تمهيد وتقديم

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين

لماذا ندعو وكيف ندعو؟.

لماذا نصوم؟ وكيف؟.

لماذا نحيي المناسبات الدينية عامة والرمضانية خاصة؟.

يأتي الجواب مفصلا على هذه الاسئلة ضمن ما حررته في هذا الكتاب ( فلسفة الصيام في الإسلام ) ورجحت الإبتداء بالحديث حول موضوع الدعاء لكونه روح العبادة بمعناها العام بما فيها الصيام من جهة ولكونه موضع الحاجة ومورد الاهتمام في شهر الصيام بصورة خاصة ـ كما سيتضح حيث يستحب الدعاء عند رؤية الهلال وفي اول ليلة منه كما روي عن النبي 6 انه كان اذا أهل هلال شهر رمضان المبارك استقبله بهذا الدعاء :

« اللهم أهلّه علينا بالامن والأمان والعافية المجللة والرزق الواسع ودفع الاسقام ، اللهم ارزقنا صيامه وقيامه وتلاوة القرآن فيه اللهم سلمه لنا وتسلمه منا وسلمنا فيه حتى ينقضي عنا شهر رمضان وقد عفوت عنا وغفرت لنا ».

وكذلك يستحب استقباله بالدعاء المروي عن الإمام زين العابدين 7 :

الحمد لله الذي هدانا بحمده وجعلنا من أهله لنكون لاحسانه من الشاكرين وليجزينا على ذلك جزاء المحسنين والحمد لله الذي حبانا بدينه واختصنا بملته وسبلنا في سبل احسانه لنسلكها بمنه الى رضوانه حمدا يتقبله


منا ويرضى به عنا.

والحمد لله الذي جعل من تلك السبل شهره شهر رمضان شهر الصيام وشهر الإسلام وشهر الطهور وشهر التمحيص وشهر القيام الذي انزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فأبان فضيلته على سائر الشهور بما جعل له من الحرمات الموفورة والفضائل المشهورة فحرم فيه ما احل في غيره إعظاما وهجر فيه المطاعم والمشارب إكراما وجعل له وقتا بينا لا يجيز جل وعز ان يقدم قبله ولا يقبل ان يؤخر عنه الخ.

ويستحب ايضا للصائم عندما يجلس على مائدة افطاره ان يدعو بما روي من الادعية عن أهل البيت : لذلك منه ما روي عن الإمام الصادق 7 من قوله :

« الحمد لله الذي اعاننا فصمنا ورزقنا فأفطرنا اللهم تقبله منا وأعنا عليه وسلمنا فيه وتسلمه منا في يسر منك وعافية الحمد لله الذي قضى عنا يوما من شهر رمضان ».

وقد ذكر في الاقبال عن زين العابدين 7 انه قال : « من قرأ سورة ( إنا أنزلناه ) عند فطوره وسحوره كان كالمتشحط بدمه في سبيل الله » وقد روي عن اهل البيت : « أن لكل صائم عند فطوره دعوة مستجابة فإذا كان اول لقمة فقل :

« بسم الله يا واسع المغفرة إغفر لي ».


الأدعية المستحبة في شهر رمضان

والادعية المستحبة في شهر رمضان نوعان الاول منها مشترك بين جميع الليالي ومن ابرزها دعاء الافتتاح او مشترك بين جميع الايام بمعنى انه يدعى به في كل يوم ومنها ما هو مشترك بين جميع الليالي والايام كالادعية المستحبة بعد كل صلاة في هذا الشهر المبارك مثل دعاء « يا علي يا عظيم الخ » ومنها ما هو مختص في مقابل المشترك ـ بمعنى انه مختص بليلة معينة او بيوم معين وهذا متمثل بأدعية الليالي والايام حيث ذكر لكل ليلة دعاءؤها الخاص بها ولكل يوم دعاؤه الخاص به وهذا مذكور على وجه التفصيل في كتب الادعية المعروفة وكما يستحب استقبال شهر الله سبحانه ببعض الادعية الواردة عن اهل البيت : كذلك يستحب توديعه بما ورد عنهم : من ذلك ما روي عن الإمام زين العابدين من توديعه بالدعاء المشهور وأوله :

« اللهم يا من لا يرغب في الجزاء ويا من لا يلام على العطاء ويا من لا يكافىء عبده على السواء منّك ابتداء وعفوك تفضل وعقوبتك عدل وقضاؤك خيرة إن أعطيت لم تشب عطاءك بمن وان منعت لم يكن منعك تعديا تشكر من شكرك وانت الهمته شكرك وتكافىء من حمدك وانت علمته حمدك ».

ويقول 7 في هذا الدعاء ايضا : « أنت الذي فتحت لعبادك باباً الى عفوك سميته التوبة وجعلت على ذلك الباب دليلا من وحيك لئلا يضلوا عنه فقلت تبارك اسمك :

( توبوا الى الله توبة نصوحا عسى ربكم ان يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم


جنات تجري من تحتها الانهار يوم لايخزى الله لايخزي اللهُ النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير (٨) ) (١).

فما عذر من اغفل دخول ذلك المنزل بعد فتح الباب وإقامة الدليل الخ.

__________________

(١) سورة التحريم ، آية : ٨.


كلمة حول موضوع الاستهلال

وقبل الشروع بالحديث حول موضوع الدعاء وبيان معناه المراد منه في محل الكلام ودوره التربوي في حياة الإنسان فردا ومجتمعا احب ان اقدم كلمة حول موضوع الاستهلال اشرح فيها بعض الامور الشرعية والاخلاقية التي يطلب وجوبا او استحبابا ان تسود الموقف وتسيطر على الساحة النفسية والاجتماعية من اجل ان نعد انفسنا للقبول والتسجيل في مدرسة شهر رمضان المبارك شهر التقوى والمغفرة والاخلاق والرحمة. فأقول :

ان الاستهلال من الامور المستحبة شرعا والراجحة عقلا لما يترتب عليه من استجلاء الحقيقة ووضوح الامر ليكون المؤمنون على بصيرة من أمر صيامهم فعلا او تركاً ولا يعيشوا الحيرة والشك من هذه الجهة وان كانت هناك وظائف شرعية محددة للمكلف الشاك في اول الشهر واخره يستطيع الرجوع اليها والعمل بها وهي مذكورة في الرسائل العملية بصورة تفصيلية والذي احب التنبيه عليه من الناحية الشرعية هو انه بعد الاستهلال تكون النتيجة الحاصلة بعده واحداً من ثلاثة فروض.

الأول : فرض ثبوت الهلال بالشياع او القريب منه بحيث لا يبقى هناك شك وحيرة عند الجميع او الاكثر.

الثاني : فرض عدم الثبوت لدى الجميع او الاكثر بحيث كان ثبوته عند القليل القليل بحكم العدم لإنحصار حجيته وترتب الاثر عليه بخصوص


الشخص الذي حصل له العلم او الاطمئنان بثبوته.

الثالث : ان يثبت لدى شخص او اكثر بالموازين الشرعية وكان من ثبت لديه الهلال بهذه الموازين أهلاً لان يصدر الحكم بالثبوت الشرعي مع فرض عدم الثبوت لدى شخص أخر او جماعة اخرى لسبب من الاسباب التي تقتضي التردد في إصدار الحكم الشرعي مع توفر الاهلية لإصداره ففي هذا الفرض يطلب من الجميع إتباع الاسلوب الشرعي المتوج بالموقف الاخلاقي وذلك باحترام كلا الطرفين وحملهما على الاحسن والتحدث بما يليق ويناسب المقام بأن يقال مثلا : إن الذي حكم بالثبوت انما حكم به على ضوء الميزان الشرعي الذي تحقق لديه والذي توقف كان توقفه لعدم توفر الميزان الشرعي المبرر لحكمه ـ وليس هذا بدعاً في التاريخ ولا بدعة تستوجب الاستغراب والانفعال العاطفي لان اثبات الموضوعات كاثبات الاحكام وكما يحصل الاختلاف في الثانية بالاثبات والنفي والتوقف بسبب اختلاف المصادر الشرعية المعتمدة لاستنباط الحكم الشرعي في نظر المجتهدين كذلك يحصل الاختلاف في موضوعات الاحكام بسبب توفر الحجة الشرعية المبررة للحكم عند البعض وعدم توفرها عند غيره وفي هذا الفرض يطلب من الاخرين احترام الطرفين مع المحافظة على التفاهم والاحترام المتبادل بينهم ـ وفي هذه الصورة تختلف الوظيفة الشرعية لكل واحد من المكلفين الاخرين ـ فالذي يعتمد على الطرف الحاكم بالثبوت يستطيع ان يرتب الاثر على حكمه والذي يعتمد على الطرف الاخر يستطيع ان يرتب الاثر على عدم الثبوت ويمكنه العمل بالاحتياط وهو الراجح لكونه سبيل النجاة وذلك بأن يصوم امتثالا للأمر الثابت في لوح الواقع ـ فإن كان هذا اليوم الذي صامه ـ من شهر رمضان كان صومه واجبا وان كان من شعبان فهو مستحب ، وان كان الاختلاف في الثبوت وعدمه بالنسبة الى عيد الفطر فالاحتياط لمن يريده يكون بالسفر الى مسافة القصر ليتناول المفطر هناك ـ والتفصيل بالنسبة الى وجوب القضاء بعد ذلك وعدم وجوبه متروك لمحله من الرسائل العملية والذي احب التركيز عليه واكرر الدعوة اليه هو محافظة الجميع على إحترام


الجميع وعدم صدور ما يتنافى مع جوهر الصوم وسائر العبادات ـ وهو التقوى ـ من الكلمات المثيرة التي تسبب التصادم والتنازع المؤدي الى الفشل وذهاب القوة وتصدع جدار الوحدة ـ ولذلك نهانا الله سبحانه عنه بقوله تعالى :

( ولاتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين (٤٦) ) (١).

وأمرنا بالإعتصام بحبل الوحدة ونهانا عن الإفتراق بقوله :

( واعتصموا بحبل الله جميعا ولاتفرقوا ) (٢).

وعلينا ان نعتبر الحديثين النبويين المشهورين الميزان الذي يعرف به إيمان المؤمن الواقعي وإسلامه الحقيقي فلا يخدع الشخص نفسه والاخرين ببنائه على بلوغ الدرجة المحترمة من الإيمان والإسلام ـ وهو في الواقع مجرد منهما وبعيد عنهما بسبب بعده عن روح الإيمان وجوهر الإسلام وهو التقوى والخلق الفاضل الحديث الأول ما روي عن النبي 6 من قوله 6 : لا يؤمن أحدكم حتى يحب لاخيه ما يحبه لنفسه ويكره له ما يكره لها والثاني ما روي عنه ايضا من قوله 6 :

المسلم من سلم الناس من يده ولسانه وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

__________________

(١) سورة الإنفال ، آية : ٤٦.

(٢) سورة آل عمران ، آية : ١٠٣.


الدعاء ودوره التربوي في حياة المؤمن

إن لكلمة الدعاء معاني كثيرة في اللغة العربية ويتميز بعضها عن الآخر بالقرينة اللفظية او المقامية المميزة ومن معانيه ما هو محل الكلام وموضوع الحديث وهو الطلب الموجه من العبد المؤمن لله سبحانه مقترنا بالتضرع والخضوع لجلب محبوب او دفع مكروه.

وحيث ان الدعاء بهذا المعنى في طيه. روح العبادة وجوهرها فقد ورد الحث عليه والترغيب فيه في الكثير من الآيات الكريمة والعديد من الرويات المعبرة.

من الأول قوله تعالى :

( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ) (١).

وقوله تعالى :

( قل مايعبؤا بكم ربي لولا دعاؤكم ) (٢).

وقال تعالى :

( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أُجيب دعوة الداع إذا دعان

__________________

(١) سورة غافر ، آية : ٦٠.

(٢) سورة الفرقان ، آية : ٧٧.


فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ) (١).

ومن الثاني ما روى عن النبي 6 من قوله : الا ادلكم على سلاح ينجيكم من اعدائكم ويدر ارزاقكم قالوا بلى قال : تدعون ربكم بالليل والنهار فإن سلاح المؤمن الدعاء وروي عن أمير المؤمنين قوله 7 الدعاء ترس المؤمن ومتى تكثر قرع الباب يفتح لك.

وروي عن الإمام زين العابدين قوله 7 : إن الدعاء يرد البلاء وقد أبرم إبراما.

وسئل الإمام الصادق 7 عن رجلين قام احدهما يصلي حتى اصبح الآخر جلس يدعو ايهما افضل؟. قال : الدعاء أفضل وإنما كان للدعاء هذه المنزلة الرفيعة عند الله سبحانه وأهل البيت : لانه يمثل بمفهومه الديني روح العبادة وجوهرها وهو خشوع العبد المؤمن بين يدي الله سبحانه وخضوعه له وانقطاعه اليه وتوكله عليه في تحصيل الامر المحبوب له ودفع المكروه عنه ولا يصدق عنوان العبادة على اي عمل يمارسه المكلف على صعيد هذه الحياة الا اذا كان حاملا في طيه هذه الروح الإيمانية التي تعطيه الحياة والحركة نحو القبول والوصول الى الهدف المنشود ولذلك ورد في الحديث ما مضونه :

( لا يكتب من الصلاة الا ما اقبل به العبد على ربه ) لانها بدون اقبال عليه سبحانه تكون جسما بلا روح ولذلك لا يترتب على فعلها بهذه الحالة سوى براءة الذمة منها وسقوط الامر باعادتها او قضائها من باب اللطف الإلهي والرحمة السماوية ملاحظة للوضع العام الذي يعيشه عامة الناس الذين يفقدون روح التوجه والاقبال على الله سبحانه بسبب انشدادهم الى قضاياهم الحياتية المؤثرة على افكارهم وتوجههم.

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ١٨٦.


واذا اردنا ان نرسم صورة واضحة عن حقيقة الدعاء موضع البحث وموضوع الكلام فنقول :

إنه رجوع العبد المؤمن الفقير الى مولاه الغني بالغنى المطلق الذي لا يحتاج الى شيء ويحتاج اليه كل شيء ـ وذلك بالتوسل الخاشع والتوكل الواعي من اجل ان يعينه على تحصيل مطلب يعجز بذاته عن الوصول اليه والحصول عليه ـ كالجاهل الذي يرجع الى الله العالم بكل شيء ليفيض عليه نوراً من علمه الواسع والفقير الراجع الى الغني المطلق ليمن عليه بنفحة من عطائه وقبسة من ضيائه والمريض الراجع الى الطبيب الحقيقي ليحقق له الشفاء ويخلصه من الداء والمجاهد المناضل في سبيل نصرة الحق الذي يرجع الى القادر الناصر لاوليائه على اعدائه في معركة التضحية والفداء وهكذا.

وهذا ما اشار اليه الإمام علي 7 بقوله : الدعاء مفاتيح النجاح ومقاليد الفلاح وخير الدعاء ما صدر عن صدر نقي وقلب تقي وفي المناجاة سبب النجاة وبالاخلاص يكون الخلاص فإذا اشتد الفزع فإلى الله المفزع ).

وبالتأمل في مضمون كلام الإمام 7 ندرك ان الدعاء انما يكون مفاتيح النجاح ومقاليد الفلاح اذا صدر عن صدر نقي من الصفات الذميمة المبعدة عن الله سبحانه كالحسد والنفاق والبغض لاولياء الله والحب لاعدائه سبحانه والحرص على متع الحياة الزائلة حتى ولو حصلت من الحرام او المشتبه به وكذلك لا يكون الدعاء مفتاحا لباب الفرج والاجابة الا اذا صدر من قلب مؤمن تقي فاعل لما اوجب الله عليه وتارك لما حرم عليه لان ذلك شرط اساسي لتحقق الخضوع الحقيقي والرجوع الواقعي الى الله سبحانه الموصل الى ساحة رحمته ـ باعتبار ان الصفات الذميمة والانحراف عن منهج التقوى يجعل حاجبا يمنع القلب من الخضوع والخشوع وصاحبه من الوصول الى العناية الإلهية كما هو واضح ولهذا ورد في دعاء كميل :

« اللهم أغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء ».


