرى في الخاطر الفاتر من تلك الاصول ، ونذيل (١) ما يحتاج إلى البحث والتحقيق ممّا هو جدير به وحقيق. وإن سمحت الأقضية والأقدار بالتوفيق ، ونامت عيون الدهر الغدّار عن التعويق ابرز (٢) لهذه الاصول رسالة شافية [اودعها] (٣) أبحاثا بحقّها وافية ، فأقول وبه سبحانه الثقة والإعانة لإدراك كلّ مأمول : منها الحكم بطهارة كل ما لم يعلم نجاسته حتى تعلم النجاسة.

ويدل على ذلك قول الصادق عليه‌السلام في موثقة عمار : «كل شي‌ء طاهر حتى تعلم أنه قذر ، فإذا علمت فقد قذر» (٤). وقول أمير المؤمنين عليه‌السلام فيما رواه في (الفقيه) : «لا ابالي أبول أصابني أم ماء إذا لم أعلم» (٥).

ويدل على ذلك أيضا أخبار عديدة في جزئيّات المسائل ، وأصل الحكم المذكور ممّا لا خلاف فيه ولا شبهة تعتريه ، وإنما الخلاف في مواضع :

أحدها : في عموم هذا الحكم للجهل بالحكم الشرعي وعدمه. وتوضيح ذلك أنه لا خلاف في العمل بهذا الحكم على عمومه بالنسبة إلى الجهل بملاقاة النجاسة ، وإن كان مع ظن الملاقاة بمعنى أنه لو شك أو ظن الملاقاة (٦) ، فالواجب البناء على أصالة الطهارة حتى تعلم النجاسة. وكذا لا خلاف في ذلك بالنسبة إلى الشكّ أو الظن بنجاسة شي‌ء له أفراد متعدّدة غير محصورة ، بعضها معلوم الطهارة

__________________

(١) في «ح» بعدها : منها.

(٢) في النسختين : أبرزت.

(٣) في النسختين : اودعتها.

(٤) تهذيب الأحكام ١ : ٢٨٤ / ٨٣٢ ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٦٧ ، أبواب النجاسات ، ب ٣٧ ، ح ٤ ، وفيه : نظيف ، بدل : طاهر.

(٥) الفقيه ١ : ٤٢ / ١٦٦ ، وفيه : ما ، بدل : لا.

(٦) بمعنى أنه لو شك أو ظن الملاقاة ، سقط في «ح».


في حد ذاته ، وبعضها معلوم النجاسة كذلك ، وقد اشتبه بعضها ببعض ، كالبول الذي منه طاهر ومنه نجس ، والدم ونحوهما. والجهل هنا ليس في الحكم الشرعي ؛ إذ هو معلوم في تلك الأفراد في حد ذاتها ، وإنما الجهل في موضوعه ومتعلقه ، وهو ذلك الفرد المشكوك في اندراجه تحت أحد الطرفين.

أما بالنسبة إلى الجهل بالحكم الشرعي ، كالجهل بحكم نطفة الغنم ، هل هي نجسة أو طاهرة؟ فهل يحكم بطهارتها بالخبر المذكور ، أم لا؟ قولان : وبالثاني صرّح المحدّث الأمين الأسترآبادي في كتاب (الفوائد المدنية) (١) ، وبالأوّل صرّح جمع من متأخّري المتأخّرين (٢).

وأنت خبير بأن القدر المتيقن فهمه (٣) من الخبر المذكور هو (٤) ما وقع الاتفاق عليه ؛ إذا الظاهر ـ والله سبحانه وقائله أعلم ـ أن المراد من هذا الخبر وأمثاله إنّما هو دفع الوساوس الشيطانية والشكوك النفسانية بالنسبة إلى الجهل بملاقاة النجاسة ، وبيان سعة الحنفية السمحة السهلة بالنسبة إلى اشتباه بعض الأفراد الغير المحصورة ببعض ، فيحكم بطهارة الجميع حتى يعلم الفرد النجس بعينه. وأما إجراء ذلك في الجهل بالحكم الشرعي فلا يخلو من الإشكال المانع من الجرأة على الحكم به في هذا المجال.

وما ذكره بعض فضلاء متأخّري المتأخّرين من أن الجهل بوصول النجاسة يستلزم الجهل بالحكم الشرعي ، قال : (فإن المسلم إذا أعار ثوبه الذمي وهو

__________________

(١) الفوائد المدنيّة : ١٤٨ ، وفيه : أن بعضهم توهّم أن قولهم عليهم‌السلام : «كل شي‌ء طاهر ..» يعمّ صورة الجهل بحكم الله تعالى ، فإذا لم نعلم أن نطفة الغنم طاهرة أو نجسة نحكم بطهارتها. ومن المعلوم ان مرادهم عليهم‌السلام : كل صنف فيه طاهر وفيه نجس ..

(٢) انظر : الوافية في اصول الفقه : ٢١٥ ، الفوائد المدنيّة : ١٤٨.

(٣) في «ق» بعدها : هو ، وما أثبتناه وفق «ح».

(٤) في «ح» : وهو.


يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير ، ثم ردّه عليه ، فهو جاهل بأن مثل هذا الثوب الذي هو مظنة النجاسة ، هل هو ممّا يجب التنزّه عنه في الصلاة وغيرها ممّا يشترط فيه الطهارة أو لا؟ فهو جاهل بالحكم الشرعي مع أنه عليه‌السلام قرر في الجواب قاعدة كلية ، بأنه ما لم تعلم النجاسة فهو طاهر) (١) ، مردود بأن الجهل بالحكم الشرعي في المثال المذكور ونحوه تابع للجهل بوصول النجاسة.

ولمّا دل الخبر المذكور وغيره على البناء على أصالة الطهارة وعدم الالتفات إلى احتمال ملاقاة النجاسة أو ظنها بإعارة الثوب مثلا علم منه قطعا جواز الصلاة فيه ؛ تحقيقا للتبعية. ومحلّ الإشكال والنزاع إنما هو الدلالة على الحكم الشرعي ابتداء ، كما لا يخفى.

الثاني : أن ظاهر هذا الخبر المذكور أنه لا تثبت النجاسة للأشياء ولا تتّصف بها إلّا بالنظر إلى علم المكلف ، لقوله عليه‌السلام : «فإذا علمت فقد قذر» ، بمعنى أنه ليس التنجيس عبارة عن (٢) مجرد ملاقاة عين النجاسة لشي‌ء واقعا بل ما كان كذلك وعلم به المكلّف ، وكذلك ثبوت النجاسة لشي‌ء (٣) ، إنّما هو عبارة عن حكم الشارع بأنه نجس وعلم المكلف بذلك.

وهو خلاف ما عليه جمهور أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ فإنهم حكموا بأن المتنجس إنما هو عبارة عمّا لاقته النجاسة واقعا وإن لم يعلم به المكلف ، وفرّعوا عليه بطلان صلاة المصلّي في النجاسة جاهلا وإن سقط الخطاب عنه ظاهرا ، كما نقله عنهم شيخنا الشهيد الثاني في (شرح الألفية). وأنت خبير بما فيه من العسر والحرج ، ومخالفة ظواهر الأخبار الواردة عن العترة الأبرار : أما أولا ، فلأن المعهود من الشارع عدم إناطة الأحكام بالواقع ونفس الأمر ؛

__________________

(١) الوافية في اصول الفقه : ٢١٥.

(٢) من «ح».

(٣) بل ما كان كذلك .. لشي‌ء ، سقط في «ح».


لاستلزامه التكليف بما لا يطاق. وحينئذ ، فالمكلف إذا صلى في ثوب طاهر بحسب علمه ـ والطاهر شرعا إنّما هو ما لم يعلم المكلف بنجاسته لا ما علم بعدمها ـ فما الموجب لبطلان صلاته بعد امتثاله الأمر الذي هو مناط الصحة ومعيارها؟! وأما ثانيا ، فلما أورده شيخنا المشار إليه عليهم في الكتاب المذكور ، حيث قال ـ بعد نقل ذلك عنهم ـ : (ولا يخفى ما فيه من البلوى ، فإن ذلك يكاد يوجب فساد جميع العبادات المشروطة بالطهارة ؛ لكثرة النجاسات في نفس الأمر وإن لم يحكم الشارع ظاهرا بفسادها. فعلى هذا لا يستحق عليها ثواب الصلاة وإن استحق أجر الذاكر المطيع بحركاته وسكناته إن لم يتفضل الله تعالى بجوده) (١) انتهى.

وأما ثالثا ، فلمخالفته ظواهر الأخبار ، ومنها الخبر المذكور ، ومنها رواية محمد ابن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام قال : سألته عن الرجل يرى في ثوب أخيه دما وهو يصلي ، قال : «لا يؤذنه حتى ينصرف» (٢).

ورواية عبد الله بن بكير المرويّة في (قرب الإسناد) قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أعار رجلا ثوبا فصلّى فيه وهو لا يصلّي فيه ، قال : «لا يعلمه». قلت : فإن أعلمه؟ قال : «يعيد» (٣).

وحينئذ ، فلو كان الأمر كما يدّعونه من كون وصف النجاسة إنما هو باعتبار الواقع ونفس الأمر ، وأن صلاة المصلي والحال كذلك باطلة واقعا ، فكيف يحسن

__________________

(١) المقاصد العليّة : ٢٩٢.

(٢) الكافي ٣ : ٤٠٦ / ٨ ، باب الرجل يصلّي في الثوب .. ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٨٧ ، أبواب النجاسات ، ب ٤٧ ، ح ١.

(٣) قرب الاسناد : ١٦٩ / ٦٢٠ ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٨٨ ، أبواب النجاسات ، ب ٤٧ ، ح ٣.


