


ورد في الصفحة
الأولى من النسخة «ق» العبارة التالية :
باسم الله وبه
نستعين. مما قاله اقل الخلق الخليفة ، لايكون شيئاً في الحقيقة أحمد بن محمد آل
عصفور :
يا غائصاً
لجج الأبحار بالسرف
|
|
لتجتني درراً
من درّة الصدف
|
هلّا طلبت
بغوض الفكر جوهرة
|
|
مكنوة في
كتاب الدرّة النجف
|
مقدمة
التحقيق
مقدمة
التحقيق
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ
يزخر تراثنا
الإسلامي بشكل عام والشيعي منه بشكل خاص بشذرات أثرت المسيرة الإسلامية وأغنتها
بشتى صنوف المعرفة على المستويات كافة ؛ من الكلام والفقه والاصول والتفسير
والرجال وعلوم اللغة وغيرها. وكان لعلماء الطائفة الحقّة والفرقة المحقّة ، حملة
علوم القرآن ومدرسة أهل البيت عليهمالسلام دور بارز وناشط ، وتفعيل نابه في ذلك متحمّلين من ذلك
ما لا يحتمله غيرهم من أجل إعلاء كلمة الدين ورفعة راية مذهب أهل البيت عليهمالسلام.
وفي الصدر
الأوّل من عصر الأئمّة عليهمالسلام أخذ أتباعهم وتلامذتهم يفرّعون على ما أصّلوا لهم ،
ويكتبون ما يملون عليهم من تفسير وعلوم فقهية وكلامية ، فالإمام الباقر عليهالسلام يقول : «علينا أن نلقي عليكم الأصول ، وعليكم أن
تفرّعوا» ، فكتبوا في
الحديث والتفسير والكلام والفقه والاصول. ولعلّ أقدم ما وصل إلينا من كتب في
الحديث هو مسند سليم بن قيس الهلالي المتوفّى سنة (٩٠) هـ ، ومسند محمد بن قيس
البجلي أحد أصحاب الإمام الصادق عليهالسلام ، ومسند الإمام موسى بن جعفر عليهالسلام لأبي عمران المروزي الذي يرويه مباشرة عنه عليهالسلام ، ومسند محمد بن مسلم المتوفى سنة (١٥٠) هـ ، ومسند
زرارة بن أعين المتوفى سنة (١٥٠) هـ أيضا ، وفي
__________________
الأخيرين يقول السيد بحر العلوم في منظومته حول أهل الإجماع من الأوتاد :
فالستة
الأولى من الأمجاد
|
|
أربعة منهم
من الأوتاد
|
زراة كذا
بريد قد أتى
|
|
ثم محمد وليث
يا فتى
|
وهذه الكتب
تعتبر من الاصول الأربعمائة التي ذكر المصنّف أنها بقيت حتى زمن السيد ابن طاوس رحمهالله. ومن أقدم ما وصل إلينا من كتب التفسير تفسير فرات
الكوفي المعاصر للكليني رحمهالله (من أعلام الغيبة الصغرى) ، ثم تفسير العياشي المتوفى سنة (٣٢٠) هـ ،
وتفسير القمي المتوفّى سنة (٣٢٩) هـ ، والتفسير المنسوب إلى الإمام أبي محمد الحسن
بن علي العسكري عليهمالسلام حيث جمعه محمد بن عليّ ابن محمد بن جعفر بن دقاق ،
وغيرها.
وهكذا الأمر في
بقية صنوف العلوم والمعرفة التي حرص أهل البيت عليهمالسلام على إيصالها للناس وفق الرسالة المناطة بهم والدور الذي
التزموا به كونهم امتداد خطّ الرسالة.
ويواصل الركب
مسيرته ، ويسير الخلف الصالح على منهاج سلفه الصالح ، وتتواصل الامّة فكريا ،
وهكذا يمتدّ حتى يصل إلى أزماننا المتأخرة ، حيث نهض لرفع لواء العلم ثلة مؤمنة
صالحة تسيّرها الغيرة على معالم الدين أن تنطمس وملامح المذهب أن تندرس ، وهو ما
أشار إليه المصنّف رحمهالله عند إشارته إلى تشكّي الشهيد الثاني قدسسره من زمانه وقلة حاملي العالم وكثرة المتفيقهين الذين نهى
الرسول صلىاللهعليهوآله عن متابعتهم بقوله : «إنّ أبغضكم إليّ الثرثارون المتفيقهون
المتشدقون ...» .
__________________
وممّن كان له
الحظّ الأوفر من ذلك ، والقدح المعلّى فيه العلّامة المحقق المدقق والعلم العيلم
الشيخ يوسف البحراني قدسسره ، فقد أسهم بشكل واضح وملموس في خدمة المذهب وإحياء
علومه وذكر الأئمّة الهداة ، عليهم الصلاة والسلام. ومن يطّلع على مؤلّفاته يجد
فيها حبّه واعتزازه وغيرته على مذهب أهل البيت عليهمالسلام واضحة جليّة ، وكمثال على ذلك ما يعلن به كل حين من
رفضه لما درج عليه بعض الاصوليين من رفض بعض الأحاديث الصحاح والحسان لأنها تخالف
مقتضى القاعدة العقليّة ، ويذكر أنّ في ذلك تقديما لكلام المخلوق وقواعده
العقليّة على كلام ملوك الكلام ، بل كلامهم ملك الكلام ، وقد أشار إلى ذلك ابن أبي
الحديد بقوله واصفا كلام أمير المؤمنين عليهالسلام : (دون كلام الخالق ، وفوق كلام المخلوقين) .
ويكفي شاهدا
على ذلك أنه قدسسره جعل مسك ختام هذا الكتاب الذي بين يديك عزيزي القارئ في
شرح حديث لأمير المؤمنين عليهالسلام يذكر فيه زهده وتورعه عن حلال الدنيا فضلا عن حرامها.
وهنا لا بدّ من وقفة لنا مع المؤلّف والمؤلّف.
__________________
ترجمة
المؤلّف رحمهالله
نسبه
الفقيه المحدّث
الشيخ يوسف بن أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن صالح بن أحمد بن عصفور بن أحمد بن عبد
الحسين بن عطية بن شيبة الدرازي البحراني.
والدراز قرية
في البحرين.
ولادته
ووفاته رحمهالله
ذكر المصنف رحمهالله أنه ولد في قرية الماحوز سنة (١١٠٧) هـ الموافق لعام (١٦٩٥)
م ، وذكر ابنه الشيخ الحسن أنه توفي في كربلاء المقدّسة بعد ظهر السبت الرابع من
ربيع الأول سنة (١١٨٦) هـ ، الموافق لعام (١٧٧٢) م. وقد تولّى غسله الشيخ محمّد
علي الشهير بابن سلطان والحاج معصوم ، وهما من تلامذته ، وصلى عليه العلّامة
البهبهاني ، ودفن في الرواق عند رجلي سيد الشهداء عليهالسلام ممّا يقرب من الشباك المقابل لقبور الشهداء ، رضوان
الله عليهم.
وحضر تشييعه
جمع غفير من الناس على الرغم من هرب أكثرهم من المدينة بسبب الطاعون الذي أصابها.
واقيمت له مجالس الفاتحة في سائر البلاد الشيعية .
__________________
وذكر له ثلاث كرامات
أحدها قبل موته ، واثنتان بعده بمدة يسيرة ، وسنذكرها فيما سيأتي من ترجمته إن شاء
الله.
وقد أرّخ وفاته
السيد محمّد الزيني بقوله :
قرّحت قلب الدين بعدك يوسف
وهو ضمن أبيات
سنذكرها فيما يأتي من تأبينه.
نشأته
العلميّة
ذكر رحمهالله أن بداية رحلته العلمية كانت مع والده المبرور الشيخ
أحمد ـ بعد أن هيّأ له من يعلّمه القراءة والكتابة ـ حيث تلمذ له في كتاب (قطر
الندى) وأكثر (شرح ابن الناظم) وأغلب كتاب (شرح النظام على شافية ابن الحاجب)
وجزءا من كتاب (القطبي). ولا بدّ من الإحاطة بالظروف التي كانت تكتنف حياة شيخنا
المترجم لكي نستطيع أن نكون فكرة واضحة عن جهاد هذا الرجل العظيم في طلب علوم أهل
البيت عليهمالسلام وإعلاء كلمتهم ، فقد كان رحمهالله يعيش في فترة تعدّ فترة كساد ، فترت فيها الهمم عن طلب
العلم والاجتهاد فيه ، وأغلب من فيه إما متفيقه يحكم بما جاء في كتب الأصحاب دون
إعمال رأي ، بل يجمع من هذا الكتاب وذاك ما يقضي به لبانته كما أشار إليه رحمهالله بقوله : (والمتورع الفاضل المجتهد بين العباد إذا وردت
عليه المسألة هيأ لها (شرح اللمعة) و (المسالك) ، وبعض شروح (الإرشاد) ، وأصدر
الجواب منها من غير علم له بابتنائه على صحة أو فساد) .
وإمّا جاهل
يدّعي المعرفة ، وهو ما ذكره رحمهالله من تظلّم وتشكّي الشهيد الثاني قدسسره ممّن يدّعي العلم في زمانه ، وقد ذكرناه في أوّل
المقدّمة. وقد ألقت هذه الفترة
__________________
الحالكة في تاريخ الثقافة الإسلامية بذيولها على حياة المترجم ، وأضفت
عليها من خيوطها شيئا لا يستهان به ، غير أنه رحمهالله برغبته الأكيدة الصادقة في طلب العلم ، وإخلاصه المحض
في خدمة مذهب أهل البيت عليهمالسلام استطاع أن يتجاوز كل تلك المحن والشدائد فيشق طريقه
العلمي وسط أشواك تلك الرزايا والفتن ، وإلّا فإنّه رحمهالله كان في ريعان صباه حين وقعت فتنة العتوب على بلاده
البحرين وانتهكوها وأكثروا فيها القتل الذريع والنهب الفظيع ، وسفكت فيها دماء
الأبرياء والأخيار والعلماء.
وأعقبت فتنة
العتوب محنة أخرى هي غزو الخوارج لبلاده ، حيث عاثوا فيها ، وعلى إثر هذه الواقعة
نزح والده رحمهالله مع أفراد العائلة إلى معقل الشيعة هناك (القطيف) ، وبقي
المترجم في بيتهم الكائن في قرية الشاخورة لحفظ ما في خزانة والده من كتب وما في
البيت من لوازم ؛ حيث كان والده رحمهالله قد كلّفه بجمع ما يمكنه جمعه من الكتب التي انتهبها
الغزاة وإرسالها إليه ، فجمع ما أمكنه جمعه منها وأرسله إليه في القطيف.
امتدّت هذه
المرحلة سنين طوالا ، حتى لحق بأبيه في القطيف ، وبعد أشهر من وصوله إليها توفي
والده رحمهالله إثر نكبة انهزام العجم وجملة من الأعراب الذين جاؤوا
لاستنقاذ البحرين من أيدي الخوارج ، وكان أن أحرقت الدور هناك ومنها دار والد
المترجم رحمهالله.
واستقرّ رحمهالله بعد وفاة أبيه في القطيف لمدة سنتين متكفّلا لبقية
إخوته ، وكان عمره آنذاك يناهز الرابعة والعشرين ، وهناك قرأ على استاذه الشيخ
حسين الماحوزي حيث حضر عنده جملة من (القطبي) وجملة وافرة من أوّل كتاب (شرح
القديم للتجريد). وبعد استنقاذ البحرين صلحا من أيدي الخوارج رجع إليها ، وهناك
اشتغل بالدرس عند شيخه الشيخ عبد الله بن أحمد البلادي.
وخلال هذه
الفترة ـ فترة رجوعه إلى البحرين ، والتي امتدّت من خمس إلى ست سنوات ـ حجّ بيت
الله الحرام وزار قبر نبيّه الكريم صلىاللهعليهوآله ، وفي طريق عودته نحا القطيف ليعلّ من نمير الشيخ حسين
الماحوزي في علم الحديث ، حيث تلمذ له في كتاب (التهذيب) ، فقرأ عليه جملة منه ،
ثم عاد إلى البحرين التي ما لبثت أعراب الهولة أن غزتها ، فرحل إلى كرمان ، ثم
شيراز حيث اشتغل بالتدريس في مدرسة السلطان الميرزا محمّد تقي خان ، وإقامة الجمعة
والجماعة فيها ، وفيها ألّف جملة من مصنفاته وأجوبة المسائل الواردة إليه.
وما لبثت
الفتنة أن نشبت في كرمان فخرج منها إلى بعض القرى حيث شرع في تأليف كتابه القيّم (الحدائق
الناضرة) إلى باب الأغسال ، وفيها تزوّج وأنجب ولده محمدا ، وفيها كان
يمارس حرفة الزراعة لمعاشه. ثم ارتحل إلى اصطهبانات ، وبقي فيها مدّة ، ثم رحل
بعدها إلى العراق حيث تشرّف بزيارة قبر أبي عبد الله عليهالسلام ، وهناك تفرّغ كلّيّا للتدريس والتأليف ، وقرر المقام
فيها حتى يختاره الله إلى جواره ، فشرع في إتمام ما بدأ به من كتاب (الحدائق
الناضرة) وكان له ما تمنّى حيث وفقه الله لجوار سيّد الشهداء
محيا ومماتا.
هذه لمحة عن
المحن والآلام التي كابدها المؤلّف رحمهالله ، وهو مع ذلك كلّه لم يركن إلى الدعة وعدم البحث
والمطالعة بحجّة عدم تهيؤ الظروف ، بل جدّ في دراسته وبحوثه وكتاباته إلى أن أصبح
من أفضل علماء الطائفة ، وخرج من قلمه الشريف عشرات المجلدات من المؤلّفات.
وبهذا يكون رحمهالله حجّة على أهل العلم في كل زمان ومكان ، وخصوصا في
__________________
زماننا هذا حيث توفرت الإمكانات الكثيرة التي تذلل الصعاب لنيل العلم
والفضيلة.
شاعريته
كان رحمهالله شاعرا مقلّا ، وشعره مبثوت في بعض كتبه ، وأغلبه في
مديح ورثاء الأئمّة الأطهار عليهمالسلام ، ولم يشتهر بشعره لغلبة جانب الفقاهة عليه وانطباع
حياته بطابع العلم والبحث والاستدلال ؛ فهو لا يقول الشعر فيمن هبّ ودبّ ، ولا
تجود قريحته منه إلّا بما يقتضيه المقام مدحا أو رثاء لأهل البيت عليهمالسلام ، أو عظة لأحد أبنائه ومتعلّقيه ، فمن شعره في مدح أمير
المؤمنين عليهالسلام قصيدة تقع في (٣١) بيتا ، ومطلعها :
إليك أمير
المؤمنين وفودي
|
|
فأنت منائي
من جميع قصودي
|
إلى أن يقول :
أخوض بحار
الموت في حب سيّد
|
|
به سؤددي
دنيا وبطن لحودي
|
فيا روح ،
روحي في هواه وسارعي
|
|
لديه وجودي
فهو أصل وجودي
|
إلى أن يقول :
محبّوه أخفوا
فضله خيفة العدى
|
|
وبغضا عداه
قابلوا بجحود
|
وشاع له ما
بين ذين مناقب
|
|
أبت أن تضاهى
في الحساب لمعدود
|
ويختمها بقوله
:
عليك صلاة
الله يا خير من مشى
|
|
وماست به في
بيدها قلص القود
|
__________________
وهي قصيدة
تتجلّى فيها كل معاني الحب الصادق والولاء المحض لهذا الرجل العظيم عليهالسلام الذي لم تتشرف الكعبة بغيره وليدا.
ومن شعره في
رثاء الامام الحسين عليهالسلام ، قصيدة تقع في (٦٢) بيتا ، مطلعها :
برق تألّق
بالحمى لحماتها
|
|
أم لامع
الأنوار من وجناتها
|
إلى أن يقول :
لله أنصار
هناك وفتية
|
|
سادت بما
حفظته من ساداتها
|
وإذا سطت
تخشى الاسود لكرّها
|
|
في الحرب من
وثباتها وثباتها
|
شربت بكأس
الحتف حين بدا لها
|
|
في نصر
خيرتها سنا خيراتها
|
إلى أن يقول (متفرّقة)
:
من مخبر
الزهراء أن حسينها
|
|
طعم الردى
والعز من ساداتها
|
ورءوس أبناها
على سمر القنا
|
|
وبناتها تهدى
إلى شاماتها
|
يا عين جودي
بالبكاء وساعدي
|
|
ست البنات
على مصاب بناتها
|
يا يوم
عاشوراء كم لك لوعة
|
|
تتفتت
الأكباد من صدماتها
|
أخلاقه
رحمهالله وزهده وورعه
كان رحمهالله متعفّفا عما في أيدي الناس من حقوق وغيرها ، فكان يعمل
بالزراعة ليعيل نفسه وأهله بعيدا عن من غيره ، وهذا يذكرنا بخلق الأنبياء الأئمّة عليهمالسلام فما منهم إلّا من امتهن الرعي كإبراهيم وأيوب عليهماالسلام ، أو التجارة أو الزراعة أو العمل بأيّ حرفة شريفة ،
كما هو دأب أئمّتنا عليهمالسلام.
ومن أخلاقه
العالية ما نقله صاحب (علماء البحرين) من أن البهبهاني سئل
__________________
عن الصلاة خلفه ، فقال : (لا تصح). وسئل الشيخ يوسف عن الصلاة خلف
البهبهاني ، فقال : (تصح). ولما رأى استغراب السائل قال رحمهالله : (وأية غرابة في ذلك ، إن واجبي الشرعي يحتمّ عليّ أن
أقول ما أعتقد ، وواجبه الشرعي يحتمّ عليه ذلك ، وقد فعل كلّ منّا بتكليفه وواجبه.
وهل يسقط عن العدالة لمجرّد ألّا يصحح الصلاة خلفي؟) .
وهو خلق رفيع
يخضع الهوى عنده لحكم الشارع ولا يخضع حكم الشارع عنده لهوى النفس.
أقوال
العلماء فيه وإطراؤهم عليه
١ ـ قال صاحب (تنقيح
المقال) : (عالم فاضل متبحّر ماهر متتبّع محدّث ورع عابد صدوق ديّن من أجلة
مشايخنا المعاصرين وأفاضل علمائنا المتبحّرين) .
٢ ـ وقال
المحقق الخونساري : (العالم الرباني والعالم الإنساني ، شيخنا الأفقه الأوجه
الأحوط الأضبط ، يوسف بن أحمد ... لم يعهد مثله من بين علماء هذه الفرقة الناجية
في التخلق بأكثر المكارم الزاهية من سلامة الجنبة واستقامة الدربة ، وجودة السليقة
ومتانة الطريقة ورعاية الإخلاص في العلم والعمل ، والتحلّي بصفات طبقاتنا الاول) .
٣ ـ وقال
تلميذه المحدّث النيسابوري : (كان فقيها محدّثا ورعا) .
٤ ـ قال صاحب (أنوار
البدرين) : (عديم النظير والمثيل ، العلّامة المنصف الربّاني الشيخ يوسف ... صاحب (الحدائق
الناضرة) وغيره من المصنفات الفاخرة ، شيخ مشايخ العراق والبحرين ، العري من كل
وصمة وشين ... من أعاظم العلماء
__________________
الأعلام وأكابر
أساطين علماء الإسلام) .
٥ ـ وقال
الزركلي : (فقيه إمامي غزير العلم) .
٦ ـ وقال الشيخ
عبد الحسين الأميني النجفي : (فقيه الطائفة ومحدّثها الكبير الشيخ يوسف بن أحمد ،
وكتابه (الحدائق) الدائر السائر بين الفقهاء ينم عن غزارة علم مؤلّفه وتضلعه في
العلوم ، وتبحّره في الفقه والحديث ، كما يشف كتابه (لؤلؤة البحرين) عن سعة
اطّلاعه على أحوال الرجال وطرق إجازات المشايخ) .
٧ ـ قال السيد
محسن الأمين : (من أفاضل علمائنا المتأخّرين ، جيّد الذهن ، معتدل السليقة ، بارع
في الفقه والحديث) .
كراماته
نقل صاحب (الأنوار)
عن أحد العلماء ، عمّن حدّثه عن السيد مهدي بحر العلوم أنه أمر بوضع مجلس فاتحة
عصر يوم الجمعة ـ أي في اليوم الذي سبق وفاة الشيخ رحمهالله ـ ولما سئل عن السبب قال : (نمت نومة القيلولة ، فرأيت
في المنام كأني في جنان الدنيا (وادي السلام) ، وإذا بأرواح المؤمنين ، ولا سيّما
العلماء العاملين كالشيخ الكليني والصدوق والمفيد والمرتضى وغيرهم كلهم جلوس حلقا
يتحدّثون كما وردت به الأخبار ، ثم أقبل الشيخ يوسف فلما رأوه فرحوا به ورحّبوا به
واستبشروا بقدومه ، ولما سألتهم عن السبب في زيادة إقبالهم عليه قالوا : إنه قادم
علينا الآن. ولا شك مع هذه الرؤيا في وفاته). فكان الأمر كما قال رحمهالله .
__________________
ونقل أيضا عمّن
حدّثه أن أحد تلامذته رآه بعد وفاته بمدة قليلة وهو في مقبرة أنصار الحسين عليهالسلام ، فسأله مستعلما هل أنه وصل إلى هذه المكانة ، فقال له
الشيخ رحمهالله : نعم ، ولو أكملت (الحدائق) لكنت أقرب إلى الحسين عليهالسلام من أنصاره .
ونقل صاحب
علماء البحرين قال : (قال محمّد المدعوّ بحسن الشريف السبزواري : رأيت في عالم
رؤياي مولانا الصاحب ـ عجل الله فرجه ـ في ليلة السادس من شهر شعبان المعظم سنة
إحدى وثمانين ومائة بعد الألف من الهجرة النبوية ، بأوصاف سطرت في كتبنا ، فسلمت
عليه وردّ الجواب بأحسن ممّا سلمت عليه ، وهو منشغل بوضوء الصلاة في كمال الخضوع
والخشوع ، ولما فرغ من الوضوء أقبل إليّ وأخذ يتكلم معي ، فقلت : يا سيدي ، تفضل
عليّ بحق الله الذي لا إله إلّا هو ، وقل حسبك ونسبك ، فإني ما رأيت مثلك فينا قط
بهذه الفصاحة والبلاغة ، فمن أنت؟ قال لي : أنا حجة الله عليكم ، وإمامكم.
فلمّا سمعت هذا
الكلام من الإمام عليهالسلام أخذت أقبّل يديه ورجليه ، وقلت : جعلني الله فداك ، ما
سبب اختفائكم عن الناس وهم محتاجون إليكم؟ قال : من الله ، لمصلحة استأثر بعلمها ،
أو من العدو وقلّة الناصر. قلت : جعلت فداك ، أقريب ظهور دولتكم ورفاه شيعتكم؟ قال
: لا. قلت : لم؟ قال : الوقت لا يصلح ، والعصر لا يقتضي. قلت : نحن في ضلالة وحيرة
من أمور ديننا ، وما رجل عالم فينا يستقيم رأيه في المسائل ، وكل من نلقاه يقول
على خلاف غيره ، وما نعلم على رأي من نعمل في أمور ديننا.
ومن الاتفاقات
الحسنة أنه كان في يدي كتاب (الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة) ، فقلت :
جعلت فداك ، هذا الكتاب مشتمل على أخبار وأحكام
__________________
عن الأئمَّة الأعلام ـ عليهم صلوات الملك العلّام ـ وهو من تصنيف الشيخ
يوسف البحراني وأنا الآن مشغول بكتابته.
فلما سمع مني
هذا الكلام التفت إلى الكتاب المزبور غاية الالتفات وأخذ الكتاب من يدي وطفق ينظر
فيه ، ولما نظر فيه مدة مديدة أقبل نحوي وقال : اعمل ولا تتحيّر.
ولما انتبهت
أيقنت أن التصنيف على درجة القبول بهذا التأليف ويجب علينا العمل به) .
تقريظ
كتبه
وقد اثنى بعض
العلماء على مؤلّفاته وقرّظوها ومنها كتاب (الحدائق) حيث قرّظه السيد محمّد الزيني
ضمن أبيات تأبينه بقوله :
كحدائق العلم
التي من زهرها
|
|
كانت أنامل
ذي البصائر تقطف
|
وكذلك قرّظ هذا
الكتاب الشيخ علي البلادي رحمهالله بقوله :
هذا كتاب
الفقه للذاكرين
|
|
هذا رياض
العلم للمجتنين
|
حدائق ناضرة
للورى
|
|
قد أثمرت فقه
الرسول الأمين
|
إلى أن يقول :
قطوفها دانية
المجتنى
|
|
دائمة الأكل
إلى الآكلين
|
أنوار
تحقيقاتها للورى
|
|
ظاهرة نورا
إلى المتقين
|
__________________
غارسها رب
التقى يوسف
|
|
أطعم من
أثمارها كل حين
|
وقد ذكرنا في
كراماته منقبتين له ولكتاب (الحدائق) هذا : الاولى أنه سبب قربه للحسين عليهالسلام ، والثانية أمر الحجّة عليهالسلام بالرجوع إليه.
والده
رحمهالله
كان رحمهالله عالما مجتهدا فاضلا ، ونحن نكتفي بمختصر من ترجمته
ذكرها ولده المترجم في (لؤلؤة البحرين) ، قال رحمهالله : المحقّق الأمجد ، العالم الأوحد ، الشيخ أحمد ابن
الشيخ إبراهيم ، قرأ في أوّل عمره على الشيخ أحمد بن إبراهيم المقابي ، ثم بعد ذلك
انتقل إلى الشيخ محمّد بن يوسف ، ثم إلى الشيخ سليمان الماحوزي.
وكان رحمهالله عالما مجتهدا فاضلا حليما. حضر عنده في درس خطبة (الكافي)
ثلّة من العلماء منهم الشيخ علي ابن الشيخ عبد الصمد الأصبعي رحمهالله. وكان لا يغضب ولا يغتاظ ممّن يناقشه ، ومن لطائف درسه
أنه وصل إلى عبارة : (احتجب بغير حجاب محجوب) من الخطبة ، فوقع البحث فيها مع الشيخ علي المذكور حتى
صلاة الظهر ، وبعد صلاة الظهر أعاد الشيخ علي البحث فاستمرّ حتى صلاة المغرب ، كل
ذلك وهما ينتقلان من مسألة إلى مسألة ، ومن بحث إلى بحث.
قال عنه الشيخ
عبد الله بن صالح السماهيجي : (ماهر في أكثر العلوم لا سيما العقلية والرياضية ،
وهو فقيه مجتهد محدّث ، وكان إمام جمعة وجماعة).
له جملة من
المصنفات منها رسالة في بيان القول بحياة الأموات بعد الموت ، رسالة في الجوهر
والعرض ، رسالة في الجزء الذي لا يتجزأ ، أجوبة مسائل السيد يحيى الأحسائي ،
وغيرها كثير.
توفي رحمهالله في القطيف بعد هجرته اليها إثر فتنة الخوارج واستيلائهم
على
__________________
البحرين في ضحوة (٢٠ / ٢ / ١١٣١ ه) ، ودفن في الحبّاكة عن عمر يناهز
السابعة والأربعين ، تغمّده الله برضوانه ، وأسكنه فسيح جنانه) .
أبناؤه
ذكر الشيخ آغا
بزرگ الطهراني في طبقاته ولدين له ، هما :
١ ـ الشيخ
الحسن البحراني. وذكر أنه ترجم لوالده في آخر نسخة من نسخ اللؤلؤة ترجمة مفصّلة ،
وهو الذي ذكر أنه توفى عام (١١٨٦) هـ. واستقرب الشيخ بزرگ الطهراني أنه توفى عام (١١٩٧)
هـ ، غير أنه صرح قبله بأسطر أنه ترجم له ضمن أعلام القرن الثالث عشر ص (٣٦١ ـ ٣٦٢)
معللا ذلك باحتمال بقائه حيّا إلى القرن الثالث عشر .
٢ ـ الشيخ
محمّد. وكان عالما مرجعا في إحدى ضواحي كرمان ، وكانت امه كرمانية تزوّج بها والده
عند نزوحه إلى كرمان. وبقي ولده هذا هناك حتى وفاته.
وقد ذكرنا ذلك
فيما مرّ من ترجمته تحت عنوان (نشأته العلميّة).
بين
الأخباريين والاصوليين
كان لهذا الشيخ
الجليل ـ قدس الله نفسه ، وطيّب رمسه ـ دور بارز وكبير في رأب صدع الخلاف الذي
استفحل في زمانه بين طائفتين من العلماء ، ويكفي أن نشير إلى أنه كان يحاول
التقريب بين وجهات النظر لكلا الطرفين في كل ما يظن أنه موضع خلاف ، وقد أشرنا
لذلك فيما سيأتي من المقدّمة في منهجيته في كتاب (الدرر) ، ولعلّ من أبرز تلك
المحاولات ما ذكرناه في أخلاقه رحمهالله من تجويزه
__________________
الصلاة خلف البهبهاني جماعة مع أن الأخير أفتى ببطلان الصلاة جماعة خلف
المترجم ؛ والسبب في ذلك هو أن تكليفه الشرعي يقتضي ذلك فضلا عما في ذلك من تقريب
بين هاتين الطائفتين.
مشايخه
ومن روى عنهم
تلمذ رحمهالله لجماعة من العلماء وروى عنهم ، ومنهم .
١ ـ الشيخ أحمد
البحراني والده المتوفى سنة (١١٣١) هـ.
٢ ـ الشيخ حسين
الماحوزي المتوفى سنة (١١٨١) هـ.
٣ ـ الشيخ أحمد
بن عبد الله البلادي.
٤ ـ الشيخ عبد
الله بن علي البحراني البلادي ، المتوفّى في شيراز في سنة (١١٤٨) هـ.
٥ ـ السيد عبد
الله بن السيد علوي البلادي البحراني.
٦ ـ المولى
محمّد رفيع الدين بن فرج الجيلاني الرشتي الشهير بالمولى رفيعا عن المجلسي المتوفى
سنة (١٠٨٥) وهو أعلى أسانيده في الرواية.
تلامذته
ومن يروى عنه
١ ـ الشيخ أبو
علي الحائري ، صاحب (منتهى المقال).
٢ ـ المحقّق
الميرزا أبو القاسم القميّ ، صاحب (القوانين).
٣ ـ الشيخ أحمد
الحائري.
٤ ـ السيد أحمد
الطالقاني النجفي المتوفّى سنة (١٢٠٨) هـ.
٥ ـ السيد أحمد
العطّار البغداديّ المتوفّى سنة (١٢١٥) هـ.
__________________
٦ ـ الشيخ أحمد
ابن الشيخ حسن ابن الشيخ علي بن خلف الدمستاني.
٧ ـ الشيخ أحمد
بن محمّد ، ابن أخي المؤلف.
٨ ـ الشيخ حسن
ابن المولى محمّد علي السبزواري الحائري.
٩ ـ الشيخ حسين
ابن الشيخ محمّد ، ابن أخيه.
١٠ ـ الشيخ خلف
ابن الشيخ عبد علي ابن الشيخ أحمد ، ابن أخيه.
١١ ـ المولى
زين العابدين ابن المولى محمّد كاظم.
١٢ ـ الشيخ
سليمان بن معتوق العاملي.
١٣ ـ السيد شمس
الدين المرعشي النجفي المتوفّى سنة (١٢٠٠) هـ.
١٤ ـ السيد
الأمير عبد الباقي ابن الأمير حسين الحسيني الأصفهاني ، ابن بنت العلّامة المجلسي قدسسره صاحب البحار.
١٥ ـ السيد عبد
العزيز النجفي بن أحمد بن عبد الحسين بن حردان الحسيني.
١٦ ـ العلّامة
السيد المير علي الحائري ، صاحب (الرياض).
١٧ ـ الشيخ علي
ابن الشيخ حسين بن علي بن فلاح البحراني.
١٨ ـ الشيخ علي
بن رجب علي.
١٩ ـ الشيخ علي
بن على التستري.
٢٠ ـ الشيخ علي
بن محمّد بن علي بن عبد النبي بن محمّد بن سليمان المقابي البحراني. كتب الإجازة
له في كربلاء تاسع صفر سنة (١١٦٩) هـ.
٢١ ـ الشيخ
المحدّث علي بن موسى البحراني.
٢٢ ـ الشيخ
محمّد بن علي التستري الحائري.
٢٣ ـ الشيخ
محمّد علي الشهير بابن سلطان.
٢٤ ـ المولى
محمّد كاظم.
٢٥ ـ العلّامة
السيد محمّد مهدي بحر العلوم.
٢٦ ـ المولى
محمّد مهدي الفتوني.
٢٧ ـ المولى
محمّد مهدي النراقي.
٢٨ ـ المقدّس
الحاج معصوم.
٢٩ ـ العلّامة
الميرزا مهدي الشهرستاني الحائري.
٣٠ ـ السيد
الميرزا مهدي بن هداية الله الاصفهاني الخراساني.
٣١ ـ الشيخ
موسى بن علي البحراني.
٣٢ ـ الشيخ
ناصر بن محمّد الجارودي الخطّي البحراني.
٣٣ ـ الحاج
الميرزا يوسف الطباطبائي المرعشي النجفي.
مؤلّفاته
ترك رحمهالله تراثا علميا ضخما أثرى به المكتبة الشيعية الإسلامية ،
وأغنى الفكر الشيعي بسوانح يراعه وبوارحه ، وهذه المؤلفات هي :
١ ـ أجوبة
المسائل البهبهانيّة ، سأله عنها المرحوم المقدّس السيد عبد الله ابن السيد علوي
البحراني.
٢ ـ أجوبة
مسائل الشيخ الأمجد الشيخ أحمد ابن المقدّس الشيخ حسين الدمستاني البحراني.
٣ ـ أجوبة
مسائل الشيخ أحمد بن يوسف بن علي بن مظفّر السيوري البحراني.
٤ ـ أجوبة
مسائل السيّد عبد الله ابن السيّد حسين الشاخوري.
٥ ـ أجوبة
مسائل الشيخ محمّد ابن الشيخ علي بن حيدر النعيمي.
٦ ـ أجوبة
المسائل الخشتيّة ، سأله عنها الملّا إبراهيم الخشتي.
٧ ـ أجوبة
المسائل الشاخوريّة ، سأله عنها السيد عبد الله الشاخوري.
٨ ـ أجوبة
المسائل الكازرونيّة ، سأله عنها الشيخ إبراهيم ابن الشيخ عبد النبي البحراني.
٩ ـ الأربعون
حديثا في مناقب أمير المؤمنين عليهالسلام استخرجها من كتب العامة.
١٠ ـ أعلام
القاصدين إلى مناهج اصول الدين.
١١ ـ الأنوار
الخيريّة والأقمار البدريّة في أجوبة المسائل الأحمديّة.
١٢ ـ تدارك
المدارك فيما هو غافل عنه وتارك.
١٣ ـ جليس
الحاضر وأنيس المسافر ، يجري مجرى الكشكول.
١٤ ـ الجنّة
العاصمة.
١٥ ـ حاشية على
كتابه تدارك المدارك.
١٦ ـ حاشية على
لؤلؤة البحرين.
١٧ ـ حاشية على
الوافي للمحدّث الفيض الكاشاني.
١٨ ـ حواش على
كتابه الحدائق.
١٩ ـ حواش
وتعليقات على كتابه الدرر النجفيّة.
٢٠ ـ الحدائق
الناضرة.
٢١ ـ حرمة
الامّ بالعقد على ابنتها.
٢٢ ـ الخطب
للجمعة والأعياد.
٢٣ ـ خيرة
الطيور.
٢٤ ـ الدرر
النجفية من الملتقطات اليوسفية ، وهو هذا الكتاب الذي بين يديك عزيزي القارئ.
٢٥ ـ رسالة في
تحقيق معنى الإسلام والإيمان.
٢٦ ـ رسالة في
الصلاة ، متنا وشرحا.
٢٧ ـ رسالة في
تقليد الميّت ابتداء وبقاء.
٢٨ ـ رسالة في
حكم العصير التمري والزبيبي.
٢٩ ـ رسالة في
ولاية الموصى إليه بالتزويج وعدمها.
٣٠ ـ الرسالة
المحمّدية في أحكام الميراث الأبديّة.
٣١ ـ سلاسل
الحديد في تقييد ابن أبي الحديد.
٣٢ ـ شرح بداية
الهداية للحرّ العاملي.
٣٣ ـ الشهاب
الثاقب في بيان معنى الناصب وما يترتب عليه من المطالب.
٣٤ ـ الصوارم
القاصمة للجامعين بين ولد فاطمة رحمهالله ، وقد ضمّنها كتاب الدرر هذا.
٣٥ ـ عقد
الجواهر النورانية في أجوبة المسائل البحرانية.
٣٦ ـ الفوائد
الرجاليّة.
٣٧ ـ قاطعة
القال والقيل في نجاسة الماء القليل.
٣٨ ـ كشف
القناع عن صريح الدليل في الردّ على من قال في الرضاع بالتنزيل.
٣٩ ـ الكنوز
المودعة في إتمام الصلاة في الحرم الأربعة .
٤٠ ـ اللآلئ
الزواهر في تتمة عقد الجواهر.
٤١ ـ لؤلؤة
البحرين في الاجازة لقرّتي العين.
٤٢ ـ مختصر
رسالته الصلاتية.
٤٣ ـ المسائل
الشيرازيّة.
٤٤ ـ معادن
العلم.
٤٥ ـ معراج
النبيه في شرح من لا يحضره الفقيه.
٤٦ ـ مناسك
الحج.
٤٧ ـ ميزان
الترجيح في أفضليّة القول فيما عدا الاوليين بالتسبيح.
__________________
٤٨ ـ النفحات
الملكوتيّة في الردّ على الصوفية.
٤٩ ـ هدم
الطلقة والطلقتين.
٥٠ ـ حواش
كثيرة على (شرح الشمسية) وكتاب الصوم من (الوافي) .
ويوجد في
مؤسستنا بعض هذه المؤلفات ، وهي قيد التحقيق ومنها كتاب (الحدائق الناضرة) ، نسأله
تعالى التوفيق لإخراجها في موسوعة تشتمل على مؤلّفاته.
تأبينه
أبّنه الأديب
السيد محمّد الزيني رحمهالله بتسعة أبيات مؤرّخا فيها سنة وفاته رحمهالله بقوله :
ما عذر عين
بالدما لا تذرف
|
|
وحشاشة بلظى
الأسى لا تتلف
|
إلى أن يقول :
يا قبر يوسف
كيف أوعيت العلا
|
|
وكنفت في
جنبيك ما لا يكنف
|
قامت عليه
نوائح من كتبه
|
|
تشكو الظليمة
بعده وتأسّف
|
إلى أن يقول :
مذ غبت عن
عين الأنام فكلّنا
|
|
يعقوب حزن
غاب عنه يوسف
|
فقضيت واحد
ذا الزمان فأرّخوا
|
|
(قرّحت قلب الدين بعدك يوسف)
|
__________________
الكتاب
هو كتاب الدرر
النجفية من الملتقطات اليوسفية ، كتبه أثناء إقامته في النجف الأشرف ـ على مشرفها
ألف صلاة وتحية ـ وإليه نسب درره ، وفي الاسم إشعار بمؤلفه أيضا.
موضوعه
والدرر كشكول
كلامي اصولي فقهي تاريخي أخلاقي تفسيري رجالي ، يجد القارئ متعة خاصّة في قراءته ؛
كونه يتنقل به من عالم إلى عالم ، ومن فن إلى فن.
وقد يقول قائل
: إنّ هناك الكثير من الكشاكيل في تراثنا ككشكول المصنّف والبهائي وغيرهما ، لكن
يمكن أن يقال في هذا الصدد أن الدرر تتّصف بعدة أمور تميّزها عن غيرها من الكشاكيل
الأخرى ، منها :
١ ـ أنها كشكول
علمي بحت بعيد عن أحوال الأدب والخيال.
٢ ـ الرصانة
العلمية ، والبحث الموضوعي في كل ما تناوله.
٣ ـ المادّة
العلمية المضغوطة التي تبتعد عن الإسهاب الممل ، والاختصار المخلّ ، فهي بين بين
حسب ما يقتضيه مقام البحث والكلام.
منهجيّة
المؤلف في الكتاب
إن العلّامة
البحراني رحمهالله ـ كما لا يخفى على متتبّع مؤلّفاته سيما كتابنا هذا ـ كان
من دأبه معالجة الموضوع الذي يتناوله مدارا لبحثه ومحورا لقلمه بكل موضوعية ودقة
أكاديمية ، مبتعدا عن روح المطل وإعلاء رأيه لمجرّد أنه رأيه ، كما أشرنا لذلك
فيما مرّ. ومن جملة ذلك ما يمكن أن نجمله في موردين :
الأوّل : مدحه
للأصوليين ـ فضلا عن أجله علمائنا الأخباريين كالصدوق وغيره ـ وأعلامهم في كل مقام
يقف فيه بذلك ، وتصريحه بأن خلافهم مع بعضهم
لا يوجب مثلبة ولا سبة لهم مستشهدا بالشيخ الصدوق والطوسي والحلّي ، وكذلك
أنحاؤه باللائمة على بعض الأخباريين الذين يتهجمون على الاصوليين كالفيض الكاشاني
والأمين الأسترابادي ـ ولا سيما الأخير ـ حيث ردّ عليهما المصنّف رحمهالله حينما تناولا مجتهدي الأصحاب والعلّامة الحلي بالتجريح
والنقد ، فقد أشار المصنّف رحمهالله إلى جهود العلّامة في خدمة الدين والمذهب بكتبه وعلمه
وسلوكه الذي أدخل أمة كاملة في هذا المذهب ، مشيرا إلى أنه لا يستحق كل هذا من
الأمين مع ما هو مما ذكر ، لا لشيء سوى أنه اصولي على غير طريقة الأمين .
الثاني : ردّه
على الشيخ عبد الله بن صالح البحراني في كتابه (منية الممارسين في أجوبة الشيخ
ياسين) حول تكثيره الفروق بين الأخباريين والاصوليين ، حيث أنهاها إلى ثلاثة
وأربعين فرقا ، وقد أجاب الشيخ في الدرة التي عقدها لذلك عن المقدار
الذي ذكره وردّها إلى بعضها البعض ، وأسقط الاعتراض بها ، وأشار إلى أن تكثيرها
إطالة بلا طائل ، يقول : (إلّا إنّ الذي ظهر لي بعد إعطاء التأمّل حقه في المقام ،
وإمعان النظر في تلك الفروق التي ذكرها أولئك الأعلام هو سدّ هذا الباب وإرخاء
الستر دونه والحجاب ... لأن ما ذكروه في وجوه الفرق بين الفرقتين ، وجعلوه مائزا
بين الطائفتين جلّه بل كلّه عند التأمّل بعين الإنصاف وتجنب جانب التعصّب
والاعتساف لا يوجب فرقا على التحقيق) .
ثم يقول : (وكيف
كان فمع فرض خروج بعض المجتهدين في بعض جزئيّات الأحكام عن الأخذ بالكتاب والسنّة
والعمل بالاستنباطات الظنّية المحضة ، فهو
__________________
لا يوجب طعنا في أصل الاجتهاد بالمعنى الذي ذكرناه ، كما أن بعض
الأخباريّين لو خرج في فهمه الخبر عن كافة أفهام العلماء الأعلام ، بحيث يصير ذلك
غلطا ظاهرا لجميع ذوي الأفهام ، فإنّه لا يوجب طعنا على طريقة أهل الأخبار كما وقع
للصدوق قدسسره في غير موضع من الأحكام .
ثم يشير إلى أن
الصدوق رحمهالله الذي يعدّ عمدة الأخباريين له آراء وافق فيها الأصوليين
، وكذلك الطوسي رحمهالله الذي هو عمدة الاصوليين له آراء وافق فيها الأخباريين ،
وليس هذا مما يصح أن يكون موردا للقدح فيهما ، وكذلك تجده في كل محطة من محطات
كتابه هذا.
والحاصل أن
المؤلّف رحمهالله كان ملازما للمنهج العلمي البحت في أخذه وردّه ونقضه
وإبرامه ، وقد مرّ بنا كيف أنه لم يقبل القدح في الاجتهاد لمجرد أن المجتهد أخطأ
في المبنى الاستدلالي ، ولا القدح في طريقة الأخباريين لمجرد أن الأخباري فهم
الحديث بشكل يراه غيره من الفقهاء خطأ مستشهدا في ذلك بالصدوق رحمهالله ، وكان لا يرى بأسا في نصرة الاصوليين إن كان مبناهم في
ذلك المقام صحيحا ، ولا في نصرة الأخباريين إن كان مبناهم فيه صحيحا.
كما أنه رحمهالله كان كثيرا ما يحاول التقريب بين الطائفتين في كل ما
يمكن أن يتصوّره أحد أنه موضع خلاف بينهما ، ففي مسألة تنويع الأحاديث إلى أصنافها
الأربعة حيث يذهب الأخباريون إلى كونها قسمين : الصحيح والضعيف ، يعالج ما يظن أنه
فرق بقوله : (والتحقيق أن غير الصحيح من الحسن والموثق إن جاز العمل به فهو صحيح
وإلّا فهو ضعيف ؛ فالاصطلاح مربّع لفظا ومثنّى معنى) .
ويلاحظ ذلك
واضحا من خلال الدرّة التي وضعها للمحاكمة بين الأخبارين
__________________
والاصوليين في كل فرق فرض أنه واقع بينهما .
بين
الحدائق والدرر
في بعض المواضع
من الحدائق يجد القارئ إحالة على كتاب الدرر ، فالمصنّف رحمهالله يحيل القارئ إلى هذا الكتاب لأنه عقد فيه لذلك الموضوع
درّة خاصة به ، وكذلك نجد هذه الإحالة في كتابنا هذا فهو يشير إلى الحدائق ويرجع
إليه في بعض الموارد ، وهذا الواقع يضعنا أمام تساؤلات ثلاثة :
الأوّل : هل أن
الدرر كتب في مرحلة واحدة كما يوحي به عنوانه ، أم إنه كتب على أزمان متفاوتة ،
وفي أوقات مختلفة؟
الثاني : على
فرض كونه كتب في زمن واحد ، فلما ذا هذا التوزيع والتنويع؟
ولما ذا يلجأ
المصنّف رحمهالله إلى بعثرة جهده بين كتابين دون أن يتم الأوّل ويبدأ
بالثاني؟
الحدائق كونه
دورة عامة وكبيرة خارج عن مضمار هذين التساؤلين ، أما الدرر فسيأتي بيان الجواب عن
ذلك.
الثالث : لما
ذا يعيد المصنّف ما يذكره في الحدائق ـ بما أنه دورة فقهية كاملة ـ في كتاب الدرر
، مع أن الدرر كتب كما أشرنا مع الحدائق ومزامنا له؟
ضرورة
التنويع
يمكن الإجابة
على التساؤلات المارّة بالقول : إن الذي يظهر من إجازة المصنّف رحمهالله لولدي أخويه : الشيخ خلف ابن الشيخ عبد علي والشيخ حسين
بن الشيخ محمد أنه رحمهالله بدأ بكتابة الدرر النجفية قبل أن يتم كتاب المتاجر من
الحدائق حيث قال : (وها أنا أذكر ما خرج مني من المصنّفات أوّلا وآخرا ، فمنها :
__________________
كتاب الحدائق المذكور إلى كتاب الحج ، وأنا الآن في الاشتغال بكتاب المتاجر
... ومنها كتاب الدرر النجفية) .
فلعلّه رحمهالله لما كان يخطط للحدائق أن يكون كتابا علميّا واسعا
وموسوعة ضخمة ، أراد أن يثبت بعض آرائه وما تجود به قريحته العلمية في كتب أخرى
خشية أن تحول طوارق الحدثان دون إتمام تلك الموسوعة ؛ فيفوّت فرصة إثبات ما يرتئيه
من مطالب وبحوث يهدف منها خدمة هذا الدين الحنيف. ومسألة أخرى لا يمكن أن يغفل
عنها أحد هي أن الحدائق موسوعة فقهية بحتة ، غاية ما يمكن أن يدخله فيها شيء من
الاصول والرجال باعتبارها من مقدّمات علم الفقه ووسائله ، أما كتاب مثل الدرر
فيمكنه أن يكتب فيه في كل فن كما أشرنا لذلك في أوّل المقدّمة.
وهذا اللون من
الكتابة ضروري ؛ لأن الكاتب قد يكون غير مختصّ بعلم التاريخ مثلا غير أنه يريد أن
يتناول جانبا منه يرى فيه موضع حاجة للعامة لمعرفة خفاياه وأسراره فيكتب في ذلك
الموضوع فقط ، وهكذا في بقية العلوم الاخرى ممّا هي غير داخلة في مضمار تخصصه ، مع
أنه يجد من نفسه حاجة لأن يكتب في بعض جوانبها ، وهو ممّا يجعله يخرج بحصيلة هي
كشكول جامع لشتى فنون المعرفة. هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى إنّ الكاتب بوضعه
كتابا مثل هذا يريد أن يختصر المسافة على القارئ فيضع بين يديه كتابا يتناول عامة
المواضيع التي يرى ـ من وجهة نظره ـ أنها موضع حاجته فيكفيه عن عدّة كتب تبحث في
المجالات التي تناولها هذا الكشكول. وهذا ما يذكّر بما نقل عن الوزير الصاحب بن
عبّاد الذي كان يستصحب في سفره حمل ثلاثين جملا من
__________________
الكتب ليطالعها ، فلما وصل إليه كتاب (الأغاني) استغنى به عن تلك فلم يكن
يستصحب غيره .
هذا مع أن
الفرق واضح بين الكتابين ، غير أن موضع الشاهد هو إمكان استغناء القارئ بكتاب ما
عن كتب كثيرة. ولعلّ هذا يضع خلّا للتساؤلين الأخيرين.
أقوال
العلماء في كتاب الدرر
١ ـ قال صاحب
روضات الجنات : (كتاب جيد جدا ، مشتمل على علوم ومسائل وفوائد ورسائل ، جامع
لتحقيقات شريفة وتدقيقات لطيفة) .
٢ ـ وقال
الطهراني : (فيها مسائل معضلة ، ورسائل ذات دقائق لطيفة). غير أن الطهراني رحمهالله ذكر أن مجموع درره اثنتان وستون درّة والواقع أنها
سبعون درّة.
منهج
التحقيق
النسخ
الخطية
الظاهر أن
المصنّف رحمهالله كتب نسخة واحدة من هذا السفر الجليل ؛ إذ أن كل النسخ
الموجودة مذكور في آخرها قول المصنّف : (وكتب بيمينه ... يوسف بن أحمد بن إبراهيم
... بتاريخ يوم العشرين شهر ذي القعدة الحرام من السنة السابعة والسبعين بعد
المائة والألف).
فهي إما أن
تكون قد نسخت عنها مباشرة ، أو نسخ سابقها عن لاحقها. وقد اعتمدنا في تحقيقنا
لكتاب (الدرر النجفية) على نسختين :
__________________
الاولى : خطيّة
من إحدى مكتبات القطيف الخاصة ، وقد نسخت عام (١٢٠٠) هـ. عدد صفحاتها (٤٨٩) صفحة ،
تتراوح أسطرها بين (٢٩ ـ ٣٠) سطرا ، وهي بخط جيد غير أن فيها بعض السقوطات في
الكلمات والصفحات ، وهي من نسخ محمد بن خلف الستراوي. وقد جعلناها النسخة الامّ
لقدم تاريخ نسخها ـ فهو قريب من زمان وفاة المؤلف المتوفى سنة (١١٨٦) هـ ـ ولقلّة
الأخطاء فيها قياسا إلى غيرها من النسخ. وقدر رمزنا بالحرف «ق». وفي أوّلها فهرس لدرر الكتاب السبعين.
الثانية : نسخة
مطبوعة على الحجر ، لم تذكر فيها سنة الطبع وتمتاز بكثرة هوامشها التي وضعها
المصنّف نفسه عليها ؛ حيث ذيّلت بعبارة (منه رحمهالله). تتكون هذه النسخة من (٣١٢) صفحة ب (٣٤) سطرا ، وقد
رمزنا لها بالحرف «ح».
وهناك نسختان
اخريان لم نعتمدهما كنسختي تحقيق ، لكن اتخذنا منهما نسختين مساعدتين لحل غامض
هوامش النسخة الحجرية وغامض المتن فيما فيهما من سقوطات وكلمات غير مقروءة وفي
مطابقة النسخة الحجرية عليها في المواضع التي سقطت من النسخة «ق» حيث إن فيها ـ في
أكثر من موضع ـ سقطا مقداره صفحتان أو أكثر كما أشرنا لذلك في محلّه . وهاتان
النسختان هما :
الاولى : نسخة
خطية من مكتبة المرحوم العلّامة الشيخ محمد صالح العريبي رحمهالله شراء من مكتبة الحاج محمد على التاجر. وتمتاز بجودة
الخط وفرز ألفاظ الدرر بحروف كبيرة ووجود هوامش للمصنّف فيها ذيلت بعبارة (منه رحمهالله). وهي من نسخ عيسى بن حسن بن عبد الله بن مرهون آل شهاب
الدرازي البحراني ، انتهى منها في السابع عشر من جمادى الاولى لعام (١٣٠٩) هـ.
__________________
وتقع في (٦٣١)
صفحة تتراوح أسطرها بين (٢٢ ـ ٢٣) سطرا ، وقد رمزنا لها بالحرف «ع».
الثانية : نسخة
خطية من مكتبة آية الله المرعشي رحمهالله برقم (٣٤٢٣) ، وهي من (٥٤٤) صفحة ، كل صفحة ب (٢٤)
سطرا. وهي من نسخ محمد مهدي بن حسن الحسيني ، انتهى منها يوم السبت السادس عشر من
شهر المحرّم الحرام سنة (١٢٤٠) هـ ، وقد رمزنا لها بالحرف «م».
عملنا
في الكتاب
اتّسم العمل في
هذا الكتاب ـ كغيره من الكتب التي صدرت للمؤسسة ، أو التي لا تزال قيد التحقيق ـ بكونه
جماعيّا حيث مرّ الكتاب بالمراحل التالية :
١ ـ تقطيع النصّ
، وفرز عناوينه ومسائله.
٢ ـ الصف
الكامپيوتري.
٣ ـ مقابلة
المصفوف على النسخة الحجرية «ح» لتثبيت سقوطات الصف بينهما واختلافاته ، ثم مقابلة
المصفوف على النسخة «ق» لتثبيت الفروق بينها وبين النسخة «ح».
٤ ـ تخريج
الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة وأقوال وآراء العلماء والشواهد
الشعرية.
٥ ـ مراجعة
المصادر التي اثبت عليها تخريجات الكتاب في مرحلة التخريج.
٦ ـ تقويم
النصّ ، وهي أهم مراحل التحقيق حيث فيها يتم الموازنة بين عبارتي النسختين وترجيح
إحداهما على الاخرى وإتمام النص بما يقتضيه السياق سواء من المصادر التي يذكرها
المصنّف ، أو من بحار اللغة ، ومراجعة ما يحيله مراجع المصادر على المقوّم في
الموارد التي يشكل عليه البتّ في صحتها. ويمكن إجمال عمل مرحلة التقويم بالآتي :
أ ـ تخريج
غوامض اللغة وشرح بعض الاصطلاحات الواردة في المتن.
ب ـ هناك هوامش
للماتن نفسه في النسختين «ح» و «ق» لم يشر إلى مواضعها في المتن ، فكان الأمر
يتطلّب نوع دقّة وتأمّل لنسبة هذه الهوامش إلى مواضعها الصحيحة في المتن ، وهذا ما
قمنا به بعد بذل أكبر قدر من الجهد في تعيين الموضع الصحيح لكل هامش.
ج ـ إتمام بعض
العبارات التي يستشعر أنها غير تامّة ، وغالبا ما تكون الإضافة قدر الإمكان بأقل
قدر من الكلمات ؛ لكي لا تتّسع مساحة التغيير في المخطوط الذي ينبغي على المحقق أن
ينظر إليه على أنه نصّ مقدس من الناحية العلمية وأمانة النقل.
د ـ تغيير بعض
العبارات في المتن حينما تلجئ الضرورة إلى ذلك ، وذلك فيما لو كانت عبارة المخطوط
مختلة نوعا ما. ومراعاة لقدسية المخطوط كنا نحيل تلك العبارات إلى النسختين
المساعدتين ـ وهذا كثيرا ما قمنا به ـ فنثبت ما فيهما مع الإشارة إلى ذلك في
الهامش. وإن لم نجد فيهما ضالّتنا فإننا نجد أنفسنا مجبرين على تطبيق نوع من
المعالجة هو آخر العلاج ، وهو التغيير الذي يقوم عبارة المتن.
ه ـ التعليق
ببعض العبارات الموجزة على بعض الموارد من المتن ، التي تتطلب ذلك التعليق إن كانت
هناك ضرورة قاضية به دون أن تكون تلك هي خطتنا في التحقيق.
والغرض من ذلك
إمّا حل غامض ، أو إرجاع تابع إلى متبوعه أو جواب لجزائه.
و ـ وضع فهارس
مفصّلة وعامة للكتاب تشمل الآيات القرآنية والأحاديث
النبوية والشواهد الشعرية والكتب الواردة أسماؤها في المتن وكشاف للأعلام
والفرق والمذاهب والأماكن وغيرها.
ز ـ ضبط بعض
الألفاظ والأسماء التي تشكل قراءتها كأسماء الأماكن والرواة وغيرها.
ح ـ التزمنا
مبدأ المسامحة في منهج التحقيق دون الالتزام الحرفي في الإشارة إلى موارد الخلاف
والتصحيح على المستويين الإملائي والنحوي ، بل وحتى في بعض الموارد اللغوية إلّا
ما سنح.
ط ـ وضع عناوين
لكل درّة مستعينين في بعضها بالعناوين المذكورة أوّل النسخة «ق» ، وكذلك وضع
عناوين فرعية جانبية داخل كل درّة إن تطلب المقام ذلك وأمكن.
هذا فيما يخص
السياق الخاص للتقويم في هذا الكتاب ، أمّا السياق العام فتمثّل بما يلي :
أ ـ وضع
المفردات المضافة التي يتطلبها التقويم لضبط النص بين معقوفتين [] دون الإشارة إلى
ذلك في الهامش ، أما الإضافات التي تؤخذ من المصادر فتوضع بين خطين عموديين مع عدم
الإشارة إلى ذلك في الهامش أيضا.
ب ـ عند وجود
فرق بين النسختين في مورد ما فإننا نثبت ما في «ق» لأنها الام ، هذا إن كان ما
فيها هو الأصح أو مساويا لما في «ح» ، وأما إن كان ما في «ح» هو الصحيح فإننا
نثبته في المتن مع الإشارة إليه في الهامش بلفظ : من «ح» ، وفي «ق» : كذا. وكذلك
مع بقية النسخ في مجال مقايستها ب «ق».
ج ـ فيما يخص
فروق النسخ ؛ إن كان كلمة واحدة وضع الهامش فوقها وأشير في الهامش إليه ، وإن كان
عبارة كاملة وضع الهامش على آخر كلمة فيها وأشير لذلك في الهامش بذكر العبارة
أوّلا ثم الإشارة إليها بما يناسب المقام.
د ـ عند وجود
كلمة في نسخة وانعدامها في اخرى :
فإن كانت
موجودة في «ح» غير موجودة في «ق» ؛ وكانت ضرورية للسياق وضعت في المتن وأشير في
الهامش إليها بلفظ : من «ح» ، وإن لم تكن ضرورية للسياق لم توضع ، ووضع هامش على
الكلمة السابقة لها ويشار إليها بلفظ : في «ح» بعدها : كذا.
وإن كانت
موجودة في «ق» وغير موجودة في «ح» ؛ وكانت ضرورية للسياق وحذفها مخل به أشير إليها
في الهامش بلفظ : سقط في «ح» ، وإن لم تكن ضرورية للسياق وغير مخل به حذفها اشير
إليها بلفظ : ليست في «ح» ، وإن كانت عبارة كاملة كانت الإشارة بلفظ : ليس في «ح»
، على تقدير : قوله : (كذا) ليس في «ح».
هـ ـ حينما
يكون ما في النسخ كلها خطأ وما أضفناه هو الصحيح :
فإن كان من
المصدر اشير إليه بلفظ : من المصدر ، وفي النسختين : كذا ـ مع اشتراكهما في الكلمة
المخطوءة ـ أو : وفي «ح» : كذا ، وفي «ق» كذا ، فيقدم «ح» على «ق» هنا ؛ للخطأ
الوارد ، وكون «ق» هي النسخة الام ، وإن كانت الإضافة منا يستغنى عن ذكر عبارة :
من المصدر.
وإن كان ما في
النسختين صحيحا غير أن ذلك أوفق في السياق ـ وهذا نادر جدا ـ أشير إليه بمثل ذلك
غير أنه هنا تقدم النسخة «ق» على «ح» فيقال : في «ق» : كذا ، وفي «ح» : كذا.
و ـ التخريجات
التي لم نجدها في كتب من سبق المؤلف زمانا ونجدها عند من يعاصره أو بعده ، ونضطرّ
لتخريجها عنه كما لو كانت مفردة لغوية ، فإننا نضع هامشا عليها ونشير إليها في
الهامش بلفظ : ذكره صاحب ... ، كما في شرح
مفردة الدست التي لم يذكر لها معنى مقاربا لسياق ما في الكتاب سوى
الزبيدي في (تاج العروس) فاضطررنا لإثباته ، وكما ذكر المصنّف في مسألة عدم تنجس
الماء القليل بالملاقاة ، حيث صرّح بتبع بعض متأخّري المتأخّرين لابن أبي عقيل في
هذه المسألة ، ولم نجده فيما بين أيدينا من مصادر سوى في (مفتاح الكرامة) حيث نقله
عن الفتوني والسيد عبد الله الشوشتري. وصاحب (مفتاح الكرامة) معاصر للمصنّف ،
فكنّا مضطرّين لنقل ذلك عنه مع اثبات عبارة (نقله ...). وكما في مسألة نقل جثمان السيد
المرتضى رحمهالله من داره إلى جوار الحسين عليهالسلام فإننا لم نعثر عليه عند من تقدّم على المصنّف ،
فاضطررنا إلى نقله عن صاحب منتهى المقال .
ز ـ فرز أسماء
الكتب بأقواس باهتة قليلا لتتميز عن أقواس نصوص العلماء المنقولة.
ح ـ فيما يخص
الأحاديث النبوية والروايات المعصومية التي ينقلها المصنّف رحمهالله إن كانت كثيرة الاختلاف عمّا في المصدر الذي بين أيدينا
ـ حيث إنّ المصنّف قد ينقل عن نسخة أخرى مغايرة ، أو يقع الاختلاف من سهو النسّاخ
ـ فإننا نتركه دون تلاعب أو تغيير إلّا إذا كانت بعض الموارد هي الصحيحة فإننا
نغيّرها كما أشرنا لذلك في النقطتين : (د) و (هـ). وإن كان الاختلاف في مورد واحد
أو موردين نشير إلى ذلك في نهاية هامش التخريج. وفي بعض الموارد على الكلمة نفسها
فيما لو كان الحديث المنقول طويلا نوعا ما.
ط ـ هناك بعض
الهوامش في النسخة «ح» غير مقروءة كليا أو معظم كلماتها ،
__________________
ولم يذكر في «ق» ، فقمنا بحذفها ؛ إذ لا طائل من ذكرها مقطعة غير
مستتمّة المعنى.
ي ـ في فهارس
الأعلام وغيرها توضع أرقام الصفحات أمام الاسم الأكثر شهرة للمسمى به ويشار إلى
بقية الأسماء كلّا بحرفه في موضعه مع وضع علامة المساواة بينه وبين الاسم الأكثر
شهرة.
ك ـ وضع
العناوين التي أضفناها نحن داخل مستطيل مظلّل ؛ كي تتميّز عن عناوين المصنّف.
٧ ـ إدخال
التصحيحات وإخراج الكتاب فنيا بالشكل المطلوب.
٨ ـ المراجعة
النهائية ، وهي مرحلة هامّة من الناحيتين العلميّة والفنية ؛ إذ يتم فيها مراجعة
الكتاب كاملا لتدارك ما فات فيه من أخطاء ، ووضع اللمسات الأخيرة على الكتاب من
الناحية الإخراجية والفنية والعلميّة.
وأخيرا نتوجه
إلى الله تعالى أن يمنّ علينا بحسن العاقبة والخاتمة وأن يتقبل منا هذا العمل الذي
نهدف من ورائه إلى نشر علوم أهل البيت عليهمالسلام ، وأن يجعل أجرنا به الجنة ببركة محمد وآله الكرام ،
صلوات الله وسلامه عليهم في المبدأ والختام.
وكذلك نتوجه
إلى القارئ الكريم أن يغض البصر عمّا فيه من هفوات ، فقديما قيل : (لكل عالم هفوة)
.
|
شركة
دار
المصطفى صلىاللهعليهوآله لإحياء التراث
|
__________________
نماذج
من
صور المخطوطات


بسم الله الرحمن الرحيم
فهرست
درر هذا الكتاب
١ ـ درّة في معنى قولهم عليهمالسلام : «الماء
كله طاهر حتى تعلم أنه قذر»
٢ ـ درّة في معنى الجهل بالأحكام
الشرعية وما يترتب عليه من المعذورية.
٣ ـ درّة فيما لو ادّعى ولي الطفل
مالاً للطفل على ميت.
٤ ـ درّة في أنه هل يشترط في صدق
المشتق حقيقة بقاء مأخذ الاشتقاق أم لا.
٥ ـ درّة فيما لو رأى المصلي في
أثناء الصلاة في ثوب أمامه نجاسة غير معفو عنها.
٦ ـ درّة في تحقيق معنى البراءة
الأصلية وبيان أقسامها ، وما هي عليه من عدم الحجّية.
٧ ـ درّة فيمن نذر أن يتصدق بجميع
ماله ثم مات قبل ذلك.
٨ ـ درّة في بيان بطلان الحلية التي
ذكروها في إسقاط العدّة.
٩ ـ درّة في بيان الاستصحاب وذكر
أقسامه ، وأن بعض أفراده يكون حجة شرعية وبعضها لا يصلح لذلك.
١٠ ـ درة في بيان العجب وأقسامه ،
والمذموم منه وغيره.
١١ ـ درّة في
معنى قوله عليهالسلام في أشياء من الفروج : «أحلتها آية وحرمتها آية».
__________________
١٢ ـ درّة في
شرح مقبولة عمر بن حنظلة بنحو لم يسبق إليه سابق.
١٣ ـ درّة في حلّ الإشكال الوارد
على عبارة ثقة الإسلام في (الكافي) في مولد النبي صلىاللهعليهوآله.
١٤ ـ درّة في بيان معنى الحديث
القدسي : «ما ترددت
في شيء أنا فاعله» الحديث.
١٥ ـ درّة في الكلام على عبارة
لشيخنا البهائي قدسسره في كتاب (الأربعين) في الفرق بين الإجزاء والقبول.
١٦ ـ درّة في معنى قوله عليهالسلام في (الصحيفة السجادية) : «لك يا إلهي وحدة العدد».
١٧ ـ درّة في بيان الفرقة الناجية
من الفرق الثلاث والسبعين بالطريق اللازم للمخالفين.
١٨ ـ درّة في بيان دفع الإشكال عن
رضا الأئمة عليهمالسلام بما ينزل بهم من القتل والنكال والوبال.
١٩ ـ درّة في البحث مع صاحب (الفوائد
المدنية) في دعواه الدلالة القطعية عن الأدلة المعصومية ودفع بعض التشنيعات الغير
المرضية.
٢٠ ـ درّة في بيان أن الكافر في
حال كفره غير مكلف بالفروع.
٢١ ـ درّة في تحقيق معنى الخبر
الوارد عنه عليهالسلام : «إذا
رأيتم الرجل قد حسّن كلامه وهذبه». الخبر ، وإن المراد به الفقيه الجامع للشرائط.
٢٢ ـ درّة فيما لو طلّق الرجل
امرأته وهي حامل ثم راجعها ولم يجامعها بعد المراجعة فهل يصح طلاقه لها ثانياً
بمجرّد تلك المراجعة أم لا؟
٢٣ ـ درّة في بيان أنه هل ينتقل ما
في ذمّة المقتول ظلماً إلى ذمّة قاتله أم لا؟
٢٤ ـ درّة في بيان معنى الاحتياط
وأفراده وبيان الواجب منها والمستحب.
٢٥ ـ درّة في بيان قاعدتي المحصور
وغير المحصور بالنسبة إلى الحلال المختلط بالحرام والمشتبه به ، وكذا النجس
بالطاهر ، وبحيث مع بعض الأصحاب في هذا الباب.
٢٦ ـ درّة في
بيان معنى حديث من كتاب (قرب الإسناد) يتضمّن الفرق بين القادر على النطق بالعربية
وغيره في القراءة ونحوها.
٢٧ ـ درّة في أن المرأة تصدق لو
أخبرت بموت زوجها أو طلاقه لها.
٢٨ ـ درّة في من طلق زوجته ثم
راجعها وأشهد على ذلك ، ولكن لم يبلغها خبر الرجعة إلّا بعد أن تزوجت.
٢٩ ـ درّة في بيان تعدد إسحاق بن
عمار الواقع في طرق الأخبار.
٣٠ ـ درّة في بيان أن الأمر والنهي
حقيقة في الوجوب والتحريم بالآيات القرآنية والأخبار المعصومية.
٣١ ـ درّة في أنه هل يسوّغ تقليد
الفقيه في ثبوت رؤية الهلال ونحوه عنه بالبينة أم لا؟
٣٢ ـ درّة في الكلام على كلام
الخواجة نصير الملّة والحق والدين في مراتب معرفة الله عزّ وجل.
٣٣ ـ درّة في الكلام على الدليل العقلي
وبيان حجيته وعدمها.
٣٤ ـ درّة في الرؤيا وبيان صادقها
وكاذبها ، وبيان رؤية النبي صلىاللهعليهوآله والأخبار المتعلقة بذلك وبيان ما تضمنته.
٣٥ ـ درّة في حكم الصلاة مع مساواة
قبر المعصومين عليهمالسلام.
٣٦ ـ درّة في بيان حمل الأخبار على
التقية لا يختص بوجود القائل من العامة.
٣٧ ـ درّة في بيان بطلان الاصطلاح
الحادث بتنويع الأخبار إلى الأنواع الأربعة والحكم بصحّتها جميعاً.
٣٨ ـ درة في
ذكر الخلاف في جواز الاحتجاج في الأحكام الشرعية بظواهر الآيات القرآنية من غير
ورود تفسير لها عن الأئمة ـ صلوات الله عليهم ـ ونقل جملة من الأخبار الواردة في
هذا المضمار.
٣٩ ـ درّة في بيان معنى حديث مشكل
يتعلق بالوضوء والغسل من الماء القليل.
٤٠ ـ درّة في الكلام على الإجماع
وبيان عدم حجّيته في الأحكام الشرعية.
٤١ ـ درّة في بيان جملة من الأصول
المشار إليها في قلوبهم عليهمالسلام : «علينا
أن نلقي عليكم الأصول ، وعليكم أن تفرعوا».
٤٢ ـ درّة في نقل رسالة مولانا
الهادي عليهالسلام إلى أهل الأهواز في بيان الجبر والتفويض والأمر بين
الأمرين.
٤٣ ـ درّة في مسألة المنتسب إلى
هاشم بالأم ، وأنه من السادة حقيقة.
٤٤ ـ درّة في الجمع بين الفاطميتين
وبيان حرمة ذلك ، وفيها رسالة شافية.
٤٥ ـ درّة في جواز الاستيجار في
الصلاة وغيرها من العبادات ؛ ردّاً على من منع ذلك.
٤٦ ـ درّة في الجمع بين قوله صلىاللهعليهوآله : «اللهم
زدني فيك معرفة» ، وبين قول أمير المؤمنين عليهالسلام : «لو
كشف الغطاء ما ازددت يقيناً».
٤٧ ـ درّة في معنى : «نيّة المؤمن خير من
عمله ، ونية الكافر شرّ من عمله».
٤٨ ـ درّة في بيان حكم ولد الزنا
وإيمانه أو كفره.
٤٩ ـ درّة في معنى حديث : «رفع عن أمتي تسعة
أشياء» إلى آخره.
٥٠ ـ درّة في الجمع بين أخبار نقل
عظام آدم ويوسف عليهماالسلام ، وأخبار أن الأنبياء يرفعون بأبدانهم من القبور بعد
ثلاثة أيام أو أربعين يوماً.
٥١ ـ درّة في ما اشتهر من التساهل
في أدلة السنن ، وأنه خارج عن السنن.
٥٢ ـ درّة في
الجمع بين الأخبار المختلفة في تفسير (والراسخون في العلم) في الآية الشريفة.
٥٣ ـ درّة في معنى حديث : «إن أهل الكهف كانوا
صيارفة» ، يعني صيارفة
الكلام.
٥٤ ـ درّة في بيان جواز عقد الولي
بالصغيرين.
٥٥ ـ درّة في تحقيق مسألة تحريم
الأم بمجرد العقد على ابنتها وعدمه.
٥٦ ـ درّة في مسألة إعادة المعدوم
، وذكر الخلاف فيها.
٥٧ ـ درّة في حكم منجزات المريض.
٥٨ ـ درّة في المرأة يموت ولدها من
غير زوجها.
٥٩ ـ درّة في المحاكمة بين
الأخباريين والمجتهدين ، وجمعهم على الاتفاق في الدين.
٦٠ ـ درّة في الخبر الوارد بأن
للصلاة أربعة آلاف حدّ.
٦١ ـ درّة فيما لو توضّأ واغتسل
وعلى بدنه نجاسة.
٦٢ ـ درّة في حكم الطهارة بالماء
النجس.
٦٣ ـ درّة فيما يدل على إمامة
الأئمة الاثني عشر عليهمالسلام من طرق القوم.
٦٤ ـ درّة في خطبة فاطمة عليهاالسلام في مطالبتها بفدك وميراثها ، وخطبة أخرى عند الموت من
طرق القوم.
٦٥ ـ درّة في جملة من الأخبار
الواردة في عيسى عليهالسلام ويحيى بن زكريا عليهماالسلام وما فيها من الإشكال.
٦٦ ـ درّة في نقل خبر من طريق
القوم يتضمن ما أحدثه معاوية من تزوير الأخبار الكاذبة في فضائل الخلفاء الثلاثة ،
وبيان ما في الخبر المذكور من الفوائد.
__________________
٦٧ ـ درّة في
بيان حكم فضلات الإنسان من ريقه وعرقه ونحوها ، هل هي محرمة أم لا؟
٦٨ ـ درّة في ذكر صحيحة عبد الله
بن أبي يعفور الواردة في معرفة العدالة وبسط الكلام في تحقيق معناها.
٦٩ ـ درّة في الخلاف في تطريق
النقصان والتغيير والتبديل إلى القراءة وعدمه في تحقيق القول في ذلك.
٧٠ ـ درّة في حديث شريف عن مولانا
أمير المؤمنين عليهالسلام وشرح ما فيه من غوامض ألفاظه.
مقدّمة
المؤلّف
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله الذي
هدى أبصار بصائرنا بأنوار الولاية الحيدريّة ، وفتح مسامع قلوبنا بأخبار الصفوة
المصطفويّة ، وسقانا في عالم الأرواح من طيب لذيذ ذلك الراح الموجب
في النشأتين للمسرّة والأفراح ، فجاءت بذلك القلوب في هذه النشأة مجبولة على
حبّ أولئك الأشباح ، فلا مساح لها عن ذلك ولا براح ، ووفّقنا للاغتراف بكأس رحيق شريعتهم
الطاهرة والاقتطاف من جني ثمارهم الناضرة ، والصلاة على من توّج هام النبوّة والرسالة
وتسنّم أوج الرفعة والشرف والبسالة ، ثمّ على وصيّه قطب رحى الخلافة والإمامة وشنف
صدر الولاية والإيالة والشهامة ، ثمّ على ذريّتهما المتبوّئين من ذرا العلا
أرفع ذروة وهامة.
أمّا
بعد : فيقول الفقير
إلى الجود السبحاني والمتعطّش للفيض الصمداني يوسف بن أحمد بن إبراهيم البحراني ـ وفّقه
الله تعالى لإصلاح داريه وأذاقه حلاوة نشأتيه
__________________
وألحقه بمواليه وساداته وحشره في زمرة أئمّته وهداته ـ : إني لمّا وفّقني
الله تعالى إلى ممارسة أخبار العترة الأطهار ، والتقاط جملة من تلك الدرر الساطعة
الأنوار ، فكانت من بين العلوم شعاري ودثاري ، وبها أنسي في ليلي ونهاري.
وقد وفّقني
الله تعالى إلى إبراز جملة من الأحكام المستنبطة منها في قالب التأليف ، ونظم شطر
منها في سمط التصنيف من كتب ورسائل وحواش وأجوبة مسائل. وكان من جملة درر تلك
المسائل وغرر هاتيك الدلائل ما لم ينتظم في الأبواب التي بوّبها الأصحاب أو نظموها
، ولكن لم يكشفوا عن وجوه خرائدها نقاب الاحتجاب ، أحببت أن أنظم جملة من تلك
الدرر في سمط التحرير ، واشنّفها بما سنح لي من واضح البيان والتقرير ، وحيث كانت
درر تلك المسائل الشريفة وفرائد هاتيك الدلائل المنيفة خارجة من باب مدينة العلوم
النبويّة ومشكاة الأنوار الإلهيّة ، حسن نسبة تلك الدرر إلى واديه الأقدس وإضافتها
إلى ناديه المقدّس ؛ فلذا سمّيته ب (الدرر النجفيّة من الملتقطات اليوسفيّة) ، وألحقته إلى تلك الحضرة السامية
العليّة والحضرة المقدّسة العلويّة ، راجيا من عواطف كرمه الفوز بالقبول
والإمداد بإنجاح المأمول ، والمعذرة إليه صلوات الله عليه ظاهرة لا ابديها ، فـ
إن الهدايا على مقدار مهديها
والله سبحانه أسأل
أن يوفّقني ، سيّما للفوز بسعادة الإتمام ، وأن يعصمني من هفوات الكلام وفلتات
الأقلام.
__________________
(١)
درّة نجفيّة
في معنى رواية : «الماء كله
طاهر حتى تعلم أنه قذر»
روى المشايخ
الثلاثة ـ عطّر الله مراقدهم ـ بأسانيدهم عن الصادق عليهالسلام ، أنه قال : «الماء كلّه طاهر حتى تعلم أنه قذر» .
واختلف الأصحاب
ـ رضوان الله عليهم ـ في المعنى المراد من العلم في هذا الخبر ، فالمفهوم من كلام
أبي الصلاح التقيّ بن نجم الحلبي ـ حيث اكتفى في الحكم بالنجاسة بالظنّ ، سواء استند إلى
سبب شرعي كإخبار المالك وشهادة العدلين ، أم لا ـ هو المعنى الأعمّ من اليقين
والظنّ مطلقا.
ومقتضى المنقول
عن ابن البرّاج ـ من عدم اعتبار الظنّ مطلقا في المسألة المذكورة وإن
استند إلى سبب شرعي ـ هو القطع واليقين. وظاهر العلّامة رحمهالله في (التذكرة) و (المنتهى) الاكتفاء بالظنّ المستند إلى
سبب شرعي فإنه يحكم بالنجاسة بحصول أحد الأمرين من اليقين أو الظنّ المستندين على ذلك
__________________
السبب ، فيكون العلم في الخبر عنده أعمّ منهما.
قال في (التذكرة)
: (إن استند الظنّ إلى سبب كقول العدل ، فهو كالمتيقّن ، وإلّا فلا) .
وقال في (المنتهى)
: (لو أخبر عدل بنجاسة الإناء لم يجب القبول ، أمّا لو شهد عدلان فالأولى القبول) .
وفي موضع آخر
من (المنتهى) : (لو أخبر العدل بنجاسة إنائه فالوجه القبول ، ولو أخبر الفاسق
بنجاسة إنائه فالأقرب القبول أيضا) .
وقال في (المعالم)
: (وما فصّله في (المنتهى) هو المشهور بين المتأخرين) .
وقال شيخنا
البهائي ـ عطّر الله مرقده ـ في بعض فوائده ، بعد احتمال المعاني الثلاثة في الخبر
: (وأنت خبير بأن فهم هذا التعميم من الرواية بعيد بخلاف الأوّلين). وأراد
بالتعميم ما ذهب إليه العلّامة رحمهالله ، وفيه نظر.
وجزم المحقّق
في (المعتبر) بعدم القبول في العدل الواحد ، وجعل القبول في العدلين
أظهر ، ونسبه العلّامة في (المختلف) إلى ابن إدريس أيضا. وربّما قيّد بعضهم قبول خبر العدلين في
ذلك بذكر السبب ، قال : (لاختلاف العلماء في المقتضي للتنجيس). ونقله في (المعالم)
عن بعض الأصحاب.
__________________
وقيّد جماعة الحكم بقبول
أخبار الواحد بنجاسة إنائه بما إذا وقع الإخبار قبل الاستعمال ، فلو كان الإخبار بعده
لم يقبل بالنظر إلى نجاسة المستعمل له ، فإن ذلك في الحقيقة إخبار بنجاسة الغير ،
فلا يكفي فيه الواحد وإن كان عدلا ؛ ولأن الماء يخرج بالاستعمال عن ملكه ، إذ هو
في معنى الإتلاف أو نفسه ، وبهذا التقييد صرّح في (التذكرة) على ما نقله عنه بعض الأفاضل .
هذا ملخّص ما حضرني
من الأقوال في ذلك.
وحكي عن أبي
الصلاح الاحتجاج على مذهبه بأن الشرعيّات كلّها ظنيّة ، فإن
العمل بالمرجوح مع قيام الراجح باطل.
وعن ابن
البرّاج الاحتجاج على ما ذهب إليه بأن الطهارة معلومة بالأصل ،
وشهادة الشاهدين لا تفيد إلّا الظن ، فلا يترك لأجله المعلوم.
أقول : ويرد
على ما ذهب إليه أبو الصلاح أن المفهوم من الأخبار أنه لا ينتقل من يقين الطهارة
ويقين الحليّة إلّا بيقين مثله ، وأن مجرّد الظن لا وجب الخروج عن ذلك كالأخبار
الواردة في متيقّن الطهارة من الحدث والطهارة من الخبث في ثوبه
أو بدنه ، فإنه لا يخرج عن ذلك إلّا بيقين مثله.
ومن تلك
الأخبار صحيحة عبد الله بن سنان في الثوب إذا اعير من ذمّي
__________________
يعلم أنه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير ، حيث قال عليهالسلام : «صلّ
فيه ولا تغسله من أجل ذلك ، فإنك أعرته إيّاه وهو طاهر ، ولم تستيقن أنه نجّسه ،
فلا بأس أن تصلّي فيه حتى تستيقن أنه نجّسه» .
وما ورد في
الجبن من قوله عليهالسلام : «ما
علمت أنه ميتة فلا تأكله ، وما لم
تعلم فاشتر وبع وكل».
إلى أن قال : «والله إني لاعترض
السوق فأشتري بها اللحم والسمن والجبن والله ما أظنّ كلّهم يسمّون
، هذه البربر وهذه السودان» .
وما ورد في
الرجل يجد في إنائه فأرة وكانت متفسّخة وقد توضّأ من ذلك الإناء مرارا و اغتسل منه
وغسل ثيابه ، حيث قال عليهالسلام : «ليس
عليه شيء لأنه لا يعلم متى سقطت فيه» ثمّ قال : «لعلّه إنّما سقطت فيه تلك الساعة التي رآها » .
وهي كما ترى
ظاهرة في حصول الظنّ بوقوعها سابقا لمكان التفسّخ ، مع أنه عليهالسلام ـ عملا بسعة الشريعة وسهولتها ـ لم يلتفت إليه . وقال : «لعلّه
إنّما سقطت الساعة» .
__________________
ومنها ما ورد
في المنيّ ، من أنه «إذا
احتلم الرجل فأصاب ثوبه منّي ، فليغسل الذي أصابه ، وإن ظنّ أنه أصابه منيّ ولم
يستيقن ولم ير مكانه ، فلينضحه بالماء» الحديث. وهو صريح في المطلوب ، والنضح فيه محمول على
الاستحباب ، كما في نظائره ، إلى غير ذلك من الأخبار .
وبالجملة ،
فالمستفاد من الأخبار أن تيقّن الطهارة وكذلك الحليّة لا يخرج عنه إلّا بيقين مثله.
ويرد على ما
ذهب إليه ابن البرّاج :
أوّلا : أن
اشتراط اليقين إن كان مخصوصا بحكم النجاسة دون ما عداها من حكم الطهارة والحليّة
والحرمة ، فهو تحكّم محض. وإن كان الحكم في الجميع واحدا فيقين الطهارة الذي
اعتمده ليس إلّا عبارة عن عدم العلم بملاقاة النجاسة ، وهو أعمّ من العلم بالعدم ،
ومثله يقين الحليّة.
وثانيا : أنه
قد روى ثقة الإسلام في (الكافي) والشيخ في (التهذيب) بسنديهما عن
الصادق عليهالسلام في الجبن ، قال : «كلّ شيء لك حلال ، حتى يجيئك شاهدان يشهدان
عندك أن فيه ميتة».
ورويا أيضا
بسنديهما عنه عليهالسلام : «كلّ شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه
__________________
فتدعه
من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك
قد اشتريته وهو سرقة». إلى أن قال : «والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير
ذلك ، أو تقوم به البيّنة» .
والحكم في
المسألتين من باب واحد ، فإنه كما قام الدليل على أصالة الطهارة حتى تعلم النجاسة
، كذلك قام الدليل على أصالة الحلّ في كلّ شيء حتى يعلم التحريم ، كما هو قول من
يعتمد البراءة الأصلية وأصالة الحلّ فيما اشتبهت أفراده المحرّمة بالمحلّلة ممّا
هو غير محصور حتى يعلم الحرام منه بعينه ، كما هو قول آخرين.
وكيف كان ،
فالخبران صريحان في الاكتفاء في ثبوت العلم بشهادة الشاهدين ، وممّا يؤيّد
الاكتفاء بشهادة العدلين في الحكم النجاسة أن الظاهر أنه لا خلاف ولا إشكال في أنه
لو كان الماء مبيعا فادّعى المشتري فيه العيب بكونه نجسا ، وأقام شاهدين عدلين
بذلك ، فإنه يتسلّط على الردّ ، وما ذاك إلّا لثبوت النجاسة والحكم بها.
وما ذكره بعض
فضلاء متأخري المتأخرين ـ من إمكان المناقشة في ذلك بأن اعتبار شهادتهما في نظر
الشارع مطلقا بحيث يشمل ما نحن فيه ممنوع ، وقبول شهادتهما في الصورة المفروضة لا
يدلّ على أزيد من ترتّب جواز الردّ أو أخذ الأرش عليه ، وأمّا أن يكون حكمه حكم
النجس في سائر الأحكام فلا بدّ له من دليل ، انتهى ـ ممّا لا ينبغي أن يعرّج عليه
ولا يلتفت في المقام إليه ، كيف واستحقاق جواز الرّد وأخذ الأرش إنّما هو فرع ثبوت
النجاسة وحكم الشارع
__________________
بها ؛ ليتحقّق العيب الذي هو سبب في ذلك؟
والتحقيق عندي
في هذا المقام ـ ممّا لا يحوم حوله للناظر المنصف نقض ولا إبرام ـ ما أوضحناه في
موضع آخر من فوائدنا ، وملخّصه : أن كلّا من الطهارة والنجاسة والحلّ والحرمة ليست
امورا عقليّة ، بل هي امور شرعيّة لها أسباب معيّنة من الشارع متلقّاة منه ، فكلّما وجد سبب من تلك
الأسباب وصار معلوما للمكلّف ترتّب عليه مسبّبه من الحكم بأحد
تلك الأحكام ، فكما أن من جملة الأسباب المتلقّاة منه مشاهدة ملاقاة النجاسة للماء
مثلا ، كذلك من جملتها إخبار المالك بنجاسة مائه وثوبه ونحوهما ، وشهادة العدلين
بنجاسة شيء ، ومثله يأتي أيضا في ثبوت الطهارة والحليّة والحرمة.