واشار الإمام 7 بقوله : « وبالاخلاص يكون الخلاص » الى اهم شرط في قبول الاعمال ونجاح المساعي وهو الاخلاص لله سبحانه في النية والتوكل عليه في نيل المطلوب بعد ايجاد ما يطلب ايجاده من المقدمات الطبيعة التي يتوقف عليها حصوله تمشيا مع الحكمة الإلهية التي قضت بأن يسعى الإنسان الى تحصيل المسببات بواسطة اسبابها لقوله تعالى :

( وأن ليس للإنسان إلا ماسعى (٣٩) وأن سعيه سوف يرى (٤٠) ) (١) وبما ذكرنا من لزوم ايجاد المقدمات الطبيعية اللازمة لنيل بعض الاهداف والمطالب ـ يعرف ان الاخلاص المطلوب له شقان احدهما يتعلق بالله سبحانه المستعان به لنيل الغاية المنشودة وهو ما تقدم من الاخلاص لله سبحانه في النية والقصد.

والثاني يتعلق بالهدف المطلوب وهو ايجاد مقدماته العادية الطبيعية على النهج اللازم والفرق بين الشقين ان الاول مضمون النتيجة ومعلوم النجاح بلحاظ الاثر الاخروي وهو نيل الثواب من الله سبحانه باعتبار ان الاعمال بالنيات.

واما الثاني من شقي الاخلاص المتمثل باعداد جميع المقدمات والوسائل المطلوبة لنيل الهدف الخاص معجلا وفي هذه الحياة فهو غير مضمون النجاح دائما لان ترتب المسبب على سببه والنتيجة على مقدماتها منوط بإرادة الله سبحانه فإذا اراد للسبب ان يؤثر وللسعي ان ينجح كان ذلك ـ واذا لم يرد بقي كل شيء على حاله وهنا يكون مفترق الطريقين بين المؤمن المتوكل على الله سبحانه وغيره.

فالاول هو الذي يرجع الله ويتوكل عليه لنيل غايته بعد ايجاده الاسباب اللازمة مخلصا لله في النية وللهدف باعداد مقدماته فإن حصل

__________________

(١) سورة النجم ، آية : ٣٩ و ٤٠.


مطلوبه شكر الله سبحانه على ذلك وقال بلسان الحال وقد يضم اليه لسان المقال : هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر ام أكفر كما قال النبي سليمان 7 واذا لم يحصل مراده صبر وقال بلسان الايمان الصادق : ولعل الذي ابطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الامور وغير المؤمن يكون على العكس من ذلك فهو يفترق عن المؤمن في البداية ليفترق عنه في النتيجة والنهاية لانه لا يخلص لله في النية ويعتمد على جهده الشخصي والاسباب الطبيعية العادية فإذا اعطت النتيجة وتحقق مطلوبه اعتبر ان نجاح سعيه راجع الى جهده البشري وسببه الطبيعي وقال بلسان الحال والمقال ما قاله قارون في التاريخ :

( إنما أُوتيته على علم عندي ) (١).

ولذلك لا يتقيد بالحكم الشرعي في مقام سعيه لتحصيل هدفه كما لا يتقيد به بعد ذلك في مقام تصرفه وتمتعه به بسبب انكاره وعدم اعترافه من الاول بمصدر حصول الهدف المطلوب واقعا وهو الله سبحانه سبب الاسباب ورب الارباب ونتيجة ذلك زوال النعمة عنه لان المعصية تؤدي بطبعها الى ذلك غالبا كما قال الشاعر :

إذا كنت في نعمة فارعها

فإن المعاصي تزيل النعم

وقد حصل ذلك بالفعل لقارون بعد انكاره المصدر الحقيقي لنعمته وثروته وتوقفه عن دفع الحق الشرعي وهو الزكاة للنبي موسى 7 بعد طلبه منه بأمر من الله تعالى ويضاف الى ذلك العقوبة القادمة الدائمة يوم الحساب وذلك هو الخسران المبين.

وحاصل الفرق بين العبد المؤمن المتقي لله سبحانه والمتوكل عليه ـ وغير المؤمن المنحرف عن خط السماء بعقيدته وسلوكه ـ ان الاول يكون مع الله سبحانه على كل حال ليبقى الله معه في كل الظروف والاوضاع فإن

__________________

(١) سورة القصص ، آية : ٧٨.


حصلت له نعمة اعترف بأنها من الله سبحانه وشكره عليها قولا وعملا بصرفها في سبيل اطاعته ليزيده الله منها لقوله تعالى :

( لئن شكرتم لأزيدنكم ) (١).

وليديمها له ويدفع عنه البلاء وقد ابرم ابراما وليطول عمره واذا طرأت عليه مصيبة صبر عليها ورضي بها ليكتب الله له ثواب الصابرين الذين عناهم بقوله تعالى :

( وبشر الصابرين (١٥٥) الذين اذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون (١٥٦) أُولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأُولئك هم المهتدون (١٥٧) ) (٢).

وغير المؤمن التقي يكون على العكس من ذلك كما سبق فهو اذا حصلت له نعمة لا يعرف ولا يعترف بأنها من الله سبحانه بل يتوهم انها حاصلة له بجهده الشخصي وينتج عن عدم ايمانه او ضعف عقيدته عدم التقيد بشرع الله سبحانه في مقام السعي لتحصيل مطلوبه وفي مقام التصرف به بعد تحصيله فلا يكون لديه اي مانع من ان يحصل له ولو من الحرام كما لا يوجد لديه اي رادع من التصرف به وصرفه ولو في الحرام ـ وهذا وذاك يؤدي في الغالب الى عدم توفيقه في الاول لحصول مراده واذا حصل له فسرعان ما يزول عنه بسبب تمرده على مناهج السماء وعدم تقيده بشرع الله سبحانه شرع العدالة والاستقامة ويضاف الى زوال ما حصله او صرفه في الحرام ـ استحقاق العقوبة الصارمة يوم القيامة.

واذا طرأت عليه ـ اي على غير المؤمن ـ مصيبة وفي الغالب تكون بسوء اختياره نتيجة انحرافه عن خط التقوى ـ ضجر منها وشق عليه تحملها وبذلك تشتد عليه مصيبته واذا ادى به الضجر وعدم التصبر الى الجزع والاعتراض على حكم الله سبحانه وقضائه فإنه يستحق بذلك العقاب في

__________________

(١) سور إبراهيم ، آية : ٧.

(٢) سورة البقرة ، آية : ١٥٥ ـ ١٥٦ ـ ١٥٧.


الآخرة مضافا الى ابتلائه بالمصيبة والمها في الدنيا ـ وذلك هو الخسران المبين واذا دققنا النظر لنعرف سبب امتياز المؤمن عن غيره بما ذكرنا ـ نعرف انه الايمان الصادق في الاول وعدم الايمان او ضعفه في الثاني ـ لان الايمان الواعي القائم على اساس الدليل القوي الواضح ـ هو الذي يوحى لصاحبه بأن كل النعم والآلاء ـ من الله تعالى ـ لقوله سبحانه :

( وما بكم من نعمة فمن الله ) (١).

وانه اذا صرفها في سبيل اطاعته زاده منها وابقاها له وطول عمره ـ كما تقدم ولذلك يتقيد بصرفها في هذا السبيل لينال هذه الفوائد المعجلة في الدنيا مضافا الى ظفره بالسعادة الخالدة والنعيم الدائم في الآخرة ـ واذا طرأت عليه ـ اي على المؤمن مصيبة ـ صبر عليها ورضي بقضاء الله وقدره فيها لينال بذلك ثواب الصابرين في الآخرة مضافا الى الفائدة المعجلة التي يحصلها ببركة الصبر وهي ان يخف تألمه بالمصيبة وبقدر ما يقوى ايمانه يقوى صبره وتخف مصيبته الى درجة تصبح معها بحكم العدم.

وبذلك نعرف قيمة الايمان الصادق وانه اعظم نعمة يمن بها الله سبحانه على الإنسان ـ وبهذه النعمة المباركة تكون النعم والآلاء الاخرى ـ نعمة حقيقية يتمتع بها صاحبها في حاضر الدنيا ومستقبل الآخرة. وبهذا النعمة ـ اي نعمة الايمان تخف المصيبة وربما تزول وتجف لتصبح بحكم العدم في الحاضر العاجل وينال بصبره عليها ورضاه بها الثواب العظيم في المستقبل الأجل.

والى هذه الفوائد العظيمة المترتبة على نعمة الايمان اشار بعضهم بقوله : عجبت لامر المؤمن ان أمره كله خير لانه اذا حصلت له نعمة شكر فكانت خيرا له واذا طرأت عليه مصيبة صبر فكانت خيرا له لنيله ثواب الصابرين.

__________________

(١) سورة النحل ، آية : ٥٣.


وقد اشار بعض الشعراء الى هذا المعنى بقوله :

إذا كان شكري نعمة الله نعمة

علي له في مثلها يجب الشـكر

فكيف بلوغ الشكر الا بفـضله

وإن طالت الايام واتصل العمر

فإن مس بالسراء عم سرورها

وإن مس بالضراء اعقبها الاجر

فما منهما الإله فيـه نــعمة

تضيق بها الاوهام والسر والجهر


والدعاء الذي هو سلاح المؤمن ومصباحه الذي ينير له درب الامل ويساعده على التوفيق والنجاح في مساعيه ـ هو ثمرة يانعة من شجرة الايمان الثابتة ـ لانه هو الذي يوحي لصاحبه بأن الله سبحانه هو مصدر الخير والعطاء والقادر على تحقيق الهدف المنشود لعبده المؤمن ـ ولذلك يلجأ اليه ويتوكل عليه ليمده بالحول والقوة ويمهد له سبيل النجاح في سعيه بعد اخلاصه له في النية والتوكل وايجاده المقدمات الطبيعية التي يتوقف عليها حصول المطلوب عادة ـ كما تقدم مفصلا وعندما يقال في حق المؤمن انه يلجأ الى الله سبحانه ويتوسل اليه بالخضوع والدعاء لنيل الهدف المحبوب له فإنه يعرف ضمنا وبقرينة المقام ان هذا الامر المحبوب للعبد الداعي لا يكون مبغوضا لله سبحانه ولو بدرجة الكراهة ـ وذلك لان الدعاء في نفسه نوع من العبادة بل هو روح العبادات كلها فلا يتوقع من العبد المؤمن ان يكون على حالة انقطاع لله وخشوع له وهو يطلب من منه مساعدته على مطلب مكروه الحصول عند الله سبحانه.

وبعد بيان حقيقة الدعاء والاشارة الى ما يترتب عليه من الفوائد المعجلة في الدنيا والمؤجله في الاخرة مضافا الى الفوائد التربوية العديدة التي ستأتي الاشارة اليها خلال البحث انشاء الله تعالى.

يناسب ذكر الامور المساعدة على استجابة الدعاء وترتب الاثر عليه فنقول :


بيان الامور المساعدة على إستجابة الدعاء

ذكروا للدعاء أدابا معينة تساهم بطبعها في استجابة الدعاء وهي كما يلي :

الاول : الطهارة بأن يكون الداعي على وضوء او غسل مغن عنه وذلك لان الطهارة من الحدث نور معنوي ونقاء روحي يساعد على القرب من ساحة الرحمة الإلهية والعناية السماوية.

الثاني : شم الطيب ـ لان شم الطيب المادي يعطي النفس عطرا معنويا وشذا روحيا وهذا امر محبوب لله سبحانه فيقتضي القرب منه والدنو من نيل الرحمة واستجابة الدعوة ولذلك ورد في الروايات استحباب التطيب في الصلاة وان ذلك يزيد في ثوابها.

الثالث : استقبال القبلة لانه رمز توجه الإنسان المؤمن بقلبه ومشاعره الى مصدر الرحمة ومنبع الفيض والعطاء واستجابة الدعاء وحيث ان الدعاء عبادة بل هو مخ العبادة كما قيل ـ فيترجح الحاقه بالصلاة التي هي عمود الدين بالتوجه الى نفس الجهة التي يتوجه اليها بالصلاة.

الرابع : حضور القلب ـ وملاحظة هذا الامر في الدعاء واضحة الاهمية وذلك لان الدعاء رجوع الى مصدر الخير والعطاء وحضور القلب وتوجه النفس الى بارئها العظيم يساهم مساهمة فعالة في القرب من ساحة الرحمة ويمهد لاستجابة الدعوة ـ.

الخامس : حسن الظن بالله سبحانه ـ لما ورد في الحديث القدسي من قوله تعالى : « أنا عند ظن عبدي بي فلا يظن بي إلاّ خيرا ».

السادس : الصدقة قبل الدعاء ـ وذلك لان الصدقة محبوبة لله فتسبب محبوبية المتصدق بها ويؤكد ذلك الكلمة المشهورة القائلة : « الخلق عيال الله واحبهم اليه انفعهم لعياله ».


وبقدر ما يكون المؤمن محبوبا له سبحانه يكون قريبا من رحمته وعنايته وإجابة طلبه ولذلك كانت مصدرا لدفع البلاء وقد أبرم إبراما.

السابع : ان لا يسأل محرما ولا قطيعة رحم ـ والوجه في ذلك واضح لان نفس هذا السؤال مبغوض لله سبحانه ومبعد عن رحمته فلا يتوقع ترتب اي اثر ايجابي عليه ومساعدة من قبل الله المحرم له والناهي عنه.

الثامن : الالحاح بالدعاء ـ وذلك لان الدعاء نفسه عبادة وتقرب من الله سبحانه وبقدر ما يكثر الدعاء ترقى درجة القرب منه تعالى وذلك يساعد على اجابة الدعاء وتحقق المطلوب ولذلك روي عن النبي 6 قوله : ان الله يحب السائل اللجوج وروي عن الباقر قوله 7 :

لا يلح عبد مؤمن على الله في حاجة الا قضاها له.

التاسع : تسمية الحاجة ـ لقول الصادق 7 : « ان الله يعلم ما يريد العبد اذا دعاه لكنه يحب ان يبث اليه الحوائج فإذا دعوت فسم حاجتك ».

العاشر : الاسرار بالدعاء ليبعده ذلك عن الرياء قال سبحانه :

( ادعوا ربكم تضرعا وخفية ) (١).

وروي عن الرضا 7 قوله : « دعوة العبد سرا دعوة واحدة تعدل سبعين دعوة علانية ».

الحادي عشر : التعميم في الدعاء لقول الرسول ( ص ) اذا دعا احدكم فليعمم فإنه اوجب للدعاء ـ ومعنى التعميم في الدعاء ان يشرك معه اخوانه المؤمنين بأن يقول :

« اللهم اغفر لي ولاخواني المؤمنين او يقول : اللهم اغفر لنا ».

__________________

(١) سورة الاعراف ، آية : ٥٥.


الثاني عشر : الاجتماع في الدعاء ـ قال الصادق 7 ما من رهط مؤمنين اربعين رجلا اجتمعوا فدعوا الله في امر الا استجيب لهم ـ فإن لم يكونوا اربعين فأربعة يدعون الله عشر مرات ـ فإن لم يكونوا اربعة فواحد يدعو الله اربعين مرة فيستجيب الله العزيز الجبار له.

الثالث عشر : تقديم الصلاة على النبي 6 قال الصادق 7 : إياكم اذا اراد احدكم ان يسأل الله شيئا من حوائج الدنيا والآخرة حتى يبدأ بالثناء على الله عز وجل والمدحة له والصلاة على النبي 6 ثم يسأل حوائجه.

وقال الصادق 7 : لا يزال الدعاء محجوبا حتى يصلي على محمد وآل محمد ،

الرابع عشر : ختم الدعاء بالصلاة على محمد وآل محمد قال الصادق 7 من كانت له الى الله حاجة فليبدأ بالصلاة على محمد وآل محمد ثم يسأل حاجته ثم يختم بالصلاة على محمد وآل محمد فإن الله عز وجل اكرم من ان يقبل الطرفين ويدع الوسط اذ كانت الصلاة على محمد وآله لا تحجب عنه.

الخامس عشر : الاقسام على الله بمحمد وآله الطيبين الطاهرين.

السادس عشر : ان يعقب بما روي عن الصادق 7 من قوله : ما شاء الله لا قوة الا بالله.

السابع عشر : تخليص الذمة من مظالم العباد قال الصادق 7 : متحمل مظالم المخلوقين مردود الدعوة.

الثامن عشر : ان يكون في اليد خاتم عقيق او فيروزج.