من الإمام عليه‌السلام المنع من الإيذان والإخبار بالنجاسة في الصلاة كما في خبر محمد ابن مسلم ، أو قبلها كما في رواية ابن بكير؟ وهل هو ـ بناء على ما ذكروه ـ إلّا من قبيل التقرير له على تلك الصلاة الباطلة والمعاونة على الباطل ولا ريب في بطلانه؟

الثالث : أنّه لا خلاف في أنه مع الحكم بالطهارة (١) بأصالة الطهارة ، فإنه لا يجوز الخروج عنها إلّا ما يعلم بالنجاسة. لكن هذا العلم المذكور عبارة عن ما ذا؟

فهل هو (٢) عبارة عن القطع واليقين بملاقاة النجاسة ، أو عمّا هو أعم من اليقين والظن مطلقا فيشملهما معا ، أو عما هو أعم منها ، لكن بتقييد الظن بما استند إلى سبب شرعي؟ أقوال تقدم تحقيقها في الدرة الاولى (٣) من درر الكتاب.

ومنها حلية ما لم يعلم حرمته. ويدلّ عليه من الأخبار صحيحة عبد الله بن سنان قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «كل شي‌ء يكون فيه حرام وحلال فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه» (٤).

وصحيحة ضريس قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن السمن والجبن في أرض المشركين والروم ، أنأكله؟ فقال : «ما علمت أنه خلطه (٥) الحرام فلا تأكل ، وما لم تعلم فكله حتى تعلم أنه حرام» (٦).

وموثقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «كل شي‌ء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون (٧) عليك قد

__________________

(١) سقط في «ح».

(٢) سقط في «ح».

(٣) انظر الدرر ١ : ٦٣ ـ ٧٥.

(٤) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٣٩ ، باب نوادر كتاب المعيشة ، وسائل الشيعة ٢٥ : ١١٧ ـ ١١٨ ، أبواب الأطعمة المباحة ، ب ٦١ ، ح ١.

(٥) في «ح» : خلط.

(٦) تهذيب الأحكام ٩ : ٧٩ / ٣٣٦ ، وسائل الشيعة ٢٤ : ٢٣٥ ـ ٢٣٦ ، أبواب الأطعمة المحرّمة ، ب ٤ ، ح ١.

(٧) من المصدر ، وفي النسختين : فيكون.


اشتريته وهو سرقة ، ومملوك عندك وهو حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع قهرا ، أو امرأة تحتك وهي اختك أو رضيعتك. والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة» (١).

ورواية عبد الله بن سليمان قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الجبن ، فقال : «سألتني عن طعام يعجبني». إلى أن قال : قلت (٢) : ما تقول في الجبن؟ فقال : «سأخبرك عن الجبن وغيره ، كل ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه» (٣).

إلى غير ذلك من الأخبار.

وظاهر هذه الأخبار بل صريح جملة منها اختصاص الحكم المذكور بما فيه أفراد بعضها معلوم الحل وبعضها معلوم الحرمة ، ولم يميز الشارع بينها بعلامة ، واشتبه بعضها ببعض مع كونها غير محصورة ، فالجميع حلال حتى تعرف الحرام بعينه على الخصوص. فمورد الحكم حينئذ ، هو موضوع الحكم الشرعي دون الحكم الشرعي نفسه (٤) ، وبهذا التخصيص جزم المحدّث الأمين الأسترابادي قدس‌سره (٥).

وظاهر جمع ممن قدمنا نقل الخلاف عنهم في الموضع الأوّل في القاعدة المتقدمة إجراء ذلك في نفس الحكم الشرعي ، ومقتضى ذلك أنه لو وجد حيوان مجهول مغاير للأنواع المعلوم حلّها وحرمتها من الحيوانات ، فإنه يحكم بحله ، بناء على عموم القاعدة المذكورة ، وكذا يحكم بطهارته ، بناء على عموم القاعدة المتقدمة.

__________________

(١) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٤٠ ، باب نوادر كتاب المعيشة ، وسائل الشيعة ١٧ : ٨٩ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤ ، ح ٤.

(٢) سقط في «ح».

(٣) المحاسن ٢ : ٢٩٥ ـ ٢٩٦ / ١٩٧٥.

(٤) من «ح».

(٥) الفوائد المدنيّة : ١٤٨.


إلّا إن شيخنا الشهيد الثاني في (تمهيد القواعد) صرّح في مثل ذلك بالطهارة والتحريم ، محتجّا بالأصل فيهما قال : (أمّا أصالة الطهارة فظاهر ؛ وأما أصالة التحريم ، فلأن المحرم غير منحصر لكثرته على وجه لا ينضبط) (١) وفيه مالا يخفى.

وأنت خبير بأن مقتضى (٢) العمل بأخبار التثليث ـ التي تقدمت الإشارة إليها في درّة البراءة الأصلية ـ التوقف في مثل ذلك ؛ إذ شمول هذه الأخبار التي ذكرناها لمثل ذلك ممّا يكاد يقطع بعدمه ، فإنها متشاركة الدلالة ـ تصريحا في بعض وتلويحا في آخر ـ في أن موردها إنما هو موضوع الحكم الشرعي ، والأفراد المعلومة الحكم مع اشتباه بعضها ببعض. والله ورسوله وأولياؤه عليهم‌السلام أعلم بحقائق الأحكام.

ومنها عدم نقض اليقين بالشكّ. والأخبار الدالة على هذه القاعدة الشريفة مستفيضة ، ومنها صحيحة زرارة عن الباقر عليه‌السلام قال : قلت له : الرجل ينام وهو على وضوء أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال : «يا زرارة ، قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن ، فإذا نامت العين والاذن والقلب وجب الوضوء». قلت : فإن حرك إلى جنبه شي‌ء وهو لا يعلم به؟ قال : «لا ، حتى يستيقن أنه قد نام حتى تجي‌ء من ذلك أمر بين ، وإلّا فهو على يقين من وضوئه ، ولا ينقض الوضوء أبدا بالشكّ ، ولكن ينقضه بيقين آخر» (٣).

ومثلها صحيحة اخرى له (٤) أيضا ، وصحيحة ثالثة له أيضا عن أحدهما عليهما‌السلام

__________________

(١) لم نعثر عليه بنصّه ، انظر تمهيد القواعد : ٢٧٠.

(٢) من «ح».

(٣) تهذيب الأحكام ١ : ٨ / ١١ ، وسائل الشيعة ١ : ٢٤٥ ، أبواب نواقض الوضوء ، ب ١ ، ح ١.

(٤) تهذيب الأحكام ١ : ١٠٠ / ٢٦١ ، وسائل الشيعة ١ : ٤٦٩ ، أبواب الوضوء ، ب ٤٢ ، ح ١.


قال : قلت له : من لم يدر في أربع هو أو في ثنتين ، وقد أحرز الثنتين؟ قال : «يركع ركعتين».

إلى أن قال عليه‌السلام : «ولا ينقض اليقين بالشكّ ، ولا يدخل الشكّ في اليقين ولا يخلط أحدهما بالآخر ، ولكن ينقض الشكّ باليقين ويتم على اليقين فيبني عليه ، ولا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات» (١).

والمراد بالشكّ هنا : ما هو أعم من الظن بحسنة الحلبي من (٢) أنه «إذا احتلم الرجل فأصاب ثوبه مني فليغسل الذي أصابه ، وإن ظن أنه أصابه مني ولم يستيقن ولم ير مكانه فلينضحه بالماء» (٣). والنضح هنا للاستحباب بلا خلاف.

وقوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة ـ لما قال له : قلت : فإن ظننت أنه أصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت فلم أر شيئا ، ثم صليت فرأيته فيه بعد الصلاة؟ قال ـ : «تغسله ولا تعيد». قال : قلت : ولم ذاك؟ قال : «لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت ، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا» (٤).

وأنت خبير بأن العمل بهذه القاعدة الشريفة بالنسبة إلى الشكّ في حصول الرافع وعدمه ممّا لا خلاف فيه ولا إشكال يعتريه ، إنما الخلاف في شمولها للشك في فرديّة بعض الأشياء لذلك الرافع ، كما لو حصل الشكّ في فردية الخارج من غير الموضع الطبيعي للناقص. بمعنى أنه هل يكون من جملة النواقض أم لا؟ فهل يدخل تحت هذه القاعدة أم لا؟ ومرجعه إلى جريانها في نفس أحكامه تعالى ، أو اختصاصها بموضوعاته ، خاصة الذي اختاره المحدّث الأمين الأسترابادي قدس‌سره.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٥١ / ٣ ، باب السهو في الثلاث والأربع ، وسائل الشيعة ٨ : ٢١٦ ـ ٢١٧ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب ١٠ ، ح ٣.

(٢) ليست في «ح».

(٣) الكافي ٣ : ٥٤ / ٤ ، باب المنيّ والمذي يصيبان الثوب والجسد ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٢٤ ، أبواب النجاسات ، ب ١٦ ، ح ٤.

(٤) تهذيب الأحكام ١ : ٤٢١ / ١٣٣٥ ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٧٧ ، أبواب النجاسات ، ب ٤١ ، ح ١.


الثاني : وإليه يميل كلام الفاضل المحقق الملّا محمد باقر الخراساني في كتاب (شرح الإرشاد) المسمى (بالذخيرة) ، حيث قال في بحث الماء المضاف ـ بعد إيراد صحيحة زرارة المتقدمة الواردة في النوم ما صورته ـ : (الشك في رفع اليقين على أقسام :

الأول : إذا ثبت [أن] الشي‌ء الفلاني رافع لحكم لكن وقع الشكّ في وجود الرافع.

والثاني : أن الشي‌ء الفلاني رافع للحكم لكن معناه مجمل ، فوقع الشكّ في كون بعض الأشياء هل هو (١) فرد له أم لا.

الثالث : أن معناه معلوم ليس بمجمل لكن وقع الشكّ في اتّصاف بعض الأشياء به ، وكونه فردا له لعارض كتوقّفه على اعتبار معتذر أو غير ذلك.