وليس ثبوت
النجاسة لشيء واتّصافه بها عبارة عن مجرّد ملاقاة عين أحد النجاسات
في الواقع ونفس الأمر خاصّة حتى يقال بالنسبة إلى غير العالم بالملاقاة : إن هذا
الشيء نجس واقعا وطاهر بحسب الظاهر. بل هو نجس بالنسبة إلى
العالم بالملاقاة أو أحد الأسباب المتقدّمة ، وطاهر بالنسبة إلى غير العالم ،
والشارع لم يجعل شيئا من الأحكام منوطا بالواقع ونفس الأمر.
وحينئذ ، فلا
يقال : إن إخبار المالك والعدلين إنّما يفيدان ظنّ النجاسة لاحتمال ألّا يكون كذلك
في الواقع. كيف ، وهما من جملة الأسباب التي رتّب الشارع الحكم بالنجاسة عليها؟
وبالجملة ،
فحيث حكم الشارع بقبول شهادة العدلين وإخبار المالك في ذلك ،
__________________
فقد حكم بثبوت الأحكام بهما ، فيصير الحكم ـ حينئذ ـ معلوما من الشارع ،
ولا معنى للنجس ونحوه ـ كما عرفت ـ إلّا ذلك وإن فرض عدم ملاقاة النجاسة في الواقع ، ألا
ترى أنه وردت الأخبار بأن الأشياء كلّها على يقين الطهارة ويقين الحليّة حتى يعلم
النجس والتحريم بعينه؟ مع أن هذا اليقين ـ كما عرفت ـ ليس إلّا عبارة عن عدم العلم
بالنجاسة والحرمة. وعدم العلم لا يدلّ على العدم ، فيجوز أن تكون تلك الأشياء ـ كلّا
أو بعضا ـ بحسب الواقع ونفس الأمر على النجاسة أو الحرمة لو كان كلّ من النجاسة
والحرمة من الامور النفس الأمريّة الواقعيّة بدون علم المكلّف بذلك. وكذلك القول
في حكم الشارع بقبول قول المالك في طهارة ثوبه وإنائه ، وطهارة
ما في أسواق المسلمين وحليّته ؛ لعين ما ذكرنا.
وبالجملة ،
فالعلم واليقين المتعلّق بهذه الأحكام ليس عبارة عمّا توهّموه من الإناطة بالواقع
ونفس الأمر وإن لم يظهر للمكلّف ، وأن متيقّن النجاسة عند المكلّف ليس إلّا عبارة
عمّا وجد فيه النجاسة ، حتى إنه يصير ما عدا هذا الفرد ممّا أخبر به المالك أو شهد
به العدلان مظنون النجاسة ؛ إذ لو كان كذلك لزم مثله في جانب الطهارة ؛ إذ الجميع
من باب واحد ، فإنها أحكام متلقّاة من الشارع ، فيختصّ الحكم بالطهارة يقينا حينئذ
بما باشر المكلّف أو حضر تطهيره ولم يغب عنه بعد ذلك ، وإلّا لكان مظنون الطهارة
أو مرجوحها ، مع أن المعلوم من الشرع ـ كما عرفت ـ خلافه ، فإنّه قد حكم بأن
الأشياء على يقين الطهارة.
ويؤيّد ما صرنا إليه
في هذا المقام ـ وإن غفل عنه جملة من علمائنا الأعلام ـ ما نقله في كتاب (المعالم ) عن سيّدنا
المرتضى رضياللهعنه ـ وارتضاه جملة
__________________
ممّن تأخر عنه ـ من أن وجوب الحكم على القاضي بعد شهادة العدلين ليس من حيث
إنها توجب حصول الظنّ ، بل من حيث إن الشارع جعلها سببا لوجوب
الحكم على القاضي كما جعل دخول الوقت سببا لوجوب الصلاة . انتهى.
وأيّده بعض من
تأخر عنه ، بأن كثيرا ما لا يحصل الظنّ بشهادتهما لمعارضة قرينة حاليّة مع وجوب
الحكم على القاضي . انتهى.
ومثله يأتي في
ما ذكرنا من الأسباب ، كما لا يخفى على ذوي الألباب. وبذلك يظهر أن الأظهر في معنى
الخبر المذكور هو أن المراد بالعلم فيه ما هو المتبادر من لفظه وهو اليقين والقطع
، لكن لا بالنظر إلى نفس الأمر من حيث هو ؛ إذ لا مدخل له كما عرفته في الأحكام
الشرعيّة ، بل بالنظر إلى الأسباب التي جعلها الشارع مناطا للنجاسة وعلم المكلّف
بها ، فيقين النجاسة والطهارة إنّما يدور على ذلك وجودا وعدما. وحينئذ ، فالظاهر
شرعا هو ما لا يعلم المكلّف بملاقاة النجاسة له ، لا ما لم تلاقه النجاسة مطلقا ،
والنجس هو ما علم المكلّف نجاسته بأحد تلك الأسباب ، لا ما لاقته النجاسة مطلقا.
تتميم
قبول قول المالك في الطهارة والنجاسة
ظاهر كلام
الأصحاب ـ قدّس الله أرواحهم ـ الاتّفاق على قبول قول المالك في طهارة ثوبه وإنائه
ونجاستهما. وناقش فيه بعض أفاضل متأخري المتأخرين ، حيث قال : (وأما قبول قول
المالك عدلا كان أو فاسقا فلم نظفر له على حجّة ، وقد يؤيّد بما رواه في (التهذيب)
عن إسماعيل بن عيسى ، قال : سألت
__________________
أبا الحسن عليهالسلام عن جلود الفراء يشتريها الرجل من
أسواق الجبل ، يسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف؟ قال : «عليكم أنتم أن تسألوا
عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك ، وإذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه» .
وجه التأييد أن
ظاهره أن قول المشركين يقبل في أموالهم أنه ذكيّة ، وإلّا فلا فائدة للسؤال عنهم.
وإذا قبل قول المشركين ، فقول المسلمين بطريق أولى.
لكن سند
الرواية غير نقي ، مع أن في الظهور المذكور تأمّلا) انتهى.
أقول : ما ذكره
قدسسره من المناقشة في عموم الحكم المذكور على وجه يشمل الكافر
في محلّه ؛ لعدم الظفر بمستنده. وأما الرواية التي ذكرها وزعم دلالتها بظاهرها على
قبول قول الكافر ، فالظاهر أن المعنى فيها ليس على ما فهمه قدسسره ، وإن كان قد سبقه إلى ذلك المحدّث الكاشاني في (الوافي)
، حيث قال بعد نقل الخبر المذكور : (وإنّما يجب السؤال إذا كان البائع مشركا لغلبة الظنّ
حينئذ بأنه غير ذكي ، إلّا إنه يخبر هو بأنه من ذبيحة المسلمين فيصير مشكوكا فيه ،
فجاز لبسه حينئذ حتى يعلم كونه ميتة) انتهى.
ولا يخفى أنه
يرد على هذا التفسير :
أوّلا : أنه لا
مناسبة في ارتباط الجواب بالسؤال ؛ إذ المسائل إنّما سأل عن الاشتراء من المسلم ،
فكيف يجاب على تقدير الاشتراء من المشرك؟
وثانيا : أنه
لا معنى لقوله في آخر الخبر «إذا
رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه» ،
__________________
بل الأظهر في معنى الخبر المذكور ، أنه لمّا سأل السائل عن حكم الشراء في
السوق المذكورة إذا كان البائع مسلما ، وأنه هل يسأل عن ذكاته أم لا؟ أجاب عليهالسلام بالتفصيل بأنه إذا كان في تلك السوق من يبيع من
المشركين فعليكم السؤال في ذلك المسلم ؛ إذ لعلّه أخذه من المشركين ، وإذا رأيتم
المسلم يصلّي فيه فلا تسألوا ؛ لأن صلاته فيه دليل على طهارته عنده.
ويفهم من الخبر
بمفهوم الشرط أنه مع عدم من يبيع من المشركين فليس عليهم السؤال ، ويدلّ على عدم
السؤال إطلاق صحيحة البزنطي ، قال : سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبّة فراء
لا يدري أذكيّة هي أم غير ذكيّة أيصلّي فيها؟ قال : «نعم ، ليس عليكم المسألة ، إن أبا جعفر عليهالسلام
كان يقول : إن الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم ، وإن الدين أوسع من ذلك» .
وأنت خبير بأنه
يظهر من خبر البزنطي المذكور ـ حيث تضمّن نفي المسألة والردّ على الخوارج في ذلك ،
ونسبتهم إلى تضييق الدين بالمسألة ـ أنه مع السؤال يقبل قول المسؤول ، وإلّا لما
حصل الضيق في الدين بالسؤال كما لا يخفى ؛ إذ الظاهر أن المراد من الخبر أن جميع
الأشياء بمقتضى سعة الدين المحمّدي على ظاهر الحلّيّة والطهارة ، فالسؤال والفحص
عن كلّ فرد فرد بأنه حلال أو حرام أو طاهر أو نجس تضييق لها ورفع لسهولتها التي قد
منّ الشارع بها على عباده.
ومعلوم أن حصول
الضيق حينئذ إنّما يتمّ بقبول قول المالك بالنجاسة والحرمة.
وممّا يدلّ على
المنع من السؤال بعض الأخبار الواردة في الجبن ، حيث إنه عليهالسلام
__________________
أعطى الخادم درهما وأمره أن يبتاع به من مسلم جبنا ونهاه عن السؤال .
وحينئذ ، ففي
هذه الأخبار ونحوها دلالة على قبول قول المالك عدلا كان أم لا.
وممّا يدلّ على
ذلك ما رواه الحميري في (قرب الإسناد) عن عبد الله بن بكير ، قال : سألت أبا عبد
الله عليهالسلام عن رجل أعار رجلا ثوبا يصلّي فيه وهو لا يصلّي فيه.
قال : «لا يعلمه». قلت : فإن أعلمه؟ قال : «يعيد» .
وهي كما ترى
صريحة في قبول قول المالك في طهارة ثوبه ونجاسته ؛ لحكمه عليهالسلام بإعادة الصلاة على المستعير لو صلّى بعد الإعلام.
ويدلّ على ذلك
أيضا موثّقة معاوية بن عمّار ، قال : سألت أبا عبد الله عن الرجل من أهل المعرفة
بالحقّ يأتيني بالبختج ويقول : قد طبخ على الثلث ، وأنا أعلم أنه يشربه على
النصف ، فأشربه بقوله وهو يشربه على النصف؟ فقال : «لا تشربه». قلت : فرجل من غير أهل المعرفة ممّن لا نعرفه يشربه
على الثلث ولا يستحلّه على النصف ، يخبرنا أن عندنا بختجا وقد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه
، يشرب منه؟ قال : «نعم» .
ورواية عليّ بن
جعفر عن أخيه ، قال : سألته عن الرجل يصلّي إلى القبلة لا يوثق به ، أتى بشراب زعم
أنه على الثلث ، فيحلّ شربه؟ قال : «لا يصدّق إلّا أن يكون مسلما عارفا» .
__________________
وموثّقة عمّار
بن موسى عن أبي عبد الله عليهالسلام أنه سئل عن الرجل يأتي بالشراب ، فيقول : هذا مطبوخ على
الثلث ، فقال : «إن كان
مسلما ورعا مأمونا ، فلا بأس أن يشرب» . وقد دلّت هذه الأخبار على قبول قول المالك في حلّ ما
بيده إذا لم يعلم منه خلافه.
__________________
(٢) درّة نجفيّة
في معذورية الجاهل
قد استفاضت
الأخبار عن الأئمّة الأخيار ـ صلوات الله عليهم ـ بمعذوريّة
الجاهل في جملة من الأحكام إلّا مواضع مخصوصة ، والمشهور بين الأصحاب ـ رضوان الله
عليهم ـ عدم المعذورية إلّا في مواضع مخصوصة ، كحكمي الجهر والاخفات ، والقصر
والاتمام. وفرّعوا على ذلك بطلان صلاة الجاهل ، وهو من لم يكن مجتهدا ولا مقلّدا ؛
حيث أوجبوا معرفة واجب الصلاة وندبها ، وابقاء كلّ منهما على وجهه ، وأنّ تلك لا
بدّ أن تكون عن أحد ذينك الوجهين المذكورين.
فصلاة المكلّف
بدون اجتهاد أو تقليد باطلة عندهم وإن طابقت الواقع ، وطابق اعتقاده وإيقاعه
للواجب والندب ما هو المطلوب شرعا.
وممن صرح بذلك
الشهيدان ـ رحمهماالله ـ في مواضع من مصنّفاتهما ، وخالف في ذلك جمع من متأخري
المتأخرين ، منهم المولى الأردبيلي ، وتلميذه السيّد السند صاحب (المدارك)
والمحدّث الكاشاني ، والمحدّث الأمين الأسترآبادي ، والفاضل
المحدث العلّامة السيّد نعمة الله الجزائرى ، وشيخنا
__________________
العلّامة الشيخ سلمان بن عبد الله البحراني ، قدس الله أرواحهم. وهو الحق
الحقيق بالاتّباع كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى.
قال المحدث
السيد نعمة الله رحمهالله في شرح كتاب (عوالي اللآلي) بعد نقل ذلك عن الشهيدين : (ويلزم على هذا
بطلان عبادة أكثر الناس خصوصا في هذه الأعصار وما قاربها ، وذلك أن وجود المجتهدين في
كلّ صقع وكل بلد متعذّر ؛ لأن صروف الليالي أذهبت العلماء ، وما بقي من يرجع إلى
قوله إلّا القليل في بلد من البلدان أو صقع من الأصقاع :
فكأنها برق
تألّق بالحمى
|
|
ثم انثنى
فكأنه لم يلمع
|
وإذا كان
المقلد في أقاصي البلدان فكيف يتمكّن من الوصول إلى المجتهد في أكثر أوقاته؟ فيلزم
الحرج على الخلق).
إلى أن قال : (والناس
في الأعصار السابقة واللاحقة كانوا يتعلمون العبادات وأحكامها من الواجبات
والمندوبات والسنن بعضهم من بعض من غير معرفة باجتهاد ولا تقليد ، والعوام في جميع
الأعصار ؛ حتى في أعصار الأئمَّة عليهمالسلام كانوا يصلّون ويصومون على ما أخذوا من الآباء ، ومن
حضرهم من العلماء وإن لم يبلغوا مرتبة الاجتهاد.
على أن الصلاة
المأمور بها شرعا ما كان تتفق إلّا من آحاد العلماء. ألا ترى
__________________
إلى حمّاد كيف كان يحفظ كتاب حريز في الصلاة؟ فلمّا صلّى
بحضور الإمام الصادق عليهالسلام قال : «يا حمّاد لا تحسن أن تصلي» . فقام عليهالسلام وصلّى ركعتين تعليما له.
هذا وحمّاد من
أجلّ أهل الرواية ومن أصحاب الأئمّة ، فلما ظنك بصلاة غيره لو أوقعها بحضور أحدهم عليهمالسلام؟ على أن الصلاة إذا وقعت على نهج الصواب وكانت مأخوذة
من أهل الإيمان ، فما السبب في بطلانها؟ وشيء آخر وهو أنهم صرحوا بأنه لا فرق بين
تارك الصلاة ، وبين من أوقعها على غير الوجه المطلوب ، ولو بالإخلال بحرف من
القراءة أو حركة أو ذكر أو قيام أو قعود ، إلى غير ذلك ممّا حرره في كتبهم.
وأنت إذا
تتّبعت عبادات عوام المذهب سيّما في الصلاة ، ما تجد أحدا منهم إلّا والخلل في
عباداته ، خصوصا الصلاة ، ولا سيّما القراءة فيما يوجب بطلانها بكثير ، فيلزم
بطلان صلاتهم كلها ، فيكونون متعمّدين في ترك الصلاة مدّة أعمارهم ، بل مستحلّين
تركها ؛ لأنهم يرون أن الصلاة المشروعة هي ما أتوا به ، وقد حكمتم ببطلانها. فهذه
هي الداهية العظمى والمصيبة الكبرى على عوام مذهبنا مع تكثّرهم ووفورهم.
فإن قلت : فما
المخلص من هذه البلية العامة؟
قلت : قد
استفاض من الأخبار عن النبيّ وأهل بيته ـ عليهم أفضل الصلوات من الملك الجبار ـ «الناس في سعة ما لم
يعلموا» فمن كان جاهلا
للأصل أو جاهلا للحكم يكون داخلا تحت عموم الخبر ، فيعذر في جهله ، حتى يعرف
__________________
الحكم فيطلبه. وحينئذ ، فيكون الأولى أن يجعل الضابط هكذا :
الجاهل معذور إلّا ما قام الدليل عليه. والأكثر عكسوا الكلية ، وقالوا : الجاهل
كالعالم إلّا ما خرج بالدليل ، فيلزم ما تقدم من الضيق والحرج ، وللنظر إلى ما حررناه
وردت الأخبار المتضمّنة لقولهم عليهمالسلام : «ما
أخذ الله على الجهّال أن يتعلّموا حتّى أخذ على العلماء أن يعلّموا» .
وقال مولانا
أمير المؤمنين عليهالسلام في وصف نفسه الشريفة : «طبيب دوار بطبه ، قد أحكم مراهمه ، وأحمى
مواسمه ، يضع عن ذلك حيث الحاجة إليه من قلوب عمي ، وآذن صمّ ، وألسنة بكم ،
متتبّع بدوائه في مواضع
الغفلة ومواطن الحيرة» .
يعني : أنه عليهالسلام طبيب داء الجهل ، والجهال مرضى القلوب . ومن القانون
أن الطبيب يمضي إلى المريض كما كان المسيح عليهالسلام يفعل ذلك ، فقال له الحواريون : هنا؟ في موضع ما كانوا
عهدوه يمضي إليه ، فقال : «نعم
إنّما يأتي الطبيب المريض» .
والمراد ب «مراهمه» : علومه ومواعظه التي هي مراهم قلب الجاهل. والمراد من «المراسم» : سيفه وسوطه ، فإن من لا تنفع فيه المواعظ وقعت عليه
الحدود الإلهيّة.
والحاصل أن
الجهّال معذورون حتّى يأتي إليهم علوم الأحكام والمعرفة بها من علماء الدين) انتهى
كلامه ، زيد إكرامه.
__________________
وقال المولى
الأردبيلي قدسسره في مبحث الوقت من شرحه على (الإرشاد) ـ بعد تصريحه بأنه
متى ترك الاجتهاد عالما بوجوب الاجتهاد ، فمعلوم بطلان صلاته إذا لم يكن في الوقت
، وأمّا إذا وقعت في الوقت تماما ، فيحتمل الصحة والبطلان ، والظاهر البطلان ،
إلّا مع تجويز المصلّي عدم تكليفه بالاجتهاد ، وتجويزه دخول الوقت ، ودخل ، فوافق
، فالظاهر الصحّة حينئذ ، والناسي بطريق الأولى للامتثال وعدم النهي حال الفعل ،
وكذا الجاهل بالوجوب والوقت ؛ لما مر ما هذا لفظه : (وبالجملة ، كل من فعل ما هو في نفس
الأمر وإن لم يعرف كونه كذلك ما لم يكن عالما بنهيه وقت الفعل ، حتى لو أخذ
المسائل من غير أهله ، بل لو لم يأخذ من أحد وظنها كذلك به وفعل ، فإنّه يصح فعله
، وكذا في الاعتقادات وإن لم يأخذها عن أدلّتها ، فإنه يكفي ما اعتقده دليلا ،
وأوصله إلى المطلوب ولو كان تقليدا. كذا يفهم من كلام منسوب إلى المحقق نصير
الملّة والدين قدسسره ، وفي كلام الشارع إشارات إليه ، مثل مدحه جماعة
للطهارة بالحجر والماء ، مع عدم العلم بحسنها ، وصحّة حجّ من مرّ بالموقف وغيرهما ممّا
يدلّ عليه الأثر ، ستطلع عليه إن تأمّلت ، مثل قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم لعمّار ، حين غلط في التيمم : «ألا فعلت كذا» فإنه يدلّ على أنه لو فعل كذا يصحّ ، مع أنه ما كان
يعرف. وفي الصحيح من نسي
__________________
ركعة ففعلها واستحسنه عليهالسلام مع عدم العلم والشريعة السمحة السهلة تقتضيه.
وما وقع في
أوائل الإسلام من فعله صلىاللهعليهوآلهوسلم مع الكفار من الاكتفاء بمجرد قولهم بالشهادة . وكذا فعل
الأئمَّة عليهمالسلام مع من قال بهم بما يفيد اليقين ، فتأمل ... واحتط) انتهى.
وقال تلميذه
السيّد السند قدسسره في (المدارك) بعد أن نقل شطرا من ذلك : (وهو في غاية
الجودة) انتهى.
أقول : ويؤيد
ما ذكره رحمهالله من الاكتفاء بمطابقة الحكم واقعا ، وإن لم يكن عن علم
ومعرفة ، رواية عبد الصمد بن بشير عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : جاء رجل يلبّي ، حتى دخل المسجد الحرام وهو يلبّي
وعليه قميصه ، فوثب إليه الناس من أصحاب أبي حنيفة ، فقالوا : شق قميصك وأخرجه من
رجليك ؛ فإن عليك بدنة ، وعليك الحج من قابل ، وحجّك فاسد. فطلع أبو عبد الله عليهالسلام ، فقام على باب المسجد ، فكبّر واستقبل الكعبة ، فدنا
الرجل من أبي عبد الله عليهالسلام وهو ينتف شعره ، ويضرب وجهه ، فقال له أبو عبد الله : «اسكن يا عبد الله».
فلمّا كلّمه
وكان الرجل عجميا ، فقال أبو عبد الله : «ما تقول؟». قال : كنت رجلا أعمل بيدي ، فاجتمعت لي نفقة ، فجئت
أحجّ ، لم أسأل أحدا عن شيء ، فأفتوني هؤلاء أن أشقّ قميصي وأنزعه من قبل رجليّ ؛
وأن حجّي فاسد ، وأن عليّ بدنة.
فقال عليهالسلام له : «متى
لبست قميصك؟ أبعد ما لبيت أم قبل؟». قال : قبل أن ألبّي.
__________________
قال عليهالسلام : «فأخرجه
من رأسك ، فإنه ليس عليك بدنة ، وليس عليك الحج من قابل ؛ أي رجل ركب أمرا بجهالة
، فلا شيء عليه. طف بالبيت اسبوعا ، وصلّ ركعتين عند مقام إبراهيم ، واسع بين
الصفا والمروة ، وقصّر من شعرك ، فإذا كان يوم التروية فاغتسل وأهلّ بالحجّ ،
واصنع كما يصنع الناس» .
فإنه مع تصريحه
بمعذوريّة الجاهل بوجه كلّي وقاعدة مطّردة ، تضمّن صحّة ما فعله قبل لقاء الإمام عليهالسلام من الاغتسال والإحرام والتلبية ونحوها ، مع إخباره أنه
لم يسأل أحدا عن شيء من الأحكام التي أتى بها ؛ ولهذا وقع فيما وقع فيه ، وأمره عليهالسلام أن يصنع كما يصنع الناس من واجب ومستحب ، مع عدم
المعرفة بشيء من ذلك.
قال الفاضل
المحقّق صاحب (الكفاية) في شرحه على (الإرشاد) ـ بعد نقله شطرا من كلام المولى
الأردبيلي ، رفع الله درجتهما ـ ما صورته : (وعندي أن ما ذكره منظور فيه ، مخالف
للقواعد المقررة العدليّة ، وليس المقام محل تفصيل ، [لكن] أقول إجمالا : إن أحد
الجاهلين إن صلّى في الوقت والآخر في غير الوقت فلا يخلو ، إمّا أن يستحقا العقاب
، أو لم يستحقا أصلا ، أو يستحقّ أحدهما دون الآخر.
وعلى الأول :
يثبت المطلوب.
وعلى الثاني :
يلزم خروج الواجب عن كونه واجبا.
وعلى الثالث :
يلزم خلاف العدل ، لاستوائهما في الحركات الاختيارية الموجبة للمدح والذمّ ،
وإنّما حصل مصادفة الوقت وعدمه ، بضرب من الاتفاق
__________________
من غير أن يكون لأحد منهما فيه ضرب من التعمّد أو السعي ، وتجويز مدخليّة
الاتّفاق الخارج عن المقدور في استحقاق المدح والذمّ ممّا هدم بنيانه البرهان ،
وعليه إطباق العدلية في كلّ زمان) انتهى كلامه رحمهالله.
أقول : فيه :
أوّلا : بعد
اختيار الشقّ الثالث الذي هو محلّ النزاع ـ أنّه متى قام الدليل من خارج على
معذوريّة الجاهل وصحّة عبادته إذا طابقت الواقع ، فهذا الاستبعاد العقلي لا يسمع
وإن اشتهر عنهم ترجيح الدليل العقلي على النقلي ، إلّا إن ما نحن فيه ليس منه.
وثانيا : أن
المدح والذمّ على هذه الحركات الاختيارية إن كان من الله سبحانه فاستواؤهما فيه
ممنوع ؛ إذ إيجاب الحركات للمدح والذمّ ليس لذاتها ، وإنّما هو لموافقة الأمر
وعدمها تعمدا ، أو اتّفاقا. وحينئذ ، فمقتضى ما قلنا في قيام الدليل على صحّة
عبادة الجاهل إذا صادفت الوقت ، فإنّه تصح عبادة من صادفت صلاته الوقت ، وتكون
حركاته موجبة للمدح بخلاف من لم تصادف ، فإنها تكون موجبة للذّم لعدم المصادفة.
وثالثا : أنّ
الغرض من التكليف الإتيان بما كلّف به حسب الأمر ، ومن صادفت صلاته الوقت يصدق
عليه أنه أتى بالمأمور به ، وامتثال الأمر يقتضي الإجزاء.
ورابعا : أنّه
منقوض بما وقع الاتّفاق عليه نصّا وفتوى من صحّة صلاة الجاهل بوجوب التقصير تماما
، مع كونها غير مطابقة للواقع ، فإذا كان الجهل عذرا مع عدم المطابقة ؛ فبالأولى أن
يكون عذرا معها.
__________________
وستأتيك
الأدلّة الدالة على ما يطابق هذه الصورة أيضا من المعذوريّة ، وإن لم يطابق
الواقع.
وخامسا : بأنه
معارض بما صرّح به الأصحاب ، كما نقله عنهم شيخنا الشهيد الثاني في (شرح الألفيّة)
، من أن من صلّى في النجاسة جاهلا بها وإن صحّت صلاته ظاهرا ، إلّا إنها
غير صحيحة ولا مقبولة في الواقع ؛ لفقد شرطها واقعا ، فإن للقائل أن يقول فيه أيضا
: إنه يلزم خلاف العدل ؛ لاستواء حركات هذا المصلّي مع حركات من اتّفق كون صلاته
في طاهر واقعا في المدح والذمّ ، فكيف تقبل إحداهما دون الاخرى؟ إذ كلّ منهما قد
بنى على ظاهر الطهارة في نظره وإنما جعلت الطهارة الواقعية في أحدهما دون الآخر
بضرب من الاتّفاق ، والفرض أن الاتفاق الخارج لا مدخل له. ومثل ذلك أيضا فيمن
توضّأ بماء نجس واقعا مع كونه طاهرا في الظاهر ؛ فإن بطلان طهارته وعبادته دون من
توضّأ بماء طاهر ؛ ظاهرا وواقعا ، مع اشتراكهما فيما ذكر من الحركات والسكنات ،
وكون الطهارة والنجاسة واقعا بنوع من الاتّفاق دون التعمّد خلاف العدل أيضا ،
والأصحاب لا يقولون به.
وسادسها : أنه
لو كان الاتّفاق الخارج لا مدخل له في الأحكام الشرعية على الإطلاق كما زعمه ، لما
أجزأ صوم آخر يوم من شعبان عن أول شهر رمضان ، متى ظهر كونه منه بعد ذلك ، ويسقط
القضاء عمّن أفطر يوما من شهر رمضان لعدم الرؤية ، ثم ظهرت الرؤية في البلاد
المتقاربة. أو مطلقا على الخلاف في ذلك ، ولوجب الحدّ على من زنى بامرأة ثم ظهر
أنها زوجته ؛ ولصحّ شراء من اشترى شيئا من يد أحد المسلمين ثم ظهر كونه غصبا ؛
ولوجب
__________________
القضاء والكفارة على من أفطر يوم الثلاثين من شهر رمضان ثم ظهر كونه من
شوّال ؛ ولوجب القود أو الدية على من قتل شخصا عدوانا ، ثم ظهر كونه ممّن له قتله
قودا ، ولوجوب العوض على من غصب مالا وتصرف فيه ، ثم ظهر كونه له ، إلى غير ذلك من
المواضع التي يقف عليها المتتبع. واللوازم كلها باطلة اتفاقا.
فإن قيل : إن
الأحكام المعترض بها هنا إنما صير إليها ؛ لقيام الدليل.
قلنا : قيام
الدليل عليها دليل على أن الاتّفاق واقعا ممّا له مدخل في الذمّ والمدح ، والصحّة
والفساد ، كما هو المدّعى. ولا يخفى أن الأحكام الشرعيّة لا تنطبق على الأدلّة
العقليّة ، بل قد توافقها تارة وتخالفها اخرى.
هذا ، وأمّا
الأخبار المتعلقة بهذه المسألة فهي بحسب الظاهر مختلفة ، فممّا يدلّ على المشهور
ما رواه في (الكافي) عن يونس عن بعض أصحابه قال :
سئل أبو الحسن عليهالسلام : هل يسع الناس ترك المسألة مما يحتاجون إليه؟ فقال : «لا» .
وما رواه في
الصحيح عن زرارة ومحمد بن مسلم وبريد بن معاوية قالوا : قال أبو عبد الله عليهالسلام لحمران بن أعين في شيء سأله : «إنّما يهلك الناس
لأنهم لا يسألون» .
وما رواه فيه
أيضا عن مؤمن الطاق عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «لا يسع الناس ، حتى يسألوا ويتفقهوا ويعرفوا
إمامهم ، ويسعهم أن يأخذوا بما يقول وإن كان تقية» .
__________________
وفي حديث آخر
عن الصادق عليهالسلام قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : أفّ لرجل
لا يفرّغ نفسه في كلّ جمعة لأمر دينه ، فيتعاهده ويسأل عن دينه» .
أقول :
والتقريب فيها ظاهر ، فإنه لو كان الجاهل معذورا مطلقا ، لصحّ جميع ما أتى به من
العبادات ، وحينئذ فيسعه ترك المسألة ، والأخبار مصرّحة بخلافه ، فإن المراد
بقولهم عليهمالسلام : لا يسع الناس ترك المسألة وترك التفقه أنه لا تصحّ
أعمالهم إلّا إذا كانت عن معرفة وتفقه وسؤال وفحص.
ومما يدلّ على
ذلك أيضا الأخبار المستفيضة بالأمر بطلب العلم والتفقه في الدين. ومن تلك الأخبار
ما رواه في (الكافي) عن الصادق عليهالسلام قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : طلب العلم
فريضة على كل مسلم » .
وما رواه فيه
أيضا عنه عليهالسلام قال : «وددت أن أصحابي ضربت رءوسهم بالسياط حتى
يتفقهوا» .
وبمضمونهما
أخبار عديدة لا يسع المقام الإتيان عليها.
وجه التقريب
فيها أن وجوب تحصيل العلم ليس إلّا العمل به ، كما استفاضت به الأخبار ، ومنها ما
رواه في الكتاب المذكور عن علي بن الحسين عليهالسلام قال : «مكتوب في الإنجيل : لا تطلبوا علم ما لا
تعلمون ولمّا تعملوا بما علمتم ؛ فإن العلم إذا لم يعمل به لم يزدد صاحبه إلّا
كفرا ، ولم يزدد من الله إلّا بعدا» .
وحينئذ ، فلو
كان الجاهل معذورا مطلقا وعباداته وأعماله صحيحة لذلك ، لم يكن للأمر بطلب العلم
والتفقه في الدين معنى بالكلية.
__________________
وممّا يدلّ على
القول الآخر أخبار مستفيضة متفرّقة في جزئيات الأحكام ، فمن ذلك ما ورد في أحكام
الحجّ ، ومنه خبر عبد الصمد بن بشير المتقدّم ، وهو ـ كما عرفت ـ صريح في المدّعى على أبلغ وجه.
ومنه صحيحة
زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «من لبس ثوبا لا ينبغي (له) لبسه وهو محرم ،
ففعل ذلك ناسيا أو ساهيا أو جاهلا فلا شيء عليه ، ومن فعله متعمدا فعليه دم» .
ومرسلة جميل عن
بعض أصحابنا عن أحدهما عليهماالسلام في رجل نسي أن يحرم أو جهل ، وقد شهد المناسك كلّها ،
وطاف وسعى ، قال : «تجزيه
نيّته ، وإذا كان قد نوى ذلك فقد تمّ حجّه وإن لم يهل» الخبر.
وفي باب الحجّ
من الأخبار الدالّة على معذوريّة الجاهل ، ما يضيق نطاق البيان عن الإتيان عليه.
ومن ذلك ما ورد
في الصيام ، كصحيحة الحلبيّ عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : قلت : رجل صام في السفر فقال : «إن كان بلغه أن رسول
الله صلىاللهعليهوآله نهى عن ذلك ، فعليه
القضاء ، وإن لم يكن بلغه فلا شيء عليه» .
وبمضمونها
بالنسبة إلى الصيام في السفر بجهالة صحيحة العيص ، وصحيحة
__________________
أبي بصير ، وصحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله البصري .
ومن ذلك ما ورد
في النكاح في العدّة ، كصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي إبراهيم عليهالسلام قال : سألته عن الرجل يتزوّج المرأة في عدّتها بجهالة ،
أهي ممّن لا تحلّ له أبدا؟ قال : «لا ، أمّا إذا كان بجهالة فليتزوّجها بعد ما
تنقضي عدّتها ، وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك». فقلت : بأي الجهالتين [يعذر] ؛ بجهالته أن
يعلم أن ذلك محرّم عليه ، أم بجهالته أنها في عدّة؟ فقال : «إحدى الجهالتين أهون
عليه من الاخرى ، الجهالة
بأن الله حرم ذلك عليه ، وذلك بأنه لا يقدر على الاحتياط معها». فقلت : فهو في الاخرى معذور؟ قال : «نعم ، إذا انقضت
عدّتها فهو معذور في أن يتزوجها» .
وبمضمونه
روايات عديدة.
ومن ذلك ما ورد
في الحدود ، كموثّقة عبد الله بن بكير عن أبي عبد الله عليهالسلام قال في رجل شرب خمرا على عهد أبي بكر وعمر واعتذر بجهله
، فسألا أمير المؤمنين عليهالسلام عن حكمه فأمر عليهالسلام من يدور به على مجالس المهاجرين والأنصار ، وقال : «من كان تلا عليه آية
التحريم فليشهد عليه» . ففعلوا به ذلك ، فلم يشهد عليه أحد ، فخلّى عنه.
__________________
ومرسلة الحذّاء
قال : قال أبو جعفر عليهالسلام : «لو
وجدت رجلا كان من العجم أقرّ بجملة الإسلام لم يأته شيء من التفسير زنى أو سرق أو
شرب خمرا لم أقم عليه الحد إذا جهله ، إلّا أن تقوم عليه البينة
أنه قد أقرّ بذلك وعرفه» .
وبمضمون ذلك في
باب الحدود روايات عديدة في سقوط الحدّ عمّن أتى ما يوجبه جهلا.
ومن ذلك ما ورد
في الصلاة في السفر تماما كصحيحة زرارة ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر
عليهالسلام قالا : قلنا : فمن صلّى في السفر أربعا أيعيد أم لا؟
قال : «إن كان
قرئت عليه آية التقصير وفسّرت له أعاد ، وإن لم يكن قرئت عليه ولم يعلمها فلا
إعادة عليه» .
ورواية منصور
بن حازم عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : سمعته يقول : «إذا أتيت بلدة فأزمعت المقام عشرة أيام فأتم
الصلاة ، فإن تركه رجل جاهل فليس عليه إعادة» .
وروى الصدوق رحمهالله في كتاب (التوحيد) بسنده إلى عبد الأعلى بن أعين قال : سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عمّن لا يعرف شيئا ، هل عليه شيء؟ قال : «لا» .
وروى في (الفقيه)
و (التوحيد) في الصحيح عن
أبي عبد الله عليهالسلام قال : قال
__________________
رسول الله صلىاللهعليهوآله : «رفع
عن أمّتي تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه ، وما لا يطيقون ، وما لا
يعلمون ، وما اضطرّوا إليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكر في الوسوسة في الخلق ما
لم ينطقوا بشفة».
إلى غير ذلك من
الأخبار المتفرّقة في جزئيات المسائل.
وممّا يؤيد ذلك
أيضا ويعضده ما دلّ من الأخبار على أنه ما أخذ الله على الجهّال أن يتعلّموا حتّى
أخذ على العلماء أن يعلّموا. رواه في (الكافي) .
وقوله عليهالسلام : «الناس
في سعة ما لم يعلموا» .
وقوله عليهالسلام : «ما
حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع
عنهم» .
وقوله : «إن الله يحتج على
العباد بما آتاهم وعرفهم» .
أقول : ويمكن
الجمع بين هذه الأخبار المختلفة في هذا المضمار بأن يقال : إنّ الجاهل يطلق تارة
على غير العالم بالحكم ـ وإن كان شاكّا أو ظانّا ـ ويطلق تارة على الغافل عن الحكم
بالكلّيّة. والمفهوم من الأخبار أن الجاهل بالمعنى الأوّل غير معذور ، بل الواجب
عليه الفحص والتفتيش والسؤال. ومع تعذّر الوقوف على الحكم ، ففرضه
التوقّف عن الحكم ، والوقوف على ساحل الاحتياط في العمل ، وأن الحكم بالنسبة إليه
من الشبهات المشار إليها في قولهم : «حلال بيّن وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك. فمن
وقف عند الشبهات نجا من الهلكات» .
__________________
وعلى هذا الفرد
تحمل الأخبار الدالّة على وجوب التفقّه والسؤال والعلم.
وممّا يدلّ على
رجوع الجاهل بهذا المعنى إلى الاحتياط مع تعذّر العلم ، صحيحة عبد الرحمن بن
الحجاج قال : سألت أبا الحسن عليهالسلام عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان ؛ الجزاء عليهما ، أم
على كل واحد منهما؟ قال : «لا
، بل عليهما أن يجزي كلّ واحد منهما عن
الصّيد». قلت : إن بعض
أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه. فقال عليهالسلام : «إذا
اصبتم بمثل ذلك فلم تدروا ، فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه فتعلموا» .
فإن ظاهر الخبر
أن السائل عالم بوجوب الجزاء في الجملة ، لكنه متردّد بين كونهما عليهما معا جزاء
واحد يشتركان فيه ، أو يكون على كلّ واحد جزاء بانفراده ، فأمره عليهالسلام بالاحتياط في مثله مع عدم إمكان العلم.
ومثله أيضا
حسنة يزيد الكناسي قال : سألت أبا جعفر عليهالسلام عن امرأة تزوّجت في عدّتها ، قال : «إن كانت تزوّجت في
عدّة طلاق لزوجها عليها الرجعة ، فإنّ عليها الرجم».
إلى أن قال :
قلت : أرأيت إن كان ذلك منها بجهالة؟ قال : فقال : «ما من امرأة اليوم من نساء المسلمين إلّا وهي
تعلم أن عليها عدّة في طلاق أو موت ولقد كنّ نساء
الجاهلية يعرفن ذلك». قلت : فإن كانت تعلم أن عليها عدّة ولا تدري كم هي؟
__________________
قال : فقال : «إذا
علمت أن عليها عدّة لزمتها الحجة ، فتسأل حتّى تعلم » .
وأمّا الجاهل بالمعنى
الثاني فلا ريب في معذوريّته ؛ لأن تكليف الغافل الذاهل ممّا منعت منه الأدلة
العقليّة وساعدتها الأدلة النقليّة ، ويشير إلى ذلك قوله عليهالسلام في صحيحة عبد الرحمن المتقدّمة في التزويج في
العدّة وذلك بأنه : «لا
يقدر على الاحتياط معها» يعني : أنه مع جهله أن الله حرم عليه التزويج في العدّة ، لا يقدر على
الاحتياط ، لعدم تصوّر الحكم بالكلّيّة بخلاف الظانّ والشاكّ ؛ فإنه يقدر على ذلك
لو تعذّر عليه العلم.
وعلى هذا تحمل
الأخبار الأخيرة ، وربما جمع بينها كما ذكره بعض الأصحاب : بأن الأخبار
الاول إنّما دلّت على وجوب الطلب ، ولا كلام فيه. وهذا لا يستلزم بطلان عبادة
الجاهل مطلقا ، وعدم معذوريّته وتأثّمه بفعل ما هو محرّم وترك ما هو واجب. واحتمل
آخرون أيضا في وجه الجمع بينهما حمل الأخبار الأخيرة على صورة عدم إمكان العلم ،
فوجب الحكم بالمعذوريّة لذلك ، وإلّا لزم التكليف بما لا يطاق.
__________________
__________________
وفي هذين
الوجهين نظر ظاهر لا يخفى على الخبير الماهر .
أمّا الأول
منهما ، فلما عرفت سابقا من بيان وجه التقريب في ذيل تلك الأخبار.
وأمّا الثاني ،
فلأنه لو اجري في الجاهل بمعنييه المتقدّمين للزم الحكم بالمعذوريّة فيهما ، مع
أنك قد عرفت دلالة الأخبار على الأمر بالاحتياط ، مع تعذّر السؤال في الجاهل
بالمعنى الأوّل كما تضمّنه صحيحتا عبد الرحمن ، والكناسي المتقدّمتان.
وبالجملة ،
فالأظهر في وجه الجمع هو الأوّل ؛ فإن الأخبار بقضّها وقضيضها
__________________
__________________
وطويلها وعريضها إنّما تنطبق عليه ، وإليه يشير كلام المحدّث الأمين
الأسترابادي رحمهالله في كتاب (الفوائد المدنية) حيث قال : (الفائدة الثانية
: أنه في كلامهم وقع إطلاق الجاهل على غير القاطع بالحكم ـ سواء كان شاكّا أو
ظانّا ـ والجاهل بهذا المعنى يجب عليه التوقّف. ووقع إطلاقه على الغافل الذاهل
ذهنه عن تصوّر المسألة. والجاهل بالمعنى الأخير لا يجب عليه الاحتياط ، وإلّا للزم
تكليف الغافل) انتهى.
إذا عرفت هذا
فالمفهوم من كلام المولى الأردبيلي قدسسره هنا هو معذوريّة الجاهل فيما يطابق فعله الواقع ، بمعنى
أن يأتي بالمأمور به على وجهه واقعا وإن كان عن جهل ، ومن كلام المحدّث السيّد
نعمة الله ـ طاب ثراه ـ هو المعذوريّة وإن لم يطابق ، بمعنى : أن يخلّ ببعض
الواجبات ، أو يرتكب بعض المنهيات جهلا.
وهذا هو
المفهوم من الأخبار ؛ فإنها قد تضمّنت صحّة صلاة من أخلّ بالجهر والإخفات جهلا ،
ومن تمّم في موضع القصر أو قصّر في موضع التمام كذلك ، ومن ترك الإحرام في الحجّ ،
ونحو ذلك.
فإن قلت : إن
المفهوم من كلام السيّد نعمة الله رحمهالله الحكم بصحّة صلاة العوامّ ، بمجرّد كونها مأخوذة من
الآباء والامّهات ، وإن اشتملت على ترك شيء من الواجبات ، وحينئذ فإذا قام العذر
للجاهل في أمثال هذا المحال ، لزم سقوط التكليف ؛ إذ متى قام العذر للعامي بمجرّد
جهله ، وصحّت صلاته كصلاة الفقيه العالم بجميع واجباتها وشروطها وأحكامها ، ووسعه البقاء على
جهله ، فما الغرض من أمر الشارع بهذه الأحكام ، والفصل فيها بين الحلال
والحرام ،
__________________
وإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، والحثّ والزجر على التعلّم والتفقّه ،
والفحص والسؤال؟ وإلى من تتوجه هذه الخطابات إذا وسع الجاهل البقاء على جهله ،
وصحّ ما يأتي به موافقا أو مخالفا؟ وفي هذا من الشناعة ما لا يلتزمه محصّل.
وأخبار لا يسع
الناس البقاء على الجهالة ، وحديث تفسير قوله تعالى (فَلِلّهِ الْحُجَّةُ
الْبالِغَةُ) ، وغيرها صريحة في ردّه مع أنه قد ورد في حسنة زرارة عنه عليهالسلام حين رأى من يصلّي ، ولم يحسن ركوعه ولا سجوده أنه قال :
«نقر كنقر
الغراب ، لئن مات هذا وهكذا صلاته ليموتن على غير ديني» .
وقد استفاض
أيضا عنهم عليهمالسلام : «ليس
منّا من استخفّ بصلاته» .
وفي بعضها : «لا ينال شفاعتنا من
استخف بصلاته» .
وهي بإطلاقها
شاملة للعالم والجاهل.
قلت : القول
الفصل والمذهب الجزل في هذا المجال ، أن يقال : الظاهر أن الحكم في ذلك يختلف
باختلاف أحوال الناس في انسهم بالأحكام ، والتمييز بين الحلال والحرام وعدمه ،
وقوة عقولهم وأفهامهم وعدمها ، ولكلّ تكليف يناسب
__________________
حاله ، ويرجع ذلك بالآخرة إلى الجاهل بمعنييه المتقدّمين في وذلك ؛ فإن
المعلوم أن سكّان الصحارى والرساتيق ليسوا في الانس بالأحكام والشرائع كسكّان المدن
والأمصار المشتملة على العلماء والوعّاظ ، والجمعات والجماعات ، والمدارس ، والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر ، ونحو ذلك ؛ ولهذا نهى الشارع عن سكنى تلك ، وندب إلى
سكنى هذه ؛ لأنه بمجرد ذلك يحصل التأدّب بالآداب الشرعيّة ، والتخلّق بالأخلاق المرضيّة ، والاطّلاع
على الأحكام النبوية ، بمداخلة أبناء النوع ومعاشرتهم ، بل مشاهدتهم ورؤيتهم كما
لا يخفى على من تأمّل ذلك. وحينئذ فالعامي من سكّان الصحارى ، مثلا إذا أخذ
العبادة من آبائه وتلقاها من أسلافه على أيّ وجه كان ، معتقدا أنها هي العبادة
المأمور بها من الشارع ، ولم يعلم زيادة على ذلك ، فالظاهر صحّتها.
أمّا أوّلا ،
فلأنه جاهل بما سوى ذلك جهلا ساذجا ، وتوجه الخطاب إلى مثله ـ كما قدّمناه ـ ممتنع
عقلا ونقلا.
وأمّا ثانيا ،
فلأنه قد ورد في الأخبار بالنسبة إلى جاهلي الإمامة من المخالفين بأنهم ممّن يرجى لهم الفوز
بالنجاة في الآخرة ، فإذا كان ذلك حال المخالفين بالنسبة إلى الإمامة التي هي من
اصول الدين ، فكيف بعوامّ مذهبنا في الفروع؟ وكذا القول بالنسبة إلى قوّة العقل
والفهم وعدمهما ؛ فإنّ خطاب كاملي العقول وثاقبي الأذهان ، غير خطاب ناقصيهما ؛
فقد ورد عنهم عليهمالسلام : «إنّما
يداقّ الله العباد على ما وهبهم
من العقول» .
__________________
وأنه سبحانه «يحتج على العباد بما
آتاهم وعرفهم» .
وأن الإيمان
درجات وأنه لا ينبغي لصاحب الدرجة العالية أن يبرأ من صاحب الدرجة السافلة ولا
يوبخه عليها .
وحينئذ ،
فتكليف ضعفة العقول كالنساء والبلّه والصبيان ليس كتكليف كاملي العقول وثاقبي
الأذهان.
وممّا يؤكد ذلك
أيضا أنه قد ورد في أخبارنا أن المستضعفين من المخالفين ممّن يرجى لهم الفوز
بالجنة ، وإن دلّت الآية الشريفة على أنهم من المرجئين لأمر الله إلّا إن ظاهر
جملة من الأخبار أن عاقبة أمرهم إلى الجنّة ، بل قال شيخنا المجلسي ـ طاب ثراه ـ على ما نقله عنه
السيد نعمة الله رحمهالله في بعض فوائده ـ : (إن المستضعفين والكفّار ممّن لم تقم
الحجّة عليه من عوامهم ، ومن بعد عن بلاد الإسلام ممّن يرجى له النجاة) .
ثم قال السيد رحمهالله ـ بعد نقل ذلك عنه ـ : (وهذا القول ، وإن لم يوافقه
عليه الأكثر ؛ إلّا إنه غير بعيد ممن تتبع الأخبار) انتهى.
وحينئذ ، فلو
أوقع أحد هؤلاء العبادة التي أخذها من آبائه وأسلافه معتقدا أن هذا هو أقصى ما
كلّف به وما هو مطلوب منه ، فالظاهر أيضا صحتها بالتقريب المتقدّم. وأمّا بالنسبة
إلى من عدا من ذكرنا ، فالظاهر أن جهلهم ليس كجهل اولئك حتّى يكون موجبا للعذر لهم
ومصحّحا لعباداتهم ، فإنّه لا أقلّ من أن يكونوا بالاطّلاع على من يصحبونه من
المصلّين الآتين بالصلاة على وجهها ،
__________________
وبجملة حدودها ، ويشاهدونه من الملازمين على ذلك في جميع الأوقات والحالات
، سيّما في المساجد والجماعات يحصل لهم الظنّ الغالب ـ إن تنزّلنا عن دعوى العلم ـ
بأن هذه هي الصلاة المأمور بها من الشارع ، وأن ما خالفها ونقص عنها إن لم يكن
معلوم البطلان ، فلا أقلّ [من] أن يكون مظنونا أو مشكوكا فيه. وحينئذ ، فيرجع إلى الجهل بالمعنى الآخر
الموجب للفحص والسؤال والتعلّم واستحقاق العقوبة وبطلان العمل مع الإخلال بذلك ،
كما يدلّ عليه قوله عليهالسلام في حسنة الكناسي : «إذا علمت أن عليها العدّة لزمتها الحجّة ،
فتسأل حتى تعلم » .
وكذا صحيحة عبد
الرحمن بن الحجاج الواردة في جزاء الصيد ، كما أوضحناه في ذيلها.
وربما يستأنس
لذلك أيضا بقول الصادق عليهالسلام في آخر حديث عبد الصمد المتقدّم : «واصنع كما يصنع الناس» ، والظاهر حمل الأخبار الأخيرة ـ أعني :
__________________
ما روي عنه من قوله : «نقر
كنقر الغراب» الحديث ، وقوله عليهالسلام : «ليس
منا من استخف بصلاته» ، ونحوهما ـ على هذا الفرد وإن كان ظاهر الإطلاق العموم.
وأمّا قوله قدسسره : (وأمّا الصلاة المأمور بها شرعا ما كان تتفق إلّا من
آحاد العلماء) ـ انتهى ـ فإن أراد بالنسبة إلى ما يطلب فيها من
الإقبال بالقلب ، والخشوع ، والخضوع ، فمسلّم. ولكنه ليس من محلّ البحث في شيء ،
وإن أراد بالنسبة إلى استكمال الواجبات وخلوها من المبطلات فهو ممنوع أشدّ المنع ،
وأي إشكال يوجب تعذّر الإتيان بها كذلك بعد معرفة أحكامها المسطورة في كتب الفقهاء
اجتهادا أو تقليدا ، حتى يتعذّر الإتيان بها إلّا من آحاد العلماء؟
وأمّا حديث
حمّاد ، فالظاهر أنه ليس على ما فهمه قدسسره ؛ إذ الظاهر من قول الصادق عليهالسلام : «أتحسن
أن تصلي؟» ، وتوبيخه له
لمّا صلّى بين يديه ؛ إنّما هو بالنسبة إلى الآداب المستحبّة والحدود المندوبة ،
كما هو المحكي في صلاته عليهالسلام ، تعليما لحمّاد ، فإن مرمى الحكاية إنّما هو بالنسبة
إلى الآداب والمستحبّات ، كما لا يخفى على من راجع الرواية وإن كان قد سبقه إلى هذا
الوهم المولى
__________________
الأردبيلي ـ طاب ثراه ـ في (شرح الإرشاد) في مبحث الجاهل
بالقصر والإتمام ؛ حيث عرض في المقام بحديث حمّاد وهو لا يخلو عن غفلة.
تتمة تشتمل على
فوائد مهمة.
الفائدة
الاولى : الاحتياط إنما يكون عند الجهل بالحكم الشرعي
ينبغي أن يعلم
أن ما ذكرنا من وجوب الاحتياط على الجاهل بعد فقد العلم إنما هو بالنسبة إلى
جاهل الحكم الشرعي ؛ إذ لا يخفى أن الجهل إمّا أن يتعلّق بالحكم الشرعيّ ، أو
بجزئيّاته التي هي أفراد موضوعه.
والحكم في
الأول : الفحص والسؤال ، ومع عدم العلم الوقوف على جادة الاحتياط ، كما تقدّم ،
لما ورد في الآيات والروايات من وجوب البناء في الأحكام الشرعية على اليقين ،
كقوله سبحانه (أَلَمْ يُؤْخَذْ
عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ) . مع قوله سبحانه (إِنَّ الظَّنَّ لا
يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) .
ومن الأخبار ما
رواه في (الكافي) عن زرارة قال : سألت أبا جعفر عليهالسلام : ما حق الله على العباد؟ فقال : «أن يقولوا ما يعلمون
، ويقفوا عند ما لا يعلمون» .
ومثلها ما رواه
في الموثق عن هشام بن الحكم .
والأخبار بوجوب
الفحص والسؤال في الأحكام الشرعية ، ومع عدم حصول
__________________
العلم ، فالوقوف على ساحل التوقف مستفيضة .
نعم ، يأتي على
مذهب القائلين بحجّية البراءة الأصليّة عدم تحتّم الاحتياط مع فقد العلم وإن
استحبّ ، بل العمل بموجب البراءة الأصليّة. وسيأتي في بعض درر هذا الكتاب إن شاء الله
تعالى حكم البراءة الأصليّة وبيان عدم حجيّتها.
وأمّا الحكم في
الثاني ، فليس مثل الأوّل في وجوب الفحص والسؤال ، بل كثيرا ما ورد في الأخبار في
بعض أفراده النهي عن السؤال ، وهو غير منضبط ولا مبنيّ على قاعدة كالأوّل ، فربما
اعتبر الشارع البناء فيه على الأصل تارة ، كالبناء على الطهارة ، لما
ورد أن «كلّ شيء
طاهر ، حتى تعلم أنه قذر» .
والأصل هنا
بمعنى الراجح الذي هو أحد معانيه ، وربما اعتبر تارة البناء على الظاهر ، كما في
الحكم بحلّيّة الأشياء وإن علم فيها الحرام لا بعينه لما ورد أن «كلّ شيء فيه حلال
وحرام فهو لك حلال ، حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه» ، فإن مرجع الحكم بالحلّيّة إلى عدم العلم بكونه محرما
وإن كان كذلك في نفس الأمر.
وربما اعتبر
البناء على الجهل ، كالتزويج في العدّة مع العلم بالتحريم وجهل العدة ، فإنه يجوز
له التزويج ، ولا يجب عليه الفحص والسؤال ، ولا الاحتياط ؛ وإن كان
__________________
يقدر عليه ، كما أشارت إليه صحيحة عبد الرحمن المتقدمة .
أمّا الجهل
بأصل التحريم ، فهو من قبيل الجهل بالحكم الشرعيّ ، وهو عذر ؛ لكونه جاهلا ساذجا كما
تقدّم بيانه. وربما اعتبر البناء على الظن ، كما في القبلة ، لما ورد من أنه مع
جهلها يتحرى جهده ، وربما اعتبر البناء على اليقين والقطع كمن
فاتته صلاة من الخمس لا يعلمها بعينها ، فإنه يجب عليه الإتيان بالجميع ، ولو
بالترديد فيما اتّفق عدده منها.
وبالجملة ،
فالحكم في متعلّقات الحكم الشرعي غير منضبط على وجه واحد ، بل يجب الرجوع في كلّ
فرد فرد إلى الأخبار الواردة فيه ، وما تنصّ به في ذلك ، وأمّا فيه نفسه فلم يعتبر
الشارع فيه إلّا البناء على اليقين والعلم ، وإلّا فالتوقّف والاحتياط.
نعم ، مع الجهل
الساذج يحصل العذر ، كما عرفت.
الفائدة
الثانية : بعض صور الاحتياط
قد عرفت أن
الحكم بالنسبة إلى الجاهل ـ بمعنى الظانّ أو الشاك في الحكم الشرعي عند تعذّر
العلم والسؤال ـ هو الاحتياط ، وهو واجب بالنسبة إليه ، متى كان الأمر كذلك ؛ إذ
الظاهر أنه حكم الله سبحانه في حقّه كما أن حكم العالم العمل بما أوجبه علمه. وله
صور عديدة لا بأس بالإشارة إلى شيء منها ، وعسى أن نفرد لتحقيقه على حياله درة من
درر هذا الكتاب بتوفيق الملك الوهاب :
__________________
الصورة
الاولى :
فمن ذلك ما إذا
تردد الفعل بين الوجوب والحرمة ؛ إمّا لورود خبر يفيد ذلك ، أو لتعارض الأخبار ؛
أو ، لطروء حالة على المكلف توجب تغيير الحكم من أحدهما إلى الآخر
في نظره لجهله بالحكم ، وعدم تمكّنه من السؤال.
والظاهر من بعض
الأخبار أن الاحتياط هنا في الترك ، ففي موثقة ابن بكير ، وزرارة ، في اناس من أصحابنا
حجّوا بامرأة معهم ، فقدموا إلى الوقت ، وهي لا تصلّي ، فجهلوا أن مثلها ينبغي أن
يحرم ، فمضوا بها كما هي ، حتّى قدموا مكّة وهي طامث حلال ، فسألوا الناس؟ فقالوا
: تخرج إلى بعض المواقيت فتحرم منه ، وكانت إذا فعلت لم تدرك الحجّ ، فسألوا أبا
جعفر عليهالسلام فقال : «تحرم من مكانها قد علم الله نيّتها» .
وجه الدلالة
أنها تركت واجبا في الواقع ، لاحتمال حرمته عندها ؛ بسبب الحيض ، والإمام عليهالسلام قرّرها على ذلك ولم ينكر عليها ، بل استحسن ذلك بقوله :
__________________
__________________
«قد
علم الله نيّتها». ومثلها رواية معاوية بن عمار .
الصورة
الثانية :
ومن ذلك ما لو
تردد الفعل بين الحرمة والكراهة والاحتياط بالترك ، وهو ظاهر.
الصورة
الثالثة :
ومن ذلك ما لو
علم اشتغال الذمة بعبادة ، لكنها مترددة بين فردين ، فإن أصل العبادة معلوم الاستقرار في
الذمّة ، لكن الكيفية مجهولة في ضمن هذين الفردين مثلا ، فالخلاص في الإتيان بفردي
ما شكّ فيه ، كما في المتردّد في وجوب الجمعة ، والشاكّ فيه ، فإنه يعلم اشتغال
ذمّته في هذا الوقت بفرض ، لكنّه متردّد بين كونه جمعة أو ظهرا ، فالواجب الجمع
بينهما ؛ للخروج من العهدة بذلك يقينا.
ومثله من نوى
الإقامة في موضع ، ثم بدا له في الخروج قبل الصلاة أو بعدها ، ولم يعلم ما هو حكم
الله في حقّه ، ولم يتمكّن من السؤال ، فإن الواجب عليه ـ بمقتضى ما قلنا ـ الصلاة
تماما وقصرا. وهكذا جميع ما هو من هذا الباب بلا إشكال ولا ارتياب.
وما استشكله
بعض المتأخرين ـ من العمل بالاحتياط مطلقا ، أو فيما إذا استلزم ارتكاب
محرم وإن لم يعرف بعينه ، كالجمع بين الجمعة والظهر ، والقصر والإتمام حين لم يعلم
أيّهما الواجبة وأيّهما المحرّمة قياسا على ما إذا أوجب الرجل على نفسه وطء
امرأته بنذر وشبهه ، واشتبهت بأجنبيّة ، فإنه لا يجوز له
__________________
الوطء في الصورة المذكورة ـ غفلة فاحشة عن ملاحظة الأخبار الآمرة بالاحتياط
في أمثال هذه الموارد. فإن قوله في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج : «إذا اصبتم مثل هذا
فلم تدروا ، فعليكم بالاحتياط» .
وقوله صلىاللهعليهوآله : «دع
ما يريبك إلى ما لا يريبك» .
وقوله : «ومن اتّقى الشبهات
نجا من الهلكات» .
وقول أمير
المؤمنين عليهالسلام لكميل : «يا كميل ، أخوك دينك ، فاحتط لدينك بما شئت» .
وقولهم عليهمالسلام : «ليس
بناكب عن الصراط من سلك طريق الاحتياط» ، [شاملة] لما نحن فيه البتة. وكيف يمكن الحكم بأنه مكلّف بأداء
ما وجب عليه على وجه التعيين والحال كذلك ، وما هو إلّا تكليف بما لا يطاق؟
على أن نظائر
المسألة المذكورة ممّا انعقد عليه الاتفاق فتوى ورواية ، كمن فاتته صلاة لا يعلمها
بعينها ، والصلاة في النجاسة في الثوبين المشتبهين ،
__________________
وصلاة المتحيّر في جهة القبلة إلى أربع جهات . وما توهّمه
ذلك القائل من دوران الأمر هنا بين محرّم وواجب ليس في محلّه ، فإنّا لا نسلّم
التحريم في هذه الصورة ؛ إنّما التحريم عند العلم بوجوب أحد الفردين معيّنا ، فإنه
يحرم عليه الفرد الآخر لا مطلقا كما توهّمه. فتحريم الظهر ، إنّما هو بالنسبة إلى
من علم أن فرضه الجمعة ، وتحريم الصلاة في النجاسة ، إنّما هو بالنسبة إلى من علم
النجس بعينه.
ويؤيّد ذلك ما
ذكرنا من الصور التي ورد بها الشرع كذلك ، مضافا إلى تعذّر الإتيان بالفعل بدون ما
ذكرنا ، ودخوله تحت أخبار الاحتياط التي نقلنا شاهد على صحّة ما ادّعينا. أمّا
المثال الذي قاس عليه ، فليس كذلك ؛ لأن الشارع قد حرم وطء الأجنبيّة مطلقا ؛
معلومة ، أو مشتبهة ؛ فإنّه قد أعطى المشتبه بالمحرّم حكم المحرّم ، والمشتبه
بالنجس حكم النجس في موارد من الأحكام ، كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى في
بعض درر هذا الكتاب .
فمن المواضع
المتحتّم فيها الاحتياط أيضا ما لو وقع نكاح لم يجزم بصحّته ولا فساده ؛ إمّا
لتعارض الأدلّة فيه وعدم إمكان الترجيح ، أو لجهل بحكم المسألة كما لو عقدت البكر
البالغ الرشيد بنفسها بدون إذن الولي ، أو وليّها بدون إذنها ، مع اختلاف الأخبار والأقوال في ذلك ، وعدم
الترجيح ؛ فإنه يجب على الزوج ترك الاستمتاع بها ، وترك التزويج بخامسة وباختها ،
ويجب على الزوجة ألّا تمكّنه من نفسها ، وألّا تتزوّج بغيره ، ويجب على الزوج إمّا
طلاقها وإمّا العقد عليها بإذن وليّها في الفرض الأوّل أو بإذنها في الثاني ،
وإمّا الإنفاق عليها إن
__________________
رضيت بمجرد الاتّفاق. وإن طلبت أحد الأمرين من إذن وليّها أو الطلاق وجب
عليه.
قال المحدث
الأمين الأسترآبادي قدسسره في كتاب (الفوائد المدنيّة) ؛ (ولو امتنع
من ذلك وجب حبسه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومن باب الدفاع).
قال : (ولو هرب
فرارا من أحد الأمرين ولم يتمكن منه ، فلقائل أن يقول :
يستفاد من قوله
صلىاللهعليهوآله : «لا
ضرر ولا ضرار في الإسلام» ، ومن الحديث الشريف ، المتضمّن لجواز أن يطلق الحاكم
زوجة مفقود الخبر بعد الاستخبار عنه ، من باب مفهوم الموافقة
المسمى بالقياس الجلي ، والقياس بطريق الأولى جواز أن يطلقها) انتهى.
ولا يخفى ما
فيه ، سيّما على مذاقه ومذهبه.
الفائدة
الثالثة : المراد من الجاهل المعذور
نقل بعض السادة
الأتقياء المعاصرين ـ أدام الله توفيقه ـ عن شيخنا المعاصر ـ أدام الله
تعالى ظله وفضله ـ كلاما في هذا المقام ، وذكر ـ سلّمه الله ـ أنه أجازه روايته ،
وحاصله : (أن الذي يتحقّق من عذر الجاهل ، إنّما هو الجاهل المطلق
__________________
الذي ليس له علم تفصيليّ ولا إجماليّ بذلك الفعل المكلّف به ، لأن التكليف
بالمجهول المطلق قبيح عقلا. وأمّا الذي له طريق ولو على سبيل الإجمال كالمكلّف ،
فإنه يعلم أن الله حلّل وحرّم وأوجب على وجه كلّيّ ، فهو غير معذور لإمكان طلب ذلك
الفعل المعلوم على وجه الإجمال ، فيمكن طلب ما حرّم الله سبحانه وحلّله وأوجبه حتى
يتأدّى إلى ذلك الواجب عليه) انتهى كلامه ، سلّمه الله تعالى.
ولا يخفى عليك
ما فيه بعد الاطلاع على ما قدمناه ، فإن جملة من أخبار معذوريّة الجاهل فيما قدّمنا
ذكره ، وما طوينا نشره قد دلّت على معذوريّة الجاهل في جملة من الجزئيّات ، من حيث
عدم علمه بحكم ذلك الجزئي ، وإن كان يعلم أن الله قد أحلّ وحرّم وأوجب مطلقا. ولو
كان معذوريّة الجاهل مخصوصة بعدم هذا العلم الإجمالي كما ذكره ـ دام ظلّه ـ لتعذّر
وجودها بعد زمان التكليف حتّى في زمن النبيّ صلىاللهعليهوآله ، فضلا عن زمننا هذا ؛ إذ لا يخفى أن هذا العلم
الإجماليّ ضروريّ لكلّ مكلّف ، ولا أظن أحدا يلتزمه ، ومن البعيد ، بل الظاهر
البعد بما لا نهاية عليه ، ولا مزيد ؛ إذ هؤلاء الذين خرجت الأخبار بمعذوريّتهم
فيما قدّمنا من الأحكام ـ سيّما في باب الحج ـ ليسوا ممّن لهم معرفة بذلك الحكم الإجمالي
بالكلّية البتّة.
وبالجملة ،
فإني لا أعرف وجه صحّة لهذا الكلام يوجب الركون إليه في هذا المقام ، والظاهر أن
شيخنا ـ أيّده الله تعالى ـ تبع فيه بعض الفضلاء من غير إعطاء التأمّل حقّه في
صحّته وفساده ، فإنّه قال ـ بعد ما ذكر ما قدّمنا نقله عنه ـ : (ويؤيّد
__________________
ما ذكرناه ما ذكره الشيخ محمّد ابن الشيخ حسن ابن الشيخ زين الدين ـ رحمهمالله تعالى ـ حيث قال في (شرح الاستبصار) : (وقد اتّفق
للمتأخّرين نوع إجمال في الفرق بين جاهل الأصل وجاهل الحكم. والذي
يستفاد من الخبر الذي ذكره الشيخ في النكاح أن ما يمكن معه الاحتياط لا يعذر صاحبه
. لكن الحال في هذا لا يخلو من إجمال ، فإن الاحتياط لمن لا يعلم التحريم في
خصوص ما ذكر في الرواية ممكن لمن علم إجمالا بأن الله تعالى قد حلّل وحرّم ؛
فالسؤال عن الحلال والحرام قبل الفعل على سبيل الاحتياط ممكن.
غاية الأمر أن
الاحتياط يتفاوت بالقرب والبعد.
ولعلّ هذا هو
المراد في الرواية ، فيراد : ما يمكن فيه الاحتياط على وجه قريب ، ولو لا هذا لم
يكن أحد من الجهّال معذورا ، بعد أن علم أنه مكلّف. والحال أن الرواية تفيد خلاف
ذلك ، وكلام بعض الأصحاب الذين رأينا كلامهم ، تارة يعطي عدم عذر
الجاهل بالحكم الشرعيّ كالمكان المغصوب إذا علم غصبه وجهل حكمه ،
وتارة يعطي ما يخالف ذلك ، كما [يعلمه] من تتبع كلامهم .
والخبران اللذان
ذكرناهما [ربّما] يفيدان عذر الجاهل بنوع آخر) . انتهى كلامه زيد مقامه.
ثم قال شيخنا
المشار إليه ـ بعد نقل هذا الكلام ـ : (وبالجملة ، فالمعذور هو
__________________
الجاهل المطلق لا مطلق الجاهل). انتهى.
ثم العجب من
شيخنا ـ زيد عمره وفخره ـ أنه استند فيما قدّمنا نقله عنه إلى كلام هذا الفاضل ،
مع أن ما رجّحه هذا الفاضل أخصّ ممّا ذهب إليه هو ـ سلّمه الله تعالى ـ إذ حاصل
كلام الفاضل المذكور بعد الحيرة والتردد في أوّل كلامه : تخصيص المعذوريّة بالجاهل
الذي لا يمكنه الاحتياط على وجه قريب وإن علم أنه مكلّف بالوجوب والحرمة ونحوهما ،
وإلّا لو خصّ المعذوريّة بالجاهل الغير العالم بأنه مكلّف بتلك الأشياء ، لم يعذر
أحد من الجهّال بعد العلم بأنه مكلّف. والرواية بخلافه. هذا خلاصة كلام ذلك الفاضل
قدسسره ، وبه يتّضح لك وجه الغفلة في كلام شيخنا ، أيّده الله
تعالى بتأييده.
أقول : وكلام
هذا الفاضل قدسسره يحوم حول ما قدّمنا تحقيقه ، ولكنه لم يبصر طريقه ؛
فلذا بقي في قالب الالتباس عليه وعلى جملة من الناس. والظاهر أن مراد الشيخ قدسسره ـ فيما نقله عنه في النكاح وإن لم يحضرني الآن صورة
عبارته ـ بالجهل الذي يمكن معه الاحتياط ، ولا يعذر صاحبه هو الجهل بالمعنى الأوّل
الذي هو عبارة عن تصوّر الحكم مع الشكّ فيه ، أو الظنّ وعدم إمكان العلم دون
المعنى الثاني ، وهو الخالي عن تصوّر الحكم بالكلّيّة فإنه ـ كما عرفت ـ لا يتصوّر
الاحتياط في حقّه بالمرة. وهذا التفصيل من الشيخ ، المقتضي لإيجاب الاحتياط في
صورة الجهل بأحد معنييه موافق لما ذهب إليه من التثليث في الأحكام ،
كما ذكره في كتاب (العدة) ، وإلّا فمن يقول بالتثنية يعمل في مثل هذه الصورة على
البراءة الأصلية ، ويكون الاحتياط عنده مستحبّا لا واجبا.
__________________
الفائدة
الرابعة : ماهيّة تكليف الجاهل
نقل الشهيدان ـ
رفع الله درجتيهما ـ في كتاب (الذكرى) و (الروض) عن السيد الرضي أنه سأل أخاه السيد المرتضى ـ رضياللهعنهما ـ فقال : (إن الإجماع واقع على أن من صلّى صلاة لا يعلم
أحكامها فهي غير مجزية ، والجهل بأعداد الركعات جهل بأحكامها فلا تكون مجزية) ،
فأجاب المرتضى رضياللهعنه بجواز تغيّر الحكم الشرعي ؛ بسبب الجهل وإن كان الجاهل غير معذور .
قال شيخنا
الشهيد الثاني في (الروض) ـ بعد نقل ذلك ـ : (وحاصل هذا الجواب يرجع
إلى النصّ الدالّ على عذره ، والقول به متعيّن) انتهى.
وقيل : إن
الظاهر من جواب السيد قدسسره أن مراده أن الأحكام الشرعية تختلف باختلاف الأشخاص
والأحوال ، فيجوز أن يكون حكم الجاهل بالقصر وجوب الإتمام عليه وإن كان مقصّرا غير
معذور بترك التعلّم. وحينئذ ، فهو آت بالمأمور به في تلك الحال فيكون مجزيا) .
وقيل : (إنه
يمكن أن يكون مقصود السيد رحمهالله أنه قد يختلف الحكم من الشارع بالنسبة إلى الجاهل
المطلق ، وإلى الجاهل العالم في الجملة كمن عرف أن للصلاة أحكاما يجب معرفتها ولم
يعرفها ، فتصحّ تلك الصلاة من الأوّل منهما دون الثانى ، وأن دعوى الإجماع على
الإطلاق غير واضح) .
__________________
أقول
: قد نقل العلّامة
ـ طاب ثراه ـ في (المختلف) هذا الجواب عن السيد رضياللهعنه ، في (أجوبة المسائل الرسيّة) بوجه أوضح ، حيث قال في
الكتاب المشار إليه ـ بعد تقدّم ذكر السيد رضياللهعنه ـ ما صورته : (قال في (المسائل الرسيّة) ـ حيث قال له
السائل : (ما الوجه فيما تفتي به الطائفة من سقوط فرض القضاء عمّن صلى من
المقصّرين صلاة متمّم بعد خروج الوقت ، إذا كان جاهلا بالحكم في ذلك ، مع علمنا
بأن الجهل بأعداد الركعات لا يصحّ معه العلم بتفصيل أحكامها ووجوهها ؛ إذ من
البعيد أن يعلم التفصيل من جهل الجملة التي هي كالأصل ، والإجماع على أن من صلّى
صلاة لا يعلم أحكامها ، فهي غير مجزية ، وما لا يجزي من الصلاة يجب قضاؤه؟ فكيف
يجوز الفتيا بسقوط القضاء عمّن صلى صلاة لا تجزيه) ؟
فأجاب بأن
الجهل وإن لم يعذر صاحبه ، بل هو مذموم جاز أن يتغيّر معه الحكم الشرعي ، ويكون
حكم العالم بخلاف حكم الجاهل ) انتهى.
أقول
: ما أوضحه هنا
من الجواب ـ وهو الذي عليه المعوّل ـ كاشف عن نقاب الإجمال في الجواب الأوّل ، ويرجع إلى
الاحتمال الثاني من الاحتمالات الثلاثة المتقدّمة. ويظهر منه حينئذ أن مذهب السيّد
قدسسره أنّ تكليف الجاهل من حيث كونه جاهلا في جميع الموارد
ليس كتكليف العالم ، وأن الحكم مع الجهل ليس كالحكم مع العلم.
وفيه حينئذ ردّ
للإجماع المدّعى في المقام ، وهو مطابق لما ادعيناه ، وموافق لما قدّمناه ، ولا
خصوصية له بالصورة المذكورة ، كما فهمه شيخنا الشهيد الثاني
__________________
فيما قدمنا من كلامه في (الروض) ، ليوافق ما ذهب إليه قدسسره ممّا قدّمنا نقله عنه آنفا.
لكن ينبغي
تقييده كما عرفت بأحد ذينك الفردين ، وهو الجاهل بمعنى : الذاهل الغافل عن تصور
الحكم بالكلّية. إلّا إن فيه أن هذا الفرد معذور في جهله عندنا ؛ لعدم توجّه
الخطاب إليه ، والسيد رحمهالله قد صرّح بأنه غير معذور في جهله الحكم ، بمعنى : أنه
مذموم ومعاقب على جهله ، إلّا إن عبادته صحيحة.
اللهم إلّا أن
يقال بوجوب تحصيل العلم على الجاهل مطلقا بنوعيه. وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله
تعالى في المقام.
وما ذكره
العلّامة قدسسره في كلام السيّد رحمهالله في الجواب المذكور من أنه يدلّ بمفهومه على الإعادة في
الوقت من حيث إن سؤال السائل تضمّن تخصيص سقوط فرض القضاء بخروج الوقت ، وهو يدلّ
بمفهومه على الإعادة في الوقت ، والسيد رحمهالله لم يذكره ، فظنّي أنه بعيد ، فإن الظاهر أن مطمح نظر السيد رحمهالله إنّما هو إلى الجواب عن أصل الإشكال من غير نظر إلى
الخصوصية المذكورة ، كما يدلّ عليه جوابه الأوّل عن سؤال أخيه ؛ فإنه لا مجال
لإجراء هذا الاحتمال فيه.
الفائدة
الخامسة : وجوب تعليم الجاهل على العالم ابتداء
هل الواجب على
العالم تعليم الجاهل ابتداء من غير سؤال ، أو بعد السؤال ، أو الواجب على الجاهل
السؤال من العالم ، أولا ؛ أعم من أن يكون عمّا يعلمه في الجملة كما في الجاهل ؛
بمعنى المتصور للحكم المتردّد فيه ، أو عما يجهله مطلقا على وجوب التعلّم عليه ،
لا بالمعنى المتقدم في قسيمه ؛ لأن المفروض كونه
__________________
بمعنى الذاهل الغافل عن الحكم؟ فكيف يتيسّر له السؤال عنه ؛ إذ توجّه النفس
نحو المجهول المطلق ممتنع عقلا ، فيرجع الفرض فيه إلى وجوب التعلّم عليه مطلقا ،
إن علم ذلك؟
لم أقف لأحد من
علمائنا الأعلام على ما يتضمّن تنقيح المقام ، إلّا إذا نتكلّم في ذلك بما أدّى إليه الفهم القاصر
من كلام أهل الذكر عليهمالسلام ، مستعينين بتوفيق الملك العلّام ، فنقول : ما ذكرناه
من الترديد ينحلّ إلى مقامات أربعة :
الأوّل : في
وجوب التعليم على العالم ابتداء. ومقتضى كلام المحدّث السيد نعمة الله قدسسره كما عرفت ذلك ، وبه صرّح أيضا شيخنا الشيخ العلّامة أبو
الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني قدسسره في بعض أجوبته ، حيث سئل : هل يجب على العالم تعليم
الجاهل ابتداء ، أو أنه لا يجب إلّا بشرط السؤال؟ فأجاب قدسسره : (إن الذي يظهر من الآيات والأخبار وجوب التعليم كفاية
، إمّا للسائل المسترشد ، أو للجاهل المعلوم جهله للمرشد ، أمّا لو لم يعلم جهله
به فلا تكليف ، لأصالة البراءة) انتهى.
ولعلّه قدسسره أشار بالآيات إلى مثل قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ) .
وقوله سبحانه (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا
مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ) الآية.
__________________
قال حجّة
الإسلام الطبرسي في كتاب (مجمع البيان) في تفسير الآية الاولى
: (دلّت الآية على وجوب إظهار الحقّ وتحريم كتمانه ، فيدخل فيه بيان الدين ،
والأحكام ، والفتاوى ، والشهادات ، وغير ذلك من الأمور التي يختصّ بها العلماء).
ثم نقل عن
الثعلبي في تفسيره رواية عن علي عليهالسلام قال : «ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلّموا ، حتّى
أخذ على أهل العلم أن يعلّموا» .
وقال في تفسير
الآية الثانية : (وفي هذه الآية دلالة على أن كتمان الحق مع الحاجة إلى إظهاره من
أعظم الكبائر ، وأنّ من كتم شيئا من علوم الدين وفعل مثل فعلهم ، فهو مثلهم في
الجرم ، ويلزمه كما يلزمهم من الوعيد) انتهى.
أقول : ويدلّ
على ذلك من الأخبار ما رواه في (الكافي) عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قرأت في كتاب علي عليهالسلام ، إن الله لم يأخذ
على الجهّال عهدا بطلب العلم ، حتّى أخذ على العلماء عهدا ببذل
العلم للجهّال» .
وما تقدّم من
كلام الأمير عليهالسلام ، المنقول في آخر كلام المحدّث السيّد نعمة الله رحمهالله نقله السيد الرضي رضياللهعنه في كتاب (نهج البلاغة) ، وما ورد من
الأخبار المتضمنة للنهي عن كتمان العلم ، مثل ما رواه الشيخ قدسسره في (الأمالي) عنه صلىاللهعليهوآله ، قال : «أيّما رجل آتاه الله علما فكتمه وهو يعلمه ،
لقي الله عزوجل يوم القيامة ملجما بلجام من نار» .
__________________
لكن ينبغي
تقييد ذلك بما إذا لم يكن ثمّة مانع شرعيّ من تقيّة ونحوها ، لما روى في (الاحتجاج)
عن عبد الله بن سليمان قال : كنت عند أبي جعفر عليهالسلام ، فقال له رجل من أهل البصرة يقال له عثمان الأعمى : إن
الحسن البصريّ يزعم أن الذين يكتمون العلم تؤذي ريح بطونهم من يدخل النار. فقال
أبو جعفر عليهالسلام : «فهلك
إذن مؤمن آل فرعون والله مدحه بذلك! وما زال العلم مكتوما مذ بعث الله رسوله [نوحا]
فليذهب الحسن يمينا وشمالا ، فو الله ، ما يوجد العلم إلّا هاهنا» .
وروي في تفسير الإمام
العسكري عليهالسلام عن أمير المؤمنين عليهالسلام ، قال : «سمعت رسول الله عليهالسلام يقول : من سئل عن
علم فكتمه حيث يجب إظهاره وتزول عنه التقية ، جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار» .
هذا غاية ما
يمكن الاستدلال به في المقام إلّا إن احتمال التخصيص بالسؤال قائم في الجميع كما
يدلّ عليه الخبر الأخير ، بل ربما دلّت على ذلك الأخبار المتقدّمة الدالّة على
وجوب طلب العلم على المكلف والسؤال ، ولا سيما قول الصادق عليهالسلام : «لا
يسع الناس حتى يسألوا ويتفقهوا» .
أو قوله : «لوددت أن أصحابي ضربت
رءوسهم بالسياط ، حتى يتفقّهوا» .
وأمثال ذلك ،
فإنه يدلّ بأصرح دلالة على وجوب السؤال والتعلّم عليهم ابتداء ، ولو كان الواجب
على العالم التعليم ابتداء ، لوسع الجهّال ترك السؤال حتى يأتيه العالم بعلمه ، والأخبار
بخلافه. فالأظهر حينئذ هو تخصيص الأخبار
__________________
المتقدّمة بهذه الأخبار إلّا أن يدّعى دخول تلك في باب الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر ، والظاهر بعده.
الثاني
: وجوب التعليم
بعد السؤال. والظاهر وجوبه لما ذكرنا من الأدلّة ، إلّا مع العذر المانع من ذلك
كما عرفت. ويدلّ عليه أيضا ما ورد عنهم عليهمالسلام في تفسير قوله تعالى (فَسْئَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ) من الأخبار المتعددة ، وقولهم : «على شيعتنا ما ليس
علينا ، أمرهم الله أن يسألونا وليس علينا الجواب ؛ إن شئنا أجبنا ، وإن شئنا
أمسكنا» ، فإن الظاهر
أن إمساكهم ، إنّما هو في مقام العذر من تقيّة ونحوها.
الثالث
: وجوب السؤال
على الجاهل. ولا ريب في وجوبه على الجاهل بالمعنى الأول للأخبار المتقدّمة في
أدلّة القول المشهور آنفا ، وعليه أيضا تحمل الآيات كقوله تعالى (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) ، ونحوها.
الرابع
: وجوب التعلّم
على الجاهل المطلق. ولا ريب في وجوبه على الجاهل متى علم
بالتكليف للأخبار المتكاثرة الدالّة على وجوب طلب العلم والتفقّه ، وأنه فرض على
كلّ مسلم ، وأنه يأثم بالإخلال بذلك ، ولكن لا يستلزم ذلك بطلان ما يأتي به ولو
جهل الحكم في بعض الجزئيّات على الوجه الّذي قدّمناه والتفصيل الّذي حقّقناه.
وينبغي أن يعلم
أن وجوب تحصيل العلم عليه عينا ، إنّما هو فيما يتعلّق به تكليفه ، فعلى هذا يشترك
جميع المكلّفين في وجوب معرفة المعارف الدينيّة والعقائد الحقّة اليقينيّة ،
ومعرفة أحكام الصلاة والصوم ، والوضوء والغسل ،
__________________
وما يبطلها ويصححها ، والطهارة والنجاسة ، والحلال والحرام ، ونحو ذلك ممّا
لا ينفكّ عنه المكلّف غالبا. وينفرد من استطاع الحجّ بوجوب معرفة أحكامه ، ومن ملك
أحد النصب الزكوية ، بوجوب معرفة أحكامها.
وعلى هذا كلّ
من عمل عملا وجب عليه معرفة أحكام ذلك العمل ، ويجب تحصيل العلم كفاية على كافة
المكلفين ، كما حقّق في محله ، والله العالم.
__________________
(٣)
درّة نجفيّة
فيما لو ادّعى ولي الطفل
مالا للطفل على ميّت
وجدت بخط من
أثق به من الفضلاء المعاصرين نقلا من فوائد شيخنا العلّامة أبي الحسن الشيخ سليمان
بن عبد الله البحراني ـ قدّس الله روحه ، ونوّر ضريحه ـ ما صورته : (لو ادّعى وليّ
الطفل على ميّت مالا كفت البيّنة ولم يحتج إلى اليمين ، ووهم بعض المتفقّهة
فأوجبها ، وهو غلط.
أمّا أولا ،
فلأن اليمين على خلاف الأصل ، فيقتصر فيها على مورد النص والفتوى .
وأمّا ثانيا :
فلنصّ الأصحاب على عدم جواز حلف الوكيل والوصي والولي ؛ لأنهم لا يثبتون لأنفسهم
مالا) انتهى كلامه زيد مقامه .
__________________
__________________
وعندي في هذا
الكلام على إطلاقه نظر ، وذلك فإنه إن كان دعوى الوليّ تعلّق بمال انتقل إلى الطفل
من مورّثه في ذمّة ذلك الميت مثلا ، فأراد الوليّ قبضه من تركة ذلك الميت المدّعى
عليه بعد إقامة البينة ، فكلامه قدسسره لا يخلو من وجه ، وإن كانت الدعوى تتعلّق بمال للطفل قد
أدانه الوليّ على الميت ، فهو محلّ نظر ، وما ذكر من الدليل ممنوع :
أمّا
الأول منهما ، ففيه أنّ ما ذكره ـ من أن اليمين على خلاف الأصل ، فيقتصر فيها على مورد
النصّ والفتوى ـ مسلم ، لكن خروج هذا الفرد عن مورد النصّ والفتوى محلّ المنع ؛
فإن النصّ الوارد في هذه المسألة ، هو رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله ، وفيها :
«وإن كان
المطلوب بالحقّ قد مات ، فاقيمت عليه البيّنة فعلى المدّعي اليمين بالله الذي لا
إله إلّا هو لقد مات فلان ، وأنّ حقي
لعليه ؛ فإن حلف وإلّا فلا حقّ له ؛ لأنا لا ندري لعله قد أوفاه
ببيّنة لا نعلم موضعها ، أو بغير بينة قبل الموت ، فمن
ثم صارت عليه اليمين مع البينة ، فإن ادّعى ولا بينة له فلا حق له ؛ لأنّ المدعى
عليه ليس بحي ، ولو كان حيّا لألزم اليمين أو الحق أو يردّ اليمين عليه ، فمن ثم
لم يثبت له عليه حق» .