التاسع عشر : ان يكون بعد الدعاء خيرا منه قبله فإن الذنوب الواقعة بعد الدعاء ربما منعت من تنفيذه ولذلك قال أهل البيت في دعائهم :

« واعوذ من الذنوب التي تحبس القسم » ومعناه النصيب والسهم من


العطاء المطلوب.

العشرون : الاقلاع عن الذنوب وترك المحرمات ـ قال الصادق 7 : ان من الذنوب التي ترد الدعاء عقوق الوالدين وفسرت بسوء النية وخبث السريرة والنفاق مع الاخوان وتأخير الصلاة المفروضة حتى تذهب اوقاتها.

الواحد والعشرون : ان لا يكون الدعاء ملحونا مهما امكن بل روي ان الدعاء الملحون لا يصعد الى الله تعالى.

والوجه العام لفاعلية وتأثير هذه الامور كلها في استجابة الدعاء غالبا هو انها تجعل المؤمن الداعي على حالة قرب من الله سبحانه نفسيا وروحيا وتزيل بعض الحواجز التي تحول بين العبد ورحمة السماء كما هو مضمون السابع عشر والتاسع عشر والعشرون من الامور المذكورة.

وهناك امور اخرى تساعد على استجابة الدعاء وهي انواع منها ما له علاقة بزمان الدعاء كيوم الجمعة وليلته وآخر ساعة منه وشهر رمضان المبارك وليالي القدر الثلاث ويتأكد في الثالثة والعشرون وليلة عرفة ويومها وليلة المبعث ويومه وليالي الاعياد الثلاثة الغدير والاضحى والفطر وايامها وليلة اول رجب (١) وليلة النصف من شعبان ويوم مولد النبي 6 وعند نزول المطر وعند طلوع الفجر الى طلوع الشمس وعند رفع الاذان وغير ذلك. ومنها امور ترجع الى مكان الدعاء كالمسجد والكعبة وعرفات والمزدلفة وعند قبر النبي 6 والحائر الحسيني وسائر المشاهد المقدسة المنسوبة للانبياء والأئمة : ومنها امور ترجع الى الفعل كأعقاب الصلوات والمريض لعائده والسائل لمعطيه ودعوة الحاج لمتلقيه ومنها مايرجع الى حالة الداعي كدعاء الصائم فإنه لا يرد وكذلك المريض والحاج المعتمر ودعاء الوالد لولده اذا ابره وعليه اذا عقه وكذلك دعاء الوالدة والوالد الصالح

__________________

(١) وليلة النصف من رجب ويومها.


لوالديه (١).

والادعية المشار اليها وان اختلفت بالخصوصيات وتنوعت بلحاظ الموارد ولكنها تتفق روحا وجوهرا وهو الرجوع الى الله سبحانه بخضوع وانقطاع لتحقيق مطلوب يتعذر او يتعسر على الداعي تحصيله بدون اعانة الله عليه ـ في الغالب وبذلك يظهر الجواب على السؤال الاول وهو لماذا ندعو؟. وبذكر الامور المساعدة على استجابة الدعاء يظهر الجواب على السؤال الثاني وهو كيف ندعو والكيفية التي يطلب ايجادها تمهيدا لاستجابة الدعاء نوعان احدهما ذاتي داخلي وهو يتمثل بالانقطاع الى الله سبحانه والاخلاص له في ذلك بالبناء النفسي على انه سبحانه وحده هو مصدر الخير والعطاء والقادر على كشف البلاء ومن عداه مجرد وسيلة وأداة بيد الارادة الإلهية فإن شاءت تحقق المطلوب واستجيب الدعاء وان شاءت العكس بقي كل شيء على حاله وهذا معنى ما يردده المؤمن وخصوصا وقت اشتداد الازمة من قوله : « لا حول ولا قوة الا بالله ».

ويتمثل العامل الذاتي الداخلي ايضا بالتقوى والاستقامة في خط مرضاة الله سبحانه بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه وقد صرح الله تعالى بفاعلية هذا العامل بقوله سبحانه :

( ومن يتق الله يجعل له مخرجا (٢) ويرزقه من حيث لا يحتسب ) (٢).

والنوع الثاني من الكيفية المؤثرة في استجابة الدعاء خارجي موضوعي ويتمثل بكل واحد من الاسباب والمقدمات الطبيعية التي جرت العادة على اعدادها من اجل التوصل بها الى الهدف المطلوب وبذلك يتحقق التوكل المحبوب لله سبحانه والممدوح في شرعه باعتبار ان الدعاء نوع من التوكل حيث يريد المؤمن بانقطاعه الى الله سبحانه واعتماده عليه حصول مطلوبه

__________________

(١) نقل عن مفتاح الجنات باختصار.

(٢) سورة الطلاق ، آية : ٢ ـ ٣.


ومن المعلوم ان مجرد الرجوع الى الله سبحانه والاستعانة به لنيل مراده ـ لا يكفي غالبا في حصول المراد ما لم يوجد الشخص المقدمات الطبيعية العادية وبعد ذلك يلجأ الى الله بالتضرع والدعاء لنجاح سعيه وادراك مطلوبه.

وهذا يفهم بوضوح من قول الإمام علي 7 لمن طلب منه ان يدعو لجمله بالشفاء من داء الجرب : لا بأس ان تجعل مقدارا من القطران مع الدعاء.

واذا نظرنا بعين البصيرة الى مجموع الادعية المتعلقة بشهر رمضان المبارك ـ نرى لكل دعاء خصوصيته الايجابية المساهمة في بناء الشخصية الرسالية وذلك بالتركيز على نقطة خاصة مستهدفة به وراء الهدف العام التربوي المقصود من كل واحد منها فدعاء الاستقبال يلحظ فيه انه جاء ليرسم للصائم برنامج عمل يجعله على بصيرة من أمره وان الصوم الذي فرض عليه في شهر رمضان المبارك وطلب منه الامساك فيه عن مفطرات معدودة ضمن مدة محدودة ـ لا يراد منه الاقتصار على ترك تلك المفطرات واكثرها مباحات بل المقصود الاساسي منه التوصل بهذا الصوم الخاص الى الصوم العام المتمثل بالامساك التام عن كل حرام في جميع الشهور والايام وهو المعبر عنه بالتقوى في قوله تعالى :

( يآيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون (١٨٣) ) (١).

وقد اشار الإمام زين العابدين 7 بما طلبه في دعائه الذي استقبل به الشهر المبارك ـ من ان يوفقه الله لان يمسك كل عضو من اعضائه عن المحرم الذي يتوقع صدوره منه بواسطته كما يفهم من صريح قوله 7.

« اللهم صل على محمد وآل محمد والهمنا معرفة فضله واجلال حرمته

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ١٨٣.


والتحفظ مما حضرت فيه واعنا على صيامه بكف الجوارح واستعمالها فيما يرضيك حتى لا نصغي باسماعنا الى لغو ولا نسرع بابصارنا الى لهو وحتى لا نبسط ايدينا الى محظور » إلخ.

كما اشار 7 في دعاء الوداع الى الفائدة المترتبة على تشريع فريضة الصوم المبارك في شهره المبارك وهي التوبة الى الله سبحانه وتطهير النفس من ادناس الذنوب والخطايا بماء المغفرة وقطر العفو والرحمة حيث اعتبر الله سبحانه هذا الشهر فرصة سانحة يتدارك فيها المؤمنون ما فاتهم من الطاعة فيما مضى من الشهور وحمام طهارة ونظافة من اوساخ المعاصي ومهد السبيل لذلك بفتح باب التوبة على مصراعيه في هذا الشهر المبارك وجعل الحسنات تتضاعف وتحصل بكمية كثيرة لا تحصل في غيره من الشهور ومن ذلك انه جعل تلاوة آية من القرآن فيه معادلة في الاجر لثواب تلاوة القرآن كله في غيره من الشهور كما ورد ذلك مفصلا في خطبة النبي التي القاها في اخر جمعة من شعبان وقد ورد في اولها :

« ايها الناس قد اقبل اليكم شهر الله تعالى بالبركة والرحمة والمغفرة شهر هو عند الله افضل الشهور وايامه افضل الايام ولياليه افضل الليالي وساعاته افضل الساعات وهو شهر قد دعيتم فيه الى ضيافة الله وجعلتم فيه من اهل كرامة الله انفاسكم فيه تسبيح ونومكم فيه عبادة وعملكم فيه مقبول ودعاؤكم فيه مستجاب ـ فاسألوا الله بنيات صادقة وقلوب طاهرة ان يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه فإن الشقي من حرم غفران الذنوب في هذا الشهر العظيم » الخ.

والوجه في عمومية بعض الادعية وشمولها لكل الليالي والايام هو ترتب الاثر المطلوب منها فيها كلها بلا قيد ولا تخصيص بزمان معين حسب تقدير الله وحكمته فهو خالق الإنسان والزمان والمكان والعالم بخصوصية كل واحد منها والفائدة المترتبة على كل عبادة من حيث العموم والشمول لكل زمان ومكان ومن حيث الخصوص والاختصاص ببعضها والى هذا المعنى


تشير الحكمة المشهورة ( إن لله خواص في الازمنة والامكنة والاشخاص ) وبذلك يعرف الوجه في اختصاص بعض الادعية ببعض الاوقات وقد تحصل من مجموع ما تقدم ان المؤمن يلجأ الى الدعاء بإعتباره الوسيلة التي يقدمها بين يديه الى الله سبحانه ليستعين به على حصول مطلوبه ويحقق شروط التأثير والإستجابة بالإنقطاع الى الله سبحانه والإخلاص في التوكل عليه وإزالة حواجز المعصية المانعة من الاجابة ـ بالتقوى والتوبة النصوح اذا كان مرتكبا ذنبا كما يوجد الاسباب المادية المتعارفة التي يتوقف حصول المطلوب عادة عليها ويقوي هذه الاسباب بايجاد الامور الراجحة والتجمل بالاداب المحبوبة من الداعي وقت دعائه ورجوعه الى الله سبحانه لقضاء حاجته.

وبعد الفراغ من الحديث حول الدعاء وبيان دوره التربوي في حياة الإنسان المسلم مع بيان الامور المساعدة على استجابته وترتب فائدته ـ يأتي دور الشروع بالحديث حول موضوع الكتاب الاساسي الذي انتزع اسمه منه وهو ( فلسفة الصيام في الإسلام ) وقبل الشروع بذلك يترجح التمهيد له بالحديث حول العبادة بمفهومها العام ودورها الايجابي البناء في صياغة الشخصية الإسلامية للفرد المسلم وذلك باعتبار ان الصوم من ابرز مصاديق العبادة فيكون القاء الضوء على مفهومها العام ودورها في صنع الشخصية الإسلامية ـ مساعدا على تصور مفهومه الخاص وادراك فلسفة تشريعه بوضوح وجلاء فنقول :

ان العبادة بما لها من مفهوم اسلامي واسع تعتبر من اهم الموضوعات الجديرة بالبحث والحديث نظرا لما يترتب على ذلك من الفوائد الهامة والمنافع العامة التي تثقف الإنسان فردا ومجتمعا وتمهد له سبيل الوصول الى الاهداف السامية والمراتب العالية التي اراد الله سبحانه وصوله اليها وحصوله عليها من خلال ممارستها على الوجه الشرعي المطلوب ، ويؤكد هذه الحقيقة اعتبار الله لها السبب الباعث والعلة الغائية الداعية لإيجاد هذا الكون العظيم بما فيه الإنسان الذي كرمه الله سبحانه وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا.


ويستفاد ذلك ( اي خلق الله الإنسان لعبادته سبحانه ) من صريح قوله تعالى :

( وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون (٥٦) ) (١).

وهناك آيات كثيرة تفيد ان الله سبحانه خلق السماوات والارض وما فيهما من اجل خدمه الإنسان من ذلك قوله تعالى :

( الم تروا ان الله سخر لكم ما في السماوات وما في الارض ) (٢).

وقوله تعالى :

( وسخر لكم ما في السماوات وما في الارض جميعا منه ) (٣).

فالآية الأولى نصت على ان عبادة الله سبحانه هي علة ايجاد الإنسان والآيتان المذكرورتان بعدها تنصان على ان سبب وعلة خلق الله السماوات والارض وما فيهما هي خدمة هذا الإنسان.

فيكون المستفاد من مجموع هذه الآيات الكريمة ان عبادة الله سبحان هي علة ايجاد هذا الكون كله بما فيه الإنسان كما اشرت لذلك في مستهل الحديث ،

ومن اجل بلوغ الهدف المقصود من هذا الحديث حول هذا الموضوع السامي لا بد من بيان المراد من العبادة ـ موضع البحث ـ مع الاشارة الى الفوائد الكبيرة والكثيرة المترتبة على ممارستها ولو اجمالا ويوكل بيان هذه الفوائد على وجه التفصيل الى ابحاث اخرى اوسع تبين فيها تلك الفوائد بحديث اشمل فنقول :

__________________

(١) سورة الذاريات ، آية : ٥٦.

(٢) سورة لقمان ، آية : ٢٠.

(٣) سورة الجاثية ، آية : ١٣.


بيان المراد من العبادة بمعناه العام

المراد من العبادة موضوع الحديث ـ الانقياد الكلي والخضوع المطلق لارادة الله سبحانه في كل عمل ارادي وموقف اختياري يصدر من المكلف باردته واختياره سواء كان هذا العمل باطنيا ام ظاهريا ـ ومن ابرز مصاديق القسم الاول وهو العبادة الباطنية ـ هو التفكر في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار وفي الافاق والانفس كما اراد الله سبحانه من اجل تحصيل العقيدة الصحيحة الراسخة والايمان الصادق الجازم بوجود الخالق العظيم لهذا الكون العظيم وبوحدانيته وعدله وضرورة ارساله الانبياء لبيان الغاية من الخلق واتمام الحجة على المخلوق المكلف بتحقيقها على الوجه المطلوب ،

وبذلك ندرك ضرورة تعيينه سبحانه للاوصياء الذين ينوبون عن الانبياء ويمثلون دورهم الرسالي بعد انتقالهم الى جوار الرفيق الاعلى لانه سبحانه اعلم حيث يجعل رسالته كما ندرك ضرورة اعادة الناس الى الحياة من جديد وبعثهم بعد الموت يوم القيامة من اجل ان يحكم بينهم بالعدل ويجازي كل مكلف بما يستحق من النعيم اذا قام بدور العبودية الخالصة ـ او العذاب الاليم اذا انحرف عن خطها القويم ـ عقيدة او سلوكا ـ وقد وعد الله بالثواب واوعد بالعقاب بصريح قوله تعالى :

( فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يرهُ (٧) ومن يعمل مثقال ذرة شراً يرهُ (٨) ) (١).

فالتدبر في ايات الكتاب التكويني وهو هذا الكون الفسيح من اجل استلهام العقائد الحقة المذكورة يعتبر عبادة داخلية يمارسها المكلف في مسجد العقل ومحراب النفس انقياداً لارادة الله ذلك كما ان التدبر في ايات الكتاب التشريعي امتثالا لقوله تعالى :

__________________

(١) سورة الزلزلة ، آية : ٧ و ٨.


( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها (٢٤) ) (١).

يعتبر عبادة باطنية توصل المكلف الى اساس وروح العبادة الظاهرية التي يتمثل فيها القسم الثاني من العبادة بمفهومها العام.

وبما ذكرناه من المعنى العام للعبادة ندرك سعة دائرتها وامتداد ساحتها لتشمل باطن الإنسان المكلف مضافا الى ظاهره ولتشمل كل عمل اختياري يمارسه وفق ارادة الله سبحانه ولا تنحصر في اطار العبادات الخاصة المعهودة التي ذكرها الفقهاء في مقابل المعاملات وفرقوا بينهما بأن الاولى لا تصح ولا يترتب عليها اثرها الا اذا اتى بها المكلف بقصد التقرب لله سبحانه بخلاف المعاملات المقابلة لها حيث تصح ولو صدرت منه بدون قصد التقرب له سبحانه.