الرابع : وقع الشكّ في كون الشي‌ء الفلاني هل هو رافع للحكم المذكور أم لا؟

والخبر المذكور إنما يدل على النهي عن النقض بالشكّ ، وإنما يعقل ذلك في الصورة الاولى من تلك الصور الأربع دون غيرها من الصور ؛ لأن في غيرها من الصور لو نقض الحكم بوجود الأمر الذي شكّ في كونه رافعا لم يكن النقض بالشكّ ، بل إنما حصل النقض بوجود ما يشكّ في كونه رافعا أو باليقين بوجود ما يشك في استمرار الحكم معه لا بالشكّ ، فإن الشكّ في تلك الصور كان حاصلا من قبل ولم يكن بسببه نقض ، وإنما حصل النقض حين اليقين بوجود ما يشكّ في كونه رافعا للحكم بسببه ، فإن الشكّ في تلك الصور كان حاصلا من قبل ولم يكن بسببه نقض ، وإنما حصل النقيض حين اليقين بوجود ما يشكّ في كونه رافعا للحكم بسببه ؛ لأن الشي‌ء إنما يستند إلى العلّة التامة أو الجزء الأخير منها ، فلا يكون في تلك الصور نقض للحكم اليقيني بالشكّ ، وإنما يكون ذلك في

__________________

(١) كذا في المصدر ، والصحيح : هي.


صورة خاصة غيرها فلا عموم في الخبر.

وممّا (١) يؤيد ذلك أن السابق على هذا الكلام في الرواية ، والذي جعل هذا الكلام دليلا عليه من قبيل الصورة الاولى ، فيمكن حمل المفرد المعرف باللام عليه ؛ إذ لا عموم له بحسب الموضع ، بل هو موضوع للعهد ، كما صرّح به بعض المحققين من علماء العربية ، وإنما دلالته على العموم ، بسبب أن الإجمال في مثل هذا الموضع ينافي الحكمة ، وتخصيصه بالبعض ترجيح من غير مرجح.

وظاهر أن الفساد المذكور إنما يكون (٢) حيث ينتفي ما يصلح بسببه الحمل على العهد ، وسبق الكلام في بعض أنواع الماهية سبب ظاهر لصحّة الحمل على العهد من غير لزوم فساد.

نعم ، يتجه ثبوت العموم في جميع أفراد النوع المعهود ، وليس هذا من قبيل تخصيص العام ببنائه على سبب خاص كما لا يخفى) (٣) انتهى كلامه ، زيد إكرامه.

أقول : ويمكن تطرق المناقشة إلى هذا الكلام بأن يقال : إنّه لا يخفى على المتأمل بعين التحقيق والاعتبار فيما أوردناه من الأخبار أن عدم نقض اليقين بالشكّ قاعدة كلية وضابطة جلية لا اختصاص لها بمادة دون مادة ولا فرد دون فرد ، وهو الذي اتفقت عليه كلمة الأصحاب كما لا يخفى على من تتبّع كلماتهم في هذا الباب.

والوجه فيه أن لامي اليقين والشك فيهما لام التحلية ؛ وهي وإن كانت لا تفيد العموم بحسب الوضع بناء على ما صرّح به جمع من علماء الاصول (٤) ـ وإن

__________________

(١) في «ح» : انما.

(٢) في «ق» بعدها : بسبب أن الإجمال ، وما أثبتنا وفق «ح» والمصدر.

(٣) ذخيرة المعاد : ١١٥ ـ ١١٦.

(٤) المحصول في علم الاصول ١ : ٣١٧ ، تمهيد القواعد : ١٦٦.


أشعر كلام البعض بخلافه (١) ـ لكنهم اتفقوا أنها في المقامات الخطابية للعموم ؛ إذ هو الأوفق بمقتضى الحكمة.

وأما ما ذكره قدس‌سره بالنسبة إلى الرواية التي أوردها ، من أن اللام ثمة إنما تحمل على العموم مع عدم القرينة ، وقرينة العهد به حاصلة بالنسبة إلى الفرد المسؤول عنه ، ففيه :

أولا : أن ظاهر قوله عليه‌السلام في تلك الرواية : «ولا تنقض اليقين بالشكّ» إنّما هو العموم ، فإنه عليه‌السلام استدل على أن الوضوء اليقيني لا ينتقض بحدث النوم لقوله : «لا ، حتى يستيقن أنه قد نام».

إلى قوله : «وإلّا فهو على يقين من وضوئه» ، ثم أردفه بتلك القاعدة الكلية تأكيدا للاستدلال ، وإيذانا بعموم الحكم في جميع الأحوال. ولو كان مراده بها إنما هو عدم نقض الوضوء بالنوم على تلك الحال ، لكان أعاده للأوّل بعينه ، وهو خارج عن قانون الاستدلال.

وثانيا : ما ذكرنا من دلالة غير هذه الرواية صريحا على كون ذلك قاعدة كلية ، كصحيحة زرارة الواردة في الشكّ بين الأربع والثنتين ، فإنها ـ كما ترى ـ صريحة الدلالة واضحة المقالة على المراد ، غير قابلة للتأويل والإيراد. وحينئذ ، فللقائل أن يقول : إن الشكّ الذي لا ينتقض به اليقين أعم من أن يكون شكّا في وجود الناقض أو شكا بأحد المعاني الثلاثة الأخيرة ، فإنّها ترجع بالآخرة إلى الشكّ في وجود الناقض ؛ إذ متى شك في كون هذا الفرد من أفراد ذلك الكلّي المتيقن نقضه ، فقد شك في وجود الكلّي في ضمنه.

وقوله : (إن الناقض في هذه الصور إنما هو اليقين) ممنوع ، بل الشكّ الحاصل

__________________

(١) المستصفى من علم الاصول ٢ : ٨٩ ، الإحكام في اصول الأحكام ٢ : ٤٢١.


في ضمن (١) اليقين بوجود ذلك الفرد المشكوك في فرديته ، أو المشكوك في اتّصافه بالعنوان أو في رفعه.

وقوله : (إن الشكّ في تلك الصور كان حاصلا [من] قبل) إن أراد به (٢) : حصوله واقعا ممنوع ، ولكن لا يترتب عليه حكم ، وإن أراد بحسب الوجود فممنوع ؛ إذ هو لا يحصل إلّا في ضمن وجود ما يشكّ في كونه فردا للناقض ، أو نحو ذلك من الأقسام الباقية. هذا ما يقتضيه النظر في المقام ، إلّا إن المسألة لا تخلو من شوب الإشكال ، والاحتياط ممّا ينبغي المحافظة عليه على كل حال.

ومنها أن كل ذي عمل مؤتمن في عمله ما لم يظهر خلافه. ويدل على ذلك جملة من الأخبار المتفرقة في جزئيّات المسائل ، ففي صحيحة الفضلاء أنهم سألوا أبا جعفر عليه‌السلام عن شراء اللحم من الأسواق ، ولا يدرون ما صنع القصابون ، قال : «كل ذلك (٣) إذا كان في سوق المسلمين ولا تسأل عنه» (٤).

وفي رواية سماعة قال : سألته عن أكل الجبن ، وتقليد السيف والكيمخت والغراء؟ فقال : «لا بأس ما لم نعلم أنه ميتة» (٥).

وفي صحيحة إبراهيم بن أبي محمود أنه قال للرضا عليه‌السلام : الخياط يكون يهوديا أو نصرانيا وأنت تعلم أنه يبول ولا يتوضّأ ، ما تقول في عمله؟ قال : «لا بأس» (٦).

ورواية ميسر قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : آمر الجارية فتغسل ثوبي من المني ولا (٧) تبالغ في غسله ، فاصلّي فيه. فإذا هو يابس؟ فقال : «أعد صلاتك ، أما إنك لو

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) ليست في «ح».

(٣) ليست في المصدر.

(٤) الكافي ٦ : ٢٣٧ / ٢ ، الفقيه ٣ : ٢١١ / ٩٧٦ ، وسائل الشيعة ٢٤ : ٧٠ ، أبواب الذبائح ، ب ٢٩ ، ح ١.

(٥) تهذيب الأحكام ٩ : ٧٨ / ٣٣١ ، وسائل الشيعة ٢٤ : ٩٠ ، أبواب الذبائح ، ب ٣٨ ، ح ١.

(٦) تهذيب الأحكام ٦ : ٣٨٥ / ١١٤٢.

(٧) في «ح» : فلا.


كنت غسلت أنت لم يكن عليك شي‌ء» (١).

وربما يتوهم من هذا الخبر الدلالة على خلاف المراد ، وليس بذاك ؛ وذلك لأن الظاهر أن أمره عليه‌السلام بإعادة الصلاة إنّما هو لوجود عين النجاسة ، لا لكون الجارية أزالتها عن الثوب ، حتى لو فرض أنها أزالتها عن الثوب ، ولم تجدها فيه ، كان يجب عليه غسل الثوب وإعادة الصلاة. ومن ذلك الحديث الدال على أن الحجّام مؤتمن في تطهير موضع الحجامة (٢) ، إلى غير ذلك من الأخبار التي يقف عليها المتتبع.

وقد نقل المحدّث الأمين الأسترآبادي في كتاب (الفوائد المدنية) (٣) ، والمحدث السيد نعمة الله الجزائري قدس‌سرهما عن جملة ممن كان في عصرهم ، أنّهم كانوا لأجل هذه الشبهة يهبون ثيابهم للقصّارين ، أو يبيعونها عليهم ، ثم يشترونها بعد الغسل منهم ؛ مستندين إلى أن الثوب متيقّن النجاسة ، ولا يرتفع حكم يقين النجاسة إلّا بيقين الطهارة ، أو ما قام مقامه من شهادة العدلين ، أو إخبار ذي اليد.