وظاهر هذه
الكلام وإن أشعر في بادئ الرأي بكون المدّعي هو صاحب الحق ، لكن العلّة المنصوصة
في الخبر ـ و [هي] احتمال الوفاة قبل الموت المشار إليه
__________________
بقوله عليهالسلام : «لأنا
لا ندري» إلى آخره
مؤكدا بقوله : «فمن ثم» ، إلى آخره ـ جارية فيما نحن فيه. والعمل بالعلّة
المنصوصة الّتي جعلت مناطا للحكم ومدارا له في جميع أفرادها ممّا لا ريب فيه ؛
فإنه ليس القصد من العلّة المذكورة إلّا ذلك ، فيتعدّى الحكم إلى سائر أفرادها ،
ويصير دلالتها عليه كدلالة العام على أفراده بخلاف ما إذا كان القصد من العلّة
المذكورة أمرا آخر مثل بيان وجه المصلحة في الفعل ، أو بيان
الداعي إلى الفعل ، أو التقريب إلى الأفهام القاصرة بالنكت الظاهرة ، كسائر العلل
المذكورة في الأخبار.
على أن لقائل
أن يقول : إن ظاهر الرواية لا يأبى الحمل على ما نحن فيه ؛ فإن الحق المدّعى أعم
من أن يكون عبارة عن ذات الدين مثلا أو حق التصرف بالقبض والدفع ، فإن الوليّ له
حق التصرف بذلك ، فعليه أن يحلف أن فلان مات ، وأن حقي ـ أي حق دفعي له ـ باق ،
ليسقط بذلك دعوى القبض عليه ، واحتمال دفع الميت إليه ؛ فإن الغرض من اليمين ـ كما
صرّح به النصّ والعلّة فيها ـ هو ذلك ، بل الظاهر أن هذا هو الأقرب ، كما سيظهر لك
إن شاء الله تعالى.
وأمّا الفتوى ،
فالموجود في عبائر الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ : (لا يستحلف المدّعي مع البيّنة
، إلّا أن تكون الدعوى على ميّت) بهذا اللفظ وما قاربه ، وشموله لما نحن فيه ظاهر
لا سترة عليه. وحينئذ ، فلو كان بيد شخص مال يعمل فيه وكالة أو مضاربة أو ولاية عن
طفل ونحوه ، واتّفق صيرورته كلّا أو بعضا في ذمّة ميّت فإن ذلك الذي كان بيده
المال يحلف بعد إقامة البيّنة على بقاء حقّه في ذمّة ذلك الميت وإن كان عين المال
لآخر.
__________________
وأمّا
الثاني من دليليه ،
ففيه أن عبائر جملة من الأصحاب وإن كانت مجملة في هذا الباب ، ومنه منشأ الشكّ
والارتياب ، إلّا إن المراد منها عند التأمّل والتحقيق بالفكر الصائب الدقيق أنّ
من كان عليه يمين شرعا فلا يتولّاها عنه غيره ؛ ولذا تراهم يمثّلون بمن وكل غيره
على استيفاء ماله من غائب فأقام البينة ، فإنه لا يحلف معها بناء على ما هو
المشهور عندهم من وجوب اليمين ، مع البينة في الدعوى على الغائب ، ويعللونه بأن
اليمين لا تقبل النيابة ، وذلك فإنّ حق اليمين بناء على وجوبها في المسألة إنّما
هو على الموكل. وكذا لو ادّعى وليّ الطفل ميراثا للطفل عند شخص وأقام شاهدا فإنه
لا يحلف معه لكون اليمين ليست عليه ولا تقبل النيابة ، بل توقف الدعوى إلى أن يبلغ
الطفل ، فيحلف مع شاهده.
أمّا لو كان
دعوى الوكيل أو الولي في شيء من الأموال التي في يديهما للموكّل والمولّى عليه يتصرّفان فيها
بالقبض والدفع ، فلا ريب في تعلّق اليمين بهما في كلّ موضع تلزم فيه اليمين من
إنكار أو نكول على القول به ، أو مع الشاهد ، أو مع الشاهدين في الدعوى على ميت ،
أو نحو ذلك ؛ لأدلّة اليمين في [هذه] المواضع الشاملة لما نحن فيه ، ودخولهم فيما قرّره
الأصحاب من الأحكام على المدّعي والمنكر ، وصدق تعريف المدّعي والمنكر في كلام
الأصحاب عليهم.
وحينئذ ، فلو
باع أحد هؤلاء مالا لمن هو قائم مقامه ، فادّعى عليه المشتري دفع الثمن ولم
يكن ثمّة بينة ، فإنه إمّا أن يقال : تعلق اليمين به ، أو رجوعها لمن هو قائم
مقامه ، أو سقوطها. لا سبيل إلى الثاني ؛ لعدم علمه بالكلّيّة ، ولا إلى
__________________
الثالث ؛ لخروجه عن مورد النصوص الدالة على أن البينة على من ادّعى ،
واليمين على من أنكر ؛ فتعين الأول.
وكذا لو ادّعى
أحد هؤلاء مالا من ذلك المال الّذي بيده لغيره وأقام شاهدا ، فإما أن يحلف معه ،
أو ترجع اليمين على من هو قائم مقامه ، أو تسقط. لا سبيل الى الثاني ؛ لما ذكرنا
أولا ، ولا إلى الثالث ؛ لاستلزامه إمّا ذهاب المال أو ثبوت الحق بشاهد واحد خاصّة
؛ فيتعين الأوّل.
وبالجملة ،
فالمراد من إطلاق عبائرهم في هذا المقام هو أنه إذا كانت اليمين الشرعية على شخص
فلا يتولّاها عنه غيره وكيلا كان أو وليّا ، أمّا إذا كانت اليمين على ذلك الوكيل
مثلا لغير ما ذكرنا ، فإنه يحلف وإن كان عين المال لغيره.
على أن ما
ذكرنا من الاحتمال الأوّل في كلامه قدسسره ـ وهو ما إذا كان دعوى الولي تتعلق بمال انتقل إلى
الطفل من مورثه في ذمّة ذلك الميت بغير واسطة ـ لا يخلو أيضا من مناقشة ؛ فإنه من
المحتمل أيضا أن يكون الحكم في هذه الصورة أنه بعد إقامة الوليّ البيّنة يحلف أيضا
على بقاء الحقّ وعدم قبضه له ؛ لاحتمال أن يكون الميّت المدّعى عليه قد وفّاه قبل
موته.
اللهم إلّا أن
يكون انتقال المال إلى الطفل من مورّثه إنما وقع بعد موت من عليه الحق ، فلا يقوم
احتمال الدفع إلى الوليّ حينئذ.
نعم ، يبقى
احتمال الدفع إلى مورّث الطفل ، وهو خارج عن مورد النص ؛ لأن مورده احتمال الدفع
إلى المدّعي الطالب لذلك الحقّ ووجوب القسم عليه لدفع ذلك الاحتمال. فالظاهر في
مثل هذه الصورة ثبوت الحقّ بمجرّد البيّنة.
__________________
ولم أر من أوضح
هذه المسألة حق إيضاحها. نعم ، وجدت بخطّ والدي ـ نوّر الله تعالى مضجعه ـ ما هذه
عبارته : (وجدت في ظهر بعض الكتب القديمة مسألة تتعلّق بالدعوى على الميّت ،
وبعدها جواب مكتوب في آخره أنه منقول من خطّ شيخنا نصير الملّة والدين الشيخ حسين
بن مفلح ـ دام ظله ـ وصورته : مسألة : لو دين شخص مال غائب إمّا
حسبة أو بوكالة ، فمات المديون ، فطالب المدين ورثة المديون بمال الغائب وأقام
بينة ، فهل للورثة طلب اليمين من الوكيل ، أو من الغائب ، أو تسقط اليمين؟
أقول : الذي
يظهر لي في هذه المسألة أنه إن كان الدين حالّا من أصله أو مؤجّلا ، وقد حلّ قبل
الموت ولم يوص به الميت ، فللورثة طلب يمين البقاء من الوكيل ؛ لاحتمال الدفع إليه
، وإن لم يحل إلّا بالموت ، ولم تمض مدّة يمكن فيها الاستيفاء من مال الميّت ، لم
يكن لهم تحليفه ؛ عملا بالظاهر من أن الدين المؤجّل لم تجر العادة بدفعه قبل الأجل
إلّا نادرا ؛ أو لم تمض مدّة بعد الموت يمكن فيها الاستيفاء من ماله. وليس على
الغائب يمين ؛ لعدم علمه بذلك ، وعدم تصور الدفع إليه ؛ فتسقط اليمين ؛ لعدم توجّه
محلها ، وإنما محلّها إذا كان صاحب الدين هو المدّعي لنفسه سواء كان الدين حالّا
من أصله أو حلّ بالموت لاحتمال الدفع إليه ، أو إبرائه منه ، مع عدم وصيّته به.
ومعهما (ففي
سقوط اليمين إشكال ينشأ من عموم النص على وجوب ضم اليمين مع البيّنة هنا ، ولقيام
الاحتمال المقتضي لليمين ، وهو احتمال إبرائه
__________________
وقبضه للمال من مال الميت. ومع وجود المقتضي يجب تحقّق الحكم ، ومن انتفاء الاحتمالات
بالإيصاء والبناء على الظاهر من بقاء الحقّ) .
والمختار سقوط
اليمين بالإيصاء بالدين ، واحتمال الإبراء ضعيف ؛ لأنه لو وقع لكان متقرّبا به
غالبا ، فيبعد من المسلم المتقرّب إلى الله تعالى بالإبراء من الدين ، ثم يدّعيه
بعد ذلك . أمّا المدين من الغائب فلا يحتمل منه الإبراء بمال
غيره ، ولا الدفع إليه قبل حلول الأجل ؛ عملا بالظاهر ، وإن أمكن الدفع إليه
بالحلول قبل الوفاة ، أو أخذه من مال الميّت بعد الوفاة توجّهت اليمين عليه ، فإن
نكل وجب عليه الغرم ؛ لتقصيره ، والله تعالى أعلم بحقائق الامور ) انتهى كلامه
زيد إكرامه ، وبه انتهى ما وجدته من خطّ الوالد ، نوّر الله تعالى مرقده.
أقول : وهو كما
ترى مؤيّد لما قلناه من ثبوت اليمين على المدّعي على الميت وإن كان وليّا أو وكيلا
، إذا كان الدفع قد وقع من جهته للعلّة المذكورة في النص ، إلّا إن النظر
يتوجّه إلى مواضع من هذا الكلام :
أحدها : إيجابه
اليمين باحتمال الاستيفاء من مال الميت بعد موته ، وإن كان قد سبقه إلى هذا جمع من
الأصحاب منهم شيخنا الشهيد الثاني وغيره ، فجعلوا احتمال القبض من مال الميت بعد موته ،
بل احتمال إبراء صاحب الحقّ كما ذكره هنا أيضا موجبا لليمين مع البيّنة.
__________________
وفيه أن العلة
الناصّة على ضمّ اليمين هي احتمال الوفاء كما هو مكرّر في الرواية ، لا احتمال
خلوّ ذمّته ولو بما ذكروه ، وإلّا لجرى هذا الحكم في الحيّ ؛ فإن احتمال القبض
والإبراء قائم فيه ، فيجب بمقتضاه اليمين مع البيّنة في الدعوى على الحيّ ، وهم لا
يقولون به ، ويجري أيضا في دعوى العين على الميّت والحيّ أيضا ؛ لاحتمال
قبض العوض من ماله ، واحتمال الانتقال إليه بناقل شرعيّ ، مع أن هذا القائل لا
يلتزمه ولا يقول به.
وثانيها : قوله
في نفي اليمين عن الغائب : (وإنما محلها إذا كان صاحب الدين هو المدعي لنفسه) ؛
فإنه مناقض لما قدمه في آخر كلامه من الحكم باليمين على الوكيل ؛ لقيام احتمال
الدفع إليه أو قبضه من مال الميّت ، فإنه بمقتضى هذا الخبر الذي ذكره هنا
لا تتوجّه اليمين على الوكيل ، وبمقتضى ما ذكره أولا وآخرا لا وجه للحصر المذكور.
وثالثها : قوله
فيما لو أوصى بالدين : (ففي سقوط اليمين إشكال) ـ إلى آخره ـ فإنه بمقتضى ما
قدّمنا تحقيقه ـ من أنّ العلة الموجبة لليمين في النصّ ، إنما هي احتمال الوفاء
دون احتمال خلوّ ذمّته مطلقا ـ لا مقتضي لليمين في الصورة المذكورة.
وبيان هذا
الإشكال بوجهيه : الظاهر أنه مأخوذ من كلام فخر المحقّقين في (الإيضاح شرح القواعد)
حيث قال المصنّف : (ولو أوصى له حال الموت ، ففي وجوب اليمين [مع البيّنة حينئذ]
إشكال) ، فقال في الشرح : (ينشأ من عموم
__________________
النصّ على وجوب ضم اليمين) ، ثم ساق الكلام كما هنا إلى قوله : (والمختار)
، إلى آخره.
والتحقيق عندي
في هذا المقام ، ما أفاده الوالد ـ نوّر الله تربته ، وأعلى رتبته ـ في بعض فوائده
من التفصيل في ذلك بأنه إن وقع الإيصاء حال الموت بحيث لم تمض مدّة يقوم احتمال
الوفاء فيها ، فلا وجه لليمين ؛ لعدم قيام احتمال الوفاء ، وهو الذي جعل في النصّ
مناطا لليمين. وما ذكروه من الاحتمالات التي جعلوها مناطا ، فلا أثر لها في النص ،
كما علمته .
وإن وقع
الإيصاء قبل الموت بمدّة يقوم فيما احتمال الوفاء ، فالظاهر ضمّ اليمين إلى
البيّنة ؛ للاحتمال المذكور.
وبهذا يشعر
كلام العلّامة فيما قدمنا من عبارته ، حيث إنه جعل الإشكال في وجوب ضمّ اليمين
فيما لو أوصى له حال الموت ، فإنه يعطي أنه لو كانت الوصية قبل حال الموت بمدة
يقوم فيها ذلك الاحتمال ، فلا إشكال في وجوب الضمّ .
وما ربما يتوهم
هنا من سقوط اليمين باعتبار أن محلّها إنما هو دعوى الدين على الميت ، لا دعوى
الوصية ، وما هنا إنما هو من قبيل الثاني لا الأوّل ، فهو توهم ساقط الاعتبار ،
ناقص العيار عند ذوي البصائر والأفكار ؛ فإن دعوى الوصيّة بالدين ترجع إلى دعوى
الدين.
بقي هنا شيء
وهو أنه لو مضت مدة بعد الإيصاء وقبل الموت لكن المدين غائب ولا وكيل له ، أو طفل
ولا ولي له ، أو كان ذلك الوصيّ وليه ، فالظاهر في
__________________
جميع هذه الفروض سقوط اليمين ، وأنه يثبت الحق بمجرّد البينة ؛ لخروج ذلك
عن مورد النصّ الجاري على خلاف الأصل ، فيرجع فيه إلى مقتضى الأصل من عدم اليمين
مع البينة ، إذ مورد النصّ احتمال الوفاء لذلك المدّعي ؛ لتوجّه اليمين
عليه لا مطلقا ، والله العالم.
__________________
(٤)
درّة نجفيّة
في اشتراط بقاء مبدأ
الاشتقاق في صدق المشتق حقيقة
اختلف علماء
الاصول في أنّ صدق المشتق على ذات حقيقة ، هل يشترط فيه بقاء ، مأخذ الاشتقاق أم
لا؟ على أقوال متعدّدة وآراء متفرّقة ، وانجرّ هذا الخلاف إلى جملة من الفروع الفقهية
والمسائل الشرعية.
وتفصيل الكلام
في ذلك ، أنه لا خلاف ولا ريب في أنّ إطلاق المشتقّ على شيء حين قيام المعنى
المشتق منه به ـ كالضارب لمن كان مباشرا للضرب حال الفعل ـ حقيقة ،
كما أنه لا ريب ولا خلاف أيضا في أن إطلاقه على شيء قبل قيام المأخذ به ـ كالضارب
لمن سيصدر عنه الضرب ـ مجاز ، إنما الخلاف فيمن وجد منه المعنى وانقضى ، كالضارب
لمن كان قد ضرب سابقا ، مع كونه الآن غير ضارب ، هل إطلاقه عليه حقيقة أو مجازا؟
والظاهر أنّ
سبب انتشار هذا الخلاف ، هو وجود بعض الموارد ممّا يقطع بتوقّف الصدق فيها حقيقة
على وجود المبدأ وما يحذو حذوه ، كالبارد والحار ، والهابط والصاعد ،
والساكن والمتحرك ، والحلو والحامض ، والأبيض والأحمر ،
__________________
والمملوك و [الحر] ، والنائم واليقظان ، ونحوها ، ومواضع أخرى ممّا يقطع
فيها بالصدق حقيقة مع عدمه ، كالمخبر والمتكلّم ونحوهما ، فإنّه لو اعتبر وجود
المبدأ في الصدق ؛ لما صدق على أحد بالكلّيّة فإنه لا يتصوّر معناهما ، إلّا بحصول
أجزاء المتلفّظ به ، وهي حروف تنقضي أولا فأوّلا ، ولا تجتمع في حين ،
فقبل حصولها لم يتحقّق المعنى ، وبعده قد انقضى.
ومثل مؤمن
وكافر ، فإنه لو اعتبر في صدقهما حقيقة وجود المبدأ لما صدقا على من كان منهما
نائما أو غافلا ؛ للخلوّ عن التصديق والإنكار اللذين هما مناط الإيمان والكفر. مع
أن الإجماع قائم على الصدق في الحالين ، وعورض بنفس المثالين المذكورين فإنه لو لم
يعتبر في صدقهما وجود المبدأ لصدق المؤمن على من كان كافرا الآن باعتبار حصول
الإيمان منه سابقا ، والكافر على من كان بالعكس. إلى غير ذلك من المواضع الّتي بعضها
كالأوّل ، وبعضها كالثاني.
ومن أجل ذلك
اختلف كلامهم ، وتصادمت أفهامهم ، فقيل بعدم الاشتراط مطلقا ؛ وقوفا على ما دلّ
على الصدق مع عدم اعتبار المأخذ ، وزيّنوا ذلك بأدلّة ذكروها لا تكاد تسلم من
المناقشة والإيراد ، وأجابوا عمّا عارضها بأجوبة لا تفي بالمراد ، وإلى هذا ذهب
كثير من المعتزلة ، وأكثر الامامية .
وقيل :
بالاشتراط ؛ أخذا بما دلّ من تلك الأمثلة على ذلك ، وأطالوا في
__________________
الاستدلال والجواب عن المقابل بما لا يخلو كلّ منها عن الإشكال. ونقل هذا
عن الفخريّ في (المحصول) والبيضاوي في (المنهاج) ، وأكثر
الأشاعرة ، وإليه مال من أصحابنا المحدّث الأمين الأسترآبادي قدسسره .
وقيل بالتفصيل بأنه إن كان
المعنى ممّا يمكن بقاؤه ، كالقيام والقعود ، فالمشتقّ مجاز وإن كان ممّا لا يمكن
بقاؤه كالمصادر السيالة الغير القارّة ، نحو التكلّم والأخبار ، فالمشتقّ حقيقة
وإن لم يبق المعنى. وبذلك يندفع الإيراد ببعض تلك الأمثلة ويقلّ
الإشكال في الجملة.
وقيل بالتوقف
في المسألة ؛ لتصادم الأدلّة من الجانبين وتعارض الاحتمالات من
الطرفين ، ونقل ذلك عن الآمديّ والحاجبيّ .
وقيل بتخصيص
محل النزاع بما إذا كان المشتق محكوما به ، كقولك : (زيد مشرك ، أو قاتل ، أو
متكلم) ، فأمّا إذا كان محكوما عليه كقوله تعالى (الزّانِيَةُ
وَالزّانِي فَاجْلِدُوا ..) الآية ، و (السّارِقُ وَالسّارِقَةُ
فَاقْطَعُوا ..) ، و (فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ) ، ونحوه ؛ فإنه حقيقة مطلقا ، سواء كان للحال أو لم
يكن. نقله بعض
__________________
الأفاضل عن كتاب (تمهيد القواعد) .
وقيل
: إنه إن كان
اتّصاف الذات بالمبدإ أكثريا ، بحيث يكون عدم الاتّصاف بالمبدإ مضمحلّا في جنب
الاتّصاف ، ولم يكن الذات معرضا عن المبدأ وراغبا عنه ؛ سواء كان المشتقّ محكوما
عليه أو به ، وسواء طرأ الضد أم لا ، فالإطلاق حقيقة ؛ لأنهم يطلقون المشتقّات على
المعنى المذكور من دون نصب القرينة ، كالكاتب والخيّاط والمتعلّم والمعلّم ونحوها
، ولو كان المحل متّصفا بالضد الوجودي ، كالنوم ونحوه. وبذلك صرح بعض أصحابنا
المحقّقين من متأخري المتأخرين .
وقيل بتخصيص
محل النزاع بما إذا لم يطرأ على المحلّ وصف وجوديّ ينافي الأوّل ؛ إذ لو طرأ من
الوجوديات ما ينافيه أو يضاده ، فإنه يكون مجازا اتفاقا .
وهذا القول
منقول عن الفخريّ في (المحصول) ، نقله عنه في (تمهيد القواعد) . وأنكر شيخنا البهائي
رحمهالله في حواشي (الزبدة) نسبته إلى (المحصول) ، قال : (وإنا
لم نجده فيه) ، وشيخنا العلّامة أبو الحسن قدسسره نقله في حواشي (المدارك) ، عن التبريزي في (التنقيح) اختصار (المحصول)
، قال :
(وربما كان في (المحصول)
إشعار به ؛ ومن ثم نسبه الأسنوي في (التمهيد) ، والشهيد في (تمهيد القواعد) إليه) انتهى.
__________________
وقيل بتخصيص محلّ النزاع بما قصد به الحدوث من المشتقّات لا
الدوام. ونقل ذلك عن المحقق التفتازاني في مقام الجواب عمّن استدلّ
على عدم الاشتراط بصدق المؤمن على النائم والغافل. والمفهوم من عبارته على ما نقله
عنه بعض الأفاضل ، تقييد محلّ النزاع بكلّ من معنيي الحدوث وعدم
طروء الضد الوجوديّ ، حيث قال : (والتحقيق أن النزاع في اسم الفاعل [وهو] الذي
بمعنى الحدوث لا [في مثل] المؤمن والكافر ، والنائم واليقظان ، والحلو والحامض ،
والحر والعبد ، ونحو ذلك مما يعتبر في بعضه الاتّصاف به ، مع عدم طريان المنافي في
بعضه الاتصاف بالفعل البتة) انتهى.
وهو جيد متين ، فإن الظاهر
أنّ المراد بالمشتق الذي لا يشترط في صدقه بقاء مأخذ الاشتقاق هو ما جرى على ما
اشتقّ منه في إرادة الحدوث والتجدّد ، لا ما خرج عنه بأن قصد به الدوام ، أو ذو
كذا أو غير ذلك من المعاني. ألا ترى أن الصفة المشبهة بالفعل ، وأفعل التفضيل ،
واسم الزمان والمكان ، حيث لم تجر عليه في ذلك لم تصدق إلّا على من هو متّصف حالة
الإطلاق ، وإلّا لزم إطلاق حسن الوجه على قبيحه وبالعكس باعتبار ما كان ، وصدق :
زيد أفضل من عمرو ، على من هو أجهل منه الآن وبالعكس ؛ باعتبار ما كان
إطلاقا على جهة الحقيقة؟
__________________
وكذا ما كان من
صيغ اسم الفاعل مسلوكا به مسلك الصفة المشبهة ، ونحوها في عدم إرادة الحدوث ؛ سواء اريد منه الدوام
والاستمرار ، كالخالق والرازق من أسمائه تعالى ، أو بمعنى : ذي كذا مجرّدا كالمرضع
والمؤمن والكافر والحائض ، أو مع الكثرة كاللابن والتامر . ويؤيد ذلك
تعليق عدم الاشتراط على صفة الاشتقاق في قولهم : (المشتقّ لا يشترط في صدقه) إلى آخره.
والتعليق على
الوصف مشعر بالعلية ، فمعناه : أن المشتقّ من حيث هو مشتقّ لا يشترط ، إلى آخره.
وبذلك يندفع الإشكال في كثير من تلك الأمثلة المتقدّمة. لكن المفهوم من كلامهم كما
ستعرف هو جعل موضع البحث المعنى الأعم ، وظاهر أصحابنا الإمامية ـ رضوان الله
عليهم ـ كما قدمنا الإشارة إليه ـ القول بعدم الاشتراط ، لكنهم بين مخصّص لموضع
النزاع كما ذكره العلّامة التفتازاني ، وبين مطلق. ولم أقف على من ذهب منهم إلى
الاشتراط ، سوى المحدث الأمين الأسترآبادي قدسسره فإنه قال في تعليقاته على (المدارك) : (الحقّ عندي أنه
لا بدّ في صدق المعنى الحقيقيّ اللغويّ للمشتقّ على ذات من بقاء الحالة التي
هي مناط حدوث صدقه ؛ سواء كانت الحالة المذكورة قيام مبدأ الاشتقاق ، أو
__________________
ما يحذوه. ودليلي على ذلك :
أولا
: أن من الامور
البيّنة اشتراط ذلك في كثير من الصور كالبارد والحار ، والهابط والصاعد ، والساكن
والمتحرك ، والأبيض والأحمر ، والمملوك والموجود.
ومن القواعد
الظاهرة أن قاعدة الوضع اللغويّ في كلّ صنف من أصناف المشتقّات
واحدة ، ولو لا البناء على القواعد الظاهرة ، لبطلت قواعد كثيرة من فنون العربيّة.
وثانيا
: أن مقتضى
النظر الدقيق ، ومذهب المحققين أن معنى المشتقات ـ كالعالم ـ : أمر بسيط ، ومقتضى
ظاهر النظر ما اشتهر بين اللغويين من أنّ معناه : شيء قام به العلم ، والوجدان
حاكم بأنه ليس هنا معنى بسيط يصلح سوى لا بشرط مأخذ الاشتقاق ، فلا بد في بقاء معناه من
بقائه.
ثم اعلم أنه قد
يصير بعض الألفاظ المشتقة حقيقة عرفية عامة أو خاصة أو مجازا مشهورا عند جماعة ،
أو عاما فيما يعمّ معناها اللغوي ، وما في حكمه عرفا أو شرعا ، ومنه المؤمن والكافر
وأشباههما. ومن الامور العجيبة أنه طال التشاجر بينهم في هذه المسألة من غير فيصل
يقطع دابر المنازعة ، والله الموفق للصواب) انتهى كلامه زيد مقامه.
وأنت خبير بأن
كلامه قدسسره إنما يتّجه على تقدير تقرير محلّ النزاع بما هو أعمّ من
المشتقّات المقصود بها الحدوث أو الدوام ، وأعمّ من أن يطرأ عليها وصف وجودي
ينافي الأول أم لا ؛ فإنه على تقدير التخصيص في الموضعين المذكورين ـ كما هو أحد الأقوال المتقدمة ـ
يلزم أن يكون جميع ما ذكره من
__________________
الأمثلة خارجا عن محلّ البحث ؛ لما عرفت من أن البارد ونحوه مما هو في
سياقه من الأمثلة ـ مع عدم طريان الضدّ ـ لا خلاف في كونه يشترط في صدقه حقيقة
وجود المبدأ مع طريانه ، فهو بناء على ما ذكروه مجاز. وكذا نحو العالم ، والمؤمن والكافر ،
والأبيض والأسود ، فإنه غير مقصود بها الحدوث كما عرفت.
وربما كان
كلامه هذا بناء على عدم تسليم تخصيص محلّ النزاع بما ذكر ؛ إذ من البعيد عدم
إطلاقه عليه.
ويؤيد ما
نقلناه عن شيخنا البهائي رحمهالله من إنكار نسبة شيخنا الشهيد الثاني القول بتخصيص
محلّ النزاع بعدم طريان الضدّ الوجودي إلى (المحصول) ، وأنه غير موجود فيه ، بل
ادّعى أيضا أنه لم يوجد في كلام علماء الاصول ؛ ولهذا صدره في عبارته في (الزبدة)
عند نقله له بلفظ (قيل) . لكن قد عرفت أن شيخنا العلّامة أبا الحسن قدسسره قد نقله عن التبريزي في (تنقيح المحصول).
وبالجملة فإنه
إن جعل موضع النزاع في المسألة هو مطلق المشتقّات ، فالحقّ التوقف ؛
لتصادم الأدلّة من الطرفين ، وقيام التأويل في أدلّة الجانبين ، وإن كان للقول بالاشتراط نوع
رجحان على ما عداه ، وإن خص بما ذكر من المشتقّات المراد بها الحدوث ، مع عدم
طريان الضد الوجودي ، وهو ظاهر شيخنا البهائي في حواشي (الزبدة) ، وإن كان
عبارة المتن تدلّ بظاهرها على عموم محل النزاع ، إلّا إنه حيث نقل في الحواشي
التخصيص الأوّل عن التفتازاني ، والثاني عن (المحصول) ، ولم يردّه ، فظاهره القول
به ، وهو الذي فهمه منه بعض
__________________
الشرّاح ل (الزبدة). فالظاهر حينئذ هو القول بعدم الاشتراط ، كما عليه أصحابنا ، رضوان الله
عليهم.
إذا عرفت ذلك ،
ففروع المسألة في الأحكام الشرعية كثيرة منها الحكم بكراهة الوضوء بماء اسخن
بالشمس وإن زالت السخونة. وبذلك صرح شيخنا الشهيد في (الذكرى) ، والشهيد
الثاني في (الروض ) تمسّكا بعدم اشتراط بقاء مأخذ الاشتقاق في صدق المشتق.
واعترض عليه ، بأن
تفريع بقاء الكراهة بعد البرد على هذا الأصل ليس في محلّه ، فإن عدم اشتراط بقاء المعنى في
المشتقّ إنّما هو إذا لم يكن زواله بطريان وصف وجودي يناقضه ، والضدّ الوجودي حاصل
لطريان البرودة عليه ، وهي وصف وجودي يضادّ الأول ، فلا يبقى الإطلاق الحقيقي قبل
ورود ذلك الوصف بحاله فتنتفي الكراهة حينئذ ، فكيف يفرّع عليه؟
وأجاب المحقق
الشيخ حسن قدسسره في كتاب (المعالم) : ب (أن الاشتقاق هنا من التسخين لا
من السخونة) .
ومراده رحمهالله : أن الطارئ هنا وإن كان وصفا وجوديا لكنه لا يضادّ
الوصف القائم به.
نعم ، لو كان
القائم به السخونة كان الوصف الطارئ ـ وهو البرودة ـ مضادّا له ، كما لا يخفى.
__________________
واورد على هذا
الجواب : (إن القائم بالماء هو التسخّن المطاوع للتسخين ، وأمّا التسخين فهو قائم
بالمسخّن ـ على البناء للفاعل ـ فاذا كان الوصف القائم بالماء ـ وهو التسخن ـ فقد
طرأ عليه الوصف المناقض له ، أعني : التبرّد).
وقيل عليه :
سلمنا أن القائم بالماء هو التسخن المطاوع للتسخين كما ذكره ، لكن ليست الكراهة
منوطة بالتسخين ، حيث إن وحدة الفاعل من جملة شروط التناقض عند الشيخ ومتابعيه ، بل به من
فعل مباشر. والحكم عندهم مرفوض فيه ، والوصف الوجودي الذي يناقضه إنما هو التبريد لا
التبرّد ؛ لأن وحدة الفاعل من جملة شروط التناقض وإن لم يرد به التناقض المنطقي.
ولو كان الحكم منوطا بالتسخن عند الجميع ، كان الإيراد بحسب الظاهر متّجها ، لكنه
يستلزم الحرج في كلّ ماء آنية حصل له سخونة بغير قصد ولم يبرد) انتهى.
أقول : تخصيص
الكراهة بالقصد لم ينقل عن أحد من أصحابنا ، سوى الشيخ في (الخلاف) والذي صرح به
جملة من المتأخرين ومتأخريهم ، هو مجرّد حصول التسخّن ولو من قبل نفسه. فما
ذكره المورد ليس في محله ، ولزوم الحرج ممنوع. على أن المقام مقام كراهة وتنزيه ،
بل صرّح جملة منهم بأنه لو لم يجد غيره فلا كراهة . وتحقيق ذلك
في كتب الفروع. وبذلك يظهر لك عدم صحة تفريع المسألة المذكورة على هذا الأصل.
__________________
ومنها الحكم بكراهة التخلّي تحت الأشجار المثمرة ـ أي الّتي
كان فيها ثمر ـ بعد زوال الثمرة منها ؛ بناء على هذا الأصل ؛
للأخبار الدالة على كراهة الخلا تحت الأشجار المثمرة ؛ فإن الاسم
صادق على ما كانت كذلك بناء على الأصل المذكور. وأكثر الأصحاب حكموا
بالكراهة لذلك.
ويرد عليه :
أولا
: تصريح الأخبار
بأن المراد بالمثمرة : المنهيّ عن ضرب الخلا تحتها ما كانت مثمرة بالفعل ؛
معلّلا في جملة منها بمكان الملائكة الموكلين بحفظ ثمرها ؛ ولهذا تكون
أنيسة ما دام ثمرها فيها.
وثانيا
: أن هذا إنما
يتم بناء على جعل محلّ النزاع هو المعنى الأعمّ. وأمّا إذا قيّد بما قصد به الحدوث
من المشتقات ـ كما هو التحقيق فيما قدمنا بيانه ـ فما هنا ليس منه ؛ لأن الظاهر أن
لفظ (مثمرة) بمعنى : ذات الثمر من (أثمرت النخلة) إذا صار فيها الثمر ك (أتمرت)
إذا صار فيها التمر ، و (أطعمت) إذا صار فيها ما يطعم ، كما هو ظاهر لمن تصفّح كتب
اللغة. فالمشتقّ هنا لم يبق على هيئة اشتقاقه ، ولم يجر مجرى ما اشتقّ منه ، بل
سلك به مسلك الجوامد ، وربما كان في ورود الأخبار هنا دالّة على تخصيص الكراهة
بوجود الثمرة بالفعل ما يؤذن بالقدح في بناء الأحكام الشرعية على الأصل المذكور
وتفريعها عليه.
__________________
ومنها الحكم بتحريم دخول المساجد وقراءة العزائم على الحائض
بعد انقطاع دمها وقبل الغسل على المشهور ؛ لإطلاق الأخبار بمنع الحائض من ذلك ، وصدق الحائض
على هذه بناء على الأصل المذكور.
وقيل بعدم
التحريم ؛ لمنع الصدق بعد الانقطاع لغة وعرفا وإن قلنا بأن المشتق لا يشترط في
صدقه بقاء أصله ، كما في مثال المؤمن والكافر ، والحلو والحامض.
ونفى عنه البعد
في (المدارك) إلّا إنه قرّب المشهور.
أقول
: ظاهر من حكم
بالتحريم هنا ، جعل موضع النزاع هو الأعمّ من المشتق المراد به : الحدوث أو الدوام
كما عرفت في المسألتين المتقدّمتين ، وظاهر من نفى التحريم تخصيص محل النزاع
المشتق المراد منه : الحدوث. ومثال الحائض ليس كذلك ، بل هو من قبيل مثال المؤمن
والكافر ، كما عرفت تحقيقه آنفا.
وحينئذ فالخلاف
في هذا الفرض متفرّع على القولين من عموم محل النزاع في الأصل المذكور أو خصوصه ،
وبذلك يظهر لك ما في الاعتراض على السيّد السند في (المدارك) حيث جعل المشهور أقرب
، بعد أن نفى البعد عن القول الآخر المعلل بعدم الصدق ؛ لانتفائه لغة وعرفا ،
فاعترض عليه بأن ذلك يقتضي جعل القول الآخر أقرب.
ووجه الجواب ما
ذكرنا ، والمحدث الأمين الأسترآبادي قدسسره ـ بناء على ما تقدّم من كلامه المؤذن بفرضه محل النزاع
هو الأعمّ ، واختياره الاشتراط ـ اختار هنا القول المشهور ، مستندا إلى إطلاق
الأخبار وصدق الحائض على هذه ، لكنه فسّر الحائض بذات حدث الحيض
، وكذلك النفساء بذات حدث النفاس ـ قال :
__________________
(وهو المستفاد من الأخبار) لا ذات الدم ، وجعل هذا من باب إرادة ما يعم
المعنى اللغوي وما في حكمه شرعا ، ثم أورد جملة من الأخبار منها قوله عليهالسلام : «إذا
أرادت الحائض أن تغتسل» إلى آخره.
وقوله : «الطامث تغتسل بتسعة
أرطال من ماء» .
وقوله : «الحائض ما بلغ الماء
من شعرها أجزأها» .
«والنفساء
تكفّ عن الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل» .
قال : (وتبادر
معنى من كلامهم ـ صلوات الله عليهم ـ هو العمدة عندنا سواء كان من باب الحقيقة
اللغوية ، أو العرفية ، العامة أو الخاصة ، أو المجاز المشهور عنهم عليهمالسلام) ثم استدلّ أيضا بما يدلّ على النهي عن جماع الحائض بعد
انقطاع الدم وقبل الغسل.
أقول
: ما ذكره قدسسره من أن المراد بالحائض في هذه الأخبار : ذات حدث الحيض
وإن احتمل ، إلّا إن فيه :
أوّلا
: أن لقائل أن يقول أيضا :
إن المراد بها انما هو ذات الدم ، ويكون إطلاقه عليها انما هو باعتبار عدم اشتراط
وجود المبدأ ونحوه في الصدق ، بناء على جعل موضع النزاع المعنى الأعمّ.
وحينئذ ، فتكون
هذه الأخبار دليلا لمن قال في المسألة بذلك. وبها أيضا يعتضد القول المشهور هنا من
تحريم دخول المساجد وقراءة العزائم على من
__________________
انقطع عنها الدم قبل الغسل ؛ لصدق الاسم بدلالة هذه الأخبار. ودعوى التجوّز
بالمعنى الّذي ذهب إليه يدفعه أصالة عدم النقل عن المعنى اللغوي ؛ فإن الحائض لغة
هي ذات دم الحيض .
والظاهر أن
الذي اضطرّه قدسسره إلى ارتكاب هذا المعنى في هذه الأخبار هو ظهور مخالفتها
لما ذهب إليه من اشتراط وجود المبدأ ونحوه في الصدق. كما قدمنا نقله عنه.
وثانيا
: أن الآية وجملة من
الأخبار قد دلا على جواز الجماع بعد انقطاع الدم وقبل الغسل ،
مع أن الأخبار قد استفاضت بتحريم جماع الحائض ، وترتيب التعزير والكفارة على فعله. فلو كان معنى الحائض شرعا ، هي ذات حدث الحيض
كما يدّعيه ، لما تمّ جواز الجماع بعد الانقطاع وقبل الغسل ، والآية وما ذكرنا من
الأخبار على خلافه ، وعليه جل الأصحاب ، بل كلّهم ، حيث لم ينقل الخلاف إلّا
عن الصدوق ـ طاب ثراه ـ وكلامه لا يدلّ عليه إن لم يدلّ على خلافه
.
__________________
وثالثا
: أن الأخبار
أيضا قد دلّت على وصفها بالطهر بعد انقطاع الدم وقبل الغسل ، ومن الظاهر
أن المراد : الطهر من الحيض ، فهو مقابل له ، فلا يجتمع معه فيقال : حائض طاهر.
ويأتي على ما ذكره اتّصافها بهما.
ولو
قيل : إنه لا يدفع
كون الحيض بمعنى الدم لغة وشرعا ، والطهر هو النقاء منه ، وإنما يدّعى أن لفظ
الحائض في الأخبار معناه ذات حدث الحيض مجازا مشهور وحقيقة عرفية أو نحوهما من
المعاني التي ذكرها.
قلنا
: المفهوم من
الأخبار أيضا أن الطهر صفة تقابل الحيض ، كما في قولهم : (إذا كانت المرأة حائضا
فطهرت) ، ونحو ذلك ، فإنه يدلّ على أن الطهر حالة تقابل حالة الحيض ولا تجتمع معها
؛ إذ لا معنى لقوله في هذه العبارة : (فطهرت) ، إلّا (انتقلت) إلى حالة أخرى لا
يصح وصفها فيها بكونها حائضا ، وما هو الّا باعتبار كون الحائض ذات الدم لا ذات
حدث الحيض.
وبالجملة
: فالأظهر عندي
أن بناء الأحكام الشرعيّة على مثل هذه القواعد الغير المنضبطة والأصول الغير
المرتبطة مما لم يقم عليه دليل شرعي.
وقد عرفت تعدّد أقوالهم
، واختلاف آرائهم في أصل القاعدة ـ لاختلاف أفرادها وجزئياتها
التي يراد اندراجها تحتها ـ إلى ما يبلغ ثمانية أقوال ، ولو كان لذلك أصل في
الشريعة مع كثرة ما يتفرع عليه من الأحكام ، لظهر له دليل عنهم عليهمالسلام. فالمرجع حينئذ إلى أخبارهم ـ صلوات الله عليهم ـ في كل
جزئي
__________________
جزئي مما اندرج تحت هذه القاعدة ، فإن وجد عليه دليل من كلامهم ، وإلّا وجب
الوقوف فيه على جادّة الاحتياط عندنا ، أو يرجع إلى البراءة الأصلية عند آخرين.
وقد عرفت من أخبار الجلوس تحت الأشجار المثمرة ما يؤيّد كلامنا في نقض هذه القاعدة
، وعدم جواز بناء الأحكام عليها ، والله العالم.
__________________
(٥)
درّة نجفيّة
لو رأى المصلي في ثوب إمامه
نجاسة غير معفو عنها
وجدت في ظهر
بعض الكتب مسألة مذيّلة بجواب لبعض أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ بما هذه
صورته :
(مسألة : لو رأى المأموم في أثناء الصلاة في ثوب الإمام نجاسة
غير معفوّ عنها ، فهل يجوز له الاقتداء في تلك الحال ، أم لا؟ وهل يجب عليه
إعلامه أم لا؟
ولو لم يجز له
الاقتداء فهل يبني بعد نية الانفراد على ما مضى ، أم يعيد من رأس؟
الجواب الأولى عدم الائتمام ، ويجب الإعلام ، ويجب الانفراد في
الأثناء ، ويبني على قراءة الإمام) انتهى ما وجدته.
أقول
: ما ذكره من
وجوب الإعلام فقد صرح به العلّامة ـ أجزل الله تعالى إكرامه ـ في أجوبة مسائل
السيد السعيد مهنا بن سنان المدني ، واحتجّ على
__________________
ذلك بكونه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وأنت خبير
بما فيه :
أمّا
أوّلا : فلأن الأصل
عدمه ، وأدلّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تشمله ؛ لعدم توجّه الخطاب
للجاهل والذاهل والناسي ، كما ذكروه ، فلا منكر بالنسبة إليهما ولا معروف.
وأمّا
ثانيا : فلأن ما وقفت
عليه من الأخبار المتعلّقة بجزئيّات هذه المسألة يردّ ما ذكروه ، ويبطل
ما حرّروه ، فمن ذلك صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليهالسلام أن الباقر عليهالسلام اغتسل ، وبقيت لمعة من جسده لم يصبها الماء ، فقيل له ،
فقال : «ما عليك
لو سكتّ؟» .
ورواية محمد بن
مسلم عن أحدهما عليهماالسلام قال : سألته عن الرجل يرى في ثوب أخيه دما وهو يصلي ،
قال : «لا يؤذنه
حتى ينصرف» وهي صريحة في المطلوب .
__________________
__________________
ورواية عبد
الله بن بكير المروية في كتاب (قرب الإسناد) قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل أعار رجلا ثوبا يصلّي فيه ، وهو لا يصلّى فيه ،
قال : «لا يعلمه». قلت : فإن أعلمه؟ قال : «يعيد» .
ويستفاد من هذه
الأخبار كراهية الإخبار فضلا عن جوازه ، فكيف بالوجوب الّذي توهّموه؟
فالظاهر أن الوجه في
ذلك هو أنه لما كان بناء الأحكام الشرعيّة ، إنما هو على الظاهر في نظر المكلّف
دون الواقع ونفس الأمر تحقيقا لبناء الشريعة على السهولة والسعة ، وأنّ الفحص عن
أمثال ذلك تضييق لها ، نهوا عليهمالسلام عن الإخبار بذلك والإعلام كما ورد في صحيحة البزنطي قال
: سألته عن الرجل يأتي السوق ، فيشتري جبة خزّ ، لا يدري ذكية هي أم لا ، أيصلي
فيها؟ قال : «نعم ، ليس
عليكم المسألة إن الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم ، وإن الدين أوسع من ذلك» .
وفي حديث بكر
بن حبيب المرويّ في كتاب (المحاسن) قال : سئل أبو عبد الله عليهالسلام عن الجبن ، وأنه يوضع فيه الإنفحّة من الميتة ؟ فقال : «لا يصلح». ثم أرسل بدرهم فقال : «اشتر من رجل مسلم ولا تسأله عن شيء» .
إلى غير ذلك من
الأخبار .
وبالجملة
، فإنه لمّا كان
إناطة الأحكام بالواقع مستلزمة للعسر والحرج ، بل
__________________
تكليف بما لا يطاق ، جعلها الشارع منوطة بعلم المكلّف. وحينئذ ،
فتكلّف المكلّف بنفسه الفحص عن الأشياء ، أو إخبار الغير له بذلك ـ مع أنه غير
مكلف بما هنالك ـ تضييق للدين المبنيّ على السعة ، ومنشؤه الوسواس والجهل بالأحكام
الشرعيّة ، وما بنيت عليه الملّة الحنيفية ، كما أشار إليه في صحيح البزنطيّ.
وأمّا ما ذكره
من عدم الائتمام ، ووجوب الانفراد على المأموم في الأثناء فتحقيق القول فيه مبنيّ
على مسألة اخرى ، وهي أن من صلّى في النجاسة جاهلا بها هل صلاته ـ والحال
كذلك ـ صحيحة مبرئة للذمة واقعا وظاهرا ، أو تكون صحيحة ظاهرا باطلة واقعا ، إلّا
إنه غير مأخوذ ولا مأثوم ؛ لمكان الجهل بالنجاسة؟ ظاهر الأصحاب كما صرح به شيخنا
الشهيد الثاني في (شرح الألفية) ، هو الثاني حيث قال في مسألة ما لو تطهر بالماء
النجس جاهلا بعد أن ذكر أن من مبطلاتها الطهارة بالماء النجس ، سواء علم بالنجاسة
أو لا ، ما صورته :
(حتى لو استمر
به الجهل حتى مات فإن صلاته باطلة ، غايته عدم المؤاخذة عليها ؛
لامتناع تكليف الغافل. هذا هو الذي يقتضيه إطلاق العبارة وكلام الجماعة)
انتهى.
وحينئذ ،
فيتّجه وجوب الانفراد على المأموم ؛ لظهور بطلان صلاة الإمام عنده ، وعدم جواز
الاقتداء بصلاة باطلة وإن كانت صحيحة في نظر الإمام من حيث جهله بالنجاسة. وربما
يحتمل على ذلك وجوب الإعلام أيضا. والأظهر
__________________
عندي هو الأول ؛ لوجوه :
أحدها
: ما أشرنا إليه
آنفا من أن الشارع لم يجعل الحكم بالطهارة والنجاسة أمرا منوطا بالواقع ونفس الأمر
، وإنما رتّبها على الظاهر في نظر المكلّف ، فأوجب عليه الصلاة في الثوب الطاهر ،
أي ما لا يعلم بملاقاة النجاسة له وإن لاقته واقعا ، لا ما لم
تلاقه النجاسة. ولا نقول : إنه طاهر ظاهرا نجس واقعا ، فإن النجس ـ كما عرفت ـ هو
ما علم المكلّف بملاقاة النجاسة له لا ما لاقته النجاسة مطلقا. وقد مضى في
الدرّة الاولى ما يحقق هذا الكلام.
وثانيها
: ما أسلفناه من الأخبار
الدالّة على المنع من الإخبار بالنجاسة وإن كان في أثناء الصلاة ، ولو كان الأمر
كما يدّعونه من كون وصف النجاسة والطهارة ونحوهما ، إنّما هو باعتبار الواقع ونفس
الأمر ، وأن تلبّس المصلّي بالنجاسة جاهلا موجب لبطلان صلاته واقعا ، فكيف يحسن من
الإمام عليهالسلام المنع من الإيذان بها؟ والإخبار في الصلاة كما في حديث
محمد بن مسلم وقبلها ، كما في رواية ابن بكير؟ وهل هو ـ بناء على ما ذكروه ـ إلّا
من قبيل التقرير له على تلك الصلاة الباطلة والمعاونة على الباطل؟ ولا ريب في
بطلانه.
وثالثها
: أنه يلزم ـ على
ما ذكروه ـ عدم الجزم بصحّة شيء من العبادات إلّا نادرا. وبذلك أيضا اعترف
شيخنا الشهيد الثاني في تتمّة الكلام الّذي قدمنا نقله عنه حيث قال على أثره : (ولا
يخفى ما فيه من البلوى ؛ فإن ذلك يكاد يوجب فساد جميع العبادات المشروطة بالطهارة
؛ لكثرة النجاسات في نفس الأمر وإن لم يحكم الشارع ظاهرا بفسادها ، فعلى هذا لا
يستحقّ عليها ثواب الصلاة وإن
__________________
استحقّ أجر الذاكر المطيع بحركاته وسكناته إن لم يتفضّل
الله تعالى بجوده) انتهى.
ولم أر من
تنبّه لما حقّقناه ، ولا حام حول ما ذكرناه ، إلّا المحدّث الفاضل السيد نعمة الله
الجزائري ـ قدس الله روحه ـ في رسالة (التحفة) ، حيث قال ـ بعد أن نقل عن بعض
معاصريه من علماء العراق وجوب عزل السور عن الناس : (ونقل عنهم أن من أعظم أدلّتهم قولهم : إنا
قاطعون بأن في الدنيا نجاسات ، وقاطعون أيضا أن في الناس من لا يجتنبها ، والبعض
الآخر لا يجتنب ذلك البعض ، فإذا باشرنا أحدا من الناس فقد باشرنا مظنون النجاسة أو مقطوعها).
إلى أن قال : (فقلنا
لهم : يا معشر الإخوان ، الّذي يظهر من أخبار الأئمّة الهادين عليهمالسلام ، التسامح في أمر الطهارات ، وأن الطاهر والنجس هو ما
حكم الشارع بطهارته ونجاسته ، لا ما باشرته النجاسة والطهارة ، فالطاهر ليس هو
الواقع في نفس الأمر ، بل هو ما حكم الشارع بطهارته ، وكذا النجس. وليس له واقع سوى
حكم الشارع بطهارة المسلمين ، فصاروا طاهرين).
إلى أن قال : (وبهذا
التحقيق يظهر لك بطلان ما ذهب إليه جماعة من الأصحاب من أن من تطهّر بماء نجس ،
فاستمرّ الجهل به حتّى مات ، فصلاته باطلة . غايته عدم المؤاخذة عليها لامتناع تكليف الغافل. ولو
صح هذا الكلام
__________________
لوجب فساد جميع العبادات المشروطة بالطهارة لكثرة النجاسة في نفس الأمر)
انتهى.
وبذلك يظهر لك
أن الأصحّ هو صحّة صلاة المصلّي في النجاسة جاهلا ظاهرا وواقعا واستحقاق الثواب
عليها ، وبه يتضح أن لا وجه للانفراد في أثناء الصلاة كما ذكره المجيب ، بسبب رؤية
النجاسة.
فإن قيل : هذا
في صورة حمل الإمام على كونه جاهل النجاسة متّجه ، وأمّا مع احتمال العلم بها
ونسيانها فالمشهور بين الأصحاب وجوب الإعادة في الوقت ، وقيل مطلقا ، وعليهما فلا
يتمّ ما ذكرتم ؛ لأن وجوب الإعادة كاشف عن البطلان.
قلنا فيه :
أولا
: أنه قد تقرّر
في كلامهم ، ودلّت عليه الأخبار أيضا حمل
أفعال المسلمين على الصحّة ، وأن الفعل متى احتمل كلّا من الصحّة والبطلان ، فإنه
يحمل على الوجه المصحّح ، حتى يقوم يقين البطلان. وهذا أصل عندهم قد بنوا عليه أحكاما عديدة في
العبادات والمعاملات ، كما لا يخفى على المتدرّب.
وحينئذ ، فنقول
: إنه لمّا ثبت أن الصلاة في النجاسة جهلا صحيحة ظاهرا أو واقعا ، فعلى
تقدير القول ببطلان الصلاة فيها نسيانا ، فرؤية النجاسة المحتملة لكونها مجهولة أو
منسية يقتضي الحمل على الوجه المصحّح ؛ إذ الأصل هو الصحة و «الناس في سعة ما لم
يعلموا» .
__________________
فلا يمكن الحكم
بمجرّد رؤية النجاسة في ثوب المصلي ببطلان صلاته.
وثانيا
: أن مقتضى إطلاق
رواية محمد بن مسلم ـ الدالة على المنع من إعلام المصلي بالنجاسة شمول الجهل
والنسيان. ولعلّ وجهه أن الناسي في حال نسيانه كالجاهل في حال جهله غير مخاطب بما
أخلّ به ، فتكون صلاته صحيحة على التقديرين.
وثالثا
: أن وجوب
الإعادة على القول به لا يستلزم بطلان تلك الصلاة ؛ إذ يجوز أن تكون العلّة فيه
أمرا آخر ، كما دلّت عليه رواية سماعة في الرجل يرى في ثوبه الدم فينسى أن يغسله حتى
يصلي قال : «يعيد
صلاته ؛ كي يهتمّ بالشيء إذا كان في ثوبه ، عقوبة لنسيانه» ؛ ومن ثمّ صرّحوا بتوقّف القضاء على أمر جديد. على أنه
لو كان وجوب الإعادة إنّما هو لبطلان الصلاة لم يتّجه التفصيل بالوقت وخارجه كما
هو المشهور ؛ لأن تبيّن بطلان الصلاة موجب لبقاء صاحبها تحت عهدة الخطاب ، فتجب
عليه الإعادة وقتا وخارجا مع أنهم لا يقولون به ، والأخبار في جملة من الموارد لا
تساعده.
__________________
(٦)
درّة نجفية
في تحقيق معنى البراءة
الأصليّة وبيان أقسامها وحجيتها
اختلفت كلمة
أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ في العمل بالبراءة الأصلية في الأحكام الشرعية ،
فأكثر أصحابنا الاصوليين على العمل بها وجملة أصحابنا المحدثين ، وشطر من الاصوليين على ردّها.
معنى
الأصل اصطلاحا
ولنحقق المقام
بتوفيق الملك العلام ، وبركة أهل الذكر عليهمالسلام بما لم يسبق إليه سابق من علمائنا الأعلام ، فنقول :
اعلم أن الأصل كما ذكره جملة من أصحابنا وغيرهم ، يطلق على معان :
أحدها
: الدليل ، كما
يقال : الأصل في هذا الحكم (الكتاب) والسنّة.
وثانيها
: الراجح.
والمراد منه : ما يترجّح إذا خلّي الشيء ونفسه ، ومنه قولهم :
الأصل في
الإطلاق الحقيقة ، بمعنى أنه إذا خلّي الكلام ونفسه من غير قرينة صارفة فإن
المخاطب يحمله على المعنى الحقيقيّ ؛ لأنه الراجح المتبادر ، ومنه قولهم أيضا :
الأصل في الماء عدم النجاسة.
__________________
وثالثها
: الاستصحاب ،
أي استصحاب الحالة السابقة الّتي كان عليه الشيء قبل حال الاختلاف ومحلّ النزاع ،
ومنه قولهم : تعارض الأصل والظاهر ، كما مثلوا له بأرض الحمّام ، فإن المراد
بالظاهر أي ظنّ النجاسة واحتمالها احتمالا راجحا ، والأصل أي الحالة السابقة.
ويحتمل أيضا حمل الأصل هنا على الحالة الراجحة الّتي هي ـ كما عرفت ـ عبارة عن
ملاحظة الشيء من حيث هو هو. وأمّا قولهم : الأصل في كلّ ممكن عدمه ، فيحتمل الحمل
أيضا على كل من الحالة الراجحة والاستصحاب ، فإنه مبنيّ على أن كلّ ممكن إذا خلّي
ونفسه ترجّح عدمه على وجوده ؛ لأن المتبادر من التخلية ، عدم تأثير المؤثر.
ورابعها
: بمعنى القاعدة
كقولهم : الأصل في البيع اللزوم ، والأصل في تصرّف المسلمين الصحة ، أي
القاعدة الّتي عليها وضع البيع بالذات اللزوم ، وحكم المسلم بالذات صحة تصرفه.
المناقشة
في معاني الأصل
إذا عرفت ذلك
فالمعنى الأوّل من هذه المعاني مما لا خلاف فيه ولا إشكال يعتريه.
__________________
__________________
وكذا الثاني في
غير البراءة الأصلية. وأمّا فيها ، ففيه ما سيتضح لك إن شاء الله من التفصيل.
وأمّا الثالث ،
فهو محلّ الاختلاف في المقام ، ومنتصل سهام النقض والابرام.
وأمّا الرابع ،
فإن كان تلك القاعدة مستفادة من (الكتاب) والسنّة فلا إشكال في صحّة البناء عليها
، والاستناد إليها ، وإلّا فلا.
ومنه قولهم :
الأصل في الأشياء الإباحة ، والأصل في الأشياء الطهارة ، أي القاعدة المستفادة من
النصوص ذلك ، كقولهم : «كل
شيء فيه حلال وحرام ، فهو لك حلال» .
وقولهم : «كل شيء طاهر حتى
تعلم أنه قذر» .
ومنه
: الأصل في تصرف
المسلمين الصحة ؛ لما استفاض من الأخبار بذلك .
والمراد من
الأصل في البراءة الأصليّة يحتمل أن يكون المعنى الثاني ؛ فإن قولهم : الأصل براءة
الذمة ، بمعنى أنه متى لوحظت الذمّة من حيث هي هي مع قطع النظر عن التكليفات ، فإن
الراجح براءتها.
ويحتمل أن يكون
المعنى الثالث ، بمعنى أنه متى لوحظت الحالة السابقة على وقت التكليف أو السابقة
على وقت الخلاف ، فالأصل بقاء تلك الحالة السابقة
__________________
واستصحابها ، حتى يقوم دليل على الخروج عنها ، وهكذا قولهم : الأصل في
الأشياء الإباحة.
ثم إنه يجب أن
يعلم أن الأصل بمعنى النفي والعدم إنّما يصحّ الاستدلال به على نفي الحكم ، لا
إثباته ؛ ولهذا لم يذكر الاصوليّون البراءة الأصلية في مدارك الأحكام الشرعية.
وحينئذ ، فإذا كان أصالة البراءة مستلزمة لشغل الذمّة من جهة اخرى ، لم يجز
الاستدلال بها ، كما إذا علم نجاسة أحد الإناءين أو الثوبين بعينه ثم اشتبه بالآخر
، فإنه لا يصحّ الاستدلال على الطهارة في أحدهما بأن يقال : الأصل عدم نجاسته ، أو
الأصل عدم وجوب الاجتناب عنه ؛ لاستلزامه التكليف بطهارة الآخر وشغل الذمة
بذلك ، فتصير البراءة الأصليّة دليلا على ثبوت حكم شرعيّ.
ومنه أيضا
اشتباه الزوجة بالأجنبية ، والحلال بالمشتبه بالحرام ، ومثل ذلك
يجري أيضا في أصالة عدم تقدّم الحادث ، فإنه إن لم يستلزم شغل الذمّة من جهة اخرى
يصحّ الاستدلال وإلّا فلا ، كما لو استعمل ماء فوجد فيه بعد الاستعمال نجاسة لم
يعلم تقدّمها على وقت الاستعمال أو تأخرها عنه ، فإنه يصحّ أن يقال : الأصل عدم
تقدّم النجاسة.
وبخصوص ذلك
وردت موثقة عمار ، في الفأرة المتفسّخة في الإناء ، وحينئذ فلا
يجب غسل ما لاقى ذلك الماء قبل رؤية النجاسة. وإن استلزم شغل الذمّة امتنع
الاستدلال بها عندهم ، كما إذا استعمل ماء ، ثمّ علم أن ذلك الماء كان
__________________
نجسا فطهّر ، ولم يعلم أن الاستعمال كان قبل التطهير أو بعده ، فلا يصح أن
يقال : الأصل عدم تقدّم التطهير ؛ لاستلزامه وجوب إعادة الغسل.
والوجه في ذلك
أن حجّيّة الأصل في النفي والعدم. إنّما هو من حيث لزوم تكليف الغافل لو لم يكن
كذلك ، ووجوب إعلام المكلف بالتكليف ؛ فلذلك حكموا ببراءة الذمة عند عدم الدليل
على ما سيأتي من التفصيل. وأمّا إثبات الحكم الشرعيّ بالأصل ، فلا دليل عليه ،
ويلزم منه إثبات حكم بلا دليل.
أقسام
البراءة الأصلية
إذا تقرّر ذلك
، فاعلم أن البراءة الأصليّة على قسمين :
أحدهما
: أنها عبارة عن
نفي الوجوب في فعل وجوديّ إلى أن يثبت دليله ، بمعنى أن الأصل عدم الوجوب حتّى
يقوم عليه دليل. وهذا القسم مما لا خلاف في صحة الاستدلال عليه والعمل به ؛ إذ لم
يذهب أحد إلى أن الأصل الوجوب حتّى يثبت عدمه ، لاستلزام ذلك تكليف ما لا يطاق.
وثانيهما
: أنها عبارة عن
نفي التحريم في فعل وجوديّ إلى أن يثبت دليله ، بمعنى أن الأصل الإباحة وعدم
التحريم إلى أن يقوم دليل. وهذه هي البراءة الأصليّة التي وقع النزاع فيها نفيا
وإثباتا ، فجميع العامة ، وأكثر الاصوليّين من أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ على القول بها
والتمسّك في رد الأحكام بها ، حتّى طرحوا في مقابلتها النصوص الضعيفة باصطلاحهم ،
بل الموثّقة ، كما لا يخفى على من طالع كتبهم الاستدلالية و (المدارك) ونحوهما.
__________________
القائلون
بعدم حجيّة البراءة الأصلية
وجملة من
علمائنا المحدّثين وجمع من أصحابنا الاصوليّين على عدم ذلك ، بل أوجبوا
التوقّف والاحتياط. وربما قيل أيضا بأن الأصل التحريم إلى أن يثبت الإباحة ، وهو
ضعيف.
رأي
الشيخ رحمهالله
وممن صرّح
بالتوقّف واختاره الشيخ قدسسره في (العدة) ، ونقله أيضا عن شيخه المفيد حيث قال بعد
تقدم الكلام في المقام : (واختلفوا في الأشياء التي يصح الانتفاع بها ، هل هي
على الحظر أو الإباحة أو الوقف؟
فذهب كثير من
البغداديّين ، وطائفة من أصحابنا الإماميّة ، إلى أنها على الحظر ،
ووافقهم على ذلك جماعة من الفقهاء.
وذهب أكثر
المتكلّمين من البصريّين ، وهو المحكيّ عن أبي الحسن ، وكثير من
الفقهاء أنها على الإباحة ، وهو الذي اختاره سيدنا المرتضى رحمهالله.
وذهب كثير من
الناس إلى أنها على الوقف ، ويجوز كلّ واحد من الأمرين فيه ، وينتظر ورود السمع
بواحد منهما. وهذا المذهب كان ينصره شيخنا أبو عبد الله رحمهالله وهو الذي يقوى في نفسي).
__________________
ثم قال : (والذي
يدلّ على ذلك أنه قد ثبت في المعقول أن الإقدام على ما لا يأمن المكلف كونه قبيحا
مثل الإقدام على ما يعلم قبحه ، ألا ترى أن من أقدم على الإخبار بما لا يعلم صحّة
مخبره جرى في القبح مجرى من أخبر مع علمه بأن مخبره على خلاف ما أخبر به على حدّ واحد؟
وإذا ثبت ذلك ،
وفقدنا الأدلّة على حسن هذه الأشياء ، فينبغي أن نجوّز كونها قبيحة ، وإذا جوّزنا
ذلك فيها قبح الإقدام عليها) . ثم أطال الكلام في النقض والإبرام بدفع ما يرد على
دليله في هذا المقام.
رأي
المحقق رحمهالله
وممّن اختار
ذلك وصرح به المحقق رحمهالله في (المعتبر) قال : (وأمّا الاستصحاب فأقسامه ثلاثة :
الأول
: استصحاب حال العقل ، وهو
التمسّك بالبراءة الأصلية ، كما تقول : ليس الوتر واجبا ؛ لأن الأصل براءة العهدة.
الثاني
: أن يقال : عدم
الدليل على كذا ، فيجب نفيه. وهذا يصحّ فيما يعلم أن لو كان
هناك دليل لظفر به ، أما لا مع ذلك فإنه يجب التوقّف ، ولا يكون ذلك الاستدلال
حجة.
ومنه القول
بالإباحة لعدم دليل الحظر والوجوب). ثم ذكر الثالث ، وهو الاستصحاب بالمعنى
المشهور .
__________________
وسيأتي تحقيقه إن شاء
الله تعالى في بعض درر الكتاب .
والمعنى الأوّل
الّذي ذكره هو ما ذكرنا من القسم الأوّل من قسمي البراءة الأصليّة ، والثاني وهو
الثاني مما ذكرناه من قسميها أيضا.
وكلامه قدسسره في كتاب (الاصول) يشعر بموافقته للمشهور حيث قال : (اعلم
أن الأصل خلوّ الذمّة عن الشواغل الشرعيّة ، فإذا ادّعى مدّع حكما شرعيّا جاز
لخصمه أن يتمسّك في انتفائه بالبراءة الأصلية ، فيقول : لو كان ذلك الحكم ثابتا ، لكان عليه دلالة
شرعيّة ، لكن ليس كذلك فيجب نفيه. ولا يتم هذا الدليل ، إلّا ببيان مقدمتين :
الاولى
: أنه لا دلالة
عليه شرعا بأن نضبط طرق الاستدلالات الشرعيّة ، ونبين عدم دلالتها
عليه.
الثانية
: أن نبين أنه
لو كان هذا الحكم ثابتا ، لدلّت عليه إحدى تلك الدلائل ؛ لأنه لو لم يكن عليه
دلالة لزم التكليف [ب] ما لا طريق للمكلّف إلى العمل به ، وهو تكليف [بـ] ما لا يطاق.
__________________
__________________
ولو كان عليه
دلالة غير تلك الأدلّة ، لما كانت أدلّة الشرع منحصرة فيها ، لكن قد بيّنّا
انحصار الأحكام في تلك الطرق ، وعند هذا يتم كون ذلك دليلا على نفي الحكم) انتهى.
مناقشة
المصنف رحمهالله لكلام المحقق قدسسره
وهذا الكلام لا
يخلو من إجمال ، وتعدّد الاحتمال ؛ فإنه إن أراد حصر الأدلّة الشرعيّة بالنسبة إلى
ما يعمّ به البلوى من الأحكام ، كوجوب قصد السورة ، ووجوب قصد الخروج بالتسليم ونحو
ذلك. فالاستدلال بها صحيح ؛ لأن المحدّث الماهر إذا تتبّع الأخبار الواردة حق
التتبع في مسألة ـ لو كان فيها حكم مخالف للأصل لاشتهر ؛ لعموم البلوى
بها ـ ولم يظفر بما يدلّ على ذلك ، يحصل له الجزم أو الظن الغالب بعدم الحكم ؛ لأن
جمّا غفيرا من أصحابهم عليهمالسلام ـ ومنهم الأربعة الآلاف الرجل الذين كانوا من تلامذة
الصادق عليهالسلام ـ كانوا ملازمين لهم عليهمالسلام في مدّة تزيد على ثلاثمائة سنة ، وكانت همّتهم وهمّة
الأئمّة عليهمالسلام إظهار الدين ، وترويج الشريعة .
وكانوا لحرصهم
على ذلك يكتبون كلّ ما يسمعونه حال سماعه ؛ خوفا من عروض النسيان ، وكان الأئمَّة عليهمالسلام يحثّونهم على ذلك. وليس الغرض منه إلّا العمل به بعدهم
؛ لئلّا يحتاج الشيعة إلى التمسّك بما عليه العامّة من الأخذ بالآراء
__________________
والأهواء ، والاصول المقرّرة عندهم ؛ ولئلّا يضيع من في أصلاب الرجال
وأرحام النساء من شيعتهم. ففي مثل ذلك يجوز التمسّك بأصالة العدم
، وإن عدم الدليل ـ والحال كذلك ـ دليل على العدم.
وعدّ بعض
المحدّثين من أمثلة هذه الصورة أيضا نجاسة أرض الحمّام ، ونجاسة
الغسالة. والظاهر أنهما ليسا من ذلك القبيل ؛ فإن الأوّل يمكن القول فيه بالطهارة
استنادا إلى عموم قوله عليهالسلام : «كلّ
شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر» ، إلّا أن يخصّ الخبر ، ـ كما ذهب إليه البعض ـ بما كان من
الأشياء مشتملا على أفراد بعضها طاهر وبعضها نجس ، كالدم والبول على قياس «كل شيء فيه حلال
وحرام ، فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه».
والثاني يمكن
القول فيه بالنجاسة ، والاستدلال بما دل على نجاسة الماء القليل بالملاقاة ، إلّا
أن يخصّ بورود النجاسة على الماء دون العكس ، كما هو أحد القولين ، وهو الظاهر
من الأخبار ، فتختص النجاسة بما ليس كذلك.
وإن أراد حصر
الأدلّة الشرعيّة بالنسبة إلى أيّ حكم كان من جميع الأحكام ـ ولعله هو الأظهر من
كلامه ، بمعنى : (إن كل حكم اريد فبعد الفحص والتفتيش [في] الأدلة
الواصلة إلينا ، وعدم الاطلاع عليه يجب الجزم بنفي الحكم ، ويكون التمسك بالبراءة
الأصليّة دليلا على نفيه كما قالوا : عدم وجود المدرك
__________________
للحكم الشرعي مدرك شرعيّ لعدم الحكم. وبعبارة اخرى : عدم الدليل دليل
على العدم) ـ فيرد عليه أن هذا إنما يتمشّى على قواعد العامّة الذين هم
الأصل في العمل على البراءة الأصليّة ، لاتّفاقهم على أن جميع ما جاء به النبي صلىاللهعليهوآله ، أظهره للصحابة ، ولم يكتم شيئا منه عن الأبيض ولا
الأسود ، ولا خص أحدا بشيء من علومه دون أحد ، ولم تقع بعده فتنة أوجبت إخفاء شيء
من علومه صلىاللهعليهوآله. فعدم اطّلاع المجتهد بعد الفحص والتفتيش والتتبّع
للأدلّة على دليل مخرج عن البراءة الأصليّة ، أو على نسخ أو تقييد أو تخصيص أو
تأويل لآية أو سنّة موجب للظنّ بعدم ذلك واقعا.
وأما عندنا
معاشر الإمامية فحيث استفاض في أخبارنا ، بل صار من ضروريات ديننا أنه صلىاللهعليهوآله ، أودع علومه عند أهل بيته ، وخصّهم بها دون غيرهم
، واستفاض أيضا أنه لم يبق من الأحكام جزئيّ ولا كلي ، إلّا وقد ورد فيه خطاب
شرعيّ وتكليف إلهيّ ، وأن ذلك مخزون عندهم عليهمالسلام ، وأنهم كانوا في زمن تقيّة وفتنة ، فقد يجيبون عند
السؤال بما هو الحكم شرعا وواقعا ، وقد يجيبون بخلافه تقية ، وقد لا يجيبون أصلا ،
كما ورد عنهم عليهمالسلام : «إن
الله قد فرض عليكم السؤال ، ولم يفرض علينا الجواب ، بل ذلك إلينا إن شئنا أجبنا ،
وإن لم نشأ لم نجب» .
فلا يتّجه
إجراء هذه القاعدة ، ولا ما يترتّب عليها من الفائدة ؛ لأن وجود الحكم
__________________
الشرعيّ في كلّ فرد فرد من القضايا معلوم بتلك الأخبار ، فعدم الاطّلاع
عليه لا يدلّ على العدم.
نعم ، يرجع
الكلام إلى عدم ثبوت التكليف بالحكم ، لعدم الوقوف على الدليل ، فتصير حجّية البراءة
الأصليّة من هذا القبيل ، وبذلك تعلق بعض فضلاء متأخري المتأخرين وإن كان خلاف ما
عليه العلماء جيلا بعد جيل.
والتحقيق أنه
لا يخلو من إجمال يحتاج إلى تفصيل ، وذلك أنه إذا كان الحكم
المطلوب دليله هو الوجوب ، فلا خلاف ولا إشكال في انتفائه ، حتى يظهر دليله
لاستلزامه التكليف به بدون الدليل الحرج ، وتكليف ما لا يطاق كما عرفت ، لا من حيث
عدم الدليل ، كما ذكروا ، بل من حيث عدم الاطّلاع عليه ، إذ لا تكليف إلّا
بعد البيان ، و «الناس في
سعة ما لم يعلموا» .
و «ما حجب الله علمه عن
العباد فهو موضوع عنهم» .
و «رفع القلم عن تسعة
أشياء ...» وعد منها «ما
لا يعلمون» .
كما قد وردت
بجميع ذلك النصوص ، وإن كان هو التحريم المستلزم نفيه للإباحة الذي هو محلّ الخلاف
بين الأصحاب والمعركة العظمى في هذا الباب.
فهذه الأخبار
ولو سلّمنا دلالتها عليه كالأوّل ـ وإن تفاوت دلالتها في الموضعين ـ إلّا إنها
يعارضها ما ورد عنهم عليهمالسلام ، ممّا دل على وجوب الاجتناب عن كلّ
__________________
فعل وجوديّ لا يقطع بجوازه عند الله ، كأخبار التثليث المستفيضة
الآتية إن شاء الله تعالى.
وحينئذ ، فيجب
تقييد تلك الأخبار بهذه ، بمعنى : أن البيان والعلم بالحكم حاصل بالتوقّف ،
والاحتياط الذي قد أشارت إليه هذه الأخبار ؛ فإنه أحد الأحكام الشرعيّة كما سيتّضح
لديك إن شاء الله تعالى. على أن الإباحة الشرعيّة أحد الأحكام الخمسة المتوقّفة
أيضا على دليل ، ولا يكفي في ثبوتها فقط دليل التحريم. وهذا هو الظاهر عندي من
الأخبار بعد إرسال جياد الفكر في هذا المضمار.
أدلّة
القائلين بحجّية البراءة الأصليّة
وتنقيح المقام إنما يتمّ
بنقل حجج الطرفين ، وما يرد عليها من الكلام في البين ، فنقول : اعلم أنه قد
استدلّ القائلون بحجّية البراءة الأصليّة بوجوه :
أحدها
: أن هذه
الأشياء منافع خالية من أمارات المفسدة ، فكانت مباحة ، كالاستظلال بحائط الغير ،
وقال بعضهم في تقرير هذا الكلام : إنها منافع خالية من الضرر على المالك .
وثانيها
: قوله تعالى (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) خرج منه ما خرج بدليل ، فبقي الباقي.
وثالثها
: قول الصادق عليهالسلام : «كل
شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» .
__________________
ورابعها
: ما ورد عنهم عليهمالسلام من قولهم : «الناس في سعة ما لم يعلموا».
و «ما حجب الله علمه عن
العباد فهو موضوع عنهم».
وقولهم عليهمالسلام : «كل
شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه».
و «رفع القلم عن تسعة
أشياء ـ وعد منها ـ ما لا
يعلمون».
ومجملها أنا
مكلّفون بما يصل إلينا حكمه ؛ إذ لا تكليف إلّا بعد البيان وإلّا لزم تكليف ما لا
يطاق.
والجواب :
أمّا
عن الأوّل ، فهو مصادرة ؛ فإنه محلّ النزاع. ثم أيّ ضرر في ارتكاب المحرّمات على
المالك الّذي هو الله سبحانه؟ وهل هذا إلّا قياس مع وجود الفارق.
وأما
عن الآية ، فبعد تسليم الاستدلال بظواهر (القرآن) ـ بدون ورود التفسير عن أهل الذكر
والبيان ـ أنها لا دلالة لها على ما يدّعونه ، إذ غاية ما تدل
عليه أن الله سبحانه خلق ما في الأرض لعباده ، أي لأجل منافعهم الدينية والدنيوية
بأيّ وجه اتّفق. وهذا لا يستلزم إباحة كلّ شيء ، ومجرّد خلقه للانتفاع لا يستلزم
حلّيّة ما لا نصّ فيه ؛ لجواز الانتفاع به على وجه آخر ؛ إذ لا شيء من الأشياء
إلّا وله وجوه متعددة من المنافع. ولئن سلمنا الدلالة فالتخصيص قائم بما سيأتي من
الأخبار ، كما قد خصّصت الآية المذكورة بغيرها.
ويحتمل أيضا ما
ذكره الشيخ رضياللهعنه في كتاب (العدّة) في الجواب عن أدلّة
__________________
القول في الإباحة حيث استدلّوا بأن خلقه تعالى في هذه الأجسام
الطعم واللون لا بد أن يكون فيه وجه حسن ، وإلّا لجعلها خالية منها ، فأجاب قدسسره : (بأنه إنما خلق هذه الأشياء إذا كانت فيها ألطاف
ومصالح وإن لم يجز لنا أن ننتفع بها بالأكل ، بل نفعنا بالامتناع منها ، فيحصل لنا
[بها] الثواب ، كما أنه خلق أشياء كثيرة يصح الانتفاع بها ، ومع ذلك فقد حظرها
بالسمع ، مثل شرب الخمر والميتة والزنا وغير ذلك) انتهى.
ومجمله أن
العلة مجرّد الانتفاع الحاصل بالثواب بالامتناع من ذلك ، وحينئذ فلا يحتاج إلى
تخصيص في الآية. ثم إنه قدسسره احتمل أيضا في الجواب (أن الانتفاع بهذه الأشياء قد
يكون بالاستدلال بها على الله تعالى وعلى صفاته ، فليس الانتفاع مقصورا على التناول
فحسب) انتهى.
أقول
: ويدلّ على هذا
الوجه الأخير ما ورد في بعض الأخبار المعتمدة في تفسير هذه الآية عن أمير المؤمنين
عليهالسلام قال : «خلق لكم ما في الأرض لتعتبروا به» .
وعلى هذا يسقط
الاستدلال بالآية أصلا ورأسا ؛ لأنه ـ صلوات الله عليه ـ أعرف بظاهره وخافيه :
وصاحب البيت
أدرى [بالذي] فيه
فلا يمكن الجزم
بدخول شيء من باقي المنافع ، وكيف كان ، فلا أقلّ من أن
__________________
تكون الآية المذكورة باحتمال ما ذكرنا من المعاني من المتشابهات الّتي
يمتنع الاستناد إليها في الاستدلال.
الرد
على أدلّة القائلين بحجيّة البراءة
وأما الجواب عن
الأخبار فمن وجهين : إجماليّ ، وتفصيليّ.
أما الأول
منهما ، فمن وجوه :
الأول
: أنها أخبار
آحاد ، وقد تقرّر عندهم عدم حجيّتها في الاصول ؛ لأنها لا تفيد غير الظنّ ، وقد تواتر النهي عن العمل
به في الآيات والروايات ، وإطلاقها شامل للأصول والفروع ، لكنهم قد خصّوها بالاصول
وجوّزوا في الفروع التمسّك بالظن ، حملا لآيات المنع ورواياته على الاصول. وحينئذ
، فلا يجوز لهم الاستدلال فيها بدليل ظنّيّ.
الثاني
: أن هذه
الأخبار موافقة للعامّة ، وما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى مخالف لهم ؛ فإنها
دلّت على كون الامور ثلاثة ، ثالثها المتشابه ، وعلى وجوب التوقّف والاحتياط في
ذلك القسم الثالث. وهذه الأخبار قد دلت على التثنية ، وعدم وجود المتشابه في
الأحكام ، ومقتضاها الجزم في جميع الأحكام بالحلّ أو التحريم. وهذا هو مذهب العامة
أجمع ، حيث إنهم قائلون بالتثنية ، ومدارهم على العمل بأصالة البراءة. وقد
تقرّر في أخبارنا وجوب الأخذ عند تعارض
__________________
الأخبار بخلافهم ؛ فإن الرشد في خلافهم .
الثالث
: أن المفروض في
هذه الأخبار ، عدم وجود النهي وعدم حصول العلم بالحكم ، والحال أن النهي قد ورد في
تلك الأخبار ، كما سيأتي ، وهو النهي عن القول بغير علم ، والنهي عن
ارتكاب الشبهات . وحصل أيضا منها العلم ، وهو العلم بالاحتياط في بعض
الأفراد ، فإنه أحد الأحكام الشرعية ، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وعلى هذا يكون
مضمون هذه الأخبار مخصوصا بما قبل إكمال الشريعة ، أو بمن لم يبلغه النهي العام
المعارض لهذه الأخبار ، فيبقى الآن مضمونها غير موجود عند العلماء العارفين
بمعارضاتها.
الرابع
: أنها خلاف
الاحتياط ، وما يقابلها موافق للاحتياط ؛ فإنه لا خلاف في رجحان الاحتياط في
المقام ، وإنما الخلاف في وجوبه واستحبابه ، فالنافون للبراءة الأصليّة على وجوبه
في هذا المقام ، والمثبتون لها على الاستحباب. والأخبار المستفيضة الدالة على
الأمر بالاحتياط في الدين أوضح دلالة وأكثر عددا ، فالعمل بما يوافقها أرجح
البتّة. ولعل أقرب هذه الوجوه ، هو الحمل على التقيّة فيما وضحت دلالته على ذلك من
هذه الأخبار ؛ لأنها أصل الاختلاف في أخبارنا كما نبّهنا عليه في محل أليق.
وأمّا الجواب
التفصيلي ؛ فأمّا عن الحديث الأول ـ وهو عمدة أدلّة القوم ،
__________________
وأكثرهم في مقام الاستدلال لم يستند إلّا إليه ؛ إذ ما عداه ليس بظاهر
الدلالة كما سنقف عليه ـ فمن وجوه :
أحدهما
: الحمل على
التقية كما تقدّمت الإشارة إليه.
الثاني
: أن يكون
مخصوصا بالخطابات الشرعيّة. وحاصل معناه حينئذ أن كل خطاب شرعيّ فهو باق على
إطلاقه وعمومه ، حتّى يرد فيه نهي عن بعض الأفراد ، فيخرجه عن ذلك الإطلاق ، مثل
قولهم : «الماء كله
طاهر حتى تعلم أنه قذر» ؛ فإنه محمول على إطلاقه.
ولما ورد النهي عن
استعمال كل واحد من الإناءين إذا تنجّس أحدهما واشتبه بالآخر ، تعيّن تقييده بما
عدا هذه الصورة.
ومثل ما ورد :
أن «كل شيء
طاهر ، حتى تعلم أنه قذر» ، مع ما ورد من أن من كان معه ثوبان أحدهما نجس واشتبه بالآخر ، وجب أن
يصلّي الفريضة في كلّ منهما على حدة ، فإنه بمقتضى الكلّيّة السابقة تكفي الصلاة في واحد
منهما ؛ عملا بأصالة الطهارة. ولكن وجود الحديث المذكور خصّص عموم تلك الكلّيّة
كما ترى ، وهذا المعنى هو الذي فهمه شيخنا الصدوق ـ عطّر الله مرقده ـ من الحديث ، فاستدلّ
به على جواز القنوت بالفارسيّة ؛ وذلك فإن أحاديث
__________________
القنوت فيها عموم وإطلاق ، ولم يصل إليه نهي عن القنوت
بالفارسيّة يخرجها عن إطلاقها ، وإلّا فإن العبادة لا يستدل فيها بأصالة الإباحة ،
بل لا بدّ من دليل الرجحان الشرعيّ.
الثالث
: التخصيص بما
ليس من نفس الأحكام الشرعيّة ، وإن كان من متعلّقاتها وموضوعاتها ، كما إذا شكّ في
جوائز الظالم أنها مغصوبة أم لا.
الرابع
: أنه لا أقل من
أن يكون محتملا لكلّ من هذه المعاني المذكورة ، فيكون متشابها.
الخامس
: أنه خبر واحد
لا يعارض ما سيأتي من الأخبار المستفيضة الآتية.
وأما
الجواب عن الحديث الثاني : وهو قوله عليهالسلام : «الناس
في سعة ما لم يعلموا» ، فالظاهر من لفظ السعة هو الحمل على مقام الوجوب ، وهو نفي الوجوب في فعل
وجودي حتى يقوم دليله. ومع تسليم عمومه ، فهو معارض بالأخبار المستفيضة الآتية.
ولا شكّ أن العمل على تلك الأخبار أرجح كما ستطلع عليه إن شاء الله تعالى ؛ فإنه
قد حصل منها العلم بما ذكرنا من التوقف والاحتياط ، فالاستدلال به بعد حصول العلم
مكابرة محضة ، وبه يتعين حمله على مقام الوجوب. على أن هذا الحديث لم نقف عليه
بهذا اللفظ مسندا في شيء من كتب الأخبار.
والذي وقفت
عليه من ذلك رواية السّكوني ، عن أبي عبد الله عليهالسلام أن أمير المؤمنين عليهالسلام : سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة ، كثير لحمها
وخبزها وجبنها وبيضها ، وفيها سكين قال عليهالسلام : «يقوّم
ما فيها ثم يؤكل ؛ لأنه يفسد ، وليس له بقاء ، فإن جاء صاحبها
غرموا له الثمن». قيل : يا أمير المؤمنين : لا ندري سفرة
__________________
مسلم ، أو سفرة مجوسيّ؟ فقال عليهالسلام : «هم
في سعة حتى يعلموا» .
ومع إغماض
النظر عن المناقشة في السند فهي غير صريحة الدلالة فيما يدّعونه ؛ لأن معنى كلامه عليهالسلام : أنهم في سعة من النجاسة باحتمال أنها سفرة مجوسيّ ، حتّى
يعلموا النجاسة ، فهو مثل : «كل
شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر».
وأيضا فإنه عليهالسلام قال : «هم» أي اولئك الآكلون «في سعة» ، باعتبار أصالة الطهارة ، وليس فيه مثل الحديث المنقول
: «الناس في
سعة» ، إلّا أن
يحكم بالتعدية بطريق تنقيح المناط. وكيف كان فهو مخصوص بالنسبة إلى العمل بأصالة
الطهارة كما هو ظاهر.
وأما
الجواب عن الحديث الثالث ـ وهو قوله : «ما حجب الله علمه عن
العباد» إلى آخره ـ فالظاهر
أيضا من لفظ الوضع تخصيصه بمقام الوجوب بمعنى : أن ما حجب الله علمه عن العباد
فالتكليف بوجوبه موضوع عنهم ؛ إذ لا يناسب التعبير بالوضع مقام التحريم. ومع تسليم
عمومه ، فهو [مخصّص] كما خص سابقاه ـ مع احتمال التقيّة أيضا.
وأما
عن الحديث الرابع ـ وهو قوله : «كل شيء فيه حلال
وحرام» إلى آخره ـ ففيه
أنه لا دلالة فيه على حجّيّة الأصل في نفس الأحكام الشرعيّة ، لأن مدلوله مخصوص
بما يكون نوعا ينقسم إلى قسمين ، وحكم كل منهما معلوم شرعا إلّا إنه حصل اشتباه
أحدهما بالآخر مع عدم الحصر في أفرادها ، كاللحم الذي منه
__________________
مذكّى وميتة ، والجبن الّذي منه ما عمل من لبن طاهر ، ومنه ما عمل من لبن
نجس ، وكجوائز الظالم. والشارع لعموم البلوى بذلك ، وحصول الحرج المنافي لسعة
الدين المحمدي ، وسهولة الحنفية السمحة ؛ حلّل جميع ما في الأسواق ، وما في أيدي
الناس من ذلك وإن علم دخول الحرام فيه مع مجهوليّته ، حتى يعلم الحرام بعينه.
وقد ورد
التصريح بهذا المضمون في عدّة أخبار كما لا يخفى على من جاس خلال تلك الديار.
وأما
عن الحديث الخامس ـ وهو : «رفع القلم» ـ [فما] اجيب عن نظائره.