وذلك لان الهدف الاساسي من تشريع العبادات وتقييدها بهذا القيد هو تعميق الصلة الايمانية بالله تعالى لتصبح جزء من فكر ونفس المؤمن العابد فتصحبه وتنطلق معه في سائر التصرفات التي يمارسها على الصعيد العملي بارادته فتصدر منه منسجمة مع الارادة الإلهية التشريعية ويكون بذلك متحركا في نطاق العبودية الكاملة الشاملة التي اراد الله سبحانه ان يصل العبد اليها ويحصل عليها من خلال التزامه بتأدية العبادات الخاصة والاتيان بها بقصد التقرب اليه والتعبد له وحده لا شريك له.

وبهذا البيان يتضح ان تشريع العبادات الخاصة والزام المكلف بإتيانها على الوجه القربي لم يكن الا من اجل ان تكون اعمالا تمرينية ورياضات روحية يمارسها المكلف ليجني فوائدها المعنوية والمادية المترتبة عليها مباشرة وليصل بها الى ملكة العبودية الثابتة التي تضبط تصرفاته وتحصرها في اطار الاطاعة والانقياد لارادة الله سبحانه فلا يفعل الا ما يريد الله منه فعله ولا

__________________

(١) سورة محمد ، آية : ٢٤.


يترك الا ما يريد الله منه تركه وبهذا الانضباط والارتباط الكلي بالمبدأ الاعلى سبحانه تتحقق الغاية الاساسية المقصودة من تكليف الإنسان بالعبادة بمعناها العام وهي كماله وسعادته في دنياه واخرته باعتبار ان الله سبحانه وهو الحكيم الرحيم لا يأمر المكلف بفعل ايجابا او استحبابا الا اذا كان مشتملا على مصلحة ومنفعة روحية او مادية كما انه لا ينهى عن فعل الاّ إذا كان مؤديا لوقوعه في مفسدة ومضرة معنوية ومادية ـ والمكلف الذي يلتزم بفعل ما ينفع وترك ما يضر ـ يظفر بهدف السعادة والكمال في مختلف المجالات لان هذا الالتزام هو المعبر عنه بالتقوى التي تثمر لصحابها كل خير وفضيلة وتنأى به عن كل شر ورذيلة ومن المعلوم الواضح ان الشخص الذي يتوفق للاستقامة على خط التقوى بالمعنى المذكور ـ يدخل جنة الدنيا ومنها ينطلق الى جنة الآخرة :

( يوم لا ينفع مال ولا بنون (٨٨) الاّ من اتى الله بقلب سليم (٨٩) ) (١).

وقد بين الله سبحانه النتيجة الايجابية المباركة المترتبة على عبادته تعالى وتقواه بصريح قوله :

( ولو ان اهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون (٩٦) ) (٢).

وقوله تعالى :

( ومن يتق الله يجعل له مخرجا (٢) ويرزقه من حيث لايحتسب ) (٣).

وتتجلي هذه الحقيقة بوضوح من خلال المقارنة بين وضع الامة قبل بزوغ فجر الرسالة المحمدية حيث كانت تتخبط في دياجير الجهالة وظلمات الضلالة وتعاني بسبب ذلك من كل انواع البؤس والشقاء والتعب والعناء.

__________________

(١) سورة الشعراء ، آية ٨٨ و ٨٩.

(٢) سورة الاعراف ، آية : ٩٦.

(٣) سورة الطلاق ، آية : ٢ و ٣.


ووضعها بعد دخولها في دين الله افواجا حيث تحولت من عبادة الاوثان والاصنام الى عبادة الله الواحد العلام وطبقت النظم الإلهية الكاملة العادلة فخرجت بذلك من الظلمات الى النور واصبحت خير امة اخرجت للناس تأمر بالمعروف بعد فعله وتنهى عن المنكر بعد تركه وادركت بهذا وذاك العزة والكرامة ونالت سعادة الدنيا والآخرة.

وحيث انها اعرضت مؤخرا عن شريعة الخالق الرحمن وطبقت النظم المستوردة من الشرق والغرب ـ وقعت في نفس المآسي التي اصيبت بها ايام الجاهلية الاولى ولا مجال لخلاصها منها وعودتها الى سابق مجدها وقوتها وعزتها التي ادركتها بالإسلام وتطبيق تعاليمه الا بالعودة اليه من جديد بالايمان الصادق والعمل الصالح والتواصي بالحق والصبر كما صرح الله سبحانه بذلك في سورة العصر قال تعالى :

( والعصر(١) ان الإنسان لفي خسر (٢) الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر (٣) ) (١).

وقد اشرت الى هذا المضمون بالأبيات التالية :

والعصر إن المرء في خسـران

وشقاوة ومــذلة وهــوان

الا الألى عرفوا الإله وطبـقوا

نهج الهدى وشريعة القـرآن

وغدا يوصي بعضهم بعضا هنا

بالحق والصبر الجميل الباني


وبعد ذكر هذا الحديث التمهيدي الذي كتب ونشر سنة ١٩٩٢ م الموافق : ١٣ ـ ٦ ـ ١٤١٣ هـ في مجلة الايمان التي كانت تصدر في كندا ـ ترجح لدي ذكر حديثين اخرين كتبا ونشرا في نفس المجلة ونفس السنة ـ وذلك لاني كتبتهما حول موضوع الصوم ودوره التربوي في سلوك المسلم فيكونان بذلك منسجمين مع موضوع الكتاب وداخلين في جوهر بحثه وقد

__________________

(١) سورة العصر ، آية : ١ ـ ٣.


حذفت من كل منهما مقدمته وخاتمته لخروجهما عن محل البحث وارتباطهما ببعض خصوصيات المجلة ـ وفيما يلي اهم ما ورد في الحديث الاول.

عندما اقتضت الحكمة الإلهية ان توجد الإنسان لعبادته سبحانه وحده لا شريك له بصورة مستمرة ومسيرة ثابتة وكان ذلك متوقفا على قوة روحية وصلابة ايمانية تساعده على الاستقامة في خط العبودية القويم وعدم الانحراف عنه تحت تأثير الاغراءات الكثيرة والضغوطات العديدة ـ فقد جاء التكليف بالعبادات الخاصة والاتيان بها على وجهها الخاص من اجل ان تكون رياضة روحية تساهم في تقوية الروح المعنوية لدى المكلف وتصليب ارادته لينهض بمسؤليته العبادية بقوة وثبات يشد العبد المخلوق الى خالقه ويربطه به فكريا من خلال التأمل في عظمته العظيمة ونفسيا من خلال امتلاء قلبه بالخشوع امام هذه العظمة ـ وعمليا من خلال التزامه بسلوك خطه القويم وصراطه المستقيم الذي يؤدي به الى سعادة الدارين.

والاستمرار على ممارسة العبادة بهذا الخشوع النفسي وذلك الالتزام العملي ـ يعطي المكلف الملتزم قوة روحية تسدد خطاه وتثبتها على خط الاستقامة في سبيل العبودية المطلوبة وبذلك يظهر السر في اعتبار الشارع المقدس قصد التقرب في العبادات شرطا في صحتها لأن توفير هذا الشرط هو الذي يؤدي في النهاية الى تحقيق ملكة العبودية والتقوى المستهدفة من تشريع تلك العبادات الخاصة على هذا الوجه الخاص.


دور الصيام في ترسيخ الإيمان والتقوى

وتأتي فريضة الصوم في الدرجة الثانية بعد فريضة الصلاة في ترسيخ ملكة التقوى في نفس المؤمن بسبب ما تقتضيه من كبح لجماحها ومنع لها من تناول ما هي بحاجة ماسة له من الطعام والشراب والمعاشرة الخاصة المعهودة او اصبح حاجة ملحة لها بسبب تعودها عليه وصعوبة تركها له.

وعندما تنتصر النفس في معركة جهادها الاكبر على تلك الميول والحاجات والتقاليد والعادات نتيجة اعتصامها بحبل الله وامتثالها تكليفه خلال ايام شهر رمضان فهي تخرج من هذه المعركة منتصرة وقادرة على الاحتفاظ بهذا النصر بالاستمرار على كبح جماح هوى النفس الامارة بالسوء في كل الشهور والاوقات والاعراض عن كل المحرمات في شهر رمضان وخارجه كما كانت تمتنع عن المفطرات ايام الصيام ـ لان الدافع لامتثال امر الله سبحانه بالصوم والمانع من مخالفته وهو تقواه سبحانه وخوف عقابه مع رجاء ثوابه ـ هو نفسه يبقى مع المكلف دافعا ومانعا بعد ان تترسخ ملكة التقوى في نفسه وتصبح جزءاً من كيانه وقد صرح الله سبحانه في كتابه الكريم بأن الغاية من تشريع فريضة الصوم هي التوصل الى هذه الملكة الثابتة حيث قال سبحانه :

( يايها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون (١٨٣) ) (١).

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ١٨٣.


كما صرح سبحانه بأن الغاية من تشريع فريضة الصلاة هو التوصل الى قوة روحية مانعة من ارتكاب الفحشاء ومخالفة احكام الله تعالى حيث قال :

( ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله اكبر والله يعلم ما تصنعون (٤٥) ) (١).

وهنا سؤال يطرح نفسه ويطلب الاجابة عليه لبيان الحقيقة وكشف الشبهة وحاصل هذا السؤال.

انه كيف نوفق بين القول بأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وان الصوم يؤدي الى التقوى واجتناب معصية الله سبحانه كما هو صريح الايتين المباركتين مع ما نراه من حصول عكس ذلك من الكثيرين ممن يصومون ويصلون ولا ينتهون عن الفحشاء والمنكر ولا نرى اثرا للتقوى في سلوكهم الخارجي.

وحاصل الجواب : ان هؤلاء لم يأتوا بالصلاة الحقيقية والصوم الواقعي بل اختصروا على الشكل والصورة المجردة عن الجوهر والحقيقة لان الصوم الحقيقي ينطلق اولا من داخل النفس متمثلا بالتجرد عن كل صفة ذميمة واخطرها صفة الرياء والنفاق وبالتحلي بكل مزية حميدة وابرزها الايمان الصادق والاخلاص لله سبحانه في النية وما يترتب عليها ـ ليكون الصوم بذلك التجرد وهذا التحلي امساكا كاملا عن كل ما يبعد عن الله سبحانه من النية السيئة وما يترتب عليها من الانحراف في السلوك والبعد عن المثل السامية والقيم الرفيعة.

ومن الواضح ان الصوم عندما يكون كذلك يصبح ملازما لصفة التقوى ومستلزما لكل ما يقرب من الله تعالى من فعل المحبوب له المقرب منه وترك المبغوض لديه المبعد عنه.

__________________

(١) سورة العنكبوت ، آية : ٤٥.


وهكذا الصلاة عندما تنطلق من فكر واع مستنير بضوء العقيدة الصحيحة الراسخة فهي تكون صلة وثيقة بمبدأ الكون والإنسان وصلاة له في محراب القلب السليم من الشك والنفاق تثمر الخشوع في النفس وخضوعها لارادة الله سبحانه فلا تتحرك الا في اطار الارادة الإلهية المترجمة بالوظائف الشرعية المتنوعة تبعا لتنوع الملاكات والمقتضيات الداعية لتشريعها ومن المعلوم ان الصلاة عندما تكون كذلك تصبح باعثة بطبعها لفعل المعروف المقرب من الله تعالى وناهية رادعة عن ارتكاب الفحشاء والمنكر المبعد عنه.

واذا اتفق عدم ترتب الاثر المطلوب من هاتين الفريضتين فلم يكن الصوم مثمرا للتقوى والاستقامة في خط السماء ولم تكن الصلاة ناهية عن المنكر والفحشاء ـ في بعض الاحيان نتيجة عدم العصمة فلا يكون ذلك كاشفا عن فقد صفة التقوى والعدالة بالكلية اذا كان الطابع العام للمسلم المصلي الصائم هو الاستقامة في درب الهدى وصراط الشرع المستقيم وكان مبادرا للعودة الى الله سبحانه من باب التوبة التي تمحو الذنب وتجعل صاحبه بمنزلة غير المذنب للحديث المروي عن اهل البيت :.

« التائب من الذنب كمن لا ذنب له » كما تعيده الى محبة الله ورضوانه لقوله تعالى :

( إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين (٢٢٢) ) (١).

واما اذا استرسل العاصي في معصيته ولم يبادر الى توبته بشروطها المقررة المحررة في موضعها فذلك يكشف عن عدم تحقق صفة التقوى في نفسه من الاساس وان صلاته وصومه كانا مجرد ممارسة ظاهرية بدنية صادرة بباعث العادة او المحاكاة والتقليد للآخرين من دون نفوذ روحها الى روحه وفلسفتها الى فكره ووعيه ومن الواضح ان العبادات عامة وهاتين الفريضتين

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ٢٢٢.


بصورة خاصة لا تحقق اهدافها في حياة الإنسان المسلم الا اذا نفذت معانيها السامية ومفاهميها التربوية الهادفة ـ الى الفكر لتنوره والى القلب لتضيئه بنور التقوى وتكون النتيجة المترتبة عليها بعد ذلك هي استقامة السلوك في خط الشرع ومنهج العبودية ـ واما اذا وقفت عند الظاهر واختص تأثيرها بالجسم ليكون الصوم مجرد امساك عن تلك المفطرات المعدودة واكثرها مباحات في نفسها من دون ان يثمر للصائم صفة الامساك العام عن كل حرام في كل الاوقات فإن هذا الصوم يكون بمنزلة العدم ويكون صاحبه مصداقا لما روي عن الرسول الاعظم 6 من قوله :

رب صائم ليس له من صيامه الا الظمأ ورب قائم ليس له من قيامه الا السهر.

وكذلك الصلاة التي لا تؤدي الى الغاية المنشودة منها تكون جسما بلا روح ويكون صاحبها مصداقا لما روي عن النبي 6 من قوله :

« من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد عن الله الا بعداً ». والى ذلك الصوم الناقص وتلك الصلاة البتراء اشار ابو العلاء بقوله :

ما الدين صوم يذوب الصائمون له

ولا صلاة ولا صوف على الجسد

وإنما الدين ترك الشر مطــرحا

ونفضك الصدر من غل ومن حسد

كما اشار بالبيتين التاليين الى المتعبد الجاهل الذي جهل فلسفة العبادة وحكمتها وهي تهذيب النفس وتعديل السلوك مع الخالق والمخلوق واقتصر على الظاهر والصورة المجردة عن روح العبادة وجوهر الحقيقة وهما قوله :

صل وصم وطف بمكة ناسـكا

سبعين لا سبعا فلست بناسك

جهل الديانة من اذا عرضت له

شهواته لم يلف بالمتمـاسك

وقد اشرت الى ذلك كله بمقطوعة شعرية هي جزء من قصيدة نظمت والقيت في النجف الاشرف بمناسبة دينية في السبعينات على ما اذكر.


وهي ما يلي :

يا أيها السـاري وفي افـــكاره

شبه يظن بها الهجين اصيلا

حكم ضميرك في المسائل والتمس

للحق من وحي السماء دليلا

لا يخـــدعنك مظهر متــأنق

يعطيك لونا رائعا مقبــولا

فلربما انكشف الغطاء ولم تجــد

الا سرابا لا يبل غـــليلا

ليس التديــن ان تحـج لتشتري

لقبا وتـدرك بالمظاهر سولا

ليس التدين ان تجوع مـــغادرا

بصيامك المشروب والمأكولا

وتؤدي الصلوات في اوقـــاتها

لتنال ذكرا بالثناء جــميلا

وتحالف السـوداء تسبيحا بــها

وتكرر التكبـير والتهــليلا

ان التدين ان تــحقق غـــاية

بعث الإله بها النبي رسـولا

ان تتبع الحق الصراح ولا تـرى

لهداه في هذي الحياة بـديلا

.