وفيه ـ زيادة على ما عرفت ـ أنه لا ريب أن الحكم المذكور ممّا يعم به البلوى ، فلو كان مضيّقا كما ذكروه ، لظهر فيه أثر عنهم عليهم‌السلام. وقد ذكر غير واحد من محققي أصحابنا النافين للبراءة الأصلية أنها في مثل هذا الموضع ممّا يعتمد عليها في الاستدلال كما قدّمنا ذلك في درة البراءة الأصلية (٤) ، بل الظاهر من الأخبار (٥) ما يدل على التوسعة ، والله العالم.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٣ / ٢ ، باب المني والمذي يصيبان الثوب والجسد ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٢٨ ، أبواب النجاسات ، ب ١٨ ، ح ١.

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ٣٤٩ / ١٠٣١ ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٩٩ أبواب النجاسات ، ب ٥٦ ، ح ١.

(٣) الفوائد المدنيّة : ١٤٩.

(٤) انظر الدرر ١ : ١٥٥ ـ ١٨٦ / الدرة : ٦.

(٥) الكافي ٦ : ٢٩٧ / ٢ ، باب نوادر الأطعمة ، تهذيب الأحكام ٩ : ١٠٠ / ٤٣٢ ، وسائل الشيعة ٣ : ٤٩٣ ، أبواب النجاسات والأواني والجلود ، ب ٥٠ ، ح ٢.


ومنها الحكم بطهارة ما اشتبه بنجس ، وحلّية ما اشتبه بمحرم مع عدم الحصر والتمييز ، ونجاسة الجميع وحرمته إذا كان محصورا. وقد تقدم الكلام على هذه القاعدة مستوفى في الدرّة (١) المشتملة على البحث مع صاحب (المدارك) والمحدث الكاشاني ، والفاضل الخراساني ـ عطر الله مراقدهم ـ في هذه المسألة.

ومنها تلافي الفعل المشكوك فيه قبل تجاوزه ، والمضي في الشكّ بعد الخروج عنه ؛ لقوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة : «إذا خرجت من شي‌ء ثم دخلت في غيره فشككت [فشكّك] ليس بشي‌ء» (٢).

وقوله عليه‌السلام في موثقة محمد بن مسلم : «كل ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو» (٣).

وقوله عليه‌السلام في رواية أبي بصير : «كلّ شي‌ء شك فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه».

إلى غير ذلك من الأخبار.

وفي هذه القاعدة الشريفة أبحاث منيفة ذكرناها في أحكام الوضوء من كتابنا (الحدائق الناضرة) (٤) ، وفّق الله تعالى لإتامه.

ومنها رفع الحرج لقوله سبحانه (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٥) ، (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٦) ، (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها) (٧) ،

__________________

(١) انظر الدرر ٢ : ١٢٩ ـ ١٦٥ / الدرّة : ٢٥.

(٢) تهذيب الأحكام ٢ : ٣٥٢ / ١٤٥٩ ، وسائل الشيعة ٨ : ٢٣٧ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب ٢٣ ، ح ١.

(٣) تهذيب الأحكام ٢ : ٣٤٤ / ١٤٢٦ ، وسائل الشيعة ٨ : ٢٣٧ ـ ٢٣٨ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب ٢٣ ، ح ٣.

(٤) الحدائق الناضرة ٢ : ٣٩١ ـ ٤٠٨.

(٥) الحجّ : ٧٨.

(٦) البقرة : ١٨٥.

(٧) البقرة : ٢٨٦.


والوسع دون الطاقة (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) (١). ويدل على ذلك من الأخبار حسنة عبد الأعلى قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : عثرت فانقطع ظفري ؛ فجعلت على إصبعي مرارة ؛ فكيف أصنع بالوضوء؟ فقال : «تعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزوجل (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)» (٢).

وفي رواية أبي بصير في الجنب يجعل يده في الكوز أو الركوة؟ قال : «إن كانت يده قذرة فليهرقه ، وإن كان لم يصبها قذر فليغتسل منه ، هذا ممّا قال الله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)» (٣).

وفي صحيحة الفضيل في الجنب يغتسل فينتضح الماء من الأرض في (٤) الإناء ، فقال : «لا بأس ، هذا ممّا قال الله تعالى (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)» (٥).

ولا يخفى على المتأمّل في الأحكام الشرعية والتكليفات الربانية ما بلغت إليه العناية السبحانية بالعباد من الرأفة والرحمة والشفقة في (٦) الإصدار والإيراد ، حيث أوجب سبحانه رعاية الأبدان [وجعلها] مقدّمة على الأديان ، فأوجب على من تضرر باستعمال الماء غسلا أو وضوء الانتقال إلى التيمم ، وأوجب على من تضرر بالصيام الإفطار ، وأوجب على من تضرر بالصلاة قائما القعود ثم النوم ، وأوجب على المسافر التقصير في الصلاة ، إلى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها المتتبع البصير.

__________________

(١) المائدة : ٦.

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ٣٦٣ / ١٠٩٧ ، الاستبصار ١ : ٧٧ ـ ٧٨ / ٢٤٠ ، وسائل الشيعة ١ : ٤٦٤ ، أبواب الوضوء ، ب ٣٩ ، ح ٥.

(٣) تهذيب الأحكام ١ : ٣٨ / ١٠٣ ، وسائل الشيعة ١ : ١٥٤ ، أبواب الماء المطلق ، ب ٨ ، ح ١١.

(٤) من «ح» ، وفي «ق» : و.

(٥) تهذيب الأحكام ١ : ٨٦ / ٢٢٥ ، وسائل الشيعة ١ : ٢١١ ، أبواب الماء المضاف والمستعمل ، ب ٩ ، ح ١.

(٦) في «ح» : و.


ومنها العذر فيما غلب الله عليه لحسنة حفص بن البختري عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول في المغمى عليه قال : «ما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر» (١).

وبمضمونها في حكم المغمى عليه أخبار عديدة (٢) ، وفي بعضها : «كل ما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر» (٣).

وزاد في بعض الأخبار المروية في ذلك من (قرب الإسناد) و (بصائر الدرجات) (٤) : (وهذا من الأبواب التي يفتح الله منها الف باب).

وفي رواية مرازم في المريض الذي لا يقدر على الصلاة : «كل ما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر» (٥).

ومنها القواعد المنصوصة في الترجيح بين الأخبار. وقد تقدم الكلام عليها مفصلا في الدرة (٦) التي في شرح مقبولة عمر بن حنظلة.

ومنها الاحتياط في مواضعه على التفصيل المتقدم في درّة البراءة الأصليّة (٧) ودرّة الاحتياط (٨) وغيرهما.

ومنها الجهل بالأحكام الشرعية على التفصيل المتقدّم في الدرة المتضمنة لتحقيق المسألة.

ومنها دفع الضرر والضرار ، فروى في (الكافي) في الموثق عن زرارة عن أبي

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٣ : ٣٠٢ / ٩٢٣ ، وسائل الشيعة ٨ : ٢٦١ ، أبواب قضاء الصلوات ، ب ٣ ، ح ١٣.

(٢) وسائل الشيعة ٨ : ٢٥٨ ـ ٢٦٤ ، أبواب قضاء الصلوات ، ب ٣.

(٣) انظر هامش رواية مرازم في المريض أدناه.

(٤) بصائر الدرجات : ٣٠٦ ـ ٣٠٧ / ب ١٦ ، ح ١٦.

(٥) الكافي ٣ : ٤١٢ / ١ ، باب صلاة المغمى عليه والمريض .. ، تهذيب الأحكام ٣ : ٣٠٢ / ٩٢٥ ، وسائل الشيعة ٨ : ٢٦١ ، أبواب قضاء الصلوات ، ب ٣ ، ح ١٦.

(٦) انظر الدرر ١ : ٢٤٩ ـ ٣٣٦ / الدرّة : ١٢.

(٧) انظر الدرر ١ : ١٥٥ ـ ١٨٦ / الدرة : ٦.

(٨) انظر الدرر ٢ : ١١٣ ـ ١٢٧ / الدرّة : ٢٤.


جعفر عليه‌السلام : «إنّ سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار ، وكان منزل الأنصاري بباب البستان ، وكان يمر به إلى نخلته ولا يستأذن ، فكلّمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء ، فأبى سمرة ، فلما أبى سمرة (١) جاء الأنصاري إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فشكا إليه وخبّره الخبر. فأرسل إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخبره بقول الأنصاري وما شكا وقال : إذا أردت الدخول فاستأذن. فأبى ، فلما أبى ساومه حتى بلغ به من الثمن ما شاء الله ، فأبى أن يبيع ، فقال : لك بها عذق مذلل (٢) في الجنة. فأبى أن يقبل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للأنصاري : اذهب ، فاقطعها وارم بها إليه فإنه لا ضرار» (٣).

ورواه في (الكافي) أيضا في موضع آخر عن زرارة عنه عليه‌السلام مثله ، وزاد : «فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّك رجل مضار ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن» (٤).

وروى في (الكافي) أيضا بسنده عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بين أهل المدينة في مشارب النخل أنه لا يمنع نفع الشي‌ء ، وقضى بين أهل البادية أنه لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل كلاء. وقال : لا ضرر ولا ضرار» (٥).

والأخبار بذلك كثيرة.

وما ذكره المحدّث الأمين (٦) الأسترابادي قدس‌سره في كتاب (الفوائد المدنيّة) (٧) ـ من المنع من الاستدلال بأمثال ذلك لظنية الدلالة ، والنهي عن اتّباع الظنون ـ فيه أنه قد استدل به في غير موضع من كتابه المذكور كما لا يخفى على من راجعه.

ومنها وجوب الوفاء بالشرط في العقد إلّا ما أحلّ حراما أو حرّم حلالا.

__________________

(١) ليست في «ح».

(٢) في «ح» : بذلك ، وفي المصدر : يمدّ لك.

(٣) الكافي ٥ : ٢٩٢ / ٢ ، باب الضرار.

(٤) الكافي ٥ : ٢٩٤ / ٨ ، باب الضرار.