وبالجملة
، فغاية ما
يستفاد من هذا الخبر ، وكذا الخبر الثاني والثالث هو معذوريّة الجاهل بالحكم
الشرعيّ ، ونحن لا ندفعه بل نقول به إلّا إنا نقول : كما يجب الخروج عن
مضمون هذه الأخبار بالعلم بسائر الأحكام من وجوب أو تحريم أو نحوهما ، وترتفع بذلك
المعذوريّة ، كذلك ترتفع بالعلم بوجوب التوقّف والاحتياط المستفاد عن الأخبار الآتية
، فيما لم يرد فيه نص شرعي ؛ فإن التوقّف والاحتياط أحد الأحكام الشرعيّة كما
سيأتي بيانه.
ثم إن قوله
أخيرا : (إنا مكلفون) ـ إلى آخره ـ إن أراد بالحكم المذكور هو الحكم خاصة ، فهو
ظاهر البطلان ، بل العمل بالحكم العامّ أيضا واجب كالخاصّ بشرط أن يكون الفرد الّذي
يراد إثباته بيّن الفردية وإلّا لاحتاج إلى دليل آخر. وقد وصل إلينا
النصّ العامّ المتواتر بمعنى أنا مكلّفون في كلّ واقعة بحكم
__________________
شرعي ، وبالتوقف والاحتياط إن لم نعلمه. واشتباه بعض الأحكام علينا ـ مع
إمكان تحصيل البراءة في مقام التحريم بترك الفعل الوجودي المحتمل له دون مقام
الوجوب لما مضى ويأتي ـ لا يكون لنا عذرا في الجزم بالإباحة الشرعيّة ، مع عدم
الدليل ، ولا بالإباحة الأصليّة للعلم بالانتقال عنها إلى الوجوب أو التحريم
أو الكراهة أو الإباحة الشرعيّة. ولو لم يكن النصّ العامّ حجّة ، لزم رفع التكليف
؛ إذ لا نصّ خاصّ على وجوب الصلاة على زيد في يوم كذا في سنة كذا في مكان كذا.
وبالجملة
، فإنه حيث علم
الانتقال عن الإباحة الأصليّة بما ذكر ـ والإباحة الشرعيّة متوقّفة على الدليل
كغيرها من الأحكام ، ولا دليل في المقام ـ وجب اطّراح البناء على البراءة الأصليّة
في الأحكام الشرعيّة ، كما هو ظاهر لذوي الأفهام.
أدلة
القائلين بعدم حجّية البراءة الأصلية
استدلّ
القائلون بالمنع من الحجّيّة ـ وإن كان مجرّد إبطال دليل الخصم كاف في المطلوب ـ بالأخبار
المستفيضة الدالّة على التثليث في الأحكام ، وأن الأمور ثلاثة : أمر بيّن رشده
فيتبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ حكمه إلى الله سبحانه وإلى رسوله
وإلى اولى الأمر من بعده ، صلوات الله عليهم.
والأمر المشكل
ممّا يجب التوقّف فيه وردّ حكمه إلى الله تعالى وإلى رسوله وإلى اولي الأمر ،
صلوات الله عليهم. فروى الصدوق قدسسره في (الفقيه) ، قال : خطب أمير المؤمنين عليهالسلام الناس فقال : «إن الله حد حدودا فلا تعتدوها ، وفرض
فرائض فلا
__________________
تنقصوها ، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تتكلّفوها رحمة من الله
لكم فاقبلوها».
ثم قال عليهالسلام : «حلال
بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك. فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما
استبان أترك. والمعاصي حمى الله عزوجل ، فمن [يرتع]
حولها يوشك أن يدخلها» وفي حديث جميل بن صالح عن الصادق عليهالسلام عن آبائه عليهمالسلام قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآله ـ في كلام
طويل ـ : الامور ثلاثة : أمر تبيّن لك رشده فاتبعه ، وأمر تبين لك غيه فاجتنبه ،
وأمر اختلف فيه فرده إلى الله تعالى» .
وفي مقبولة عمر
بن حنظلة عن الصادق عليهالسلام : «وإنما
الأمور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ
حكمه إلى الله والى رسوله صلىاللهعليهوآله ، قال رسول الله صلىاللهعليهوآله
: حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ومن أخذ
بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم».
إلى أن قال : «فإن الوقوف عند
الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات» ، وروى الشيخ محمد بن الحسن الحر قدسسره في كتاب (الوسائل) عن الحسين بن سعيد في كتاب (الزهد)
بسند معتبر عن أبي شبيب ، عن أحدهما عليهماالسلام في حديث قال :
__________________
«الوقوف
عند الشبهة ، خير من الاقتحام في الهلكة» .
وفي كتاب (الخصال)
، بسنده عن أبي شبيب يرفعه إلى أبي عبد الله عليهالسلام قال : «أورع الناس من وقف عند الشبهة» .
وفي حديث مسعدة
بن زياد ، عن أبي جعفر ، عن آبائه عليهمالسلام عن النبي صلىاللهعليهوآله ، قال : «لا تجامعوا في النكاح على الشبهة وقفوا عند
الشبهة».
إلى أن قال : «فإن الوقوف عند
الشبهة خير من الاقتحام في
الهلكة» .
وروى في كتاب (عيون
الأخبار) عن الميثميّ عن الرضا عليهالسلام في حديث اختلاف الأخبار قال : «وما لم تجدوه في شيء
من هذه الوجوه فردوا إلينا علمه ، فنحن
أولى بذلك ، ولا تقولوا فيه بآرائكم ، وعليكم بالكفّ والتثبّت والوقوف ، وأنتم
طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا» .
وروى في كتاب (معاني
الأخبار) بسنده فيه إلى حمزة بن حمران قال : قال أبو عبد الله عليهالسلام : «إن
كل من أجاب فيما يسأل فهو المجنون » .
وفي (كتاب سليم
بن قيس) أن علي بن الحسين عليهالسلام قال لأبان بن أبي عيّاش «يا أخا عبد قيس ، إن وضح لك أمر
فاقبله ، وإلّا فامسك تسلم ، وردّ علمه
__________________
إلى الله ، فإنه أوسع ممّا بين السماء والأرض» .
وروى الشيخ أبو
علي الحسن ابن الشيخ الطوسي قدسسرهما في (الأمالي) بسنده إلى النعمان بن بشير قال : سمعت
رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : «إن لكل ملك حمى ، وحمى الله حلاله وحرامه
والمشتبهات بين ذلك ، كما لو أن راعيا رعى إلى جانب الحمى لم يثبت غنمه أن تقع في
وسطه ، فدعوا الشبهات» .
وروى فيه أيضا
بسنده عن جابر عن أبي جعفر عليهالسلام في جملة حديث قال فيه : «وما جاءكم عنّا فإن وجدتموه للقرآن موافقا فخذوا
به ، وإن لم تجدوه موافقا فردّوه ، فإن اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده وردّوه إلينا
نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا» .
وروى فيه أيضا
بسنده عن أمير المؤمنين عليهالسلام في وصيّته لابنه الحسن عليهالسلام : «وأنهاك
عن التسرع بالقول ... والفعل والزم الصمت تسلم » .
وروى البرقي في
كتاب (المحاسن) بسنده فيه إلى أبي جعفر عليهالسلام قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «إنما
أهلك الناس العجلة ، ولو أن الناس تلبّثوا لم يهلك أحد» . إلى غير ذلك ممّا يدل على هذا المضمون في المقام ،
وينتظم في سلك هذا النظام.
ويؤكد ذلك ورود
جملة من الأخبار الدالّة على النهي عن القول بغير علم ، ووجوب الوقوف عند ذلك ،
فروى ثقة الإسلام ـ عطر الله مرقده ـ في (الكافي) بإسناده إلى زرارة قال : سألت
أبا جعفر عليهالسلام : ما حق الله على العباد؟ فقال : «أن يقولوا ما يعلمون
، ويقفوا عند ما لا يعلمون» .
__________________
وروى فيه أيضا
في الموثّق عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليهالسلام مثله .
وروى فيه أيضا
في الحسن عن زياد بن أبي رجاء ، عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «ما علمتم فقولوا ، وما لم تعلموا
فقولوا : الله أعلم» .
وفيه : عن
إسحاق بن عبد الله عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إن الله تعالى خص عباده بآيتين من كتابه : ألّا
يقولوا حتى يعلموا ولا يردوا ما لم يعلموا ، وقال الله تعالى (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ
أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ) » .
وفيه بسنده عن
حمزة الطيار قال : قال أبو عبد الله عليهالسلام : «لا
يسعكم فيما ينزل بكم مما لا تعلمون
إلّا الكفّ عنه والتثبت والردّ إلى أئمة الهدى ، حتّى يحملوكم
فيه على القصد» .
وفي كتاب (نهج
البلاغة) ، في وصايا أمير المؤمنين عليهالسلام لابنه الحسن عليهالسلام : «ودع
القول فيما لا تعرف ، والخطاب فيما لم
تكلّف ، وأمسك عن طريق إذا خفت ضلالته ، فإن الكفّ عند حيرة
الضلال خير من ركوب الأهوال» .
وعنه عليهالسلام أنه قال في خطبة له : «فيا عجبا! وما لي لا أعجب عن خطأ هذه الفرق على
اختلاف حججها في دينها ، لا يقتصّون أثر نبي ، ولا يقتدون بعمل وصيّ ... يعملون
__________________
في
الشبهات ، ويسيرون في الشهوات ، المعروف فيهم ما عرفوا ، والمنكر عندهم ما أنكروا
، [مفزعهم] في المعضلات إلى
أنفسهم ، وتعويلهم في المبهمات على آرائهم ، كأن كل امرئ منهم إمام نفسه ، قد أخذ
منها فيما يرى بعرى وثيقات وأسباب محكمات؟» .
وعنه عليهالسلام : «من
ترك [قول] : (لا أدري) اصيبت مقاتله» .
وروى البرقي في
(المحاسن) بإسناده عن محمد بن الطيار قال : قال لي أبو جعفر عليهالسلام : «تخاصم
الناس؟». قلت : نعم.
قال : «ولا
يسألونك عن شيء إلّا قلت فيه شيئا؟». قلت : نعم. قال : «فأين باب الرد إلينا؟» .
أقول
: هذه جملة من
الأخبار الواردة في هذا المضمار ، ووجه الاستدلال بها أنّ شطرا منها قد دلّ على
تثليث الأحكام. ولا ريب أن ما لم يرد فيه نص ليس من الحلال البيّن ، ولا من الحرام
البين ، فيتعيّن أن يكون من الثالث. ولو كان العمل بالبراءة الأصلية ثابتا في
الشرع لما كان لهذا الفرد وجود في الأحكام ، كما لا يخفى على ذوي الأفهام.
وشطرا منها قد دلّ
على أنّ بعض الأحكام مما يجب الردّ فيه إليهم عليهمالسلام ، والتوقف في حكمه ، وهذا مدافع لمقتضى العمل
بالبراءة الأصلية كما لا يخفى.
وشطرا منها قد
دل على النهي عن القول بغير علم. ولا شك أن القول بإباحة
__________________
ما لم يرد فيه نصّ وحلّيّة قول بغير علم ، بل ولأظن ؛ لأنّ الإباحة الأصليّة
ـ كما عرفت ـ قد ارتفعت بورود الشريعة وتضمنها وقوع الأحكام على جميع الجزئيات وإن لم
تصل إلينا. والإباحة الشرعية موقوفة كغيرها من الأحكام على الدليل.
أجاب بعض فضلاء
متأخري المتأخرين بتخصيص التثليث في الأحكام ، واختصاص الشبهة بما تعارضت فيه
الأخبار ، قال : (فأما ما لم يرد فيه نصّ ، فليس من الشبهة في شيء ،
ثم إنه على تقدير شمول تلك الأخبار له ، وتسليم كونه شبهة يخرج بالأخبار الدالة
على أن «كل شيء
مطلق حتى يرد فيه نهي» ، ونحوه مما تقدم) انتهى.
والجواب أنّ الحديث المنقول في (الفقيه) في خطبة أمير المؤمنين عليهالسلام صريح في أنّ ما لم يرد فيه نص من بعض أفراد
الشبهة المشار إليها في تلك الأخبار ، حيث دل على أن الشارع : «سكت عن أشياء ، ولم
يسكت عنها نسيانا فلا تتكلفوها». ومن المعلوم أن ليس السكوت عنها إلّا باعتبار عدم
النصّ عليها أمرا أو نهيا ، ثم عقب ذلك بقوله : «حلال بين» إلى آخره.
وأما مقبولة
عمر بن حنظلة التي هي منشأ الشبهة عنده فيما ذكره [فهي] وإن دلّ صدرها باعتبار السؤال عمّا
تعارضت فيه الأخبار على ذلك. إلّا إن قوله عليهالسلام : «وإنما
الأمور ثلاثة» ـ إلى آخره ـ ممّا يدلّ على العموم ، فهو بمنزلة الضابط الكلّي والقاعدة
المطّردة ، كما دل على ذلك غيرها من الأخبار. على أن
__________________
خصوص السؤال لا يوجب التخصيص كما تقرر عندهم.
وحينئذ ، فما
تعارضت فيه الأخبار أحد أفراد تلك القاعدة ، وقد دل حديث حمزة الطيار المتقدّم
وغيره على الكفّ والتثبت والردّ إلى أيمة الهدى فيما لا يعلم.
وبالجملة
، فمن نظر فيما
ذكرنا من الأخبار ، ولاحظها بعين الإنصاف والاعتبار لا يخفى عليه الحال ، ولا يقع
في لبس الإشكال. وحينئذ ، فلا يتجه ما ذكره من إخراج ما لم يرد فيه نص من حيّز
الشبهة على تقدير شمول تلك الأخبار له ؛ فإن الدليل على دخوله في الشبهة ليس
منحصرا في عموم تلك الأخبار ، بل يدلّ عليه أيضا خصوص هذه الأخبار المستفيضة
الدالة على ذلك ، وعلى الأمر بالتوقّف فيه ، والرد إلى أصحاب العصمة ، صلوات الله
عليهم. وأما الأخبار التي ادّعي الاستناد إليها ، فقد عرفت ما فيها مجملا ومفصلا.
تتميم
في أقسام المتشابه
إذا عرفت ذلك ،
فاعلم أن المستفاد من الأخبار أن المتشابه على أقسام :
الأوّل
: فمنه ما
تعارضت فيه الأخبار وتساوت فيه طرق الترجيح. وهذا قد ورد فيه الأمر بالإرجاء في
بعض الأخبار ، والأخذ من باب التسليم في بعض آخر. وهذا أيضا موجب للرجوع إلى
التعارض كما كان أولا وإن كان الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ قد جمعوا بينها بوجوه.
إلّا إنه بسبب احتمال كل منها ، وعدم دليل من كلامهم عليهمالسلام على ترجيح بعضها مما يقوّي الإشكال ، وعود الحكم إلى
تلك الحال يوجب الوقوف في ذلك على جادة الاحتياط ، كما هو مصرّح به في رواية زرارة
الواردة في ذلك أيضا على ما نقله في (عوالي اللآلي) . وعسى
__________________
يأتي في بعض درر الكتاب إن شاء الله تعالى ما فيه مزيد بيان لهذه المسألة.
الثاني
: ومن أقسام المتشابه ما ورد النص به ولكنه غير صريح في
المراد ، ومعناه غير ظاهر ولا سالم من الإيراد ، وحكمه أنه يجب الرد فيه
إلى أهل الذكر ـ سلام الله عليهم ـ إن أمكن ، وإلّا فالتوقّف عن الحكم ، والعمل
بالاحتياط.
ويدلّ على هذا
الفرد قوله سبحانه (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ
عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ
مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما
تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) .
قال المحدث
الكاشاني قدسسره : (وأول من أثبت المتشابه في الحكم الشرعي ، هو الله
سبحانه) ، ثم ذكر الآية.
الثالث
: ومنه ما لم
يرد فيه نصّ كما عرفت ، وحكمه الرجوع إليهم عليهمالسلام ، وإلّا فالتوقف والاحتياط ، كما في الأخبار
المتقدمة.
الرابع : ومنه ما وقع الشك في اندراجه تحت أمرين متنافيين ، مع
معلومية حكم كل منهما ، كالسجود على الخزف مثلا ، للشك في استحالته بالطبخ وعدمها
، ومثل بعض الأصوات المشكوك في اندراجها تحت الغناء المحرم وعدمه ، والحكم فيه ما
عرفت.
الخامس
: ومنه ما حصل الاشتباه في كيفية العمل بعد معرفة أصل الحكم ، وهذا هو
الذي وردت الرخصة بجواز الاجتهاد فيه ، كاشتباه جهة القبلة ، فإنه يجوز له
الاجتهاد بتحصيل الأمارات المثمرة للظن ، ونحو ذلك.
__________________
فإن
قيل : إنه قد
استفاضت الأخبار بمعذورية الجاهل بالحكم ، وإن كان ذلك خلاف المشهور. وحينئذ ، فما
لم يرد فيه نصّ كيف يجب التوقف فيه والاحتياط ، فإنه متى كان الجاهل معذورا فيما
ورد فيه النصّ ؛ لعدم وقوفه عليه ، فبطريق الأولى فيما لم يرد فيه نص؟
قلنا
: نعم ، الأمر
كذلك ، لكن قد قدّمنا في الدرة الموضوعة في حكم الجاهل تفصيلا حاصله اختصاص ذلك
بالجاهل الساذج الغير المتصوّر للحكم بالكلية ، وهو الغافل بالمرّة ، دون المتصور
للحكم ولو بالشك فيه. وقد أشرنا في طيّ الكلام السابق في هذا المقام إلى أن
التوقّف والعمل بالاحتياط هنا إنما يتوجه إلى من علم أنه لا واقعة من الأحكام
الشرعية إلّا وقد ورد فيها خطاب شرعي وحكم الهي ، وأنه مع العلم به يجب التوقف
والاحتياط ، وأن الامور ثلاثة : «حلال
بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك» ، وأنه منهي عن القول بغير علم ، كما هو مضمون ما
سردناه من الأخبار.
وحينئذ ، فالعالم
بجميع ذلك متى ورد عليه جزئي من القضايا لم يقف فيه على نص ، وجب
عليه الوقوف والاحتياط. وأما من لم يقف على ذلك ، فهو معذور عندنا ؛ لكونه جاهلا
للحكم جهلا ساذجا غير متصور له بالكلية ، لا إجمالا ولا تفصيلا ، كما قدّمنا بيانه
هذا.
ولا يخفى عليك
أن المستفاد من الأخبار المتقدمة أنه كما تعبّد الله تعالى عبادة في الحلال
والحرام البيّنين ، بالأمر والنهي ؛ بإباحة الأول وتحريم الثاني ، تعبّدهم أيضا في
الشبهات بالتورع عنها والاحتياط فيها ، مع عدم إمكان الرجوع إلى اولي الأمر ،
صلوات الله عليهم. ومن المحتمل أن وجه الحكمة في ذلك هو
__________________
الابتلاء والاختبار للعباد بالتورّع عن ذلك وعدمه ليتميّز المتّقي الورع
باحتياطه في الدين وعدم رتعه حول الحمى ممّن لا يبالي بذلك. وهذا من جملة الفتن
التي بني عليها التكليف ، وأشار إليها (القرآن) المجيد في غير مقام. وهذا هو السر
في نصب جميع الشبهات ، وإنزال الآيات المتشابهات ، وخلق الشياطين والشهوات.
بل أنت إذا
تأمّلت في وجوه التكليفات ، رأيتها كلها من ذلك القبيل ، وإلّا فإن الله سبحانه
قادر أن ينزل جميع الأحكام التي تحتاج إليها الأمة في (القرآن)
بدلالات واضحة قطعيّة خالية من المعارض ، بحيث لا يختلف فيها من نظر فيه.
وكذا كان
الرسول صلىاللهعليهوآله ، قادرا على تأليف كتاب كذلك. بل كل واحد من الأئمَّة عليهمالسلام ولكن لم يكن ذلك موافقا لحكمة التكليف.
ووجه آخر ، وهو
إلزام العباد الرجوع إلى أهل الذكر واولي الأمر ـ صلوات الله عليهم ـ كما أشار
إليه تعالى في كتابه المجيد في عدة آيات ، كقوله (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى
الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ
مِنْهُمْ).
وقوله (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ
فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ
وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) .
وقوله (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ) .
وقد ورد في بعض
النصوص أن ذلك وجه الحكمة في تعمية (القرآن) على أذهان الرعية ، والله سبحانه
وأولياؤه ـ عليهم الصلاة والسلام ـ أعلم بحقائق ما أتوا به من الأحكام.
__________________
(٧)
درة نجفية
فيمن نذر أن ينفق جميع ماله
ثم توفّي قبل الوفاء به
مسألة سأل عنها
بعض الإخوان من سكنة بهبهان ، وكان قد اتّفق وقوعها في ذلك الزمان ، وهذه صورة ما
كتبه : (رجل نذر إن وفّق للحج أن يتصدّق بجميع ما يملكه على الفقراء في النجف
الأشرف ، على مشرفه السلام. فوفق للحج ، ومات بعده ، وانعقد النذر ، وكانت عليه
ديون ، فما حكم الديون؟ فهل تخرج من أصل التركة ، وما بقي يصرف في وجه النذر ، أو
أن التركة وما خلفه ينتقل إلى الفقراء المنذور لهم ، لتعلق النذر به ، ويبقى الدين
في ذمة الميت الناذر إلى يوم القيامة؟ فإن بعض علمائنا يقولون : إن المال ينتقل
إلى الفقراء ، والدين يبقى في ذمة الميت! فما كلام الأصحاب في ذلك؟ وما اعتقادكم؟
وما الدليل على ذلك؟
فتفضلوا بإيجاز
رد الجواب وإرساله بيد من يقدم عاجلا ؛ لأن الواقعة في الدين ونحن في غاية
الاحتياج ، وهل فرق بين الدين والخمس ورد المظالم) انتهى.
فكتبت له ما
صورته :
الجواب ـ ومنه
سبحانه إفاضة الصواب ـ أنه من المقرّر في كلام جمهور أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ
وعليه دلّت أخبارنا ، أنه لا ينعقد من النذر إلّا ما
__________________
كان طاعة لله سبحانه ؛ لاشتراطه بالقربة نصا وإجماعا ، ولا
تقرّب بالمرجوح من مكروه أو حرام نصا واجماعا ، وكذلك المباح المتساوي الطرفين
على الأشهر الأظهر لما ذكرنا ، والمخالف نادر ، ودليله غير ناهض.
ومما يدلّ على
اشتراط القربة في النذر المستلزم لكونه طاعة قوله عليهالسلام في صحيحة منصور ـ فيمن قال : عليّ المشي إلى بيت الله
الحرام وهو محرم بحجه ـ : «ليس بشيء ، حتى يقول لله عليّ المشي إلى بيته» .
وفي صحيحة
الكناني : «ليس النذر
بشيء ، حتى يسمي لله شيئا ، صياما أو صدقة أو هديا أو حجّا» .
ومن المقرّر
المجمع عليه أيضا أنه يشترط في انعقاد النذر كون ما تنذر به من أفراد الطاعات
مشروعا على الوجه الذي نذر قبل النذر ، وإلّا لم ينعقد نذره إلّا ما خرج بدليل ،
على خلاف فيه أيضا.
وحينئذ ، فنقول
: إن من نذر التصدّق بجميع ماله وما يملكه ، مع أنه مشغول الذمة يومئذ بديون وحقوق
واجبة ، فلا ريب أن نذره هذا مخالف لمقتضى
__________________
القواعد المقررة المبرهن عليها بالأخبار المعتبرة ،
فإن هذا التصدق قبل تعلّق النذر به مكروه ، بل الظاهر أنه غير جائز شرعا.
أما أولا ،
فلاستلزامه الإخلال بأداء الديون الواجبة يقينا ، سيما مع الفوريّة ، كردّ المظالم
والحالّ من الديون.
وأما ثانيا ،
فلاستلزامه إدخال الضرر على نفسه ، ولا سيما إذا كان من ذوي الوجاهة والوقار
والمحل الأرفع في تلك الديار ، بلبس ثياب الذل والانكسار ، وبذل ماء الوجه المنهيّ
عنه في صحاح الأخبار.
وأما ثالثا ،
فللأخبار المستفيضة بالنهي في الاتّفاق عن الإسراف ، والأمر بالاقتصاد في ذلك
والكفاف [١] ، فمنها رواية حماد اللحام المروية في (الكافي) و (تفسير العياشي) عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «لو أن رجلا أنفق ما في يده في سبيل الله ، ما
كان أحسن ولأوفق للخير ، أليس الله تبارك وتعالى يقول (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى
التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)
بمعنى المقتصدين». وهي صريحة الدلالة على المراد ، منطبقة على السؤال حسب ما يراد.
ورواية هشام بن
المثنى عن أبي عبد الله عليهالسلام الواردة في تفسير قوله تعالى :
__________________
__________________
(وَآتُوا حَقَّهُ
يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) ؟ فقال : «كان فلان بن فلان الأنصاري ـ سمّاه ـ وكان له
حرث ، فكان إذا أخذ يتصدّق به ، يبقى هو وعياله بغير شيء ، فجعل الله ذلك سرفا» .
وفي صحيحة
الوليد بن صبيح قال : كنت عند أبي عبد الله عليهالسلام فجاءه سائل فأعطاه ، ثم جاءه آخر فأعطاه ، ثم جاءه آخر
فأعطاه ، ثم جاءه آخر فقال : «يسع الله عليك».
ثم قال : «إن رجلا لو كان له
مال يبلغ ثلاثين أو أربعين ألف درهم ، ثم شاء ألّا يبقي منها إلّا وضعها في حق ،
فيبقى بلا مال له ، فيكون من الثلاثة الذين يرد دعاؤهم». قلت : من هم؟ قال : «أحدهم
رجل كان له مال فأنفقه في وجهه ثم قال : يا رب ارزقني ، فيقال له : ألم أرزقك؟» .
ومن الظاهر
البيّن أنه متى كان مؤاخذا بإنفاقه غير مستجاب لذلك دعاؤه ، فهو دليل على كون
إنفاقه ذلك معصية ؛ لأن المعاصي هي التي تحبس الدعاء ، كما ورد في الأدعية والأخبار الواردة عن
العترة الأطهار.
هذا والآيات
الواردة بالنهي عن الإسراف والتبذير ، والأمر بالاقتصاد ، والقوام في الإنفاق
والتقدير ، وكذلك الأخبار الواردة بذلك أكثر من أن يسع المقام نشرها ، أو يؤدي
حصرها.
__________________
فإذا ثبت تحريم
هذا التصدق قبل تعلّق النذر به ، فلا إشكال حينئذ ولا خلاف في عدم انعقاد نذره ؛
إذ هو معصية ، فكيف يصح التقرب به؟ ولو نوقش في التحريم فلا أقل من الكراهة
المستلزمة للمرجوحيّة ، وهي كافية في عدم انعقاد النذر.
لا
يقال : إن الصدقة عبادة ، ومكروه العبادة بمعنى الأقلّ ثوابا ،
فلا ينافي انعقاد النذر.
لأنا
نقول : الذي ترجّح
عندنا من الأخبار هو التحريم ، لكن لو تنزلنا لمنازع ينازع في ذلك فلا أقل من
الكراهة ، وليست الكراهة ـ كما ربما يتوهم ـ كراهة متعلقة بالصدقة ؛ لأن الانفاق
على هذا الوجه لا يدخل في باب الصدقة بوجه.
كيف ، وهو داخل
في باب الإسراف الذي لا يحب الله صاحبه ، وداخل في باب الإلقاء باليد إلى التهلكة مسجلا عليه
بأن صاحبه ما أحسن ولأوفق للخير ، وداخل فيما يمنع إجابة الدعاء؟ بل المراد بهذه
الكراهة ـ على تقدير تسليمها ـ : إلحاقه بالمباحات المكروهة المرجوحة.
فإن
قيل : قد ورد في
صحيحة محمد بن يحيى الخثعمي عن الصادق عليهالسلام فيمن نذر أن يتصدّق بجميع ماله أنه يقوّم ماله من منزل
ومتاع وجميع ما يملكه بقيمة عادلة ، ثم يضمنها في ذمّته ويعود إلى ماله ويتصرّف
فيه كما كان أوّلا ، ثمّ يتصدق بما ضمنه في ذمّته من القيمة شيئا فشيئا تدريجا على
وسعه ، حتى
__________________
ينفد . فإنه دالّ على انعقاد النذر المذكور.
قلت
: لا ريب أنه قد
علم ـ مما قدّمنا بيانه ـ كون هذا النذر مخالفا للقواعد المقرّرة المشيّدة
بالأخبار الصحيحة الصريحة المشتهرة ، وبموجب ذلك يجب طرح ما عارضها من هذه الرواية
وغيرها. لكن حيث كانت الرواية صحيحة الإسناد ، متلقّاة بالقبول بين أصحابنا ـ رضوان
الله عليهم ـ وجب قصر الحكم على موردها من الحكم ، بصحّة النذر المذكور إذا أمكن
المخرج من الضرر المترتّب عليه على الوجه المقرّر في الرواية بأن يكون الناذر حيا
غير مطالب بحقوق واجبة مالية ، سيما إذا كانت فورية ، فيقوّم أملاكه ويضمن القيمة
في ذمته ، ويتصرّف في أملاكه كما كان أولا ، ثم يتصدّق بالقيمة تدريجا.
بل ربما يقال :
إن هذه الرواية بالدلالة على ما ندّعيه من بطلان هذا النذر المسؤول عنه هنا أشبه ؛
لأنه لو كان النذر على الوجه المذكور في الرواية صحيحا منعقدا بمجرد إيقاع صيغة
النذر كذلك ، لأمر عليهالسلام ذلك الرجل بالخروج من أملاكه جميعا ، والتصدّق بها ، ولما جاز
نقلها إلى الذمّة بالقيمة ؛ إذ مقتضى النذر هو الصدقة بالأعيان ، فتجب الصدقة بها
حينئذ. ولكن لما أمر عليهالسلام بنقلها إلى الذمة بالقيمة ، ثم التصدّق بالقيمة حينئذ
تدريجا ، على وجه يندفع به الضرر الموجب لبطلان النذر ـ لو لم يكن كذلك ، كما هو
مقتضى الأخبار وكلام الأصحاب ـ علمنا أنّ ثبوت هذه الأشياء مما له مدخل في الصحة
البتّة.
__________________
فعلى هذا لا بد
في صحة النذر المسؤول عنه هنا وانعقاده من أن يقوّم الناذر جميع أملاكه المنذور
بها ، ويضمن قيمتها في ذمته ، فتكون دينا عليه كسائر ديونه ، وحينئذ فلو مات قبل
إخراجها كلّا أو بعضا صارت من قبيل الديون الّتي متى تزاحمت حكم فيهما بالتقسيط.
وأنت خبير بأنّ
إجزاء هذا الوجه المصحّح للنذر الرافع للضرر ـ كما تضمنه الخبر في محل السؤال ـ غير متّجه ،
فإنّ الناذر المذكور لم يقوّم أمواله المذكورة ، ولم ينقل القيمة إلى
ذمّته ، وبدون ذلك لا ينتقل إليها ، وبدون الانتقال إلى الذمة لا يمكن الحكم
بالصحة لخروج ذلك عن مورد الخبر.
وحينئذ فإذا كان
مقتضى الاصول بطلان هذا النذر ، وهذا الخبر الذي أوجبنا الوقوف على مورده لا يشمله
، فكيف يمكن الحكم بصحته؟ ولا أعرف خلافا في أن مضمون هذه الرواية أيضا جار على
خلاف مقتضى قواعدهم كما صرّح به غير واحد منهم ، وإنهم إنما قالوا بها وأفتوا
بمضمونها من حيث اندفاع الضرر بما ذكره عليهالسلام من التقويم ، ثمّ ضمان القيمة ، ثمّ التصدّق ، حتى إنّ
بعضا منهم كالمحدث الكاشاني رحمهالله في (المفاتيح) حمل الرواية المذكورة على الاستحباب ،
جمعا بينها وبين مقتضى تلك القواعد الدالّة على الإبطال ، وإن اشعر آخر كلامه بالتوقّف ،
من حيث عدم القائل بذلك .
وحينئذ ،
فالقول بصحّة هذا النذر وانعقاده من غير توقف على شيء وراء مجرد صيغته رد لكلام
عامة الأصحاب ، وخلاف على الاصول الصحيحة الصريحة الواردة في هذا
الباب عن أبواب الملك الوهاب ، وخروج عن مقتضى
__________________
تلك الصحيحة التي هي المستند في ذلك.
وبالجملة ،
فإنه لما اتّفقت كلمة الأصحاب المؤيّدة بالأخبار على أن النذر المستلزم للضرر دنيا
أو دينا غير منعقد ، وهذا الفرد الذي تضمّنته الرواية إنما انعقد من حيث زوال
الضرر بما ذكر فيها ، وما نحن فيه من محلّ السؤال لا مدفع للضرر عنه كما عرفت ؛
فلا وجه للقول بالمضي فيه والانعقاد ، بل الوجه هو البطلان ؛ وقوفا على تلك
القواعد المقررة ، لعدم المخرج عنها.
والقول بانعقاد
النذر فيما زاد من التركة على الدين ، لا أعرف له وجها ؛ لأنه نذر واحد ؛ فإن صح ،
ففي جميع ما اشتمل عليه ، وإلّا بطل في الجميع. على أن ما شرحناه من القول
بالبطلان لا يتوقّف على وجودين في البين ، والقائل الذي نقلتم عنه القول
بالصحة والانعقاد وإبقاء الديون في ذمة الميت إن سلّم كون هذا النذر جاريا على
خلاف القواعد الشرعية والضوابط المرعية ، فلا بد له في الحكم بصحته من الدليل
المخصوص ، والصحيحة المذكورة لا تنهض حجّة له ؛ لكونها ـ لمخالفتها
الاصول كما عرفت ـ مقصورة على موردها ، كما أوضحناه ، والفرق بين موردها وبين ما
نحن فيه ظاهر كما بيناه على أن ما تضمّنته لا ينطبق على المنقول عنه ، حيث إنه ذهب
إلى التصدّق بتلك الأعيان.
والصحيحة
المذكورة ، دلّت على نقلها إلى الأثمان وجعلها في الذمّة ، فتصير من جملة الديون
كما عرفت ، وإن منع ذلك فهو محجوج بما أجمع عليه الأصحاب من تلك القواعد المنصوصة
التي يدور عليها النذر صحة وبطلانا ، والله سبحانه العالم بحقائق أحكامه
، ونوّابه الأمناء على حلاله وحرامه.
__________________
(٨)
درة نجفية
فيما ألزم به الفضل فقهاء
العامّة حول الطلاق عندهم
قال سيّدنا علم
الهدى المرتضى ـ عطّر الله مرقده ـ في كتاب (المجالس) الذي جمعه من إملاء شيخنا
محمد بن محمد بن النعمان المفيد ـ طيب الله تعالى مضجعه ـ : (ومن حكايات الشيخ
وكلامه في الطلاق قال الشيخ ـ أيده الله ـ : قد ألزم الفضل بن شاذان فقهاء العامّة
على قولهم في الطلاق [ان] يحل للمرأة الحرة المسلمة ، أن تمكن من وطئها في اليوم
الواحد عشرة أنفس على سبيل النكاح ، وهذا شنيع في الدين منكر في الإسلام.
قال الشيخ :
ووجه إلزامه لهم ذلك ، بأن قال : خبّروني عن رجل تزوّج امرأة على (الكتاب) والسنّة
، وساق إليها مهرها ، أليس قد حل له وطئها؟ فقالوا وقال المسلمون كلهم : بلى. قال
لهم : فإن كرهها عقيب الوطء ، أليس يحل له خلعها على مذهبكم في تلك الحال؟ قالت العامة خاصة :
نعم. قال : فإن خلعها ثم بدا له بعد ساعة في العود إليها أليس [يحلّ] له أن يخطبها
لنفسه ويحل لها أن ترغب فيه؟ قالوا : بلى. قال لهم : فإن عقد عليها عقد النكاح ، أليس
قد عادت إلى ما كانت عليه من النكاح وسقطت عنها عدّة الخلع؟ قالوا : بلى. قال لهم
: فإن رجع
__________________
إلى نيّته في فراقها ، ففارقها عقيب العقد الثاني بالطلاق من غير أن يدخل بها ثانية ، أليس
قد بانت منه ولا عدّة عليها بنص (القرآن) من قوله تعالى (ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) .
فقالوا : نعم.
ولا بد لهم من ذلك مع التمسّك بالدين. قال لهم : قد حلّت من وقتها للأزواج ؛ إذ
ليس عليها عدّة بنص (القرآن)؟ قالوا : بلى.
قال : فما
تقولون لو صنع بها الثاني كصنع الأوّل؟ أليس يكون قد نكحها اثنان في بعض يوم من
غير خطر في ذلك على اصولكم في الأحكام؟ فلا بد [من أن يقولوا] بلى.
قال : وكذلك لو
نكحها ثالث ورابع إلى أن يتم نكاح عشرة أنفس وأكثر من ذلك إلى آخر النهار ، أليس
يكون جائزا حلالا؟ وهذه هي الشناعة التي لا تليق بأهل الإسلام).
قال الشيخ :
والموضع الذي لزمت هذه الشناعة فقهاء العامة دون الشيعة الإمامية ، أنهم يجيزون
الخلع والطلاق والظهار في الحيض وفي الطهر الذي قد حصل فيه جماع من غير استبانة
حمل ، والإمامية تمنع من ذلك ، وتقول : إن هذا أجمع لا يقع بالحاضرة التي تحيض ،
إلّا بعد أن تكون طاهرة من الحيض طهرا لم يحصل فيه جماع ، فلذلك سلمت مما وقع
فيه المخالفون.
قال الشيخ ـ أيده
الله ـ : قد حيّرت هذه المسألة [العامّة] حتى زعم بعضهم ـ وقد ألزمته [أنا]
بمقتضياتها ـ أن المطلقة بعد الرجعة إليها عن الخلع يلزمها العدة
وإن كانت مطلقة من غير دخول بها ، فرد (القرآن) ردّا ظاهرا. فقلت لهذا
__________________
القائل : من أين أوجبت عليها العدة وقد طلقها الرجل من غير أن يدخل بها مع
نص (القرآن)؟ فقال : لأنه قد دخل بها مرة قبل هذا الطلاق. فقلت له : إن اعتبرت هذا
الباب لزمك أن يكون من تزوج امرأة وقد كان طلقها ثلاثا ، فاستحلّت ثم اعتدّت وتزوّجها بعد
العدة ، ثم طلّقها قبل أن يدخل بها في الثاني ، أن تكون العدة واجبة عليها ؛ لأنه
قد دخل بها مرة ، وهذا خلاف دين الإسلام. فقال : الفرق بينهما أن هذه [التي ذكرت]
قد قضت منه عدة ، والاولى لم تقض العدّة. فقلت : أليس قد أسقطت الرجعة لها بعد
الخلع العدّة [عنها] باتفاق؟ قال : بلى. قلت له : فمن أين يرجع عليها ما كان
سقط عنها؟ وكيف يصح ذلك في الأحكام الشرعية ، وأنت لا يمكنك أن تلزمها العدة
الساقطة عنها [إلّا] بنكاح لا يجب فيه عدة بظاهر (القرآن)؟ وهذا أمر متناقض؟ فلم
يأت بشيء) انتهى كلامه قدسسره في الكتاب المذكور.
أقول : صريح
كلام هذين العمدتين ، وكذا ظاهر السيد ـ رضياللهعنه وعنهما ، حيث نقله ولم يتعرّض لإنكاره ولا الطعن فيه ،
بل الظاهر أنه المشهور بين أصحابنا ، رضوان الله عليهم ـ هو سقوط العدة عن
المختلعة والمطلقة ثلاثا لو عقد عليها الزوج بعد ذلك قبل انقضاء العدة ، ثم طلقها
قبل الدخول ، وأنه يجوز لغيره في تلك الحال [التزوّج] بها ؛ لدخوله
تحت عموم الآية المتقدّمة. والذي وقفت عليه في كلام جملة من متأخري أصحابنا هو المنع ، وهو الظاهر
عندي ؛ نظرا إلى أن العدّة الاولى إنّما سقطت بالنسبة إلى الزوج خاصّة ، وهذا
__________________
الطلاق الثاني الواقع قبل الدخول وإن لم يترتّب عليه العدة اتفاقا. لكن
الكلام في العدة الاولى فإنها واجبة بالنصّ ، آية ، ورواية ، وبالإجماع.
وغاية ما يستفاد سقوطها بالنسبة إلى الزوج ، فإنه يجوز له العقد قبل انقضائها ؛
لعدم وجوب الاستبراء من مائه الّذي هو العلّة في وجوب العدة.
وأمّا غيره فلا
، وطلاقه لها بعد هذا العقد المجرد عن الدخول لا يؤثر في سقوط تلك العدة ، وإنّما
يؤثر في مدة هذا الطلاق. والتمسك بظاهر الآية في المقام معارض بما دلّ على وجوب
العدّة من الآية والرواية والإجماع ، فيجب تقييدها بذلك. على أن الآية إنّما تدلّ
على سقوط العدة بالنسبة إلى هذا الطلاق الأخير الخالي عن الدخول ، وهذا لا نزاع
فيه ؛ إذ هذه العدة التي أوجبناها إنّما هي عدة الطلاق الأول ، أو الخلع. والجنوح
في سقوطها إلى عقد الزوج عليها إنّما يتم بالنسبة إليه خاصة ، فقول شيخنا المفيد قدسسره : (أليس قد أسقطت الرجعة لها بعد الخلع العدة عنها
باتفاق؟) على إطلاقه غير مسلم ؛ إذ الإسقاط إنما وقع في حقّ الزوج خاصة.
ومما حضرني من
الأخبار في ذلك مرسلة ابن أبي عمير المروية في (الكافي) قال : «إن الرجل إذا تزوج
المرأة متعة كان عليها عدة لغيره ، فإذا أراد هو أن يتزوّجها لم يكن عليها منه عدة
، يتزوجها إذا شاء» .
وأنت خبير بأنه
لا فرق في هذا الحكم بين الزوجة الدائمة والمنقطعة ، فإن كلّا منهما يسقط عنها
العدة بعد الفراق مع عدم الدخول. وعلى هذا فيجري الإشكال ـ الذي أورده الفضل رحمهالله على العامّة ـ في المتعة ، بمقتضى كلامه ، فإنه لو
تزوّج
__________________
الرجل امرأة متعة ودخل بها ، ثم أبرأها من المدة ، ثم عقد عليها عقدا
منقطعا أو دائما ثم أبرأها ، أو طلّقها ، فإنه يجوز لغيره أن يتزوّجها متعة ، ثم
يفعل بها كذلك ، فينكحها في يوم واحد عشرة أو أكثر ، كما ألزم به اولئك ، وتأتي
فيه الشناعة التي ألزمهم بها. وقد وقفت على رسالة في المتعة الظاهر أنها من تصانيف
المحقّق الفيلسوف العماد المير محمد باقر الداماد قدسسره قد جنح فيها إلى ذلك ، وصرح فيها بأن المستمتعة المحتال
في سقوط عدتها بذلك النحو لا عدة عليها ؛ لا للعقد الثاني ؛ ولا الأول. وهو من
الشناعة بمحل لا يخفى! وممن صرح بعدم جواز ذلك المحدث الكاشاني في (مفاتيح الشرائع)
إلّا إن عبارته لا تخلو من سهو وغفلة ، فإنه قال : (ومما يعد من الحيل
المباحة ما لو أراد جماعة نكاح امرأة في يوم واحد فيتزوجها أحدهم ثمّ يطلقها بعد
الدخول ، ثم يتزوّجها ثانية ويطلّقها من غير دخول ، فيتزوجها الآخر في الحال لسقوط
العدة من غير المدخولة ، وهو غلط واضح) انتهى كلامه.
فإن فيه أن
الطلاق بعد الدخول من غير استبراء بحيضة ، أو مضيّ مدة ثلاثة أشهر لا يجري على مذهبنا.
اللهم إلّا أن يكون مراده الرد على العامة القائلين بجواز الطلاق في الطهر الذي
واقع فيه ، وحينئذ ينكشف عن عبارته الإشكال ، ويتم الاستدلال. إلّا إن الإيراد
بمثال المتعة كما ذكرنا أظهر في هذا المجال.
وممن صرّح أيضا
بما اخترناه شيخنا البهائي قدسسره ، فيما وقفت عليه في أجوبة مسائل الشيخ صالح الجزائري ،
حيث قال بعد كلام في المقام : (أمّا لو دخل بالمتمتع بها ، ثم أبرأها ، ثم تمتّعها
وأبرأها قبل الدخول ، فالذي اعتمد عليه أنه
__________________
لا يحل لغيره العقد عليها إلّا بعد العدة ، ولا فرق بين الإبراء والطلاق.
وما يوجد في كتب الأصحاب من جواز ذلك للانخراط في سلك المطلقات قبل الدخول لا اعوّل
عليه ، ولا أقول به ، وللكلام فيه مجال واسع ليس هذا محله ، والله العالم) انتهى
كلامه زيد مقامه.
والقول باختصاص
الآية بالزوجة الدائمة ، فلا تجري في المتعة لا وجه له ؛ فإن الأخبار دالة في
المتعة على أنه لو أبراها قبل الدخول فلا عدّة عليها ، ودلالتها كالآية.
وفي حديث
الجواد عليهالسلام مع يحيى بن أكثم القاضي المروي في كتاب إرشاد الشيخ
المفيد رحمهالله ما يتضمن جواز الظهار في الطهر الذي نكحها فيه ، ولعله محمول
على التقيّة ، إلّا أن يقال بوقوع الظهار بغير المدخول بها بناء على أحد القولين ،
وهو خلاف المشهور الذي دلّت عليه صحاح الأخبار ، والله سبحانه وأولياؤه أعلم.
__________________
(٩)
درة نجفية
في حجيّة الاستصحاب
اعلم أنه قد
اختلف الأصحاب ـ نوّر الله تعالى مراقدهم ـ في حجّيّة الاستصحاب ، وحيث كان كثير
الدوران في مقام الاستدلال ، ومستندا لجملة من الأعيان في مقام الجدال ، مع كونه
متعدد الأقسام التي بعضها يصلح للاحتجاج والإلزام ، وبعضها عار عن الحجية وإن
ادعتها أقوام ، أحببت بسط الكلام في بيانه ، وإطلاق عنان القلم ساعة في ميدانه ،
وتحقيق ما هو الحقّ في المقام المستفاد من أخبار أهل الذكر ـ عليهم الصلاة والسلام
ـ فنقول : للاستصحاب أقسام :
أحدها
: استصحاب نفي
الحكم الشرعي إلى أن يرد دليل على ثبوته ، وهو المعبر عنه بالبراءة الأصلية. وهو
يشتمل على فردين ؛ لأن الحكم الشرعي المنفي ، إما أن يكون وجوبا أو تحريما ،
والفردان قد تقدم إيضاحهما في الدرّة الموضوعة في البراءة الأصليّة .
ومحط النزاع في
الحجية وعدمها هو أحد فرديها ، وهو نفي التحريم في فعل وجودي إلى أن يقوم دليله ،
وأمّا الأمر ـ وهو نفي الوجوب في فعل وجودي إلى أن يقوم دليله ـ فلا إشكال في
حجيته كما أوضحناه ثمة ، فالاستصحاب إن وقع
__________________
في الفرد الأول فهو باطل بما أبطلناه به هناك ، وإن وقع في الفرد الثاني
فلا بأس به ، إلّا إن حجيته هنا في التحقيق ليس من حيث كونه استصحاب الحالة
السابقة ، بل من حيث إن الإنسان إذا خلّي ونفسه كانت ذمّته بريئة عن تعلق التكليف
، سواء كانت التخلية في الزمان السابق ، أم اللاحق.
وثانيها
: استصحاب حكم
العموم إلى أن يرد مخصّص ، وحكم النصّ إلى أن يرد ناسخ. وهذا مما لا خلاف في
حجّيّته والعمل به.
وثالثها
: استصحاب حكم
ما ثبت شرعا ، كالملك بعد وجود سببه ، وشغل الذمة عند اتلاف او التزام إلى أن يثبت
رافعه. هكذا عبّر به الأصحاب عن هذا القسم .
والأظهر
التعبير عنه باستصحاب إطلاق النص إلى أن يثبت المقيد ؛ فإن مرجع هذا القسم إلى
العمل بإطلاق النصّ والاستناد إليه ؛ ولأن التعبير بما ثبت شرعا يوهم الشمول للقسم
الآتي. وهذا القسم أيضا ممّا لا إشكال [فيه] بل ولا خلاف في الاستناد إليه ،
والعمل في الأحكام عليه ، وفروعه في الأحكام الشرعية أكثر من أن يأتي عليها قلم
الإحصاء ، أو تدخل في حيّز الاستقصاء ، فمنها استصحاب الحكم بطهارة شيء أو نجاسته
، واستصحاب الحكم بصحّة الطهارة من الحدث ، واستصحاب الحكم بالحلية في المشتبه
الغير المحصور ، واستصحاب الملك بعد وقوع سببه والنكاح ، وما يترتب عليه بعد وقوع
عقده ورقيّة العبد ولو بعد فقده ، وكون النهار باقيا والليل باقيا والذمّة مشغولة
بعبادة ونحوها ، إلى أن يظهر شيء مما جعله الشارع رافعا لهذه الأحكام.
ورابعها
: استصحاب حكم
شرعي في موضع طرأت فيه حالة لم يعلم شمول الحكم لها ، بمعنى أنه ثبت حكم في وقت ،
ثم يجيء وقت آخر لا يقوم دليل
__________________
على انتفاء ذلك الحكم فيه ، فيحكم ببقائه على ما كان ؛ استصحابا لتلك الحال
الاولى. وبعبارة اخرى : إثبات الحكم في زمان لوجوده في زمان سابق عليه.
وهذا هو محل
الخلاف في المقام ، ومنتصل سهام النقض والإبرام.
فجملة من
الاصوليين ـ بل قيل : أكثرهم ـ على القول بحجيته. والمشهور بين المحدثين ، وجملة
من الاصوليين ، بل نقل البعض أنه مذهب أكثرهم ، ومنهم الشيخ المفيد ، والسيد
المرتضى ، والمحقق الحلي ، والمحقق الشيخ حسن ابن شيخنا العالم الرباني الشهيد
الثاني والسيد السند صاحب (المدارك) ـ قدس الله
أرواحهم ـ على عدم حجيته ، ومثلوا له بالمتيمم إذا دخل في الصلاة ثم وجد الماء في
أثنائها ، فإن الاتفاق واقع على وجوب المضيّ فيها قبل الرؤية ، فهل يستمر على فعلها
والحال كذلك بناء على الاستصحاب ، أم يستأنف؟
وزاد بعض
أصحابنا المحقّقين من متأخّري المتأخّرين قسما آخر ، وهو استصحاب حال العقل ، قال
: (القسم الثاني : استصحاب حال العقل ، أي الحالة السابقة ، وهي عدم شغل الذمّة
عند عدم دليل وأمارة عليه ، والتمسّك به بأن يقال : إن الذمة لم تكن مشغولة بهذا
الحكم في الزمن السابق أو الحالة الاولى ، فلا تكون مشغولة في الزمان اللاحق أو
الحالة الاخرى ، وهذا إنّما يصحّ إذا لم يتجدّد ما يوجب شغل الذمة في الزمان
الثاني. ووجه حجيّته حينئذ ظاهر ؛ إذ التكليف بالشيء مع عدم الإعلام به تكليف ما لا يطاق) انتهى.
__________________
وفيه أن مرجع ذلك إلى ما ذكرنا من الفرد الآخر من القسم الأول ـ أعني : نفي
الوجوب في فعل وجودي إلى أن يقوم دليله ـ فإنه لمّا اعتبر في هذا القسم الذي ذكره
عدم العلم بتجدّد ما يوجب ثبوت الحكم في الزمان اللاحق بعد الفحص المعتبر في الحكم
ببراءة الذمة ، اشتركا في العلة الموجبة التي هي لزوم التكليف بما لا يطاق.
نعم
، ربما يظهر وجه
الفرق بينهما ، بأن الاستدلال في هذا القسم الذي ذكره ، مبنيّ على انتفاء الحكم في
الزمان السابق ، وإجرائه في اللاحق بالاستصحاب ؛ فيرد عليه ما يرد على حجيّة
الاستصحاب في نفس الحكم الشرعي. ولهذا اعترضت الشافعية على الحنفية
بأن قولهم بالاستصحاب في نفي الحكم دون نفسه تحكّم ، وبناؤه في القسم الأول على
انتفاء الدليل على ثبوت الحكم في الحال ، سواء وجد في السابق أم لا ، إلّا إن فيه
:
أولا
: أن اعتبار عدم العلم بتجدد ما يوجب ثبوت الحكم في الزمن
اللاحق بعد الفحص ، يوجب رجوعه إلى الأول كما عرفت.
وثانيا
: أنه لما كان
مرجع حجّيّة الأول كما ذكرنا ثمة إلى أن الإنسان إذا خلّي ونفسه كانت ذمته بريئة
من تعلق التكليف ، سواء كانت التخلية في الزمن السابق أو اللاحق فلا يظهر لهذا
الفرق حينئذ وجه. وبذلك يظهر أيضا سقوط إيراد الشافعية على الحنفية بالقول بحجية
الاستصحاب في نفي الحكم دون ثبوته ، فإن ذلك ليس تحكما كما ادعوه.
إذا عرفت ذلك ،
فاعلم أنه قد استدلّ القائلون بحجية الاستصحاب ، بالمعنى الرابع بوجوه :
__________________
أحدها
: أن المقتضي
للحكم الأول ثابت ، والمعارض لا يصلح رافعا له ، فيجب الحكم بثبوته في الثاني.
أمّا أن المقتضي للحكم الأول ثابت ؛ فلأنا نتكلم على هذا التقدير ؛ وأما أن
المعارض لا يصلح رافعا ؛ فلأن المعارض إنّما هو احتمال تجدد ما يوجب زوال الحكم ،
لكن احتمال ذلك يعارضه احتمال عدمه ، فيكون كل واحد منهما مدفوعا بمقابله ، فيبقى
الحكم الثابت سليما عن المعارض.
وثانيها
: أن الثابت أولا
، قابل للثبوت ثانيا ، وإلّا لانقلب من الإمكان الذاتي إلى الاستحالة ، فيجب أن
يكون في الزمان الثاني جائز الثبوت كما كان أولا ، فلا ينعدم إلّا لمؤثّر ،
لاستحالة خروج الممكن عن أحد طرفيه إلى الآخر إلّا لمؤثر.
فإذا كان
التقدير عدم العمل بالمؤثر يكون بقاؤه أرجح من عدمه في اعتقاد المجتهد ، والعمل
بالراجح واجب.
وثالثها
: أن الفقهاء
عملوا باستصحاب الحال في كثير من المسائل ، والموجب للعمل هناك موجود في موضع
الخلاف ، وذلك كمسألة من تيقن الطهارة وشك في الحدث فإنه يعمل على يقينه وكذلك
العكس ، ومن تيقّن طهارة ثوبه في حالة بنى على ذلك حتى يعلم خلافها ، ومن شهد
بشهادة يبني على بقائها حتى يعلم رافعها ، ومن غاب غيبة منقطعة حكم ببقاء أنكحته
ولم تقسم أمواله وعزل نصيبه من المواريث. وما ذلك إلّا لاستصحاب حال حياته. وهذه
العلة موجودة في موضع الاستصحاب ، فيجب العمل به.
ورابعها
: أن العلماء
مطبقون على وجوب إبقاء الحكم مع عدم الدلالة الشرعية على ما تقتضيه البراءة
الأصليّة ، ولا معنى للاستصحاب إلّا هذا.
وهذه الوجوه
الأربعة نقلها المحقق الشيخ حسن قدسسره في (المعالم) حجة للقائلين بالاستصحاب ، وسكت في الجواب عنها ، مع أن المفهوم
منه عدم القول بذلك.
__________________
احتج السيد
المرتضى رضياللهعنه على عدم جواز العمل به بأن في استصحاب الحال جمعا بين
حالتين مختلفتين في حكم من غير دلالة. فإنا إذا كنا أثبتنا الحكم في الحالة الاولى
بدليل فالواجب أن ننظر إن كان الدليل. إنّما هو للحالة الاولى فقط ، والثانية
عارية عن الدليل ، فلا يجوز إثبات الحكم لها من غير دليل.
وجرت هذه
الحالة مع الخلو من الدليل مجرى الاولى لو خلت من دلالة ، فإذا لم يجز إثبات الحكم للأولى إلّا
بدليل ، فكذلك الثانية.
ثم أورد سؤالا
حاصله أن ثبوت الحكم في الحالة الاولى يقتضي استمراره إلّا لمانع ؛ إذ لو لم يجب
ذلك لم يعلم استمرار الأحكام في موضع ، وحدوث الحوادث لا يمنع من ذلك.
وأجاب بما
ملخّصه : أنه لا بدّ من اعتبار الدليل الدالّ على ثبوت الحكم في الحالة الاولى وكيفية
إثباته ، وهل ثبت ذلك في حالة واحدة على سبيل الاستمرار؟ وهل تعلق بشرط مراعى أو
لم يعلق؟
قال : (وقد
علمنا أن الحكم الثابت في الحالة الاولى وإنّما ثبت بشرط فقد الماء ، فالماء
في الحالة الثانية موجود ، واتّفقت الأمة على ثبوته في الاولى ، واختلفت في الثانية
، فالحالتان مختلفتان) إلى آخر كلامه ، منحه الله تعالى جزيل إكرامه.
ومنه يعلم وجه
الجواب عن الوجهين الأوّلين من أدلّة القائلين بالحجية ، وتوضيحه أن الدليل الدال
على الحكم في الحالة الاولى إذا كانت دلالته مقصورة على تلك الحالة على وجه لا
عموم فيه بحيث يتناول ما عداها ، فكيف يصح أن
__________________
يقال : العارض لا يصلح أن يكون رافعا له ، وأنه لا ينعدم إلّا بمؤثر ؛
إذ الغرض أنه لا دليل على ذلك الحكم في الحالة الثانية ، فلا حكم فيها حتى ينازع في
رفعه وانعدامه؟
والاحتياج إلى
الرافع أو المؤثر إنّما يتم لو اقتضاه الدليل على الدوام ، وأمّا إذا اقتضاه في
الحالة الاولى وسكت عن الثانية ، فيكفي في انتفائه فيها عدم الدلالة عليه وإن لم
يقم على انتفائه فيها دليل. وظنّ بقاء الحكم ممنوع ، ضرورة أن الممكن إنّما يبقى
بحسب ما يقتضيه السبب الموجب له.
وبهذا يظهر
الجواب أيضا عما استدل به بعض المحققين على الحجية أيضا من أنه قد تقرّر في الاصول
أن البقاء لا يحتاج إلى دليل في نفسه ؛ إذ الأصل أن ما ثبت دام إلى وجود قاطع ،
وذلك معنى الاستصحاب. وقد أجيب عنه أيضا أن ما ثبت جاز أن يدوم وألّا يدوم ، فلا
بد لدوامه من دليل سوى دليل الثبوت.
وأمّا
الجواب عن الثالث ، فبأنه قياس مع الفارق ، فإن تلك الأشياء المعدودة من قبيل القسم الثالث أو
الثاني ، وأن الأخبار الدالة على تلك المسائل المعدودة ، قد دلت على ثبوت تلك
الحالات مستمرة إلى وجود الرافع لها ، كقولهم عليهمالسلام : «كل
شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر» ، و «كل
شيء فيه حلال وحرام ، فهو لك حلال حتى تعلم الحرام بعينه فتدعه» ، و «إياك أن تحدث وضوءا حتى تستيقن
أنك
__________________
أحدثت» ، و: «لا
تنقض اليقين بالشك وإنّما تنقضه بيقين آخر» . ونحو ذلك.
وكلها ـ كما
ترى ـ صريحة الدلالة في دوام تلك الحال إلى أن يحصل ما يزيلها. وهذا بمعزل عن معنى
الاستصحاب الذي يجعلونه دليلا برأسه وقسيما للأخبار إذ هو كما عرفت أن يثبت حكم في وقت ،
ثم يأتي وقت آخر ، ولا يقوم دليل على انتفاء ذلك الحكم فيه ؛ فيحكم ببقائه على ما
كان. والحكم في هذه الأخبار قد ثبت مستمرّا إلى تلك الغايات المذكورة فيها.
وأيضا فالنافون
له يقولون : إنه لا يكفي في العمل به في الحالة الثانية عدم دليل انتفائه ؛ لأن
دليل انتفائه فرع ثبوته ، بل لا بد من دليل الثبوت.
قال المحقق
الحلي ـ عطر الله مرقده ـ على ما نقله عنه في كتاب (المعالم) : (والذي
نختاره نحن أن ننظر في الدليل المقتضي لذلك الحكم ؛ فإن كان يقتضيه مطلقا وجب
القضاء باستمرار الحكم كعقد النكاح مثلا فإنه يوجب حل الوطء مطلقا. فإذا وقع
الخلاف في الألفاظ التي يقع بها الطلاق ، وكقوله : أنت خليّة أو بريّة ، فإن
المستدل على أن الطلاق لا يقع بهما لو قال : حل الوطء ثابت ، قبل النطق بهذه ،
فيجب أن يكون ثابتا بعدها لكان استدلاله صحيحا ؛ لأن المقتضي للتحليل ـ وهو العقد
ـ اقتضاه مطلقا ، ولا يعلم أن الألفاظ المذكورة رافعة لذلك الاقتضاء ، فيكون الحكم
ثابتا ؛ عملا بالمقتضي.
لا يقال :
المقتضي هو العقد ، ولم يثبت أنه باق ، فلم يثبت الحكم.
__________________
لأنا نقول :
وقوع العقد اقتضى حل الوطء لا مقيدا بوقت ، فلزم دوام الحلّ نظرا إلى وقوع المقتضي
لا إلى دوامه ، فيثبت الحل حتى يثبت الرافع. فإن كان الخصم يعني
بالاستصحاب ما أشرنا إليه ؛ فليس ذلك عملا من غير دليل ، وإن كان يعني أمرا وراء
ذلك ؛ فنحن عنه مضربون) انتهى. وقريب منه كلامه في (المعتبر) أيضا.
وأمّا
الجواب عن الرابع : فبأن الموضع الذي أطبق العلماء على وجوب إبقاء الحكم مع عدم الدلالة
الشرعية على ما تقتضيه البراءة الأصلية إنّما هو في أحد فرديها ، وهو نفي الوجوب
في فعل وجودي حتّى يقوم دليله. وقد عرفت آنفا أن الموجب للعمل بالاستصحاب في
هذه الصورة إنّما هو الخروج عن لزوم التكليف بما لا يطاق ، مع أن في موضع النزاع
قد طرأت حالة بسببها تغير موضوع المسألة ؛ فوجه الفرق بين الموضعين ظاهر.
على أنك قد
عرفت أيضا أن مقتضى التحقيق ، أن حجية هذا الفرد ليس من
__________________
__________________
حيث استصحاب الحالة السابقة ، كما هو موضع البحث ، بل من حيث إن الإنسان
إذا خلّي ونفسه كانت ذمته بريئة عن تعلق التكليف به ، سواء كانت التخلية في الزمان
السابق أو اللاحق. فالمرجع حينئذ إلى العمل بالأصل الذي هو بمعنى الحالة الراجحة ،
كما في قولهم : (الأصل في الكلام الحقيقة) بمعنى أن الراجح حمل اللفظ على معناه
الحقيقي ، مع عدم صارف عنه.
وكما في قولهم
: (الأصل العدم) ، فإنه مبني على أن كلّ ممكن إذا خلي ونفسه ترجّح عدمه على وجوده
؛ لأن المراد من التخلية ، عدم تأثير مؤثر.
ولهذا أن جملة
من نفى القول بالاستصحاب كالسيد السند في (مدارك الأحكام) اعتمد على البراءة
الأصلية بهذا المعنى ، قال قدسسره في الكتاب المذكور ـ في مقالة الماء الكثير المتغير
بالنجاسة في بيان عدم طهره بزوال التغيير بدون مطهر شرعي بعد نقل الاحتجاج
بالاستصحاب ورده ـ ما هذا لفظه : (والحق أن الاستصحاب ليس بحجة إلّا فيما دل
الدليل على ثبوته ودوامه ، كاستصحاب الملك عند جريان السبب).
إلى أن قال : (فإن
الاستصحاب عبارة عن التمسّك بدليل عقلي كأصالة البراءة ، أو شرعي ، كالأمثلة
المتقدمة) انتهى.
ويدل على عدم
حجية الاستصحاب بالمعنى المتنازع فيه وجوه :
أحدها
: عدم ظهور
دلالة شرعية على اعتباره ؛ لما عرفت من القدح في أدلة المثبتين. وهو كاف في
المطلوب.
وثانيها
: أن مفاده ـ بناء
على ما ذكروه ـ إنّما هو الظن ، وقد قامت الأدلة القاطعة من الآيات والروايات ـ كما
بسطنا الكلام فيه في كتاب (المسائل) ـ على عدم
__________________
جواز العمل على الظن في أحكامه تعالى ، وهم قد خصّوها بالاصول المطلوب
القطع فيها. والمسألة من الاصول عندهم ، فكيف يسوغ البناء فيها على الظن؟! هذا مع
أن وجود الظن هنا أيضا ممنوع ؛ لأن موضوع المسألة مقيد بالحالة الطارئة ، وموضوع
المسألة الاولى مقيد بنقيض تلك الحالة ، فكيف يظن بقاء الحكم الأول؟
وثالثها
: أنه لا يخفى
على من تتبع الأخبار ، وغاص في لجج تلك البحار أنه قد ورد من الشارع في بعض
الصور حكم يوافق الاستصحاب بالمعنى الذي ذكروه وفي بعضها ما يخالفه ، وبذلك يعلم أن الاستصحاب
ليس حكما كليا ، ولا قاعدة مطّردة تبنى عليها الأحكام الشرعية. ومن تأمل في أحاديث
مسألة التيمّم إذا وجد الماء بعد الدخول في الصلاة التي هي المثال الدائر عندهم
للاستصحاب ظهر له صحة ما قلناه ؛ فإن بعضها قد دل على أنه ينصرف من الصلاة ويتوضأ
ما لم يركع ؛ وبعضها على أنه يمضي في صلاته مطلقا ركع أو لم يركع ، وبعضها على أنه
ينصرف بعد أن صلّى ركعة ويتوضأ ويبني على ما مضى.
وجل الأخبار
دالة على الانصراف ، ولكن بعضها : «ما لم يركع» ، (وبعضها ولو بعد تمام الركعة) ، ولم يرد
بالمضي إلّا رواية محمد بن حمران .
__________________
وحينئذ ، فلو كان الاستصحاب الذي اعتمدوه ومثلوا له بهذا المثال دليلا
برأسه لوجب على هذا المصلي ـ بمقتضى ذلك ـ المضيّ في صلاته ، ولزم منه طرح هذه
الأخبار. وفيه من البطلان ما لا يحتاج إلى حينئذ البيان.
ورابعها : أن
هذا الموضع من المواضع الغير المعلوم حكمه تعالى منه ، وقد تواترت الأخبار في مثله ،
بوجوب التوقف والعمل بالاحتياط.
إذا عرفت ذلك ،
فاعلم أن الذي يظهر من المحدث الأمين الأسترابادي قدسسره في تعليقاته على (المدارك) هو استنباط معنى آخر
للاستصحاب قد اختاره وذهب إليه ، واعتمد في جملة من المواضع عليه ، قال : (وهو
إجراء الحكم السابق الشرعي أو نفيه ، إجراء ظاهريا ما لم يثبت رافعه ، بمعنى أنه
إذا ثبت من الشارع حكم من الأحكام وجب العمل به ، فإذا حصلت شبهة توجب التردد في
رفع الحكم وعدمه ، وجب الفحص والبحث عن حكم الله سبحانه الواقعي في ذلك ، فإن حصل
عمل على مقتضاه ، وإلّا أجرى الحكم الأوّل إجراء ظاهريّا بمعنى أنه لا يجوز القطع
بكونه حكم الله تعالى واقعا ، فإنه بعد عروض الشبهة المذكورة لا يدري أن الله
سبحانه يديم الحكم أو لا يديمه ، كما لا يعلم أنه ينسخ الحكم الفلاني بعد ثبوته أو
لا ينسخه.
فعند عروض شبهة
النسخ يجب الفحص هل النسخ واقع أم لا؟ ومع العجز يجب إجراء الحكم السابق إلى ظهور
خلافه. وقد علم من الدين ضرورة انقسام الأحكام إلى ظاهري وواقعي ، واعتبار كل واحد
منهما ، وأن مناط أكثر الأحكام في نشأة التكليف هو الأول) انتهى كلامه ، زيد
مقامه.
وأنت خبير بأن
هذا المعنى الذي ذكره شامل لكل من القسم الثالث والرابع ،
__________________
ولا فرق بينه وبين القسم المتنازع فيه إلّا باعتبار أن اولئك القائلين
بحجية الاستصحاب يستندون في حجيته إلى ما دل على الحالة الاولى ويجرونه في الحالة
الثانية بالاستصحاب ، على حسب ما ورد في الحالة الاولى من غير فرق بين الحالين.
وهو قدسسره يجريه كذلك إلّا إنه يفرق في الدلالة بين الحالين : ففي
الحال الاولى الحكم عنده قطعي واقعي بناء على ما يختاره ويذهب إليه من
إفادة الأدلة للقطع واليقين.
وفي الحالة
الثانية بسبب عروض الشبهة ، واحتمال إدامة الله سبحانه الحكم واقعا ؛ وعدم إدامته
مع الفحص والعجز عن الدليل في موضع الشبهة ، يحصل الحكم ظاهريا. ثم إنه قدسسره استدلّ على هذا المعنى الذي ذهب إليه بأن العمل على هذه
القاعدة مستمر من بدء الإسلام إلى الآن.
قال : (ولو لا
ذلك للزم الحرج وعمت الحيرة ؛ لوقوع كثير من الناس في شبهة وجود الرافع مقيسا إلى
كثير من الأحكام قديما وحديثا ، مع العجز عن الرجوع إلى صاحب الشريعة في كثير من
الأوقات. وكثير من الأقسام المتّفق عليها في الاستصحاب لو تأملت فيه وجدته مبنيّا
على ما ذكرنا ؛ إذ شمول النص فيه لجميع الأحوال والأزمان ليس من باب العموم ، بل
من باب الإطلاق ، والمطلق لا يدل على أقصى أفراده بشيء من الدلالات الثلاث ؛
لتحقّقه في ضمن أقلها ، والاطلاق مشترك بينه وبين الصور المختلف فيها) انتهى.
وعندي فيما
ذكره ـ طاب ثراه ـ نظر من وجوه :
أمّا أولا ،
فلأن المفروض في الاستصحاب الذي هو محل النزاع كون محل الدليل هو الحالة الاولى.
__________________
غاية الأمر أنه
لم يقم على نفيه في الحالة الثانية دليل. والفرض أن الحالتين متغايرتان كما عرفت
من تمثيلهم بالمتيمم ، والاحتجاجات من الطرفين نفيا وإثباتا ؛ فإنه صريح فيما
ذكرنا.
وحينئذ ، فمجرد
عدم وجود الرافع ، مع تغاير الحالين لا يقتضي إجراء الحكم لا بطريق الواقع ولا
الظاهر ؛ إذ لا بد في صحة الحكم من شمول الدليل ولو بطريق الإطلاق صريحا أو مفهوما
، وما نحن فيه ليس كذلك ، على أن وجود الرافع فرع وجود الدليل في الحالة الثانية.
وهو كما عرفت
ممنوع ، فقوله في آخر كلامه : (والإطلاق مشترك بينه وبين الصور المختلف فيها)
ممنوع ، كيف وهو في غير موضع من مصنفاته قد عدّ أقسام الاستصحاب ، وجعل هذا القسم المختلف فيه
قسيما لهذا القسم المدلول عليه بالإطلاق؟! فلو كان مما يمكن إدخاله تحت الإطلاق
لما صحّ جعله
__________________
__________________
قسيما ، ولما صح جعله مطرحا للخلاف مع الاتفاق كما عرفت على ذلك القسم
المستند إلى الإطلاق ؛ إذ لا خلاف كما عرفت في صحة الاستناد إليه وبناء الأحكام
عليه.
وأمّا ثانيا ،
فلأن الأدلة الدالة على إبطاله ـ كما قدمنا ذكرها ، مع كونه قائلا بمضمونها ، وقد
أورد شطرا منها ـ لا اختصاص لها بصورة إجراء الحكم على جهة كونه واقعيا ، بل هي
دالة على عدم صحة الحكم المذكور في الزمن الثاني أعم من أن يكون واقعيا أو ظاهريا.
وبالجملة ،
فالمانع مستظهر ؛ إذ عدم الدليل دليل العدم ، وما استند إليه من لزوم الحرج والحيرة
، مندفع بالرجوع إلى العمل بمقتضى البراءة الأصلية ؛ فإنها في نفي الوجوب في فعل
وجودي حجة كما تقدم ، فلا ينحصر دفع الحيرة في العمل بالاستصحاب.
وأمّا ثالثا ،
فلأنه قدسسره لا يعمل في جميع الأحكام إلّا على ما يفيد القطع ،
ويمنع من البناء في الأحكام الشرعية على الظن. وهنا يتستّر عن البناء على الظن
بكون إجراء الحكم إنّما هو إجراء ظاهري لا واقعي. والناقد البصير والمتتبع الخبير
لا يخفى عليه أن الشارع لم يجعل شيئا من الأحكام منوطا بالواقع ، وإنّما جعل
التكليف منوطا بعلم المكلف بالأسباب التي رتب عليها تلك الأحكام ، كما تقدم ذلك في
مواضع من درر هذا الكتاب.
وأمّا رابعا ،
فلأن الاستصحاب المذكور هنا معارض بالبراءة الأصلية ، فهاهنا تعارض بين معنى الأصل
ـ أي الحالة السابقة المستصحبة ـ والحالة التي إذا خلّي الشيء ونفسه كان عليها.
وعدم الدليل على الاستصحاب ، بل قيام الدليل
__________________
على عدمه يرجح العمل بمقتضى البراءة الأصلية.
نعم ، ما ذكره
يتم في القسم الثالث من أقسام الاستصحاب ؛ لدلالة الدليل على الحكم مطلقا ، فعند
عروض شبهة الرافع يمكن التمسّك بإطلاق الدليل والعمل عليه ، وإن كان ظاهرا كما
ذكره.
ثم إنه قدسسره ذكر أن من جملة المواضع التي عرضت فيها شبهة الرافع ما
ظهرت فيه دلالة على زوال الحكم الأول ، ومنها ما لم يظهر دلالة على ذلك ؛ فيجب
الفحص ، ومع العجز عن العلم بالحكم الواقعي يجري على الحكم الظاهري. وعد من الأول
المتيمم لفقد الماء.
قال : (فإنه قد
ظهرت دلالة على زوال جواز الصلاة بتيمّمه إذا وجد الماء بعد التيمم. وهذه الحالة
موجودة قبل الشروع في الصلاة ، ولم يعلم أن الشروع في الصلاة هل هو رافع
لهذه الحالة أم لا؟ فيجب التفتيش حينئذ ، ومع العجز عن العلم بما هو واقع الحكم ما
مر) انتهى.
وتوضيح مراده
أن مقتضى العمل بالاستصحاب في مثال المتيمّم ، هو عدم صحة الصلاة لا صحتها كما هو
المشهور ؛ وذلك لأن الدليل كما دل على صحة التيمم مع فقد الماء وصحة الصلاة به ،
فقد دل أيضا على انتقاض التيمم بوجود الماء. وهو مطلق غير مقيد بوقت مخصوص ولا
حالة مخصوصة ، وهو رافع للحكم الأول ومقيد له ، والداخل في الصلاة بتيمّمه لو وجد
الماء في الأثناء ، فقد علم بمقتضى إطلاق الدليل على انتقاض التيمم بوجود الماء
انتقاض تيممه هنا ، ولم يعلم أن التلبس بالصلاة هل هو رافع ومقيّد لذلك الإطلاق أم
لا؟
فمقتضى الاستصحاب
العمل على إطلاق ذلك الدليل ، وهو يقتضي الانتقاض
__________________
وإلغاء موضع الشبهة. وأنت خبير بأنه على هذا التوجيه يصير
هذا الاستصحاب هنا من قبيل القسم الثالث من الأقسام المتقدمة.
وقال بعض فضلاء
متأخري المتأخّرين ـ بعد البحث في المسألة ، وبيان أن الاستصحاب المختلف فيه لا
يكون إلّا في الأحكام الوضعية ، أعني : الأسباب والشرائط والموانع للأحكام الخمسة
من حيث إنها كذلك ـ ما لفظه : (والحق ـ مع قطع النظر عن الروايات ـ عدم حجية
الاستصحاب ؛ لأن العلم بوجود السبب أو الشرط أو المانع في وقت لا يقتضي العلم ، بل
ولا الظن بوجوده في غير ذلك الوقت ، فالذي يقتضيه النظر بدون ملاحظة الروايات ،
أنه إذا علم تحقّق العلامة الوضعية تعلق الحكم بالمكلف ، وإذا زال ذلك العلم بعلم
وشك ، بل وظن أيضا ، يتوقف على الحكم الثابت أولا. إلّا إن الظاهر من الأخبار
أنه إذا علم وجود شيء فإنه يحكم به حتى يعلم زواله) .
ثم أورد جملة
من الأخبار الدالة على عدم انتقاض اليقين إلّا بيقين مثله ، وأنه لا ينتقض بمجرد
الشك في الناقض ، بل ولا ظنه ، وأورد أخبارا اخر مقصورة على موارد مخصوصة ، وقال
بعد ذلك : (لا يقال : هذه الأخبار الأخيرة إنّما تدل على حجية الاستصحاب في مواضع
مخصوصة ، فلا تدل على حجيته على الإطلاق.
لأنا نقول :
الحال على ما ذكرت من أن ورودها في موارد مخصوصة ، إلّا إن العقل يحكم من بعض
الأخبار الدالة على حجيته مطلقا ، ومن حكم الشارع في موارد مخصوصة كثيرة ـ كحكمه
باستصحاب الملك وجواز الشهادة به ، حتى
__________________
يعلم الرافع والبناء على الاستصحاب في بقاء الليل والنهار وعدم جواز
قسمة تركة الغائب قبل مضيّ زمان يظن فيه عدم بقائه ، وعدم تزويج زوجاته ، وجواز
عتق الآبق من الكفارة ، إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة ـ [بأن] الحكم في خصوص
هذه المواضع بالبناء على الحالة السابقة ليس لخصوص هذه المواضع ،
بل لأن اليقين لا يرفعه إلّا يقين مثله) انتهى.
وفيه :
أولا : أنك قد
عرفت غير مرة من كلام القوم دعوى واحتجاجا وجوابا أن الحالتين مختلفتان ، وأن
الدليل إنّما دل على الحالة الاولى خاصة.
غاية الأمر أنه
لم يتجدد له رافع في الحالة الثانية. وقد عرفت أنه لا يكفي في ثبوته عدم الرافع ؛
إذ الرافع فرع وجوده.
والدليل في هذه
الأخبار ، قد دل على (العمل على اليقين مستمرّا إلى حصول يقين الرافع) ، مثلا يقين
الطهارة ، يجب البناء عليه والحكم به إلى أن يحصل يقين الحدث. والفرق بين الموضعين
أن متعلق اليقين في موضع الاستصحاب إنّما هو الحالة الاولى ، فإن يقين صحة التيمم
في مثالهم مقصور على حال عدم الماء.
وأمّا في مدلول
تلك الأخبار فجميع الحالات إلى ظهور يقين الرافع .
وقوله : (إنه
إذا علم وجود شيء فإنه يحكم به ، حتى يعلم زواله) ليس على إطلاقه كما توهمه ـ طاب
ثراه ـ فإن علم وجود ذلك الشيء الذي هو عبارة عن الحكم يناط بما تعلق به من الأمر والدليل ؛
فإن كان دائما إلى غاية تحقق دوامه [كان] كذلك ، وإن كان مخصوصا بوقت أو حالة كان
كذلك أيضا. فأمر
__________________
الشارع بالبناء على يقين الطهارة متعلق بجميع الأوقات والحالات إلى أن يحصل
يقين الرافع ، بخلاف حكمه بصحّة التيمّم ، والدخول به في الصلاة ؛ فإنه مقصور على
حال عدم الماء.
والظاهر أن
منشأ الشبهة عنده حمل العلم واليقين المستصحب على ما هو في الواقع ونفس الأمر ،
بمعنى أنه إذا تطهّر من الحدث ، أو غسل ثوبه من النجاسة ، فقد حصلت الطهارة من
الحدث والخبث يقينا ، فيستصحب هذا اليقين إلى يقين وجود الرافع. وهو غفلة ظاهرة ؛
فإن اليقين في هذه المواضع وأشباهها ، إنما هو عبارة عن عدم العلم بالرافع ، وهو
أعم من أن يكون مع العلم بعدمه أم لا ، لا عن العلم بعدمه ؛ إذ الشارع لم ينط الأحكام
بالواقع ، لتعذره. فالظاهر ـ مثلا ـ ليس إلّا عبارة عما لم يعلم بملاقاة النجاسة
له ، لا ما علم عدم الملاقاة له ؛ والحلال ليس إلّا ما لم يعلم تحريمه ، لا ما علم
عدم تحريمه ؛ والنجس ليس إلّا ما علم ملاقاة النجاسة له ، لا ما لاقته النجاسة
مطلقا.
وحينئذ ، فإذا
كان اليقين إنما هو عبارة عن عدم العلم بالرافع ، فهو ثابت لما تعلق به في جميع
الأحوال والأزمان إلى أن يحصل العلم بوجود الرافع. هذا فيما وقع فيه النهي عن نقض
اليقين إلّا بيقين مثله من تلك الأخبار التي سردها ، وأما في جملة منها ، فالأحكام
مقصورة على مواردها ، وقوله : (فإن الحكم في خصوص هذه المواضع) ـ إلى آخره ـ ممنوع.
وبالجملة ، فإن
الاستصحاب المتنازع فيه إنما هو عبارة عن إجراء الدليل بعد ثبوته في موضع إلى موضع
آخر عار عن الدليل. وهذه الأخبار التي نقلها مما لا
__________________
مجال للمنازعة في استمرار الحكم فيها ، وشموله إلى ظهور الرافع .
وثانيا : أن
القدر المقطوع به ـ كما نبّه عليه بعض المحققين من عدم نقض
اليقين إلّا بمثله ، فلا ينقضه الشك حسب ما تضمنته تلك الأخبار ـ هو أن
المراد بالشك هو الشك المتعلق بحصول الناقض وعدمه ، بمعنى أنه بعد تحقق النقض لذلك
الناقض وثبوته له ، شك في حصوله وعدم حصوله ، كالنوم مثلا ، فإنه ناقض قطعا ، لكن
متى شك المتطهر في حصوله وعدم حصوله ، فإنه لا ينقض يقين الطهارة بهذا الشك ؛ لا أن المراد بالشك
، ما هو أعم من ذلك ، ومن الشك في ثبوت النقض للناقض مع تحقق حصوله ، كالشك في نقض
الخارج من غير الموضع الطبيعي وعدم نقضه مثلا ، والشك في أن وجدان الماء بعد
الدخول في الصلاة هل هو ناقض أم لا.
إذا انتقش ذلك على
لوح خاطرك وثبت في مكنون ضمائرك ، فاعلم أنه قد ذكر بعض فضلاء متأخري المتأخرين أن للعمل
بالاستصحاب شروطا منها ألّا
__________________
__________________
يحدث في الوقت الثاني ما يوجب انتفاء الحكم الأول ، قال : (والعامل بالاستصحاب
ينبغي له غاية الملاحظة ـ في هذا الشرط ـ مثلا في مسألة من دخل في الصلاة بالتيمم
، ثم وجد الماء في أثناء الصلاة ينبغي للقائل بالبناء على تيممه وإتمام الصلاة
للاستصحاب ـ ملاحظة النص الدال على أن التمكن من استعمال الماء ناقض للتيمم هل هو مطلق أو عام
بحيث يشمل هذه الصورة أولا؟ فإن كان الأول ، فلا يجوز العمل بالاستصحاب ؛ لأنه
حينئذ يرجع إلى فقد الشرط الأول حقيقة ، وإلّا فيصح التمسك به) انتهى.
أقول : ومرجع
هذا الكلام إلى ما قدمنا عن المحدّث الأمين الأسترابادي قدسسره من أن هذه الصورة ليست في الحقيقة من الاستصحاب
المتنازع فيه ؛ لأن ما دل على انتقاض التيمم بوجود الماء مطلق لا تقييد فيه بوقت
مخصوص ولا حالة مخصوصة.
ومنها ألّا
يكون هناك استصحاب آخر معارض له يوجب نفي الحكم الأول في الثاني ، مثلا في مسألة
الجلد المطروح قد استدل جمع على نجاسته باستصحاب عدم الذبح نظرا إلى حال حياته ،
ولم يعلم زوال عدم المذبوحية لاحتمال الموت حتف أنفه ، فيكون نجسا ؛ إذ الطهارة لا
تكون إلّا مع الذبح. فإن فيه أن هذا الاستصحاب معارض باستصحاب آخر أيضا ، فإن
طهارة الجلد في حال الحياة ثابتة إن لم يعلم زوالها ، لتعارض احتمال الذبح وعدمه ،
فيتساقطان ويبقى الأصل الأول ثابتا.
واستند بعض آخر
ممن قال بالنجاسة هنا إلى أن للذبح أسبابا حادثة ،
__________________
والأصل عدم الحادث ، فيكون نجسا .
وفيه ـ كما
تقدم في الدرة الموضوعة للبراءة الأصلية ـ أن أصالة العدم أيضا مشروطة بشروط منها ألّا
تكون مثبتة لحكم شرعي ، مع أنه أيضا معارض بأصالة عدم أسباب الموت حتف أنفه.
والتحقيق أن
الحكم بالنجاسة في الجلد المذكور ـ بناء على ما ذكروا من الاستصحاب غلط محض ؛ وذلك
أنه لا معنى للاستصحاب كما عرفت آنفا إلّا بثبوت الحكم بالدليل في وقت ، ثم إجرائه
في وقت ثان ؛ لعدم قيام دليل على نفي الحكم المذكور أوّلا في الوقت
الثاني ، مع بقاء الموضوع في الوقتين وعدم تغيره. فثبوت الحكم في الوقت الثاني فرع
على ثبوته في الوقت الأول ، وإلّا فكيف يمكن إثباته في الثاني مع عدم
ثبوته أولا. واستصحاب عدم المذبوحية في المسألة المذكورة لا يوجب الحكم بالنجاسة ؛
لأن النجاسة لم تكن ثابتة في الوقت الأول وهو وقت الحياة. ووجهه أن عدم المذبوحية
لازم لأمرين : أحدهما الحياة ، وثانيهما الموت حتف أنفه.
والموجب
للنجاسة ليس هو هذا اللازم من حيث هو ، بل ملزومه الثاني ، أعني الموت حتف أنفه.
فعدم المذبوحية اللازم للحياة مغاير لعدم المذبوحية اللازم للموت حتف أنفه ،
والمعلوم ثبوته في الزمن الأول هو الأول لا الثاني. وظاهر أنه غير باق في الوقت
الثاني.
__________________
(١٠)
درة نجفية
في ذم العجب في الأخبار
المعصومية
قد استفاض في
الأخبار عن الأئمَّة الأطهار ـ صلوات الله عليهم ـ ذم العجب وأنه مهلك ، كما ورد
في جملة منها : «ثلاث
مهلكات : شح مطاع ، وهوى متّبع ، وإعجاب المرء بنفسه» .
والعجب [ممّا] ما ذكره بعض
المحققين [من أنه] عبارة عن (استعظام العمل الصالح واستكثاره والابتهاج به
والإدلال به ، وأن يرى نفسه خارجا عن حد التقصير) .
وقيل : إنه
عبارة عن (هيئة نفسانية تنشأ من تصور الكمال في النفس والفرح به والركون إليه ، من
حيث إنه قائم به وصفة له مع الغفلة عن قياس النفس إلى الغير بكونها أفضل منه.