وفيما يلي نص الحديث الثاني الذي نشر في مجلة الايمان حول موضوع الصوم

الصوم ودوره التربوي في سلوك المسلم

قد بينت في الحديث السابق ابرز الفوائد المترتبة على تأدية فريضة الصوم وهي التقوى المتمثلة بالاستقامة على خط الشرع القويم وصراطه المستقيم وعدم الانحراف عنه تحت تأثير العوامل الضاغطة بطبعها على ارادة الإنسان وكان حاصل ما ذكرته توجيها لترتب هذه الصفة المباركة على تأدية تلك الفريضة المقدسة ان الإنسان اذا التزم بتأدية فريضة الصيام تاركا ما يميل اليه بطبعه من الطعام والشراب ونحوهما من الحاجات الحياتية الاساسية او اصبحت حاجة له بالعرف والاعتياد كالتدخين ونحوه واستمر على هذا الترك مخالفا لهواه ممتثلا لامر مولاه لا يدفعه لذلك سوى رجاء ثوابه او خوفه من عقابه اجل اذا التزم المكلف بذلك واستمر عليه طيلة شهر رمضان المبارك


فهو يخرج من مدرسة هذا الشهر متمتعا بقوة مراقبة وصفة محاسبة للنفس تضبط تصرفاتها وتحصرها في اطار الوظيفة الشرعية فلا تفعل الا ما يريد الله منها فعله ولا تترك الا ما يريد منها تركه لنفس السبب الذي كانت تترك المفطرات ايام الصيام امتثالا لأمره سبحانه.

وهذه الصفة الثابتة والملكة الراسخة التي تثبت في نفس الصائم نتيجة ممارسته لهذه العبادة الصامتة هي المعبر عنها بالتقوى وحيث انها من ابرز الفوائد المترتبة عليها فقد نص الله سبحانه عليها بالخصوص في قوله تعالى :

( يايها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون (١٨٣) ) (١).

ومن جملة الفوائد المترتبة على تأدية فريضة الصيام تحصيل صفة الصبر وقوة الارادة وذلك لان الإنسان يولد ضعيفا جسميا وروحيا فيحتاج الى ما ينميه ويقويه من الغذاء والرياضة وكما طلب الشرع المقدس ممن يتولى تربية الطفل ان يقدم له الغذاء والماء لينمو جسمه وتحفظ حياته المادية ورجح له تدريبه على بعض الحركات الجسمية الرياضية ليتصلب عوده وتقوى عضلات بدنه كذلك طلب منه ان يقدم له الغذاء الروحي المتمثل بالعلم والمعرفة الصحيحية لينمو عقله وتسمو روحه وكل كيانه المعنوي وطلب منه ايضا ان يعوده على ممارسة الشعائر الدينية والفرائض الإسلامية وخصوصا فريضتي الصوم والصلاة لتقوى بها ارادته وتتصلب عضلاته الروحية وبعد بلوغه عاقلا يتوجه اليه التكليف على وجه الالزام بالاستمرار على تأدية الفرائض لما يترتب عليها من تقوية روح العبودية وصلابة الارادة الذاتية.

وتأتي فريضة الصوم في الطليعة من بين الفرائض والعبادات نظرا الى ما يترتب عليها من حبس النفس عما هي محتاجة اليه ومتعودة عليه فإذا انقادت

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ١٨٣.


لهذا التكليف الشرعي الصعب وتعودت على تحمل مشقة الانضباط والامتناع عما يصعب عليها تركه نشأت له من ذلك قوة روحية وصلابة ارادية كما تحصل القوة البدنية بترويض البدن وتعويده على حمل الاثقال وممارسة الصعب من الاعمال ـ والمكلف بحاجة ماسة الى تحقيق هذه القوة وتحصيلها بالرياضة الروحية كما أنه بحاجة الى تحصيل القوة الجسمية لتساعده على القيام بكثير من الاعمال الصعبة والشاقة ولذلك يدرب الجندي ويلزم بالقيام بالكثير من النشاطات الشاقة جسميا ونفسيا من اجل ان يحصل بممارستها والتعوج عليها قوة بدنية وروحية تمكنه من النهوض بدور الجندية على الوجه المطلوب في المجالات التي تفرض عليه وظيفته هذه ان يخوضها بقوة وجلد وعلى الاخص في مجال النضال ومواجهة الاعداء التي تطلب منه ارادة ثابتة وعزيمة ماضية وصبرا على الشدائد والمتاعب كما تطلب منه قوة جسمية تساعده على الثبات في المعركة فلا ينهزم نفسيا ولا يضعف جسميا عندما يتعرض لكثير من الصعوبات.

وبذلك ندرك السر في تغلب الفئة المؤمنة القليلة عددا وعدة ـ على اعدائها الاكثر كما حصل في معركة بدر التي وقعت في السابع عشر من شهر رمضان المبارك في السنة الثانية من الهجرة النبوية المباركة.

والذي يثبت موقف المجاهد المؤمن في ساحة النضال مضافا الى تجمله بصفة الصبر ـ هو ثقته القوية بترتب احدى الحسنيين على اقتحامه ميدان النضال النصر او الشهادة فيكون بمنزلة التاجر الذي يحصل له اليقين بحصول الربح في تجارته حيث يقدم عليها ويتحمل المشقة والعناء في سبيل تحصيل الربح المعلوم بخلاف من لا يكون حاملا هذه الثقة فهو بين احد موقفين اما الاحجام وعدم الاقدام من الاول او الانهزام وعدم الثبات امام العدو بسبب فقده مصدر الصبر والتجلد وهو الايمان الصادق والعقيدة الراسخة ـ وسورة العصر تعطي الصورة الواضحة عن هذه الحقيقة الايمانية الراهنة حيث رتبت السلامة من الخسر المطلق والظفر بالربح الحقيقي ـ على


الإيمان الراسخ المترجم بالعمل الصالح والتواصي بالحق مع التواصي بالصبر قال الشاعر :

لاستسهلن الصعب او أدرك المنى

فما انقادت الآمال الا لصابر

تأثير الصيام في البر والإحسان

ومن جملة الفوائد المترتبة على تأدية فريضة الصيام احساس الصائم بألم الجوع والحرمان فيمد يد البر والاحسان الى المستضعفين من الفقراء والمساكين ليخفف او يزيل ذلك الألم عنهم وقد روي عن نبيين عظيمين وهما يوسف وسليمان على نبينا وعليهما افضل التحية وازكى التسليم ـ انهما كانا يطويان اكثر الايام بالصيام من اجل ان يبقيا على حالة تذكر تفصيلي لحاجة الفقراء فيندفعا نحوهم بالعطف والحنان والبر والاحسانه لهذا فرض الله سبحانه الصوم على جميع المكلفين الواجدين لشروط وجوبه من اجل ان يحس الاغنياء بألام الفقراء البؤساء فيعطفوا عليهم ويمدوا يد الاحسان اليهم.

ومن فوائد الصوم معرفة قدر النعمة وفضل المنعم الذي وفرها له لان النعمة لا تعرف الا بعد فقدها ومن الواضح ان الطعام والشراب ونحوهما ـ من ابرز النعم السماوية التي من الله سبحانه بها على الكثير من مخلوقاته وخصوصا نوع الإنسان ومن ابرز اثار معرفة قدر النعمة وفضل مصدرها المتفضل بها هو ان يحافظ الإنسان عليها ويشكر المنعم بها عليه وذلك بصرفها في سبيل اطاعته ليبقيها لها ويزيده منها لقوله تعالى :

( لئن شكرتم لازيدنكم ) (١).

__________________

(١) سورة إبراهيم ، آية : ٧.


وبفقده لها واحساسه الفعلي بالحاجة الماسة لها وعدم الاستغناء عنها ـ يعرف قدرها كما يعرف واقعه وحقيقة امره وهي الاحتياج المطلق الى الغني المطلق وهو الله سبحانه وانه اذا حجب عنه الاءه والطافه يتعرض للضرر الشديد او الموت المحتم وذلك يضطره لان يتنازل عن كبريائه فلا يطغى ويتجاوز حده بسبب استمرار النعمة وعدم التفاته الى مصدرها الحقيقي قال سبحانه :

( كلا إن الإنسان ليطغى (٦) أن رآه استغنى (٧) ) (١).

ويدخل في هذا الاطار ابتلاء الله سبحانه للانسان ببعض المصائب والمحن حيث يرجع الى حقيقته ويعترف بواقعه وهو الضعف والافتقار الى خالقه ليتفضل عليه بنعمة السلامة وحفظها له وعدم زوالها عنه وشعور الإنسان بذلك يسبب لجوءه الى الله سبحانه والتضرع له بالدعاء والاطاعة وذلك هو روح العبادة التي خلق من اجلها.

دور الصيام في سلامة البدن من الامراض

ومن الفوائد المترتبة على الصوم سلامة البدن من الاصابة بكثير من الامراض وشفاؤها منها بعد اصابته بها بإعتبار كونه حمية تفرض عليه ليعافى من الامراض الناشئة في الغالب من الاسراف في الطعام والشراب الامر الذي يسبب عجز المعدة عن هضم الطعام بالمقدار المناسب وذلك يؤدي الى بقاء قسم منه بدون هضم وينتج عن هذا اصابته بكثير من الامراض والعوارض الصحية.

وتأتي فريضة الصوم لتعطي هذا العضو الحيوي اجازة وفرصة استراحة فينشط ويتفرغ لهضم تلك الاطعمة المتخلفة فيسلم الجسم من الاصابة بتلك الامراض التي كان متعرضا للاصابة بها لولا الصوم الذي يقوم بدور الوقاية ويفهم ذلك من قول الرسول

____________

(١) سورة العلق ، آية : ٦ و ٧.


الاعظم 6 وهو قوله : « المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء ». كما يدل عليه بوضوح قوله 6 : « صوموا تصحوا » هذا هو حاصل الحديث الثاني الذي نشر مع الاول في مجلة الايمان كما مرت الاشارة اليه.

واحب ان اقف من الحديث الاخير الذي ختم به الحديث الثاني وهو قول النبي 6 : « صوموا تصحوا » وقفة تأمل وتدبر من اجل استحياء الدروس التربوية والفوائد المعنوية والصحية بالمعنى الاعم للصحة الشامل للكيان الإنسان ي بمجموعه المادي والمعنوي فأقول :

ان المتبادر من كلمة تصحوا الواردة في الحديث النبوي الشريف وان كان هو الصحة المادية الجسمية وسلامة البدن من امراضه المعهودة ولكن اذا دققنا النظر في مضمون هذا الحديث ولاحظنا بعين البصيرة ما يترتب على الصوم من الصحة العامة الشاملة للكيان البشري كله المؤلف من عنصري الجسم والروح ـ ندرك ان المقصود منه هو الصحة الاعم الشاملة للمعنوية والمادية معا ـ وذلك لان الصوم كما يلعب دورا بارزا في تحصين الصحة البدنية ووقايتها من الاصابة بالكثير من العوارض الصحية البدنية ـ ويساهم ايضا في علاجها وازالتها بعد حصولها كما تقدم.

كذلك هو يلعب دورا طليعيا في صحة الجانب المعنوي من الكيان البشري حيث يساهم في سلامة الذهن من البلادة وضعف الفهم والاستيعاب لما يعطى له من الدروس او يطالعه من الكتب والمقالات.

وذلك لان النفس البشرية اذا كانت راغبة في شيء من الاشياء المادية او المعنوية فهي تنطلق مع هواها وتتجاوز حد التوسط والاعتدال غالبا ـ والطعام والشراب من الصق الاشياء المادية بحياة الإنسان ويزيد ميله اليهما والرغبة فيهما اذا كانا من نوعية تقتضي الانجذاب اليهما اكثر ولازم ذلك الزيادة منهما والاسراف فيهما وهذا يؤدي بطبعه الى تصاعد المزيد من الابخرة من المعدة الى الذهن لتغطي مرآته بحجاب منها يغطي صفحتها ويحجب نور الوعي عنها.


وبما ان الإنسان العادي يعيش اسير عاداته وعبد اهوائه ورغباته فينطلق معها الى حيث تريد ولا يتحرر منها ويقف في وجه تيارها الجارف الا اذا حصل له ضغط خارجي ودعم معنوي يساعده على التحرر والتحلل من قيودها وتأتي فريضة الصوم لتكون الوسيلة الوحيدة التي تطلق سراحه من سجن الرغبات وقيد الاهواء وذلك ببركة الايمان الذي يلزم صاحبه بإمتثال امر السماء من اجل التوصل الى الجزاء الاوفى والنفع الاعظم معجلا مضافا الى جنة عرضها السماوات والارض اعدت للمتقين الصائمين.

ويؤكد ذلك عامل الخوف الذي يضع المؤمن امام مصير مؤلم ويحذره من عاقبة مدمرة معجلا ومحرقة بنار الغضب الإلهي يوم الحشر والمعاد.

فرجاء الثواب العظيم وخوف العقاب الأليم الناتجان عن الايمان بالله واليوم الاخر ـ يساهمان معا في تحرير الإنسان من عبوديته لرغباته ويدفعانه لامتثال امر الله سبحانه بتأدية فريضة الصوم ليحس بالوجدان الفائدة الايجابية التي يجنيها في المجال الذهني بما يحصل عليه من صفاء الذهن وانطلاق الفكر وتحليقه في سماء الوعي وسرعة الاستفادة بعد ان كان يعيش جمود الفكر وبلادة الذهن.

ويطلب منه اذا كان عاقلا راشدا ـ ان يستمر على حالة التوسط والاعتدال في طعامه وشرابه عملا بقوله تعالى :

( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ) (١).

ليكون بذلك معطيا لكل واحد من جسمه وروحه حقه من الرعاية والاهتمام حيث يعطي جسمه ما يحتاج اليه منهما ولا يتناول الزائد عن حاجته ليمهد السبيل امام روحه ونفسه لتنال غذاءها المناسب لها من العلم النافع والمعرفة الصحيحة ـ وقد التفت اولئك الاشخاص الذين حاولوا ان يأتوا

__________________

(١) سورة الاعراف ، آية : ٣١.


بكلام مشابه لكلام الله سبحانه في كتابه الكريم ببلاغة اسلوبه وسحر بيانه وسمو معانيه ـ الى ما ذكرنا من تأثير قلة الطعام في صفاء الذهن وانطلاق الفكر في ميدان البلاغة والابداع ـ فأخذوا يقللون من الطعام ويقتصرون على المصنوع منه من لباب القمح والعسل المصفى ليحققوا بذلك هدف السبق في ميدان البلاغة ويأتوا بكلام مثل كلام الله تعالى او قريب منه واخيرا عجزوا عن مجاراته ولم يستطيعوا الى الدنو منه سبيلا.

ونقل عن اديسون مكتشف الكهرباء انه كان يقتصر في اكله اكثر ايامه على تناول فنجان حليب ونحوه ليساعده ذلك على ابداعه ونجاحه في اختراعه.


دور الصيام في صحة العقل

وعدم انحرافه عن منهج الفطرة

وهكذا يساهم الصوم الواعي الصادر عن نية صادقة وتعبد واع في صحة العقل وسلامته من الانحراف عن منهج الفطرة السليمة والإنسان ية الكريمة ـ تحت تأثير الغرائز الجامحة والاهواء الطامحة لتخطط وتدبر الوسائل المرضية لتلك الاهواء ولو كانت مسخطة لله سبحانه وموقعة الاخرين في الاضرار الجسيمة والوجه في تأثير الصوم الهادف وتحقيق صحة العقل وسلامة الفكر من مرض الانحراف الفكري الخطير هو انه ـ اي الصوم ـ ينعش الضمير الديني في حياة الإنسان المؤمن ويقوي عنده حس المراقبة والخوف من الله تعالى نتيجة التزامه بتأدية هذه الفريضة وامساكه عن تناول المفطرات التي تمس الحاجة اليها وتزداد رغبته فيها وخصوصا اذا كان النهار طويلا والجو حارا مع تمكنه من تناولها بدون وجود اي مانع من قبل الاخرين اما لعدم الايمان من الاساس او لعدم الالتزام بإمتثال الاحكام الشرعية بسبب ضعف ايمانهم وتحللهم من الاستقامة في خط التقوى.

فمثل هذا المؤمن الرسالي الذي يخالف هواه ويخاف مولاه فيفعل ما يأمره به ولو كان صعبا ويترك ما ينهاه عنه ولو كان شديد التعلق به قوي الرغبة فيه.