(٥) الكافي ٥ : ٢٩٣ ـ ٢٩٤ / ٦ ، باب الضرار.

(٦) ليست في «ح».

(٧) الفوائد المدنيّة : ٩٠.


والأخبار به مستفيضة (١) ، وفي بعضها : «إلّا ما خالف كتاب الله» (٢).

ومنها الخيار في مواضعه المنصوصة كخيار المجلس وخيار الحيوان ونحوهما.

ومنها وجوب البيّنة على المدّعي ، واليمين على المنكر إلّا ما استثنى ممّا هو مذكور في محله. والأخبار به مستفيضة (٣).

ومنها وجوب البناء على الأكثر في الصلاة مطلقا ، ففي موثقة عمار بن موسى الساباطي قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن شي‌ء من السهو في الصلاة ، فقال : «ألا اعلّمك شيئا إذا فعلته ثم ذكرت أنك أتممت أو أنقصت لم يكن عليك شي‌ء؟». قلت : بلى. قال : «إذا سهوت فابن على الأكثر ، فإذا فرغت وسلمت ، فقم فصلّ ما ذكرت أنّك نقصت» (٤) الحديث.

وموثقته الاخرى أيضا عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال له : «يا عمار ، ألا أجمع لك السهو كلّه في كلمتين؟ متى شككت فخذ بالأكثر ، وإذا سلّمت فأتمّ ما ظننت أنّك نقصت» (٥).

ويعضد ذلك روايات (٦) الشكوك (٧) المتداولة في كلامهم.

وقد ورد بإزاء هذه القاعدة ما يدلّ على البناء على الأقل مطلقا ، كرواية

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٧ : ٤٦٧ / ١٨٧٢ ، وسائل الشيعة ١٨ : ١٧ ، أبواب الخيار ، ب ٦ ، ح ٥.

(٢) وسائل الشيعة ١٨ : ١٦ ـ ١٨ ، أبواب الخيار ، ب ٦ ، ح ٢ ـ ٤. بالمعنى.

(٣) وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٣٣ ـ ٢٣٥ ، أبواب كيفية الحكم ، وأحكام الدعوى ، ب ٣.

(٤) تهذيب الأحكام ٢ : ٣٤٩ / ١٤٤٨ ، وسائل الشيعة ٨ : ٢١٣ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب ٨ ، ح ٣.

(٥) الفقيه ١ : ٢٢٥ / ٩٩٢ ، وسائل الشيعة ٨ : ٢١٢ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب ٨ ، ح ١.

(٦) وسائل الشيعة ٨ : ٢١٢ ـ ٢١٣ ، ٢١٩ ـ ٢٢١ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب ٨ ، ح ١.

٣ ـ ٤ ، ب ١١.

(٧) في «ح» بعدها : الأربعة.


إسحاق بن عمار قال : قال لي أبو الحسن عليه‌السلام : «إذا شككت فابن على اليقين». قال : قلت : هذا أصل؟ قال : «نعم» (١).

وصحيحة الحلبي عنه عليه‌السلام في السهو في الصلاة ، قال : «يبني على اليقين ويأخذ بالجزم ، ويحتاط بالصلوات كلها» (٢).

ونحوهما صحيحة علي بن يقطين (٣) وغيرها (٤).

وبهذه القاعدة عمل الصدوق ، فخيّر في جميع صور الشكّ بين البناء على الأقل بلا احتياط (٥) ، والأكثر مع الاحتياط ، حتى في المغرب (٦) والغداة خيّر بين البناء على الأقل والإعادة. وقد حققنا في أجوبة مسائل بعض الأعلام أن الحق هو العمل على القاعدة الاولى ، وما ذكر من أخبار القاعدة الثانية ؛ منه ما هو غير (٧) صريح الدلالة على المطلوب ، ومنه ما هو محمول على التقية ، كما أوضحناه ثمة بما لا يعتريه ريب ولا إشكال.

ومنها أنه لا حكم للشك في الصلاة مع الكثرة ، والظاهر كما استظهره جمع من أصحابنا منهم الشهيد في (الذكرى) (٨) والسيد السند في (المدارك) إلحاق كثرة

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٣١ / ١٠٢٥ ، وسائل الشيعة ٨ : ٢١٢ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب ٨ ، ح ٢.

(٢) تهذيب الأحكام ٢ : ٣٤٤ / ١٤٢٧ ، وسائل الشيعة ٨ : ٢٣٧ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب ٢٣ ، ح ٢ ، وفيهما عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي إبراهيم.

(٣) تهذيب الأحكام ٢ : ١٨٧ / ٧٤٥ ، الاستبصار ١ : ٣٧٤ / ١٤٢٠ ، وسائل الشيعة ٨ : ٢٢٧ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب ١٥ ، ح ٦.

(٤) تهذيب الأحكام ٢ : ١٩٣ / ٧٦١ ، الاستبصار ١ : ٣٧٥ / ١٤٢٥ ، وسائل الشيعة ٨ : ٢١٣ ـ ٢١٤ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب ٨ ، ح ٦.

(٥) عنه في مختلف الشيعة ٢ : ٣٨٢ / المسألة : ٢٦٩ ، ذكرى الشيعة ٤ : ٧٦.

(٦) مختلف الشيعة ٢ : ٣٨٢ / المسألة : ٢٦٩ ، ذكرى الشيعة ٤ : ٧٦.

(٧) من «ح».

(٨) ذكرى الشيعة ٢ : ٢٠٤.


الشكّ في الوضوء بذلك ، وعلّله في (الذكرى) بدفع العسر والحرج ، وأيّده في (المدارك) بقوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة وأبي بصير [الواردتين] (١) فيمن كثر شكّه في الصلاة بعد أن أمر بالمضي في الشك : «لا تعوّدوا الخبيث من أنفسكم نقض الصلاة فتطمعوه ؛ فإن الشيطان خبيث معتاد لما عوّد» (٢) ، قال : (فإن ذلك بمنزلة التعليل بوجوب المضي في الصلاة ، فيتعدى إلى غير المسؤول عنه) (٣) انتهى.

أقول : ويؤيده أيضا ظاهر صحيحة عبد الله بن سنان عن الصادق عليه‌السلام قال : قلت له : رجل مبتلى بالوضوء والصلاة ، وقلت : هو رجل عاقل؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «وأي عقل له وهو يطيع الشيطان؟». فقلت له : وكيف يطيع الشيطان؟ فقال : «سله هذا الذي يأتيه من أي شي‌ء هو ، فإنّه يقول لك : من عمل الشيطان» (٤). فإن الظاهر أن ابتلاءه بذلك باعتبار كثرة الشكّ في أفعال الوضوء والصلاة.

وأما ما ذكره الفاضل المحقّق الملّا محمد صالح المازندراني قدس‌سره في (شرح الاصول) (٥) من حمله على ما يشمل الوسواس في النية ، فظني أنه بعيد غاية البعد ؛ لأن النية في الصدر السابق ليست على ما يتراءى الآن من صعوبة الإتيان بها ، ولهذا لم يجر لها ذكر في كلام السلف ولا في الأخبار ، كما أوضحناه في جملة من مصنّفاتنا على وجه واضح المنار ساطع الأنوار ، والوساوس فيها إنما حدثت بما أحدثه المتأخّرون من البحث فيها وفي قيودها والمقارنة بها ونحو ذلك.

ومنها في البيض المجهول أن يؤكل منه ما اختلف طرفاه دون ما استويا

__________________

(١) في النسختين : الواردة.

(٢) الكافي ٣ : ٣٥٨ / ٢ ، باب من شكّ في صلاته .. ، وسائل الشيعة ٨ : ٢٢٨ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب ١٦ ، ح ٢.

(٣) مدارك الأحكام ١ : ٢٥٧.

(٤) الكافي ١ : ١٢ / ١٠ ، وسائل الشيعة ١ : ٦٣ ، أبواب مقدّمة العبادات ، ب ١٠ ، ح ١.

(٥) شرح الكافي ١ : ٩٥.


لصحيحة زرارة (١) وغيرها (٢). وفي الطير ما دف دون ما صف ، أو ما كان دفيفه أكثر من صفيفه ، ولو اتي به مذبوحا فيؤكل ما كان له قانصة دون ما لم يكن كذلك ، لرواية ابن أبي يعفور (٣) وغيرها (٤). وفي السمك ما كان له فلس دون ما ليس كذلك ، كما استفاضت به الأخبار (٥).

ومنها رفع الخطأ والنسيان وما استكره عليه وما لا يطاق وما لا يعلم وما اضطرّ إليه والحسد والطيرة والوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة. رواه الصدوق في (الفقيه) (٦) ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام. والرفع في هذا الموضع أعم من أن يكون برفع الإثم والمؤاخذة ، كما في بعض الأفراد المعدودة أو رفع الفعل وانتفاء التكليف به (٧) كما في البعض الآخر.

ومنها العمل بالتقية إذا ألجأت الضرورة إليها. والأخبار بذلك أكثر وأظهر من أن يتعرض لنقلها ، بل ربما كان ذلك من ضروريات المذهب. وفي هذه القاعدة تفصيل حسن ذكرناه في كتابنا (الحدائق الناضرة) (٨) في أبحاث الوضوء.

ومنها العمل بالبراءة الأصلية (٩) في الأحكام التي يعم بها البلوى كما تقدمت

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٩ : ١٦ / ٦٠ ، ٦٣ ، وسائل الشيعة ٢٤ : ١٥٥ ، أبواب الأطعمة المحرّمة ، ب ٢٠ ، ح ٤.

(٢) وسائل الشيعة ٢٤ : ١٥٤ ـ ١٥٧ ، أبواب الأطعمة المحرّمة ، ب ٢٠.

(٣) الكافي ٦ : ٢٤٨ / ٦ ، باب ما يعرف به ما يؤكل من الطير .. ، وسائل الشيعة ٢٤ : ١٥١ ، أبواب الأطعمة المحرمة ، ب ١٨ ، ح ٦.