وبهذا القيد
ينفصل عن الكبر ؛ إذ لا بد في الكبر أن يرى الإنسان لنفسه مرتبة ولغيره مرتبة ، ثم
زيادة مرتبته على مرتبة الغير. وهذا التعريف أعم من
__________________
الأول بحمل الكمال فيه على ما هو أعم من أن يكون كمالا في نفس
الأمر ، أو لم يكن كسوء العمل إذا رآه حسنا فابتهج به) .
وهو الأنسب
بأخبار الباب ، والأول أعم من أن يكون فعله كالأعمال الصالحة
أو لا ، كالصورة الحسنة والنسب الرفيع. والمفهوم من الأخبار أن للعجب
مراتب ، منها أن يزيّن الشيطان للإنسان سوء عمله فيراه حسنا ؛ لعدم التفاته إلى
مفاسده الظاهرة بأدنى تأمل ، وإخراجه نفسه عن حد التقصير ، فيحسب أنه يحسن صنعا ،
وإليه يشير قوله سبحانه وتعالى (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ
سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) ، وقوله سبحانه (الَّذِينَ ضَلَّ
سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ
صُنْعاً) .
قال بعض فضلاء
متأخّري المتأخّرين : (أكثر الجهلة على هذه الصفة ، فإنهم يفعلون أفعالا قبيحة
عقلا ونقلا ، ويعتادون عليها حتى تصير تلك الأعمال بتسويل أنفسهم وتزيين قرينهم من
صفات الكمال عندهم ، فيذكروها ويتفاخروا بها ، ويقولوا : إنا فعلنا كذا وكذا
إعجابا بشأنهم وإظهارا لكمالهم) انتهى.
أقول : ويدخل
في هذه المرتبة أصحاب المقالات المبتدعة والأهواء المخترعة ، المخالفون
للشرائع الحقة والنواميس المحقّة ، الداخلون في ذلك
__________________
بمجرد العقول الحائرة الفاسدة ، والأوهام البائرة الكاسدة ممّن طبع الشيطان
على قلبه ، وأخذ بمجامع عقله ولبه.
ومنها أن يمن
على الله تعالى بطاعته مع كونها بإقداره سبحانه وتوفيقه وتمكينه ، وله تعالى المنة
فيها وفي غيرها ، وإليه يشير قوله تعالى (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ
أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ
عَلَيْكُمْ) الآية.
وعلى هاتين
المرتبتين تدل صحيحة علي بن سويد عن أبي الحسن عليهالسلام قال : سألته عن العجب الذي يفسد الأعمال ، فقال : «العجب درجات : منها
أن يزيّن للعبد سوء عمله ، فيراه حسنا ؛ فيعجبه ويحسب أنه يحسن صنعا ، ومنها أن
يؤمن العبد ، فيمن على الله ، ولله عليه
فيه المن» .
ومنها :
استكثار ما يأتي به من الطاعات واستعظامه ، ومنه ما ورد في رواية إسحاق بن عمار عن
الصادق عليهالسلام قال : إني عالم عابد. فقال عليهالسلام : «كيف
صلاتك؟».
فقال : مثلي
يسأل عن صلاته ، وأنا أعبد الله منذ كذا وكذا؟ فقال : «كيف بكاؤك؟» : فقال : أبكي حتى تجري دموعي. فقال له العالم عليهالسلام : «فإن
ضحكك وأنت خائف أفضل من بكائك وأنت مدلّ ، إن المدل لا يصعد من عمله شيء» .
وفي مرسلة أحمد
بن محمّد عن بعض أصحابنا عن أحدهما عليهماالسلام قال : «يدخل المسجد رجلان أحدهما عابد والآخر فاسق ،
فيخرجان من المسجد والفاسق صدّيق والعابد فاسق ؛ وذلك أنه يدخل العابد المسجد مدلا
بعبادته يدلّ بها ، فتكون فكرته في ذلك ، ويكون فكرة الفاسق في الندم على فسقه ،
ويستغفر الله مما صنع من الذنوب» .
وفي صحيح أبي عبيدة
الحذاء عن أبي جعفر عليهالسلام قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «قال
__________________
الله تعالى : إن من عبادي المؤمنين لمن يجتهد في عبادتي ، فيقوم من رقاده
ولذيذ وساده ، فيجتهد في الليالي ، فيتعب نفسه في عبادتي ، فأضربه بالنعاس الليلة
والليلتين نظرا مني له ، وإبقاء عليه ، فينام [حتى] يصبح ، فيقوم
وهو ماقت لنفسه زار عليها. ولو اخلّي بينه وبين ما يريد من عبادتي ، لدخله العجب
من ذلك ، فيصيره العجب إلى الفتنة بأعماله ، فيأتيه من ذلك ما فيه هلاكه ؛ لعجبه
بأعماله ، ورضاه عن نفسه ، حتى يظن أنه قد فاق العابدين وجاز في عبادته حد التقصير ، فيتباعد بذلك
عني ، وهو يظن أنه يتقرب إليّ » الحديث .
ولا ريب أن
العجب بالمعنيين الأوّلين مفسد للعمل ، بل ربما كان نوعا من الكفر مع الاعتقاد
الجازم.
أما بالنسبة
إلى الأول ، فإن اعتقاد سوء العمل حسنا مع دلالة (الكتاب) والسنّة على قبحه إبداع
في الدين وإن غفل عنه صاحبه اعتمادا على مجرد عقله ، وانهماكه فيه تبعا لدواعي
نفسه الأمّارة. ويرشد إلى ذلك ظاهر الآيتين خصوصا الثانية ، حيث دلت بأبلغ وجه على
أنهم الأخسرون أعمالا ، معقّبا بقوله (أُولئِكَ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ
لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) .
ومن هنا يعلم
صحة ما ذكرنا من دخول أصحاب المقالات المبتدعة والأهواء المخترعة ، ويؤيده ما رواه
الثقة الجليل علي بن ابراهيم القمي قدسسره في تفسيره عن الباقر عليهالسلام في قوله سبحانه (قُلْ هَلْ
نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) : «إنهم
__________________
النصارى ، والقسيسون ، والرهبان ، وأهل الشبهات ، والأهواء من أهل القبلة ،
والحرورية ، وأهل البدع» .
وأما بالنسبة
إلى الثاني ، فلأن الاعتقاد بأن له المنة على الله تعالى بشيء من الأعمال لا ينشأ
من قلب مؤمن عارف بالله سبحانه أدنى معرفة ؛ لأن من أدناها معرفة أنه الخالق
الرازق ، وهما يستغرقان جميع النعم اصولا وفروعا ، بل إنّما ينشأ من كافر مكذب ل (القرآن)
لقوله سبحانه (وَما بِكُمْ مِنْ
نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) أو من مبدع مفوض يعتقد أن الله سبحانه لا يقدر على سلب
قدرة العبد على الفعل وقت الفعل ، وإن كان هو الذي خوّله [إياها] أولا.
وقد عرفت كفر
أصحاب البدع مما سبق في الآية المتقدمة ، بل استظهر بعض مشايخنا المحققين من
متأخّري المتأخّرين أن مطلق تجويز الخلاف فيما علم بدليل قطعي من كتاب أو سنة كفر
وإبداع ؛ لأنه لا يتم إلّا باخراج الدليل عن كونه دليلا وهو معنى التكذيب
به ، والتكذيب به تكذيب الرسل أو المرسل انتهى ، وهو حسن.
وأما العجب
بالمعنى الثالث ، فالظاهر أنه لا يخلو عن إجمال.
ووجه التفصيل
فيه أنه إن كان استكثار ما يأتي به من الطاعة ، واستعظامه بالنسبة إلى ما يستحقه
سبحانه من الطاعة ، أو ما لله سبحانه عليه من النعم ، فهو راجع في التحقيق إلى
المعنى الثاني ؛ إذ يلزم منه أن طاعته حينئذ زائدة على مستحقه تعالى ، فيكون منّة
منه على الله تعالى. ولا ريب أنه بذلك يمتنع القصد إليها من حيث كونها طاعة له
سبحانه مستحقة ، وأنه أهلها.
__________________
وإن كان
استكثار ذلك في مقابلة معاصيه ، بمعنى أنه يعتقد أن طاعاته زائدة على معاصيه ، أعم
من أن يكون ذلك مطابقا للواقع كما ربما يتخيل أولا كما هو المحقق الواقع ، فالظاهر
كما اختاره بعض محققي مشايخنا من متأخري المتأخرين أن ذلك لا يقتضي كفرا
ولا إبداعا ، بل ولا فساد عمل وإن كان خطأ في الاعتقاد ، ونقصا في كمال الايمان ؛
لكونه الذنب الذي إذا أذنبه الإنسان استحوذ عليه الشيطان.
قال : ويرشد
إلى كونه خطأ في الاعتقاد موثقة الفضل بن يونس عن أبي الحسن عليهالسلام قال : قال لي : «أكثر من أن تقول
: لا تجعلني من المعارين ، ولا تخرجني من التقصير». قال : قلت : أما المعارون فقد عرفت ، فما معنى «لا تخرجني من التقصير»؟ قال : «كل عمل تعمله تريد به وجه الله ، فكن فيه
مقصرا عند نفسك ، فإن الناس كلهم في أعمالهم فيما بينهم وبين الله مقصرون» .
وإلى كونه نقصا
في كمال الإيمان ، لكونه ذنبا ، مرسلة يونس عن بعض أصحابنا عن الصادق عليهالسلام قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : بينما موسى عليهالسلام جالس إذ أقبل إبليس ،
وعليه برنس ذو ألوان ، فلما دنا من موسى عليهالسلام سلم عليه».
إلى أن قال : «قال
له موسى عليهالسلام : أخبرني بالذنب الذي إذا أذنبه ابن آدم استحوذت عليه؟
فقال : إذا أعجبته نفسه ، واستكثر عمله ، وصغر في عينه ذنبه.
وقال : قال
الله عزوجل لداود : يا داود بشر المذنبين ، وأنذر الصديقين. قال :
كيف ابشر المذنبين وانذر الصديقين؟ قال : يا داود ، بشر المذنبين أني أقبل التوبة
، وأعفو عن
__________________
الذنب ، وأنذر الصديقين أن يعجبوا بأعمالهم ، فإنه ليس عبد أنصبه للحساب
إلا هلك» .
وما ورد في
أخبار كثيرة من تفضيل العبد حالة الذنب عليه حالة العجب ، كحسنة عبد الرحمن بن
الحجاج عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إن الرجل ليذنب الذنب فيندم عليه ، ويعمل
العمل فيسره فيتراخى عن حاله تلك ، فلأن يكون على
حالة تلك خير له مما دخل فيه» .
وروايته الاخرى
قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : الرجل يعمل العمل وهو خائف مشفق ، ثم يعمل من البر
فيدخله شبه العجب به ، فقال : «هو
في حاله الاولى وهو خائف أحسن
منه في حال عجبه» .
وحاصل ما ذكره قدسسره أن غاية ما يستفاد من الأخبار بالنسبة إلى هذه المرتبة
كونه ذنبا موجبا لنقصان كمال الإيمان ، ولا دلالة فيها على إفساد العمل به ، بمعنى
أنه يوجب القضاء وإن أحبطه وأسقط ثوابه ؛ لأن غايته أن من الذنوب المحيطة المهلكة
، لاعتقاده خلاف ما هو الواقع من خروجه من حد التقصير ، فيما يجب عليه ، ولا تعلق
له بإخلاص الطاعة له سبحانه والتقرّب إليه وأداء ما يجب من حقوقه تعالى ، مثل المعاني
المتقدمة وإن كان استكثار ذلك بالنسبة إلى أبناء نوعه المشاركين له في تلك الأعمال
كاستكثار العالم علمه بالنسبة إلى من يشاركه في العلم ، والعابد عبادته بالنسبة
إلى غيره من العباد.
__________________
وهكذا مع قطع
النظر عن أن يرى نفسه بذلك خارجا عن حد التقصير ، فالظاهر أنه بهذا المعنى لا يكون
محرّما ولا مهلكا فضلا عن أن يكون مبطلا وإن أخطأ في ظنه.
نعم ، ربما كان
ذلك سبيلا إلى الوقوع في سابق هذه المرتبة من العجب الذي يرى به نفسه خارجا عن حد
التقصير ، وربما خطر هذا الخاطر للمعصومين عليهمالسلام كما ورد في رواية خالد الصيقل عن أبى جعفر عليهالسلام قال : «إن الله فوض الأمر إلى ملك من الملائكة فخلق
سبع سماوات وسبع أرضين ، فلما رأى أن الأشياء قد انقادت إليه قال : من
مثلي؟ فأرسل الله إليه نويرة من النار». قلت : وما النويرة؟ قال : «نار مثل الأنملة ،
فاستقبلها بجميع ما خلق ، فتخللت حتى وصلت إلى نفسه لمّا دخله العجب» .
ومنه ما روى عن
الرضا عليهالسلام في قضية تسوّر الملكين المحراب على داود عليهالسلام وتخاصمهما عنده ، حيث «ظن أن ما خلق الله عزوجل أعلم منه ، فبعث إليه الملكين ... فعجل داود على
المدّعى عليه ، فقال (لَقَدْ ظَلَمَكَ
بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) ، ولم يسأل المدّعي البينة على ذلك ، ولم يقبل على
المدّعى عليه فيقول له :ما تقول؟» .
وما روى أيضا
في شأن موسى عليهالسلام في قضية أمره باتباع الخضر عليهالسلام من أنه «قال في نفسه : ما خلق الله خلقا أعلم مني.
فأوحى الله عزوجل إلى جبرئيل أن أدرك
__________________
موسى فقد هلك ، وأعلمه أن عند ملتقى البحرين رجلا أعلم منك ، فصر إليه
وتعلّم من علمه ، فنزل جبرئيل على موسى وأخبره ، وذل موسى في نفسه ، وعلم أنه أخطأ
ودخله الرعب» .
وفي آخر أيضا :
«فبينا
موسى عليهالسلام قاعد في ملأ من بني
اسرائيل ؛ إذ قال له رجل : ما أرى أحدا أعلم بالله منك! قال موسى : ما أرى ، فأوحى
الله إليه : بل عبدى الخضر» الحديث.
وفي وقوعه من
هؤلاء الثابتة عصمتهم بالدليل العقلي والنقلي دلالة على عدم التحريم ، وأنه ليس
بذنب وإن سمّي بالنسبة إليهم هلاكا كما في الحديث الأول من حديث موسى ، أو استوجب
مؤاخذة ، كما في حديث الملك. فإن المستفاد من الأخبار المأثورة والأدعية المشهورة
أن المعصومين ـ صلوات الله عليهم ـ ربما عدّوا المباحات ذنوبا بالنسبة إليهم ، كما
حقّق في محل آخر. وقد قيل : إن (حسنات الأبرار سيئات المقربين) .
بقي هنا شيئان
:
أحدهما : أنه
قد ورد في رواية يونس بن عمار عن الصادق عليهالسلام قال : قيل له ـ وأنا حاضر : الرجل يكون في صلاته خاليا
، فيدخله العجب؟ فقال : «إذا
كان أول صلاته يريد بها ربّه ، فلا يضره ما دخله بعد ذلك ، فليمض في صلاته وليخسأ
الشيطان» ، فإنه ربما
أشعر بأن العجب المنافي للإخلاص إنّما هو الواقع في
__________________
ابتداء العمل. وأما الواقع في أثنائه بعد افتتاحه على
جهة الإخلاص فلا ، وهو خلاف المفهوم من الأخبار ؛ إذ لا فرق في إبطاله العمل
ومنافاته الإخلاص إذا وقع على أحد تلك المعاني بين الابتداء والأثناء.
والظاهر أن
المراد من العجب هنا : مجرد الوسوسة التي لا صنع للعباد فيها ، المسماة بالنزغ في
قوله سبحانه (وَإِمّا يَنْزَغَنَّكَ
مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) المأمور بالذكر عنده في قوله سبحانه (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ
طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا) .
والمراد من
الخبر حينئذ أن الصلاة إذا بنيت على نية صحيحة ، فلا يضره ما دخله بعد ذلك على جهة
الوسوسة من الشيطان ، كما يشير إليه قوله عليهالسلام : «وليخسأ
الشيطان».
وثانيهما : أنه
ينبغي أن يعلم أنه لا ينبغي أن يدخل في باب العجب محبة الإنسان ظهور الخير له بين
الناس وسروره برؤيتهم له كذلك ، إذا لم يكن ذلك باعثا له على الفعل ، وكذلك مجرد
سروره هو بعمله.
أما الأوّل ،
فلما ورد في حسنة زرارة عن الباقر عليهالسلام قال : سألته عن الرجل يعمل الشيء من الخير ، فيراه
الناس ، فيسرّه ذلك ، قال عليهالسلام : «لا
بأس ، ما من أحد إلّا وهو يحبّ أن يظهر له في الناس الخير إذا لم يكن يصنع ذلك
لذلك» .
وأما الثاني ،
فلما في رواية أبي العباس قال : قال أبو عبد الله عليهالسلام : «من سرته
__________________
حسنة وساءته سيئة ، فهو مؤمن» .
وفي رواية اخرى
عنه عليهالسلام عن النبي صلىاللهعليهوآله حين سئل : من خيار العباد؟ قال : «الذين إذا أحسنوا
استبشروا ، وإذا أساءوا استغفروا» الحديث.
قال بعض
المحققين : (لا ريب أن من عمل الأعمال الصالحة من قيام الليل ، وصيام الأيام ،
وأمثال ذلك يحصل لنفسه ابتهاج ، فإن كان من حيث كونه عطية من الله له ونعمة عليه ،
وكان مع ذلك خائفا من نقصها مشفقا من زوالها طالبا من الله الازدياد منها ، لم يكن
ذلك الابتهاج عجبا وإن كان من حيث كونها صفته وقائمة به ومضافة إليه ، فاستعظمها
وركن إليها ورأى نفسه خارجا من حد التقصير بها ، وصار كأنه يمن على الله بسببها ،
فذلك هو العجب المهلك) انتهى.
ولا ينافي ذلك
ما ورد في بعض الأخبار عن الباقر عليهالسلام من قوله لجابر رضياللهعنه : «لا
تكون مؤمنا حتى تكون بحيث لو اجتمع اهل مصرك على أنك رجل سوء لم يحزنك ذلك ،
واجتمعوا على أنك رجل خير لم يسرّك ذلك» ، فإنه محمول على الفرد الأكمل من الإيمان ، وللناس
مراتب ودرجات على حسب مراتب الإيمان ودرجاته ، ولكل خطاب بنسبة ما هو عليه من ذلك
، والله العالم.
__________________
(١١)
درة نجفية
في حكم الجمع بين الفاطميتين
روى الثقة
الجليل علي ابن الإمام جعفر الصادق عليهالسلام في كتابه عن أخيه موسى عليهالسلام قال : سألته عن الاختلاف في القضاء عن أمير المؤمنين عليهالسلام في أشياء من الفروج أنه لم يأمر بها ولم ينه عنها ،
إلّا إنه نهى نفسه وولده ، فقلت : فكيف يكون ذلك؟ قال : «أحلّتها آية ،
وحرمتها آية». قلت : هل تصلح أن تكون أحدهما منسوخة أم لا ، أم هما محكمتان ينبغي أن
يعمل بهما؟ قال : «قد
بيّن إذ نهى نفسه وولده». قلت : فما منعه أن يبيّن للناس؟ قال : «خشي ألّا يطاع. ولو أن أمير المؤمنين عليهالسلام ثبتت قدماه ، أقام
كتاب الله كله وصلى حسن وحسين عليهماالسلام وراء مروان ونحن نصلي
معهم» .
وروى هذا الشيخ قدسسره في (التهذيب) عن معمر بن يحيى بن بسام هكذا : سألت أبا
جعفر عليهالسلام عمّا يروي الناس عن أمير المؤمنين عليهالسلام عن أشياء من الفروج لم يكن يأمر بها ولا ينهى عنها إلّا
نفسه وولده ، فقلنا : كيف ذلك؟ قال : «أحلتها آية ، وحرمتها آية ». فقلنا : هل تكون أحدهما نسخت الاخرى ، أم هما محكمتان
__________________
ينبغي أن يعمل بهما؟ قال : «قد بيّن
لهم ؛ إذ نهى نفسه وولده». فقلنا : ما منعه أن يبيّن للناس؟ قال : «خشي ألّا يطاع ، فلو أن أمير المؤمنين عليهالسلام ثبتت قدماه أقام كتاب
الله كله والحق كله» .
قال الشيخ ناصر
بن محمد الجارودي ـ نسبة إلى الجارودية إحدى قرى الخط ـ في كتاب ألفه لترتيب
أحاديث علي بن جعفر ، ونظمها في أبواب متّسقة وربما تكلم في بعض المواضع منه ـ بعد
أن نقل حديث علي بن جعفر المذكور ، وأردفه بحديث (التهذيب) أيضا ـ ما صورته : (أقول
: لعلّ المراد من هذين الحديثين الجمع بين اثنتين من ولد فاطمة عليهاالسلام في النكاح ، يدلّ على ذلك ما رواه الشيخ في (التهذيب)
عن علي بن الحسن عن السندي بن الربيع عن محمّد بن أبي عمير عن رجل من أصحابنا قال : سمعته عليهالسلام يقول : «لا يحل لأحد أن يجمع بين اثنتين من ولد فاطمة
؛ إن ذلك يبلغها ، فيشق عليها». قلت : يبلغها؟ قال : «إي والله» انتهى.
والظاهر أن
الشيخ المذكور تبع في هذا الحمل الشيخ المحدث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح البحراني
قدسسرهما ، فإنه كان خصيصا به ، فإن الشيخ عبد الله المزبور قدسسره في كتاب (منية الممارسين في أجوبة الشيخ ياسين) حمل
الخبرين المذكورين على ذلك حيث قال ـ بعد سؤال السائل عن الجمع بين فاطميتين : (هل
يجوز أم لا؟) ـ ما صورته : (ذهب أصحابنا إلى جواز الجمع بينهما ، ولم
__________________
أعرف من واحد منهم خلافا ، إلّا من شيخنا العلّامة المحدث الشيخ محمد
بن الحسن بن علي الحر العاملي فإنه ذهب إلى التحريم . وكان شيخنا علامة
الزمان يتوقف في هذه المسألة ويأمر بالاحتياط فيها ، حتى إني سمعت من ثقة من
أصحابنا أنه أمره بطلاق واحدة من نسائه ؛ لأنه كان تحته فاطميتان. ونقل عنه أنه
يرى التحريم ، إلّا إني لم أعرف منه غير التوقف) .
ثم استدل للشيخ
محمد بن الحسن الحر بمرسلة ابن أبي عمير المتقدمة ، وقال : (وجه الاحتجاج من وجهين
:
الأول
: أن نفي
التعليل صريح في المنع ؛ ولأن النكرة في سياق النفي تفيد العموم.
الثاني
: التعليل بكونه
يبلغ فاطمة عليهاالسلام فيشق عليها ، ولا ريب أن الأمر الذي يشق عليها يؤذيها ،
وإيذاؤها محرم ؛ لقوله صلىاللهعليهوآله : «فاطمة
بضعة مني من آذاها فقد آذاني» .
ولقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ
لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) .
فيكون المؤدي
إلى إيذائها محرّما ، فيكون الجمع بين الفاطميتين محرما بنص (الكتاب) والسنّة).
ثم أورد موثقة
معمر بن يحيى بن بسام المتقدمة وقال : (إن إيراد الشيخ هذا الحديث ـ يعني الموثقة
المذكورة ـ بعد هذا الحديث المذكور سابقا بلا فصل ـ يعني مرسلة ابن أبي عمير ـ كأنه
فهم أنه في حكمه ، ولعل الجمع بين الفاطميتين كان عند الأئمَّة عليهمالسلام محرما ، ولم ينهوا عنه شيعتهم إلّا نادرا فلم
__________________
يشتهر عند الشيعة لموضع التقية) .
وبالجملة
، فصريح الحديث
يعطي أن شيئا من الفروج منهي عنه ، وإنّما لم ينه عنه ؛ لعدم المكنة ، ولم نعرف أن
شيئا من الفروج منهيّ عنه ولم يشتهر بين الناس غير هذا الحكم ، فيكون فيه تأييد
لما قبله) انتهى كلامه زيد إكرامه.
ولا يخفى عليك
ما في حمل هذين الشيخين لما تقدم من الخبرين على الجمع بين الفاطميتين من البعد
والتمحّل الظاهر في البين ، فإن منطوق الخبرين المذكورين لذلك الحكم : «أحلته آية وحرمته آية» ، ولم نعرف أن في (القرآن) العزيز آية تدل على تحريم
الجمع بين الفاطميتين ، لا إجمالا ولا تفصيلا. وتكلف إرادة التحريم من آية (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) بمعونة الحديثين المذكورين ـ أعني حديث البلوغ والمشقة
ـ وحديث (أن إيذاءها عليهاالسلام إيذاء له صلىاللهعليهوآله) لا يخفى ما فيه على ذي مسكة. على أن المعنى المراد من
الخبرين المذكورين ممّا قد صرّحت به الأخبار ، وأوضحته الآثار عنهم عليهمالسلام. والذي وقفت عليه من الأخبار في ذلك ثلاثة :
أحدها : ما
رواه الشيخ ـ عطر الله مرقده ـ في (التهذيب) عن البزوفري عن حميد عن الحسن بن محمد
بن سماعة عن الحسين بن هاشم عن ابن مسكان عن الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قال محمد بن علي عليهالسلام في اختين مملوكتين
يكونان عند الرجل جميعا ، قال : قال علي عليهالسلام : أحلتها آية وحرمتها
آية ، وأنا أنهى عنهما نفسي وولدي» .
__________________
والشيخ قدسسره بعد أن نقل هذا الحديث في المنافي حمل الآية المحللة
على آية الملك ، والآية المحرّمة على آية الوطء ، قال : (ولا
تنافي بين الآيتين ، ولا بين القولين ، وحمل نهي نفسه عليهالسلام وولده ، إما على التحريم وأراد به : الوطء ، أو على
الكراهة وأراد به : الجمع في الملك) ؛ لأنه صرح قبل هذا الحديث بكراهة الجمع في الملك ، ثم قال : (ويمكن
أن يكون قوله عليهالسلام : «أحلتها
آية» أي عموم آية ،
وظاهرها يقتضي ذلك ، وكذلك قوله : «وحرمتها آية» اخرى ، أي عموم الآية يقتضي ذلك ، إلّا إنه إذا تقابل
العمومان على هذا الوجه ينبغي أن يخصّ أحدهما بالآخر. ثم بين بقوله : «أنا أنهي نفسي وولدي» ما يقتضي تخصيص إحدى الآيتين وتبقية الاخرى على عمومها.
وقد روي هذا
الوجه ، عن أبي جعفر عليهالسلام ، روى ذلك علي بن الحسن بن فضال ، عن محمد وأحمد ابني
الحسن ، عن أبيهما ، عن ثعلبة بن ميمون عن معمر بن يحيى بن بسام) ، وساق
الرواية المتقدمة إلى آخرها.
أقول
: لا يخفى أن
الوجه الثاني هو الأقرب ؛ لأن ظاهر الحديث أن مورد الحلّ والحرمة أمر واحد ، وليس
إلّا الوطء خاصة ؛ إلّا إن إحدى الآيتين في الملك والاخرى في الوطء. على أن ما ادّعاه قدسسره من كراهية الجمع في الملك غير ثابت ؛ لما سنشير إليه إن
شاء الله تعالى. وحينئذ ، فالآية المحللة فيما قلناه هي قوله تعالى (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ.
إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ)
__________________
والآية المحرمة هي قوله تعالى (وَأَنْ تَجْمَعُوا
بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) ، ومورد الحل والحرمة فيها هو الوطء.
وروى العيّاشي
في تفسيره عن أبي العون عن أبي صالح [الحنفي] قال : قال علي عليهالسلام ذات يوم : «سلوني». فقال ابن الكوّاء : أخبرني عن بنت الأخ من الرضاعة ،
وعن المملوكتين الاختين.
إلى أن قال : «وأما المملوكتان
الاختان ، فأحلّتهما آية وحرّمتهما آية ، ولا احلّه ولا احرّمه ، ولا أفعله أنا
ولا أحد من أهل بيتي» .
والذي يظهر من
الروايتين المذكورتين أن عدم إفتائه عليهالسلام بالتحريم صريحا كان تقية من المخالفين ، فاقتصر عليهالسلام على إظهار نهي نفسه وولده عن ذلك ، ويدل على ذلك تصريح
الأخبار الواردة عنهم عليهمالسلام بالتحريم ، كصحيحة عبد الله بن سنان قال : سمعت أبا عبد
الله عليهالسلام يقول : «إذا كانت عند الرجل الاختان المملوكتان ، فنكح
إحداهما ، ثم بدا له في الثانية فنكحها ، فليس ينبغي له أن ينكح الاخرى ، حتى تخرج
الاولى من ملكه ؛ يهبها أو يبيعها» .
وأما ما استند
إليه الشيخ رحمهالله في الحكم بكراهة الجمع ، من صحيحة علي بن يقطين قال :
سألت أبا إبراهيم عليهالسلام عن اختين مملوكتين وجمعهما؟ قال : «مستقيم
ولا أحبه لك». قال : وسألته عن الام والبنت المملوكتين ، قال : «هو أشدهما ولا أحبّه
__________________
لك» ، فإنه حمل الجمع فيها على الجمع في الملك ؛ جمعا بينها
، وبين ما دل على تحريم الجمع في الوطء ، كصحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة ،
وموثقة معاوية ابن عمار. وحمل قوله : «لا أحبه» على الكراهة ، والأظهر حمل صحيحة علي بن يقطين على
التقية ، وأن المراد بالجمع فيها هو الجمع في الوطء ، ويكون وجه الجمع بينها وبين تلك
الأخبار بالحمل على التقية ؛ لأن ذلك مذهب العامة كما عرفت.
وبالجملة ،
فكراهة الجمع في الملك غير ثابت ، وإثباته بهذا الحديث غير ظاهر ؛ لما عرفت.
الثاني : ما
رواه الشيخ في الصحيح ، عن عبد الله بن سنان قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل كان تحته أمة فطلقها على السنّة ، فبانت منه ،
ثم اشتراها بعد ذلك قبل أن تنكح زوجا غيره؟ قال : «أليس قد قضى علي عليهالسلام في هذا : أحلتها آية
وحرمتها آية؟ وأنا أنهى عنها نفسي وولدي» .
فالظاهر أن
المراد بالآية المحللة هي آية الملك المتقدمة ، والآية المحرمة هي قوله تعالى (حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) ؛ لأن ظاهر الحديث أنه طلقها ثنتين للسنّة ، فحرمت عليه
بدون المحلل ، فلو اشتراها ، هل يزول ذلك الحكم ويجوز له وطؤها ، أو يتوقف على
المحلل؟ وأكثر الأخبار الواردة عن أئمة الهدى ـ صلوات
__________________
الله عليهم ـ في هذه المسألة دلت على الثاني ، كصحيحة بريد ، عن أبي عبد
الله عليهالسلام أنه قال في رجل تحته أمة فطلقها تطليقتين ، ثم اشتراها
بعد ، قال : «لا يصلح
له أن ينكحها ، حتّى تزوج زوجا غيره ، وحتّى تدخل في مثل ما خرجت عنه» . ومثلها غيرها .
ومما يدل على
الأول رواية أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : رجل كانت تحته أمة فطلقها طلاقا بائنا ، ثم اشتراها
بعد. قال : «يحل له
فرجها من أجل شرائها ، والحر والعبد في هذه المنزلة سواء» .
وأجاب الشيخ رحمهالله عن هذا الخبر بوجوه لا تخلو من بعد ، وبعض المحققين من
متأخري المتأخرين ، جمع بين الأخبار ، بحمل الأخبار الاولى على الكراهة ،
وحمل هذا الخبر على الرخصة ؛ استنادا إلى صحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة. وظني
بعده.
ولا يحضرني
الآن الوقوف على مذهب العامة في المسألة ، إلّا إن الذي يقرب عندي هو المشهور من
التوقف على المحلل ؛ إذ الظاهر أن الإجمال الذي في صحيحة عبد الله بن سنان
المذكورة ، إنما خرج مخرج التقية ، واقتصار علي عليهالسلام على نهي نفسه وولده إنّما كان لذلك ، كما صرح به خبر
معمّر المتقدم. وكذا الخبر
__________________
المنقول من كتاب علي بن جعفر ، لا من حيث الكراهة. ولتحقيق المسألة محل آخر
يطلب منه.
الثالث : ما
رواه الشيخ ـ طاب ثراه ـ عن رفاعة بن موسى النخاس ، عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : سألته عن الأمة الحبلى يشتريها الرجل ، فقال : «سئل عن ذلك أبي عليهالسلام فقال : أحلتها آية
وحرمتها اخرى ، وأنا ناه عنها نفسي وولدي. فقال
الرجل : أنا أرجو أن أنتهي إذا نهيت نفسك وولدك ».
والظاهر أن
الآية المحلّلة آية الملك ، والمحرمة هي قوله تعالى (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ
أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) .
والعجب من عدم
وقوف ذينك الشيخين قدسسرهما على ذلك وعدم اطلاعهما على ما هنالك ، سيما شيخنا
المحدث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح ، فإنه في التوغل والاطلاع على الأخبار
بمرتبة عليّة المنار ، ولكن كما قيل في المثل الدائر : كم ترك الأول للآخر!).
هذا ، وأما
حديث الجمع بين الفاطميتين ، فلم أقف بعد التتبع لكتب جملة من
متقدمي الأصحاب ومتأخّريهم على كلام لهم في هذه المسألة بعينها ، والبحث فيها
إنّما حدث بين جملة من متأخري المتأخرين. فقول شيخنا المحدث الصالح في الجواب عن
المسألة المذكورة : (ذهب أصحابنا إلى جواز الجمع بينهما) ، لا أعرف له وجها إلّا
أن يراد : باعتبار عدم تصريحهم بالمنع والتحريم في عدهم محرمات النكاح.
__________________
وتحقيق الحال
في هذا المجال أن يقال : لا ريب أن إطلاق الآيات القرآنية كقوله سبحانه (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) ، وقوله تعالى (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما
وَراءَ ذلِكُمْ) ، ونحو ذلك مما يدل على الجواز ، وكذا إطلاق الأخبار.
والخبر المذكور
باصطلاح متأخّري أصحابنا المجتهدين ضعيف من وجوه.
أحدها
: باشتماله على [سندي
بن ربيع] وهو مجهول الحال لم ينصّ أحد من علماء الرجال على
توثيقه ولا مدحه .
وثانيها
: بضعف طريق الشيخ
إلى علي بن الحسن بن فضال ، لاشتماله على علي بن محمد بن الزبير ، وأحمد بن عبدون.
وثالثها
: بأنه مرسل.
ورابعها
: بأنه مضمر.
وحينئذ ، فلا
يقوم حجة في تخصيص عمومات (الكتاب) والسنّة ، على أن لفظ «لا يحل» وإن كان ظاهره التحريم إلّا إنه قد ورد بمعنى الكراهة ،
كما ورد عنه صلىاللهعليهوآله ، من قوله : «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تدع
عانتها فوق عشرين يوما» ، وحينئذ فيكون الخبر ضعيفا سندا ودلالة ؛ فلا يقوم
حجة.
__________________
والجواب أما عن ضعف سند الخبر بما ذكر من الوجوه المعدودة ،
فبأنا قد أثبتنا في غير واحد من مؤلفاتنا ضعف هذا الاصطلاح المتأخّر الذي بني عليه تضعيف الحديث
بهذه الوجوه ونحوها ، وإنّما عملنا اصطلاح أصحابنا المتقدّمين ، كما عليه أيضا جلّ متأخّري
المتأخرين ، مع أنه يمكن الجواب عن هذه الوجوه تفصيلا بما يوجب تصحيح الخبر
باصطلاحهم أيضا ، كما لا يخفى على من خاض تيار الاستدلال ، وأعطى النظر حقه في هذا
المجال.
على أن الخبر
المذكور قد رواه الصدوق ـ عطر الله مرقده ـ في كتاب (علل الشرائع والأحكام) بسند
صحيح صورته : محمد بن علي ماجيلويه عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن أبيه عن
ابن أبي عمير عن أبان بن عثمان عن حماد قال : (سمعت أبا عبد الله عليهالسلام) الحديث.
وحينئذ يندفع
الإشكال المذكور بحذافيره.
وأما عن ضعف
الدلالة ، فإن المعنى المستفاد من هذا اللفظ لغة وشرعا ، هو التحريم كما لا يخفى
على من تتبع موارد اللفظ المذكورة في (الكتاب) والسنّة.
فالواجب هو
الحمل على ذلك ، ووروده نادرا فيما ذكر من الخبر المنقول لا يعمل به مطرّدا في
مقابلة ما ذكرنا ، فإن الحقائق اللغوية والشرعية كلها من هذا القبيل.
وبالجملة
، فاللفظ لا
يعدل به عن حقيقته إلّا بدليل صريح ونصّ صحيح ، سيما مع انضمام لفظ (المشقة) في
الخبر إلى ذلك ، المؤدّي إلى الإيذاء غالبا.
وقد رأيت بخط
والدي قدسسره هذا الحديث بهذا السند الصحيح ، وفي ذيله مكتوب ـ بخطه
طاب ثراه ـ ما صورته : (قد نقل هذا الحديث بهذا السند الفقيه النبيه ،
__________________
الشيخ جعفر بن كمال الدين البحراني ، قال قدسسره عقيب ذكره ما صورته : (يقول كاتب هذه الأحرف جعفر بن
كمال الدين البحراني : هذا الحديث صحيح ولا معارض له ، فيجوز أن يخصص به عموم (القرآن)
، ويكون الجمع بين الشريفتين من ولد الحسن والحسين عليهماالسلام بالنكاح حراما ، والله أعلم) انتهى كلامه ، قدس الله
روحه.
وهذا الحديث
ذكره الشيخ في (التهذيب) أيضا إلّا إن سنده فيه غير صحيح ، وهذا الشيخ ـ كما ترى
ـ قد نقله بهذا السند الصحيح على الظاهر. ولا نعلم من أين أخذه قدسسره ، ولكن كفى به ناقلا ، وكتب الفقير أحمد بن إبراهيم
البحراني) انتهى كلام والدي ، طيب الله تعالى ثراه ، وجعل الجنة مثواه.
وأقول
: قد أخذه من
كتاب (العلل) ، ولكن الوالد لم يطّلع عليه ، وليته كان حيّا فاهديه إليه. والمفهوم
من كلام الشيخ جعفر المذكور القول بمضمون الخبر المذكور.
ووجدت بخطّ بعض
الفضلاء الموثوق بهم ، نقلا من خط شيخنا أبي الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله
البحراني قدسسره بعد نقل الخبر المذكور ما صورته : (ومال إلى العمل به
بعض مشايخنا ، وهو متّجه ؛ لجواز تخصيص عموم الكتاب بالخبر الواحد الصحيح وإن
توقفنا في المسألة الاصولية. ولا كلام في شدة المرجوحيّة وشدّة الكراهة) انتهى.
وظاهر هذا
الكلام الميل إلى العمل بالخبر المذكور ، مما نقله شيخنا المحدّث الصالح ، فيما
قدّمنا من كلامه في صدر البحث عن شيخه المذكور من أنه لا يعرف منه غير التوقّف دون
الجزم بالتحريم لعلّه كان في أول الأمر ، ثمّ مال بعد ذلك إلى التحريم ، كما نقله
عنه قدسسره سابقا ، وبه يشعر هذا الكلام المنقول عنه هنا أيضا.
__________________
ثم العجب أيضا
من شيخنا المحدث الصالح في جوابه عن المسألة المذكورة في كتاب (منية الممارسين) ، حيث أطال في
بيان وجوه ضعف الخبر المذكور من طرق المجتهدين ، وأطال في الجواب عن ذلك من طرق الأخباريين ، ولم يطّلع
على ما نقلنا من هذا السند الصحيح المنقول من كتاب (العلل) ، ولم يتعرّض
له ، حتى إنه في آخر البحث بقي واقفا على ساحل التوقّف في المسألة المذكورة.
وكيف كان ،
فالظاهر هو القول بالتحريم ، كما عليه هؤلاء الأجلّاء [المتقدّم] ذكرهم ، والله
العالم.
__________________
(١٢)
درة نجفية
في التحاكم إلى ولاة الجور
روى ثقة
الإسلام في (الكافي) ، وشيخ الطائفة في (التهذيب) بسنديهما عن
عمر بن حنظلة قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث
فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة ، أيحل ذلك؟
قال عليهالسلام : «من تحاكم إليهم في حق أو باطل ، فإنما تحاكم إلى
الطاغوت . وما يحكم به ، فإنما يأخذ سحتا وإن كان حقا ثابتا له ؛ لأنه أخذه
بحكم الطاغوت وقد أمر الله أن
__________________
__________________
يكفر به ، قال الله تعالى (يُرِيدُونَ أَنْ
يَتَحاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) ».
قلت : فكيف
يصنعان؟
قال : «ينظران إلى
من كان منكم قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا ، فليرضوا به
حكما ، فاني قد جعلته عليكم حاكما ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه ، فإنما استخفّ
بحكم الله وعلينا ردّ ، والرادّ علينا الراد على الله ، وهو على حد الشرك بالله».
قلت : فإن كان
كل رجل اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما واختلفا فيما حكما
، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟
قال : «الحكم ما حكم به
أعدلهما ، وأفقههما ، وأصدقهما في الحديث ، وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما يحكم به
الآخر».
قال : قلت :
فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل منهما واحد على الآخر.
قال : فقال : «ينظر إلى ما كان من
روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ، ويترك
الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ؛ فإن المجمع عليه لا ريب فيه. وإنّما الامور
ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ؛ وأمر مشكل فيرد علمه إلى
الله وإلى رسوله صلىاللهعليهوآله ،
قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : حلال بيّن ، وحرام
بيّن ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ، ومن أخذ بالشبهات
ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم».
__________________
قلت : فإن كان
الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟
قال : «ينظر ، فما وافق حكمه
حكم الكتاب والسنّة وخالف العامة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف حكمه
حكم الكتاب والسنّة ووافق العامة».
قلت : جعلت
فداك ، أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من (الكتاب) والسنّة ، ووجدنا أحد الخبرين
موافقا للعامة والآخر مخالفا لهم ، بأي الخبرين يؤخذ؟
قال : «ما خالف العامة ففيه
الرشاد».
فقلت : جعلت
فداك فإن وافقهما الخبران جميعا؟
قال : «ينظر إلى ما هم إليه
أميل حكامهم وقضاتهم ، فيترك ويؤخذ بالآخر».
قلت : فإن وافق
حكمهما الخبرين جميعا؟
قال : «إذا كان ذلك فأرجه
حتى تلقى إمامك ؛ فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات»).
ورواه الصدوق قدسسره في (الفقيه) بما صورته : (داود بن الحصين عن عمر بن
حنظلة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : قلت في رجلين اختار كل واحد منهما رجلا من
أصحابنا؟) الحديث.
أقول : في هذا
الخبر الشريف فوائد لطيفة وفوائد منيفة :
الفائدة
الاولى : في دلالة السنّة على المنع من التحاكم إلى ولاتهم
قد دلّ هذا
الخبر وأمثاله على المنع من التحاكم إلى سلاطين العامّة وقضاتهم ، وأن ما يؤخذ
بحكمهم فهو حرام وسحت. وعلى ذلك دلّت الآية الشريفة ، وهي قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ
أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ
أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) الآية.
__________________
وقد صرح جملة
من الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ بانسحاب الحكم أيضا إلى فسقة الشيعة ممن يأخذ الرشا على
الأحكام ونحوه ، بل غير المأذون من جهتهم عليهمالسلام مطلقا ، كما سيأتي بيانه ؛ لأن المراد من الطاغوت ـ وإن
كان هو الشيطان مبالغة من الطغيان ؛ لفرط طغيانه إلّا إن المراد به
هنا ـ هو كل من لم يحكم بالحق إما لشبهة به ؛ أو لأن التحاكم إليه تحاكم إلى
الشيطان ؛ حيث إنه الحامل له على الحكم مع عدم أهليته ولياقته لذلك كما تشعر به
تتمّة الآية : (وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ
أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) ، أو يدل عليه ما ورد عن أمير المؤمنين عليهالسلام قال : «كل حاكم حكم بغير قولنا أهل البيت ، فهو طاغوت» ثم قرأ الآية.
قال الطبرسي قدسسره في كتابه (مجمع البيان) : وروى أصحابنا عن السيدين
الباقر والصادق عليهماالسلام : «إن
المعني بالطاغوت : كل من يتحاكم إليه ممن يحكم بغير الحق» . ولا ريب أن غير المأذون من جهتهم عليهمالسلام ، بل المنهيّ عن ذلك ليس حاكما بالحقّ ولا إشكال في
الحكم المذكور ، مع إمكان تحصيل الحقّ بحكام العدل. أما لو تعذّر ذلك ، فهل يجوز
الترافع إليهم ، ويحل ما يؤخذ بحكمهم؟
إشكال ،
وبالجواز صرح جملة من الأصحاب ، منهم شيخنا الشهيد الثاني قدسسره في (المسالك) بعد الكلام في الحكم المذكور : (ويستثنى
منه ما لو توقف حصول حقّه عليه ، فيجوز كما يجوز الاستعانة على تحصيل الحقّ بغير
القاضي. والنهي في هذه الأخبار وغيرها محمول على الترافع إليهم اختيارا مع إمكان
تحصيل الغرض بأهل الحق ، وقد صرح به في خبر أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : «أيما رجل بينه وبين أخ له مماراة في حق فدعاه
إلى رجل من إخوانه ليحكم بينه وبينه ،
__________________
فأبى
إلّا أن يرافعه إلى هؤلاء كان بمنزلة الذين قال الله عزوجل : (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ
مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا
أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ)؟ الآية » ) انتهى.
واقتفاه في ذلك
أيضا المحدث الكاشاني ـ طاب ثراه ـ قال : (ولعل في قوله سبحانه (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا) دون قوله [يتحاكمون] إشارة إلى ذلك
أيضا) انتهى.
أقول : ومثل
رواية أبي بصير المذكورة ، روايته الاخرى عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «يا أبا محمد ، لو كان لك على رجل حق ، فدعوته
إلى حكام أهل العدل ، فأبى عليك إلّا أن يرافعك إلى حكام أهل الجور ليقضوا له ،
لكان ممّن حاكم إلى الطاغوت ، وهو قول الله عزوجل (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا) الآية» .
واستشكل الفاضل
الخراساني قدسسره في كتاب (الكفاية) ، وقبله المحقق الأردبيلي ـ نوّر
الله مضجعيهما ـ في الحكم المذكور ، فقال في كتاب (الكفاية) ـ بعد نقل
كلام (المسالك) المتقدم ـ : (وفيه إشكال ؛ لأن حكم الجائر بينهما فعل محرم ،
والترافع إليه يقتضي ذلك ، فيكون إعانة على الإثم ، وهي منهي عنها ) انتهى.
__________________
ولا يخفى ما
فيه ؛ فإنه محض مصادرة ، فإن الخصم يدّعي تخصيص التحريم بما عدا هذه الصورة ؛ دفعا
للحرج والضرورة ، ويجعل ذلك من قبيل التوصّل إلى أخذ الحقّ ممن ينكره ويجحده بسرقة
وغيلة ونحو ذلك.
نعم ، لقائل أن
يقول : إن عموم الأخبار الواردة في المقام شامل لما استثنوه ، والمخصص المذكور غير
صريح في التخصيص ؛ فيجب الحكم بالتحريم مطلقا ، إلّا إن الظاهر أيضا أنه لا يخلو
من شوب النظر ؛ فإن خبري أبي بصير المتقدمين قد دلّا على التحريم في من دعاه خصمه
إلى حكام العدل فأبى إلّا الترافع إلى حكام الجور. وكذا ظاهر الآية بالنظر إلى سبب
نزولها ، وما عدا ذلك من الأخبار وقصاراه أن يكون مطلقا ، فيجب حمله على
المقيد.
على أن مقبولة
عمر بن حنظلة المذكورة ظاهرة في التقييد ، فإنه لما بين عليهالسلام تحريم التحاكم إلى العامة ، وجعله من باب التحاكم إلى
الطاغوت ، قال له الراوي : (كيف يصنعان إذن؟). فأمره عليهالسلام بالرجوع إلى حكام العدل.
فظاهره أن محل
التحريم ، هو الترافع إليهم ، مع وجود حكّام العدل ؛ إذ لو كان التحريم مطلقا ،
لما كان لبيان المخرج في حيرة الراوي وسؤاله بالرجوع إلى حكام العدل وجه ، وكذلك
روايتا أبي خديجة الآتيتان .
وبالجملة ، فغاية
ما تدلّ عليه الآية وأخبار المسألة المنع من التحاكم إليهم مع وجود حكّام العدل ،
كما هو المفروض فيها. وحينئذ يبقى هذا الفرد خارجا عن أخبار المنع من التحاكم إلى
الطاغوت.
وقال المولى
المحقّق الأردبيليّ ـ نوّر الله تعالى مرقده ـ في كتاب (آيات
__________________
الأحكام) بعد ذكر كلام في المقام : (وقد استثنى أكثر الأصحاب من ذلك صورة
التعذر بأن يكون الحقّ ثابتا بينه وبين الله ولا يمكن أخذه إلّا بالتحاكم إلى
الطاغوت ، وكأنه للشهرة ودليل العقل والرواية. ولكن الاحتياط عدم ذلك ، وعدم
حجّيّة الشهرة ، وعدم استقلال العقل وظهور الرواية ، واحتمال اختصاص ذلك بعدم
الحاكم ، مع إمكان الإثبات ، لو كان كما يشعر به بعض العبارات ، وأما إذا كان
الحاكم موجودا بعيدا ، أو قريبا ولا يمكن الإثبات لعدم البينة ونحو ذلك ، ويكون
منكرا فلا ، وإلّا انتفى فائدة التحاكم إلى الحقّ ونصب الحاكم ، فيكون لكل ذي حق
أن يأخذ حقه على أي وجه أمكنه بنفسه وبالظالم. وهو مشكل إذا كان المال أمرا كليا.
نعم ، لو كان
عينا موجودة ، ويمكن جواز أخذها [ف] له إن أمكن بغير مفسدة ، ويتحرى ما هو الأقل
مفسدة.
وبالجملة ، لا
يخرج عن ظاهر الآية [المحكمة] إلّا بمثلها في الحجية) انتهى.
وقال في (شرح
الإرشاد) ـ بعد أن صرح بتحريم التحاكم إليهم ، وتحريم ما يؤخذ بحكمهم ، وتقييد ذلك
بالدين دون العين ـ ما لفظه : (ويحتمل تقييد ذلك بإمكان الأخذ بغير ذلك فتأمل
واحتط ) انتهى.
ولا يخفى ما في
كلامه الأول بعد الإحاطة بما قدّمناه ، وما ذكره من التفصيل لا يخلو من النظر ،
إلّا إن الاحتياط فيما ذكره قدسسره.
والظاهر عدم
الإشكال فيما لو كان الأخذ بحكم الفقيه الجامع الشرائط وإن
__________________
كان بمعونة الجائر ومساعدته ؛ لتوقف الأخذ عليه ، وبذلك صرّح المحدّث
الكاشاني ، طاب ثراه. ويظهر من المولى الأردبيليّ قدسسره في (آيات الأحكام) المنع هنا أيضا حيث قال : (ولا يبعد
كون أخذ الحق أو غيره بمعونة الظالم القادر مثل التحاكم إلى الطاغوت ، ولا يكون
مخصوصا بإثبات الحكم ؛ لوجود المعنى وإن كانت الآية مخصوصة به. وله مزيد قبح ؛
فإنه يرى أنه أخذ بأمر نائب الرسول صلىاللهعليهوآله ، وأنه حق ، والظاهر أن تلك المبالغة مخصوصة به) انتهى.
ويمكن تخصيص
كلامه ـ طاب ثراه ـ بما لو كان الأخذ بمعونة الظالم من غير رجوع إلى حاكم العدل
بالكلية ، بمعنى أنه استعان على أخذ حقّه بالظالم من غير حكم ولا إثبات من العدل
ولا من الظالم ، وإلّا فالقول بالتحريم فيما فرضناه بعيد جدا ؛ فإن صاحب الحق
إنّما أخذ حقه بحكم الحاكم الشرعي.
غاية الأمر أن
يد الحاكم الشرعيّ لما كانت قاصرة عن تحصيله استعان بالجائر ، فالجائر إنّما هو
بمنزلة الخادم لحاكم العدل.
ومما يؤيّد
الجواز مضيّ السلف وجري الخلف من علمائنا الأبدال على هذا المنوال ، وحينئذ فلا
إشكال. على أن ما ذكرناه أيضا من الوجه الذي حملنا عليه كلامه لا يخلو من شوب
النظر :
أما
أولا ، فلأن غاية ما
دلّت عليه الآية والرواية الواردة في المسألة هو تحريم التحاكم إليهم ، لا مجرد
الاستعانة. والقول بإلحاق الاستعانة بالتحاكم خال من الدليل.
__________________
وأما
ثانيا ، فلأن مجرد
الاستعانة لا قبح فيه ـ كما ادّعاه رحمهالله ـ ولا يستلزم ما ذكره من الأخذ بأمر نائب الرسول كما لا
يخفى.
والظاهر أيضا
قصر الحكم على ما لو كان المتداعيان من الشيعة ، فلو كان من عليه الحق مخالفا فلا
يبعد جواز التوصّل إلى أخذ الحق منه بقضاتهم. وأخبار المسألة لا تأباه ؛ لاختصاص
المنع فيها بالصورة الاولى ، كقوله في الرواية المذكورة من أصحابنا ، وفي روايتي
أبي خديجة الآتيتين : «إياكم». وفي رواية أبي بصير الاولى : «أخ له» وإن كانت الثانية مطلقة ، فتحمل على ذلك. وإلى ذلك يشير
: «عاملوهم
بما عاملوا به أنفسهم».
إلّا إنه قد
ورد في صحيحة علي بن مهزيار عن علي بن محمد عليهماالسلام : هل نأخذ في أحكام المخالفين ما يأخذون منا في أحكامهم؟
فكتب عليهالسلام : «يجوز
لكم ذلك إن شاء الله ، إذا كان مذهبكم فيه التقيّة منهم والمداراة لهم» .
فإن الظاهر أن
المراد من السؤال المذكور : أنه هل يجوز لنا أن نأخذ حقوقنا بحكم قضاتهم ، كما
أنهم يأخذون منا حقوقهم بحكم قضاتنا؟ ولعل المراد من قوله عليهالسلام : «إذا
كان مذهبكم فيه التقية» ـ إلى آخره ـ : أنه يجوز لكم ذلك إذا كان رجوعكم إلى قضاتهم تقية ؛ لعدم
إمكان تحصيل الحقّ منهم بوجه آخر من المرافعة إلى حكام العدل أو الأخذ بنوع اخر ،
وخوف الضرر والفتنة بذلك ، ومداراة لهم بإظهار الرضا بقضاتهم ، وحل ما يقضون به.
__________________
الفائدة
الثانية : في تخصيص الأردبيلي المنع بالدين دون العين
ظاهر المولى المحقق
الأردبيليّ ـ نوّر الله تربته ـ تخصيص التحريم في الخبر المذكور بالتحاكم
في الدين دون العين ، حيث قال في (شرح الإرشاد) بعد نقل الخبر ما صورته : (تحريم
التحاكم إليهم ، وتحريم ما أخذ بحكمهم في الدين ظاهر دون العين) . ونقله سيدنا
المحدث السيّد نعمة الله الجزائري قدسسره في (شرح التهذيب) عن المحدث الشيخ محمد بن الحسن الحرّ
العاملي ـ طاب ثراه ـ فقال بعد قوله عليهالسلام في الخبر المذكور : «دين أو ميراث» ما لفظه : (لما نظر الفاضل الأردبيليّ ، وشيخنا صاحب (الوسائل)
إلى هذا قيّدا التحريم بأخذ الدين بحكمهم لا العين. ويرد عليه :
أولا
: ذكر الميراث
وهو أعم منهما.
وثانيا
: أن مناط الحكم
هو جواب الإمام عليهالسلام ، وقوله : «في حق أو باطل» ، ظاهر في التعميم. وحينئذ ، فلا معنى لذلك التقييد)
انتهى.
وهو جيد ،
وعليه تدلّ جملة من أخبار المسألة ، منها : رواية أبي خديجة ، قال : قال لي أبو
عبد الله عليهالسلام : «إياكم
أن يحاكم بعضكم بعضا إلى حكام الجور ، ولكن انظروا
إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا ، فاجعلوه بينكم ،
فإني قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه» .
__________________
وروايته الاخرى
قال : بعثني أبو عبد الله عليهالسلام إلى أصحابنا ، فقال : «قل لهم : إياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارى
بينكم في شيء من الأخذ والعطاء أن تتحاكموا
إلى أحد من هؤلاء الفساق ، اجعلوا بينكم رجلا ممن قد عرف حلالنا وحرامنا ، فإني قد
جعلته قاضيا. وإياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى السلطان الجائر» .
وهما ظاهرتان
في العموم ، وربما كان نظر المولى الأردبيليّ رحمهالله في التقييد بالدين إلى ما أشار إليه في كلامه المتقدّم
نقله من كتاب (آيات الأحكام) من الفرق بين العين والدين بأن الدين أمر كلي ثابت في
الذمة لا يتشخص ولا يتعين في عين مخصوصة إلّا برضا صاحبه ، أو جبر الحاكم الشرعي
وتعيينه ، وهما منتفيان في المقام. وأما العين فإنها مستحقّة لصاحبها لا يحتاج في
تعيينها إلى من هي بيده ، ولا إلى حاكم شرعي ، فيجوز لصاحبها أخذها متى تمكّن
منها. والتوصل إلى أخذها بحكم الجائر من قبيل التوصل إلى أخذها بسرقة أو غيلة.
وفيه :
أولا
: أن هذا الفرق
اجتهاد في مقابلة نصّ الآية والرواية ، فإنها ـ كما عرفت ـ ظاهرة في العموم على
وجه معلوم غير موهوم.
وثانيا
: أنه من
المحتمل قريبا ، بل هو الظاهر أن العلة في المنع من الترافع إليهم والأخذ بأحكامهم
ـ وإن وافق الحكم الشرعي ـ إنّما هو لزوم إعلاء كلمتهم في دعوى الإمامة والخلافة ،
وتقمص تلك الخلافة ؛ ولهذا استفاضت الأخبار بالمنع عن مساعدتهم بالأمور المباحة في نفسها ، بل
المستحبة في حدّ ذاتها ، فما بالك
__________________
بمثل الترافع إليهم والأخذ بحكمهم الذي هو منصب الرسالة وبيت الإيالة ،
وإلى ذلك يشير قوله عليهالسلام : «لأنه
أخذه بحكم الطاغوت».
وحينئذ ،
فالعلة جارية في كلا الفردين من عين أو دين ، قال المحقق المحدث الشارح
المازندراني رحمهالله في (شرح اصول الكافي) ـ بعد قوله عليهالسلام : «وإن
كان حقا ثابتا له» ـ : (يفيد بظاهره عدم الفرق بين الدين والعين ، وقد يفرق بينهما بأن
المأخوذ عوض الدين مال للمدّعى عليه انتقل إلى المدعي بحكم الطاغوت ، فلا يجوز له
أخذه ، ولا التصرف فيه بخلاف العين ، فإنها مال المدعي وحق له وإن لزم عليه أخذها
بحكم الطاغوت ، لكن يجوز له التصرف فيها).
ثم قال ـ بعد
قوله : «أنه أخذه
بحكم الطاغوت وقد أمر الله أن يكفر به» ـ ما صورته : هذا التعليل أيضا يفيد عدم الفرق بينهما) انتهى.
وهو مؤيد لما
قلناه ، ومؤكد لما فهمناه.
الفائدة
الثالثة : في أن المستفاد من الإضافة في الحديث هو العموم
ظاهر الإضافة
في قوله عليهالسلام : «روى
حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا» هو العموم ، فيقتضي أن النائب عنهم عليهمالسلام يجب أن يكون مطلعا على جميع أخبارهم ، عارفا بجميع
أحكامهم ، إلّا إنه لما كان ذلك مما يتعذّر غالبا ، فالظاهر أن المراد بما يتيسر ،
بحسب الإمكان أو القدر الوافر منهما ، أو ما يتعلق بتلك الواقعة ، ويؤيده ما تقدم
في رواية أبي خديجة الاولى ، وقوله فيها : «يعلم شيئا من قضايانا».
قال الفاضل
الخراساني قدسسره في كتاب (الكفاية) : (وظن بعض المتأخرين أنه
__________________
يستفاد من رواية عمر بن حنظلة المذكورة أن من روى حديث أهل البيت عليهمالسلام ، ونظر في حلالهم وحرامهم وعرفها حاكم وإن لم يكن
مجتهدا في الكل. وفيه نظر ؛ لأن ظاهر قوله عليهالسلام : «وعرف
أحكامنا» العموم [١]
فلا يكفي معرفة بعض الأحكام) انتهى.
والظاهر أنه
أشار بذلك البعض إلى المولى المحقق الأردبيليّ ـ طيب الله مرقده ـ فإنه قد صرّح في
(شرح الإرشاد) بما اخترناه ، ورجّح ما رجحناه. وما أورده رحمهالله من إفادة الإضافة العموم مسلم ، لكن رواية جميع أحكامهم
والإحاطة بها يتعذّر غالبا ، ولا سيّما في هذه الأوقات المتأخّرة ، لذهاب كثير من
الاصول المعتبرة. وظن الاكتفاء في ذلك برواية الكتب الأربعة المشهورة غلط محض ؛
لأن كثيرا من مدارك الأحكام الشرعية التي ظن جملة من المتأخرين عدم وجودها ـ وطعنوا
على من قال بتلك الأحكام من المتقدّمين ، بعدم وجود المستند ـ موجود في غير هذه
الكتب الأربعة ، من كتب الصدوق و
نحوها ؛ ولهذا
تصدى شيخنا صاحب (البحار) ، والمحدث الحرّ العاملي في كتاب (الوسائل) إلى تدوين ما
اشتملت عليه الاصول الزائدة على الأربعة المذكورة.
على أن الإحاطة
بما في الكتب الأربعة أيضا ممّا قصرت عنه أنظار جملة من أجلة فقهاء المتأخرين ،
حتى طعنوا في بعض المسائل بعدم وجود المستند ، مع
__________________
__________________
كونه موجودا في الكتب الأربعة ، كمسألة وضع التربة الحسينية ـ على مشرفها
أفضل التحية ـ مع الميت في القبر مع كون مستندها في كتاب المزار من (التهذيب) ، ومسألة استحباب
المتابعة في الأذان على الخلاء مع كون حديثها في (الفقيه) ، وأمثال ذلك
مما يقف عليه المتتبع.
وقد نبّهنا في
جملة من مصنّفاتنا على كثير من ذلك ، وحينئذ فلو حمل الخبر على ما يدّعيه هذا
الفاضل انسدّ الباب على جملة من الطلاب ، كما هو ظاهر بلا ارتياب.
الفائدة
الرابعة : في شروط النائب عن الإمام عليهالسلام
قد استدل
الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ بهذا الخبر وأمثاله ، على أنه لا بد في النائب عنهم عليهمالسلام من كونه فقيها جامعا للشرائط المقرّرة في موضعها ، حيث
إنه لا بد من معرفته بأحكامهم عليهمالسلام ، ومعرفته ب (الكتاب) العزيز ، وما فيه من الأحكام.
ومعرفتها تتوقف على معرفة العلوم المعتبرة في الاجتهاد ـ على تفصيل يأتي بيانه إن
شاء الله تعالى ـ ومعرفة مذاهب العامة ، بل والخاصة أيضا ، كما ذكره. واعترضه
المولى المحقق الأردبيليّ ـ عطر الله مرقده ـ بأن ظاهر الأخبار
بأنه يكفي فيه مجرد الرواية ، وأن فهمها كاف ، قال : (وكأنهم يدّعون فيه الاجماع ،
فتأمل فيه) انتهى.
أقول :
والتحقيق في ذلك هو التفصيل ، والفرق بين وقتهم ـ صلوات الله عليهم ـ وبين مثل
زماننا هذا. فإن الأول يكفي فيه مجرّد سماع الرواية منهم عليهمالسلام مشافهة
__________________
أو بواسطة ، وعلى هذا كان عمل أصحابهم في زمانهم ، كما لا يخفى على
المتتبّع.
وأما في مثل
زماننا من حيث اختلاف الأخبار الواصلة إلينا ، واشتباه الدلالات بقيام الاحتمالات
، وفقد قرائن المقامات ، فلا بدّ من معرفة ما يتوقف عليه فهم المعنى من العلوم
المقررة ، ومعرفة ما يتوقف عليه من (الكتاب) العزيز ، ومعرفة القواعد المقررة ،
والضوابط المعتبرة المأثورة عنهم عليهمالسلام ، سيما في الجمع بين مختلفات الأخبار ونحو ذلك ، كما لا
يخفى على من جاس خلال تلك الديار.
ولا بد مع جميع
ذلك من القوة القدسية التي بها يتمكّن من استنباط الأحكام ؛ وهي المعبر عنها بالملكة
بين علمائنا الأعلام ؛ وهي العمدة في الباب. وإلّا فما عداها مما ذكرنا ربما صار
سهل المأخذ لما حقّقه الأصحاب ، وتلك القوة بيد الله سبحانه يؤتيها من يشاء من
عباده على وفق حكمته ومراده ، ولكثرة الممارسة لأهلها مدخل عظيم في تحصيلها. وكذا
للتدرّب في أخبارهم ، والتصفح لآثارهم ، وتفريغ القلب ، وتصفية الباطن ، وتحليته
بالفضائل ، وتخليته من الرذائل ، والرياضة بالملازمة على الطاعات والعبادات ،
واجتناب المنهيّات ، بل وسائر المباحات ، ومجاهدة النفس الأمّارة ، بالزهد
في الدنيا ، والورع في الدين ، أثر عظيم في حصولها (وَالَّذِينَ جاهَدُوا
فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) .
وقال سبحانه (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ
وَاللهُ) .
وقال (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ
فُرْقاناً) .
وفي الحديث
النبوي : «ليس العلم بكثرة التعلم ، إنّما هو نور يقذفه الله في
__________________
قلب من يريد الله أن يهديه» .
وفيه أيضا : «العلم نور وضياء
يقذفه الله في قلوب أوليائه» .
وفيه : «العلم علم الله لا
يؤتيه إلّا لأوليائه» .
وجميع ما
ذكرناه مما يتوقف عليه تصفية الباطن من الرذائل وتحليته بالفضائل شرط في النائب
عنهم عليهمالسلام ، فلا بدّ من اتّصافه بالورع والتقوى ، والزهد في
الدنيا ، وتجنّب الكبر والحسد ، وحب الرئاسة ، وخفق النعال خلفه ، والحميّة ،
والعصبية ، والغضب ، وأمثال ذلك مما هو مذكور في مظانّه. وإلى ما ذكرنا يشير قوله صلىاللهعليهوآله في الرواية المذكورة : «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في
الحديث وأورعهما» ، فإنه يعطي أنه لا بد في النائب من جهتهم ـ صلوات الله
عليهم ـ أن يكون مستكملا لهذه الأوصاف.
وحينئذ ، فلا
يكفي مجرد فهم هذه العلوم الشرعيّة وإن كان من المحققين فيها والمدققين ، مع خلوه من
العلوم الموجبة لتصفية الباطن ، فلا تغترّ بمن تصدر على الناس ، وهو عار عن هذا اللباس ، فإنه وإن
كان الجسم جسم إنسان إلّا إن القلب قلب شيطان. وهذا منصب النبوة والرسالة وبيت
الحكم والإيالة ، الذي قال فيه أمير المؤمنين عليهالسلام لشريح القاضي : «يا شريح ، جلست مجلسا لا يجلسه إلّا نبي أو
وصي نبي ، أو شقي» .
__________________
إذا عرفت ذلك ،
فاعلم أنه لا خلاف بين الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ في أنه مع وجود الفقيه
المتّصف بما ذكرنا لا يجوز لغيره ممن نقص عن المرتبة المذكورة تولّي شيء من
الامور الحسبية ، فضلا عن الحكم والفتوى وإن كان عدلا مطّلعا على فتاوى الفقهاء ،
وأما مع فقد الفقيه المذكور ، فقد صرح جملة منهم بجواز تولي العدل من العلماء لبعض
الامور الحسبية ، كما ستأتي حكايته.
أمّا الحكم
والفتوى ، فقد نقل جملة منهم الإجماع على أنه لا يجوز تولّي ذلك إلّا لمن بلغ تلك
المرتبة القصوى. وممن نقل الإجماع المذكور المحدث الكاشاني قدسسره حيث قال في كتاب (المفاتيح) ـ بعد أن ذكر الشروط
المعتبرة في القاضي ، التي من جملتها الفقه عن بصيرة ، وأنه لا يجوز لمن اختل منه
شرط من تلك الشروط ، تولي القضاء ـ ما صورته : (ولا فرق فيمن نقص عن مرتبة البصير
بين المطّلع على فتوى الفقهاء وغيره ، ولا بين حالة الاختيار والاضطرار بإجماعنا
فيهما) انتهى.
والفاضل المحقق الملّا
محمد المازندراني في (شرح اصول الكافي) حيث قال في شرح قوله : «ونظر في حلالنا
وحرامنا» : (وهذا هو
المعبر عنه بالفقيه الجامع لشرائط الفتوى ، والحكومة بين الناس ، ولا يجوز لمن نزل
عن مرتبتة تصدي الحكومة وإن اطلع على فتوى الفقهاء بلا خلاف عند أصحابنا) انتهى.
وقال شيخنا
الشهيد ـ نوّر الله تربته ـ في قواعده : (يجوز للآحاد مع تعذّر الحكام تولية آحاد
التصرّفات الحكمية على الأصح ، كدفع ضرورة اليتيم لعموم (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) .
__________________
وقوله عليهالسلام : «والله
في عون العبد ما كان العبد في عون الله» .
وقوله صلىاللهعليهوآله : «كلّ
معروف صدقة» .
وهل يجوز قبض
الزكوات والأخماس من الممتنع ، وتفريقها في أربابها ، وكذا وظائف الحكام غير ما
يتعلق بالدعاوى؟ وجهان ؛ ووجه الجواز ما ذكرنا ، وأنه لو منع من ذلك لفاتت مصالح صرف تلك
الأموال ، وهي مطلوبة لله تعالى) انتهى.
وقال المحقق
المدقق نور الدين الشيخ علي بن عبد العال ـ نوّر الله تعالى مضجعه ـ في حاشية (الشرائع)
: (لا كلام في أن غير المتصف بالأوصاف المذكورة ـ التي من جملتها الاجتهاد ـ لا يجوز له
الحكم بين الناس ، ولو حكم كان حكمه لاغيا ولا يعتد به ... وكذا لا يجوز له الفتوى
، بحيث يسند الفتوى إلى نفسه ، أو يطلق بحيث لا يتميز ، وأمّا إذا حكاها عن
المجتهد الذي يجوز العمل بفتواه فإنه جائز. ويجوز التمسك به مع عدالته ، ولا تعدّ
الحكاية فتوى إنّما هي حكاية لها ، ولو اطلقت عليها الفتوى فإنما هي بالمجاز).
ثم بالغ في عدم
جواز تقليد الميت ، فأكثر الكلام في ذلك ، ثم قال : (فإن قيل) : فعلى هذا فما يصنع
المكلفون إذا خلا العصر من المجتهد؟
قلنا
: حينئذ يجب على
جميع المكلفين الاجتهاد ؛ لأنه واجب على الكفاية ، فإذا لم يقم به أحد من أهل
العصر تعلق التكليف بجميعهم ، ويجب عليهم جميعا استفراغ الوسع في تحصيل هذا الغرض).
__________________
ثم
قال : (فإن قيل : فما يصنعون في تكاليفهم وقت السعي والاكتساب
للاجتهاد؟ قلنا : عند ضيق وقت الصلاة ـ مثلا ـ يأتي المكلف بها على حسب الممكن ،
كما يقال فيمن لا يحسن القراءة ولا الذكر عند الضيق : إنه يقف بقدر زمان
القراءة ثم يركع. وعلى هذا النهج حكم سائر التكاليف. وليس ببعيد في هذه الحال
الاستعانة بكتب المتقدمين على معرفة بعض الأحكام).
ثم
قال : (فان قيل : فما تقول فيما نقل عن الشيخ السعيد فخر الدين
أنه نقل عن والده جواز التقليد للموتى في هذه الحالة ؟
قلت
: هذا بعيد جدا
؛ لأنه رحمهالله صرّح في كتبه الاصوليّة والفقهية بأن الميت لا
قول له. وإذا كان بحسب الواقع لا قول له لا يتفاوت عدم الرجوع
إليه في حال الضرورة والاختيار. ولعله رحمهالله أراد : الاستعانة بقول المتقدمين في معرفة صور المسائل
والأحكام مع انتفاء الترجيح ليأتي بالعبادة على وجه الضرورة ؛ لا أنه أراد جواز
تقليدهم حينئذ ، فحصل من ذلك توهّم غير المراد) انتهى .
وممن بالغ في
ذلك أيضا على وجه حكم بضمان من يتولّى الحكم من هؤلاء للأموال والدماء الشيخ
الفاضل المتكلم محمد بن علي بن إبراهيم بن أبي جمهور الأحسائي قدسسره في كتاب (قدس الاهتداء في آداب الإفتاء) ، ونقله عن
شيخيه
__________________
الجليلين المتبحرين الشيخ حسن بن عبد الكريم الفتّال النجفي ، والشيخ زين
الدين علي بن هلال الجزائري ، روّح الله روحيهما.
وقال شيخنا
الشهيد الثاني ـ رفع الله درجته ـ في رسالته المعمولة في المنع من تقليد الميت بعد
أن نقل جواز الحكم كذلك عن كثير من أهل عصره : (إنه مبني على تقليد الميت ، وهو
على تقدير جوازه وتحقّق طريقه ، إنّما يكون في آحاد المسائل الجزئية التي تتعلق
بالمكلف في صلاته وباقي عباداته ، فكيف سوّغه أهل زماننا في كلّ شيء ، حتى جوّزوا
به الحكم والقضاء ، وتحليف المنكر وما ماثله ، وتفريق مال الغائب ، ونحو ذلك من
وظائف المجتهدين؟ فإن ذلك غير جائز ، ولا هو محل الوهم ؛ لتصريح الفقهاء بمنعه. بل
الأغلب منهم ذكره مرتين في كتابه : الاولى منهما في كتاب (الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر) ، والاخرى في كتاب (القضاء) ، ولا يحتاج
لتفصيل عباراتهم المصرحة بذلك ، فإنها في الموضعين شهيرة واضحة الدلالة جازمة
الفتوى بغير خلاف في ذلك بينهم ، بل صرحوا بأن ذلك إجماعي.
وممن ذكر
الإجماع على عدم جواز الحكم لغير المجتهد العلّامة في (المختلف) في كتاب القضاء في
مسألة استحباب إحضار القاضي من أهل العلم من يفهمه ، قال في آخرها : (إنا أجمعنا
على أنه لا يجوز القضاء للمقلد) ، بل هذا إجماع المسلمين قاطبة ، فإن العامة أيضا
يشترطون في الحكم الاجتهاد ، وإنّما يجوّزون قضاء غيره بشرط أن يوليه ذو
الشوكة ، وهو السلطان المتغلب ، وجعلوا ذلك ضرورة. فالقول بجواز القضاء لمن قصر عن
هذه الدرجة من غير تولية ذي
__________________
الشوكة ـ كما هو الواقع ـ مخالف لإجماع المسلمين.
وحينئذ ،
فالقول في هذه المسألة الإجماعية بالحكم لأهل التقليد ، حكم واقع بغير ما أنزل
الله سبحانه ، وعين عنوان الجرأة عليه ، فكيف يعملون بفتواهم مرة ويخالفونها اخرى ، والكل
موجود في كتاب واحد؟ (أَفَتُؤْمِنُونَ
بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) .
بل قد ذكر
الأصحاب في كتبهم ما هو أغرب من ذلك وأعجب ، وهو أنه لا يتصور حكم المقلد بوجه ولا
تولية المجتهد الحي له في حكم ، وذكروا في باب الوكالة أن مما لا
يقبل النيابة القضاء ؛ لأن النائب إن كان مجتهدا في حال الغيبة لم يتوقف حكمه على
نيابته ، وإلّا لم تجز استنابته. ومن هاهنا يعم على الطبقات السالفة التي بين
الناقل وبين المجتهدين ؛ فإنكم تعلمون علما يقينيّا بأن كلّهم أو جلّهم أو من
شاهدته منهم أنهم كانوا يتحاشون عن الأحكام ، وتقع منهم مرارا ، وكفى جرحا في فعل
ما خالف الإجماع المصرّح به من مثل العلّامة جمال الدين رحمهالله وغيره ، بل يترتب على هذا ضمانهم الأموال التي حكموا
بها واحتبسوها من مال الغائب وغيره. واستقرارها في ذمتهم كما هو معلوم مفرد في
بابه مقطوع به في فتواهم بأن من هو قاصر عن درجة الفتوى يضمن ما أخطأ فيه من الأحكام
في ماله ، ويضمن ما تصرّف فيه من مال الغائب) انتهى كلامه علت في الخلد أقدامه.
وإنّما نقلناه
في المقام بطوله ؛ لجودته وكثرة محصوله ، وأنت خبير بما عليه اتّفاق كلمة هؤلاء
الأجلّاء ، ومن نقلوا عنهم فيما ذكرنا.
__________________
إلّا إني قد
وقفت على كلام لجملة منهم أيضا مما يشعر بالخلاف في ذلك ، وجواز تولية غير الفقيه
مع فقد الفقيه المذكور ، فإنه قد نقل شيخنا العلّامة أبو الحسن الشيخ سليمان بن
عبد الله البحراني قدسسره في كتاب (الفوائد النجفية) عن الشيخ الصالح الشيخ حسين
بن مفلح الصيمري أنه اختار الجواز في رسالة عملها في المسألة ، ونقل فيها ذلك عن
الشيخ حسين بن منصور صاحب (الحاوي) ، قال : (فإنه قال فيه : (لو لم يوجد جامع
الشرائط جاز نصب فاقد بعضها مع عدالته ؛ للحاجة إليه ، بل يجب من جهة الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر ، فيقتصر على الحكم بما يتحققه. أمّا غيره من المسائل
الاجتهادية ، فيعتمد فيها الصلح فإن تعذّر تركه ، ولا يعمل بما في كتب الفقهاء ولو
المشهورين بالتحقيق. نعم ، لو أفتى جامع الشرائط وجب أن يعمل بقوله (...) انتهى.
ثم نقل أيضا في
الرسالة المذكورة عن محرر العامة من كتب الشافعية ما هذا لفظه :
(وإذا تعذّرت هذه الشروط ، وولى سلطان ذو شوكة فاسدا أو مقلدا ، نفذ قضاؤه للضرورة)
انتهى.
ثم قال له صاحب
الرسالة : (فقد ثبت على المذهبين جواز القضاء للمقلد للضرورة ، والحاجة
إليه ، لكن يجب أن يعتمد ما قال صاحب (الحاوي) ؛ لأنه أحوط) انتهى.
أقول
: وقد وجدت في
ظهر بعض الكتب بخط بعض الفضلاء ، ما هذه صورته :
__________________
(صورة ما نقل من خط الشيخ علي بن هلال جواب الشيخ علي بن قاسم هكذا : أنه هل للعدل الإمامي وإن لم
يكن بشرائط الاجتهاد الحكم بين الناس ، ويجب العمل بما يقوله من صحة أو إبطال ،
وكذا حكم البينة واليمين ، وإلزام الحقّ وعدمه في حال الغيبة ، وعدم المجتهد؟
الجواب
: نعم ، الأمر
كذلك ، له تنفيذ الأحكام ، وليس هذا من باب الحكم بل من باب الحسبة ، والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر. وما ذكر عن الشيخ أحمد بن فهد قدسسره فهو كما ذكره) انتهى.
وفي ذيله مكتوب
في بيان ما نسب للشيخ أحمد بن فهد رحمهالله ما صورته : (للفقيه العدل الإمامي ـ وإن لم يجمع شرائط
الاجتهاد ـ الحكم بين الناس ، ويجب العمل بقوله من صحة أو إبطال. وكذا حكم البينة
واليمين ، وإلزام الحق وعدمه في حال الغيبة ، وعدم المجتهد. ابن فهد) انتهى.
أقول
: وما نقل عن
الشيخ ابن فهد هنا قد نقله أيضا عنه المولى المحقق الأردبيليّ رحمهالله في (شرح الإرشاد) حيث قال بعد بيان اشتراط كون الحاكم
مجتهدا ما صورته : (ولا شك في ذلك مع وجود المجتهد ، وأمّا مع عدمه فالمشهور ، بل
نقل الاجماع على عدم جواز الحكم حينئذ. ولكن رأيت في حاشيته على (الدروس) ما هذا
لفظه : قال : (للفقيه العدل الإمامي وإن لم يجمع شرائط الاجتهاد الحكم بين الناس)
...).
إلى آخر ما
نقلناه من قول ابن فهد رحمهالله ، ثم قال : (وكتب بعدها هذه الحاشية منقولة من الشيخ
حسين بن الحسام دام فضله انتهى ما ذكره المولى المذكور ، أفاض الله تعالى عليه
رواشح النور.
__________________
وأنت خبير بأن
المنقول عن الشيخ علي بن هلال الجزائري رحمهالله فيما تقدم من كلام ابن أبي جمهور هو القول بالمنع ، وهو
يخالف ما نقل عنه هنا ، والظاهر ترجيح النقل الأول ؛ فإن الشيخ عليا المذكور من
جملة مشايخ ابن أبي جمهور المعاصرين فهو أعرف بمذهبه ، مع احتمال العدول عن أحد
القولين إلى الآخر ، فيصح نسبة القولين له معا وإن كان باعتبار وقتين.
أقول
: وكيف كان ،
فالظاهر هو ما ذكره جلّ الأصحاب ؛ فإنه هو المعتمد في الباب ، والمؤيد بالسنّة و (الكتاب)
، ولكن جملة منهم ـ رضوان الله عليهم ـ إنّما أخلدوا في ذلك إلى دعوى الإجماع ، مع
أن أخبار أهل الذكر ـ سلام الله عليهم ـ صريحة الدلالة في ذلك ، مكشوفة القناع ،
وهي أولى وأحقّ بالاتّباع ، لكن لا بالنسبة إلى ما يدّعونه ـ رضوان الله عليهم ـ من
الاختصاص بالمجتهد الذي ربما ابتنى حكمه وفتواه في بعض الأحكام الشرعية ، على مجرد
وجوه مخترعة : ظنيّة أو وهمية ، بل الذي تضمنته تلك الأخبار هو الرجوع إلى من تمسك
بذيل (الكتاب) العزيز والسنّة النبوية ، على الصادع بها أشرف سلام وتحية.
فمن الأخبار في
ذلك المقبولة المذكورة ، وروايتا أبي خديجة المتقدمتان ، وما رواه
الصدوق ـ نوّر الله مرقده ـ في (الفقيه) قال : قال علي عليهالسلام : «قال
رسول الله صلىاللهعليهوآله : اللهم ارحم خلفائي
ـ ثلاثا ـ قيل : يا رسول الله ، ومن خلفاؤك؟ قال : الذين يأتون بعدي ، يروون حديثي
وسنّتي» .
وما رواه أيضا قدسسره في كتاب (إكمال الدين وإتمام النعمة) ، عن إسحاق بن
يعقوب قال : سألت محمد بن عثمان العمري أن يوصل إليّ كتابا قد سألت فيه
__________________
عن مسائل أشكلت علي فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان عليهالسلام : «أمّا
ما سألت عنه أرشدك الله وثبتك».
إلى أن قال : «وأمّا الحوادث
الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ؛ فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم » .
وقد بينا في
صدر هذه الفائدة أن الرواية لأخبارهم ، والمعرفة بأحكامهم المستلزمة للنيابة عنهم
، والقيام مقامهم مخصوص بفرد خاص ، وهو المعبر عنه في لسان الفقهاء بالفقيه الجامع
الشرائط ، فغيره لا يجوز له حينئذ الدخول في هذا الباب بمقتضى صريح الخطاب.
ومما يؤكده ،
ويدلّ على خطر الحكومة ووزرها والتحذير منها والتشديد في أمرها إلّا لمن استكمل
تلك الشروط المقرّرة ، وفاز بتلك القوة القدسية المنوّرة ما رواه ثقة الإسلام في (الكافي)
بسنده عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قال أمير المؤمنين عليهالسلام لشريح : يا شريح ، قد
جلست مجلسا لا يجلسه إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ أو شقيّ» .
وما رواه فيه
أيضا عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «اتقوا الحكومة ؛ فإن الحكومة إنّما هي للإمام
العالم بالقضاء ، العادل في المسلمين لنبي أو وصي نبي» .
لا يقال :
الحصر في النبي والوصي ، يدل على عدم تعدي ذلك إلى غيرهما.
__________________
لأنا
نقول : قضية الجمع
بين هذين الخبرين ، وما تقدم من الأخبار الدالّة على نيابة الفقيه الراوي لأخبارهم
، المتتبع لآثارهم ، هو حمل هذين الخبرين على أن النائب من جهتهم ، والمنصوب عنهم
يرجع بالآخرة إليهم. ويدل عليه قوله عليهالسلام في الرواية المذكورة : «ينظران من كان منكم قد روى حديثنا ـ إلى قوله
ـ وهو على حد الشرك بالله» فإنه جعل الرادّ على نائبهم رادّا عليهم ورادّا على الله تعالى ، «وأنه على حدّ الشرك
بالله» ، وهو صريح
فيما ذكرناه.
وما رواه فيه
أيضا في الصحيح عن أبي عبيدة قال : قال أبو جعفر عليهالسلام : «من
أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة والعذاب ، ولحقه وزر من
عمل بفتياه» .
وما رواه فيه
عن أحمد عن أبيه ، رفعه إلى أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : «القضاة أربعة ؛ ثلاثة في النار ، وواحد في
الجنة : رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في
النار ، ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحق وهو يعلم فهو
في الجنة» .
والأخبار في هذا الباب
مستفيضة متكاثرة ، فتخصيصها يحتاج إلى دليل قاطع وبرهان ساطع.
وإخلال الناس
بطلب العلم وتحصيل هذه المرتبة لا يكون عذرا مسوّغا لدخول غير صاحب هذه المرتبة
فيها ، والجنوح إلى أنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ممنوع ، بل لو قيل
: إنه من باب فعل المنكر لكان أظهر بالنسبة إلى الخبر.
__________________
ومما يدل على
المنع من تقليد غير من فاز بتلك المرتبة السامية ، وحاز تلك المنزلة النامية ما
رواه في (الكافي) في الصحيح عن أبي بصير ليث المرادي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : قلت له (اتَّخَذُوا
أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) . فقال : «أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم ، ولو
دعوهم ما أجابوهم ، ولكنهم أحلّوا لهم حراما وحرموا عليهم حلالا ، فعبدوهم من حيث
لا يشعرون» .
وما رواه فيه
أيضا عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «من أصغى إلى ناطق فقد عبده ؛ فإن كان الناطق
يؤدي عن الله فقد عبد الله ، وإن كان الناطق يؤدي عن الشيطان فقد عبد الشيطان» .
فائدة
في كون القاضي منصوبا من الإمام حال حضوره
ظاهر كلام الأصحاب
ـ رضوان الله عليهم ـ أنه مع حضور الإمام عليهالسلام فلا بد في متولي القضاء أن يكون منصوبا منه عليهالسلام على الخصوص ، فلا ينفذ قضاء الفقيه الجامع الشرائط من
غير تنصيص عليه بخصوصه ، وإنّما ينفذ في زمان الغيبة ، وزاد بعضهم : عدم تمكن
الإمام من إجراء الأحكام. واستندوا في ذلك إلى رواية سليمان بن خالد المتقدّمة ،
وحديث الأمير عليهالسلام مع شريح السابق ، لحملهما على
__________________
__________________
زمان الحضور ، وحمل أخبار النيابة من غير تنصيص على زمن الغيبة.