أجل : إن مثل هذا المؤمن الواعي لا يقف الصوم عنده على كيانه الظاهري فيمنع جوارحه من ارتكاب ما حرم الله عليه من المفطرات وغيرها


من المحرمات الذاتية المعهودة كما سيأتي تفيصله بل ينفذ صومه باشراقته المتألقة الى داخل نفسه وقلبه وضميره لينير ذلك كله بضوء التقوى والخوف من الله تعالى فلا يبقى في اي واحد منها أثر لظلام النية السيئة والتفكير الشيطاني الذي يخطط للهدم والاضرار بالاخرين لنيل منفعة مادية شخصية ترضي هواه وتشبع رغبة نفسه الامارة بالسوء وبذلك ندرك ان المؤمن الواعي كامل الايمان هو الذي يحقق الكامل من الصيام فيضم الامساك الباطني عن كل نية سيئة وتفكير شيطاني مدمر الى الامساك الظاهري المتمثل بترك المفطرات المعهودة المعدودة مع جميع المحرمات الذاتية علما منه بأن الله سبحانه لم يحرم عليه المفطرات المعلومة في شهر رمضان المبارك واكثرها مباحات في نفسها الا من اجل ان يتمرن ويستفيد من صومه الخاص قوة ارادية تساعده على تحقيق الصوم العام المتمثل بالامساك الكامل عن كل المحرمات في جميع الشهور والاوقات وذلك عبارة اخرى عن التقوى التي اعتبرها الله سبحانه العلة الغائية والسبب الداعي لتشريع الصوم كما تقدم حيث قال تعالى :

( يايها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون (١٨٣) ) (١).

في مقام صوم الفكر والعقل عن التخطيط الحرام والتفكير الشيطاني الاثم ـ يأتي فطوره الذي يتناوله بعد انتهاء نهار هذا الصوم المعنوي وهو يتمثل في التفكير في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار وفي الافاق والانفس وفي التدبر في آيات الكتاب الكريم ليحرر فكره وعقله ويطلقهما من اسر الجهل والتقليد الاعمى ويسير على درب الحرية الفكرية الداخلية التي ينال بها الايمان الصادق والعقيدة الصحيحة الراسخة التي تثمر له العبودية الواعية والعبادة الخالصة لوجه الله تعالى.

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ١٨٣.


دور الصوم في صحة القلب

وهكذا ينطلق الصوم في رحلة داخلية ليصل الى القلب ويطهره من كل الصفات الذميمة كالحسد والحرص المدمر والنفاق المقيت والرياء المفسد ـ والبغض لاولياء الله والحب لاعدائه ونحو ذلك من الصفات الذميمة والمعاني السقيمة التي هي في واقعها امراض معنوية محطمة تدمر النفس وتنسحب على الجسد ليصاب بالكثير من الامراض الخطيرة ـ واذا كان المثل المشهور يقول :

العقل السليم في الجسم السليم فالعكس صحيح ايضا لان الجسم لا يكون سليما الا اذا حمل في طيه القلب السليم من الحقد والحسد والطمع الجامح ونحو ذلك من الامراض النفسية المدمرة كما هو واضح ـ وقد اثبت الطب الحديث ان هناك امراضا كثيرة وخطيرة تحصل للانسان بسبب الخوف والقلق والحقد الدفين والحسد اللعين وحيث ان الإسلام دين السعادة والسلام فقد دخل الى عمق النفس البشرية وتدخل في احوالها الداخلية ليوجه كل صفة اودعها الله سبحانه في كيان الإنسان لتكون مصدر خير وعطاء ووسيلة تشييد وبناء في طريقها القويم ونهجها السليم فيتحول الحسد من صفة مدمرة للنفس والغير ـ الى رغبة وتسابق في طريق الصلاح والخير الخاص والعام كما يتحول الطمع والحرص على المادة الزائلة الموجب للبعد عن الله تعالى ورحمته ـ الى الطمع في عفو الله ومغفرته ونيل السعادة الخالدة في ظلال الفسيح من جنته.


ويتحول الحب من خطه المنحرف الى الخط القويم وصراطه المستقيم ليصبح حبا لله واوليائه كما يصبح البغض بغضا لعدو الله واوليائه وهذا هو المقصود من قولهم في مقام التعبير عن الحب السليم والبغض المستقيم بأنه الحب في الله والبغض في الله.

وهذه من ابرز صفات المؤمن الواعي الموحد ولذلك ورد مدحه في الشرع الإسلامي مع الامر به والحث عليه في الكتاب الكريم وسنة النبي العظيم 6.

وذلك لان الحب والبغض اذا سارا في الاتجاه السليم كما اراد الله تعالى فهما يساهمان مساهمة فعالة في بناء شخصية الإنسان المؤمن ويجعلان منه كيانا ساميا مثاليا يحب لغيره ما يحبه لنفسه ويفعله ويكره لغيره ما يكرهه لنفسه ويتركه.

وبذلك يصبح مصداقا للمؤمن الرسالي الذي ورد وصفه في الشرع الإسلامي القويم ـ بإن خيره مضمون وشره مأمون وهكذا يضيء الدين بأصوله القويمة وفروعه الحكيمة واخلاقه الحميدة ـ كل جوانب النفس البشرية فلا يبقى فيها شيء من ظلام الباطل وغيهب الانحراف المعنوي وذلك بصومها المعنوي الداخلي وامساكها عن كل المفطرات المعنوية المبطلة لذلك الصوم الباطني ـ وبهذا الصوم الواعي الفاعل يتحقق الصوم والامساك الكامل الذي ينطلق من داخل الذات وجوانبها الى خارج النفس وجوارحها ليصوم كل عضو عما حرم الله سبحانه فعله به.

فتصوم العين عن النظر الى ما حرم الله النظر اليه وتصوم الاذان عما حرم الله الاستماع اليه كالغناء والغيبة المحرمة بدون نهي الناطق بها دفاعا عن الغائب المذكور بها ـ مع التمكن من ذلك بلا ضرر او حرج وكذلك الاستماع الى الموسيقى المحرمة ونحو ذلك من المحرمات السماعية.

وكذلك يصوم اللسان عن كل محرم لساني كالكذب وشهادة الزور


والغيبة المحرمة والنميمة والسخرية والسباب والتنابز بالالقاب ونحو ذلك مما حرم الشارع النطق به مع عدم وجود المبرر الشرعي له.

وتصوم اليد عن القيام بأي عمل محرم بدون عذر ديني والرجل تصوم عن السعي في طريق معصية الله سبحانه وهكذا وفطور هذه الاعضاء الصائمة يتمثل بضد تلك المحرمات مما أمر الله سبحانه من الواجبات والمستحبات والمباحات والمؤمن الواعي لحكمة التشريع يترفع وينزه نفسه حتى عن فعل المكروهات لانها وان كانت جائزة في نفسها الا ان التعود عليها والاسترسال فيها يضعف المناعة النفسية عنده الى درجة يصبح معها قابلا ومستعدا للأنجراف بتيار الهوى والسقوط في مستنقع المعصية ولذلك عبر عن المكروهات بأنها حمى للمحرمات بمعنى انها تمثل السياج الرادع والسور المانع فاذا اقتحم المكلف هذا السور وقع في المحذور وتعرض لسخط الله سبحانه وسوء العاقبة في الدنيا والاخرة.

ولهذا ورد حول هذا الموضوع : من حام (١) حول الحمى اوشك ان يدخله ـ وعلى ضوء ما تقدم يعرف ان الصوم في الواقع التشريعي ـ يعتبر صونا للكيان الإنسان ي من كل ما يضره ماديا ومعنويا وفرديا واجتماعيا دنيويا واخرويا.

كما انه في الوقت نفسه تجمل بأنبل الصفات واجمل الاخلاق ومن المعلوم ان المؤمن عندما يحقق الصوم بمعناه العام الشامل لكل كيانه الداخلي والخارجي فإنه يصنع منه انسانا رساليا مثاليا يسمو على الملائكة ويستحق الاجلال والتقدير من الخالق والمخلوق ويهيىء شخصه لنوال السعادة الكاملة في الدنيا والاخرة.

وحيث اننا لا نزال نعيش في رحاب الصوم الإسلامي الشامل فإني

__________________

(١) هذا نقل للمثل بالمعنى والمضمون لا بالنص.


ارجح العودة الى بعض المحطات الاخلاقية التربوية التي وقفت عندها قليلا وانا اتابع السير في طريق رحلة روحية تستهدف الانتهاء الى المحطة النهائية التي تقف فيها النفس بين يدي الله سبحانه مناجية له بلسان الحب والاخلاص وطالبة منه قبول هذه العبادة الصامتة والتوفيق لتحقيق غايتها المنشودة وهدفها الكبير وهو التقوى التي تمثل الصوم العام والامساك التام عن كل مخالفة شرعية.

والمحطة التي اردت العودة اليها من اجل الوقوف عندها مرة اخرى لغاية التزود من ايحاآتها بالكثير من الدروس والعبر التي تمليها مدرسة شهر الله تعالى المبارك ـ على طلابها الصائمين من اجل ان تعرفهم فلسفة الصيام والغاية الاساسية المقصودة منه.


الحب في الله والبغض في الله

هذه المحطة التي اردت العود اليها هي محطة الحب والبغض في الله وذلك من اجل توضيح المراد من هاتين الصفتين وبيان الفائدة العظيمة المترتبة عليهما في حياة الإنسان المؤمن الذي باع كل كيانه وما يتعلق به لله سبحانه فأصبح لا يحمل في قلبه وهو عرش الله تعالى إلا ما يريد الله منه ان يحمله فيه من العقائد الحقة والصفات النبيلة والميول المعتدلة المنسجمة مع خط الاستقامة والتقوى ـ مع بيان الاسباب والعوامل التي تؤدي الى هاتين الصفتين النافعتين الرافعتين ان كانتا لله وفي الله والمدمرتين ان كانتا للشيطان وفي سبيله.

وذلك من اجل ان نسعى في سبيل ايجادهما والتوصل بهما الى هذه العبادة الباطنية والصلاة الداخلية المتحدة بروحها وجوهرها مع الصوم الداخلي الذي مرت الاشارة اليه.

فأقول : المراد من الحب في الله سبحانه هو ما يكون مصدره ارادة الله سبحانه وتشريعه والميزان الصحيح لذلك هو احراز حب الله سبحانه للشخص في مرتبة سابقة على ادخال حبه في قلوبنا وذلك على ضوء شرعه الهادي الى سواء السبيل ورسوله الباطني الذي اودعه في قلوبنا ونوره الداخلي الذي اوجده في فطرتنا من اجل ان نعرف من يحبه الله سبحانه فنحبه تبعا لمحبة الله له وان كان من ناحية مزاجية قد لا ينسجم حبنا المبدئي له مع ميلنا العاطفي ومثاله الواضح الشخص الذي فرض امتثاله امر الله له باقامة الحد او تنفيذ


حكم القصاص على بعض اقاربنا او اصدقائنا ـ فهذا الإنسان المؤمن الذي احبه الله تعالى لاستقامته في طريق شرعه وامتثاله اوامره ونواهيه يطلب منا ان نقدم هدانا على هوانا ونحبه بالحب المبدئي العقلي تبعا لمحبة الله له محكمينا عقلنا الديني على مزاجنا وميلنا المادي الشخصي.

وعلى ضوء الميزان السليم للحب في الله نستطيع ان نعرف الشخص الذي يستحق ان يبغض في الله ـ فهو الذي ابغضه الله تعالى بسبب انحرافه عن منهج فطرته بالكفر او عن خط الاستقامة في طريق الشرع بالفسق والعصيان بعد الاعتراف بأصول الدين والالتزام بمنهاجه واحكامه فمثل هذا الشخص لا يوجد اي مجال لان يجتمع حب الله واقعا مع الانفتاح عليه والميل اليه كما هو واضح لانهما لا يجتمعان بإعتبار ان حب الله سبحانه نور معنوي مبدئي وحب عدوه ظلام باطني عاطفي وكما لا يلتقي النور والظلام الحسيان في مكان واحد كذلك النور والظلام المعنويان.

وقد صرح الله سبحانه بهذه الحقيقة الموضوعية بقوله تعالى :

( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الاخر يوآدون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباهم أو أبنائهم أو أخوانهم أو عشيرتهم أُولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها رضى الله عنهم ورضوا عنه أُولئك حزب الله الا ان حزب الله هم المفلحون (٢٢) ) (١).

وقد وضع الإمام علي 7 ميزانا واقعيا لنعرف به الصديق الحقيقي ونميزه عن العدو الواقعي وذلك بقوله : ماحاصله : « اصدقائك ثلاثة واعداؤك ثلاثة ـ اما اصدقاؤك فهم صديقك وصديق صديقك وعدو عدوك وأعداؤك هم عدوك وعدو صديقك وصديق عدوك والشخص المبغوض من قبل الله سبحانه داخل في القسم الثاني من الاعداء لان الله سبحانه هو المحبوب الاول

__________________

(١) سورة المجادلة ، آية : ٢٢.


والصديق الاكمل الافضل ـ ان صح التعبير ـ ومن يعصيه ويتمرد عليه بالكفر او المعصية يكون عدوا له ـ فيكون عدواً لنا ومبغوضا من قبلنا لله وفي الله تعالى.

وقد بين الله تعالى ان حبنا له يجب ان يكون بالمستوى الاعلى والدرجة الارقى من حب اي كائن في الحياة ممن تدعونا الطبيعة البشرية لحبهم والميل اليهم بحكم ارتباطنا العرقي او احتياجنا المادي وذلك هو مقتضى الانطلاق من القاعدة النفسية والاخلاقية الايمانية التي اعتبرت ان حب الله سبحانه هو المصدر والاصل لاي حب يتعلق بالمخلوقين والمخلوقات ـ ومن المعلوم بميزان المنطق السليم ان الاصل والنبع يكون اقوى وارفع من الفرع الذي انبثق منه وخصوصا اذا كان هذا الاصل هو اصل الاصول وسبب الاسباب ورب الارباب ـ فلا يجوز ان يجعل الفرع بمستواه من أية جهة وبأي اعتبار فضلا عن ان يقدم عليه ويعتبر افضل واولى منه ـ اي من الاصل ـ وقد اشار الله سبحانه الى ذلك بقوله :

( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وازواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها احب اليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره واللهُ لايهدي القوم الفاسقين (٢٤) ) (١).

كما بين سبحانه درجة الحب العالية التي بلغها المؤمنون الواعون وارتقوا بها الى المستوى المناسب لعظمة الله تعالى وسعة فضله مقابل الجاهلين الغافلين الذين يتخذون اندادا من دون الله ويحبونهم بدرجة حب الله ـ وذلك بقوله تعالى :

( ومن الناس من يتخذ من دون الله اندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا اشد حبا لله ) (٢).

__________________

(١) سورة التوبة ، آية : ٢٤.

(٢) سور البقرة ، آية : ١٦٥.


واذا نظرنا الى هذه القضية بعين العقل الواعي والبصيرة النافذة ندرك ان الله سبحانه الحكيم الرحيم ـ لم يلزمنا بربط حبنا وبغضنا بحبه وبغضه الا من اجل ان نحكم عقولنا ونسيطر على ميولنا لتسير في خط مرضاة الله سبحانه ونحقق ما اراد الله لنا من المصالح ونتخلص مما احب الله لنا ان ننجو منه من المضار والمفاسد المعنوية والمادية ـ لانه سبحانه هو الحق وكل ما يصدر منه وعنه من تشريع وخلق فهو حق وحكمه ومصلحة وسلامة ـ ومن المعلوم ان الحق في العقيدة والشريعة والسلوك والممارسة هو مصدر ومصنع انسانية الإنسان ومنبع سعادته وفضيلته وقد شاءت حكمة السماء ان تحقق لنا ذلك فأودع فينا الاستعداد الفطري لتنمية وصقل فطرة التدين التي فطر الناس عليها ورسم منهج الشرع العادل الكامل وامرنا بسلوكه من اجل ان ننتهي به الى غاية الكمال والسعادة فقال تعالى :

( وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون (١٥٣) ) (١).

وقال سبحانه :

( ولو ان اهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض ) (٢).

وقال سبحانه :

( ومن يتق الله يجعل له مخرجا (٢) ويرزقه من حيث لايحتسب ) (٣).

__________________

(١) سورة الانعام ، آية : ١٥٣.

(٢) سورة الاعراف ، آية : ٩٦.

(٣) سورة الطلاق ، آية : ٢ و ٣.


وجوب خضوع الطبع لحكم الشرع

وبذلك ندرك السر في امر الله لنا بإخضاع طبائعنا وغرائزنا لعقولنا بعد استضاءتها بنور العلم والعرفان وضوء الهدى والايمان بإعتبار ان العقل الفطري رسول باطني فاذا تلقى وحي الهدى الإلهي وسار في نهجه وخضعت الغرائز له ومشت خلفه على درب التوازن والاعتدال يصبح الإنسان بذلك افضل من الملائكة كما اراد الله له ان يكون.