(٤) وسائل الشيعة ٢٤ : ١٤٩ ـ ١٥١ ، أبواب الأطعمة المحرّمة ، ب ١٨.

(٥) وسائل الشيعة ٢٤ : ١٢٧ ـ ١٢٩ ، أبواب الأطعمة المحرّمة ، ب ٨.

(٦) الفقيه ١ : ٣٦ / ١٣٢ ، وفيه عن النبي ، وسائل الشيعة ٨ : ٢٤٩ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب ٣٠ ، ح ٢ وهو بهذا السند في الخصال ٢ : ٤١٧ / ٩ ، باب التسعة.

(٧) ليست في «ح».

(٨) الحدائق الناضرة ٢ : ٣١٥ ـ ٣١٨.

(٩) انظر الدرر ١ : ١٥٥ ـ ١٨٦ / الدرة : ٦.


الإشارة إليه. والوجه فيه ما ذكره المحدّث الأمين الأسترآبادي ـ عطر الله مرقده ـ من (أن المحدّث الماهر إذا تتبّع الأخبار الواردة حقّ التتبّع في مسألة لو كان فيها حكم مخالف للأصل لاشتهر ، لعموم البلوى بها ، ولم يظفر بذلك الحكم يحصل له الجزم أو الظن المتاخم للعلم بعدم الحكم ؛ لأن جمّا غفيرا من أصحابهم عليهم‌السلام ومنهم الأربعة آلاف رجل الذين من أصحاب الصادق عليه‌السلام وتلامذته كانوا ملازمين لهم في مدة تزيد على ثلاثمائة سنة ، وكان همتهم وهمة الأئمّة عليهم‌السلام إظهار الدين وتزويج الشريعة ، وكانوا لحرصهم على ذلك يكتبون كل ما يسمعونه ؛ خوفا من عروض النسيان ، وكانت الأئمّة عليهم‌السلام يحثونهم على ذلك. وليس الغرض منه إلّا العمل به بعدهم ، ففي مثل ذلك يجوز التمسّك بالبراءة الأصلية ؛ إذ لو كان ثمة دليل والحال كذلك لظهر) (١) انتهى.

وإلى هذا أيضا أشار المحقق قدس‌سره في كتاب (المعارج (٢)) (٣) ، وقد أسلفنا عبارته في درة البراءة الأصلية (٤).

وأما ما اعترض به بعض متأخّري المتأخّرين على كلام المحدّث الأمين من أن ذلك لا يخلو من نوع إشكال لتطرّق الضياع والتلف إلى جملة من الاصول فالظاهر سقوطه ؛ لأن الظاهر أن التلف إنما عرض لتلك الاصول أخيرا بالاستغناء عنها بهذه الكتب المتداولة ؛ لكونها أحسن ترتيبا وأوضح تبويبا ، وإلّا فقد بقيت تلك الاصول إلى عصر ابن إدريس ، وابن طاوس ـ رضي‌الله‌عنهما ـ وقد نقلا منها شيئا كثيرا ، كما لا يخفى على من لاحظ كتاب (السرائر) لابن إدريس ، وما نقله في آخره ممّا استطرفه من تلك الاصول ، وكذا كتب رضي الدين بن طاوس.

ومما عد من هذا القبيل وجوب القصد إلى السورة ، ووجوب قصد الخروج

__________________

(١) الفوائد المدنيّة : ١٤٠ ـ ١٤١.

(٢) من «ح» ، وفي «ق» : المعتبر.

(٣) معارج الاصول : ٢١٢ ـ ٢١٣.

(٤) انظر الدرر ١ : ١٥٥ ـ ١٨٦ / الدرة : ٦.


بالتسليم ونجاسة أرض الحمام ونجاسة الغسالة.

ومنها الإبهام لما أبهم الله والسكوت عمّا سكت الله. ويدلّ عليه ما رواه في كتاب (عوالي اللآلي) عن إسحاق بن عمار عن الصادق عليه‌السلام : «إنّ عليا عليه‌السلام كان يقول : أبهموا ما أبهم الله» (١).

وما رواه الشيخ المفيد ـ عطر الله مرقده ـ بسنده عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن الله تعالى حدّ لكم حدودا فلا تعتدوها ، وفرض عليكم فرائض فلا تضيعوها ، وسنّ لكم سننا فاتّبعوها ، وحرّم عليكم حرمات فلا تنتهكوها ، وعفا لكم عن أشياء رحمة من غير نسيان فلا تتكلفوها» (٢).

وما رواه في (الفقيه) من خطبة أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث قال عليه‌السلام : «إنّ الله حد حدودا فلا تعتدوها ، وفرض فرائض فلا تنقصوها ، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تتكلفوها رحمة من الله لكم فاقبلوها» (٣).

ومنها ثبوت العيب بما زاد أو نقص عن أصل الخلقة. ويدل عليه ما رواه في (الكافي) عن السياري قال : سأل ابن أبي ليلى محمد بن مسلم ، فقال : أي شي‌ء تروون عن أبي جعفر عليه‌السلام في المرأة لا يكون على ركبها (٤) شعرا يكون ذلك عيبا؟

فقال له محمد بن مسلم : أمّا هذا نصّا فلا أعرفه ، لكن حدثني أبو جعفر عليه‌السلام عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «كلّما كان في أصل الخلقة فزاد أو نقص فهو عيب» فقال له ابن أبي ليلى : حسبك (٥).

ومنها «إنّ كل شي‌ء يجتر ، فسؤره حلال ولعابه حلال». رواه الصدوق رحمه‌الله في

__________________

(١) عوالي اللآلي ٢ : ١٢٩ / ٣٥٥.

(٢) الأمالي (ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد) ١٣ : ١٥٩ / ١.

(٣) الفقيه ٤ : ٥٣ / ١٩٣.

(٤) الرّكب : منبت العانة ، وهو للمرأة خاصة. الصحاح ١ : ١٣٩ ـ ركب.

(٥) الكافي ٥ : ٢١٥ / ١٢ ، باب من يشتري الرقيق فيظهر به عيب.


(الفقيه) (١) مرسلا ورواه في (التهذيب) (٢) عن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب عن آبائه عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ومنها قبول قول من لا منازع له ، كما لو ادّعى مالا ولا منازع له فيه ، وقبول قول المرأة لو ادّعت الخروج من العدّة بالحيض أو الأشهر أو عدم الزوج أو موته.

وهذه القاعدة على عمومها ـ كما ذكرناه ـ وإن لم ترد الأخبار بها بالعنوان المذكور ، إلّا إن اتّفاقها فيما وقفنا عليه من الجزئيات المندرجة تحتها ممّا يؤذن بكلية الحكم المذكور ، كما هو المفهوم أيضا من كلام الأصحاب ، بل لا يعرف فيه خلاف.

ومما يوضح ذلك أن الأخبار المتضمّنة للبينة واليمين في باب الدعاوى لا عموم فيها على وجه يشمل مثل هذه المسألة ؛ إذ موردها إنّما هو النزاع بين اثنين : مدّع ومنكر كما لا يخفى على من أحاط بها خبرا.

ومما حضرني من الأخبار في بعض جزئيّات هذه القاعدة رواية منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له : عشرة كانوا جلوسا وفي وسطهم كيس فيه ألف درهم ، فسأل بعضهم بعضا : ألكم هذا الكيس؟ فقالوا كلهم : لا ، وقال واحد منهم : هو لي ، فلمن هو؟ قال : «للذي ادّعاه» (٣).

وحسنة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «العدة والحيض للنساء ، إذا ادّعت صدّقت» (٤).

__________________

(١) الفقيه ١ : ٨ / ٩.

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ٢٢٨ / ٦٥٨.

(٣) الكافي ٧ : ٤٢٢ / ٥ ، باب نوادر كتاب القضاء والأحكام ، وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٧٣ ـ ٢٧٤ ، أبواب كيفية الحكم ب ١٧ ، ح ١.

(٤) الكافي ١ : ١٠١ / ١ ، باب أن النساء يصدّقن .. ، وسائل الشيعة ٢٢ : ٢٢٢ ، أبواب العدد ، ب ٢٤ ، ح ١.


ورواية ميسر قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ألقى المرأة في الفلاة التي ليس فيها أحد ، فأقول لها : ألك زوج؟ فتقول : لا. فأتزوجها؟ قال : «نعم هي المصدقة على نفسها» (١).

وفي رواية أبان بن تغلب الواردة في مثل ذلك ، قال عليه‌السلام : «ليس هذا عليك ، إنّما عليك أن تصدّقها في نفسها» (٢).

ولا يخفى عليك ما في عموم الجواب من الدلالة على قبول قولها فيما يتعلّق بها نفسها. واستشكل الفاضل الملّا محمد باقر الخراساني في كتاب (الكفاية) (٣) قبول قولها في موت الزوج ، وجمع من الطلبة المعاصرين في قبول قولها بعدم الزوج بعد معلوميته سابقا. والكل ضعيف ، والأخبار تردّه ، منها الخبر المذكور.

ومنها أيضا صحيحة حماد عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل طلّق امرأته ثلاثا فبانت منه ، فأراد مراجعتها فقال لها : إني أريد مراجعتك فتزوّجي زوجا غيري ، فقالت له : قد تزوجت غيرك ، وحللت لك نفسي. أتصدّق ويراجعها؟ وكيف يصنع؟ قال عليه‌السلام : «إذا كانت المرأة ثقة صدقت» (٤).

ورواية أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي عن الرضا عليه‌السلام قال : قلت له : الرجل يتزوج المرأة فيقع في قلبه أن لها زوجا؟ قال : «وما عليه؟ أرأيت لو سألها البينة كان يجد من يشهد أن ليس لها زوج؟» (٥).

__________________

(١) الكافي ٥ : ٣٩٢ / ٤ ، باب التزويج بغير ولي ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٢٦٩ ، أبواب عقد النكاح ، ب ٣ ، ح ٥.