وأنت خبير بأن
المفهوم من الأخبار السابقة ـ الدالة على الأمر بالرجوع إلى من عرف أحكامهم وروى
أخبارهم ، وأنهم قاض من جهتهم ـ هو العموم ، بل ربما كانت في الدلالة على زمن
الحضور أظهر. وأمّا الأخبار التي استندوا إليها ، فغاية ما تدلّ عليه أن الحكومة
لا تصلح إلّا لهم ـ صلوات الله عليهم ـ لأنهم العارفون واقعا بأحكام الملك العلام
، وهو أعمّ من أن يباشروا ذلك بأنفسهم ، أو يعينوا شخصا من جهتهم قد عرف أحكامهم
خصوصا كما يدّعونه ـ طاب ثراهم ـ أو عموما كما هو منطوق تلك الأخبار التي ذكرناها.
ولم أر من تنبّه لما ذكرناه ، سوى المحقق المولى الأردبيليّ قدسسره في (شرح الإرشاد) ، حيث قال : (واعلم أن المستفاد من
عباراتهم أنه لا بدّ في القاضي مطلقا في حال الحضور من نصب الإمام ، أو من نصبه له
بخصوصه ؛ فلا يجوز للمتّصف بالشرائط الحكم بغير نصبه ، والدليل عليه غير ظاهر إلّا
أن يكون إجماعيا. وظاهر الأخبار المتقدّمة تدلّ على أن كلّ من اتّصف بالشرائط فهو منصوب من قبله عليهالسلام وله الحكم مثله ، وأنه ليس مخصوصا بحال الغيبة ، بل
ظاهره في حال الحضور ؛ إذ الصادق عليهالسلام جعله حاكما ، وذلك زمان الحضور. إلّا أن يخصّص بوقت عدم
إمكان الوصول إليه أو إلى نائبه ، وعدم إمكان نصبه بخصوصه ، وهو بعيد.
نعم
، لا بدّ من
ارتكابه إن قام الدليل عليه) انتهى.
وإني كنت قبل
الوقوف على كلام هذا المحقق ، مذ عرض هذا العارض في خاطري كنت أقضي العجب من عدم
تنبّه أحد من محقّقي أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ لذلك ، مع ظهور الأخبار التي
قدمناها فيما هنالك حتى يسّر الله سبحانه
__________________
ـ وله المنة ـ الوقوف على هذا الكلام الواضح المرام.
هذا ، وتخصيص
الأخبار المذكورة بوقت عدم إمكان الوصول إليه ، أو عدم إمكان نصبه لخصوصه ـ كما
ذكره المولى المذكور ـ أو عدم تمكن الإمام من إجراء الأحكام ، كما لحظه من قدمنا
نقله عنه تخصيص من غير دليل ، ولا معارض واضح السبيل.
تكملة
في كلام بعض علمائنا في تسهيل أمر الاجتهاد
قد بالغ شيخنا
الشهيد الثاني ـ نوّر الله تعالى مضجعه ـ في رسالته المعمولة في مسألة المنع من
تقليد الميت في تسهيل أمر الاجتهاد وفي هذه الأعصار فقال مشنّعا على من قال
بجواز تقليد الميت : (إن الذي أوجب لمعتقدي جواز ذلك هذه الحيرة ، ونزول هذه
البليّة ، إنّما هو تقاعدهم عن تحصيل الحقّ ، وفتور عزيمتهم ، وانحطاط نفوسهم ، عن
الغيرة على صلاح الدين ، وتحصيل مدارك اليقين ، حتى آل الحال إلى انتقاض هذا
البناء ، وفساد هذا الطريق السويّ ، واندرست معالم هذا الشأن بين أهل الإيمان ،
وصار من قرأ الشرائع أو بعضها أو ما زاد عليها يجلس في زماننا ،
ويتصدّر ويفتي الناس في الأحكام والأموال والفروج والمواريث والدماء ، ولا يعلم
بأن ذلك غير معروف في مذهبنا ، ولا يذهب إليه أحد من علمائنا) .
ثم قال ـ بعد
كلام طويل طويناه ـ : (وما أقعدهم عن ذلك إلّا ضعف هممهم ، واعتقادهم أنه لا
يتحقّق المجتهد إلّا إذا كان مثل العلّامة جمال الدين ، أو الشيخ نجم الدين ، أو
الشهيد رحمهمالله ، ومن ضارعهم ، ولم يدروا أنه على مراتب لا
__________________
تتناهى ولا تقف على حد ، وأن أقل مراتبه يمكن تحصيلها لخلق كثير. فأين
القلوب المستيقظة والألباب المتهيّئة والنفوس المتوجهة ؛ لتنوح على هذه المصيبة ،
وتكثر العويل على هذه الرزية التي لا يلحظها إلّا المتقون؟ فإنا لله وإنا إليه
راجعون. فمن هذا اندرست الشريعة.
وإنّما أوجب [هذه]
البلوى قلة التقوى ، فكيف لا تتوجّه المؤاخذة ، ونستحق نزول البلية إن لم
يتداركنا الله بفضله ورحمته؟
وأعظم من هذا
محنة ما يتداوله كثير من المتسمّين بالعلم ، حيث يصرفون عمرهم ، ويقضون دهرهم [في]
تحصيل علوم الحكمة ؛ كالمنطق ، والفلسفة ، وغيرهما مما يحرم ؛ لذاته ، أو
لمنافاته الواجب على وجه لو صرفوا منه جزءا على تحصيل العلم الذي يسألهم
الله عنه سؤالا حثيثا ، لحصّلوا ما يجب عليهم من علم الدين ، وهم يحسبون أنهم
يحسنون صنعا) انتهى ملخصا.
وقال الشهيد ـ عطر
الله مرقده ـ في بعض فوائده : (الاجتهاد في هذا الوقت أسهل منه فيما قبله من
الأوقات ؛ لأن السلف ـ رحمهمالله ـ قد كفونا مئونته بكدهم وكدحهم وجمعهم السنّة والأخبار
وتعديلهم الرجال وغير ذلك) .
وقال بعض
المحقّقين ممّن تأخر عنه : (لا شك أنه في زماننا أسهل منه في زمان الشهيد رحمهالله ؛ لزيادة سعيه وسعي من بعده في تنقيح المباحث ، وتهذيب
المطالب ، وإيضاح القواعد ، وذكر الاحتمالات ، ورد الشّبه ، وإيراد الجوابات ،
__________________
وكثرة البحث عن الأسانيد ووجوه الدلالات ، وتحرير ما يتعلق بها من أنواع
العلوم المحتاج إليها ، والاستنباطات).
ومن ثم قال بعض
المحققين : (لم يبق لمن تأخر عنهم من البحث والتفتيش إلّا الاطلاع على ما قرروه ،
والفكر فيما ألّفوه) .
وآخرون قد
عظّموا الخطب حتى جعلوه كالصعود إلى السماء ، أو كنقط المصحف بيد الأعمى ، وهو وهم
فاسد ، وخيال كاسد ، منشؤه عدم المعاشرة لأهل الكمال ، وسوء التدرّب في مجامع
الاستدلال ، وقلة الممارسة للأحكام الشرعية ، وعدم الوقوف على ما قرره العلماء
الأعلام في المسائل الشرعية) .
قال شيخنا
العلّامة أبو الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني ـ طيب الله مرقده ـ في كتاب
(العشرة الكاملة) ـ بعد نقل القولين المذكورين ـ : (والإنصاف أن القولين المذكورين
على طرفي نقيض في الإفراط والتفريط ، وأن الاجتهاد المطلق نادر الوقوع قليل التحقق
يحتاج حصوله إلى استغراق أكثر العمر غالبا في الطلب ، وليس هو من
السهولة التي ذكره الشهيد الثاني في شيء ، والتعلق بأن السلف كفونا مؤنته ضعيف ؛
فإنهم مختلفون في الفتاوى جدا ؛ بسبب اختلاف أفهامهم وأنظارهم. وهذا قد يوجب صعوبة
الأمر ؛ لكثرة الشبهات التي يوردها كلّ على خصمه ، وانتشار الأدلّة والأخبار
والأقوال على وجه يعسر ضبطه.
ومع هذا فهم
غير منكوري الفضل على من تأخّر عنهم ، فقد قربوا البعيد ، ويسّروا القريب ، وجمعوا
الشتات ، وألفوا الروايات ، شكر الله سعيهم ووالى من حياض الكوثر سقيهم.
__________________
وأمّا التجزّي
، فهو كثير الأفراد ، منتشر الأعداد ، وهو على مراتب غير متناهية ، كما أشار إليه
شيخنا الشهيد الثاني ، متفاوتة في القرب من المطلق والبعد منه على قدر تفاوت القوى
الاستدلالية شدّة وضعفا ، وزيادة ونقصانا) انتهى كلامه ، علت في الفردوس أقدامه.
وأنا أقول وإن
كنت ممن يقصر عن السباق في مضمار هؤلاء الفحول ، ويكبو جواده عن اللحاق في ميدان
تلك العقول : إنه حيث كان الاجتهاد الّذي بني عليه هذا الكلام ممّا لم يقم عليه
عندي دليل من أدلاء الملك العلام ، وإنّما الذي دلّت عليه أخبارهم كما تقدّم لك
شطر منها هو أن النائب عنهم عليهمالسلام هو من روى أخبارهم وعرف أحكامهم وتتبّع آثارهم ، مع ما
استفاض عنه صلىاللهعليهوآله من قوله : «إني تارك فيكم الثقلين ... كتاب الله وعترتي
أهل بيتي» .
فالواجب حينئذ
هو التمسّك بهما والأخذ بما فيهما لا غير ، إلّا إنه لما كانت الآيات القرآنية
فيها المجمل والمبين ، والمتشابه والمحكم ، والعامّ والخاصّ ، والناسخ والمنسوخ ،
ونحو ذلك ، وكذلك الأخبار قد اشتملت على ما عدا الأخير ، وعوضت عنه باشتمالها على
التقية التي هي أشدّ محنة وبلية ، وانضاف إلى ذلك تفرقها في الاصول وتشتتها على
وجه ربما يعسر [معه] إليها الوصول. وكان خطابهم ـ صلوات الله عليهم ـ للناس ربما بني على
الزيادة والنقصان بما تحتمله عقول المخاطبين في ذلك الزمان ، فبين ظاهر جلي ودقيق خفي.
وقد خفيت علينا أكثر القرائن الحالية التي كانت بها الدلالات واضحة جليّة.
__________________
فلا جرم أنه لا
بدّ من معرفة علم اللغة التي تبيت عليها الأحكام ، وبها ورد الخطاب من الملك
العلّام ، وتتبّع ما هو المعروف في عرفهم وزمنهم عليهمالسلام ، فإنه مقدم على اللغة عند علمائنا الأعلام. ولا بدّ من
معرفة القدر الضروري من علم العربية التي يتوقف عليها فهم الأحكام ما عدا ذلك من
العلوم التي ذكروها ، فلا ضرورة تلجئ إليها وإن كانت مما لها مزيد دخل في الفهم
والاستعداد ، إلّا إنها ليس مما يتوقف عليها أصل المقصود والمراد.
قال بعض
المحدثين من متأخّري المتأخرين ـ ونعم ما قال ـ : (وأمّا الاصطلاحات المنطقية فليس
إلى تعلمها مزيد حاجة ، ولذلك لم يذكرها القدماء ؛ وذلك لأن الفكر والاستدلال
غريزيّان للإنسان ، إذ لا شك أن كلّ مكلف عاقل له قوة فكرية
يرتّب بها المعلمات ، وينتقل بها إلى المجهولات وإن لم يعلم كيفية الترتيب
والانتقالات ، كما يشاهد في بدء الحال من الأطفال فكما أن صاحب الباصرة يدرك
المحسوسات وإن لم يعلم كيفية الإحساس ، هل هو خروج الشعاع أو انطباع
الصورة في الجليدية أو غير ذلك ؟ كذلك صاحب القوة
__________________
الفكرية يتفكر ويستدلّ وإن لم يعلم كيفية التفكّر والاستدلال.
وبالجملة ،
نسبة علم المنطق إلى الفكر كنسبة العروض إلى الشعر بعينه ، فكما أن الإنسان إذا
كانت له قوة شعرية وطبيعة موزونة ينشد الشعر ويميز بين صحيحه وفاسده وإن لم يتعلم
العروض ، فكذلك من له قوة فكرية يتفكر ويستدل ويميز بين صحيحه وفاسده وإن لم يتعلم
المنطق. واحتمال الخطأ مشترك بين العالم والجاهل ، وكذا سببه الذي هو الغفلة ، وعدم
بذل الطاقة.
وكما يحصل
التمييز من المنطق كذلك قد يحصل من المعلّم والمنبه ؛ فإنه كثيرا ما يغلط الإنسان
في فكره ، فإذا عرضه على غيره ينبّهه ويشير عليه بموضع خطئه . ولو نفع
المنطق في العصمة عن الخطأ لكان أهله أعلم الناس وأصوبهم في المذهب ، ولم يقع
الخطأ منهم أصلا ، وليس كذلك كما هو معلوم) انتهى كلامه زيد مقامه.
ثم لا بد ، في
العمل ب (القرآن) بعد ما ذكرنا من معرفة الناسخ من المنسوخ ، والاقتصار على ما كان
نصّا محكما ، والرجوع فيما عداه إلى تفسير أهل البيت ـ صلوات الله عليهم ـ وإلّا
فالتوقف. ولا بدّ في معرفة الحكم من الأخبار من بذل الوسع حسب الإمكان في الاطّلاع
عليها من مظانها من الكتب الأربعة وغيرها من الاصول ، ومن قصرت يده عن ذلك فالواجب
عليه التوقّف والإحجام عن الخوض في هذا المقام الذي هو من مزالّ الأقدام ومداحض
الأفهام. ولا بدّ من الجمع بين مختلفاتها بما صرحت به القواعد المأثورة مما سنتلوه
عليك إن شاء
__________________
الله تعالى في شرح هذا الحديث.
والنظر بالذهن
الثاقب والفهم الصائب في خبايا تلك الدلالات وما اشتملت عليه من الاحتمالات
والاستعانة بالنظر في مطوّلات الأصحاب الاستدلالية ، للاطلاع على ما فيها ، ولا
سيما خلاف تلك الامة الغويّة.
ولا ريب أن من
تقدمنا من مشايخنا ـ شكر الله جهدهم ، وأجزل رفدهم ـ بما دوّنوه لنا من الأخبار
وبوبوه ورتبوه وهذبوه وحققوه وشرحوه وبينوه وأوضحوه ، وقد قربوا لنا البعيد وهو
نوالنا الشديد ، إلّا إنه ليس مجرد الوقوف على كلامهم ، والاطّلاع على نقضهم
وإبرامهم كافيا في المطلوب ، والفوز بالمحبوب ؛ لما يعلم من الاختلاف في كلامهم في
كلّ مقام ، وردّ كلّ متأخر منهم غالبا على من تقدمه وإن كان من أجل الأعلام. بل لا
بدّ مع ما قدّمناه من حصول تلك القوة القدسية والملكة الأصليّة التي هي المعيار ،
وعليها المدار في الإيراد والإصدار ، وبها يحصل التمييز بين الغث والسمين والعاطل
الثمين والغوص على لآلى تلك البحار ، والاقتطاف من جني تلك الثمار ، واستنباط ما
يصل إليه عمله ويدركه فهمه من خبايا الأسرار ، فكم ترك الأول للآخر! كما هو في
المثل السائر ، وتلك القوة بيده سبحانه يؤتيها من يشاء.
ولرب رجل يكون
في الغاية من جودة الفهم وحدة الذهن في سائر تلك العلوم ؛ لكثرة ممارسته لها ،
وليس له ربط بكلام الأئمَّة الأطهار ، ولا سليقة في فهم الأخبار. وكم من متبحر في
سائر العلوم تفكر في الحديث فأخرجه عما هو المراد به والمرام ، وحمله على معان لا
يخفى بعدها على سائر الأنام! وكم رجل له ربط بالأخبار ، جيّد الفهم فيها وإن لم
يكن له ذلك الفضل ولا قوة مجادلة ذلك الفاضل! وكثيرا ما يفهم الإنسان حكم المسألة
من أدلتها وإن لم يتمكن من إثباته على خصمه ؛ وذلك باهتدائه إلى الحقّ من ربه ،
حيث توجه إلى تحصيله بقصد
القربة إليه سبحانه ، لا لغرض من الأغراض الباطلة. وفي الخبر : «ليس العلم بكثرة
التعلم ، وإنّما هو نور يقذفه الله في قلب من يريد» .
وقد أشرنا آنفا
إلى ما تحصل به الملكة المذكورة إن ساعد التوفيق.
وأمّا المجتهد
المطلق الذي ذكره ، فمن الظاهر لذوي الأذهان أنه لا وجود له في الأعيان ؛ وذلك لما
علم من الآيات القرآنية والأخبار المعصومية من أنه لا واقعة إلّا وفيها خطاب شرعي
، ولا قضية إلّا ولها حكم قطعي ، وأن كثيرا من ذلك في زوايا الخفاء عند أهل العباء
، وأن الخطابات الخارجة عنهم عليهمالسلام فيها المتشابه والمحكم ، والمجمل والمبين ك (القرآن) ،
وأنه يجب التوقف والرد اليهم في كلّ واقعة لا يعلم حكمها ، مع ما عرفت في درتي
الاستصحاب والبراءة الأصليّة من أنه لا اعتماد عليهما في الأحكام الشرعية ، وعمومات (الكتاب)
والسنّة ، ومع تسليم جواز العمل بها لا تفي بجميع الأحكام ،
فأين تيسّر المجتهد المطلق ، والباب كما ترى دونه مغلق؟ على أن جملة من المجتهدين
قد توقّفوا في كثير من المسائل.
وقد ذهب جمع من
علماء العامة إلى تعذّر وجود المجتهد المطلق ، كالآمدي من الشافعية ،
وصدر الشريعة من الحنفية ، على ما نقله بعض الأصحاب عنهما مع كثرة
طرق الاستنباط عندهم ، فكيف لا يكون عندنا والحال كما ذكرنا متعذّر ؟ وأمّا
المتجزئ في بعض الأحكام فهو غير عزيز المرام في سابق هذه
__________________
الأيام وإن عزّ الآن ، كما سيظهر لك مما يأتي في المقام.
تتميم
نفعه عميم
في بيان ما
يستعلم به أهلية المجتهد
المرجع في
استعلام من له أهلية الحكم والفتوى ـ وهو من اتّصف بما قدمنا من العلوم والملكة مع
تسربله بسربال الورع والتقوى ـ إمّا إلى المعاشرة التامة من مثله في العلم والعمل
، أو شهادة عدلين بذلك ، أو عرض فتاويه مع فتاوى من تكون له تلك القوة القدسية
والملكة العلمية ، أو عمل أهل العلم بأقواله وفتواه.
ولا فرق في
العمل بقوله بين كونه حيا أو ميتا.
وما ذكره بعض
الأصحاب من الاكتفاء برؤيته متصدّرا ، ناصبا نفسه للفتوى والحكم ، وإقبال الناس
عليه ، فلا يخفى ما فيه من عظم المحنة والبلوى ، سيما في مثل هذا الزمان الذي عزّ
فيه الورع والتقوى.
قال بعض فضلاء
متأخّري المتأخرين ـ ونعم ما قال ـ بعد ذكر ما يدخل في هذا المجال ما صورته : (ولا
عبرة بإجماع العوام عليه ، ولا بسؤالهم منه ؛ فإن مدارهم الاعتماد
على الامور الظاهرية ؛ من ذلاقة اللسان ، وعظم الجثمان ، وإقبال السلطان ، وكونه
ابن فلان ، أو أخا فلان ، وغير ذلك من الأسباب والاعتبارات الدنيوية. وعسى لا
يعتقد عامي في عالم ورع ساكت غير متبحر بالفتاوى كونه عالما أصلا ، ويجزم بكون رجل
جاهل مدع للعلم مفت بكل ما يسأل عنه أنه أعلم أهل زمانه ، خصوصا إن انضمّ إليه
رجحان من الجهات الدنيوية. وذلك ظاهر مما يشاهد في كلّ الأزمنة وجميع الأمكنة)
انتهى.
أقول : لقد
تقاعدت الهمم في هذا الزمان عن نصرة الدين المبين ، والسعي في
__________________
إحياء شريعة سيد المرسلين صلىاللهعليهوآله ، وتحصيل الأحكام على الوجه الذي ذكرناه في المقام ، أو
ذكره من تقدمنا من علمائنا الأعلام ، وقنعوا بما قنعت به منهم الجهّال في ذلك
المجال ، فتصدّروا لهذا المنصب النبويّ وأكثروا فيه من الفتيا في الأحكام ، وخبطوا
خبط عشواء في موارد الحلال والحرام ، من غير معرفة لهم في ذلك بدليل ولا وقوف على
نهج السبيل ، فتصدّر للحكومة بين الناس من لم يبن على أصل ولا أساس (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ
أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا
يَشْعُرُونَ) .
فصاروا إذا
وردت على أحدهم القضية هيّأ لها حشوا من المقال ، وأردف الجواب عاجلا بالسؤال ، من
غير معرفة بصواب أو ضلال.
والمتورع
الفاضل المجتهد بين العباد إذا وردت عليه المسألة هيأ لها (شرح اللمعة)
و (المسالك) ، وبعض شروح (الإرشاد) ، وأصدر الجواب منها من غير علم له بابتنائه
على صحة أو فساد (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ
أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) .
هذا مع أن
أصحاب تلك الكتب متفقون على المنع من تقليد الأموات ، كما صرّحوا به في كتبهم
الاصولية من مختصرات ومطوّلات.
على أنه أيضا
لا خلاف بين العلماء الأعلام في أنه لا يجوز بناء القضاء والفتوى في الأحكام على
التقليد لحيّ كان أو ميت كما عرفت آنفا قبيل هذا الكلام ، بل لا بدّ من أخذ ذلك من
الدليل المقرّر عن أهل الذكر عليهمالسلام ، وبذلك استفاضت الآيات القرآنية والأخبار المعصومية (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما
ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ
تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً
__________________
وَأَنْ
تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)
.
(أَلَمْ يُؤْخَذْ
عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ) .
(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما
أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) .
(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ) .
(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) .
(وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ
لَكَ بِهِ عِلْمٌ) .
إلى غير ذلك من
الآيات البينات.
وقد تقدم لك في
ذلك شطر من الروايات ، ولا تجد ذلك في مكان أكثر منه في بلاد العجم التي قد آل
أمرها بسبب ذلك إلى الاضمحلال والعدم. ومن أعظم البلاء الظاهر الذي قد أوجب لها
الانعدام بناء دينهم وشريعتهم على من نصبه لهم حكام الجور من قاض وشيخ إسلام ،
وجعل بيده أزمة الأحكام في الحلال والحرام ، جريا على طريقة العامة في هذا المقام
، مع ما شاع وذاع وملأ الاصقاع والأسماع من تكالب جلهم على أخذ الرشا على الأحكام
، مضافا إلى ما هم عليه من الجهل بشريعة الملك العلّام. والحامل لهم على ذلك هو حبّ
الرئاسة الذي هو رأس كلّ خطيئة ، ومفتاح كلّ بلية والطمع في زخارف هذه الدنيا
الدنية. وقد أصبحوا تضج منهم الأموال والفروج والدماء ، وتشكو منهم الشريعة
النبوية إلى بارئ الأرض والسماء.
ومع هذا ترى
الجهّال عاكفين عليهم عكوفا ، وواقفين حولهم وبين أيديهم صفوفا ، مع أنه لو عزل
أحدهم من هذا المنصب المشؤوم ، بل قبل نصبه فيه كما
__________________
هو ظاهر معلوم ، لا ترى له ذكرا بين الأنام ، ولا ترى من يقلّده في أظهر
الظواهر من الأحكام ، فيا ويلهم كأنهم لم تقرع أسماعهم تلك التقريعات القرآنية
والإنذارات المعصومية ، ولم تسع أفهامهم تلك التحذيرات القاصمة
الظهور ، بلى إنها (لا تَعْمَى
الْأَبْصارُ ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) .
وقد روى ثقة
الإسلام في (الكافي) بسنده عن داود بن فرقد قال : قال أبو عبد الله عليهالسلام : «إن
أبي كان يقول : إن الله لا يقبض العلم بعد ما يهبطه ، ولكن يموت العالم فيليهم
الجفاة ، فيضلون ويضلّون» .
وروى العامة في
[صحاحهم] عن النبي صلىاللهعليهوآله أنه قال : «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ، لكن يقبض
العلماء ، حتى إذا لم يبق علم اتخذ الناس رؤساء جهّالا ، وأفتوا الناس بغير علم ،
فضلوا وأضلوا» .
الفائدة
الخامسة : في طرق الترجيح بين الأخبار
قد اشتملت هذه
الرواية على طرق الترجيح بين الأخبار بما لم يرد في غيرها من الأخبار الواردة في
هذا المضمار ، سوى مرفوعة زرارة المرويّة في كتاب (عوالي اللآلي) عن العلّامة
مرفوعا إلى زرارة بن أعين قال : سألت الباقر عليهالسلام فقلت : جعلت فداك ، يأتي عنكم الخبران أو الحديثان
المتعارضان فبأيهما آخذ؟
فقال : «يا زرارة ، خذ بما
اشتهر بين أصحابك ، ودع الشاذ النادر».
__________________
فقلت : يا سيدي
، إنهما معا مشهوران مرويان مأثوران عنكم؟ فقال : «خذ بقول أعدلهما عندك ، وأوثقهما في نفسك».
فقلت : إنهما
معا عدلان مرضيّان وموافقان؟ فقال : «انظر ما وافق منهما العامة فاتركه ، وخذ ما
خالفه فإنّ الحق فيما خالفهم».
فقلت : ربما
كانا موافقين لهم أو مخالفين فكيف أصنع؟ فقال : «إذن ، فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك الآخر».
فقلت : إنهما
معا موافقان للاحتياط أو مخالفان له ، فكيف أصنع؟ فقال : «إذن ، فتخيّر أحدهما
فتأخذ به وتدع الآخر» .
قال في الكتاب
المذكور بعد نقل هذه الرواية : (وفي رواية أنه عليهالسلام قال : «إذن ، فأرجه حتى تلقى إمامك فتسأله» .
ولم أقف في
الأخبار على ما اشتمل على تعداد الطرق المرجّحة غير هذين الخبرين ، إلّا إنهما قد
اختلفا في الترتيب بين تلك الطرق.
فاشتملت
المقبولة المتقدّمة على الترجيح بالأعدلية والأفقهية ، ثم بالمجمع عليه ، ثم
بموافقة (الكتاب) ، ثم بمخالفة العامة. ومرفوعة زرارة المذكورة قد اشتملت على
الترجيح بالشهرة أولا ، ثم بالاعدلية والأوثقية ، ثم بمخالفة العامة ، ثم
بالأحوطية. ولم يذكر فيها الترجيح بموافقة (القرآن) كما لم يذكر في الاولى الترجيح
بالاحوطية.
ويمكن الجواب :
أولا بأن يقال : إن الترتيب غير منظور فيهما ، لأنه في
الحقيقة إنّما وقع في كلام السائل لا في كلامه عليهالسلام ، وغاية ما يفهم من كلامه عليهالسلام ، هو الترتيب الذكري ، وهو
__________________
لا يستدعي الترتيب في وقوع الترجيح بتلك المرجّحات ، وحينئذ فأي طريق اتفق
من هذه الطرق عمل عليه.
لا
يقال : يلزم الإشكال
لو تعارضت الطرق المذكورة بأن كان أحد الخبرين مجمعا عليه مع موافقته للعامة ،
والآخر غير مجمع عليه مع مخالفته لهم ، أو أحدهما موافقا ل (الكتاب) مع موافقته
للعامة ، والآخر مخالفا ل (الكتاب) والعامة.
لأنا نقول :
غاية ما يلزم من ذلك خلوّ الروايتين المذكورتين عن حكم ذلك.
والمدّعى إنما
هو دلالتهما على الترتيب في هذه الطرق ، لا الدلالة على عدم الترتيب واقعا ، أو
الدلالة عليه.
على أنا نقول :
انه مع القول بعدم المخالفة بين الأخبار و (القرآن) إذا كانت
الأخبار مخصصة له كما حققناه في مواضع اخر ، فلا نسلم وجود هذه الفروض المذكورة في
أخبارنا المعوّل عليها عندنا ، كما لا يخفى على من جاس خلال الديار ،
وتصفح الأخبار بعين الاعتبار. ومع وجود ذلك فيمكن القول بأنه متى تعارض طريقان من الطرق
المذكورة يصار إلى الترجيح بغيرهما إن أمكن ، أو بهما مع اعتضاد أحدهما بمرجّح آخر
من تلك الطرق إن وجد ، وإلّا صير إلى التوقف والإرجاء أو التخيير.
وثانيا بأنه لا يبعد ترجيح العمل بما تضمنته المقبولة المذكورة
، لاعتضادها بنقل الأئمّة الثلاثة ـ رضوان الله عليهم ـ لها ، بل وغيرهم أيضا ، وتلقّي
__________________
الأصحاب لها بالقبول ، حتى قد اتّفقت كلمتهم على التعبير عنها بمقبولة
عمر بن حنظلة ، واتّفقوا على العمل بما تضمنته من الأحكام ، بخلاف تلك ؛ فإنها ليس
لها ما لهذه من المزية في المقام ، كما لا يخفى على ذوي الافهام.
الفائدة
السادسة : في صفات الحاكم
قال المحقق
المحدث الملّا محمّد صالح المازندراني قدسسره في (شرح اصول الكافي) ـ بعد قوله عليهالسلام في الحديث المزبور : «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما» إلى آخره ـ ما صورته : (لا بد للحاكم من أن يتصف
بالعدالة والفقاهة والصدق والورع ، فمن اتّصف بهذه الصفات الأربع فهو أهل للحكومة
ومنصوب من قبلهم عليهمالسلام ، ومن لم يتصف بشيء منها أو بعضها لا يجوز له الحكم
بين الناس وإن تعدّد المتصف بها. ووقع الاختلاف بينهما في الحكم والمستند.
فظاهر هذا
الحديث يفيد تقديم من اتّصف بالزيادة في جميعها ، وتقديم من اتّصف بالزيادة في
بعضها على من اتّصف بالنقصان في ذلك البعض بعينه ، مع تساويهما في الباقي ؛ لأن
مناط الحكم هو غلبة الظن به ، وهي في المتصف بالزيادة أقوى. وأمّا إذا اتّصف
أحدهما بالزيادة في بعض والآخر بالزيادة في بعض آخر ، ففيه إشكال ؛ لتعارض الرجحان
، وتقابل الزيادة والنقصان ، ولا دلالة فيه على تقديم أحدهما على الآخر. واعتبار
الترتيب الذكري بناء على أولويّة المتقدّم على المتأخر لا يفيد ؛ لعدم ثبوت
الأولوية.
وقال بعض الأصحاب
: يقدم الأفقه على الأعدل ؛ لاشتراكهما في أصل العدالة المانعة من التهجم على
المحارم ، وتبقى زيادة الفقاهة الموجبة لزيادة غلبة الظن
__________________
خالية من المعارض ، ومع تساويهما في الفقاهة يقدم الأعدل لثبوت الرجحان له.
ثم الظاهر أنه
لا خلاف بين الأصحاب أن الزيادة بهذه الصفات تقتضي رجحان تقدم المتّصف بها ، وأمّا
أنها هل توجب تقديمه بحيث لا يجوز تقديم المتّصف بالنقصان عليه أم لا؟ ففيه قولان
:
أحدهما
: أنه لا يجب
تقديمه لاشتراك الجميع في الأهلية : وردّ ذلك بأن اشتراكهم في أصل الأهلية بالنظر إلى أنفسهم لا يقتضي تساويهم
بالنظر إلى الغير ، وهل ذلك إلّا عين المتنازع فيه؟
والثاني ـ وهو الأشهر ـ : أنه يجب تقديمه ؛ لأن الظن بقوله أقوى
، ولدلالة ظاهر هذا الحديث ونظيره عليه) انتهى كلامه ، زيد مقامه.
الفائدة
السابعة : في الترجيح بالأعدليّة والأفقهيّة
قد اشتملت هذه
الرواية على الترجيح بأعدلية الراوي وأفقهيته ، ومثلها مرفوعة زرارة المتقدّمة.
وهذا الطريق من طرق الترجيح لم يتعرّض له ثقة الإسلام قدسسره في ديباجة كتاب (الكافي) عند نقل طرق الترجيحات ،
وإنّما ذكر الترجيح بموافقة (الكتاب) ومخالفة العامة ، والأخذ بالمجمع عليه . ولعل الوجه
فيه ما ذكره بعض مشايخنا ـ رضوان الله عليهم ـ من أنه لما كانت أحاديث كتابه كلها
صحيحة عنده ـ كما صرّح به في غير موضع من ديباجة الكتاب المذكور ـ فلا وجه حينئذ
للترجيح بأعدلية الراوي. ويحتمل أيضا أن يقال : إن في الترجيح بأحد تلك الوجوه غنية
عن الترجيح بعدالة الراوي ، كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.
__________________
ويؤيد ذلك خلو
ما عدا الخبرين المذكورين من الأخبار الواردة في هذا المضمار عن عد ذلك في جملة
المرجحات ، ويزيده تأييدا ما رواه في (الكافي) عن ابن أبي يعفور قال :
سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومنهم لا نثق به ،
قال : «إذا ورد
عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب الله ، أو من قول رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وإلّا فالذي
جاءكم به أولى به» ، فإنه عليهالسلام لم يرجح بالوثاقة ، ولم يقل : اعمل بما تثق به دون ما
لا تثق به ، مع كون السؤال عن الاختلاف الناشئ من رواية الثقة وغير الثقة ، وإن
احتمل الخبر معنى آخر ، وهو كون السؤال عن اختلاف الحديث يرويه الثقة تارة ، وتارة
يرويه غير الثقة ، والظاهر بعده.
الفائدة
الثامنة : في الجمع بين روايتي عمر بن حنظلة وزرارة
قد دلت هذه
الرواية على الإرجاء والتوقف بعد التساوي في طرق الترجيح
المذكورة فيها ، ومرفوعة زرارة المتقدّمة قد دلت على التخيير في العمل بأيهما شاء بعد ذلك ، وقد
اختلفت كلمة أصحابنا ـ نوّر الله تعالى مراقدهم ، وأعلى في الخلد مقاعدهم ـ في
الجمع بينهما على وجوه :
أحدها : حمل
خبر الإرجاء على الفتوى ، وحمل خبر التخيير على العمل ، بمعنى أنه لا يجوز للفقيه ـ
والحال هذه ـ الفتوى والحكم وإن جاز له العمل بأيهما شاء من باب التسليم. وبهذا الوجه صرّح
جملة من علمائنا المحققين من متأخري المتأخرين ، واستدل شيخنا العلامة أبو الحسن
الشيخ سليمان بن عبد
__________________
الله البحراني طيب الله تعالى مضجعه في كتابه (العشرة الكاملة) على ذلك
بصحيحة علي بن مهزيار ، قال : (قرأت في كتاب عبد الله بن محمد إلى أبي الحسن عليهالسلام : اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله عليهالسلام في ركعتي الفجر في السفر ، فروى بعضهم أن صلها في
المحمل ، وروى بعضهم أن لا تصلّها إلّا على الأرض ، فأعلمني
كيف تصنع أنت لأقتدي بك في ذلك؟ فوقع عليهالسلام : «موسّع
عليك بأيها عملت» .
وما رواه في
كتاب (الاحتجاج) في جواب مكاتبة محمد بن عبد الله الحميري إلى صاحب الزمان عليهالسلام : يسألني بعض الفقهاء عن المصلي إذا قام من التشهد
الأوّل إلى الركعة الثالثة ، هل يجب عليه أن يكبر ، فإن بعض أصحابنا قال :
لا يجب عليه
تكبير فيجزيه أن يقول : بحول الله وقوته أقوم وأقعد. «الجواب في ذلك حديثان :
أمّا
أحدهما : فإنه إذا انتقل من حالة إلى حالة
اخرى فعليه التكبير.
وأمّا
الحديث الآخر فإنه روي [أنه] إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبر ثم جلس ، [ثم
قام] فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير ، وكذلك التشهد الأول يجري هذا المجرى
، وبأيهما أخذت من باب التسليم كان صوابا» .
وظني أن ما
ذكره قدسسره من الاستدلال ليس مما يدخل في هذا المجال وإن توهم في
بادئ الحال ؛ وذلك لأن الظاهر من الأخبار أن التخيير في العمل من باب الرد
والتسليم ، إنّما هو مع تعذّر الرجوع إليهم ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ واستعلام
__________________
الحكم منهم عند تساوي الخبرين المختلفين في طرق الترجيح ، فإنه يكون الحكم
حينئذ هو التخيير في العمل ، خروجا من الحيرة ودفعا للحرج والضرورة ، كما ينادي به
كلام ثقة الإسلام الآتي نقله إن شاء الله تعالى ، فهو حينئذ من قبيل الرخص الواردة
عنهم عليهمالسلام في مقام الضرورة ، كالعمل بالتقية ونحوه.
وأمّا مع رد
الحكم إلى الإمام عليهالسلام وأمره بالتخيير ، فالظاهر أن الحكم الشرعي حينئذ هو
التخيير ، وهو أحد الوجوه التي يجمع بها بين الأخبار إذا ظهر له مستند منها.
والأمر هنا كذلك ، ولهذا فإن الحاكم الشرعي يفتي هنا بالتخيير ؛ لأن الحكم الشرعي
الذي دل عليه الدليل عنهم : بخلاف ما نحن فيه ، فإنه لا يجوز له الحكم والفتوى به
، وإنّما رخص له في العمل به خاصة.
وثانيهما
: حمل الإرجاء
على زمن وجود الإمام عليهالسلام ، وإمكان الرد إليه ، وحمل التخيير على زمان الغيبة ،
أو عدم إمكان الوصول إليه.
وبهذا الوجه
صرّح الثقة الجليل أحمد بن أبي طالب الطبرسي في كتاب (الاحتجاج) ، قال قدسسره في الكتاب المذكور : (وأمّا قوله عليهالسلام للسائل : «أرجه وقف عنده حتى تلقى إمامك» أمره بذلك عند تمكنه من الوصول إلى الإمام ، فأما إذا
كان غائبا ولا يمكن الوصول إليه والأصحاب كلهم مجمعون على الخبرين ، ولم يكن هنالك
رجحان لرواة أحدهما على الآخر بالكثرة والعدالة ، كان الحكم بها من باب التخيير.
يدل على ما
قلناه ما روي عن الحسن بن الجهم عن الرضا عليهالسلام أنه قال : قلت للرضا عليهالسلام تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة. قال : «ما جاءك عنا فقسه على
كتاب الله عزوجل ، وأحاديثنا فإن كان يشبهها فهو منا وإن لم يشبهها فليس منا».
قلت : يجيئنا
الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ، فلا نعلم أيهما الحق.
فقال : «إذا لم تعلم ، فموسع
عليك بأيهما أخذت» .
وما رواه
الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : «إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلهم ثقة ، فموسع
عليك حتى ترى القائم فتردّه إليه» .
وروى سماعة بن
مهران قال سألت أبا عبد الله عليهالسلام ، قلت : يرد علينا حديثان واحد يأمرنا بالأخذ به ،
والآخر ينهانا عنه. قال : «لا
تعمل بواحد منهما ، حتى تلقى صاحبك ، فتسأله». قلت : لا بدّ أن نعمل بأحدهما؟ قال : «خذ بما فيه خلاف
العامة» انتهى.
وفيه أن هذا
إنّما يتم بالنسبة إلى بعض الأخبار المشتملة على الإرجاء أو التخيير من غير تقدم
شيء من طرق الترجيح عليها ، كروايتي الحسن بن الجهم ، والحارث بن المغيرة
المنقولتين في كلامه.
أمّا الأخبار
المشتملة على الطرق المذكورة ، المذكور فيها الإرجاء أو التخيير عند تعذّر الترجيح
بتلك الطرق ، فيشكل ما ذكره قدسسره فيها بأن الظاهر أن الترجيح بتلك الطرق فيها إنّما يصار
إليه عند تعذّر الوصول إليه عليهالسلام ، فكيف يحمل الإرجاء فيما اشتمل منها على الإرجاء على
إمكان الوصول؟ اللهم إلّا أن يحمل على ذوي الأطراف البعيدة المستلزم الوصول فيها
المشقة ، فيعمل على تلك المرجّحات. ومع عدم إمكان الترجيح بها ، يقف عن الحكم
والعمل حتى يصل له عليهالسلام.
__________________
وربما يفهم ذلك
من مرفوعة زرارة ، لأمره عليهالسلام له بذلك ، فإنه دال بإطلاقه على ما هنالك.
وثالثها
: حمل أخبار
التخيير على العبادات المحضة كالصلاة ، وحمل أخبار الإرجاء على غيرها من حقوق
الآدميين من دين أو ميراث على جماعة مخصوصين أو فوج أو زكاة أو خمس ، فيجب التوقّف
عن الأفعال الوجودية المبنية على تعيين أحد الطرفين بعينه. ذهب إليه المحدث الأمين
الأسترابادي قدسسره في كتاب (الفوائد المدنية) . والظاهر أن
وجهه اشتمال المقبولة المذكورة الدالة على الإرجاء ، على كون متعلق الاختلاف حقوق
الناس.
وفيه أن تقييد
إطلاق جملة الأخبار الواردة بهذه الرواية لا يخلو من إشكال ؛ فإنها ليست نصّا في
التخصيص ، بل ولا ظاهرة فيه حتى يمكن ارتكاب التخصيص بها ، وخصوص السؤال لا يخصّص
الجواب كما صرّح به غير واحد من الأصحاب. وجملة الأصحاب إنّما فهموا من الرواية
المذكورة العموم ؛ ولذلك استنتجوا منها قاعدة كلية في المقام. على أن الرواية في (الفقيه)
غير مشتملة على السؤال عن الدين والميراث ، بل السؤال فيها عن رجلين اختار
كلّ منهما رجلا ، كما أسلفنا نقله.
ورابعها
: حمل خبر
الإرجاء على ما لم يضطر إلى العمل بأحدهما ، والتخيير على حال الاضطرار
والحاجة إلى العمل بأحدهما. ذهب إليه الفاضل المتكلم ابن أبي جمهور في كتاب (عوالي
اللآلي) ، وظاهره حمل كلّ من خبري الإرجاء والتخيير على العمل
خاصة ، أعم من أن يكون في زمن الغيبة أو عدم إمكان
__________________
الوصول أولا. وهذا الإطلاق مشكل ؛ إذ الظاهر أنه مع الحضور وإمكان الوصول
لا يسوغ التخيير ، بل يجب الإرجاء حتى يسأل.
وخامسها
: حمل خبر
الإرجاء على الاستحباب ، والتخيير على الجواز. ونقله المحدث السيد
نعمة الله الجزائري ، عن شيخه المجلسي قدسسرهما. والذي وقفت عليه من كلامه قدسسره في كتاب (البحار) يعطي أنه ذكر الوجه المذكور احتمالا ، لا اختيارا كما
يشعر به كلام السيد المشار إليه. والذي اختاره في كتاب (البحار) هو الوجه
المنقول عن كتاب (الاحتجاج) .
وسادسها
: ما يفهم من
خبر الميثمي المروي في كتاب (عيون أخبار الرضا عليهالسلام) ، وهو ما رواه الصدوق ـ عطر الله مرقده ـ بسنده فيه عن
أحمد بن الحسن الميثمي أنه سأل الرضا عليهالسلام ، وقد اجتمع عنده قوم من أصحابه ، وكانوا يتنازعون في
الحديثين عن رسول الله صلىاللهعليهوآله في الشيء الواحد ، فقال عليهالسلام : «ما
ورد عليكم من حديثين مختلفين فاعرضوهما على كتاب الله ، فما كان في كتاب الله
موجودا حلالا أو حراما ، فاتبعوا ما وافق الكتاب ، وما لم يكن في الكتاب فاعرضوه
على سنن رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فاتبعوا ما وافق
نهي النبي صلىاللهعليهوآله ، وما كان في السنّة
نهي إعافة أو كراهة ثم كان الخبر الآخر خلافه فذلك رخصة فيما عافه رسول الله صلىاللهعليهوآله وكرهه ولم يحرمه ،
فذلك الذي يسع الأخذ بهما جميعا أو بأيهما شئت ويسعك الاختيار من باب التسليم
والاتباع والرد إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله وما لم تجدوه في شيء
من هذه الوجوه فردوا إلينا علمه ، ولا تقولوا فيه بآرائكم ، وعليكم بالكف والتثبت
والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا» .
__________________
أقول
: والخبر طويل
قد اختصرنا منه موضع الحاجة ، ولعل ما اشتمل عليه مخصوص بالأخبار الواردة عنه صلىاللهعليهوآله ، كما هو منطوق الخبر ؛ إذ تقييد ما عدا هذا الخبر من
تلك الأخبار المتعددة على ما هي عليه من الظهور في الإطلاق بهذا الخبر لا يخلو من
إشكال.
ويوضح
ذلك أن الغرض من
الترجيح بالطرق المذكورة إنّما هو لإخراج ما احتمل كونه كذبا أو تقيّة ؛ والأول يخرج
بالعرض على الكتاب ، كما هو مصرّح به في الخبر المذكور ، والثاني غير واقع في
أخباره صلىاللهعليهوآله ، والله العالم.
وسابعها
: حمل الإرجاء
على النهي عن الترجيح ، والعمل بالرأي والتخيير على الأخذ من باب التسليم والرد
اليهم عليهمالسلام لا إلى الرأي والترجيح بما يوافق الهوى ، كما هو رأي أبي حنيفة
وأضرابه ، وهذا الوجه نقله بعض مشايخنا احتمالا والظاهر بعده.
وثامنها
: حمل أخبار
الإرجاء على حكم غير المتناقضين ، وحمل خبر التخيير على المتناقضين ، نقله بعض
شراح اصول (الكافي) عن بعض الأفاضل. وفيه أنه قد روى ثقة الإسلام في (الكافي)
في الموثّق عن سماعة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في
أمر كلاهما يرويه ، أحدهما يأمره بأخذه ، والآخر ينهاه [عنه] ، كيف يصنع؟ قال : «يرجئه حتى يلقى من
يخبره ، فهو في سعة حتى يلقاه» .
قال في (الكافي)
ـ بعد هذه الرواية ـ : وفي رواية : «بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك» .
__________________
ومورد هذه
الرواية : المتناقضان ، مع أنه حكم فيهما بالإرجاء ، وحكم في الرواية المرسلة
بعدها بالتخيير ، والمورد واحد ، وكذلك رواية سماعة المتقدّمة في الوجه الثاني
نقلا من كتاب (الاحتجاج) ، فإن موردها المتناقضان ، مع أنه حكم فيها بالإرجاء.
إذا عرفت ذلك ،
فاعلم أنه يمكن ترجيح الوجه الأول بقوله عليهالسلام ـ في حديث الميثمي المتقدم ـ : «ردوا علمه إلينا ولا
تقولوا فيه بآرائكم» ، فإن ظاهره فيه النهي عن الإفتاء والحكم خاصة ، ولا ينافيه التخيير
في الفعل تسليما لهم عليهمالسلام. وعليه يدل ظاهر رواية الحارث بن المغيرة المتقدّمة في
الوجه الثاني ، فإن ظاهرها أنه متى كان نقلة الحديث كلّهم ثقات ،
فموسع عليك في العمل بقول كلّ منهم ، حتى ترى الإمام القائم ، أي الموجود
في ذلك العصر ، القائم بالأحكام الشرعية ، فترد إليه الحكم والفتوى في ذلك ، وإلّا
فلا معنى للسعة المذكورة ، سيما لو كان الغرض إلجاء الحاجة إلى العمل بأحدهما ، بل
هو ضيق حينئذ. وكذا موثقة سماعة المتقدّمة نقلا عن (الكافي) ؛ فإن ظاهر قوله فيها
: «فهو في
سعة حتى يلقاه» مفرّعا له على الإرجاء المشعر ذلك باختلاف متعلقها أن السعة إنّما هي
باعتبار التخيير بين الفعل وعدمه ، والإرجاء باعتبار الحكم خاصة. وذلك أن المفروض
في الخبر كون الخبرين متناقضين ، أحدهما يأمر والآخر ينهى في شيء واحد . فإرجاء
__________________
العمل بكل منهما مما لا سبيل إليه كما تقتضيه قضية التناقض ،
بل لا بدّ من وقوع أحدهما فلا معنى لتعلق الإرجاء بالعمل بل متعلقه هو الحكم.
هذا وعندي أن
مرجع كلّ من الوجه الأول والثاني عند التأمل والتحقيق بالنظر الدقيق إلى أمر واحد
، وذلك فإن حمل الإرجاء على الفتوى والتخيير على العمل ـ كما هو الوجه الأول ـ لا
يكون إلّا مع غيبة الإمام عليهالسلام ، أو عدم إمكان الوصول إليه ؛ إذ الظاهر أنه متى أمكن
الوصول إليه واستعلام الحكم منه ، فإنه يتحتم الإرجاء في الفتوى والعمل تحصيلا
للحكم بطريق العلم واليقين ، وتنكبا عن طريق الظن في أحكامه سبحانه والتخمين ـ كما
هو من آيات (الكتاب) المبين ، وأخبار السنّة المطهرة واضح مستبين ـ وحملا لتلك
الأخبار على الرخصة في العمل وحمل الإرجاء على زمن وجوده عليهالسلام ، وإمكان الردّ إليه والتخيير على ما عدا ذلك ـ كما هو
الوجه الثاني ـ مراد به : الإرجاء في الفتوى والعمل لما عرفت.
فالتخيير على
الوجه المذكور مراد به : التخيير في الفعل خاصة ؛ إذ لا مجال لاعتبار التخيير في
الحكم والفتوى به لاستفاضة الآيات والروايات بالمنع من الفتوى بغير علم ، وإن
الحكم الشرعي في كلّ مسألة واحد ـ يصيبه من يصيبه ، ويخطئه من يخطئه ـ لا تعدد فيه
، فكيف يصحّ التخيير في الإفتاء بأي الحكمين شاء؟ وحينئذ ، فيرجع إلى التخيير في
العمل خاصة ؛ وبذلك يجتمع الوجهان المذكوران على أحسن التئام وانتظام وإن غفلت عنه
جملة مشايخنا العظام. ولعل هذا الوجه أقرب الوجوه المذكورة ، إلّا إنه كيف كان.
فتعدد هذه
الاحتمالات مما يوجب دخول الحكم في المتشابهات التي يجب
__________________
الوقوف فيها على جادّة الاحتياط ، فإنه أحد مواضعه كما حقّقناه في محل آخر.
بقي هنا شيء
ينبغي التنبيه عليه ، وهو أن الإرجاء الذي دلت عليه المقبولة المذكورة
والتخيير الذي دلّت عليه مرفوعة زرارة إنّما أمروا به عليهمالسلام بعد تعذّر الترجيح بتلك الطرق المذكورة في الروايتين
المشار إليهما ، مع أن جملة من الأخبار قد اشتمل بعضها على الإرجاء ، وبعض على
التخيير من غير تقدم شيء من تلك الطرق ، كموثقة سماعة المتقدّمة في الوجه الثامن
نقلا من (الكافي) ؛ فإنها قد اشتملت على الإرجاء ، والمرسلة التي بعدها على
التخيير ، ورواية حسن ابن الجهم ، والحارث بن المغيرة المتقدمتين في الوجه الثاني قد اشتملتا
على التخيير ، ورواية سماعة المتقدّمة ـ ثمّة أيضا ـ قد دلّت على الإرجاء. ولعل
الوجه في الجمع بين هذه الأخبار حمل ما تقدّم فيه الترجيح بتلك الطرق على عدم
إمكان الوصول إليه عليهالسلام ، واستعلام الحال منه في ذلك مع إمكان الترجيح بتلك
المرجّحات ، وما لم يتقدم فيه شيء من تلك الطرق فبعضه محمول على عدم إمكان
الترجيح بشيء من تلك الطرق. وإلّا فالأخبار مستفيضة بالأمر بالعرض على الكتاب وإن
لم يكن ثمة معارض في ذلك الباب.
ولعل من الظاهر
في ذلك خبر الحسن بن الجهم ، فإنه في صدر الخبر أمر عليهالسلام بالعرض على (الكتاب) ، وفي عجزه خيّره ووسع عليه بأيهما
أخذ. فلعل معنى قول السائل في المرة الثانية : (فلا نعلم أيهما الحق) ، أي لا يمكن
استعلام الحقّ بشيء من الطرق المرجّحة.
وبعض آخر محمول
على إمكان الوصول ، واستعلام الحال من الإمام عليهالسلام ، فإنه
__________________
لا يسوغ حينئذ العمل بالمرجّحات كما تقدم بيانه.
ولعل من الظاهر
في ذلك موثقة سماعة المتقدّمة في الوجه الثاني نقلا من كتاب (الاحتجاج) ، حيث إنه عليهالسلام نهى عن العمل بواحد منهما حتى يلقى صاحبه ـ يعني الإمام
عليهالسلام ـ فلما قال له السائل : إنه (لا بدّ من العمل بأحدهما)
، ولا يمكنه التأخير ، أمره بما فيه خلاف العامة. وظاهره أنه مع إمكان الرجوع فلا
يرجح بمخالفة مذهب العامة ولا غيره ؛ إذ لعل الحكم يومئذ هو العمل بما عليه
العامة.
الفائدة
التاسعة : في أن من طرق الترجيح الأخذ بالمتأخر
روى ثقة
الإسلام قدسسره في (الكافي) بسنده عن الحسين بن المختار ، عن بعض
أصحابنا ، عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «أرأيتك لو حدثتك بحديث العام ، ثم جئتني من
قابل فحدثتك بخلافه ، فبأيّهما كنت تأخذ؟». قال : كنت آخذ بالأخير. فقال لي : «يرحمك الله» .
وروى فيه أيضا
بسنده عن المعلى بن خنيس عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : إذا جاء حديث عن أوّلكم وحديث عن آخركم [ف] بأيهما
نأخذ ؟ قال : «خذوا به
حتى يبلغكم عن الحي ... خذوا بقوله».
قال : ثم قال
أبو عبد الله عليهالسلام : «انا
والله لا ندخلكم إلّا فيما يسعكم» .
قال في (الكافي)
بعد نقل هذا الخبر : (وفي حديث آخر : «خذوا بالأحدث») .
ويستفاد من
هذين الخبرين أن من جملة الطرق المرجّحة عند التعارض
__________________
الأخذ بالأخير ، ولم أقف على من عدّ ذلك في طرق الترجيح من الأخبار ، فضلا
عن العمل عليه في ذلك المضمار سوى شيخنا الصدوق ـ عطر الله مرقده ـ في (الفقيه) في
باب الرجل يوصي للرجلين ، حيث نقل فيه خبرين توهم أنهما مختلفان ، ثم قال : (ولو صح الخبران جميعا
لكان الواجب الأخذ بقول الأخير ، كما أمر به الصادق عليهالسلام ، وذلك لأن الأخبار لها وجوه ومعان ، وكلّ إمام أعلم
بزمانه وأحكامه من غيره من الناس) انتهى.
أقول : لا يخفى
أن العمل بهذا الوجه في زمانهم عليهمالسلام لا إشكال فيه ؛ وذلك لأن الاختلاف المذكور ناشئ عن
التقية ، لقصد الدفع عن الشيعة ، كما يشير إليه قوله عليهالسلام في الخبر الثاني : «إنا والله لا ندخلكم إلّا فيما يسعكم».
وحينئذ ،
فالوجه في الأمر بالأخذ بالأخير ، أنه لو كان التقيّة في الأول فالأخير رافع لها ،
فيجب الأخذ به لكونه هو الحكم الواقعي ولا صارف عنه ثمة ، وإن كان
التقية في الثاني وجب الأخذ به لدفع الضرر. وأمّا بالنسبة إلى مثل زماننا هذا ،
فالظاهر أنه لا يتجه العمل بذلك على الإطلاق ؛ لجواز أن يحصل العلم بأن الثاني
إنّما ورد على سبيل التقية ، والحال أن المكلف يومئذ ليس في تقية ، فإنه يتحتّم
عليه العمل بالأوّل. ولو لم يعلم كون الثاني بخصوصه تقيّة ، بل صار احتمال التقية
قائما بالنسبة إليهما ، فالواجب حينئذ هو التخيير أو الوقف بناء على ظواهر الأخبار
أو الاحتياط ، كما قدمنا الإشارة إليه في الفائدة السابعة .
الفائدة
العاشرة : في تقرير مذهب الكليني في اختلاف الأخبار
المستفاد من
كلام ثقة الإسلام وعلم الأعلام محمد بن يعقوب الكليني ـ عطر
__________________
الله مرقده ـ في ديباجة كتابه (الكافي) أن مذهبه فيما اختلفت فيه الأخبار ،
هو القول بالتخيير ، ولم أعثر على من نقل ذلك مذهبا له ، مع أن عبارته ـ طاب ثراه
ـ بذلك ظاهرة الدلالة ، طافحة المقالة. وشراح كلامه قد زيفوا عبارته ، وأغفلوا
مقالته.
قال قدسسره : (فاعلم يا أخي ـ أرشدك الله ـ أنه لا يسع أحدا تمييز
شيء مما اختلفت فيه الرواية عن العلماء عليهمالسلام برأيه إلّا على ما أطلقه العالم بقوله : «اعرضوها
على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله عزوجل فخذوا به ، وما خالف كتاب الله فردوه».
وقوله عليهالسلام : «دعوا
ما وافق القوم ، فإن الرشد في خلافهم».
وقوله عليهالسلام : «خذوا
بالمجمع عليه ، فإن المجمع عليه لا ريب فيه».
ونحن لا نعرف
من جميع ذلك إلّا أقله ، ولا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من ردّ ذلك إلى العالم ،
وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله : «بأيما أخذتم من باب التسليم وسعكم» ...) انتهى كلامه ، علا في الخلد مقامه.
وقوله قدسسره : (ونحن لا نعرف) ـ إلى آخره ـ الظاهر أن معناه : أنا
لا نعرف من كلّ من الضوابط الثلاثة إلّا الأقلّ ، ويمكن توجيهه بأن يقال : أما
بالنسبة إلى (الكتاب) العزيز فلاستفاضة الأخبار ، بأنه لا يعلمه على التحقيق إلّا
أهل البيت عليهمالسلام. والقدر الذي ربما يمكن الاستناد إليه في الأحكام
الشرعية مع قطع النظر عن تفسيرهم ـ صلوات الله عليهم ـ أقل قليل ؛ ففي جملة من
الأخبار الواردة في تفسير قوله تعالى (ثُمَّ أَوْرَثْنَا
الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا)
__________________
الآية ، دلالة على اختصاص ميراث (الكتاب) بهم عليهمالسلام. ومثله في جملة اخرى وردت في تفسير قوله سبحانه (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) ، ومثل ذلك في تفسير (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ
وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) .
وفي بعض
الأخبار : «إنّما
القرآن أمثال لقوم دون غيرهم ، ولقوم يتلونه حق تلاوته ، وهم الذين يؤمنون به ،
ويعرفونه. وأمّا غيرهم ، فما أشد إشكاله عليهم ، وبعده عن مذاهب قلوبهم!».
إلى أن قال عليهالسلام : «وإنّما
أراد الله بتعميته في ذلك إلى أن ينتهوا إلى بابه وصراطه ، ويعبدوه وينتهوا في
قوله إلى طاعة القوام بكتابه ، والناطقين عن أمره ، وأن يستنبطوا ما احتاجوا إليه
من ذلك عنهم لا عن أنفسهم» الحديث.
ولا يخفى ما
فيه من الصراحة التي لا يزاحمها الاحتمال في تلك الساحة ، وأمّا بالنسبة إلى مذهب
العامة ، فإنه لا يخفى على من وقف على كتب السير والآثار ، وتتبّع القصص والأخبار
ما عليه مذهب العامة في الصدر الأول من التعدد والانتشار. واستقرار مذاهبهم على
هذه الأربعة المشهورة ، إنّما وقع في حدود سنة خمس وستين وسبعمائة ، كما نبه على
جميع ذلك جملة من علمائنا وعلمائهم.
وحينئذ ، فإذا
كانت مذاهبهم غير منحصرة في عد ، ولا واقفة على حد ، فكيف
__________________
يتيسر لنا الآن العرض عليها لنأخذ بخلافها؟ على أن المستفاد من جملة من
الأخبار أيضا وقوع التقية في فتواهم عليهمالسلام وإن لم يكن على وفق شيء من أقوال العامّة كما حققناه
في محل آخر.
وأمّا بالنسبة
إلى المجمع عليه ؛ فإن اريد بالنسبة إلى الفتوى ، فهو ظاهر التعسّر ؛ لأن كتب
المتقدمين كلها مقصورة على نقل الأخبار كما لا يخفى على من راجع الموجود منها الآن
ككتاب (قرب الإسناد) و (كتاب علي بن جعفر) وكتاب (المحاسن) وكتاب (بصائر الدرجات)
ولتفرق الأصحاب وانزوائهم في زوايا التقية في أكثر البلدان.
وإن أريد في
الرواية بمعنى أن يكون مجمعا عليه في الاصول المرويّة المكتوبة عنهم عليهمالسلام ، ففيه أنها قد اشتملت على الأخبار المتخالفة ،
والأحاديث المتنافية ، فهي مشتركة في الوصف المذكور. وحينئذ ، فمتى تعذّر معرفة
هذه الضوابط الثلاث المذكورة على الحقيقة ، فكيف يتيسر العرض عليها والرجوع إليها؟
فالمعتمد عليها ربما يقع في المخالفة من حيث لا يشعر ، وتزلّ قدمه من حيث لا يبصر
، والحال أنهم رخصوا لنا في الأخذ من باب الرد إليهم ـ صلوات الله عليهم ـ والتسليم
لأمرهم ، فلا شيء أسلم من الأخذ بما وسّعوا فيه ؛ فإن فيه تحرّزا عن القول على
الله سبحانه بغير علم ، وتخلصا من التهجم على الأحكام بغير بصيرة وفهم.
وما ذكره شيخنا
أبو الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني قدسسره في بعض فوائده ، اعتراضا على ذلك من أنه ليس الأمر كذلك
ـ قال : (فإن الحق لا يشتبه بالباطل ، والطوق ليس كالعاطل ، والشمس لا تستر
بالنقاب ، والشراب لا يلتبس
__________________
بالسراب ، وما ورد من التقية لا يكاد يخفى) انتهى ـ فعبارات قشرية ، ومن
التحقيق عرية كما لا يخفى على من عض على العلم بالأخبار بضرس قاطع ، وأعطى التأمل
حقه في تلك المواضع. كيف ، وهو قدسسره في جملة مصنّفاته وفتاويه كان يدور مدار الاحتياط خوفا
من الوقوع في مهاوي الاختباط ، قائلا في بعض مصنّفاته : (إن مناط أكثر الأحكام لا
يخلو عن شوب وريب وتردد ؛ لكثرة الاختلافات في تعارض الأدلّة وتدافع الأمارات ،
فلا ينبغي ترك الاحتياط للمجتهد فضلا عمن دونه) انتهى.
وبما شرحناه من
معنى كلام ثقة الإسلام قدسسره يظهر لك ما في كلام المحدث الأمين الأسترابادي ـ طاب
ثراه ـ في كتاب (الفوائد المدنية) من الغفلة الظاهرة الجلية ، حيث قال رحمهالله بعد ذكر ما قدمنا نقله عنه في الوجه الثالث من وجوه
الجمع بين حديث الإرجاء والتخيير ما صورته : (والإمام ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني
قدسسره ذكر في كتاب (الكافي) ما يدل على العمل بالحديث الدال
على التخيير ، وكان قصده قدسسره ذلك ، عند عدم ظهور شيء من المرجّحات المذكورة في تلك
الأحاديث. وينبغي أن يحمل اطلاق كلامه على ما إذا كان مورد الروايتين العبادات المحضة
بقرينة أنه قدسسره ذكر بعد ذلك في باب اختلاف الحديث مقبولة عمر ابن حنظلة
الواردة في المتخاصمين في دين أو ميراث الناطقة بأنه مع عدم ظهور شيء من
المرجّحات المذكورة يجب الإرجاء إلى لقاء الإمام عليهالسلام) انتهى.
فإن فيه :
أولا : أن صاحب
(الكافي) قد ذكر المرجّحات المذكورة في صدر عبارته ، ثم
__________________
أعرض عن العمل بها ، معتذرا بأنه (لا تعرف من جميع ذلك إلّا أقله) ، وتخطاها ،
واعتمد على القول بالتخيير مطلقا ؛ لأنه الأحوط والأسلم كما قدمنا إيضاحه. فكيف
يصحّ حمل كلامه على أنه يوجب العمل بالمرجّحات المذكورة في الأخبار ، وأنه لا يصير إلى
التخيير إلّا عند عدم ظهور شيء منها كما توهمه؟
وثانيا : أن
صدر عبارته ـ إلى آخرها ـ ينادي بأن ما ذكره قاعدة كلية في مختلفات الأخبار ، حيث
صرّح بأنه لا يسع أحد تمييز شيء مما اختلفت فيه الرواية إلّا بأحد الطرق الثلاث ،
ثم تخطاها لما ذكره من العذر وصار إلى التخيير.
فكيف يصحّ حمل
كلامه على خصوص الأخبار المختلفة في العبادات المحضة؟
ولو تم ما
توهمه للزم أن يبقى حكم الأخبار المختلفة في سائر الامور والأحكام حينئذ مغفلا في
كلامه عليهالسلام ، غير منبّه عليه ولا مبينا حكمه. وما استند إليه من
قرينة ذكر مقبولة عمر بن حنظلة بعد ذلك في الباب المذكور ، ففيه أنه قد ذكر أيضا
جملة من الروايات الدالة على طرق الترجيح غيرها ، ولكنه قدسسره قد نبه هنا على العذر عن إمكان العلم بها والبناء
عليها. فمجرد ذكره لها أخيرا لا يقتضي تخصيص كلامه هنا بها مع تصريحه بالعذر
المذكور ، وظهور كلامه في العموم كالنور على الطور.
الفائدة
الحادية عشرة : في الجمع بحمل بعض الروايات على المجاز
قد اشتهر بين
كثير من أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ سيما أكثر المتأخرين ، عدّ الاستحباب
والكراهة من وجوه الجمع بين الأخبار ، بل الاقتصار عليه في الجمع دون تلك القواعد
المنصوصة والضوابط المخصوصة ، كما لا يخفى على من
__________________
لاحظ كتب المتأخرين ومتأخريهم حتّى تحذلق بعض متأخري المتأخرين ـ كما نقله
عنه بعض مشايخنا المعاصرين ـ فقال : (إذا أمكن التوفيق بين الأخبار بحمل بعضها على
المجاز ، كحمل النهي على الكراهة ، والأمر على الاستحباب ، وغير ذلك من ضروب
التأويلات ، فهو أولى من حمل بعضها على التقية وإن اتفق المخالفون على موافقته)
انتهى.
ولعمري إنه محض
اجتهاد ، بل عناد في مقابلة نصوص سادات العباد ، وجرأة على رد كلامهم الصريح في
المراد! وذلك فإنه قد استفاضت الأخبار وتكاثرت الآثار على وجه لا ينكره إلّا من لم
يسرح بريد نظره في ذلك المضمار بالعرض على مذهب العامة ، والأخذ بخلافه ، بل
المستفاد منها أن جل الاختلاف الواقع في الأحكام إنّما نشأ من التقية كما حققناه
في المقدمة الاولى من كتابنا (الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة) .
وأيضا ، فإنه
متى كان الأمر حقيقة في الوجوب ، والنهي في التحريم ، كما هو القول المشهور ،
والمؤيد بالآيات القرآنية ، والأخبار المعصومية ، والمتصور ـ كما أوضحناه ـ بما لا
مزيد عليه في مقدمات كتابنا المذكور ـ ولعل ذلك سيأتي في بعض درر هذا الكتاب ـ فالحمل
على المجاز في كلّ منهما يحتاج إلى قرينة واضحة وحجة بيّنة مفصحة. ومجرد
وجود المعارض ليس بقرينة في المقام ؛ لاحتمال ذلك في جانب المعارض الآخر أيضا.
فتخصيص هذا دون ذاك ترجيح بلا مرجح ، ولاحتمال خروج هذا أيضا عنهم عليهمالسلام على سبيل التقية ونحوها.
__________________
وبالجملة
، فإنه إن ترجّح
أحد الخبرين بقرينة حالية أو مقالية أو شيء من المرجّحات الشرعية عمل عليه وأرجئ
الآخر. وحينئذ ، فإن أمكن حمل ذلك الخبر الآخر على شيء من المحامل التي لا تقتضي
طرحه وردّه بالكلية من تقية ونحوها ، وإلّا وكل أمره إلى قائله من غير مقابلة
بالردّ والتكذيب ، كما لا يخفى على الموفق المصيب ، ومن أخذ من تتبع الأخبار بأوفر
حظ ونصيب.
الفائدة
الثانية عشرة : في أن اولى مراتب الترجيح العرض على القرآن
الذي ظهر لي من
تتبع الأخبار الواردة في هذا المضمار ، مما تقدم نقله وغيره ، وعليه أعتمد وإليه
أستند أنه متى تعارض الخبران على وجه لا يمكن رد أحدهما إلى الآخر ، فالواجب أولا
هو العرض على (الكتاب) العزيز ، وذلك لاستفاضة النصوص بالعرض عليه وإن لم يكن في
مقام الاختلاف ، وأنّ ما خالفه فهو زخرف ، ولعدم جواز مخالفة أحكامهم الواقعية ل (الكتاب)
العزيز ؛ لأنه آيتهم ، وحجتهم ، وأخبارهم تابعة له ، ومقتبسة منه ، وللخبر المتّفق
عليه بين الفريقين : «إني
تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض» ، فهو لا يفارقهم بأن تؤخذ معانيه من غيرهم ، وهم لا
يفارقونه بأن يخرجوا في شيء من أحكامهم وأفعالهم الواقعية عنه.
وأمّا ما ورد
من الأخبار مخصصا له أو مقيدا لمطلقه ، فليس من المخالفة في
__________________
شيء ، كما ربما يتوهم في بادئ النظر ؛ فإن التقييد والتخصيص بيان لا
مخالفة كما أوضحناه في محل أليق.
ومما يدلّ على
تقديم مرتبة العرض على (الكتاب) على مرتبة العرض على مذهب العامة
صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن الصادق عليهالسلام قال : «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على
كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فذروه. فإن لم تجدوهما
في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامة ، فما وافق أخبارهم فذروه وما خالف
أخبارهم فخذوه» .
وأيضا فإن
الغرض من العرض على (الكتاب) ومذهب العامة ، هو تمييز الحكم الواقعي عن الكذب
والتقية. ومعلوميّة ذلك بالعرض على (الكتاب) العزيز أوضح وأظهر ؛ لكون أحكامه غير
محتملة لشيء من الأمرين المذكورين .
والمراد بالعرض
على (الكتاب) : العرض على نصوصه ومحكماته ، دون مجملاته ومتشابهاته إلّا مع ورود
النصوص ببيان تلك المجملات وتفسير تلك المتشابهات ، فيعمل على ما ورد به
النص في ذلك ولا بدّ أولا من معرفة الناسخ من المنسوخ. وحينئذ ، فإن ظهر الحكم من (الكتاب)
، وإلّا فالتوقف عن هذه القاعدة والعرض على مذهب العامة ، والأخذ بخلافهم ؛
لاستفاضة الأخبار بالأمر بالأخذ بخلافهم وإن لم يكن في مقام التعارض بين الأخبار
والاختلاف فيها.
ففي رواية علي
بن أسباط المرويّة في (التهذيب) و (عيون الأخبار) :
__________________
أنهم متى أفتوا بشيء فالحق في خلافه.
وفي صحيحة محمد
بن إسماعيل بن بزيع عن الرضا عليهالسلام : «إذا
رأيت الناس يقبلون على شيء فاجتنبه» .
وفي صحيحة أبي
بصير عن أبي عبد الله : «ما
أنتم والله على شيء مما هم عليه ، ولا هم على
شيء مما أنتم عليه ، فخالفوهم فما هم من
الحنيفيّة على شيء» .
وفي بعض
الأخبار : «والله لم
يبق في أيديهم إلّا استقبال القبلة» .
وحينئذ ، ففي
مقام التعارض بطريق أولى. ثم مع عدم إمكان العرض على مذهبهم فالأخذ بالمجمع عليه ؛
لما دلّت عليه المقبولة المذكورة ، ومرفوعة زرارة المتقدّمة ، والخبر المرسل الذي
تضمنه كلام ثقة الإسلام من قوله عليهالسلام : «خذ
بالمجمع عليه ؛ فإن المجمع عليه لا ريب فيه» ، إلّا إن في تيسر الإجماع لنا في مثل هذه الأزمان نوع
إشكال ؛ لما عرفت آنفا.
وكيف كان ،
فهذه القواعد الثلاث متى تيسر حصولها ، فلا يمكن اختلافها. ومع عدم إمكان الترجيح
بشيء من القواعد الثلاث المذكورة فالأرجح الوقوف على ساحل الاحتياط والمشي على
سواء ذلك الصراط وإن كانت الأخبار ـ كما عرفت ـ قد دلّت تارة على التخيير وتارة
على الإرجاء ، إلّا إنها بما عرفت في وجوه الجمع بينها من الاختلاف والاحتمالات
مما تكاد تلحق الحكم بالمتشابهات كما تقدمت الإشارة إليه.
__________________
وأمّا ما ذكره
شيخنا ثقة الإسلام من التخيير وعدم الترجيح بتلك الطرق ، فهو وإن كان لا يخلو من
قوّة ؛ لما عرفت آنفا ، إلّا إن الظاهر أنه مبنيّ على عدم إمكان الترجيح بتلك
القواعد المذكورة كما قدمنا بيانه ، ومع إمكان الترجيح بها ينبغي أن يقدم ثم يصار
بعد عدم إمكان ذلك إلى الاحتياط دون التخيير ، حيث إن أخبار الاحتياط عموما وخصوصا أكثر
عددا وأوضح سندا وأظهر دلالة.
وأمّا الترجيح
بالأوثقيّة والأعدليّة ، فالظاهر أنه لا ثمرة له بعد الحكم بصحة أخبارنا الّتي
عليها مدار ديننا ومنها مأخذ شريعتنا. ولعل ما ورد في المقبولة المذكورة محمول على
الحكم والفتوى كما هو موردها ، أو يقال باختصاص ذلك بزمانهم عليهمالسلام ، قبل وقوع التقية في الأخبار وتصفيتها من شوب الأكدار
، والله تعالى وأولياؤه أعلم.
الفائدة
الثالثة عشرة : في إطلاق المشهور على المجمع عليه
قد عبر في
المقبولة المذكورة عن المجمع عليه بالمشهور ، وهو لا يخلو بحسب الظاهر من نوع
تدافع وقصور. ويمكن الجواب عن ذلك إما بتجوز إطلاق المجمع عليه على المشهور.
أو بأن يقال :
يمكن أن يكون الراوي لما هو خلاف المجمع عليه ؛ قد روى ما هو المجمع عليه أيضا ،
فأحد الخبرين مجمع عليه بلا إشكال ، وما تفرد بروايته شاذّ غير مجمع عليه. وحينئذ
، فيصير التجوز في جانب الشهرة.
أو بأن يقال
بمرادفة المشهور للمجمع عليه ، فإن تخصيص المشهور بهذا
__________________
المعنى المشهور ـ وهو ما قال به الأكثر والجمهور ـ لعله اصطلاح حادث. ولعل
هذا أقرب الاحتمالات في المقام ، كما يعطيه سياق الخبر.
أو يقال بحمل
الشاذّ المخالف على ما وافق روايات العامة وأخبارهم وإن رواه أصحابنا ، بمعنى طرح الخبر
الموافق لهم إذا عارضه خبر مشهور معروف بين الأصحاب. وذلك لا ريب فيه كما تدلّ
عليه الأخبار الدالة على حكم الترجيح بين الأخبار. والظاهر بعد هذا الوجه بما
اشتملت عليه الرواية من العرض على مذهب العامة وأخبارهم.
الفائدة
الرابعة عشرة : في الردّ على من قال بالتثنية في الأحكام
قد دلّ هذا
الخبر على التثليث في الأحكام الشرعية ، ومثله أخبار اخر أيضا تقدّم نقل شطر
منها في الدرة الموضوعة في البراءة الأصليّة ، وبذلك قال جل أصحابنا
الأخباريين ، وجملة من الاصوليين منهم شيخ الطائفة في (العدة) وشيخه المفيد قدسسرهما كما تقدم نقله في الدرّة المشار إليها.
وفي الخبر
المذكور مع تلك الأخبار المشار إليها ردّ على من ذهب إلى التثنية من أصحابنا
الاصوليين ، وأنه ليس إلّا الحلال والحرام عملا بالبراءة الأصليّة. وفيها ردّ أيضا
عليهم من حيث عملهم على البراءة الأصليّة وجعلهم لها من المرجّحات الشرعية ، حتى
إنهم يطّرحون في مقابلتها الأخبار الضعيفة بزعمهم ، بل الموثّقة كما لا يخفى على
من لاحظ كتبهم الاستدلالية. فإن فيه :
__________________
أولا
: أنه لو كانت
البراءة الأصليّة من المرجّحات الشرعية لذكرها الأئمَّة عليهمالسلام في جملة تلك الطرق.
وثانيا
: أنهم عليهمالسلام أمروا بالإرجاء والتوقف بعد تساوي الخبرين في جملة طرق
الترجيح ـ كما في المقبولة المذكورة ، ومرفوعة زرارة ، أو من غير تقديم شيء منها
، كما في موثقة سماعة وروايته ، ورواية الحسن بن جهم ، ورواية الحارث بن المغيرة
المتقدم جميع ذلك ـ وجعلوا الحكم حينئذ من المتشابهات المأمور باجتنابها ، وأن
الوقوع فيها موجب للهلكات. وحينئذ ، فأي ترجيح بالبراءة الأصليّة؟ ولو كانت دليلا
شرعيا كما يدعونه ، لكانت موجبة لترجيح ما اعتضد بها من أحد الطرفين.
وأمّا ما أجاب
به بعض متأخري المتأخرين من أن التوقف الذي أمر به عليهالسلام في المقبولة المذكورة ، مخصوص بالمنازعة في الاموال
والفرائض كما يدلّ عليه صدر الخبر ، فهو أوهن من بيت العنكبوت ، وأنه لأوهن البيوت
:
أمّا
أولا ، فلمخالفته للقاعدة المسلمة بينهم من أن خصوص السؤال لا
يخصّص عموم الجواب.
وثانيا
: أن هذه
المرجّحات التي ذكرها عليهالسلام في هذه الرواية لم يخصصها أحد من الأصحاب
بالتعارض في خصوص هذه الأشياء ، بل أجروها في كلّ حكم تعارضت فيه الأخبار.
وثالثا
: أن القائلين
بالبراءة الأصليّة كما يرجحون بها ويستندون إليها في سائر الأحكام يرجحون بها أيضا
في الأموال والفرائض. ولم يصرّح أحد فيها باستثناء حكم من الأحكام كما لا يخفى.
__________________
ورابعا
: أنه لو تم له
ما ذكره في المقبولة المذكورة ، فلا يتم له في غيرها من الأخبار المتقدم ذكرها ،
والله العالم.
الفائدة
الخامسة عشرة : في أن الأحكام غير المتيقنة من الشبهات
المفهوم من
المقبولة المذكورة وكذا من غيرها من الأخبار الدالة على التثليث في الأحكام ،
وقولهم فيها : «حلال بيّن
وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك» ، وقولهم عليهمالسلام : «أمر
بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل فيرد حكمه إلى الله وإلى
رسوله صلىاللهعليهوآله» أن ما ليس من الأحكام بمتيقّن ولا بمجزوم به عنهم عليهمالسلام فهو داخل في الشبهات وإن كان مظنونا ؛ [فـ] (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ
شَيْئاً) كما ورد في كلام الملك العلام.
ويعضد ذلك ما
ورد من الآيات والروايات الدالة على النهي عن القول بغير علم في الأحكام. وهو
مشكل أي إشكال ، والداء فيه عضال وأي عضال ، إذ ادّعاء الجزم والقطع في جلّ
الأحكام لا يخلو عن مجازفة وإن ادعاه أقوام :
أمّا
أولا ، فلما عليه
الأخبار من الاختلاف والتناقض في جل الموارد ، مع تعسر الجمع بينها غالبا إلّا على
وجه ظنّيّ غايته الغلبة على بعض الأفهام. والاعتماد على المرجّحات الشرعية
المرويّة عن الأئمّة عليهمالسلام قد عرفت ما فيه في الفائدة العاشرة. على أنه وإن حصل
الترجيح بأحدها فالظاهر أنه لا يزيد على غلبة الظن في ذلك المقام ، ولا يوصل إلى
حدّ الجزم بتلك الأحكام ، بعد ما عرفت من النقض والإبرام.
__________________
وأمّا
ثانيا ، فلأن جملة من
الأخبار قد دلت على أن كلامهم عليهمالسلام ينصرف على وجوه لهم في كلّ واحد منها المخرج ، وأنه لا يكون الرجل
فقيها حتى يعرف معاريض كلامهم . وستأتيك جملة من الأخبار إن شاء الله تعالى في الدرة الموضوعة في
البحث مع صاحب (الفوائد المدنية) في هذا المقام.
وأمّا
ثالثا ، فلما ورد في
جملة من الأخبار أنهم عليهمالسلام كانوا يكلّمون الناس على قدر عقولهم ، ويجيبون على
الزيادة والنقصان .
وأمّا
رابعا ، فلأن دلالة
الألفاظ ظنيّة ، وقيام الاحتمالات وشيوع المجازات ـ بل غلبتها على الحقائق ـ امور
ظاهرة للممارس ، وقصارى ما يحصل بمعونة القرائن الحالية أو المقالية إن وجدت ؛ هو
الظن ، ويتفاوت قربا وبعدا وشدة وضعفا باعتبارها ظهورا وخفاء وكثرة وقلة كما لا
يخفى ذلك كله على من جاس خلال الديار ، وتدبر فيما جرت عليه العلماء الأبرار من
وقت الغيبة الكبرى إلى هذه الأعصار وإن تحذلق متحذلق من متأخّري المتأخرين فادّعى
حصول القطع له في الأحكام واليقين ، وشنع على من خالفه في ذلك من المجتهدين ، كما
بسطنا الكلام معه في بعض درر هذا الكتاب ، وأوضحنا ما في كلامه من الخلل والاضطراب.
ويمكن الجواب
عن ذلك بعد تقديم مقدمة في المقام بأن يقال : إنه لا ريب في اختلاف العقول
والأفهام المفاضة من الملك العلام على كافة الأنام ، كما استفاضت به أخبار أهل
الذكر عليهمالسلام ، فإن منها ما هو كالبرق الخاطف ، ومنها ما هو
__________________
كالراكد الواقف ، وبينهما مراتب لا تخفى على الفطن العارف ، وبذلك تتفاوت المعرفة
للأحكام والإدراك لما فيها من نقض وإبرام ، وقد اشير إلى هذه المعرفة في الأخبار
بالدراية التي تتفاوت الناس في أفرادها.
وفي حديث
الرزاز عن أبي جعفر عليهالسلام أنه قال للصادق عليهالسلام : «يا
بني اعرف منازل الشيعة على قدر روايتهم ومعرفتهم ؛ فإن المعرفة هي الدراية للرواية
، وبالدرايات يعلو المؤمن إلى أقصى درجات الايمان. إني نظرت في كتاب علي عليهالسلام
فوجدت في الكتاب أن : قيمة كلّ امرئ وقدره معرفته .
إن الله يحاسب الناس على قدر ما آتاهم من العقول في دار الدنيا» الحديث.
ومن ذلك يعلم
أيضا أنه لا ريب أن التكليف الوارد في السنّة و (الكتاب) إنّما وقع على حسب ما
رزقه الله من العقول والألباب. وحينئذ ، فكل ما أدّى إليه الفهم بعد بذل الوسع
فيما يتعلق بذلك الحكم من أدلّته ، وتحصيلها من مظانها وطلب مناقض أو مؤيد أو قرينة
أو ناسخ أو مخصص أو مقيد ، أو نحو ذلك وجب على الناظر الأخذ به والعمل عليه وإن
فرض خطؤه واقعا ؛ فالظاهر أنه غير مؤاخذ بعد بذل الوسع كما قلنا ؛ لأن هذا أقصى
تكليفه المأمور به ، وهذا ما أدى إليه فهمه الذي رزقه.
نعم ، لو كان
خطؤه إنّما نشأ من عدم بذل الوسع في الدليل ، أو في تحصيل تلك الامور التي تنضاف
إليه ، فلا يبعد المؤاخذة لتقصيره في السعي والفحص كما لا يخفى.
ولا يخفى أن ما
ذكرناه لا خصوصية له ببعض دون بعض من المجتهدين
__________________
والأخباريين ، كما زعمه جملة من متأخّري الأخباريين ، حيث صرّح بعضهم بحصر
الاختلاف بينهم في العمل بأخبار التقية خاصة ، بمعنى أن اختلافهم إنّما نشأ من
عملهم بالأخبار المختلفة التي بعضها قد ورد مورد التقية دون اختلاف الانظار
والافهام. فإنه لا يخفى على المتتبع المنصف ما وقع بينهم من الاختلاف في فهم معاني
الأخبار من الصدوق فما دونه كما فصلنا جملة من ذلك في الدرة الموضوعة للبحث مع
صاحب (الفوائد المدنية) ، سامحه الله تعالى برحمته المرضية.
وحينئذ ، فلو
كان ما يدّعونه من الجزم والقطع في الأحكام مطابقا لما زعموه ، لم يجز أن يجري
الخلاف فيما بينهم ؛ لأن المعلوم من حيث هو معلوم لا يصحّ أن يكون محلا للاختلاف ،
وإنّما يقع الاختلاف في الامور المظنونة من حيث اختلاف الأفهام في قوة الإدراك
وضعفه كما ذكرنا. وعلى ما ذكرنا ـ من الأخذ بما أدى إليه الفهم ، ووصل إليه الذهن
ـ عمل كلّ من الأخباريين والمجتهدين الآخذين الأحكام من (الكتاب) العزيز والسنّة
المطهرة وإن اختلفوا في التسمية وإطلاق العلم على ما تؤدي إليه أفهامهم ، أو الظن.
فالأخباريون يسمون ذلك علما ، والمجتهدون يسمونه ظنا ، فإنا نراهم في أكثر المواضع
مشتركين في استنباط الأحكام من الدليلين المذكورين وإن اختلفوا في التسمية بذينك
الاسمين.
والظاهر أن من
أطلق عليه الظن من المجتهدين أراد بالعلم هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع الغير
القابل للنقيض ، ومن أطلق عليه العلم من الأخباريين أراد به : ما هو أعم ، وهو ما
تسكن النفس إليه وتطمئن به ؛ فإن العمل له مراتب
متفاوتة ودرجات متكاثرة قوة وضعفا . ألا ترى أنه ربما يستفاد من أخبار الأطفال فضلا عن
عدول الرجال بانضمام بعض قرائن الأحوال؟ ويدل على هذا المعنى جملة من الأخبار كما
أوضحناه في محل أليق.
وحينئذ ، فعمل
الكل على هذه الطريقة وإن اختلفوا في التسمية ، فلا يتوجه إذن طعن الأخباريين على
المجتهدين بالعمل بالمظنون الذي منعت منه الآيات والروايات ؛ فإن
الاختلاف ـ كما عرفت ـ ليس إلّا في مجرد التسمية.
__________________
__________________
نعم
، لو كان ما
أخذه المجتهد من الأحكام إنّما استند فيه إلى دليل خارج عن (الكتاب) والسنّة ، فلا
ريب في توجه الطعن عليه.