وقد بين الله سبحانه هذه المرتبة السامية التي يستطيع الإنسان ان يصل اليها ويسمو لها بالتقوى والعمل الصالح ـ بأمره الملائكة بالسجود لاول انسان حمل الامانة وسما الى سماء الفضيلة وهو آدم ابو البشر قال سبحانه :

( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا الا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين (٣٤) ) (١).

وحيث ان الغرائز التي اودعها الله سبحانه في كيان الإنسان من اجل ان يستثمرها ويوظفها لتحقيق الاهداف الطبيعية التي تمس الحاجة اليها ـ مطبوعة على التوثب والجموح بصاحبها والخروج عن حد التوازن والاعتدال ـ امر الله الإنسان المكلف بوضع حد لطموحها وذلك بتحكيم العقل واخضاعها لتدبيره وقيادته الهادية بعد انقياده لهدى السماء بالايمان الصادق والعمل الصالح ـ ومن المعلوم ان اخضاع الطبائع الجامحة لارشادات العقل والدين الناجحة ـ

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ٣٤.


يتطلب جهدا كبيرا ومعاناة شديدة ومن هنا عبر عن هذا الصراع الذي يخوضه الإنسان المكلف في ساحة النفس ـ بالجهاد الاكبر نظرا لصعوبته.

وحيث ان اكثر الغرائز والطبائع المادية ان لم يكن كلها ـ تتغذى وتقوى بالطعام والشراب ـ يكون فصلها عنهما مع سائر المفطرات مساعدا على اضعافها وذبولها كما يذبل النبات بسبب انقطاع الماء عنه ـ وبقدر ما تضعف الغرائز امام سلطان العقل وقيادته ـ يصبح اقوى منها واقدر على اخضاعها وكبح جماحها عن الانطلاق في ميدان الاهواء والرغبات المنحرفة ليسير بها في منهج الاعتدال والتوسط بين الكبت والحرمان والاسراف والطغيان وقد اشار الله سبحانه الى هذا التوسط بقوله :

( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين (٣١) ) (١).

ومن المعلوم ان الاعتدال والتوسط هو الطابع العام في التشريع الإسلامي وقد اراد الله سبحانه للانسان تحقيق ذلك في تصرفاته الحياتية بإعتبار ان ذلك فضيلة محمودة وتجاوزه رذيلة مذمومة ويبدأ التوازن في داخل النفس بإلتزام منهج التوحيد بإعتباره وسطا بين الالحاد والاشراك وينطلق الى خارجها في درب العمل والإمتثال وذلك باتصافه بفضيلة الكرم المتوسطة بين رذيلتي البخل والاسراف ، وبفضيلة الشجاعة المتوسطة بين الجبن والتهور وبفضيلة الزهد المتوسطة بين رذيلتي الطمع والحرص الجامح والزهد الخامد الجامد وهكذا وقد اعتبر علماء الاخلاق ان كل فضيلة تكون وسطا بين رذيلتي التفريط والافراط ومن هنا اشتهرت الحكمة القائلة : « خير الامر الوسط » والآية الكريمة التالية وان وردت لطلب التوسط بالبذل والعطاء ولكن يصح ان تعتبر عنوانا عاما ومقياسا شاملا للتوسط في كل التصرفات التي يمارسها لانسان على صعيد هذه الحياة وهي قوله تعالى :

__________________

(١) سورة الاعراف ، آية : ٣١.


( ولا تجعل يدك مغلولة الى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسوراً ) (١).

وبما ذكرنا من ان فصل الجسم وفطامه عن الطعام والشراب مدة من الزمن يؤدي الى ذبول الغرائز البشرية التي تنمو وتقوى بهما وذلك يساعد على سيطرة القوة العقلية عليها وتمكنها من تسييرها في طريق الاعتدال والتوسط تعرف قيمة الصوم ودوره الفعال في تهذيب النفس واستقامة السلوك وتلك هي فلسفة الصيام باختصار وغايته الهادفة التي تصنع من الإنسان الملتزم بخط السماء ايمانا وعملا ـ مسلما رساليا سائرا في درب الفضيلة والكمال ومحققا ما اراد الله له ان يحققه من التقدم والسعادة في الدنيا والآخرة.

أسباب المحبة والصفاء

وبعد التعرض لذكر صفتي الحب والبغض وان ذلك يجب ان يرتبط بالله سبحانه ليظل في اطار الحق والفضيلة فلا يجمح بصاحبه الى طرف الباطل والرذيلة.

أجل : بعد الوصول بالحديث الى هذه النقطة الحيوية ـ يترجح التعرض بوحي المناسبة ـ الى ذكر الاسباب والعوامل التي تؤدي الى المحبة والصفاء من اجل ان نوجدها ونتوصل بها الى تحصيل المحبة الواعية الرسالية التي تثمر للانسان فردا ومجتمعا الكثير من الخير والمصالح ـ كما يترجح في المقام وفي المقال ذكر الاسباب التي تؤدي الى العداوة والبغضاء وتفشيها بين افراد المجتمع وذلك من اجل اجتنابها والتخلص من افاتها والشرور الكثيرة التي تؤدي اليها فأقول وعلى الله الاعتماد ـ وبه الاستعانة : ان الله سبحانه وهو الرحمن الرحيم قد شاءت حكمته ان يخلق الكون لخدمة الإنسان

__________________

(١) سورة الإسراء ، آية : ٢٩.


والإنسان لعبادته وحده لا شريك له كما نص على ذلك في الكثير من آيات كتابه الكريم ولم يخلقه للعبادة الا من اجل ان يتوصل بها الى الكمال والسعادة كما ذكرت ذلك في اكثر من موضع في هذا الكتاب وهي تتحقق بامتثال احكامه بفعل ما امر به وجوبا او استحبابا وترك ما نهى عنه تحريما او كراهة باعتبار ان الله سبحانه لا يأمر بشيء الا لوجود مصلحة فيه كما لا ينهى عن شيء الا لمفسدة تترتب عليه.

والإنسان عندما يلتزم بتطبيق احكام السماء فيفعل الواجبات والمستحبات ويجني فوائدها وبذلك يتجمل بالفضيلة ويترك المحرمات ويسلم من مفاسدها وبذلك يتجرد من الرذيلة فهو بهذا الفعل وذلك الترك يدخل جنة الدنيا ومنها ينطلق الى جنة الخلود قال سبحانه :

( ولو ان اهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض ) (١).

وقال سبحانه :

( ومن يتق الله يجعل له مخرجا (٢) ويرزقه من حيثُ لا يحتسب ) (٢).

هذه بصورة عامة وبالنسبة الى النقطة الخاصة التي احببت التنبيه عليها وهي بيان اسباب المحبة والتراحم وعوامل البغضاء والتصادم فأقول مشيرا الى اهم اسباب الحالتين المحبة والعداوة والاكثر فاعلية وتأثيرا فيهما من اجل ان نوفر الاولى ونجني فوائدها الكثيرة ونتجنب الثانية ونسلم من مفاسدها الخطيرة : ان الله سبحانه حيث اراد برحمته الواسعة وحكمته البالغة ـ ان يسود الامن والاطمئنان وتبرز ظاهرة التضامن والتعاطف بين افراد المجتمع البشري ـ فقد جعل في شريعته الغراء حقوقا وواجبات بين افراد الاسرة

__________________

(١) سورة الاعراف ، آية : ٩٦.

(٢) سورة الطلاق ، آية : ٢ و ٣.


المجتمع الصغير وبين افراد المجتمع الكبير ايضا فجعل في اطار الاول حقوقا للابوين على الابناء وللابناء على الابوين ولكل واحد من الزوجين حقوقا على الاخر وفي اطار الثاني اي المجتمع الكبير جعل حقوقا للجار على جاره وللمسلم على اخيه في الإسلام وللانسان على اخيه في الإنسان ية وهكذا توسعت دائرة الحقوق في الإسلام حتى شملت الحيوان حيث جعل الله سبحانه له حقوقا على صاحبه وهذه الحقوق منها ما هو واجب ومنها ما هو مستحب كما بين ذلك مفصلا في الفقه الإسلامي العادل الشامل ومن المعلوم ان الإنسان المسلم اذا امتثل احكام السماء وادى لكل ذي حق حقه وقام بما يجب عليه نحوه فإن ذلك يثمر المحبة والوئام بشكل عفوي فطري لان الإنسان مطبوع على حب من احسن اليه وتأدية الحق لصاحبه نوع من الاحسان الذي يزرع المحبة ويثمر العطف والحنان ويؤدي الى ترتب فائدتين وثمرتين يانعتين احداهما نفس الفائدة المترتبة على تأدية الحق لصاحبه والثانية حصول المحبة لمؤدي الحق في نفس من ادى اليه كما هو الملموس بالوجدان ومن المعلوم ان المحبة نفسها تمثل شجرة ميمونة مباركة لا تثمر إلا الخير والنفع للاخرين مع دفع الاذى عنهم.

واذا انطلقنا من دائرة الحقوق والواجبات باحثين عن اسباب اخرى تغرس المحبة او تقويها في النفوس فإننا نجد اسبابا كثيرة حث الشارع اتباعه على توفيرها من اجل ان يحصلوا بها التحابب والتعاطف واكثر هذه الاسباب مستحبات وقد تصبح واجبة بالعنوان الثانوي.


بيان أسباب التعارف والتعاطف

من تلك الاسباب التي تؤدي بطبعها الى غرس المحبة في حقل النفوس افشاء السلام والمصافحة والتزاور وخصوصا حال المرض ويعبرون عن زيارة الشخص حال مرضه بالعيادة وتقديم الهدية وإغاثة الملهوف والسعي في سبيل قضاء الحاجة وادخال السرور بأي سبب مشروع والصلاة في المسجد لما يترتب عليها فيه من اجتماع المؤمنين على صعيد واحد وذلك يؤدي بطبعه الى حصول مستحبات اخرى مرت الاشارة على بعضها مثل افشاء السلام والمصافحة فينال المصلي ثواب ذلك مضافا الى ثواب اقامة الصلاة في المسجد حيث رتب الشرع المقدس على تأدية الركعة الواحدة فيه ـ ثواب مائة ركعة اذا كان المسجد جامعا ومقصودا من قبل الكثيرين من المؤمنين ـ واذا اديت الصلاة جماعة وبلغ عدد المأمومين عشرة فلا يحصي ثوابها : الا الله سبحانه كما هو مضمون بعض الروايات.

وذلك لان اصل اقامة الصلاة في المسجد يؤدي الى اجتماع المؤمنين في مكان واحد وهذا يقتضي بطبعه ان يحصل التعارف والتحابب والتعاطف والتعاون على البر والتقوى كما يكون وسيلة لتفقد المؤمنين بعضهم بعضا اذا غاب عن المسجد على خلاف عادته فيسألون اخوانه عنه ليعرفوا سبب تغيبه كما كان يصنع الرسول الاعظم 6 عندما يغيب احد المؤمنين حيث كان يسأل عن حاله وسبب غيابه فإذا عرف ان سبب غيابه السفر الى الخارج دعا له بنجاح السفر وسلامة الاوبة واذا عرف انه مريض ذهب لعيادته واذا كان


السبب غير ذلك توجه لزيارته من اجل تحصيل ثواب زيارة المؤمن وادخال السرور الى قلبه مضافا الى رغبته في ترغيب المؤمنين وحثهم بلسان العمل والسيرة على القيام بمثل هذا المستحب العظيم ـ وقد رتب الشرع المقدس الاجر الجزيل على كل واحد من المستحبات المذكورة وخصوصا صلاة الجماعة وذلك لما يترتب عليها من المحبة والوئام وهو شجرة مباركة تثمر للمحب والمحبوب كل خير على العكس التام من ذلك العداوة والبغضاء فهي شجرة شر وشؤم لا تثمر الا الشر والشقاء والتعب والعناء ولذلك نهى الشرع المقدس عن كل ما يؤدي اليها من التصرفات المثيرة وسأذكر ابرزها في المقام من اجل التنبيه على مدى خطورتها والمضاعفات السلبية المترتبة على العداوة الناشئة منها وهي كثيرة اخطرها ما يلي.

أسباب العداوة ونتائجها السلبية

الغيبة وهي ذكرك اخاك في الإسلام بما يكره وقد نهى الله سبحانه عنها باسلوب خاص لم يستعمله في غيرها من المحرمات وذلك بقوله تعالى :

( ولا يغتب بعضكم بعضا ايحب احدكم ان يأكل لحم اخيه ميتا فكرهتموه ) (١).

فقد شبه الله المذكور بالغيبة حالة غيبته ـ بالميت لعدم احساسه حال غيابه بما يذكر به من السوء كما لا يحس الميت بالالم اذا قطع من جسمه جزء فيه حياة والغيبة من اخطر المحرمات واكبر الكبائر ولذلك اكد الشرع المقدس تحريمها على مرتكبها كما حرم على الاخرين الاستماع اليها مع الرضا بها والسكوت عما يجب على المستمع القيام به من نهي مرتكبها وردعه عنها

__________________

(١) سورة الحجرات ، آية : ١٢.


لانها من اوضح مصاديق المنكر الذي اوجب الله سبحانه النهي عنه مع الامر بالمعروف الواجب ـ اذا توفرت شروط الامر والنهي ولم يكن هناك مبرر وعذر شرعي في تركهما ـ والوجه في تحريم الاستماع اليها مع عدم النهي عنها هو ان ذلك يشجع الناطق بالغيبة على ممارستها باستمرار عندما يجد أذنا مصغية له وراضية بما يقوم به من اكل لحم المؤمن البريء.

والبعض لا يقتصر على ارتكاب حرمة السكوت والرضا بالغيبة بل يضم الى ذلك جريمة اخرى وهي جريمة النميمة بنقل الغيبة عن لسان الناطق بها الى من ذكر بها ليكون بذلك مسببا للعداوة التي لم تحرم الغيبة الا من جهة انها تحطيم لكيان المؤمن ومصدر لحدوث البغضاء والعداوة بين افراد المجتمع ـ ولذلك ورد النهي عنها في الكثير من الايات الكريمة والرويات المعتبرة بإعتبار انها من اوضح مصاديق الفتنة التي اعتبرها القرآن الكريم اكبر من القتل واشد منه.

ومن اسباب العداوة الاستهزاء والسخرية والسباب والتنابز بالالقاب والتجسس والكذب وشهادة الزور والاخلاف بالوعد لذلك قيل :

« وعد بلا وفاء عداوة بلا سبب » وقد ورد النهي عن هذه الامور لانها مبغوضة في ذاتها ومؤدية للعداوة والشحناء التي تسبب الكثير من الاضرار الخطيرة في الدنيا مضافا الى ما تسببه من استحقاق العذاب الاليم والعقاب الشديد في الاخرة.

وحاصل ما تقدم ان كل ما ينفع الإنسان فردا ومجتمعا ماديا ومعنويا دنيويا واخرويا ولم يكن فيه مفسدة تزاحم مصلحته ومنفعته قد امر الشرع المقدس به وجوبا او استحبابا وخصوصا التعارف والتعاطف بين ابناء المجتمع.

وكل ما يكون على عكس ذلك بمعنى انه يضر الإنسان فردا ومجتمعا ماديا ومعنويا دنيويا واخرويا ـ قد نهى عنه تحريما او على وجه الكراهة واذا


أراد أمراً هيأ سببه تكوينا وتدبيرا من قبله او أمر بتوفير اسبابه تشريعا وحيث انه اراد انتشار المحبة بين افراد المجتمع من اجل ان يسود الامن والاستقرار في ربوعه ويعم التعاون على البر والتقوى بين افراده فقد حث على التعارف والتعاطف وعلى كل ما يؤدي اليه لغاية تحقق هدف التضامن والتراحم الذي يثمر للناس كل خير وينأى بهم عن الكثير من انواع البؤس والشقاء.

وفي المقابل نهى عن كل ما يضر وخصوصا العداوة واسبابها المؤدية اليها لانها على العكس التام من المحبة ـ فهي شجرة شر لا تثمر الا الشر والشقاء في الدنيا والاخرة كما هو واضح وملموس بالوجدان.