(٢) خلاصة الإيجاز في المتعة (ضمن سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد) ٦ : ١٤ ، بحار الأنوار ١٠٠ : ٣١٠ / ٤٩.

(٣) كفاية الأحكام : ٢٠٦ (حجري).

(٤) تهذيب الأحكام ٨ : ٣٤ / ١٠٥ ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٣٣ ، أبواب أقسام الطلاق ، ب ١ ، ح ١.

(٥) تهذيب الأحكام ٧ : ٢٥٣ / ١٠٩٤ ، وسائل الشيعة ٢١ : ٣٢ ، أبواب المتعة ، ب ١٠ ، ح ٥.


ولا يخفى عليك ما في الثانية من الصراحة في المراد.

والظاهر أن المراد بكونها «ثقة» في الرواية الاولى ، أي ممن يوثق بإخبارها ، وتسكن النفس إلى كلامها ؛ وهي التي ربما عبر عنها في غير هذا الموضع بالمأمونة ، ومرجعه إلى عدم كونها متّهمة ، لا الوثاقة بمعنى العدالة. ومع ذلك فالظاهر حملها على الاستحباب جمعا بين الأخبار ، لاستفاضتها بأنها مصدقة على نفسها مطلقا ، بل ظاهر بعضها تصديقها في مقام التهمة ، كما يشير إليه قوله في رواية البزنطي : (فيقع في قلبي أن لها زوجا) ، إلى غير ذلك من القواعد التي يقف عليها المتتبّع حقّ التتبّع للأخبار ، والله العالم.

تتمة مهمة في ذكر بعض القواعد الفقهيّة

قد اشتهر في كلام جملة من الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ قواعد اخر بنوا عليها الأحكام ، مع كون جملة منها ممّا يخالف ما هو الوارد عنهم عليهم‌السلام ، وجملة أخرى ممّا لم يوجد له مستند في المقام. وها أنا اورد منها ما حضرني ممّا خطر على البال ، فأقول :

قاعدة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة

الأولى : قولهم : (إنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة) (١) مع أنه قد استفاضت النصوص عنهم عليهم‌السلام في مواضع منها في تفسير قوله تعالى (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٢) بما يدفع هذه القاعدة ، حيث قالوا ـ صلوات الله عليهم ـ : «إنّ الله عزوجل قد فرض عليكم السؤال ، ولم يفرض علينا الجواب ، بل ذلك إلينا إن شئنا أجبنا وإن شئنا أمسكنا» (٣).

__________________

(١) انظر : معارج الاصول : ١١١ ، مبادئ الوصول إلى علم الاصول : ١٦٦.

(٢) النحل : ٤٣ ، الأنبياء : ٧.

(٣) لم نعثر عليه بنصه ، انظر بصائر الدرجات : ٣٨ ، ب ١٩.


نعم ، هذه القاعدة إنما تتجه على مذهب العامة ، لعدم التقيّة في أخبارهم ، وقد تبعهم من أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ من تبعهم غفلة.

ولو قيل : إنه مع عدم جوابهم عليهم‌السلام يلزم الحرج.

قلنا : إنما يلزم ذلك لو لم يكن ثمة مخرج آخر ، كيف ، وقد تقرّر عنهم عليهم‌السلام قاعدة جلية في أمثال ذلك ، وهو سلوك جادة الاحتياط ، كما تقدم التنبيه عليه في غير موضع من الدرر المتقدمة؟

ونقل شيخنا المحدّث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح البحراني عن شيخه علّامة الزمان الشيخ سليمان ـ نوّر الله تعالى مرقديهما ـ أنه كان يقول : (لو ورد علينا في مثل هذه المسألة ألف حديث لما عملنا به ؛ لأنّه معارض لما قام عليه الدليل العقلي والنقلي من عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة) (١).

وهو ـ كما ترى ـ اجتهاد صرف وتعصب بحت ؛ فإن الدليل النقلي المطابق للدليل العقلي الذي هو عبارة عما دلّ من الأخبار على وجوب بذل العلم ، كقوله عليه‌السلام : «إنّ الله لم يأخذ على الجهال عهدا بطلب العلم حتى أخذ على العلماء عهدا ببذل العلم» (٢) ، وما اشتهر من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من كتم علما ألجمه الله بلجام من نار» (٣) إلى غير ذلك مخصوص بما رواه ثقة الإسلام في (الكافي) بسنده إلى أبي عبد الله بن سليمان قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول ـ وعنده رجل من أهل البصرة يقال له عثمان الأعمى وهو يقول (٤) : إن الحسن البصري يزعم أن الذين يكتمون العلم يؤذي ريح بطونهم أهل النار ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام ـ : «فهلك إذن مؤمن آل فرعون ، ما

__________________

(١) منية الممارسين : ٢٨٨.

(٢) الكافي ١ : ٤١ / ١ ، باب بذل العلم.

(٣) عوالي اللآلي ٤ : ٧١ / ٤٠ ، بحار الأنوار ٢ : ٧٨ / ٦٦.

(٤) وعنده رجل .. يقول ، سقط في «ح».


زال العلم مكتوما منذ بعث الله نوحا ، فليذهب الحسن يمينا وشمالا ، فو الله ما يوجد العلم إلّا هاهنا» (١).

ونحوه روى في كتاب (بصائر الدرجات) (٢). ولعل الحسن البصري حيث إنه من جملة النّصاب ورءوس ذوي الأذناب كان يعرّض بهم عليهم‌السلام في عدم جوابهم عن بعض الأسئلة كما تدل عليه الأخبار الّتي قدمنا الإشارة إليها في عدم فرض الجواب عليهم. وفي هذين الخبرين دلالة واضحة على جواز تأخير البيان مع التقية حتى بالنسبة إلى غيرهم عليهم‌السلام.

وحينئذ ، فتلك القاعدة وما طابقها من الأخبار مخصّصة بما ذكرنا من هذين الخبرين ونحوهما ، وكأن شيخنا العلّامة المشار إليه ـ أفاض الله تعالى سوانح ألطافه عليه ـ قصر النظر على عموم الأخبار المتقدمة من حيث دلالتها على عدم وجوب الجواب عليهم عليهم‌السلام وإن كان لغير تقية. وبذلك تحصل المنافاة للقاعدة المذكورة. وبما ذكرنا لك من الخبرين المذكورين ينكشف عن تلك الأخبار غشاوة العموم وتخصّ بمقام التقية كما لا يخفى.

ثبوت الحقائق الشرعية

الثانية : من القواعد المسلمة بينهم حمل اللفظ الوارد في أخبارهم عليهم‌السلام على الحقيقة الشرعية إن ثبتت ، وإلّا المعنى العرفي الخاص ـ أعني : عرف الأئمّة عليهم‌السلام ـ ومع عدمه فالمعنى اللغوي ، وإلّا العرفي العام. وهذا ممّا لم يقم عليه دليل معتمد.

بل المستفاد من أخبارهم عليهم‌السلام (٣) أنه مع عدم العلم بما (٤) هو المراد من الخطاب

__________________

(١) الكافي ١ : ٥١ / ١٥ ، باب لزوم الحجّة على العالم.

(٢) بصائر الدرجات : ١٠ / ب ٦ ، ح ٦.

(٣) الكافي ١ : ٦٨ / ١٠ ، باب اختلاف الحديث ، وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٧ ، أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ١.

(٤) في «ح» : ما ، بدل : العلم بما.


الشرعي يجب الفحص والتفتيش ، ومع العجز عن الظفر بالمراد يجب رعاية الاحتياط والوقوف على سواء (١) الصراط.

على أنه لا يخفى ما في بناء الأحكام على العرف العام من العسر والحرج المنفيّين بالآية (٢) والرواية ، فإنه يوجب استعلام ما عليه كافّة الناس في أقطار الأرض.

وأما البناء على العرف الخاص عند تعذر العامّ كما صار إليه بعض الأعلام (٣) ، ففيه أنه يوجب الاختلاف في الأحكام الشرعية. والمستفاد من الأخبار أن كل شي‌ء يؤدي إلى الاختلاف فيها ، فلا يجوز البناء عليه ، والله العالم.

كون عدم وجود مدرك شرعي مدركا شرعيّا

الثالثة : قولهم : (عدم وجود المدرك للحكم الشرعي مدرك شرعي) (٤). وبعبارة اخرى عدم وجود الدليل دليل على العدم. وفيه ما تقدم في الدرة التي في البراءة الأصلية (٥).

أرجحيّة الجمع بين الدليلين

الرابعة : قولهم : الجمع بين الدليلين مهما أمكن وإن كان بوجه بعيد أولى من طرح أحدهما (٦). وفيه أن هذا ممّا لا يتمشى [مع] (٧) أخبارنا لورود الكثير منها على وجه التقية التي هي على خلاف الحكم الشرعي ، بل التقية ـ كما تقدم في بعض الدرر المتقدمة (٨) ـ هي أصل الاختلاف في الأخبار ، فكيف يتمحّل الجمع

__________________

(١) في «ح» : سوى ذلك ، بدل : سواء.

(٢) الحجّ : ٧٨.

(٣) تذكرة الفقهاء ١ : ٥٧٤ ، إيضاح الفوائد ١ : ٤٤٧ ، الدروس ٢ : ٢٩٧ ، جامع المقاصد ٤ : ١٦٧.

(٤) الوافية في اصول الفقه : ١٩٩ ، هداية الأبرار : ٢٧٠.

(٥) انظر الدرر ١ : ١٥٥ ـ ١٨٦ / الدرة : ٦.

(٦) تمهيد القواعد : ٢٨٣ / القاعدة : ٩٧.

(٧) في النسختين : في.

(٨) انظر الدرر ٢ : ٣٢٣ ـ ٣٣٧ / الدرّة : ٣٧.


بينها وبين ما هو خلافها واقعا.