إذا عرفت ذلك ،
فنقول : الظاهر ـ والله سبحانه وأولياؤه عليهمالسلام أعلم ـ أن المراد بمعلومية الحكم من الدليلين المذكورين
، الذي يكون ما عداه داخلا في الشبهات : ما هو أعم من أن يكون بالمعنى الذي ذكره
المجتهدون في معنى العلم ، فإنه مما يحصل في كثير من الأحكام ، كما لا يخفى على من
تدبرها من ذوي الافهام أو المعنى الآخر الذي ذكره الأخباريون فإنه أكثر [من] كثير
في الأخبار ، أو يكون باعتبار معلومية الدليل عنهم عليهمالسلام وإن كان حصول الحكم بطريق الظن الغالب.
ولعل هذا أظهر
؛ وذلك فإنه حيث جعل الشارع (الكتاب) والسنّة مناطا للأحكام ، ومرجعا في الحلال
والحرام على الوجه المتقدم ذكره آنفا. فكل ما أخذ منهما واستند فيه إليهما ، فهو
معلوم ومتيقن عنه ، حيث إنه مأخوذ من دليليه اللذين امر بالأخذ منهما والتمسك
بهما.
والظن حينئذ
ليس هو مناط العمل ، بل العلم بأنا مأمورون بالعمل بهما ، والأخذ بما فيهما ،
وقيام الاحتمال الضعيف في مقابلة الظن الغالب لا يقدح فيه ولا ينافيه. وما اشتهر
من أنه إذا قام الاحتمال بطل الاستدلال ، فكلام شعري وإلزام جدلي ؛ إذ لو تم ذلك ،
لانسدّ باب الاستدلال ؛ إذ لا قول إلّا وللقائل فيه مجال ، ولا دليل إلّا وهو قابل
للاحتمال ، ولقام العذر لمنكري النبوات فيما يقابلون به أدلة المسلمين من
الاحتمالات ، وكذا منكري التوحيد وجميع أصحاب المقالات.
وأمّا حمل
العلم في هذا المقام على الحكم الجازم المطابق للواقع ، فهو بعيد
__________________
غاية البعد ، بل متعذر ؛ فإنه سبحانه لم يكلف بذلك ، لا في
نفس الأحكام الشرعية ، ولا في متعلقاتها ؛ لما قدمناه في غير موضع. ألا ترى إلى
يقين الحلية ويقين الطهارة المتكرر في الأخبار ، فإنه ليس إلّا عبارة عن عدم العلم بالتحريم وعدم العلم
بالنجاسة لا عن العلم بالعدم؟ وعدم العلم كما ترى أعم من العلم بالعدم ، مع أن
الشارع سماه علما ويقينا ، ومنع ألّا ينقض بالشك ؛ لأنه علم ويقين ولا ينقضه إلّا
يقين مثله.
بقي الكلام في
الأخبار المانعة من العمل بالظن في الأحكام ، والظاهر أن المراد بذلك الظن الممنوع
من العمل عليه هو ما كان مستندا إلى الأخذ بالرأي والهوى ، والقياس والاستحسان ،
ونحو ذلك مما خرج عن دليلي (الكتاب) والسنّة ، كما عليه العامة.
وإلى ذلك تشير
جملة من الأخبار لا بأس بإيراد جملة منها في المقام ـ وإن طال به زمام الكلام ـ ليندفع
به الطعن عن العلماء الأعلام ، كما ارتكبه جملة من متحذلقي الأخباريين وملؤوا به
مصنفاتهم الممزوج فيها الغث بالسمين. ففي كتاب (الاحتجاج) عن أمير المؤمنين عليهالسلام قال : «إياكم وأصحاب الرأي ؛ فإنهم أعداء السنن ،
تفلتت منهم الأحاديث أن يحفظوها ، وأعيتهم السنن أن يعوها».
__________________
إلى أن قال : «فعارضوا الدين
بآرائهم ، فضلّوا وأضلّوا» .
وفي حديث عن
الصادق عليهالسلام أنه قال لبعض أصحابه : «ما أحد أحبّ إلي منكم ، إن الناس سلكوا سبلا
شتّى ، فمنهم من أخذ بهواه ، ومنهم من أخذ برأيه ، وإنكم أخذتم بما
له أصل» ، يعنى : (الكتاب)
والسنّة.
وفي خبر عنه عليهالسلام : «من
أخذ دينه من كتاب الله وسنة نبيه صلىاللهعليهوآله زالت الجبال قبل أن
يزول ، ومن أخذ دينه من أفواه الرجال ردّته الرجال» .
وفي خبر عن علي بن
الحسين عليهالسلام : «إن
دين الله لا يصاب بالعقول الناقصة والآراء الباطلة والمقاييس الفاسدة ، ولا يصاب
إلّا بالتسليم. فمن سلّم لنا سلم ، ومن اهتدى بنا هدي ، ومن دان بالقياس والرأي
هلك» .
وعن الصادق عليهالسلام قال : «تزاوروا ؛ فإن في زيارتكم إحياء لقلوبكم وذكرا
لأحاديثنا ، وأحاديثنا تعطف بعضكم على بعض ، فإن أخذتم بها
رشدتم ونجوتم ، وإن تركتموها ضللتم وهلكتم فخذوا بها ، وأنا بنجاتكم زعيم» .
وفي حديث أبي
بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام المروي في كتاب (المحاسن) قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : ترد علينا أشياء ليس نعرفها في كتاب ولا سنّة ، فننظر
__________________
فيها؟ فقال : «لا» ، أمّا إنك إن أصبت لم تؤجر ، وإن كان خطأ كذبت على الله»
.
وفي حديث سماعة
عن العبد الصالح عليهالسلام ، وقد سأله بما هو في معنى هذا السؤال ، فقال عليهالسلام : «إنّما
هلك من كان قبلكم بالقياس». فقلت له : لم تقول ذلك؟ فقال : «إنه ليس شيء إلّا وقد جاء في الكتاب والسنّة» .
وفي رسالة
الصادق عليهالسلام إلى أصحابه المرويّة في (روضة الكافي) بأسانيد ثلاثة ما
صورته : «أيها
العصابة المرحومة المفلحة ، إن الله عزوجل أتمّ لكم ما آتاكم من الخير ، واعلموا
أنّه ليس من علم الله ولا من أمره أن يأخذ أحد من خلق الله في دينه بهوى ولا برأي
ولا مقائيس ، قد أنزل الله القرآن وجعل فيه تبيان كلّ شيء ، وجعل للقرآن وتعلم
القرآن أهلا لا يسع أهل علم القرآن الذين أتاهم الله علمه أن يأخذوا فيه بهوى ولا
رأي ولا مقاييس ، أغناهم الله عن ذلك بما آتاهم من علمه وخصهم به ، ووضعه عندهم
كرامة من الله أكرمهم بها ، وهم الذين لا يرغب عنهم وعن مسألتهم وعن علمهم الذي
أكرمهم الله به وجعله عندهم ، إلّا من سبق عليه في علم الله الشقاء في أصل الخلق
تحت الأظلّة ، فأولئك الذين يرغبون عن سؤال أهل الذكر والذين أتاهم الله علم
القرآن ، واولئك الذين يأخذون بأهوائهم وآرائهم ومقاييسهم ، حتى دخلهم الشيطان» الحديث.
إلى غير ذلك من
الأخبار المتكاثرة.
__________________
ووجه
التقريب فيها أنها قد اشتملت على الذم بالنسبة إلى من استند في حكمه إلى الآراء
والأهوية والقياسات والاستحسانات ، والأمر بالأخذ بما في (الكتاب) العزيز والسنّة
المطهرة حسب ما قلناه ، ونهج ما ادّعيناه بطريق ظنّيّ غالب أو قطعي جازم. هذا ما
خطر بالبال في دفع هذا الإشكال ، والله سبحانه وأولياؤه أعلم بحقيقة الحال.
الفائدة
السادسة عشرة : في أن المتشابه يرد حكمه إلى الله
قد دل الخبر
المذكور على أن الحكم في المتشابه ، هو التوقف والرد إلى الله عزوجل وإلى أئمة الهدى ، صلوات الله عليهم. وقد استفاضت بذلك
الأخبار ، ففي كتاب (الأمالي) لشيخنا الصدوق رحمهالله بسنده إلى جميل بن صالح عن الصادق عليهالسلام عن آبائه عليهمالسلام قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : الامور ثلاثة : أمر
تبيّن لك رشده فاتبعه ، وأمر تبيّن لك غيّه فاجتنبه ، وأمر اختلف فيه
فردّه إلى الله عزوجل» الخبر.
وروى في كتاب (الخصال)
بسنده إلى أبي شعيب يرفعه عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «أورع الناس من وقف عند الشبهة» .
وروى الشيخ قدسسره في كتاب (الأمالي) في وصيّة أمير المؤمنين لابنه الحسن عليهماالسلام عند وفاته : «أوصيك يا بني بالصلاة عند وقتها».
إلى أن قال : «والصمت عند الشبهة» .
وروى في كتاب (المحاسن)
بسنده عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهالسلام قال : «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة
، وتركك حديثا لم تروه خير من روايتك حديثا لم تحصه» .
__________________
إلى غير ذلك من
الأخبار المتكاثرة وسيأتي شطر منها في المقام.
إذا عرفت ذلك ،
فاعلم أن الذي يظهر لي ـ والله سبحانه أعلم ـ أن المراد بالشبهة في هذه الأخبار :
هو ما أشبه الحكم فيه ولم يتضح على وجه يدخل به في أحد الفردين المذكورين من
الحلال البين والحرام البين. وذلك يقع بأحد أمور :
الأول
: كون الدليل
الوارد فيه ليس بنص ولا ظاهر في الحكم. وهذا الفرد مما لا ريب في دخوله في الشبهة
، ووجوب التوقف فيه ؛ لقوله سبحانه (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ
عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ
مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما
تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) الآية.
وحينئذ ، فنسبة
الاشتباه إلى الحكم ناشئ من ثبوته في دليله.
الثاني
: أنه لم يرد
فيه نص بالكلية. ويدل على هذا الفرد ما رواه الصدوق ـ عطر الله مرقده ـ في (الفقيه)
من خطبة أمير المؤمنين عليهالسلام قال : خطب أمير المؤمنين عليهالسلام ، فقال : «إن الله حد حدودا فلا تعتدوها ، وفرض فرائض
فلا تنقصوها ، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تتكلّفوها رحمة لكم من الله
فاقبلوها» ثم قال : «حلال بيّن وحرام بيّن
وشبهات بين ذلك ، فمن ترك ما اشتبه عليه من الاثم فهو لما استبان له أترك ،
والمعاصي حمى الله عزوجل ، فمن رتع حولها يوشك أن يدخلها» .
وهذا القسم من
الشبهة ربما عبر عنه بالمبهمات المعضلات ، كما في الخطبة المرويّة عنه عليهالسلام في وصف أبغض الخلق إلى الله : وإن نزلت به إحدى
المبهمات المعضلات هيأ لها حشوا من رأيه ، فهو من لبس الشبهات في مثل غزل
__________________
العنكبوت ، فهو خبّاط عشوات ركّاب شبهات .
الثالث
: تعارض الأخبار
فيه مع تساوي طرق الترجيح ، كما تضمنته المقبولة المذكورة. ويدل على هذا الفرد
رواية جميل بن صالح المتقدّمة . والحكم في جميع ذلك كما عرفت هو الردّ إليهم عليهمالسلام في الحكم ، والوقوف على جادة الاحتياط في العمل ، فيكون
الاحتياط في جميع ذلك واجبا ؛ إذ هو الحكم الشرعي في هذا الموضع.
فإن قلت : إن
مقتضى الجمع بين خبري الإرجاء والتخيير هو التخيير في العمل بالنسبة إلى
الفرد الأخير.
قلت : قد عرفت
اختلاف الأخبار في المقام ، واختلاف كلام أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ في وجه
الجمع بينها ، حتى انتهى إلى ثمانية وجوه كما قدمنا ذكره ، وبه يعود الإشكال ويبقى
الحكم في قالب الاشتباه والخفاء.
ولا ريب أن
الاحتياط طريق السلامة ، والفوز بالأمن من أهوال القيامة وإن كان أقرب تلك الوجوه
ـ كما قدمنا الإشارة إليه ـ حمل أخبار الإرجاء على الحكم ، وحمل خبر التخيير على
العمل. ومما يحتمل أيضا دخوله في الشبهة التي تضمنتها هذه الأخبار ما وقع الاشتباه
في اندراجه تحت أمرين متنافيين مع معلومية حكم كلّ منهما ،
كالسجود على الخزف مثلا ، للشك في استحالته بالطبخ وعدمها ، ومثل بعض الأصوات
المشكوك في كونها غناء أم لا.
واحتمل بعض
مشايخنا المحققين من متأخّري المتأخّرين دخول ما احتمل الحرمة ـ وإن كان بحسب ظاهر
الشرع حلالا ـ في أفراد الشبهة المعدودة في
__________________
هذه الأخبار ، وبعضهم عدّه منها جازما بدخوله في أفرادها ، وانتظامه في
عدادها ، وجعل من ذلك أيضا اختلاط الحلال والحرام الغير المحصور ، وجوائز الظالم ،
والأكل من ماله. وجعل منها أيضا ما اختلفت فيه الأخبار وإن ترجح أحد طرفيها في نظر
الفقيه ، كمسألة نجاسة البئر ، قال : (فإنه وإن اختار عدم نجاستها بالملاقاة
لرجحان أخبار الطهارة إلّا إنه ينبغي الاحتياط ، والأمر بالنزح ، ونحوها مما
اختلفت فيه الأخبار ، وترجح أحد طرفيها) انتهى.
أقول : وربما
يستدل على ذلك أيضا برواية مسعدة بن زياد عن جعفر عليهالسلام عن آبائه عليهمالسلام أن النبي صلىاللهعليهوآله قال : «لا تجامعوا على الشبهة وقفوا عند الشبهة ،
يقول : إذا بلغك أنك قد رضعت من لبنها فإنها لك محرم وما أشبه ذلك فإن الوقوف عند
الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» .
وجه الاستدلال
ـ بناء على كون «يقول» وما في حيزه من كلام الإمام عليهالسلام لا من كلام الراوي ، وإلّا لسقط البحث ـ هو حمل بلوغ
إرضاعه من لبنها على عدم الثبوت شرعا ، وإلّا لكانت محرما بتعين وليس من
الشبهة في شيء. ولا ريب أنه بمجرّد بلوغ الخبر من غير ثبوته شرعا لا تصير محرما
بالنسبة إليه ، فيجوز له تزوّجها بحسب ظاهر الشرع مع أنه عد ذلك شبهة في الخبر
المذكور موجبة للوقوع في الهلكة.
__________________
إلّا إن عندي
أن ما ذكره قدسسره من ذلك لا يخلو من الإشكال ؛ لعدم اندراجه تحت الأخبار
الواردة في هذا المجال :
أمّا
أولا ، فلان جملة
منها قد خصّصت الشبهة بأفراد ليست هذه منها ، وبعضا منها وإن كان مجملا إلّا إن
طريق الجمع يقتضي حمله على المفصّل.
وأمّا
ثانيا ، فلان عدّ هذا الفرد من
جملة أفراد الشبهة التي هي قسيم للحلال البين ، يقتضي حمل الحلال البيّن على ما
كان كذلك في نفس الأمر ، وما ثبت حله في الواقع. ومن الظاهر أن هذا ليس ببيّن ، بل
هو في نهاية الخفاء ؛ إذ وجود الحلال بهذا المعنى مما يكاد يقطع بعدمه ، حتى إن
هذا القائل قدسسره صرّح في بعض فوائده بأن الحلال الواقعي لا يكاد يوجد إلّا في
تناول ماء المطر حال تساقطه في أرض مباحة. والظاهر المتبادر من هذا اللفظ هو أن
المراد : ما تبين حله من الأدلّة الشرعية أو حرمته.
فالوصف في
الخبر كاشف كما يعطيه قوله عليهالسلام في المقبولة : «أمر تبين رشده ... وأمر تبين غيّه» ، وكما في رواية جميل بن صالح المتقدّمة ، لا وصف
احترازي كما يؤذن به كلامه من جملة ما ذكره من الأفراد المعدودة على الحلال الغير
البين ، فإنه يرد عليه لزوم ذلك في جانب الحرام أيضا ، فيلزم إمّا اتصاف هذه
الأفراد التي ذكرها بالحلال الغير البين والحرام الغير البين معا ؛ وإمّا وجود فرد
آخر خارج عن الأفراد الثلاثة المذكورة ، ولا ريب في بطلان الأمرين المذكورين.
وأمّا
ثالثا ، فإن المفهوم
من الأخبار الدالة على التثليث وكذا غيرها ، هو أنه كما أن الحكم في الحلال
والحرام هو الإباحة في الأوّل ، والمنع مع المؤاخذة في الثاني ، كذلك الحكم في
الثالث هو الكف والتوقّف عن الحكم ، والرد إلى الله تعالى وإليهم عليهمالسلام كما دريته من الأخبار المتقدّمة. ومنها زيادة على ما
تقدم قول أبي
__________________
جعفر عليهالسلام في حديث طويل : «وما اشتبه عليكم فقفوا عنده ، وردوه إلينا
نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا» .
ولا ريب أن ما
ذكره قدسسره من الأفراد مما علمت حليّته من الشريعة ، ودلت الأخبار
على إباحته لا يكون من هذا في شيء ؛ أمّا جوائز الظالم ، فلقوله عليهالسلام في بعض تلك الأخبار : «خذ وكل فلك المهنّأ وعليه الوزر» ، ومثله غيره .
وأمّا الحلال
المختلط بالحرام ، فلقوله عليهالسلام في جملة من الأخبار : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف
الحرام بعينه فتدعه».
ومثل ذلك ما
ترجح في نظر الفقيه من الدليل ؛ فإنه الذي يجب عليه العمل به
شرعا. وحينئذ كيف يكون هذا من الشبهة التي هي قسيم للحلال البيّن والحرام
البيّن؟
والذي يقتضيه
النظر في المقام أن يقال : إنه لا ريب ـ بمعونة ما ذكرنا ـ أن المراد بالشبهة ـ في
مقام التقسيم إلى الأقسام الثلاثة المذكورة في تلك الأخبار ، ومثلها في أخبار أخر
غير مشتملة على التقسيم ـ هو ما ذكرناه آنفا ، ولا مجال لدخول ما ذكره قدسسره في ذلك. إلّا إن معاني الشبهة مطلقا وأفرادها لا تنحصر
في الأفراد التي أسلفناها ؛ لوجود بعض الأفراد لها مما يستحب اجتنابه والتورّع عنه
، وعلى هذا فتدخل هذه الأفراد التي ذكرها في الشبهة التي يستحب اجتنابها ، كما
أوضحنا ذلك في مقدمات كتابنا (الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة) في
المقدمة الموضوعة في بيان معنى الاحتياط وتحقيقه ، وعسى ننقلها
في هذا
__________________
الكتاب لما فيها من مزيد النفع لذوي الألباب من الطلاب.
وملخص ذلك أن
من جملة ما يستحب التنزه عنه ما إذا حصل الشكّ باحتمال النقيض لما قام عليه الدليل
الشرعي من الأفراد احتمالا مستندا إلى بعض الأسباب المجوّزة ، كما إذا كان مقتضى
الدليل إباحة شيء وحليته على الإطلاق ، لكن يحتمل قريبا بواسطة بعض الأسباب
الظاهرة أن بعض أفراد ذلك المطلق مما حرمه الشارع ولم يعلم به المكلف ، فإن مقتضى
الورع والتقوى في هذا الباب هو الكف عنه والاجتناب ، ومنه جوائز الظالم ونحوها.
وعلى هذا يحمل خبر مسعدة المتقدم آنفا.
أمّا إذا لم
يحصل للمكلف ما يوجب الشكّ والريب فإنه يعمل على ما ظهر له من الدليل وإن احتمل
النقيض في الواقع ، ولا يستحب له الاحتياط هنا ، ولا يكون ذلك في شيء من الشبهة
بفرديها ، بل ربما كان الاحتياط هنا مرجوحا. وهذا كالحلال المختلط بالحرام إذا كان
غير محصور كما تدل عليه بعض أخباره ، حيث تضمّن بعض منها المنع عن السؤال عما
يشترى من سوق المسلمين أخذا بالحنفية السمحة ، كصحيحة البزنطي ، وبعض أخبار الجبن ، والتجنب في
القسم المذكور من فردي الشبهة على جهة الورع ، والتقوى في الدين دون الوجوب كما في
الفرد المتقدم كما هو واضح مستبين ، والله سبحانه وتعالى أعلم بحقائق أحكامه.
ختام
به إتمام في ذم تصدي غير العالم للفتيا والقضاء
يشتمل على جملة
من الأخبار المانعة عن التهجم والقدوم على الحكم بين الناس والفتوى إلّا لمن تردّى
برداء العلم والعمل والتقوى زيادة على ما قدّمنا من
__________________
الأخبار فمن ذلك ما ورد عنهم عليهمالسلام بطرق عديدة ومتون متقاربة عن رسول الله صلىاللهعليهوآله : «من
أفتى الناس بغير علم لعنته ملائكة السماوات والأرض ، ولحقه وزر من عمل بفتياه» .
وفي أخبار اخر
أيضا كذلك : «إياك
وخصلتين مهلكتين : أن تفتي الناس برأيك ، أو تقول ما لا تعلم» .
وفي وصية
الصادق عليهالسلام لعنوان البصري : «اسأل
العلماء ما جهلت ؛ وإياك أن تسأل تعنتا وتجربة ، وإياك أن تعمل برأيك شيئا ، وخذ
بالاحتياط فيما تجد إليه سبيلا ، واهرب من الفتيا هربك من الأسد ، ولا تجعل رقبتك
للناس جسرا» .
وفي كتاب (مصباح
الشريعة) : قال الصادق عليهالسلام : «لا تحل الفتيا لمن لا يستفتي من الله عزوجل بصفاء سره وإخلاص عمله وعلانيته وبرهان من ربه في كلّ
حال ؛ لأن من أفتى فقد حكم ، والحكم لا يصحّ إلّا بإذن من الله وبرهان.
قال النبيّ صلىاللهعليهوآله : أجرأكم على الفتيا أجرأكم على الله ، أو لا يعلم
المفتي أنه هو الذي يدخل بين الله تعالى وبين عباده ، وهو الحائر بين الجنة والنار؟
قال أمير
المؤمنين عليهالسلام لقاض : هل تعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال : لا. قال : فهل
أشرفت على مراد الله عزوجل في أمثال القرآن؟ قال : لا. قال : إذن هلكت وأهلكت ،
والمفتي يحتاج إلى معرفة معاني القرآن وحقائق السنن ، وبواطن الإشارات ، والآداب ،
__________________
والإجماع ، والاختلاف ، والاطلاع على اصول ما اجتمعوا عليه وما اختلفوا فيه
، ثم إلى حسن الاختيار ، ثم العمل الصالح ، ثم الحكمة ثم التقوى ، ثم حينئذ إن قدر»
انتهى.
وروى في كتاب (منية
المريد) عن النبي صلىاللهعليهوآله : «أجرأكم
على الفتيا أجرأكم على النار» .
وروي في (الكافي)
بسند حسن عن عبد الرحمن بن الحجاج ، قال : كان أبو عبد الله عليهالسلام قاعدا في حلقة ربيعة الرأي ، فجاء أعرابي فسأل ربيعة عن
مسألة فأجابه ، فلما سكت ، قال له الأعرابي : أهو في عنقك؟ فسكت عنه ربيعة ، ولم
يرد عليه شيئا ، فأعاد عليه المسألة فأجابه بمثل ذلك ، فقال له الأعرابي : أهو في
عنقك؟ فسكت ربيعة ، فقال أبو عبد الله عليهالسلام : «هو
في عنقه». قال : «أو لم يقل : كلّ مفت
ضامن» .
وفي حديث
الصادق عليهالسلام مع ابن أبي ليلى القاضي حيث قال له : «فما تقول إذا جيء
بأرض من فضة وسماء من فضة
، ثم أخذ رسول الله صلىاللهعليهوآله بيدك فقال : يا رب إن
هذا قضى بغير ما قضيت؟». قال : فاصفر وجه ابن أبي ليلى حتى عاد مثل الزعفران .
وفي عدة أخبار
عن الصادق عليهالسلام : «من
حكم في درهمين بغير ما أنزل الله فهو كافر بالله العظيم» .
__________________
وفي رواية
معاوية بن وهب عنه عليهالسلام : «أي
قاض قضى بين اثنين فأخطأ سقط أبعد من السماء» .
وفي آخر عن
النبي صلىاللهعليهوآله : «لسان
القاضي بين جمرتين من نار حتى يقضي بين الناس ؛ فإمّا إلى الجنة ، وإمّا إلى النار» .
وروى في (الفقيه)
: «إن
النواويس شكت إلى الله تعالى شدة حرها ، فقال لها عزوجل : اسكتي ؛ فإن مواضع
القضاة أشدّ حرا منك» .
وفي حديث
الثمالي المروي في (الكافي) وغيره عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «كان في بني إسرائيل قاض كان يقضي بالحق ، فلما
حضره الموت قال لزوجته : إذا أنا مت فغسليني وكفنيني وضعيني على سريري وغطي وجهي ،
فإنك لا ترين سوءا. قال : فلما مات فعلت ذلك ، ثم مكثت بذلك حينا ، ثم إنها كشفت
عن وجهه لتنظر إليه ؛ فإذا هي بدودة تقرض منخره ، ففزعت من ذلك ، فلما كان الليل
أتاها في منامها ، فقال لها :أفزعك ما رأيت؟ قالت : أجل. فقال لها : أمّا لئن كنت
فزعت ، فما كان الذي رأيت إلّا لهواي في أخيك فلان ، أتاني ومعه خصم له
، فلما جلسا إلي قلت : اللهم اجعل الحق له ، ووجه القضاء على خصمه. فلما [اختصما
إليّ كان الحق له] ورأيت ذلك بينا في
__________________
القضاء
فوجهت له القضاء على خصمه فأصابني ما رأيت لموضع هواي كان مع موافقة الحق ».
إلى غير ذلك من
الأخبار التي يضيق عن الإتيان عليها المقام .
ولله در المحقق
ـ طاب ثراه ـ في كتاب (المعتبر) حيث قال : (إنك مخبر في حال فتواك عن ربك وناطق
بلسان شرعه ، فما أسعدك إن أخذت بالجزم! وما أخيبك إن بنيت على الوهم! فاجعل فهمك
تلقاء قوله تعالى (وَأَنْ تَقُولُوا
عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) . وانظر إلى قوله تعالى (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما
أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ
آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) .
وتفطن كيف قسّم
مستند الحكم إلى القسمين ، فما لم يتحقق الإذن فأنت مفتر) انتهى كلامه
زيد مقامه.
__________________
(١٣)
درة نجفية
في الاختلاف في تاريخ ولادة
الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآله
قال ثقة
الإسلام وعلم الاعلام في جامعه (الكافي) في باب تاريخ مولد النبي صلىاللهعليهوآله : (ولد النبي صلىاللهعليهوآله لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول في عام الفيل
يوم الجمعة مع الزوال ، قال : وروي أيضا عند طلوع الفجر قبل أن يبعث بأربعين سنة ،
وحملت به أمه في أيام التشريق عند الجمرة الوسطى) انتهى.
وما ذكره قدسسره من تاريخ الولادة مخالف لما عليه الشيعة سلفا وخلفا من
أنه كان ليلة الجمعة في السابع عشر من شهر ربيع الأول عام الفيل عند طلوع الفجر ،
وموافق لمذهب العامة ؛ إمّا اعتقادا أو تقية. وفي كلامه قدسسره إشكال مشهور قد ذكره غير واحد من أصحابنا ـ رضوان الله
عليهم ـ وهو أنه يلزم من كون الحمل في أيام التشريق ، والولادة في شهر ربيع
الأول أن مدة حمله ـ صلوات عليه وآله ـ إما ثلاثة أشهر ، أو سنة وثلاثة أشهر ، ولم
يذكر أحد من العلماء أن ذلك من خصائصه صلىاللهعليهوآله.
واجيب عن ذلك
بأن ما ذكره قدسسره مبني على النسيء المتعارف في الجاهلية
__________________
المنسوخ بالإسلام ، وهو المشار إليه بقوله تعالى (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) الآية ؛ لأنهم كانوا يحرمون الحلال من الأشهر ، ويحلون
الحرام منها ، لمطالبهم ومصالحهم ، فقد يحلون بعض الأشهر الحرم لإرادة القتل والغارة
، ويعوّضون عنه شهرا آخر من الأشهر المحللة ، فيحرّمون فيه ما أحلوه ثمّة. فعلى
هذا يجوز أن يكون حجّهم حين حملت به امّه صلىاللهعليهوآله في أيام التشريق كان في شهر جمادى [الآخرة] ، ويكون مدة
حمله صلىاللهعليهوآله حينئذ تسعة أشهر كما هو القول المشهور والمتعارف الغير
المنكور.
قال أمين
الإسلام الطبرسي قدسسره في كتابه (مجمع البيان) في تفسير الآية المتقدّمة نقلا عن مجاهد : (كان المشركون
يحجّون في كلّ شهر عامين ، فحجوا في ذي الحجة عامين ، ثم حجوا في المحرم عامين ...
وكذلك في الشهور حتى وافقت الحجة التي قبل حجة الوداع في ذي القعدة ، ثم حج النبي صلىاللهعليهوآله في العام القابل حجة الوداع ، فوافقت ذي الحجة ، فقال
في خطبته : «ألا وإن
الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق السماوات والأرض اثنا عشر شهرا ، منها أربعة حرم :
ثلاثة متواليات : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرّم ، ورجب منفرد بين جمادى وشعبان». أراد بذلك صلىاللهعليهوآله أن الأشهر الحرم قد رجعت إلى مواضعها ، وعاد الحج إلى
ذي الحجة ، وبطل النسيء) .
واستنبط بعض
أفاضل السادات من هذا الكلام أن مدة حمله صلىاللهعليهوآله على هذا الحساب تكون أحد عشر شهرا ، ويكون ذلك دليلا
على حقّيّة مذهب من قال : إن أقصى مدة الحمل سنة ، قال : (لأن عمره صلىاللهعليهوآله كان ثلاثا وستين سنة ، وقد وافق
__________________
حجهم في آخر عمره صلىاللهعليهوآله في ذي الحجة بناء على قوله ، فإذا رجعنا من آخر عمره صلىاللهعليهوآله إلى أوله معطين لكل شهر من شهور السنة حجّتين ، يكون
وقوع وضع حمله صلىاللهعليهوآله في شهر ربيع الأوّل الذي اتّفق حجّهم في تلك السنة في
جمادى الاولى أول حجّهم فيه بعد وضع حمله صلىاللهعليهوآله ، فيكون حمله في العام السابق في شهر ربيع الأول أيام التشريق ،
فيكون مدة الحمل أحد عشر شهرا كما لا يخفى).
ونقل عن الفاضل
الأسترآبادي في الحاشية على هذا الموضع من (الكافي) أنه نقل هذا الاستنباط وارتضاه
وصححه ، وقد اعترضه بعض الأفاضل بأنه يلزم على هذا بأن يكون سنّه الشريف خمسا
وستين سنة ؛ إذ في كلّ دورة كاملة يزيد عمره على عدد حجهم في تلك الدورة بسنة ،
فإذا كان الابتداء من جمادى الاولى ، والانتهاء إلى ذي الحجة في الدورة الثالثة
يرتقي عدد حجهم في تلك الشهور إلى ثلاث وستين سنة ، فيجب أن يكون عمره خمسا وستين
سنة.
وتوضيح ذلك على
تقدير الابتداء من جمادى الاولى ، ووصول الدورة إلى شهر ربيع الأول وإتمام حجهم
فيه يكون عدد حجّاتهم اثنتين وعشرين ، كما أن عمره صلىاللهعليهوآله كذلك. فإذا زاد في عمره سنة وانتهى إلى هذا الشهر ، ولم
يحضر بعد زمان حجّهم ، يكون عمره ثلاثا وعشرين سنة بلا زيادة ولا نقصان ، وعدد
حجّهم كما كان. وكذلك الحال في الدورة الاخرى بعينها ، فيجب أن يكون ابتداء حجّهم
بعد وضع حمله صلىاللهعليهوآله في شهر جمادى [الآخرة] ، حتى يكون
عدد حجّهم حين الانتهاء إلى حجّة الوداع إحدى وستين ، ويوافق حينئذ ثلاثا وستين
من عمره.
وعلى هذا يكون
حمل امه به صلىاللهعليهوآله في العام السابق في شهر جمادى الاولى ،
__________________
فيكون مدة حمله عشرة أشهر ، ويكون منطبقا على المذهب المشهور.
وأنت خبير بأن
هذا كله على تقدير صحة ما نقله مجاهد كما حكاه الطبرسي رحمهالله تعالى عنه. وهو منظور فيه في من وجهين :
أحدهما
: أن الذي صرّح
به جملة المفسرين في معنى النسيء لا ينطبق على ما ذكره ؛ إذ معناه كما ذكروه هو
ما قدمنا ذكره من تحليل بعض الأشهر الحرم لأجل استباحة الغارة فيه والقتال ،
وتعويض غيره من الأشهر المحللة عنه ، فيحرمون فيه القتال ، ويحجون فيه لا ما ذكره
، فإنه لا ينطبق على الآية الشريفة ، وهو قوله سبحانه (يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً
لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ) .
ويزيده بيانا
ما ذكره الثقة الجليل علي بن إبراهيم القمي قدسسره في تفسيره من أنه كان سبب نزول الآية المذكورة أنه كان
رجل من كنانة يقف في الموسم ، فيقول : قد أحللت دماء المحلين من طيّئ وخثعم في
شهر المحرم وأنسأته ، وحرمت بدله صفرا ، فإذا كان العام القابل يقول : قد أحللت
صفرا وأنسأته ، وحرمت بدله شهر المحرم ، فأنزل الله (إِنَّمَا النَّسِيءُ
زِيادَةٌ) .
وقيل : (إن أول
من أحدث ذلك جنادة بن عوف الكناني ، كان يقوم على جبل في الموسم فينادي : إن
آلهتكم قد أحلّت لكم المحرم [فأحلّوه]. ثم ينادي في القابل : إن آلهتكم قد حرمت
عليكم المحرم فحرموه) .
وثانيهما : أن ما ذكره من أن الحجة التي كانت قبل الوداع كانت في
ذي
__________________
القعدة ، تردّه الأخبار الواردة بقراءة أمير المؤمنين عليهالسلام آيات (براءة) في الموسم تلك السنة ، فإنها صريحة في كون
الحج تلك السنة كان في ذي الحجة ، ففي حديث عن الصادق عليهالسلام في تفسير قوله تعالى (فَسِيحُوا فِي
الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) : «فهذه
أشهر السياحة : عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشر من ربيع
الآخر» .
وفي حديث آخر
عنه عليهالسلام : «فلما
قدم علي عليهالسلام ، وكان يوم النحر بعد
الظهر ، وهو يوم الْحَجِّ الْأَكْبَرِ
، قام ثم
قال : إني رسول رسول الله صلىاللهعليهوآله إليكم فقرأها عليهم :
(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ
وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. فَسِيحُوا فِي
الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ)
: عشرين من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول ، وعشرا من شهر ربيع الآخر» .
إلى غير ذلك من
الأخبار.
فقد اتّضح بذلك
أن الأظهر في رفع التناقض فيما ذكره شيخنا ثقة الإسلام هو ما قدمنا ذكره في المقام
، وهو أن الحمل به صلىاللهعليهوآله كان في شهر جمادي [الآخرة] ، وحجهم ـ بناء
على النسيء ـ كان في ذلك الشهر.
ومما يؤيده
أيضا ما وجدته في حاشية الفاضل الشيخ علي ابن الشيخ محمد ابن الشيخ حسن ابن شيخنا
الشهيد الثاني ـ قدس تعالى أرواحهم ـ على (شرح اللمعة) قال : (ورأيت في كتاب (اصول
الأخبار) للشيخ حسين بن عبد الصمد قال : (ذكر علي بن طاوس في كتاب (الإقبال على
الأعمال) أن ابتداء الحمل
__________________
بالنبي صلىاللهعليهوآله في تسع عشرة من جمادى الآخرة. وذكر الشيخ محمد بن علي
بن بابويه رحمهالله في الجزء الرابع من كتاب (النبوة) أن الحمل به ـ صلوات
الله عليه وآله ـ [كان] ليلة الجمعة لاثنتي عشرة ليلة ذهبت من جمادى الآخرة) .
هذه عبارته
بعينها ، ثم قال : (وهاتان الروايتان توافقان الشرع ويضعف معهما الاعتماد على ما
عليه الأكثر) انتهى.
وربما حمل ذلك
على النسيء) انتهى ما ذكره في الحاشية المشار إليها ، وعلى هذا يكون مدة الحمل
تسعة أشهر. وعلى تقدير صحة كلام مجاهد فالذي يلزم منه أيضا كون مدّة الحمل عشرة
أشهر كما عرفت ، لا ما توهمه ذلك الفاضل من كونه سنة ، وبذلك يظهر لك ما في كلام شيخنا الشهيد
الثاني ـ نوّر الله تعالى مرقده ـ في (شرح اللمعة) ، حيث قال بعد نقل الأقوال في
أقصى مدة الحمل : (واتفق الأصحاب على أنه لا يزيد على السنة ، مع أنهم رووا أن
النبي صلىاللهعليهوآله حملت به امّه أيام التشريق ، واتفقوا على أنه ولد في
شهر ربيع الأول ، فأقل ما يكون لبثه في بطن امّه سنة وثلاثة أشهر ، وما نقل أحد من
العلماء أن ذلك من خصائصه صلىاللهعليهوآله) انتهى.
فانه ناشئ عن
عدم إعطاء التأمل حقه في هذا المجال ، والغفلة عما أجيب به عن هذا الإشكال.
وقال شيخنا
المجلسي ـ طيب الله مرقده ـ في كتاب (الأربعون الحديث) ، بعد نقل كلام الكليني ـ نوّر
الله تعالى ضريحه ـ وإيراد الإشكال عليه ، ثم إيراد كلام
__________________
مجاهد ما صورته : (إذا عرفت هذا فقيل على هذا : إنه يلزم أن مولده صلىاللهعليهوآله في جمادى الأولى ؛ لأنه عليهالسلام توفي وهو ابن ثلاث وستين سنة ، ودورة النسيء أربعة
وعشرون : ضعف عدة الشهور. فإذا أخذنا من الثانية والستين ورجعنا ، تصير السنة
الخامسة عشرة ابتداء الدورة ؛ لأنه إذا نقص من اثنتين وستين ثمانية وأربعون تبقى
أربعة عشر ؛ الاثنتان الأخيرتان منها لذي القعدة ، واثنتان قبلها لشوال ، وهكذا
فتكون الأوليان منهما لجمادى الاولى ، وكان الحج عام مولد النبي صلىاللهعليهوآله وهو عام الفيل في جمادى الاولى. فإذا فرض أنه صلىاللهعليهوآله حملت به أمه في الثاني عشر منه ووضعت في الثاني عشر من
ربيع الأوّل تكون مدة الحمل عشرة أشهر لا مزيد ولا نقيصة.
أقول
: ويرد عليه أنه
[أخطأ] في حساب الدورة أربعة وعشرين سنة ؛ إذ الدورة على ما
ذكر إنما تتم في خمس وعشرين سنة ؛ إذ في كلّ سنتين يسقط شهر من شهور السنة باعتبار
النسيء ، ففي كلّ خمس وعشرين سنة يحصل أربع وعشرون حجة تمام الدورة.
وأيضا على ما
ذكره يكون مدة الحمل أربعة عشر شهرا ؛ إذ لو كان عام مولده أول حجّ في جمادى
الأولى يكون عام الحمل الحج في ربيع الثاني. فالصواب أن يقال : [كان] في عام حمله صلىاللهعليهوآله الحج في جمادى الاولى ، وفي عام
مولده في جمادى [الآخرة] ... ، ويكون في حجة الوداع [والتي قبلها الحج في ذي
الحجة ولا يخالف شيئا إلّا ما مرّ عن مجاهد أن حجة الوداع] كانت مسبوقة
__________________
بالحج في ذي القعدة. وقوله غير معتمد في مقابلة الخبر إن ثبت أنه رواه خبرا
، ويكون مدة الحمل على هذا تسعة أشهر إلّا يوما فيوافق ما هو المشهور في حمله صلىاللهعليهوآله عند المخالفين) انتهى كلامه زيد مقامه.
__________________
(١٤)
درّة نجفيّة
في معنى (التردّد) و «كنت
سمعه ...» في حديث الإسراء
روى ثقة
الإسلام قدسسره في (الكافي) بسنده عن الباقر عليهالسلام قال : «لما اسري بالنبي صلىاللهعليهوآله قال : يا رب ما حال
المؤمن عندك؟ قال : يا محمد من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ، وأنا أسرع شيء
إلى نصرة أوليائي ، وما ترددت في شيء أنا فاعله كترددي في
وفاة المؤمن ، يكره الموت وأكره مساءته. وإن من عبادي
من لا يصلحه إلّا الغنى ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك ، وإن من عبادي من لا يصلحه
إلّا الفقر ولو صرفته إلى
__________________
__________________
غير
ذلك لهلك. وما يتقرب إليّ عبدي بشيء أحب مما افترضت
عليه ، وإنه ليتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبّه. فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به
وبصره الذي يبصر به ، ولسانه الذي ينطق به ، ويده التي يبطش بها ؛ إن دعاني أجبته
، وإن سألني أعطيته» .
تقرير
الإشكال
أقول
: والإشكال في
هذا الخبر الشريف في موضعين :
أحدهما
: في نسبة
التردّد إليه تعالى ، فإن التردّد في الامور إنما يكون للجهل بعواقبها ، أو لعدم
الثقة بالتمكن منها لمانع ونحوه ، والله سبحانه يجل عن ذلك. وهذا المضمون قد ورد
أيضا في جملة من أخبارنا غير الخبر المذكور ، كما رواه في (الكافي) .
وقد ورد أيضا
في روايات العامّة كما نقله بعض مشايخنا عن (جامع الاصول) ، و (الفتوحات)
، و (المشكاة) ، وغيرها .
وثانيهما
: في قوله : «كنت سمعه الذي يسمع
به» ـ إلى آخره ـ لاستلزامه
الاتّحاد ، وهو ممتنع عقلا ونقلا ؛ لأن هذه الأعضاء مختلفة الحقائق والآثار ،
واستحالة اتّحاد شيء من الأشياء معها أمر ضروري لا يقبل الإنكار ، إلّا من
أعمى الله بصر بصيرته ، فقابل بالعناد والاستكبار.
__________________
الجواب
عن إشكال التردّد المنسوب إليه تعالى
وحينئذ ،
فالكلام يقع هنا في مقامين :
الأوّل
: في الجواب عن
الإشكال الأوّل. وقد اجيب عنه بوجوه :
أحدها
: ما نقل عن
العلّامة الفيلسوف والعماد المير محمد باقر الداماد ـ طيب الله تعالى مرقده ـ حيث
قال : (اعلم أن التردّد في أمر يكون سببه تعارض الأمر الداعي المرجّح في الطرفين ،
وأطلق المسبب هناك وأريد : السبب. ومعنى الكلام : أن قبض المؤمن بالموت خير
بالقياس إلى نظام الوجود ، وشر من حيث مساءته ، فهذه الشرّيّة العرضية الاضافية
روح أقوى ضروب الشريات بالعرض وأشد أفرادها ، [في] الأفاعيل الإلهية [التي]
خيراتها الجزيلة كثيرة ، وشرّيتها الإضافية قليلة لشرف المؤمن وكرامته عند الله
سبحانه وتعالى.
وبعبارة اخرى
وقوع الفعل بين طرفي [الخيريّة] بالذات ولزومه الخيرات الكثيرة ، والشرّية بالعرض
وبالإضافة إلى طائفة من الموجودات هو المعبر عنه بالتردّد ؛ إذ الخيرية تدعو إلى
فعل الفعل ، والشرية إلى تركه ففي ذلك انسياق إلى تردّد ما.
فإذن المعنى :
ما وجدت شرية من الشرور اللازمة لخيرات كثيرة في أفاعيلي ، مثل شرية مساءة عبدي
المؤمن من جهة الموت ، وهو من الخيرات الواجبة في الحكمة البالغة الإلهية ، فما في
الشرور بالعرض اللازمة للخيرات الكثيرة أقوى شرية ، وأعظم من الشر بالعرض ، ولكن
الخير الكثير والحكمة البالغة في ذلك أحكم وأقوم وأقوى وأعظم) انتهى.
__________________
وثانيها
: ما ذكره المحدّث
المحسن الكاشاني في اصول (الوافي) في أبواب معرفة المخلوقات حيث قال في شرح الخبر
المذكور وبعد نقله في باب البداء : (ومعنى نسبة التردّد إلى الله سبحانه قد مضى
تحقيقه في أبواب معرفة المخلوقات والأفعال من الجزء الأوّل) . وأشار بذلك
إلى ما صرح به ثمة ، حيث قال : (فإن قيل : كيف يصح نسبة البداء إلى الله تعالى مع
إحاطة علمه بكل شيء ؛ أزلا وأبدأ على ما هو عليه في نفس الأمر وتقدسه عما يوجب
التغير والسنوح ونحوهما؟
فاعلم أن القوى
المنطبعة الفلكية لم تحط بتفاصيل ما سيقع من الامور دفعة واحدة ؛ لعدم تناهي تلك
الامور ، بل إنما تنتقش فيها الحوادث شيئا فشيئا ، وجملة فجملة مع أسبابها وعللها
على نهج مستمر ونظام مستقر ، فإن ما يحدث في عالم الكون والفساد إنما هو من لوازم
حركات الأفلاك المسخّرة لله تعالى ونتائج بركاتها ؛ فهي تعلم أنه كلما كان كذا كان
كذا. فمهما حصل لها العلم بأسباب حدوث أمر ما في هذا العالم حكمت بوقوعه فيه ،
فينتقش فيها ذلك الحكم ، وربما تأخّر بعض الأسباب الموجبة لوقوع الحادث على خلاف
ما يوجبه بقيّة الأسباب لو لا ذلك السبب ولم يحصل لها العلم بذلك بعد ؛ لعدم
اطلاعها على سبب ذلك السبب ، ثم لما جاء أوانه واطّلعت عليه حكمت بخلاف الحكم
الأوّل ، فيمحى عنها نقش الحكم السابق ، ويثبت الحكم الآخر. مثلا ، لمّا حصل لها
العلم بموت زيد بمرض كذا في ليلة كذا لأسباب تقتضي ذلك ، ولم يحصل لها العلم
بتصدقه الذي سيأتي قبيل ذلك الوقت ؛ لعدم اطلاعها على
__________________
أسباب التصدق بعد ، ثم علمت به ، وكان موته بتلك الأسباب مشروطا بألا
يتصدق فتحكم أولا بالموت ، وثانيا بالبرء.
وإن كانت الأسباب
لوقوع أمر أو لا وقوعه متكافئة ولم يحصل لها العلم برجحان أحدهما بعد ؛ لعدم مجيء
أوان سبب ذلك الرجحان بعد ؛ كان لها التردّد في وقوع ذلك الأمر ولا وقوعه ، فينتقش
فيها الوقوع تارة واللاوقوع اخرى. فهذا هو السبب في البداء والمحو
والإثبات والتردّد ، وأمثال ذلك في امور العالم.
وأما نسبة ذلك
إلى الله تعالى ؛ فلأن كل ما يجري في العالم الملكوتي إنما يجري بإرادة الله تعالى
، بل فعلهم بعينه فعل الله سبحانه ، حيث لا يعصون ما يأمر الله (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) ؛ إذ لا داعي لهم في الفعل إلّا إرادة الله عزوجل لاستهلاك إرادتهم في إرادته تعالى. ومثلهم كمثل الحواسّ
للإنسان ؛ كلّما همّ بأمر محسوس امتثلت الحاسة لما هم به وأرادته دفعة ، فكل كتابة
تكون في هذه الألواح والصحف ، فهو أيضا مكتوب الله عزوجل بعد قضائه السابق المكتوب بقلمه الأوّل. فيصح أن يوصف
الله عزوجل بأمثال ذلك بهذا الاعتبار وإن كان مثل هذه الأمور تشعر
بالتغير والسنوح ، وهو سبحانه منزّه عنه ؛ فإن كل ما وجد أو سيوجد ، فهو غير خارج
عن عالم ربوبيته) انتهى.
واعترضه بعض
الأفاضل المحدثين على ذلك ـ ووافقه آخرون ـ بأن (فيه :
أولا
: أن قوله
سبحانه (يَمْحُوا اللهُ ما
يَشاءُ وَيُثْبِتُ) وكذا الروايات صريحة في أن الماحي والمثبت هو الله
سبحانه ، لا النفوس الفلكية كما زعمه.
وثانيا
: أنه لم يقم
دليل على ثبوت النفوس للأفلاك.
__________________
وثالثا
: أنه على تقدير
تسليم ذلك ، فكيف تكون جاهلة جهلا مركبا حاكمة بما ليس عليه دليل مع أنه زعم أن
جميع الامور الحادثة في عالم الكون والفساد إنما هو من لوازم حركاتها ونتائج
بركاتها؟ وكيف يسلط الله هذه النفوس الجاهلة على كافة الحوادث الكائنة في عالم الكون
، فربما يحدث منها لجهلها ما يكون قبيحا مستقبحا مخلّا بالنظام؟
ورابعا
: أن نسبة وجود
جميع حوادث عالم الكون إلى الأفلاك مخالف لما عليه الإمامية ـ رضوان الله عليهم ـ فإن
ما يحدث فيها من أفعال العباد مخلوقة لهم وما يحدث من غير ذلك فهي مخلوقة لله
سبحانه) انتهى.
أقول
: ولو أجيب عن
الوجه الأوّل والرابع بما ذكره من قوله : بل فعلهم بعينه فعل الله ـ إلى آخره ـ ففيه
أنه يلزم أن يكون التردّد الحاصل لتلك النفوس في وقوع شيء أو لا وقوعه فعل الله
سبحانه ، وأنه هو المتردد على الحقيقة كما يشعر به تنظره بحواسّ الإنسان ، مع أن
سبب التردّد المذكور كما ذكره إنما هو للجهل وعدم العلم برجحان أسباب الوقوع أو
اللاوقوع. وحينئذ ، فيلزم حصول ذلك له تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
وكذا يلزم مثله
في البداء أيضا فإنه يأتي بناء على ما ذكره أن حكم تلك النفوس بوقوع أمر ـ باعتبار
حصول العلم بأسباب حدوثه والمقايسة فيها مع جهلها بتأخر بعض الأسباب الموجب لوقوع الحادث على
خلاف ما توجبه بقية الأسباب لو لا ذلك السبب ـ هو حكم الله تعالى بعينه ؛ إذ فعلهم
بعينه فعل الله سبحانه ، مع أن هذا الحكم إنما نشأ حقيقة من الجهل بذلك السبب
المتأخّر ، والله سبحانه يجلّ عن ذلك.
__________________
وبالجملة
، فما ذكره ـ طاب
ثراه ـ في هذا المقام بناء على قواعد المتصوفة والفلاسفة وفسّر به أخبار أهل الذكر
عليهمالسلام كلام مختل النظام ، منحل الزمام ، كما لا يخفى على
المنصف من ذوي الأفهام. وهؤلاء ـ لو لعهم باصول الفلاسفة والحكماء التي جرت عليها
الصوفية ـ يزعمون تطبيق أخبار أهل البيت عليهمالسلام عليها ، كما وقع من هذا المحدّث في غير موضع من كتبه ،
وهو جمع بين النقيضين وتأليف بين المتباغضين ، ومن أين إلى أين؟
وثالثها
: ما ذكره شيخنا
البهائي ـ عطر الله مرقده ـ في كتاب (الأربعون) من (أن في الكلام إضمارا ،
والتقدير : لو جاز علي التردّد : ما تردّدت في شيء كتردّدي في وفاة المؤمن) .
وتنظّر فيه بعض
مشايخنا بما فيه من الإضمار مع المندوحة عنه.
ورابعها
: ما ذكره أيضا
في كتاب (الأربعون) من أنه لما جرت العادة بأن يتردّد الشخص في مساءة من يحترمه
ويوقره ، كالصديق الوفي والخلّ الصفي ، وألّا يتردّد في مساءة من ليس له عنده قدر
ولا حرمة ، كالعدو والحية والعقرب ، بل إذا خطر بالبال مساءته أوقعها من غير تردّد
ولا تأمّل ، صحّ أن يعبّر بالتأمّل والتردّد في مساءة الشخص عن توقيره واحترامه ،
وبعدمهما عن إذلاله واحتقاره. فقوله سبحانه : «ما ترددت في شيء ... كترددي في وفاة المؤمن» المراد به ـ والله أعلم ـ : ليس لشيء من مخلوقاتي عندي
قدر حرمة كقدر عبدي المؤمن وحرمته ، فالكلام من قبيل الاستعارة التمثيلية) .
__________________
وقد تقدمه في
هذا الكلام شيخنا الشهيد رحمهالله في قواعده .
وخامسها
: ما ذكره أيضا
في الكتاب المذكور من أنه قد ورد من طريق الخاصة والعامّة أن الله
سبحانه يظهر للعبد عند الاحتضار من اللطف والكرامة والبشارة بالجنة ما يزيل عنه
كراهة الموت ، ويوجب رغبته في الانتقال إلى دار القرار ، فيقل تأذيه ويصير راضيا
بنزوله ، راغبا في حصوله. وأشبهت هذه المعاملة من يريد أن يؤلم حبيبه ألما يتعقّبه
نفع عظيم ، فهو يتردّد في أنه كيف يوصل ذلك الألم إليه على وجه يقل تأذّيه ، فلا
يزال يظهر له ما يرغبه فيما يتعقبه من اللذة الجسيمة والراحة العظيمة إلى أن
يتلقاه بالقبول ، ويعده من الغنائم المؤدّية إلى إدراك المأمول . انتهى.
أقول
: ويؤيد هذا
الوجه ما رواه في (الكافي) بسنده عن معلى بن خنيس عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : قال الله
عزوجل : من استذلّ عبدي المؤمن فقد بارزني بالمحاربة ، وما ترددت في شيء أنا
فاعله كترددي في عبدي المؤمن ، إني احب لقاءه فيكره الموت فأصرفه عنه» ، بناء على إرجاع الضمير في «أصرفه» إلى كره الموت ، بمعنى أن أظهر له من اللطف والكرامة
والبشارة بالجنة ما يزيل عنه كراهة الموت ويرغب في لقائي.
وسادسها
: ما نقله شيخنا
الشهيد رحمهالله في قواعده عن بعض الفضلاء ، وهو (أن
__________________
التردّد إنما هو في الأسباب ، بمعنى أن الله سبحانه يظهر للمؤمن أسبابا
تغلب على ظنه دنوّ الوفاة ، ليصير إلى الاستعداد إلى الآخرة استعدادا تاما ، وينشط
للعمل ، ثم يظهر له أسبابا توجب البسط في الأمل ، فيرجع إلى عمارة دنياه بما لا
بدّ منه ، ولما كان ذلك بصورة التردد أطلق عليها ذلك استعارة ، إذا كان العبد
المتعلق بتلك الأسباب بصورة المتردّد ، واسند التردّد إليه تعالى من حيث إنه فاعل
للتردّد في العبد. وهو مأخوذ من كلام بعض القدماء الباحثين عن أسرار كلام الله
تعالى ، فالتردّد في اختلاف الأحوال لا في مقدار الآجال) انتهى.
ولا يخفى ما
فيه من البعد والتكلف.
وسابعها
: ما نقله أيضا
في الكتاب المذكور وهو أن الله تعالى لا يزال يورد على المؤمن أسباب حبّ الموت
حالا بعد حال ، حتّى ليؤثر المؤمن الموت ، فيقبضه مريدا له. وإيراد تلك
الأحوال ـ المراد بها : غاياتها من غير تعجيل بالغايات من القادر ـ على التعجيل
يكون تردّدا بالنسبة إلى قادرية المخلوقين. فهو بصورة تردد وإن لم يكن ثمة
تردّد.
ويؤيده الخبر
المروي أن إبراهيم عليهالسلام لما أتاه ملك الموت ليقبض روحه وكره ذلك ، أخّره الله
تعالى إلى أن رأى شيخا يأكل ولعابه يسيل على لحيته ، فاستفظع ذلك وأحب الموت. وكذا
موسى عليهالسلام) .
أقول
: وهذا الوجه مع
سابقيه إنما تضمّن بيان التردّد في قبض روح العبد
__________________
المؤمن خاصة ، والخبر قد تضمن حصول التردّد في سائر أفعاله تعالى لكن لا
كالتردّد في قبض روح المؤمن ؛ فإنه أكثر. وحينئذ ، فيبقى الإشكال بحاله فيما عدا
هذا الفرد.
وثامنها
: ما نقله بعض
علمائنا الأعلام عن بعض علماء العامّة ، وهو أن معناه : (ما تردّد عبدي
المؤمن في شيء أنا فاعله كتردده في قبض روحه ، فإنه متردّد بين إرادته للبقاء
وإرادتي للموت ، فأنا ألطّفه وابشّره حتى أصرفه عن كراهة الموت. فأضاف سبحانه نفس
تردد وليه إلى ذاته المقدسة كرامة وتعظيما له ، كما يقول غدا يوم القيامة لبعض من
يعاتبه من المؤمنين في تقصيره عن تعهد ولي من أوليائه : «عبدي مرضت فلم تزرني!». فيقول : كيف تمرض وأنت رب العالمين؟ فيقول : «مرض عبدي فلان فلم
تعده ، ولو عدته لوجدتني عنده».
فكما أضاف مرض
وليه وسقمه إلى ذاته المقدّسة عن نعوت خلقه ؛ إعظاما لقدر عبده وتنويها لكرامة
منزلته ، كذلك أضاف التردّد إلى ذاته كذلك) انتهى.
أقول
: ومن قبيل ما
نقله من الحديث المشتهر به ورد قوله تعالى (وَلا تَسُبُّوا
الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) الآية ؛ فإن في جملة من الأخبار الواردة في تفسير الآية
المذكورة أن المراد بسبّ الله إنما هو سبّ وليّ الله ، ومثله في الأخبار غير عزيز.
وتاسعها
: ما ذكره بعض
الأعلام وهو أن فعل الله تعالى لمّا كان غير مسبوق بمادة ومدة ، وليس بتدريجي
الحصول ، بل آني الوجود كما قال الله عز شأنه : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا
أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، أشار بقوله : «ما ترددت في
__________________
شيء أنا فاعله كتردّدي» ـ الحديث ـ إلى أن أفعاله جل شأنه ليس فيها تردد ،
بمعنى أن يفعله الحال ، أو سيفعل الملزوم للتراخي في الفعل ، مثل هذا الفعل الذي
هو قبض روح عبده المؤمن ، فإن فيه التراخي ، وليس مثل سائر الافعال التي كان
حصولها بمجرد أمر (كن) ، فكأن هذا الفعل مستثنى من سائر الأفعال ، أي ليس في
كل أفعاله تردّد ملزوم للتراخي في الفعل إلّا في قبض روح عبدي المؤمن ، إذ فيه
التراخي ، فقد ذكر الملزوم وأراد اللازم.
ومعنى التشبيه
راجع إلى الاستثناء ، فقد شبه عدم التراخي في الأفعال بالتراخي في قبض روح عبده
المؤمن ، وليس المعنى أن التراخي في سائر الأفعال ليس مثل هذا التراخي ، بل
التراخي فيه أقوى.
وعلل جلّ شأنه
التراخي في قبض روح عبده المؤمن بكراهة الموت وكراهته تعالى مساءته بحصول موته
دفعة.
ويؤيد ما
ذكرناه ما رواه شيخنا الطوسي في أماليه بإسناده عن الحسن بن ضوء عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قال علي بن الحسين عليهالسلام : قال الله عزوجل :
ما من شيء أتردّد عنده [مثل] تردّدي عند قبض
روح المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ، فإذا حضر أجله الذي لا [تأخير]
فيه بعثت إليه ريحانتين من الجنة ؛ تسمى أحدهما المسخية ، والاخرى المنسية ، فأما
المسخية فتسخيه من ماله ، وأما المنسية فتنسيه أمر الدنيا» فتأمل. انتهى.
أقول : ظاهر
الحديث أن له سبحانه ترددا في سائر أفعاله ، ولكنه سبحانه لا يبلغ تردّده في قبض
روح عبده المؤمن ؛ لما ذكره تعالى من كراهة عبده
__________________
المؤمن للموت ، وكراهته سبحانه لإساءته. وبناء على ما ذكره هذا المجيب
المذكور ، أنه لا تردّد له في شيء من أفعاله إلّا في هذا الفرد ، وهو خلاف ظاهر
الخبر كما ترى. وقوله : (ومعنى التشبيه راجع إلى الاستثناء ، فقد شبه عدم التراخي
في الأفعال بالتراخي في قبض روح عبده المؤمن) غير ظاهر ؛ لعدم الجامع بين المشبه
والمشبه به في المقام. وحينئذ ، فالمنفي في قوله : «ما ترددت» إنما تعلق بالقيد ، أعني التشبيه لا المقيد خاصة. ألا
ترى أن المتبادر من قول القائل : ما أكرمت أحدا مثل إكرامي لزيد ، هو أن المنفي
إنما هو الإكرام المشبه به ، يعني ما أكرمت أحدا إكراما زائدا ، مثل إكرام زيد؟
فهو يقتضي حصول الإكرام منه لغير زيد ، لكن لا كإكرامه لزيد.
وبالجملة
، فإني لا أعرف
لما ذكره وجه صحة ، فقوله : (وليس المعنى) ـ إلى آخره ـ ليس في محله ، بل هو
المعنى المتبادر من اللفظ.
وعاشرها
: ما ذكره بعض
علماء العامّة ، وهو : (أن (تردّدت) في اللغة ، بمعنى : (رددت) مثل قولهم : (ذكرت
وتذكرت) ، و (دبرت وتدبرت) ، فكأنه يقول : ما رددت ملائكتي ورسلي في أمر حكمت
بفعله [مثل] ما رددتهم في قبض روح عبدي المؤمن ، فأردّدهم في إعلامي بقبضي له
وتبشيره بلقائي ، وما أعددت له عندي ، كما رددت ملك الموت إلى إبراهيم وموسى عليهماالسلام في القضيتين المشهورتين إلى أن اختارا الموت فقبضهما.
كذلك خواص المؤمنين من الأولياء يردّدهم إليهم ؛ ليصلوا إلى الموت ، ويحبوا لقاء
المولى) انتهى.
وحادي
عشرها : ما ذكره بعض
علمائهم أيضا ، وهو (أن المعنى : ما رددت الأعلال والأمراض ، والبر واللطف والرفق
، حتّى يرى بالبر عطفي وكرمي ، فيميل
__________________
إلى لقائي طمعا ، وبالبلاء والعلل فيتبرّم بالدنيا ولا يكره الخروج منها) انتهى.
وثاني
عشرها : ما خطر بالبال
العليل والفكر الكليل ، وهو أنه يحتمل أن يراد بذلك الإشارة إلى ما في لوح المحو
والإثبات من المعلومات المنوطة بالأسباب والشروط نفيا وإثباتا ؛ فإنه أشبه شيء
بالتردّد ؛ فإنه متى كتب فيه : إن عمر زيد مثلا خمسون سنة إن وصل رحمه ، وثلاثون
سنة إن قطعه ، فهو في معنى التردّد في قبض روحه بعد الخمسين أو الثلاثين. وهكذا
سائر المعلومات المكتوبة فيه المعلقة على الشروط نفيا وإثباتا. فيكون المعنى : أنه
لم يقع مني في لوح المحو والإثبات محو وإثبات أزيد مما وقع بالنسبة إلى قبض روح
عبدي المؤمن.
المقام
الثاني : في الجواب عن
الإشكال الثاني. وقد ذكر مشايخنا ـ عطر الله مراقدهم ـ في الجواب عنه وجوها منها ما أفاده
شيخنا بهاء الملة والحق والدين ـ طيب الله تعالى مضجعه ـ في كتاب (الأربعون) حيث
قال في شرح الخبر المذكور ما صورته : (لأصحاب القلوب في هذا المقام كلمات سنية ،
وإشارات سرية ، وتلويحات ذوقية ، تعطر مشامّ الأرواح وتحيي رميم الأشباح ، ولا
يهتدي إلى معناها ولا يطلع على مغزاها إلّا الذي تعب في الرياضات وعنّى نفسه
بالمجاهدات ، حتى ذاق مشربهم ، وعرف مطلبهم. وأما من لم يفهم تلك الرموز ، ولم
يهتد إلى تلك الكنوز ؛ لعكوفه على الحظوظ الدنية ، وانهماكه في اللذات البدنية ، فهو عند
سماع تلك الكلمات على خطر عظيم من التردي في غياهب الإلحاد ، والوقوع في مهاوي
الحلول والاتحاد ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ونحن نتكلم في هذا المقام بما
يسهل تناوله على الأفهام ، فنقول : هذا
__________________
مبالغة في القرب ، وبيان لاستيلاء سلطان المحبة على ظاهر العبد وباطنه ،
وسره وعلانيته. فالمراد ـ والله أعلم ـ : أني إذا أحببت عبدي جذبته إلى محل الانس
، وصرفته إلى عالم القدس ، وصيرت فكره مستغرقا في أسرار الملكوت ، وحواسّه مقصورة
على اجتلاء أنوار الجبروت ، فتثبت حينئذ قدمه ويمتزج بالمحبّة لحمه ودمه ، إلى أن
يغيب عن نفسه ويذهل عن حسه ، فتتلاشى الأغيار في نظره حتى أكون [له] بمنزلة سمعه
وبصره ، كما قال من قال :
جنوني فيك لا
يخفى
|
|
وناري فيك لا
تخبو
|
فأنت السمع
والأبصا
|
|
ر والأركان
والقلب)
|
انتهى كلامه ،
علا في الفردوس مقامه.
قال بعض
الأفاضل الأعلام بعد نقل هذا الكلام : (أقول : هذا قريب مما نقل عن صاحب (الشجرة
الإلهية) أنه قال : كما أن النفس في حال التعلق بالبدن يتوهم أنها هو وأنها فيه
وإن لم تكن هو ولا فيه ، فكذلك النفس إذا فارقت البدن وقطعت تعلقها من شدة قوتها
ونوريتها وعلاقتها العشقية مع نور الأنوار والأنوار العقلية تتوهم أنها هي فتصير
الأنوار مظاهر النفوس المفارقة ، كما كانت الأبدان أيضا. فهذا هو معنى الاتّحاد لا
صيرورة الشيئين شيئا واحدا ؛ فإنه باطل) انتهى.
ومنها ما ذكره الفاضل المحقق الملّا محمد صالح المازندراني في
(شرح اصول الكافي) ، حيث قال : (والذي يخطر بالبال على سبيل الاحتمال أني إذا
أحببته كنت كسمعه الذي يسمع به وكبصره إلى آخره في سرعة الإجابة ، وقوله : «إن دعاني أجبته» إشارة إلى وجه التشبيه ، يعني : أني أجيبه سريعا إن دعاني
إلى مقاصده ، كما يجيبه سمعه عند إرادته سماع المسموعات ، وبصره عند إرادته
__________________
إبصار المبصرات وهكذا. وهكذا قول الناس المعروف بينهم : (فلان نور عيني) و :
(نور بصري) و : (يدي وعضدي) ، وإنما يريدون التشبيه في معنى من المعاني المناسبة
للمقام ، ويسمون هذا تشبيها بليغا بحذف الأداة ، مثل (زيد أسد). ويمكن أن يكون فيه
تنبيه على أنه عزوجل هو المطلوب لهذا العبد المحبوب عند سمعه المسموعات وبصره
المبصرات وهكذا ، يعني منّي يسمع المسموعات وبها يرجع إليّ ، والمقصود أنه يبتدئ
بي في سماع المسموعات ، وينتهي إلي فلا يصرف شيئا من جوارحه فيما ليس فيه رضاي.
وإليه أشار بعض الأولياء بقوله : ما رأيت شيئا وإلّا ورأيت الله قبله) انتهى.
ومنها ما نقل من المحدث الكاشاني في بعض تعليقاته حيث قال : (والذي
يخطر ببالي القاصر أن معنى «كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به
ويده التي يبطش بها» إلى آخره : أن العبد إذا ائتمر بالأوامر وانزجر بالنواهي ، كان بمنزلة من
لا يسمع شيئا إلّا ما أمر ربه بالسماع ، ولا يبصر ببصره شيئا إلّا ما أمر ربه
بالرؤية ، ولا تأخذ يده شيئا إلّا ما أمر ربه بالأخذ ، فكان العبد كالشخص المقرب
عند ملك عظيم الشأن يكون فعله فعل الملك من غاية قربه وإطاعته ، والله عزّ شانه
منزه عن السمع والبصر واليد والحلول والاتحاد تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. فإذا
كان العبد راسخا في الإطاعة لله سبحانه يكون سمع العبد كأنه سمع الله ،
وما رأى كأنه رؤية الله ، وما بطش كأنه بطش الله لغاية امتثاله وانزجاره ، فمثله
كمثل الملك يأمر بضرب أحد وإهانته ، أو إعطاء أحد وكرامته ، والذي يضرب ويهين غير
الملك ، وكذا من يعطي ويكرم غيره.
ويقال في العرف
: إن الملك ضرب فلانا وأهانه ، وأعطى فلانا وأكرمه ، فكأن
__________________
فعل الضارب والمعطي فعله) انتهى.
أقول
: ويشبه أن يكون
هذا النقل عن المحدث الكاشاني وقع اشتباها وسهوا ، فإنه لا يشبه مشربه في أمثال
هذه المقامات ، كما لا يخفى على من لاحظ كلامه في جلّ الأخبار
المجملات والمتشابهات الواردة من هذا القبيل ، كيف وقد قال في كتاب (اصول الوافي)
في ذيل هذا الخبر ما صورته : (وأما معنى التقرب إلى الله ومحبة الله للعبد وكون
الله سمع المؤمن وبصره ولسانه ويده ، ففيه غموض لا تناله أفهام الجمهور ، قد أودعناه في كتابنا
الموسوم ب (الكلمات المكنونة) ـ وإنما يرزق فهمه من كان من أهله) انتهى.
ومنها ما نقله بعض الافاضل من أن المعنى لا يسمع إلّا بحق ولا
ينظر إلّا بحق وإلى حق ، ولا يبطش إلّا بإذن الحق ، ولا يمشي إلّا إلى
ما يرضى به الحقّ ، وهو الحق الموالي والمؤمن حقا الذي راح عنه كل باطل وصار مع
الحق واقفا.
تتمّة
مهمّة : في الجمع بين حديث الباب و: حبّ الله حبّ لقائه
قال شيخنا
البهائي ـ نوّر الله تربته ـ في كتاب (الأربعون الحديث) : (قد يتوهم المنافاة بين
ما دلّ عليه هذا الحديث وأمثاله من أن المؤمن الخالص يكره الموت ويرغب في الحياة ،
وبين ما ورد عن النبي صلىاللهعليهوآله : «من
أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» ، فإنه يدل بظاهره على أن المؤمن الحقيقي لا يكره الموت
، بل يرغب فيه ، كما نقل عن أمير المؤمنين عليهالسلام أنه كان يقول : إن
__________________
«ابن
أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه» ، وأنه قال حين ضربه ابن ملجم لعنه الله : «فزت ورب الكعبة» .
وقد أجاب عنه
شيخنا الشهيد في (الذكرى) فقال : (إن حب لقاء الله غير مقيد بوقت ، فيحمل على حال
الاحتضار ومعاينته ما يحب كما روينا عن الصادق عليهالسلام ، ورووه في الصحاح عن النبي صلىاللهعليهوآله أنه قال : «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء
الله كره الله لقاءه». قيل : يا رسول الله صلىاللهعليهوآله ، إنا نكره الموت.
فقال : «ليس ذلك ، ولكن
المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته ، فليس شيء أحب إليه مما أمامه.
فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه ، وإن الكافر إذا حضره الموت بشر بعذاب الله فليس
شيء أكره إليه مما أمامه ، كره لقاء الله فكره الله لقاءه» انتهى.
وقد يقال : إن
الموت ليس نفس لقاء الله ، فكراهته من حيث الألم الحاصل منه لا يستلزم كراهة لقاء
الله ، وهذا ظاهر. وأيضا فحب الله سبحانه ، يوجب الاستعداد التام للقائه وكثرة
الأعمال الصالحة ، وهو يستلزم كراهة الموت القاطع لها) انتهى كلام
شيخنا المذكور ، توجّه الله تعالى بتاج من النور.
أقول
: ويمكن أيضا أن
يقال : إن كراهة المؤمن الموت إنما هو من حيث خوف المؤاخذة بما صدر منه من الذنوب
والمعاصي ، كما يشعر به بعض الأخبار ، وهو لا ينافي حب لقاء الله من حيث إنه
لقاؤه. ولهذا أن المعصومين الذين لم يقارفوا
__________________
الذنوب ولم يتدنسوا بالعيوب يشتاقون إلى الموت ويفرحون به ؛ لما يعلمونه
يقينا من علوّ المنزلة لهم والدرجات ، والتنعّم بنعيم الجنّات ، والسلامة من سجن
الدنيا المملوءة بالآفات والمخافات ، كما نقله قدسسره عن الأمير ـ صلوات الله عليه ـ من الخبرين المتقدّمين.
ومثلهما ما روي عنه عليهالسلام أنه قال لابنه الحسن عليهالسلام : «يا
بني ، لا يبالي أبوك أعلى الموت وقع أو وقع الموت عليه» .
ومن ثم إن
اليهود لما ادّعوا أنهم أحباء الله خاطبهم بقوله (فَتَمَنَّوُا
الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فإن الحبيب يتمنى لقاء حبيبه ويفرح به. فعلى هذا يفرق في هذا
المقام بين المعصومين ومن الحق بهم ، وبين غيرهم من الأنام.
وبالجملة ،
فكراهة المؤمن الموت من حيث ذلك لا ينافي حب لقاء الله من حيث إنه لقاؤه ، والله
العالم.
__________________
__________________
(١٥)
درّة نجفيّة
في العبادة المقبولة
والمجزئة
قال شيخنا
البهائي ـ عطر الله مرقده ـ في كتاب (الأربعون) في شرح الحديث الثلاثين المتضمن
لعدم قبول صلاة شارب الخمر أربعين يوما ما صورته : (لعل المراد بعدم قبول صلاة شارب الخمر
أربعين يوما ، عدم ترتب الثواب عليها في تلك المدة ، لا عدم إجزائها فإنها مجزية
اتّفاقا ، فهو يؤيد ما يستفاد من كلام السيد المرتضى علم الهدى ـ أنار
الله برهانه ـ من أن قبول العبادة أمر مغاير للإجزاء.
فالعبادة
المجزئة : المبرئة للذمّة المخرجة عن عهدة التكليف ، والمقبولة : هي ما يترتّب
عليها الثواب ، ولا تلازم بينهما ولا اتّحاد كما يظن.
ومما يدل على
ذلك : قوله تعالى (إِنَّما يَتَقَبَّلُ
اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) مع أن عبادة غير المتّقين مجزئة إجماعا.
وقوله تعالى
حكاية عن إبراهيم وإسماعيل عليهماالسلام (رَبَّنا تَقَبَّلْ
مِنّا) مع أنهما لا يفعلان غير المجزي.
وقوله تعالى (فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ
مِنَ الْآخَرِ) مع أن كليهما فعل
__________________
ما امر به من القربان.
وقوله صلىاللهعليهوآله : «إن
من الصلاة لما يتقبل نصفها وثلثها وربعها ، وإن منها لما تلف كما يلف الثوب فيضرب
بها وجه صاحبها» .
والتقريب ظاهر.
ولأن الناس لم
يزالوا في سائر الأعصار والأمصار يدعون الله تعالى بقبول أعمالهم بعد الفراغ منها
، ولو اتّحد القبول والإجزاء لم يحسن هذا الدعاء إلّا قبل الفعل.
فهذه الوجوه
الخمسة تدل على انفكاك الإجزاء عن القبول. وقد يجاب عن الأول : بأن التقوى على
ثلاث مراتب :
أولها
: التنزه عن
الشرك ، وعليه قوله تعالى (وَأَلْزَمَهُمْ
كَلِمَةَ التَّقْوى) ، قال المفسرون : هي لا إله إلّا الله .
وثانيها
: التجنب عن
المعاصي.
وثالثها
: التنزه عما
يشغل عن الحق جلّ وعلا.
ولعلّ المراد
بالمتّقين : أصحاب المرتبة الاولى ، وعبادة غير المتّقين بهذا المعنى غير مجزئة.
وسقوط القضاء ؛ لأن الإسلام يجب ما قبله.
وعن
الثاني بأن السؤال قد
يكون للواقع ، والغرض منه بسط الكلام مع المحبوب ، وعرض افتقار له ، كما قالوه في قوله (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ
أَخْطَأْنا) على بعض الوجوه.
__________________
وعن
الثالث : بأنه يعبر
بعدم القبول عن عدم الإجزاء ، ولعله لخلل في الفعل.
وعن
الرابع : أنه كناية عن
نقص الثواب وفوات معظمه.
وعن
الخامس : أن الدعاء
لعله لزيادة الثواب وتضعيفه.
وفي النفس من
هذه الأجوبة شيء. وعلى ما قيل في الجواب الرابع نزل عدم قبول صلاة شارب الخمر عند
غير السيد المرتضى رضياللهعنه) انتهى كلامه ، زيد إكرامه ، وعلا في الفردوس مقامه.
ويظهر منه
الميل إلى ما ذهب إليه السيد المرتضى رضياللهعنه في هذه المسألة حيث استدل بهذه الأدلة الخمسة ، وطعن
فيما ذكره من الأجوبة عنها بأن في النفس منها شيئا.
أقول
: ومظهر الخلاف
في هذه المسألة يقع في مواضع منها صلاة شارب الخمر كما صرّح به في
الخبر المذكور ، ومنها صلاة من لم يقبل بقلبه على صلاته كما صرّحت به جملة من الأخبار من أنه
لا يقبل منها إلّا ما أقبل عليه بقلبه ، ومنها عبادة غير المتقي كما يعطيه ظاهر الآية
المتقدمة .
وأما عد صلاة
المرائي من ذلك القبيل كما ذكره السيد قدسسره ، بل جعلها لهذه المسألة كالأصل الأصيل حتى فرّعوا
عليها هذه الأفراد المذكورة ، وجعلوها من جملة جزئياتها المشهورة ، فسيتّضح لك ما
فيه مما يكشف عن باطنه وخافيه. هذا والذي يظهر لي هو القول باستلزام الإجزاء
للقبول كما هو المرتضى عند جلّ
__________________
أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ والمقبول. ولنا عليه وجوه ، منها أن الصحة
المعبّر هنا بالإجزاء إما أن تفسّر بما هو المشهور ـ وهو الظاهر المنصور ـ من أنها
عبارة عن موافقة الأمر وامتثاله ، وحينئذ فلا ريب أن ذلك يوجب الثواب ؛ وعلى هذا
فالصحة مستلزمة للقبول أو تفسّر بمعنى ما أسقط القضاء ، كما هو المرتضى عند
المرتضى .
وفيه أنه يلزم
القول بترتّب القضاء على الأداء ، وهو خلاف ما يستفاد من الأخبار ، وما صرّح به
غير واحد من علمائنا الأبرار من أن القضاء بأمر جديد ، ولا ترتّب له على الأداء .
ومنها أن الظاهر أنه لا خلاف بين كافة العقلاء في أن السيد
إذا أمر عبده أمرا إيجابيا بعمل من الأعمال ، ووعده الأجر على ذلك العمل فامتثل
العبد ما أمره به مولاه ، فإنه يجب على السيّد قبوله منه ، والوفاء بما وعده. فلو
أنه رده عليه ولم يقبله ومنعه الأجر الذي وعده مع أنه لم يخالف شيئا مما أمره
به ، فإنهم لا يختلفون في لومه ونسبته إلى خلاف العدل سيما إذا كان السيد ممن يصف
__________________
__________________
نفسه بالعدل والإكرام ، ويتمدّح بالفضل والإنعام.
وما نحن فيه
كذلك ؛ إذ الفرض أن المكلف لم يخلّ بشيء يوجب الإبطال ، ولم يأت بمناف يوجب
الإخلال.
فإن
قيل : إنه قد أخل
فيها بالإقبال الذي هو روح العبادة ، كما ورد من أنه لا يقبل منها إلّا ما أقبل
عليه بقلبه ، فربما قبل نصفها أو ربعها أو نحو ذلك.
قلنا
: لا ريب أن
الأمر بالإقبال والتوجه والخشوع إنما هو أمر استحبابي ، وكلامنا الذي عليه بني
الاستدلال إنما هو في الأمر الإيجابي ؛ فلا منافاة. وأما الأخبار المذكورة فيجب
تأويلها بما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ومنها أنا نقول : إن عدم القبول مستلزم لعدم الصحة ، وذلك فإنه لا يخلو
إما أن يراد بعدم القبول : الرد بالكلية ، وعود العمل إلى مصدره كما كان قبل الفعل
، ويكون كأنه لم يفعل شيئا بالمرة. ولا ريب أن هذا مناف للصحة ، إذ هي نوع من
القبول لإسقاطها التكليف الثابت في الذمة بيقين ، فكيف يعود العمل إلى مصدره كما
كان أولا؟ وإما بأن يراد به : إيقاف العمل على المشيئة واحتباسه حتى يحصل له مكمل
فيقبل ، أو محبّط فيرد ؛ نظرا إلى ما ورد من احتباس صلاة مانع الزكاة حتّى يزكّي ونحوه . فهو مناف
للصحة عند التحقيق والتأمل بالنظر الصائب الدقيق ؛ لأن الاحتباس والإيقاف لا
يكون إلّا لوجود مانع من القبول بالفعل أو فقد شرط ، وعندهما تنتفي الصحة لما عرفت
من أنها نوع من القبول ، وقد فرضنا انتفاءه ، هذا خلف.
__________________
أما لو فرض
القبول بعد الإيقاف والاحتباس ، فإنما هو تفضل ابتدائي غير مستند إلى صحّة العمل ،
وإلّا لم يكن للإيقاف والاحتباس فإنما هو تفضل ابتدائي غير مستند إلى صحة العمل
وإلّا لم يكن للإيقاف والاحتباس معنى. وهذا كما جاء في كثير من الأخبار [من] قبول أعمال الناصب بعد رجوعه إلى القول بالولاية.
وحينئذ ، فيجب
حمل عدم القبول الوارد في صلاة من لم يقبل على صلاته كلا أو بعضا ، والوارد في
صلاة شارب الخمر ، وكذا في صلاة غير المتقي على عدم القبول الكامل ، بمعنى : عدم
ترتّب الثواب الموعود به من أقبل على صلاته ، ومن ترك شرب الخمر ، ومن اتقى الله
تعالى أو السالم عن معارضة المعاصي التي توجب من العذاب ، مثل ما يوجبه قبول العمل
من الثواب ، حتى يصير العمل عند الموازنة كأنه لم يفعل. ثم إنه يحتمل أيضا حمل
حديث شارب الخمر على أنه لا يوفق ـ مع عدم الإتيان بالتوبة النصوح ـ إلى الإتيان
بصلاته كاملة الشرائط خالية من الموانع في تلك المدة.
ونقل بعض
مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين بالنسبة إلى قوله سبحانه (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) أنه قد ورد الخبر بطرق عديدة عن أهل البيت عليهمالسلام ، أن المراد بالمتقين في الآية : هم «الموحدون من الشيعة». وحينئذ ، فالمعنى أن غير الموحدين من الشيعة لا يجب
على الله تعالى القبول منهم ؛ لعدم إتيانهم بشرائط الصحة والقبول من العقائد الحقة
، وأنه إن قبلت أعمالهم بعد الإنابة والتوبة فإنما هو تفضّل منه سبحانه. وربما ورد
جزاؤهم على الأعمال ،
__________________
وهو محمول على الجزاء المنقطع العاجل دون الثواب المتّصل الآجل.
ومنها أنه لا
خلاف بين أصحاب القولين المذكورين في أن العبادة المتصفة بالصحة والإجزاء مسقطة
للعقاب الموعود به تارك العبادة. ولا ريب أن إسقاطها العقاب مستلزم للقبول ؛ إذ لو
لم يقبل لكان صاحبها باقيا تحت العهدة ، وكان مستحقا للعقاب بلا ارتياب ؛ إذ
المفروض أن سقوط العقاب إنما استند إليها لا إلى التفضّل منه تعالى.
فإن قيل : إن
القبول إنما هو عبارة عن الجزاء عليها بالثواب.
قلنا : متى ثبت
استلزام سقوط العقاب للقبول ـ بمعنى أن الشارع إنما أسقط عن المكلف العقاب
والمؤاخذة ؛ لقبوله لها ـ ترتب عليها الثواب البتة.
هذا ، وأما ما
ذكره قدسسره من الوجوه الخمسة ، فقد عرفت الجواب عن أكثرها بما
ذكرناه في الوجه الثالث.
بقي الكلام في
الدليل الثالث من أدلته ، وهو قوله (فَتُقُبِّلَ مِنْ
أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ).
والجواب عنه هو
ما ذكره ـ طاب ثراه ـ وهو جواب عار عن وصمة النقض والإيراد مؤيدا بأخبار السادة الأمجاد ـ عليهم
صلوات رب العباد ـ فإنها قد تضمنت أن هابيل كان صاحب ماشية فعمد إلى أسمن كبش في ضأنه فقربه
، وقابيل كان صاحب زرع فقرب من شرّ زرعه ضغثا من سنبل .
قال المحدث
الكاشاني ـ عطر الله مرقده ـ في تفسيره (الصافي) بعد ذكر قوله سبحانه (فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما) ما لفظه : (لأنه رضي بحكم الله ، وأخلص النية له ،
__________________
وعمد إلى أحسن ما عنده ، وهو هابيل).
وقال بعد قوله (وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) ما لفظه : (لأنه سخط أمر الله ، ولم يخلص النية في
قربانه ، وقصد إلى أخسّ ما عنده ، وهو قابيل) انتهى.
وبذلك يتضح لك
أن الجواب المذكور عار عن وصمة القصور.
وحينئذ ،
فيحتمل ـ والله سبحانه أعلم ـ أن المراد بقوله (إِنَّما يَتَقَبَّلُ
اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) يعني المخلصين في ذلك العمل ، القاصدين به وجهه سبحانه.
وعلى هذا فلا دلالة في الآية على ما ادّعاه قدسسره ؛ إذ العمل متى كان غير خالص لوجهه تعالى فهو غير مجز
ولا صحيح ، فضلا عن أن يكون مقبولا كما سيتضح لك في آخر هذه المقالة بأوضح دلالة.
ولو أريد بالمتقين في الآية : هو من لم يكن فاسقا مطلقا للزم منه بطلان عبادة
الفاسق وإن اشتملت على شرائط الصحة والقبول ما عدا التقوى. وحينئذ ، فلا تقبل إلّا
عبادة المعصوم أو من قرب من درجته ، وهم أقل قليل ؛ إذ قلّما ينفك من عداهم عن
الذنوب.
قال شيخنا أبو
علي الطبرسي قدسسره في تفسيره (مجمع البيان) بعد ذكر الآية المذكورة : (واستدل
بهذا على أن طاعة الفاسق غير متقبلة ، لكنها تسقط عقاب تركها. وهذا لا يصحّ ؛ لأن
المعنى أن الثواب إنما يستحقه من يوقع الطاعة لكونها طاعة ، فإذا فعلها لغير ذلك
لا يستحق عليها ثوابا ، ولا يمتنع على هذا أن يقع من الفاسق طاعة يوقعها على الوجه
الذي يستحق عليها الثواب فيستحقه) انتهى.
وهو صريح فيما
قلناه ، ومؤيّد لما ادّعيناه.
هذا ، والذي ما
زال يختلج بالخاطر الفاتر ، ويدور في الفكر القاصر ـ وإن لم يسبق إليه سابق في
المقام ، ولم يسنح لأحد من علمائنا الأعلام ـ هو أن الخلاف
__________________
في هذا المجال ، والإشكال فيما اورد من الاستدلال المحوج إلى ارتكاب جادة
التأويل والاحتمال إنما يجري على تقدير كون الثواب منه تعالى ، والجزاء على
الأعمال استحقاقيّا للعبد ، كما هو ظاهر المشهور بين أصحابنا ، رضوان الله عليهم.
بمعنى أن العبد يستحق منه سبحانه ثواب ما عمله من العبادة ، لكن هل يترتب ذلك على
مجرد الصحة كما هو القول المشهور وإن تفاوت قلة وكثرة باعتبار الإقبال وعدمه
والتقوى مثلا [وعدمهما] ، أو لا يترتب إلّا على ما اقترن بالإقبال والتقوى مثلا
ونحوهما كما هو القول الآخر لا على تقدير كونه تفضلا منه سبحانه كما هو ظاهر جمع
منهم أيضا؟ فإنه على هذا القول يضمحل الإشكال ، ويزول عن وجوه تلك الأدلة غبار
الاختلال ، ولا يحتاج إلى ارتكاب التأويل فيها والاحتمال.
وحينئذ ، فما
ورد من أن صلاة شارب الخمر لا تقبل أربعين يوما يعني : لا يكون أهلا للتفضل منه
سبحانه عليه بالثواب ضمن هذه المدة ، وكذا من لم يقبل على عبادته كلّا أو بعضا ؛
فإنه لا يكون أهلا للتفضل فيما أخلّ فيه بالإقبال.
ومثلهما عبادة
غير المتقي.
ويتوجه حينئذ
صحة الدعاء بالقبول بعد الفراغ من العبادة ؛ فإنه لما كان القبول والجزاء بالثواب
غير واجب عليه سبحانه ، بل إن شاء أعطى وإن شاء منع ، حسن الدعاء منه بالقبول ،
وحصول الثواب ، واتّجه التبتّل إليه والرغبة في هذا الباب.
وعلى هذا القول
يدلّ كثير من أدعية (الصحيفة السجادية) ـ على من وردت عنه أفضل صلاة وتحية ـ منها
: قوله عليهالسلام في دعاء الاعتراف وطلب التوبة : «إذ جميع
__________________
إحسانك تفضّل ، وإذ كل نعمك ابتداء» .
قال العلّامة
الحبر العماد المير محمد باقر الداماد ـ طيب الله مرقده ـ في شرح هذا الكلام ، على
ما نقله عنه الفاضل المحدث السيد نعمة الله قدسسره في (شرح الصحيفة) ما صورته : (إذ قاطبة ما سواك مستند
إليك بالذات أبد الآباد مرّة واحدة دهرية خارجة عن إدراك الأوهام لا على شاكلات المرّات
الزمانية المألوفة للقرائح الوهمانية. فطباع الإمكان الذاتي ملاك الافتقار إلى
جدتك ومناط الاستناد إلى هبتك ، فكما أن النعم والمواهب فيوض جودك ورحمتك ، فكذلك
الاستحقاقات والاستعدادات المترتّبة في سلسلة الأسباب والمسببات مستندة جميعا إليك
وفائضة بأسرها من تلقاء فياضتك ) انتهى.
ثم قال ذلك
الفاضل المحدث بعد نقله : (وهو كلام حسن رشيق).
ثم نقل عن
الفاضل المحقق الآقا حسين الخونساري قدسسره أنه قال أيضا في هذا المقام : (الحكم بأن الإحسان
والنعم كلّها تفضّل ؛ إما بناء على أن المراد منها : الأكثر ، وإما على أن المراد
منها : ما يكون في الدنيا ؛ لأن بعض النعم الاخرويّة الاستحقاق ، وإما بناء على أن
استحقاق بعض النعم لمّا كان متوقفا على الأعمال الحسنة ، وهي متوقفة على الوجود
والقدرة وسائر الآلات ، وهي منه تعالى ، فكأن النعم والإحسان كله تفضل) انتهى.
أقول : هذا
الكلام منه قدسسره بناء على القول المشهور ؛ فلذا ارتكب في العبارة
التأويل المذكور.
ثم قال ذلك
الفاضل المحدث بعد نقل هذا الكلام : (والظاهر من ممارسة
__________________
الأخبار والأدعية المأثورة عنهم عليهمالسلام أن الإحسان الدنيويّ والاخرويّ وسائر المثوبات كلها
تفضل منه تعالى.
نعم ، قد تفضل
سبحانه بأن جعل شيئا من الثواب في مقابلة الأعمال ، ولو كافأنا حقيقة لذهبت
أعمالنا كلّها بالصغرى من أياديه . روي أن عابدا من بني إسرائيل عبد الله تعالى خمسمائة
سنة صائما قائما ، وقد أنبت الله له شجرة رمان على باب الغار يأكل منها كل يوم
رمانة واحدة. فإذا كان يوم القيامة وضعت تلك العبادة كلّها في كفة من الميزان ،
ووضعت في الكفة الاخرى رمانة واحدة فترجح تلك الرمانة على سائر تلك الأعمال.
ولو لم يكن في
استظهار هذا الكلام إلّا مكافأته الحسنة بعشر أمثالها ، لكفى في صحته ما ادعيناه)
انتهى كلامه ، علا في الفردوس مقامه.
وحينئذ ، فغاية
ما توجبه العبادات إذا خلت من المبطلات هو سقوط القضاء والمؤاخذة عن فاعلها ، وهو
معنى الصحة والإجزاء فيها. وأما القبول بمعنى ترتب الثواب عليها ، فهو تفضل منه
سبحانه ، إلّا إنه ـ بمقتضى تلك الأدلّة التي استند إليها ذلك القائل ـ قد ناط
سبحانه التفضل ببعض الشروط ، مثل الإقبال ، والتقوى ، وترك شرب الخمر ، ونحو ذلك
مما وردت به الأخبار. وظني أن تلك الأخبار إنما خرجت عنهم عليهمالسلام ، بناء على هذا القول المذكور ، وإلّا فلو كان الثواب
أو القبول استحقاقيا كما هو القول المشهور للزم الإشكال فيها والمحذور ، واحتيج
إلى التأويل فيها كما عليه الجمهور ؛ لمعارضتها بما ذكرنا من الأدلة الواضحة
الظهور.
هذا وما ذكره
علم الهدى قدسسره من القول بصحّة عبادة المرائي وإسقاطها القضاء ، وإن
كانت غير مقبولة بناء على الفرق بين الصحة والقبول كما نقله عنه جمع من
__________________
الفحول ، فهو ليس بمسموع ولا مقبول ، كما لا يخفى على من لاحظ الآيات القرآنية
المتعلقة بالمقام ، والأخبار الواردة في ذلك عن أهل العصمة عليهمالسلام ؛ فإن كثيرا من الآيات القرآنية والمحكمات السبحانية قد
تضمنت وجوب الإخلاص في العبادة كقوله سبحانه :
(فَادْعُوا اللهَ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) .
(قُلِ اللهَ أَعْبُدُ
مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) .
(وَما أُمِرُوا إِلّا
لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) .
(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ
أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) .
إلى غير ذلك من
الآيات الدالة على وجوب الإخلاص والتنزّه عن الشرك في العبادة والإخلاص.
ومن الأخبار
الواردة في المقام قول الصادق عليهالسلام في خبر ابن القداح لعباد بن كثير البصري : «ويلك يا عباد ، إياك
والرياء ، فإنه من عمل لغير الله وكّله الله إلى من عمل له» .
ومثله خبر محمد
بن عرفة عن الرضا عليهالسلام في خبر يزيد بن خليفة عن الصادق عليهالسلام أن «كل
رياء شرك» .
إلى غير ذلك من
الأخبار التي طويناها على غيرها ، وأعرضنا ـ خوف التطويل ـ عن نشرها.
وحينئذ ، فكيف
يتّجه القول بصحة عبادة المرائي وإسقاطها القضاء؟ وكيف
__________________
تسقط العبادة الثابتة في الذمة يقينا بغير جنسها وإن تحلى بصورتها ، أو
تتأدّى الطاعة بجعلها لباسا وقالبا لضرّتها؟ وبذلك يظهر لك أن هذا الفرد لا يكون
من جزئيات هذه المسألة ، كما أشرنا إليه في صدر المقالة ، وأوضحنا ذلك هنا بأوضح
دلالة وإن غفل عن ذلك الكثير من الأصحاب ، فعدّوا هذا الفرد المذكور من هذا الباب
، والله سبحانه الهادي إلى جادّة الصواب.
(١٦)
درّة نجفيّة
في تحقيق مسألة وحدانية
العدد
قال زين
العبّاد ـ عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه المعصومين صلوات
ربّ العباد ـ في (الصحيفة السجّادية) في دعاء التضرع : «لك يا إلهي وحدانية
العدد» ، وهذه الفقرة
من مشكلات (الصحيفة السجّادية) ؛ لما علم عقلا ونقلا من نفي الوحدة العددية عنه
تعالى ؛ لأن حقيقتها العدد ، ومعروضها هويات عالم الإمكان. فهي قصارى الممكن
بالذات ، وإنما يطلق عليه تعالى الوحدة الحقيقية.
وممّا يدل على
ذلك قول أمير المؤمنين عليهالسلام في خطبته : «الواحد
بلا تأويل عدد» .
وفي خطبة اخرى
: «واحد لا
بعدد ، قائم لا بأمد» .
ومن ذلك ما
رواه الصدوق قدسسره في كتابي (التوحيد) و (الخصال) بسنديه فيهما عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إن أعرابيا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين عليهالسلام فقال :
__________________
يا أمير المؤمنين ، أتقول : إن الله واحد؟
قال : فحمل
الناس عليه وقالوا : يا إعرابي ، ما ترى ما فيه أمير المؤمنين عليهالسلام من تقسم القلب؟ فقال أمير المؤمنين عليهالسلام : دعوه فإن الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من
القوم. ثم قال : يا أعرابي ، إن القول في أن الله واحد على أربعة أقسام : فوجهان منها
لا يجوزان على الله عزوجل ، ووجهان يثبتان فيه :
فأمّا اللذان
لا يجوزان عليه ، فقول القائل : واحد يقصد به باب الأعداد ، فهذا ما لا يجوز ؛ لأن
ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد. أما ترى أنه كفر من قال (ثالِثُ ثَلاثَةٍ) ؟ وقول القائل : هو واحد من الناس يريد به النوع من
الجنس ، فهذا ما لا يجوز ؛ لأنه تشبيه ، وجل ربنا تعالى عن ذلك.
وأما الوجهان
اللذان يثبتان فيه ، فقول القائل : هو واحد ليس له في الأشياء شبيه ، وكذلك ربنا ،
وقول القائل : إنه عزوجل أحديّ المعنى ، يعني به : أنه لا ينقسم في وجود ولا عقل
ولا وهم ، كذلك ربنا عزوجل».
ولنتكلم أولا
فيما تضمّنه هذا الخبر الشريف ، ونوضّح ما اشتمل عليه من المعنى المنيف ، فنقول :
اعلم أنهم قد ذكروا أن الواحد يطلق على معان :
أحدها ـ وهو المشهور المتعارف بين الناس ـ : كون الشيء مبدأ
لكثرة عادا لها. والمتصور لأكثر أهل العلم صدق هذا الاعتبار على الله ، بل لا
يتصور بعضهم كونه تعالى واحدا إلّا بهذا المعنى.
وثانيها
: أن يكون بمعنى
جزء من الشيء ، كما يقال : الرجل واحد من القوم ، أي فرد من أفرادهم.
__________________
وعلى هذين
المعنيين اقتصر أهل اللغة.
وثالثها
: أن يقال لما
يشاركه في حقيقته الخاصة به غيره.
ورابعها
: أن يقال لما
لا تركيب في حقيقته ولا تألف من معان متعددة لا أجزاء قوام ولا
أجزاء حدّ.
وخامسها
: أن يقال لما [لم]
يفته من كماله شيء ، بل كل كمال ينبغي أن يكون له ، فهو حاصل له بالفعل.
وهذه المعاني
الثلاثة نقلها العالم الرباني كمال الدين ميثم البحراني قدسسره في (شرح نهج البلاغة) . ولا ريب أنه
تعالى واحد بهذه الثلاثة دون الأوّلين.
أمّا
أوّلهما : فلأنه لا
يتأتّى و لا يطلق إلّا في مقام يكون هناك ثان أو أزيد.
وأما
ثانيهما : فإنه لا يطلق
إلّا في مقام يكون له ثمّة مشارك يندرج معه تحت كلّيّ ، ويلزم من كونه واحدا من
ذلك الجنس مشابهته لغيره من الأفراد التي اندرج معها. فمن أجل ذلك نفى عليهالسلام عنه المعنى الأوّل ؛ لاستلزامه وجودا ثانيا له ، وهو
سبحانه لا ثاني له ؛ ولهذا قال عليهالسلام : «لأن
ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد». وأثبت كفر من قال (ثالِثُ ثَلاثَةٍ) ؛ لكونه جعله واحدا عدديا باعتبار ما ضم إليه من
الآخرين.
ونفى عليهالسلام أيضا المعنى الثاني ؛ لاستزام وجود شبيه له من تلك
الأفراد المندرجة معه ، كما إذا قيل : «هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس» ، فإنه يستلزم مشابهته لبقية أفراد الناس.
وقوله ـ صلوات
الله عليه ـ : «يريد به
النوع من الجنس» يحتمل وجهين :
__________________
أحدهما
: أنه أراد
بالنوع : الصنف ، وبالجنس : فإن النوع يطلق لغة على الصنف ، كما يطلق الجنس على
النوع أيضا ، فيكون المراد : أنه يريد به صنفا من النوع ، فإذا قيل لرومي مثلا :
هذا واحد من الناس بهذا المعنى ، يراد : أنه صنف من أصناف الناس ، أو صنف هذا من
أصناف الناس.
ويحتمل أن يراد
بكل من النوع والجنس : معناه المتبادر ، ويكون الضمير في «به» من قوله : «يريد به» راجعا إلى «الناس» ، والمعنى : أنه يريد بالناس : أنه نوع لهذا الشخص.
ولعل الأوّل أقرب.
والمعنى الأوّل
من الثلاثة الأخيرة هو أول المعنيين اللذين أثبتهما عليهالسلام له سبحانه ، والمعنى الثاني منها ما هو أثبته عليهالسلام ثانيا. ولعل تركه عليهالسلام الثالث وعدم ذكره له في الأقسام للزومه لسابقيه.
وكيف كان ، فقد
دلّ هذا الخبر كما عرفت على نفي الوحدة العددية عنه سبحانه على أبلغ وجه ، مع أن
عبارة (الصحيفة) الشريفة تدل بظاهرها على ثبوتها له ، بل انحصارها فيه كما يدل
عليه تقديم المسند المؤذن بقصر ذلك عليه تعالى لا يتجاوزه إلى غيره.
وحينئذ ، فلا
بدّ من بيان معنى المراد منها على وجه ينطبق به مع تلك الأخبار الواردة في هذا
المضمار ، فنقول : قد ذكر أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ في معنى هذه العبارة
الشريفة وجوها من الاحتمالات حيث إنها في الحقيقة من المتشابهات :
أحدها
: أن المراد
بهذا الكلام : (نفي الوحدة العددية ، لا إثباتها) . وأنت خبير
بما فيه ؛ إذ وجهه غير ظاهر.
__________________
وثانيها
: أن معناه : (أنه
ليس لك من العدد إلّا الوحدانية ، والمراد : أنه ليس بداخل في العدد ، بل له تعالى
هذا الوصف بمعنى آخر) . ولعل ذكر العدد لفائدة أنه إذا وصف تعالى بكونه أحدا
ربما يتوهم منه أن أحديته عددية يلزمها ما يلزم الوحدة العددية. فقوله عليهالسلام يدل على أنه ليس له إلّا الوحدانية المغايرة لوحدة
العدد ، المشاركة لها في الاسم.
ويحتمل أن يكون
في التعبير بالوحدانية دون الواحدية إشارة إلى أن العدد هنا ليس العدد الذي له
الواحدية ، بل الذي له الوحدانيّة ، فيكون مسمّى بالعدد مجازا ، والمعنى : إذا
عدّت الموجودات كنت أنت المتفرد بالوحدانية من بينها.
وثالثها
: أن معناه : (أن
لك من جنس العدد صفة الوحدة ، وهو كونك لا شريك لك ، ولا ثاني لك في الربوبية) .
ورابعها
: أن المراد به
: (أن لك وحدانية العدد بالخلق والإيجاد لها ، فإن الوحدة العددية ؛ من صنعه وفيض
وجوده) . ولا يخفى أنه بمعزل عن المقام كما لا يخفى على ذوي الأفهام.
وخامسها
: أن المعنى : (أنه
لا قيوم واجب بالذات إلّا أنت. ويكون معناه : أن الوحدة العددية ظل الوحدة الحقّة
الصرفة القيّومة ؛ فسبيل اللام في قوله عليهالسلام : لك سبيلها في قوله : (لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ) . والظاهر بعده.
وسادسها
: أن الياء في
ال «وحدانية» ياء النسبة ، وحاصل المعنى (أن الوحدانيّة ـ التي نسبت
إليها الأعداد وتركّبت منها ، وهي لم تدخل تحت عدد ـ مخصوصة بالإطلاق عليك لا تطلق
على غيرك ؛ لأن كل ما سواك فله ثان يندرج معه تحت
__________________
كلّيّ ، فهو واحد من الجنس) .
وسابعها
: أن تكون الياء
للمبالغة مثلها في (أحمري) ، والمعنى (أن حقيقة الوحدة العددية التي ينبغي أن تسمى
وحدة مخصوصة بك ، وأما إطلاقها على غيرك فمجاز شائع) . وتحقيقه ما
رواه ثقة الإسلام في (الكافي) والصدوق في (التوحيد) بسنديهما عن
فتح الجرجاني عن أبي الحسن عليهالسلام في حديث طويل يقول فيه : قلت : يا بن رسول الله صلىاللهعليهوآله ، [قلت] : «لا يشبهه شيء ولا يشبه هو شيئا ، والله واحد
والإنسان واحد» ، أليس قد تشابهت الوحدانية؟ قال : «يا فتح ، أحلت ثبّتك الله ، إنما التشبيه في
المعاني ، وأما في الاسماء فهي واحدة ، وهي دليل
على المسمى ، وذلك أن الإنسان وإن قيل : واحد ، فإنه يخبر أنه جثة واحدة ، وليس
باثنين ، والإنسان نفسه ليس بواحد ، لأن أعضاءه مختلفة وألوانه مختلفة ومن ألوانه
مختلفة غير واحد . وهو أجزاء مجزأة
ليست بسواء ؛ دمه غير لحمه ، ولحمه غير دمه ، وعصبه غير عروقه ، وشعره غير بشره ،
وسواده غير بياضه ، وكذلك سائر جميع الخلق. فالإنسان واحد في الاسم لا واحد في
المعنى ، والله جل جلاله هو واحد ولا واحد غيره ، لا اختلاف فيه ولا تفاوت ، ولا
زيادة ولا نقصان.
فأما
الإنسان المخلوق المصنوع
من أجزاء مختلفة وجواهر شتّى ، غير أنه بالاجتماع شيء واحد». قلت : جعلت فداك فرجت عني ، فرّج الله عنك.
وثامنها
: أن معناه (لا
كثرة فيك ، أي لا جزء لك ولا صفة لك يزيدان على
__________________
ذلك) . وإلى هذا مال بعض أفاضل متأخري المتأخرين في شرح له
على (الصحيفة السجّادية) ، قال : (وتوضيح المرام أن قوله عليهالسلام : «لك
يا إلهي وحدانية العدد» يفسّره قوله عليهالسلام : «ومن
سواك ... مختلف الحالات ، منتقل في الصفات؟» ، فإنه عليهالسلام قابل كلّ فقرة من الفقرات الأربع المتضمنة للصفات الّتي
قصرها عليه سبحانه بفقرة متضمنة لخلافها فيمن سواه على طريق اللف والنشر الذي
يسميه أرباب البديع (معكوس الترتيب) .
إذا علمت ذلك
ظهر لك أن المراد بوحدانية العدد له [تعالى] معنى يخالف معنى اختلاف الحالات
والتنقل في الصفات لغيره سبحانه. فيكون المقصود إثبات وحدانية ما تعدد من صفاته
وتكثر من جهاته ، وأن عددها وكثرتها في الاعتبارات والمفهومات لا يقتضي اختلافا في
الجهات والحيثيات ، ولا تركيبا من الأجزاء ، بل جميع نعوته وصفاته المتعددة موجودة
بوجود ذاته. وحيثيّة ذاته بعينها حيثية علمه وقدرته وسائر صفاته الإيجابية ، فلا
تعدد فيها ولا تكثير فيها أصلا ، بل هي وحدانية العدد موجودة بوجود واحد بسيط من
كل وجه ؛ إذ كل منها عين ذاته ؛ فلو تعددت لزم كون الذات الواحدة ذواتا).
إلى أن قال : (وبالجملة
، فمعنى قصر وحدانية العدد عليه سبحانه : نفي التعدد والتكثر والاختلاف عن الذات
والصفات على الإطلاق. وهذا المعنى مقصور عليه سبحانه لا يتجاوزه إلى غيره) انتهى ملخّصا
، وهو جيد. وحاصله أن ما كان متعددا بالنسبة إلى غيرك من الذات المباينة للصفات
المتعددة المتغايرة
__________________
واحدة بالنسبة إليك ، وهو راجع إلى المعنى الثالث من معاني الواحد
المتقدّمة.
أقول
: والتحقيق أن
الكلام هنا مبني على عدم دخول الواحد في الأعداد وإن تركبت منه كما هو أصح القولين
، وإليه جنح شيخنا البهائي قدسسره في (الزبدة) حيث قال : (والحق أنه ليس بعدد وإن تألفت
منه الأعداد).
ويدل عليه أيضا
ما رواه الصدوق رحمهالله في (التوحيد) عن الباقر عليهالسلام حيث قال : «والأحد والواحد بمعنى واحد وهو المتفرّد الذي
لا نظير له. والتوحيد : الإقرار بالوحدة وهو الانفراد. والواحد المتباين الذي لا
ينبعث من شيء ولا يتّحد بشيء. ومن ثمّ قالوا : إن بناء العدد من الواحد وليس
الواحد من العدد ؛ لأن العدد لا يقع على الواحد ، بل يقع على الاثنين» الحديث.
وحينئذ ،
فالواحد إذا لم يكن له ثان ليس بداخل في العدد. وبهذا المعنى يكون مخصوصا به
سبحانه ؛ لأن ما سواه فله ثان يندرج معه تحت كلّيّ ، ويشير إليه قوله عليهالسلام في خبر الأعرابي : «لأن ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد».
وحاصل المعنى
حينئذ : أن الوحدة المنسوبة إليها الأعداد باعتبار تركبها منها ـ وهي ليست منها ـ حقيقة
مخصوصة بالإطلاق عليك ، فلا تطلق على غيرك ، فهو سبحانه متفرّد بالوحدانية لذاته ،
بمعنى أن الوحدانية مقتضى ذاته كما يشير إليه قوله عليهالسلام : «ولا
يتحدّد بشيء» ، أي ليس اتّصافه بالوحدة من جهة أمر آخر وراء ذاته.
وأما غيره ،
فثبوت الوحدة له لا من حيث الذات ، بل من حيث الانفراد عن المماثل له من أبناء
النوع والجنس ، كما هو المفهوم المتعارف من معنى انفراد الناس بعضا عن بعض ممن
عادته مشاركته في محادثاته ومحاوراته وسائر
__________________
حالاته وانفراد أحد المخالفين من الحيوانات عن الآخر ممن يأنس به ويستوحش
بفقده.
وبالجملة ،
فالواحد إنما يوصف بكونه عدديا إذا كان له كثرة بحيث يكون مبدأ لها وعادّا لها ،
وإلّا فهو في حد ذاته من حيث هو لا يوصف بذلك. وحينئذ ، فيحمل ما ورد في الأخبار
من تنزيهه سبحانه عن الوحدة العددية على المعنى الأوّل ، بمعنى : أنه تعالى ليس
بواحد عددي بأن يكون مبدأ كثرة يكون عادّا لها.
وما ورد في
الدعاء من ثبوت الوحدانية العددية على المعنى الثاني ، ويؤيده الخبر المنقول عن
الباقر عليهالسلام ، والله العالم بمراد أوليائه.
فإن قلت : ما
تقول في قوله تعالى (ما يَكُونُ مِنْ
نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلّا هُوَ سادِسُهُمْ) ـ الآية ـ فإنها تدل بظاهرها على دخوله سبحانه في
الأعداد ، وكونه واحدا من تلك الأفراد ، مع أنه تعالى كما ذكرت منزّه عن الوحدة
العددية ؟
قلت : الجواب
عن ذلك من وجهين :
أحدهما
: ما ذكره شيخنا
الصدوق ـ عطر الله مرقده ـ في (التوحيد) حيث قال بعد أن ذكر أن الشيء قد يعد مع
ما جانسه وشاكله وماثله ، وأن الله لا يعد على هذا الوجه ولا يدخل في العدد من هذا
الوجه ما لفظه : (وقد يعد الشيء مع مالا يجانسه ولا يشاكله ، يقال : هذا بياض ،
وهذا بياضان وسواد ، وهذا محدث وهذان محدثان وهذان ليسا بمحدثين ولا مخلوقين ، بل
أحدهما قديم والآخر محدث ، وأحدهما ربّ والآخر مربوب. فعلى هذا الوجه يصح دخوله في
الأعداد ، وعلى
__________________
هذا النحو قال الله تبارك وتعالى (ما يَكُونُ مِنْ
نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا
أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) الآية) .
وثانيهما ـ وهو الأظهر ؛ فإن ما ذكره شيخنا الصدوق رحمهالله لا يخلو من خدش ـ : ما ورد في صحيحة عمر بن أذينة عن
أبي عبد الله عليهالسلام في تفسير الآية المذكورة ، حيث قال عليهالسلام : «هو
واحد وأحدي بالذات ، بائن من خلقه ، وهو بكل شيء محيط
بالإشراف والإحاطة والقدرة ، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات والأرض
، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر بالإحاطة والعلم لا بالذات ؛ لأن الأماكن محدودة
تحويها حدود أربعة ؛ فإذا كان بالذات لزمها الحواية» .
وحاصل معنى
الخبر المذكور أن كونه رابع الثلاثة وسادس الخمسة إنما هو باعتبار إحاطة علمه
سبحانه بما يتناجون به ، وإشرافه على ذلك ، لا باعتبار حضور ذاته مع ذواتهم ؛ فإن
ذلك يستلزم المحلّ والمكان والحواية.
وبالجملة ،
فمعيته سبحانه معهم ، إنما هي عبارة عن العلم والإحاطة الواحدة بالنسبة إلى جميع
المعلومات لا المعية الذاتية المستلزمة للمعية المكانية والزمانية. ويوضّح هذا
المعنى ما رواه في كتاب (التوحيد) عن محمد بن النعمان قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن قول الله تعالى (وَهُوَ اللهُ فِي
السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) ، قال : «كذلك هو في كل مكان». قلت : بذاته؟ قال : «ويحك ، إن الأماكن أقدار ، فإذا
قلت : في مكان بذاته ، لزمك أن تقول في أقدار وغير ذلك ، ولكن هو بائن
__________________
من خلقه ، محيط بما خلق علما وقدرة وسلطانا وملكا وإحاطة . وليس علمه
بما في الأرض بأقل من علمه بما في السماء ، ولا يبعد منه شيء ، والأشياء له سواء ، علما وقدرة
وسلطانا وملكا وإحاطة » .
وحينئذ تبيّن
لك أنه ليس معنى (إِلّا هُوَ رابِعُهُمْ) : أنه رابع الثلاثة بالعدد ، ومصيرها أربعة بضم الواحد العددي
الذي هو نفسه إليها كما هو المعتبر في مرتبة الأعداد ، والمتوهم هنا في بادئ
الرأي. وبذلك يتّضح وجه الفرق بين هذه الآية وبين قوله سبحانه (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ
ثالِثُ ثَلاثَةٍ) ـ الآية ـ فإن هذه الآية صريحة في كون الثالث المضاف
إلى الثلاثة من جنسها ، وأنه واحد من أعدادها ، بمعنى : أنهم قالوا بآلهة ثلاثة ،
وأن الله ثالثهم ، بخلاف قولك : رابع الثلاثة فإنه لا يدلّ صريحا على أنه من جنس
الثلاثة وفي أعدادها ؛ فإن رابع الثلاثة قد لا يكون من جنس الثلاثة ولا في أعدادها
كما في قوله سبحانه (ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ
كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ) .
فإذا لم يلزم
أن يكون من جنسها جاز أن يكون فيه على نحو آخر ، بأن يكون المعنى باعتبار إحاطته
علما بما اشتركوا فيه من الجهة الجامعة. فلو قيل في تلك الآية أيضا : ثالث اثنين
مكان قولهم : (ثالِثُ ثَلاثَةٍ) ، لم يلزم كفرهم ؛ لقبول الاحتمال بما ذكرناه ، وعدم
الصراحة فيما يؤدي إلى الكفر ، والله تعالى أعلم.
__________________
(١٧)
درّة نجفيّة
في تحقيق الفرقة الناجية
روى فخر
المحققين عن والده العلّامة قدسسرهما قال : (حكى لي والدي عن أفضل المتأخرين ، نصير الملة
والحق والدين ، الطوسي ـ طيب الله ثراه ـ قال : (الفرقة الناجية هي الفرقة
الإمامية ، وذلك أني وقفت على جميع المذاهب اصولها وفروعها ، فوجدت من عدا
الإمامية مشتركين في الاصول المعتبرة في الإيمان وإن اختلفوا في أشياء يساوي
إثباتها نفيها بالنسبة إلى الإيمان ، ثم وجدت أن طائفة الإمامية هم يخالفون الكل
في اصولهم ؛ فلو كانت فرقة من عداهم ناجية لكان الكلّ ناجين ، [فدلّ] على أن
الناجية هم الامامية لا غير) انتهى.
قال الفاضل
المحدث السيد نعمة الله الجزائري قدسسره بعد نقل ذلك : (وتحريره أن جميع الفرق متفقون على أن
مناط النجاة ودخول الجنة هو الإقرار بالشهادتين ، وخالفهم الإمامية وقالوا : لا
بدّ من ضم ولاية أهل البيت عليهمالسلام والبراءة من أعدائهم ، وهي التي يدور عليها النجاة
والهلاك).
ثم قال رحمهالله : (وأجاب نصير الملة والدين الطوسي جوابا آخر حيث قال :
إنه صلىاللهعليهوآله عين الفرقة الناجية والهالكة في حديث صحيح متفق عليه
وهو قوله صلىاللهعليهوآله : «مثل
__________________
أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق» .
وهذا الحديث
متفق عليه ، رواه الجمهور من طرق متعددة. والإمامية هم مختصّون بركوب هذه السفينة
؛ لأنهم أخذوا مذهبهم عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهماالسلام ولقب مذهبهم بالجعفري ، وهو أخذه عن أبيه باقر العلوم ،
وهو أخذه عن أبيه زين العابدين ، وهو أخذه عن سيد الشهداء عليهالسلام وهو أخذه عن أبيه أمير المؤمنين عليهالسلام ، وهو أخذه عن أخيه وابن عمه رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وهو أخذه عن جبرئيل عليهالسلام ، وهو أخذه عن ربّ العزة جلّ شأنه. وكل فرقة غيرهم أخذت
دينها عن إمامها ، كأصحاب أبي حنيفة وأصحاب الشافعي وأصحاب أحمد بن حنبل ، وهو
ظاهر لا يحتاج إلى البيان.
على أن الحديث
روي بعدة أسانيد هكذا : قال صلىاللهعليهوآله : «افترقت
أمّة موسى على إحدى وسبعين فرقة كلّها في النار إلّا واحدة وهي التي اتبعت وصيّه
يوشع ، وافترقت أمّة عيسى على اثنين وسبعين فرقة كلها في النار إلّا واحدة وهي
التي اتبعت وصيّه شمعون ، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلّا
واحدة وهي التي تتبع وصيي عليا » ) انتهى كلامه زيد اكرامه.
__________________
__________________
يقول ناظم هذه
الدر ومطرز هذه الحبر : قد وقع لي تحقيق في هذا المقام قبل الوقوف على كلام هؤلاء
الأعلام أذكره هنا بلفظه :
أقول : من أقوى
الإلزامات للمخالفين ، وأظهر الحجج والبراهين على صحة مذهب الإمامية ـ أنار الله
برهانهم ـ وبطلان ما عداه ، قوله صلىاللهعليهوآله : «ستفترق
أمتي على ثلاث وسبعين فرقة فرقة واحدة في الجنة والباقون في النار».
وقوله صلىاللهعليهوآله : «مثل
أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق».
والحديث الأول
مما أجمع على نقله المخالف والمؤالف ، وقد صنف الشهرستاني في كتاب (الملل والنحل) ؛ وضبط الفرق
تصديقا للخبر المذكور.
وبمقتضاه يجب
أن يحكم بنجاة فرقة واحدة من تلك الفرق لا أزيد ، وهلاك الباقين وإلّا لزم تكذيبه صلىاللهعليهوآله ، والرد عليه فيما قال ، وهو كفر محض بغير إشكال.
وأما الحديث
الثاني فقد استفاض ، بل تواتر نقله ، من طريق الجمهور بألفاظ عديدة ؛ رواه أحمد في
مسنده ، ونقله صاحب (المشكاة) عن أبي ذر رضياللهعنه أنه قال وهو متعلق بأستار الكعبة : من عرفني فقد عرفني ومن لم
يعرفني فأنا جندب بن جنادة سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله بأذني ـ وإلّا فصمتّا ـ يقول : «ألا إن مثل أهل بيتي
فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها هلك» .
وقد روى الفقيه
ابن المغازلي الشافعي هذا المعنى في كتاب (المناقب) بعدة أسانيد ،
بعبارات مختلفة.
__________________
ويعضد هذا
الخبر أيضا ما تواتر أيضا عنه صلىاللهعليهوآله من قوله : «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل
بيتي لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما».
وقد رواه أحمد
في مسنده بثلاثة طرق بعبارات متقاربة ورواه مسلم في صحيحة ، والثعلبيّ
في تفسيره ، وابن المغازلي في مناقبه ، وزرين
العميدي في (الجمع بين الصحاح الستة) ، إلى غير ذلك من المواضع.
وأنت خبير بأنه
لا معنى لكونهم «كسفينة
نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها هلك» كما تضمنه الخبر الثاني ، ولا معنى للتمسك بهم كما
تضمنه الخبر الثالث إلّا الأخذ بأقوالهم ، والاقتداء بأفعالهم ، والتدين بدينهم
وشريعتهم ، والاهتداء بسنتهم وطريقتهم. وقد اعترف بذلك المخالفون لهم في الدين وإن
كانوا عنهم ناكبين.
قال التفتازاني
في (شرح المقاصد) : (فإن قيل : «إني
تارك فيكم الثقلين كتاب الله فيه الهدى» ـ إلى آخره ـ وقال : «إني تارك فيكم ما إن أخذتم لن تضلّوا : كتاب
الله وعترتي أهل بيتي» ، ومثل هذا يشعر بفضلهم على العالم وغيره.
قلت : نعم ،
لاتّصافهم بالعلم والتقوى مع شرف النسب ، ألا ترى أنه عليهالسلام قرنهم ب (القرآن) في كون التمسك بهم منقذا من الضلالة ،
ولا معنى للتمسك ب (الكتاب) إلّا الأخذ بما فيه [من العلم] الهداية ، وكذا العترة؟)
انتهى.
وقال الطبيعي
في شرح (المشكاة) ، في بيان معنى الحديث الثاني ما صورته : (شبّه الدنيا بما فيها
من الكفر والضلالات والبدع والأهواء الزائفة ، ببحر لجّي
__________________
يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ؛ ظلمات بعضها فوق بعض ، وقد أحاط
بأكناف وأطراف الأرض كلها ، وليس منه خلاص ولا مناص إلّا بتلك السفينة) انتهى.
وحينئذ ، فنقول
: من البين الواضح البيان ، والمستغني بذلك عن إقامة الحجة والبرهان أنه لم يركب
أحد من الامّة في تلك السفينة المنجية من الضلال ، ولم يتخذها أحد من تلك الفرق
العديدة منجى من الأهوال ، ولم يتمسك بحبل ولاء الأئمَّة الطاهرين ـ صلوات الله
عليهم أجمعين ـ الذين هم أحد الثقلين غير الشيعة الاثني عشرية ؛ فإنهم من زمنهم عليهمالسلام هم القائلون بإمامتهم ، والعاكفون على إحياء طريقتهم
وسنتهم ، فلا يعتمدون في معالم دينهم اصولا وفروعا إلّا على أخبارهم ، ولا يهتدون
إلّا بآثارهم ، عاكفون على زيارة قبورهم واعلاء منارهم ، مقيمون لشعائر أحزانهم
وتعزيتهم ، صابرون على الأذى ، بل القتل في حبهم ومودتهم.
وهذا كله ظاهر
لا ينكره إلّا من أنكر المحسوسات الوجدانية ، وقائل بالتمويهات السوفسطائية بخلاف
غيرهم من فرق الامّة. وبه يظهر أن الفرقة الناجية من تلك الفرق الثلاث والسبعين هي
فرقة الإمامية الاثنا عشرية.
ومن العجب نقل
اولئك الفضلاء من المخالفين لهذه الأخبار ، واعترافهم بأن التمسك بهم عليهمالسلام منقذ من الضلالة ، وأنه لا نجاة من بحور الغواية
والجهالة إلّا بالتمسك بهم والركوب في سفينة ولايتهم وحبهم ، والأخذ بما فيه
الهداية من أقوالهم وأفعالهم ، والاقتداء بهم في جملة أحوالهم ، مع أنهم من
العاكفين على خلافهم ، والتاركين للاهتداء بشريف أخلاقهم وأوصافهم ، بل تراهم لا
يروون بواسطة أحد منهم رواية ، ولا يعدونه من جملة من اعتمدوه من ذوي الغواية ،
__________________
فضلا عن أن يتخذوه منارا للهداية ومقصدا فيها وغاية ، إلّا أنها (لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى
الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) . فليت شعري بم يجيبون غدا بين يدي الجبار؟ وبم يعتذرون
بعد رواية هذه الأخبار؟
وأعجب من ذلك
ما رواه الحافظ محمد بن موسى الشيرازي من علماء القوم على ما نقله عنه جمع من
أصحابنا منهم السيد الزاهد العابد المجاهد رضي الدين ابن طاوس قدسسره في كتاب (الطرائف) وغيره. روى ذلك الحافظ المذكور في
كتابه الذي استخرجه من التفاسير الاثني عشر : تفسير أبي يوسف يعقوب بن سفيان ،
وتفسير ابن جريج ، وتفسير مقاتل بن سليمان ، وتفسير وكيع بن جراح ، وتفسير يوسف بن
موسى القطان ، وتفسير قتادة ، وتفسير أبي عبيدة القاسم بن سلام ، وتفسير علي بن
حرب ، وتفسير السدّي ، وتفسير مجاهد ، وتفسير مقاتل بن حيان ، وتفسير أبي صالح ،
وكلهم من أهل السنّة رووا عن أنس بن مالك قال : كنا جلوسا عند رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فتذاكرنا رجلا يصلي ويصوم ويتصدق ويزكي ، فقال رسول
الله صلىاللهعليهوآله : «لا
أعرفه». فقلنا : يا
رسول الله ، إنه يعبد الله ويسبحه ويقدسه ويهلله؟ فقال : «لا أعرفه».
فبينا نحن في
ذكر الرجل إذ طلع علينا ، فقلنا : يا رسول الله ، هو ذا. فنظر إليه رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقال لأبي بكر : «خذ سيفي هذا ، وامض إلى الرجل فاضرب عنقه ؛
فإنه أول من يأتي في حزب الشيطان».
فدخل أبو بكر
المسجد فرآه راكعا ، فقال : والله لا أقتله ، فإن رسول الله صلىاللهعليهوآله نهانا عن قتل المصلين ، فرجع إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وقال : يا رسول الله ، إني وجدت الرجل راكعا ، وأنت
نهيتنا عن قتل الراكعين.
__________________
فقال رسول الله
صلىاللهعليهوآله : «اجلس
فلست بصاحبه». ثم قال : «يا
عمر قم ، فخذ سيفي من يد أبي
بكر ، وادخل المسجد واضرب عنقه».
قال عمر :
فأخذت السيف من يد أبي بكر ودخلت المسجد ، فرأيت الرجل ساجدا ، فقلت : والله لا
أقتله فقد استأذنه من هو خير مني. فرجعت إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقلت : يا رسول الله ، إني وجدت الرجل ساجدا. فقال : «يا عمر ، اجلس فلست
بصاحبه ، قم يا علي ، فإنك قاتله ، فإن وجدته فاقتله ؛ فإنك إن قتلته لم يبق بين
أمّتي اختلاف أبدا».
قال علي عليهالسلام : «فأخذت السيف ، فدخلت المسجد فلم أره ، فرجعت إلى
رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقلت : يا رسول الله ما رأيته. فقال : يا أبا الحسن ،
إن أمّة موسى افترقت على إحدى وسبعين فرقة فرقة ناجية والباقون في النار ، وإن
أمّة عيسى افترقت على اثنتين وسبعين فرقة فرقة ناجية والباقون في النار ، وستفرق
أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة فرقة ناجية والباقون في النار. فقلت : يا رسول الله ،
فما الناجية؟ قال : المستمسك بما أنت وأصحابك. وأنزل الله في ذلك (ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) يقول : هذا أول من يظهر من أصحاب البدع والضلالات».
قال ابن عباس :
والله ما قتل ذلك الرجل إلّا أمير المؤمنين عليهالسلام يوم النهروان.
ثم قال الله
تعالى (لَهُ فِي الدُّنْيا
خِزْيٌ) أي القتل ، (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ
الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) ، أي بقتاله علي بن أبي طالب عليهالسلام يوم النهروان .
أقول : فلينظر
العاقل المنصف إلى ما تضمنه هذا الخبر الشريف والأثر الطريف من النص الجلي على
مخالفة أبي بكر وعمر للرسول صلىاللهعليهوآله في حياته بحضوره في
__________________
قتل رجل لو قتل لم يقع بين أمّته اختلاف ، ويتعلّلان باشتغاله بالركوع
والسجود ، مع أنه صلىاللهعليهوآله عالم بذلك ، لا سيما مع تقدم وصفه والثناء عليه ، مع
أنه قال لأبي بكر حين أمره بقتله : «إنه أول من يأتي في حزب الشيطان» ، فإذا كان هذه حالهم معه صلىاللهعليهوآله في حياته فكيف يستبعد منهم المخالفة له بعد مماته سيما
فيما يكون لهم فيه مطالب وأغراض دنيوية ؛ من الرئاسة والإمارات على كافة البرية؟
وما تضمنه من النص الجلي
على أن الفرقة الناجية من تلك الفرق هم علي عليهالسلام وشيعته.
وأنت خبير بأن
ظاهر هذا الخبر وأمثاله أن المراد بنجاة هذه الفرقة من النار هو عدم دخولها النار
بالكلية ، وبأن ما عداها في النار خلودا فيها ؛ فإن تلك الفرقة الناجية من الامم
الثلاث المذكورة في الخبر إنما نجت بمتابعة الوصي ، كما تقدم نقل الرواية به في
صدر المقالة.
وحينئذ ، فما
عداها ممن خالف الوصي وأنكر وصايته ونيابته مستحق الخلود في العذاب ، كما لا يخفى
على أولي الألباب ، وبذلك يظهر لك ما في كلام المحقق الدواني حيث قال ـ بعد نقل
حديث : «ستفترق
أمّتي» ـ : (قوله : «كلها في النار إلّا
واحدة» من حيث
الاعتقاد ، فلا يرد أنه لو أريد الخلود فيها فهو خلاف الإجماع ، فإن المؤمنين لا
يخلدون فيها ، وإن اريد مجرد الدخول فهو مشترك بين الفرق ؛ إذ ما من فرقة إلّا
وبعضها عصاة. والقول بأن معصية الفرقة الناجية مطلقا مغفورة بعيد جدا ، ولا يبعد
أن يكون المراد : استقلال مكثهم في النار بالنسبة إلى سائر الفرق ترغيبا في تصحيح
الاعتقاد) ـ انتهى ـ فإنه مجرد رمي في الظلام ، أو
__________________
غفلة أو تغافل عما روته تلك الأعلام ، فإنه بمقتضى الخبر لا ينجو من النار
إلّا تلك الفرقة المتابعة لوصي ذلك النبي ، والباقون لمخالفتهم له وخروجهم عن
طاعته لا محالة مستحقون للخلود في النار. وكذلك قوله : (فإن المؤمنين لا يخلدون في
النار) لأنه خلاف الإجماع المسلم.
لكن ثبوت
الإيمان لما عدا الفرقة الناجية ـ وهي التابعة للوصي ـ محل البحث ، وكيف لا ، وقد
عينها صلىاللهعليهوآله فيما سمعت من الحديث المنقول من تفاسيرهم الاثني عشر
بما ذكرنا. وفي الخبر المتقدم في صدر المقالة نقلا عن اولئك الأفاضل ، قدس الله
أرواحهم؟ ولا ريب أن الكفر بالوصي كفر بالنبي ، واستبعاده [ب] أن معصية الفرقة
الناجية مغفورة مردود :
أما
أولا ، فلأن ذلك هو
ظاهر الخبر المذكور.
ما
ورد من أن معصية الفرقة الناجية مغفورة
وأما
ثانيا ، فلاستفاضة
أخبار أهل البيت عليهمالسلام بذلك ، بل وأخبار أهل السنّة أيضا. ولا بأس بسرد جملة
منها ليتبين ما في كلام هذا الفاضل وأمثاله من الانحراف عن جادة الانصاف والارتكاز
لطريق الضلالة والاعتساف.
ما
ورد عن أهل البيت عليهمالسلام
بذلك
فمن ذلك من
طريق أهل البيت ـ صلوات الله عليهم ـ ما رواه صاحب كتاب (بشارة المصطفى لشيعة علي
المرتضى) وغيره في غيره أنه دخل رسول الله صلىاللهعليهوآله على علي بن أبي طالب عليهالسلام مسرورا مستبشرا ، فسلّم عليه فردّ عليهالسلام وقال : «ما رأيتك أقبلت عليّ مثل هذا اليوم؟» فقال صلىاللهعليهوآله : «جئت أبشرك. اعلم أن هذه الساعة
__________________
نزل علي جبرئيل عليهالسلام وقال : الحقّ يقرئك السلام ويقول : بشّر عليا أن شيعته
الطائع والعاصي من أهل الجنة».
فلما سمع
مقالته خر ساجدا ورفع يديه إلى السماء ثم قال : «اشهد الله أني قد وهبت لشيعتي نصف حسناتي». فقالت فاطمة : «اشهد الله أني قد وهبت لشيعة علي نصف حسناتي». فقال الحسن عليهالسلام مثلهما ، وقال الحسين عليهالسلام كذلك.
وقال النبي صلىاللهعليهوآله : «ما
أنتم بأكرم مني ، اشهد علي يا رب أني قد وهبت لشيعة علي نصف حسناتي».
وقال الله عزوجل : «ما
أنتم بأكرم مني ، إني قد غفرت لشيعة علي ومحبيه ذنوبهم جميعا».
ومنها ما رواه
أبو محمد الحسن بن علي بن شعبة في كتاب (التمحيص) عن أمير المؤمنين عليهالسلام قال : «ما أحد من شيعتنا يقارف أمرا نهينا عنه ،
فيموت حتى يبتلى ببلية تمحّص بها ذنوبه ؛ إما في
مال أو ولد ، وإما في نفسه حتى يلقى الله مخبتا وماله ذنب. ولو بقي عليه شيء من
ذنوبه فيشدد عليه عند موته فتمحص ذنوبه» .
ومنها ما رواه
فيه أيضا عن السابري قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : إني لأرى من أصحابنا من يرتكب الذنوب الموبقة؟ قال :
فقال : «يا عمر ، لا تشنع على أولياء الله ؛
__________________
إن ولينا ليرتكب ذنوبا يستحق بها من الله العذاب ، فيبتليه الله في بدنه
بالسقم حتى يمحص عنه الذنوب ؛ فإن عافاه في بدنه ابتلاه في ماله ، فإن عافاه في ماله ابتلاه
في ولده. فإن عافاه في ولده ابتلاه في أهله ، فإن عافاه في أهله
ابتلاه بجار سوء [يؤذيه] ، فإن عافاه من بوائق الدهر شدّد عليه خروج نفسه حتى
يلقى الله حين يلقاه ، وهو عنه راض قد أوجب له الجنة» .
ومنها ما رواه
فرات بن أحنف قال : كنت عند أبي عبد الله عليهالسلام إذ دخل عليه [رجل] من هؤلاء الملاعين فقال : والله
لأسوءنه في شيعته ، فقال : يا أبا عبد الله ، أقبل إلي. فلم يقبل ، فأعادها فلم
يقبل عليه ، ثم أعاد الثالثة ، فقال : «ها أنا مقبل ، فقل ولن تقول خيرا». فقال : إن شيعتك يشربون النبيذ. فقال : «[و] ما بأس بالنبيذ؟
أخبرني
أبي عن جابر بن عبد الله أن أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله يشربون النبيذ». قال : ليس أعنيك النبيذ ، وإنما أعنيك المسكر. فقال : «إن شيعتنا أزكى وأطهر
من أن تجري للشيطان في أمعائهم رسيس المسكر
، فإن فعل ذلك المخذول منهم فيجد ربّا رءوفا ، ونبيّا بالاستغفار عطوفا ، ووليا
عند الحوض ولوفا».
ثم قال الصادق عليهالسلام : «أخبرني أبي عن علي بن الحسين أبيه عن أبيه عن علي بن أبي
طالب عليهالسلام عن رسول الله صلىاللهعليهوآله عن جبرئيل عن الله عزوجل أنه قال : يا محمد ، إني حرّمت الفردوس على جميع
النبيين حتى تدخلها أنت وعلي وشيعتكما ، إلّا من اقترف منهم كبيرة ، فإني أبلوه في
ماله ، أو خوف من سلطانه ، حتى ألقاه بالرّوح
__________________
والريحان ، وأنا عليه غير غضبان ، فيكون ذلك جزاء لما كان منه. فهل عند
أصحابك شيء من هذا؟ فلم ، أودع» .
ومنها ما رواه
في كتاب (مكارم الأخلاق) عن أبي الحسن علي بن موسى عليهماالسلام قال : «رفع القلم عن شيعتنا». فقلت : يا سيدي ، كيف ذلك؟ قال : «لأنهم اخذ عليهم
العهد بالتقية في دولة الباطل ، يأمن الناس ويخافون ، ويكفّرون فينا ولا نكفّر
فيهم ، ويقتلون بنا ولا نقتل بهم. ما من أحد من شيعتنا ارتكب ذنبا عمدا أو خطأ
إلّا ناله في ذلك غم يمحص عنه ذنوبه ، ولو أنه أتى بذنوب بعدد قطر المطر ، وبعدد
الحصى والرمل ، وبعدد الشوك والشجر ، فإن لم ينله في نفسه ففي أهله وماله ، فإن لم
ينله في أمر دنياه ما يغتم له تخيل إليه في منامه ما يغتم به ، فيكون ذلك تمحيصا
لذنوبه» .
إلى غير ذلك من
الأخبار الواضحة المنار ، تركنا نقلها روما للاختصار.
ما
ورد عن أهل السنّة بذلك
وممّا ورد من
طريق أهل السنّة ما رواه الفقيه ابن المغازلي الشافعي في كتاب (المناقب) بسنده إلى
أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «يدخل
من أمّتي الجنة سبعون ألفا لا حساب عليهم».
ثم التفت إلى
علي عليهالسلام فقال : «هم من شيعتك وأنت إمامهم» .
وما رواه أخطب
خطباء خوارزم موفق بن أحمد المكي الخوارزمي في كتاب وقفت عليه في (مقتل الحسين عليهالسلام) ، وذكر جملة من فضائل أهل البيت عليهمالسلام ، ورواه أيضا في (الصواعق المحرقة) لابن حجر عنه
أيضا بسنده فيه إلى بلال
__________________
ابن حمامة قال : طلع علينا النبي صلىاللهعليهوآله ذات يوم ووجهه مشرق كدائرة القمر ، فقام عبد الرحمن بن
عوف فقال : يا رسول الله صلىاللهعليهوآله ، ما هذا النور؟ فقال : «بشارة أتتني من ربي في أخي وابن عمي وابنتي ،
وإن الله تعالى زوّج عليا من فاطمة وأمر رضوان خازن الجنان فهزّ شجرة طوبى فحملت
رقاقا ـ يعني صكاكا ـ بعدد محبي أهل بيتي ، وأنشأ
تحتها ملائكة من نور ، ودفع إلى كل ملك صكّا ، فإذا استوت القيامة بأهلها نادت
الملائكة في الخلائق ، فلا تلقى محبا لنا أهل البيت إلّا رفعت إليه صكا فيه فكاكه
من النار ، فأخي وابن عمي وابنتي بهم فكاك رقاب رجال ونساء من أمّتي من النار» .
إلى غير ذلك من
الأخبار التي يطول بنقلها الكلام. وقد أتينا على كثير منها في مقدمة كتابنا (سلاسل
الحديد في تقييد ابن أبي الحديد) ، وفق الله تعالى لإتمامه.
قال الفاضل
الشيخ إبراهيم بن سليمان الخطي أصلا ، الحلّي منشأ ومسكنا في كتاب (الفرقة الناجية)
بعد نقل كلام المحقق الدواني ما صورته : (أقول : كلامه هذا بأجمعه ليس شيء منه
بصحيح ولا تام ؛ لأنه فسره بكونهم في النار من حيث الاعتقاد ، وغرضه من ذلك أن
المراد : العذاب عليه بها في الجملة لا الخلود ؛ معللا بأنه خلاف الاجماع ؛ لأن
المؤمنين لا يخلدون. وفيه نظر ؛ لأن كون ذلك من حيث الاعتقاد غير مسلم لجواز أن
يكون منه ومن العمل معا ، قال الله تعالى :
(وَقالُوا لَنْ
تَمَسَّنَا النّارُ إِلّا أَيّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ
عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا
تَعْلَمُونَ. بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ
أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) .
سلمنا لكن نفيه
الخلود غير مسلّم ، والإجماع الذي نقله ممنوع ، فإن جماعة
__________________
من العلماء ذهبوا إلى أن غير الطائفة المحقة كفار ، وأنهم مخلدون
في النار.
وقوله : (لأن
المؤمنين لا يخلدون) مسلم لكن خلاف في (المؤمنين) ، فالشيعة تزعم أن الإيمان إنما
يصدق على معتقد الحق من الاصول الخمسة ومنها عندهم إمامة الاثني عشر عليهمالسلام.
وقوله : (إن
مجرد الدخول مشترك) ممنوع.
وقوله : (ما من
فرقة إلّا وبعضها عصاة) مسلّم إلّا إن قوله : (والقول بأن معصية الفرقة الناجية
مطلقا مغفورة بعيد) ممنوع أشد المنع ، بل الظاهر ذلك : فإنما البعيد استبعاده ؛
فإن ظاهر الخبر يقتضيه.
وقوله : (لا
يبعد أن يكون المراد : استقلال لبثهم بالنسبة إلى سائر الفرق ترغيبا في تصحيح
الاعتقاد) أشد بعدا ؛ لأنه خلاف ما يتبادر إليه الفهم من الحديث.
والحق أن معنى
الحديث أن الفرقة الناجية لا تمسها النار أبدا ، وغيرها في النار إما خلودا أو
مكثا من غير خلود في الجميع أو في بعض الخلود وفي بعض بالمكث من غير خلود ، وهو
ظاهر من غير تكلف) انتهى المراد من نقل كلامه أفاض الله تعالى عليه شآبيب إكرامه.
وهو جيد ، إلّا
إن قوله في آخر كلامه : (إن ما عدا الفرقة الناجية في النار إما خلودا أو مكثا) ـ إلى
آخره ـ محل نظر ، فإن الخبر في افتراق الامة على ثلاث وسبعين فرقة وإن أجمل في بعض
رواياته تعيين الفرقة الناجية ، إلّا إنه عين في بعض آخر بكونها هي التابعة لوصي
ذلك النبي كما تقدم لك ذكره ، وطريق حمل المطلق على المقيد ، والمجمل على المبين
يقتضي الحكم بخلود غير تلك الفرقة
__________________
الناجية من تلك الفرق ؛ لأنه متى خالفت الوصي بالخروج عن دين ذلك النبي فهي
مستحقة للخلود في النار ، كما لا يخفى على ذوي البصائر والافكار.
تتمّة
مهمّة : في الجمع بين أخبار دخول الشيعة الجنّة
فإن قيل : إن ما نقلتموه من
الأخبار الدالة على دخول الشيعة الجنة وعدم دخولهم النار على ما هم عليه من ارتكاب
الذنوب والكبائر الموبقة معارض بما دل من الأخبار على أن الشيعي المستحق لذلك إنما
هو من كان متصفا بالعلم والورع والتقوى والملازمة على الصيام والقيام بين يدي الملك
العلام سيما في جنح الظلام.
قلنا : لا ريب
في ورود الأخبار بما ذكر ، ومقتضى الجمع بينها وبين ما قدمنا من الأخبار أحد وجهين
:
أوّلهما : وهو
المشهور بين أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ حمل هذه الأخبار على كمّل الشيعة ،
والبالغين المرتبة العليا من التشيع ، والأخبار الاولى على من سواهم. وهذا شائع في
الكلام حتى في كلام الملك العلّام ، قال سبحانه (إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ
عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) .
وثانيهما ـ وهو
ما جادت به القريحة الجامدة ، ولعله الأقرب أن يكون مرادهم عليهمالسلام بهذه الأخبار الأخيرة ـ هو زجر الشيعة ومنعهم [عن] المعاصي ؛
فإنهم ـ صلوات الله عليهم ـ حكماء القلوب ، فيوقفون شيعتهم العاصين بين حدي الخوف
والرجاء ؛ إذ لو تركوهم وتلك الأخبار الدالة على الرجاء خاصة لربما
__________________
انهمكوا في المعاصي وضربوا صفحا عن الطاعات اعتمادا على ذلك ، وربّما انجر
ذلك ـ والعياذ بالله ـ إلى الطبع على القلب ، فلا يرجع صاحبه إلى خير ويحصل له
بسبب ذلك ما يخرجه عن أصل الإيمان كما ورد في الخبر عنهم عليهمالسلام من أن كل مؤمن «في قلبه نكتة بيضاء ؛ فإذا أذنب ذنبا خرج في
تلك النكتة البيضاء نكتة سوداء ، فإذا
تاب انمحى ذلك السواد ، وإن تمادى في المعاصي وتوغل فيها تزايد ذلك السواد حتى
يغطي البياض ، فلا يرجع صاحبه إلى خير أبدا ، وذلك قوله تعالى : (كَلّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ) » .
وحينئذ ، فإذا
زجروهم بهذه الأخبار انزجروا وادّكروا وتابوا وأنابوا. وفي بعض الأخبار المشار
إليها عن الباقر عليهالسلام : «ما
معنا براءة من النار ، من كان لله مطيعا كان لنا وليا ، ومن كان عاصيا كان لنا
عدوّا» .
وفي آخر : «لا تتّكلوا على حبّ
عليّ فإنه لو أحب أحد رسول الله صلىاللهعليهوآله ـ ورسول الله خير من
علي ـ لما نفعه حبّه شيئا إذا لم يعمل
بطاعة الله تعالى» .
فإن هذه
الأخبار إنما تنطبق على الوجه الثاني دون الأوّل ، وبه يظهر وجه أولويّته وقربه ،
والله العالم.
تذنيب
في بيان من هي الفرقة الناجية من كلام المعصوم عليهالسلام
روي في (كتاب
سليم بن قيس) : قال أبان : قال سليم : وسمعت علي بن أبي طالب عليهالسلام يقول : «إن الأمّة تفرقت على ثلاث
وسبعين فرقة ، اثنتان وسبعون فرقة
__________________
في النار وفرقة في الجنة ، وثلاث عشرة فرقة من الثلاث والسبعين تنتحل
مودتنا أهل البيت واحدة منها في الجنة واثنتا عشرة في النار.
وأما الفرقة
الناجية المهدية المؤمنة المسلمة الموفقة المرشدة فهي المؤتمة بي ، المسلّمة لأمري
، المطيعة لي ، المتبرئة من عدوي ، المحبة لي ، المبغضة لعدوي ، التي قد عرفت حقي ،
وإمامتي ، وفرض طاعتي من كتاب الله وسنة نبيّ الله صلىاللهعليهوآله ، فلم ترتد ولم تشكّ ؛ لما قد نوّر الله في قلبها [من] معرفة حقنا ،
وعرفها من فضلنا ، وألهمها وأخذ بنواصيها ، فأدخلها في شيعتنا حتى اطمأنت قلوبها ،
واستيقنت يقينا لا يخالطه شك.
إني أنا
وأوصيائي بعدي إلى يوم القيامة هداة مهتدون ، الذين قرنهم الله بنفسه ونبيه في آي
من كتاب الله كثيرة ، وطهرنا وعصمنا وجعلنا شهداء على خلقه ، وحجته على أرضه ،
وخزّانه على علمه ، ومعادن حكمه ، وتراجمة وحيه ، وجعلنا مع القرآن ، والقرآن معنا
لا نفارقه ولا يفارقنا حتى نرد على رسول الله صلىاللهعليهوآله حوضه كما قال رسول الله صلىاللهعليهوآله . وتلك الفرقة الواحدة من الثلاث والسبعين فرقة هي
الناجية من النار من جميع الفتن والضلالات والشبهات ، هم من أهل الجنة حقا يدخلون
الجنة بغير حساب.
وجميع تلك
الفرق الاثنتي والسبعين فرقة هم [المتدينون] بغير الحق ،
الناصرون دين الشيطان الآخذون عن إبليس ، وأولياؤه هم أعداء الله وأعداء رسوله
وأعداء المؤمنين ، يدخلون في النار بغير حساب ، برآء من الله ومن رسوله ، وأشركوا
بالله وكفروا به ، وعبدوا غير الله من حيث لا يعلمون (وَهُمْ يَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)
__________________
، يقولون يوم القيامة : (وَاللهِ رَبِّنا ما
كُنّا مُشْرِكِينَ) ، يحلفون بالله (كَما يَحْلِفُونَ
لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) ».
قال : قيل : يا
أمير المؤمنين ، أرأيت من قد وقف فلم يأتمّ بكم ، ولم يضادّكم ، ولم ينصب لكم ،
ولم يتولّكم ولم يبرأ من عدوكم. وقال : لا أدري وهو صادق؟
قال : «ليس
اولئك من الثلاث والسبعين فرقة ، إنما عنى رسول الله صلىاللهعليهوآله بالثلاث والسبعين فرقة : الباغين النصابين الذين قد
شهروا أنفسهم ، ودعوا إلى دينهم ، ففرقة واحدة منها تدين بدين الرحمن ، واثنتان
وسبعون تدين بدين الشيطان ، وتتولى على قبولها ، وتتبرّأ ممّن خالقها ، فأما
من وحد الله وآمن برسول الله صلىاللهعليهوآله ولم يعرف ولم يتناول ضلالة عدونا ولم ينصب شيئا ولم
يحلّ ولم يحرّم [وأخذ بجميع ما ليس بين المختلفين من الامّة فيه خلاف في أن الله عزوجل أمر به ، وكفّ عمّا بين المختلفين من الامّة خلاف في أن
الله أمر به أو نهى عنه فلم ينصب شيئا ولم يحلل ولم يحرّم] ولا يعلم ، ورد علم ما
أشكل عليه إلى الله ، فهذا ناج. وهذه الطبقة بين المؤمنين وبين المشركين هم أعظم
الناس وجلهم ، وهم أصحاب الحساب والموازين والأعراف ، والجهنميون الذين يشفع لهم
الأنبياء والملائكة والمؤمنون ، ويخرجون من النار فيسمون الجهنميين.
فأما المؤمنون
، فينجون ويدخلون الجنة بغير حساب ، وإنما الحساب على أهل هذه الصفات بين المؤمنين
والمشركين ، و (الْمُؤَلَّفَةِ
قُلُوبُهُمْ) والمقترفة ، والذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ،
والمستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ، لا يستطيعون حيلة الكفر
والشرك ولا يحسنون أن ينصبوا ، ولا يهتدون سبيلا إلى أن
__________________
يكونوا مؤمنين عارفين ، فهم أصحاب الأعراف ، وهؤلاء كلهم لله فيهم المشيئة
إن أدخل أحدهم النار فبذنبه ، وإن تجاوز عنه فبرحمته».
قلت : أيدخل
النار المؤمن العارف الداعي؟ قال : «لا». قلت : أيدخل الجنة من لا يعرف إمامه؟ قال : «لا ، إلّا أن يشاء
الله». قلت : أيدخل
الجنة كافر أو مشرك؟
قال : «لا يدخل النار إلّا
كافر إلّا أن يشاء الله». قلت : فمن لقي الله مؤمنا عارفا بإمامه مطيعا له ، من أهل الجنة هو؟ قال
: «نعم ، إذا لقي الله وهو مؤمن ، من الذين قال الله عزوجل (الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ) ، (الَّذِينَ آمَنُوا
وَكانُوا يَتَّقُونَ) ، (الَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) ».
قلت : فمن لقي
الله على الكبائر؟ قال : «هو
في مشيئة الله إن عذبه فبذنبه ، وإن تجاوز عنه فبرحمته». قلت : فيدخله النار وهو مؤمن؟ قال : «نعم ، بذنبه ؛
لأنه ليس من المؤمنين الذين عنى الله أنه لهم ولي ، وأنه (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ، هم المؤمنون الذين يتقون الله والذين يعملون الصالحات
والذين (لَمْ يَلْبِسُوا
إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ)» انتهى.
__________________
(١٨)
درّة نجفيّة
في توجيه رضا الأئمَّة عليهمالسلام
بما نزل فيهم من البلاء
قد كثر السؤال
من جملة من الأخلّاء الأعلام والأجلّاء الكرام عن الوجه في رضا الأئمَّة ـ عليهم
الصلاة والسلام ـ وإعطائهم بأيديهم لما أوقعه بهم مخالفوهم من القتل بالسيف أو
السم ، حيث إنهم عالمون بذلك لما استفاضت به الأخبار من أن الإمام عليهالسلام يعلم انقضاء أجله ، وأنه هل يموت حتف أنفه أو بالقتل أو
بالسم.
وحينئذ ،
فقبوله ذلك وعدم تحرزه من الامتناع ، يستلزم الإلقاء باليد إلى التهلكة ، مع أن
الإلقاء باليد إلى التهلكة محرم نصا ؛ قرآنا وسنّة . وقد أكثر المسؤولون من الأجوبة في هذا الباب ، بل ربما
أطنبوا فيه أي إطناب ، بوجوه لا يخلو أكثرها من الإيراد ، ولا تنطبق على المقصود
والمراد. وحيث إن بعض الإخوان العظام ، والخلان الكرام سألني عن ذلك في هذه
الأيّام ، رأيت أن أكتب في المقام ما استفدته من أخبارهم ـ عليهم الصلاة والسلام ـ
فأقول وبه سبحانه الثقة لإدراك المأمول ، وبلوغ كل مسئول : يجب أن
يعلم :
أولا
: أن التحليل
والتحريم أحكام توقيفية من الشارع عزّ شأنه ، فما وافق
__________________
أمره ورضاه فهو حلال ، وما خالفهما [فهو] حرام ، وليس
للعقل ـ فضلا عن الوهم ـ مسرح في ذلك المقام.
وثانيا
: أن مجرد
الإلقاء باليد إلى التهلكة على إطلاقه غير محرم وإن أشعر ظاهر الآية بذلك ، إلّا
إنه يجب تقييده وتخصيصه بما قام الدليل على جوازه ، وذلك فإن الجهاد متضمّن
للإلقاء باليد إلى التهلكة مع أنه واجب نصا وإجماعا ، وكذلك الدفاع عن النفس والأهل والمال. ومثله
أيضا وجوب الإعطاء باليد إلى القصاص وإقامة الحد عليه متى استوجبه.
وثالثا
: أنهم ـ صلوات
الله عليهم ـ في جميع أحوالهم وما يتعلق بمبدئهم وحالهم يجرون على ما اختارته لهم
الأقدار السبحانية ورضيته لهم الاقضية الربانية ، فكل ما علموا أنه مختار لهم تعالى بالنسبة
إليهم وإن اشتمل على غاية الضرر والبؤس ترشفوه ولو ببذل المهج والنفوس.
إذا تقررت هذه المقدمات
الثلاث ، فنقول : إن رضاهم ـ صلوات الله عليهم ـ بما ينزل بهم من القتل بالسيف
والسم ، وكذا ما يقع بهم من الهوان على أيدي أعدائهم والظلم مع كونهم عالمين به
وقادرين على دفعه ، إنما هو لما علموه من كونه مرضيا له سبحانه وتعالى ، ومختارا
له بالنسبة إليهم ، وموجبا للقرب من حضرة قدسه والجلوس على بساط انسه.
وحينئذ ، فلا
يكون من قبيل الإلقاء باليد الّذي حرمته الآية ؛ إذ هو ما اقترن بالنهي من الشارع
نهي تحريم ، وهذا مما علم رضاه به واختياره له فهو على النقيض من ذلك ، ألا ترى
أنه ربما نزل بهم شيء من تلك المحذورات قبل الوقت
__________________
المعدود والأجل المحدود ، فلا يصل إليهم منه شيء من الضرر ، ولا يتعقبه
المحذور والخطر؟ فربما امتنعوا منه ظاهرا ، وربما احتجبوا منه باطنا ، وربما دعوا
الله سبحانه في رفعه فيرفعه عنهم ؛ وذلك لما علموا أنه غير مراد له سبحانه في حقهم
ولا مقدر لهم.
وبالجملة ،
فإنهم ـ صلوات الله عليهم ـ يدورون مدار ما علموه من الأقضية والأقدار ، وما
اختاره لهم القادر المختار. ولا بأس بإيراد بعض الأخبار الواردة في هذا المضمار ،
ليندفع بها الاستبعاد ، ويثبت بها المطلوب والمراد ، فمن ذلك ما رواه ثقة الإسلام
ـ عطر الله مرقده ـ في (الكافي) بسنده عن الحسن بن الجهم ، قال : قلت للرضا عليهالسلام : إن أمير المؤمنين عليهالسلام قد عرف قاتله ، والليلة التي يقتل فيها ، والموضع الذي
يقتل فيه ، وقوله لما سمع صياح الإوز : «صوائح تتبعها نوائح» وقول أم كلثوم : لو صليت الليلة داخل الدار ، وأمرت
غيرك يصلي بالناس. فأبى عليها وكثر دخوله وخروجه تلك الليلة بلا سلاح ، وقد عرف عليهالسلام أن ابن ملجم ـ لعنه الله ـ قاتله بالسيف ، وكان هذا مما
لم يجز تعرضه ، فقال عليهالسلام : «ذلك
كان ، ولكنه خيّر تلك الليلة لتمضي مقادير الله تعالى» .
وحاصل سؤال
السائل المذكور : أنه مع علمه عليهالسلام بوقوع القتل ، فلا يجوز له أن يعرض نفسه [له] ؛ لأنه من
قبيل الإلقاء باليد إلى التهلكة الذي حرمه الشارع ، فأجاب عليهالسلام بما هذا تفصيله وبيانه من أنه وإن كان الأمر كما ذكرت
من علمه عليهالسلام بذلك ، لكنه ليس من قبيله الإلقاء باليد إلى التهلكة ،
الذي هو محرّم ؛ لأنه عليهالسلام خيّر في تلك الليلة بين لقاء الله تعالى على تلك الحال
أو البقاء في الدنيا ، فاختار عليهالسلام اللقاء على الوجه المذكور ؛ حيث علم أنه مختار ومرضيّ
له عند ذي الجلال ، كما
__________________
يدلّ عليه قوله عليهالسلام لما ضربه اللعين ابن ملجم ـ ملجّم بلجام جهنّم ، عليه
ما يستحقه ـ : «فزت وربّ
الكعبة» . وهذا معنى
قوله : «لتمضي
مقادير الله تعالى» ، يعني أنه سبحانه قدّر وقضى في الأزل أنه عليهالسلام لا يخرج من الدنيا الا على هذه الحال باختياره ورضاه
بها.
ومن ذلك ما
رواه في الكتاب المذكور عن عبد الملك بن أعين عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «أنزل الله تعالى النصر
على الحسين عليهالسلام حتى كان ما بين
السماء والأرض ، ثم خير النصر أو لقاء الله ، فاختار لقاء الله» . والتقريب ما تقدم.
ومن ذلك ما
رواه أيضا في الكتاب المذكور عن ضريس الكناسي عن أبي جعفر عليهالسلام في حديث قال فيه : فقال له حمران : جعلت فداك ، أرأيت
ما كان من أمر قيام علي بن أبي طالب والحسن والحسين عليهمالسلام ، وخروجهم وقيامهم بدين الله ، وما اصيبوا من قتل
الطواغيت إياهم والظفر بهم ، حتى قتلوا وغلبوا؟ فقال أبو جعفر عليهالسلام : «يا حمران ، إن الله تعالى قد كان قدر ذلك عليهم وقضاه
وأمضاه وحتمه على سبيل الاختيار ، ثم أجراه. فبتقدّم علم إليهم من رسول الله صلىاللهعليهوآله ، قام علي والحسن والحسين ، وبعلم صمت من صمت منا. ولو
أنهم يا حمران حيث نزل بهم [ما نزل] من أمر الله تعالى وإظهار الطواغيت عليهم
سألوا الله تعالى أن يدفع ذلك عنهم ، وألحّوا عليه في إزالة ملك الطواغيت
وذهاب ملكهم ، إذن لأجابهم ودفع ذلك عنهم.
ثم كان انقضاء
مدة الطواغيت وذهاب ملكهم أسرع من سلك منظوم انقطع
__________________
فتبدّد ، وما كان ذلك الذي أصابهم يا حمران لذنب اقترفوه ، ولا لعقوبة
معصية خالفوا الله فيها ، ولكن لمنازل وكرامة من الله أراد أن يبلغوها ، فلا تذهبن
بك المذاهب فيهم» .
أقول : وهو
صريح في المطلوب على الوجه المحبوب.
وروى الصدوق ـ نوّر
الله مرقده ـ في (المجالس) في حديث طويل يتضمّن حبس الإمام الكاظم عليهالسلام عند الفضل بن الربيع مدّة ، وأنه أمره بقتله مرة فلم
يفعل ، ثمّ حوّل عليهالسلام إلى حبس الفضل بن يحيى البرمكي ، فحبس عنده أياما ،
فكان الفضل بن الربيع يبعث إليه في كلّ ليلة مائدة ومنع أن يدخل عليه من عند غيره
، فكان لا يأكل ولا يفطر إلّا على المائدة التي يولى بها ، حتى مضى على تلك الحال
ثلاثة أيام ولياليها فلمّا كانت الرابعة قدّمت إليه مائدة الفضل بن يحيى ، فرفع
يده إلى السماء ، فقال : «يا
ربّ ، إنّك تعلم أني لو أكلت قبل اليوم كنت قد أعنت على نفسي» ، قال فأكل فمرض .
وساق تتمة
الحديث مما يدلّ على موته بسبب ذلك.
ومثله روى في (عيون
أخبار الرضا عليهالسلام) ، فانظر إلى قوله عليهالسلام : «يا
ربّ إنّك تعلم» انتهى.
وما فيه من
الدلالة على أن أكله عليهالسلام مع علمه بالسمّ حين علم أن ذلك تمام الأجل المضروب وآخر
العمر المكتوب ، ليس بإعانته على نفسه ، ولا بالقاء اليد إلى التهلكة المحرّم ،
وأنه لو أكل قبل ذلك لكان قد أعان على نفسه وألقى بيده إلى التهلكة ، حيث إنه قبل
الوقت المذكور غير مختار له في الأقضية السبحانيّة ولا مرضيّ له من الأقدار
الربانيّة ؛ وذلك لأن الرشيد ـ لعنه الله ـ قد دسّ إليه السمّ
__________________
غير مرّة وهو عليهالسلام يدفعه عن نفسه ، كما يدلّ عليه حديث الكلبة التي للرّشيد
وغيره.
وممّا يدل على
زوال القتل بهم عليهمالسلام من أعدائهم واحتجابهم منه وعدم تأثيره فيهم ، حيث كانوا
قبل الأجل المضروب لهم ، وغير مقضي ولا مرضي له سبحانه بالنسبة إليهم ما رواه في
كتاب (ثاقب المناقب) من أن الدوانيقي ـ لعنه الله ـ أمر رجلا بقتل الصادق عليهالسلام وابنه إسماعيل ـ وكانا في حبسه ـ فأتى أبا عبد الله عليهالسلام ليلا وأخرجه وضربه بسيفه حتى قتله ، ثم أخذ إسماعيل
ليقتله فقاتله ساعة ثم قتله ، ثم جاء إليه فقال : ما صنعت؟ فقال : قتلتهما وأرحتك
منهما. فلما أصبح فإذا أبو عبد الله عليهالسلام وإسماعيل جالسان ، فاستأذنا ، فقال أبو الدوانيق للرجل
: ألست زعمت أنك قتلتهما؟ فانظر فيه. فذهب فإذا بجزورين منحورين . الحديث.
وما رواه في
الكتاب المذكور ، ورواه أيضا السيّد الجليل ذو المناقب والمفاخر رضي
الدين عليّ بن طاوس قدسسره في كتاب (المهج) وكتاب (الأمان من أخطار الأسفار والأزمان) من حديث
الجواد مع المأمون ودخول المأمون وهو سكران على الجواد عليهالسلام حين شكت إليه ابنته زوجة الجواد عليهالسلام أنه أغارها وتزوّج عليها ـ وكان في حال سكره ـ فقام
والسيف في يده حتى دخل على الإمام عليهالسلام ، فما زال يضربه بسيفه حتى قطّعه ، وذلك بمحضر من
الزوجة المذكورة وياسر الخادم.
__________________
ثم إن المأمون
بعد أن أصبح وأفاق من سكره أخبرته ابنته بما فعل ليلا بالإمام عليهالسلام ، فاضطرب وأرسل ياسرا الخادم يكشف
له الخبر ، قال في الحديث : فما لبث ياسر أن عاد إليه ، فقال : البشرى يا أمير
المؤمنين. فقال : ولك البشرى ، ما عندك؟ قال : دخلت عليه ، فإذا هو جالس وعليه
قميص وهو يستاك ، فسلّمت عليه وقلت : يا بن رسول الله ، أحبّ أن تهب لي قميصك هذا
أصلّي فيه وأتبرّك به ، وإنما أردت أن أنظر إلى جسده هل به أثر جراحة وأثر السيف.
إلى أن قال :
فقلعه ونظرت إلى جسده كأنه العاج مسّته صفرة وما به أثر.
ثم ساق الحديث
إلى أن قال : قال عليهالسلام : «يا
ياسر ، هكذا كان العهد [بيننا] وبينه ، حتى يهجم
عليّ بالسيف ، اعلم أن لي ناصرا وحاجزا يحجز بيني وبينه» الحديث.
وفي جملة من
الأخبار المرويّة في كتاب (المهج) وغيره أن أبا الدوانيق قد همّ غير مرّة بقتل الصادق عليهالسلام ، وكذلك الرشيد بالكاظم عليهالسلام ، فيدعون الله سبحانه في دفع ذلك عنهم ويحتجبون بالحجب
المرويّة عنهم عليهمالسلام كما تضمّنه كتاب (مهج الدعوات) وغيره ، فيظهر الله
تعالى من عظيم قدرته لذينك الطاغوتين ما يرهبهما به ، حتّى وقع كل منهما مغشيّا
عليه غير مرّة. والوجه فيه ما عرفت.
__________________
فهرس
الموضوعات
فهرس
الموضوعات
مقدمة التحقيق................................................................. ١١
ترجمة المؤلَّف رحمهالله.............................................................. ١٤
نسبه.......................................................................... ١٤
ولادته ووفاته رحمهالله.............................................................. ١٤
نشأته العلميّة.................................................................. ١٥
شاعريته....................................................................... ١٨
أخلاقه رحمهالله وزهده وورعه....................................................... ١٩
أقوال العلماء فيه
وإطراؤهم عليه................................................. ٢٠
كراماته....................................................................... ٢١
تقريظ كتبه................................................................... ٢٣
والده رحمهالله..................................................................... ٢٤
أبناؤه......................................................................... ٢٥
بين الأخباريين
والأصوليين...................................................... ٢٥
مشايخه ومن روى عنهم......................................................... ٢٦
تلامذته ومن يروى عنه......................................................... ٢٦
مؤلَّفاته........................................................................ ٢٨
تأبينه......................................................................... ٣١
الكتاب....................................................................... ٣٢
موضوعه...................................................................... ٣٢
منهجيّة المؤلف في
الكتاب....................................................... ٣٢
بين الحدائق والدرر............................................................. ٣٥
ضرورة التنويع................................................................. ٣٥
أقوال العلماء في كتاب
الدرر.................................................... ٣٧
منهج التحقيق.................................................................. ٣٧
النسخ الخطية.................................................................. ٣٧
عملنا في الكتاب............................................................... ٣٩
مقدّمة المؤلَّف.................................................................. ٦١
(١) درّة نجفيّة في معنى رواية : «الماء
كله طاهر حتى تعلم أنه قذر».................. ٦٣
تتميم قبول قول المالك
في الطهارة والنجاسة....................................... ٧١
(٢) درّة نجفيّة في معذورية الجاهل............................................... ٧٧
الفائدة الأولى :
الاحتياط إنما يكون عند الجهل بالحكم الشرعي.................... ١٠١
الفائدة الثانية : بعض
صور الاحتياط............................................ ١٠٣
الصورة الأولى :.............................................................. ١٠٤
الصورة الثانية :.............................................................. ١٠٥
الصورة الثالثة :.............................................................. ١٠٥
الفائدة الثالثة :
المراد من الجاهل المعذور......................................... ١٠٨
الفائدة الرابعة :
ماهيّة تكليف الجاهل........................................... ١١٢
الفائدة الخامسة :
وجوب تعليم الجاهل على العالم ابتداء........................... ١١٤
(٣) درّة نجفيّة فيما لو ادّعى ولي الطفل
مالا للطفل على ميّت..................... ١٢١
(٤) درّة نجفيّة في اشتراط بقاء مبدأ
الاشتقاق في صدق المشتق حقيقة............... ١٣١
(٥) درّة نجفيّة لو رأى المصلي في ثوب
إمامه نجاسة غير معفو عنها................. ١٤٧
(٦) درّة نجفية في تحقيق معنى البراءة
الأصليّة وبيان أقسامها وحجيتها............... ١٥٥
معنى الأصل اصطلاحا......................................................... ١٥٥
المناقشة في معاني
الأصل....................................................... ١٥٦
أقسام البراءة الأصلية.......................................................... ١٥٩
القائلون بعدم حجيّة
البراءة الأصلية............................................. ١٦٠
رأي الشيخ رحمهالله.............................................................. ١٦٠
رأي المحقق رحمهالله............................................................... ١٦١
مناقشة المصنف رحمهالله لكلام المحقق قدسسره........................................... ١٦٣
أدلَّة القائلين
بحجّية البراءة الأصليّة.............................................. ١٦٧
الرد على أدلَّة
القائلين بحجيّة البراءة............................................. ١٧٠
أدلة القائلين بعدم
حجّية البراءة الأصلية......................................... ١٧٦
تتميم في أقسام
المتشابه........................................................ ١٨٣
(٧) درة نجفية فيمن نذر أن ينفق جميع ماله
ثم توفّي قبل الوفاء به.................. ١٨٧
(٨) درة نجفية فيما ألزم به الفضل فقهاء
العامّة حول الطلاق عندهم............... ١٩٥
(٩) درة نجفية في حجيّة الاستصحاب.......................................... ٢٠١
(١٠) درة نجفية في ذم العجب في الأخبار
المعصومية.............................. ٢٢٣
(١١) درة نجفية في حكم الجمع بين
الفاطميتين.................................. ٢٣٥
(١٢) درة نجفية في التحاكم إلى ولاة الجور..................................... ٢٤٩
الفائدة الأولى : في
دلالة السنّة على المنع من التحاكم إلى ولاتهم................... ٢٥١
الفائدة الثانية : في
تخصيص الأردبيلي المنع بالدين دون العين....................... ٢٥٨
الفائدة الثالثة : في
أن المستفاد من الإضافة في الحديث هو العموم................... ٢٦٠
الفائدة الرابعة : في
شروط النائب عن الإمام عليهالسلام................................ ٢٦٢
فائدة في كون القاضي
منصوبا من الإمام حال حضوره............................ ٢٧٥
تكملة في كلام بعض
علمائنا في تسهيل أمر الاجتهاد............................. ٢٧٧
تتميم نفعه عميم في
بيان ما يستعلم به أهلية المجتهد............................... ٢٨٥
الفائدة الخامسة : في
طرق الترجيح بين الأخبار.................................. ٢٨٨
الفائدة السادسة : في
صفات الحاكم............................................ ٢٩١
الفائدة السابعة : في
الترجيح بالأعدليّة والأفقهيّة................................. ٢٩٢
الفائدة الثامنة : في
الجمع بين روايتي عمر بن حنظلة وزرارة....................... ٢٩٣
الفائدة التاسعة : في
أن من طرق الترجيح الأخذ بالمتأخر.......................... ٣٠٣
الفائدة العاشرة : في
تقرير مذهب الكليني في اختلاف الأخبار..................... ٣٠٤
الفائدة الحادية عشرة
: في الجمع بحمل بعض الروايات على المجاز................... ٣٠٩
الفائدة الثانية عشرة
: في أن أولى مراتب الترجيح العرض على القرآن.............. ٣١١
الفائدة الثالثة عشرة
: في إطلاق المشهور على المجمع عليه......................... ٣١٤
الفائدة الرابعة عشرة
: في الردّ على من قال بالتثنية في الأحكام.................... ٣١٥
الفائدة الخامسة عشرة
: في أن الأحكام غير المتيقنة من الشبهات................... ٣١٧
الفائدة السادسة عشرة
: في أن المتشابه يرد حكمه إلى اللَّه........................ ٣٢٦
ختام به إتمام في ذم
تصدي غير العالم للفتيا والقضاء.............................. ٣٣٢
(١٣) درة نجفية في الاختلاف في تاريخ
ولادة الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآله............... ٣٣٧
(١٤) درّة نجفيّة في معنى (التردّد) و «كنت
سمعه ...» في حديث الإسراء.......... ٣٤٥
تقرير الإشكال............................................................... ٣٤٦
الجواب عن إشكال
التردّد المنسوب إليه تعالى.................................... ٣٤٧
تتمّة مهمّة : في
الجمع بين حديث الباب و : حبّ اللَّه حبّ لقائه.................. ٣٦٠
(١٥) درّة نجفيّة في العبادة المقبولة
والمجزئة....................................... ٣٦٣
(١٦) درّة نجفيّة في تحقيق مسألة وحدانية
العدد.................................. ٣٧٧
(١٧) درّة نجفيّة في تحقيق الفرقة الناجية......................................... ٣٨٩
ما ورد من أن معصية
الفرقة الناجية مغفورة..................................... ٣٩٧
ما ورد عن أهل البيت عليهمالسلام بذلك............................................. ٣٩٧
ما ورد عن أهل السنّة
بذلك................................................... ٤٠٠
تتمّة مهمّة : في
الجمع بين أخبار دخول الشيعة الجنّة.............................. ٤٠٣
تذنيب في بيان من هي
الفرقة الناجية من كلام المعصوم عليهالسلام...................... ٤٠٤
(١٨) درّة نجفيّة في توجيه رضا الأئمَّة عليهمالسلام بما نزل فيهم من البلاء................ ٤٠٩
|