نعم ، إنما يتمشّى ذلك على قواعد العامة ؛ لعدم ورود حديث عندهم على التقية ، والظاهر أن من صرّح بذلك من أصحابنا إنما أخذه من كلامهم غفلة عن تحقيق الحال وما يلزمه من الإشكال.

لا يقال : إن الشيخ رحمه‌الله في كتابي الأخبار هو أصل هذه الطريقة ومحقّق هذه الحقيقة ، حيث إنه جمع بين الأخبار ، لقصد رفع التنافي بينها بوجوه عديدة وإن كانت عن حاقّ اللفظ بعيدة ، بل جملة منها ربما كانت غير سديدة رعاية لهذه القاعدة ، وطلبا لهذه الفائدة.

لأنا نقول : نعم ، قد فعل الشيخ رحمه‌الله ذلك ، لكن ليس لرعاية هذه القاعدة كما يتوهم ، بل السبب الحامل له على ذلك هو ما أشار إليه في أوّل كتاب (التهذيب) (١) من أن بعضا من الشيعة قد رجع عن مذهب الحق لما وجد الاختلاف في الأخبار ، فقصده قدس‌سره لأجل إزاحة هذه الشبهة عن ضعفة العقول ، ومن ليس له قدم راسخ في المعقول والمنقول ، وارتكب الجمع بينها ولو بالوجوه البعيدة ، وأكثر من الاحتمالات العديدة ، كل ذلك لرفع (٢) تلك الشبهة.

وبهذا يندفع عنه ما أورده المتأخّرون في جمل من مواضع الجمع بين الأخبار بالبعد أو الفساد ، فإن مثله قدس‌سره ممن (٣) لا يشق غباره ولا يدفع اشتهاره لا يخفى عليه ما اهتدى إليه أولئك الأقوام ، وما أوردوه عليه (٤) في كل مقام ، لكنهم من قبيل ما يقال : أساء سمعا فأساء إجابة (٥).

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ : ٢.

(٢) في «ح» : لدفع.

(٣) من «ح».

(٤) ليست في «ح».

(٥) مجمع الأمثال ٢ : ١٠١ / ١٧٧٣.


حجيّة البراءة الأصليّة والاستصحاب

الخامسة : العمل بالبراءة الأصلية والاستصحاب. وقد عرفت ما في ذلك من المخالفة لأدلة السنة و (الكتاب) ، كما تقدّم مشروحا في درّتي المسألتين المذكورتين (١).

المشتقّ

السادسة : قولهم : (إنه لا يشترط في صدق المشتق بقاء مأخذ الاشتقاق) ، وقد تقدم ما فيه في الدرة التي في هذه المسألة (٢).

بطلان العقد بفساد شرطه

السابعة : ما ذهب جمع منهم من أن كل عقد اشتمل على شرط فاسد فإنه يبطل به أصل العقد ؛ لأن المقصود بالعقد : هو المجموع ، وأصل العقد مجردا عن الشرط غير مقصود ؛ فيكون باطلا ؛ لأن العقود تابعة للمقصود ، فما كان مقصودا غير صحيح ، وما كان صحيحا غير مقصود (٣) ، وذهب جمع إلى بطلان الشرط خاصة (٤) ، والأخبار فيها ما يدل على الثاني (٥) ، وفيها ما يدل على الأول.

فالواجب حينئذ هو الوقوف على الدليل كيف كان إن وجد ، وإلّا فالاحتياط.

استلزام الأمر بالشي‌ء النهي عن ضدّه

الثامنة : ما ذهب إليه جمع من أن (٦) الأمر بالشي‌ء يستلزم النهي عن ضده

__________________

(١) انظر الدرر ١ : ١٥٥ ـ ١٨٦ / الدرة : ٦ ، ١ : ٢٠١ ـ ٢٢٢ / الدرّة : ٩.

(٢) انظر الدرر ١ : ١٣١ ـ ١٤٦ / الدرّة : ٤.

(٣) مختلف الشيعة ٥ : ٣٢١ / المسألة : ٢٩٥.

(٤) المبسوط ٢ : ١٤٨ ـ ١٤٩ ، مختلف الشيعة ٥ : ٣٢١ / المسألة : ٢٩٥.

(٥) الكافي ٥ : ٤٠٢ / ١ ، باب الشرط .. ، وسائل الشيعة ٢١ : ٢٦٥ ، أبواب المهور ، ب ١٠ ، ح ٢.

(٦) من «ح».


الخاص. وفيه مع عدم الدليل عليه أنه موجب للحرج والضيق [المنفيين] (١) بالآية (٢) والرواية. ومثله القول في مقدمة الواجب ، وأمثال ذلك من قواعدهم ، رضوان الله عليهم.

__________________

(١) في النسختين : المنفي.

(٢) الحجّ : ٧٨.



فهرس الموضوعات



فهرس الموضوعات

(١٩) درّة نجفيّة في الجواب عن بعض الإشكالات الواردة على الأخباريين....... ٧

(٢٠) درّة نجفيّة في تكليف الكافر بالفروع................................. ٣٣

(٢١) درّة نجفيّة في صفات الفقيه الجامع للشرائط........................... ٤٥

تذنيب : في حديث عنوان البصري........................................ ٧٩

تلخيص................................................................. ٨٢

(٢٢) درة نجفية في صحة طلاق الحائل المراجعة قبل الدخول بها............... ٨٩

(٢٣) درة نجفية في انتقال ما في ذمّة المقتول ظلما إلى ذمّة القاتل............. ١٠٩

(٢٤) درة نجفية في مشروعية العمل بالاحتياط وعدمها..................... ١١٣

(٢٥) درّة نجفيّة في الشبهة المحصورة وغير المحصورة........................ ١٢٩

المقام الأول : في مسألة الإناءين.......................................... ١٣٠

المقام الثاني : في الحلال المختلط بالحرام إذا كان محصورا.................... ١٣٩

(٢٦) درّة نجفيّة في قراءة القرآن والدعاء بغير العربية....................... ١٦١

(٢٧) درّة نجفيّة هل تصدّق المرأة على نفسها في إخبارها................... ١٦٩

(٢٨) درّة نجفيّة فيمن طلَّق زوجته ثم راجعها ولم يبلغها خبر الرجعة.......... ١٧٣

(٢٩) درّة نجفيّة اختلاف علماء الرجال في إسحاق بن عمّار................ ١٨١

(٣٠) درّة نجفيّة في مدلول الأمر والنهي.................................. ١٨٧

(٣١) درّة نجفيّة في تقليد الفقيه بمسألة مع ثبوت خلافها للمكلف........... ١٩٧


(٣٢) درّة نجفيّة في مراتب المعرفة........................................ ٢٠٥

تذييل جليل ينبئ عن السبب في هذا الضلال والتضليل..................... ٢٤٢

(٣٣) درّة نجفيّة هل يقدم دليل العقل على دليل النقل؟..................... ٢٤٥

(٣٤) درّة نجفيّة في حقيقة الرؤيا وأشكالها................................ ٢٥٥

المقام الأول : في تحقيق حقيقة الرؤيا وصدقها وكذبها....................... ٢٥٥

المقام الثاني : في معنى رؤيتهم عليهم‌السلام....................................... ٢٧٤

المقام الثالث : في حجّية قول المعصوم في المنام.............................. ٢٨٢

المقام الرابع : في معنى أن الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزءا من النبوّة...... ٢٨٤

المقام الخامس : في أنه هل تكون رؤيا المعصوم شيطانية؟.................... ٢٨٨

(٣٥) درّة نجفيّة حكم محاذاة ضريح المعصوم عليه‌السلام في الصلاة................ ٢٩١

إلحاق فيه إشفاق في الردع عن بعض العادات............................. ٣٠٣

تأييد سديد في بعض آداب الزيارة....................................... ٣٠٧

(٣٦) درّة نجفيّة في أن الأئمّة عليهم‌السلام يوقعون الاختلاف بين شيعتهم.......... ٣١١

(٣٧) درّة نجفيّة في تقسيم الأحاديث..................................... ٣٢٣

(٣٨) درّة نجفيّة جواز استنباط الحكم الشرعي من القرآن.................. ٣٣٩

(٣٩) درّة نجفيّة في نضح الماء للجهات الأربع لمن لم يجد ماء كافيا لغسله..... ٣٦١

الموضع الأول : في موضع النضح......................................... ٣٦٢

القول بأنّ موضع النضح هو الأرض...................................... ٣٦٢

القول بأنّ موضع النضح هو البدن....................................... ٣٦٦

الموضع الثاني : في اشتمال الخبر على بعض الأحكام الشاذة.................. ٣٦٧

الثالث : في دلالة الخبر على المنع من استعمال الماء ثانية..................... ٣٦٨

الرابع : في المنع في رجوع الغسالة إلى الماء................................. ٣٦٩

الخامس : في فساد الماء القليل بنزول الجنب إليه............................ ٣٦٩

(٤٠) درّة نجفيّة في حجيّة الإجماع....................................... ٣٧٣


(٤١) درّة نجفيّة في مشروعية الأصول الخارجة عن غير الأئمّة عليهم‌السلام......... ٣٨٣

تتمة مهمة في ذكر بعض القواعد الفقهيّة.................................. ٤٠٩

قاعدة قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة.................................. ٤٠٩

ثبوت الحقائق الشرعية.................................................. ٤١١

كون عدم وجود مدرك شرعي مدركا شرعيّا............................. ٤١٢

أرجحيّة الجمع بين الدليلين.............................................. ٤١٢

حجيّة البراءة الأصليّة والاستصحاب...................................... ٤١٤

المشتقّ................................................................ ٤١٤

بطلان العقد بفساد شرطه............................................... ٤١٤

استلزام الأمر بالشيء النهي عن ضدّه..................................... ٤١٤

الدرر النجفية من الملتقطات اليوسفية - ٢

المؤلف:
الصفحات: 421