ورغم وضوح النتائج الايجابية التي تثمرها المحبة والنتائج السلبية التي تؤدي اليها العداوة ـ اود ان اذكر بعضا من هذه النتائج من كلا النوعين لتصبح اكثر وضوحا ولنبذل اقصى الجهد في سبيل توفير اسباب المحبة والوئام لننعم بفوائدها الكثيرة وفي المقابل نبذل اقصى الجهد ايضا من اجل البعد عن العداوة واسبابها لننجو من مضاعفاتها الخطيرة.

فوائد المحبة المعجلة في الدنيا

فأقول : ان للمحبة فوائد كثيرة معجلة في الدنيا ومؤجلة للأخرة والمعجلة نوعان احدهما نفسي معنوي والثاني مادي خارجي اما النفسي المعنوي فهو يتمثل في الراحة النفسية والبهجة الروحية التي يعيشها المحبوب مع محبه حيث ان كل واحد منها يحس بالغبطة والسعادة كلما تذكر واشرقت في ذهنه الخاطرة الجميلة التي تبرز امامه صورة حب ذلك الشخص له وميله اليه بعاطفة الاخلاص والصفاء والصدق والوفاء ويزيد هذا الحب تألقا وتوقدا فراق احدهما وبعده الجسمي عن حبيبه بسفر ونحوه ويترتب على ذلك زيادة السرور والبهجة اذا حصلت المواصلة ولو بالمراسلة.

واما النوع الثاني : من فوائد المحبة المعجلة وهو المادي الدنيوي فهو


يتمثل بكل المنافع المادية والخدمات الإنسان ية التي يقوم بها المحب لمحبوبه في هذه الحياة وهي كثيرة وواضحة لا تحتاج الى بيان.

واما الفوائد الاخروية المترتبة على المحبة الصادقة القائمة على اساس الايمان بالله والحب في الله ـ فهي ايضا كثيرة وتتمثل بكل عمل خيري يقوم به احد المتحابين للأخر او لمن يتعلق به بدافع التقرب الى الله المؤكد بعامل المحبة لذلك الشخص ـ وبذلك تكون المحبة مصدر الخير للمحبوب كما انها مصدر ذلك للمحب ايضا.


النتائج السلبية المترتبة على العداوة

واما النتائج السلبية المترتبة على العداوة فهي كثيرة جدا ويمكن تقسيمها الى نوعين كما ذكرنا بالنسبة الى فوائد المحبة.

النوع الأول : ما يترتب على العداوة من المضار في الدنيا.

والنوع الثاني : ما يترتب عليها من ذلك في الاخرة ..

والاول يتمثل بما يحصل للمعادي من الالم في نفسه والانفعال العاطفي في قلبه باعتبار ان العداوة في نفسها مرض نفسي يثير الألم النفسي والانقباض الروحي مضافا الى ما يحصل له من الخوف والقلق لما يتوقع حصوله له من الاضرار المادية والمعنوية من قبل من يعاديه وهذه الحالة الانفعالية تسبب امراضا جسمية كثيرة منها القرحة ـ واذا كان المثل المشهور يقول : العقل السليم في الجسم السليم فالعكس صحيح ايضا على ما ذكرنا وذلك بسبب وجود التلاحم والارتباط العضوي بين عنصري الجسم والنفس لذلك يسري العارض واثره السلبي من كل واحد منهما الى الاخر. ويضاف الى هذه الاضرار المؤلمة اضرار اخرى تحصل لكل واحد من المتخاصمين من عدوه الذي يتربص به الدوائر ويسعى جاهدا في سبيل اضراره بكل وسيلة مع بذل الجهد في سبيل منع وصول المنفعة المادية او المعنوية اليه كما هو الملموس بالوجدان.

وبذلك ندرك ما يحصل لكل واحد من المتخاصمين من الاضرار


الاخروية لان كل كلمة يقولها احدهما في حق الاخر بسبب العداوة بقصد تحطيمه معنويا كالغيبة والسخرية والسباب ونحو ذلك ـ تسبب له الاثم الكبير الذي يأكل حسناته ويضاعف سيئاته ويستحق بهذا وذاك عذاب النار وغضب الجبار ـ وكذلك يتستحق العقوبة الكبرى لسعيه في سبيل اضرار عدوه ماديا بأي تصرف يستهدف به ايقاعه في المضرة والخسارة او حرمانه من الربح والمنفعة.

وبذلك يكون كل واحد من المتخاصمين واقعا في عناء كبير وبلاء خطير في الدنيا والاخرة وذلك هو الخسران المبين.

من اجل ذلك نهى الشرع المقدس عن كل ما يوجب العداوة والبغضاء ـ كما ذكرنا آنفاً نظراً لما يترتب عليها من الخسارة الكبرى والطامة العظمى ولذلك وقف الشرع من العداوة موقفين احدهما وقائي يتمثل بالنهي عن كل ما يؤدي اليها ـ والاخر علاجي يتمثل بكل الوسائل العلاجية التي أمر الشرع بها وجوبا او استحبابا من اجل التخلص من هذا المرض الاجتماعي الخطير.


وسائل علاج مرض العداوة

من هذه الوسائل التي حث الدين عليها ـ كظم الغيظ من قبل الشخص الذي اسيء اليه واعتدي عليه ، قال سبحانه :

( والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس واللهُ يحبُ المُحسنين (١٣٤) ) (١).

مدح الله سبحانه المؤمنين المتصفين بهذه الصفات الثلاث وهي كظم الغيظ والعفو عن المسيء والاحسان اليه ـ باعتبار ان كل واحدة منها تساهم في علاج مرض العداوة وازالته من الوجود وخصوصا الصفة الثالثة وهي الاحسان الى المسيء المتمم للعفو عنه لانه يقوم غالبا بدورين احدهما دور ازالة العداوة التي دفعت صاحبها للإساءة والثاني زرع المحبة مكان الشحناء والخصومة ـ لان الإنسان مطبوع على حب من احسن اليه كما قال الشاعر :

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم

فطالما استعبد الإنسان إحسانُ

والآية الكريمة التالية تدل على زوال العداوة بالاحسان ـ بوضوح وجلاء وهي قوله تعالى :

( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي احسن فإذا الذي بينك وبينه

__________________

(١) سورة آل عمران ، آية : ١٣٤.


عداوة كأنه ولي حميم (٣٤) ) (١).

والوجه في كون كظم الغيظ والعفو عن المسيء من وسائل العلاج والتخلص من مرض العداوة ـ واضح لانه يساعد على التخفيف من الحالة الانفعالية التي يعيشها المعادي وذلك يمهد لزوالها واذا ضم الاحسان الى العفو كان العلاج مؤكدا لما مرت الاشارة اليه من ان الاحسان بطبعه يزرع المحبة ويزيل العداوة وان كانت.

والحديث المشهور عن الرسول الاعظم 6 مستوحى من هذه الآية الكريمة وهو قوله 6 : « صل من قطعك واعط من حرمك واعف عمن ظلمك واحسن الى من اساء اليك ».

وعندما تصدر نصيحة نافعة وموعظة حسنة من قبل واحد من اهل البيت : تكون مسبوقة بعملهم بها وسبقهم الى تطبيقها لان كل واحد منهم يمثل الإسلام على الصعيد العملي ليكون قرآنا ناطقا واسلاما متحركا على صعيد الحياة وبهذا الاعتبار كان كل ما يصدر عن احدهم من قول او فعل او تقرير وامضاء لعمل يصدر من المكلفين بمسمع ومشهد منه ـ شرعا يعمل به وحجة يعتمد عليها لمعرفة الحكم الشرعي وحيث ان الحث على التجمل بمكارم الاخلاق والصفات الحميدة وفي طليعتها العفو عن المسيء والاحسان اليه قد صدر من كل واحد من اهل بيت العصمة ابتداء بالنبي 6 ومروراً بالإمام علي 7 وابنائه وانتهاء بالمهدي عجل الله تعالى فرجه فلا بد ان يكن ذلك مسبوقا باتصافهم بها كما هو معلوم.

__________________

(١) سورة فصلت ، آية : ٣٤.


وسيلة علاج مرض العداوة عند أهل البيت

وقد روى لنا التاريخ ما صدر عنهم من ذلك في هذا المجال ـ وقصة الرسول الاعظم مع جاره اليهودي الذي كان يؤذيه بوضع ما يزعجه في طريقه ومقابلة الرسول له بالعفو والاحسان الذي تمثل بعيادته حال مرضه وأدى ذلك الى دخوله في الإسلام هذه القصة مشهورة عنه 6 وكذلك عفوه عن المشركين الذين سببوا له الاذى الشديد نفسيا وجسميا في معركة أحد وغيرها ومقابلته لهم بالعفو عنهم ودعائه لهم بالمغفرة مع الاعتذار لهم بأنهم لا يعلمون ومثله صفحه عن المشركين يوم فتح مكة حيث طلب من الإمام علي 7 ان يدخل الراية برفق رافعا شعار السلام قائلا لهم : « ـ من وضع سلاحه فهو آمن ومن دخل بيته فهو آمن ومن دخل بيت أبي سفيان فهو آمن ـ ».

وعندما وصل الى باب الكعبة قال لاولئك الذين كانوا لاجئين اليها : « ماذا تظنون أني صانع بكم »؟. قالوا « خيرا انت اخ كريم وابن اخ كريم ».

فقال لهم : « اذهبوا فأنتم الطلقاء » (١).

ويسير في نفس الطريق الى ذات الهدف الرسالي ـ عفو الإمام علي 7 عن خصومه في معركة الجمل وسماحه لمعاوية وجيشه بورود الماء يوم صفين بعد ان كانوا قد منعوه واصحابه عنه عندما سبقوا اليه ومَنْعُه اصحابه من سب معاوية وجماعته قائلا : « إني أكره لكم ان تكونوا سبابين »

__________________

(١) هذا نقل للحديث بالمعنى والمضمون.


وكذلك حلم الإمام الحسن وعفوه عن ذلك الرجل الشامي الذي قابل الإمام 7 بالشتم والسب ـ ومقابلته إساءته بالاحسان اليه والانفتاح عليه الذي تمثل بدعوته الى ضيافته ومعاملته بكل لطف ونبل الامر الذي هز كيانه وبدله من اموي معادي الى علوي موالي نتيجة تأثره الايجابي بتلك الاخلاق السامية وقد ترجم اعجابه بها واعترافه بالولاية للإمام 7 بتلاوة قوله تعالى :

( اللهُ أعلم حيثُ يجعل رسالتهُ ) (١).

ونظيره انفتاح الحسين 7 على الحر وجيشه الذي زحف اليه ليجعجع به في الطريق ويمنعه من الرجوع الى حيث يريد وذلك بسقيهم الماء وانقاذهم من خطر العطش الشديد الذي اصابهم بسبب شدة الحر والإمام 7 يعلم انه سوف يستشهد ظمأن على يد افراد هذا الجيش وكذلك اصحابه واطفاله وسائر من استشهد معه.

ويعطف على هذا الموقف النبيل بكاؤه تأسفا وحزنا يوم عاشوراء لان ذلك الجيش الضال سيدخل النار بسببه ونجله الإمام زين العابدين 7 انطلق على نفس هذا النهج الإنسان ي القويم حيث كان يقتصر في مقام الرد على من شتمه بقوله 7 :

« يا هذا ان كان ما وصفتني به حقا غفر الله لي وان لم يكن حقا غفر الله لك » ولم يقتصر على ذلك مع بعض المسيئين اليه بل ضم اليه تقديمه ثوبه هدية له مع مقدار كثير من المال ليكون مصيره نفس مصير الشامي بالتحول من خط الانحراف والعداء الى خط الاستقامة والولاء مردداً نفس الآية السابقة وهي قوله تعالى :

__________________

(١) سورة الانعام ، آية : ١٢٤.


( الله اعلم حيث يجعل رسالته ) (١).

وهكذا انطلق الركب العلوي الرسالي المثالي في مسيرة اخلاقية رائعة جسمت تعاليم السماء ومثل الإسلام على الصعيد العملي حتى اصبح كل واحد منهم اسلاما عمليا متحركا وقرآنا ناطقا والذي يساعد على القيام بهذا الدور الايجابي البناء في مقام معالجة خطأ الاخرين ومرض إستاءتهم هو الالتفات التفصيلي الى ان ذلك يعبر عن وجود مرض نفسي لدى المسيء دفعه لان يقف موقفا سلبيا عدوانيا تجاه الإنسان الاخر البريء الذي لم يصدر منه ما يسبب الاعتداء عليه والاساء اليه وفي هذا الفرض يترجح للإنسان المؤمن الرسالي ان لا ينزل الى مستوى ذلك المسيء بمقابلته بالمثل وان كان ذلك جائزاً لصريح قوله تعالى :

( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) (٢).

لان الإسلام دين الفطرة والواقعية فلو منع المعتدى عليه من اخذ حقه من الظالم له والمعتدي عليه ـ سبب ذلك له عقدة نفسية ربما اودت بحياته مضافا الى ما يترتب على ذلك من تشجيع المعتدي على عدوانه كما هو واضح ـ وانطلاقا من هذه الحقيقة النفسية الفطرية شرع الإسلام القصاص واعطى للمعتدى عليه او وليه حق الاقتصاص حيث قال سبحانه :

( ولكم في القصاص حياة يا أُولي الالباب ) (٣).

أجل : ان الرد بالمثل او الاخذ بحق القصاص على تفصيل مذكور في محله من الفقه وان كان جائزا الا ان الارجح هو كضم الغيظ والعفو عن المسيء لان ذلك يكون مسكنا لالم مرضه النفسي فلا يكرر اعتداءه بخلاف ما اذا رد عليه بالمثل فإن ذلك يزيده حماقة وتهورا الى درجة يصبح معها فاقد الوعي والتوازن كالسكران او المجنون وربما تطورت العداوة وتكرر العدوان

__________________

(١) سورة الانعام ، آية : ١٢٤.

(٢) سورة البقرة ، آية : ١٩٤.

(٣) سورة البقرة ، آية : ١٧٩.


وتحول الوضع من سيء الى أسوأ ففي هذا الفرض يترجح العفو وربما وجب بالعنوان الثانوي اذا كان الرد بالمثل يؤدي الى فتنة داخلية تسبب المزيد من المأسي والمضاعفات السلبية الخطيرة.

ترجيح الإسلام علاج المشكلة بالتي هي أحسن

واذا استطاع المعتدى عليه ان يضبط اعصابه اكثر ويقابل الاساءة بالاحسان كما كانت سيرة اهل البيت : والسائرين على خطهم فإن هذا يكون ارجح واصلح لانه يساعد غالبا على العلاج الجذري لمرض العدوان وربما ترتب عليه زوال الخصومة نهائيا وتحولها الى صداقة نافعة ومحبة دافعة وقد اشار الله سبحانه الى ذلك بقوله تعالى :

( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي احسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم (٣٤) ) (١).

وتأتي قصة الإمام الصادق 7 مع ذلك الشخص الذي حاول منعه من الانطلاق للأمام في طريقه الى أهله بعد ان اطلق المنصور سراحه من سجنه في الحيرة وقال للإمام 7 وهو يحاوره : لا ادعك ان تجوز فإلح الإمام عليه بطلب السماح وظل مصرا على موقفه المعاند وكان مع الإمام 7 من اصحابه شخص يدعى مرازما ومن مواليه شخص آخر يدعى مصادفا فقال له مصادف هذا :

جعلت فداك ان هذا قد اذاك واخاف ان يردك وما ادري ما يكون من امر ابي جعفر وانا ومرازم أتأذن لنا ان نضرب عنقه ثم نطرحه في النهر؟.

فقال 7 : كف يا مرازم وظل مستمراً على حواره مع ذلك الشخص

__________________

(١) سورة فصلت ، آية : ٣٤.


حتى مضى من الليل اكثره فأذن له فمضى فقال 7 : يا مرازم هذا خير ام ما قلتماه؟. قلت هذا جعلت فداك فقال 7 : يا مرازم ان الرجل يخرج من الذل الصغير فيدخله ذلك في الذل الكبير.

أجل : إن هذه القصة تأتي شاهدا صادقا على واقعية ما ذكرته من رجحان اسلوب اللين والحكمة في مقام معالجة أية مشكلة لان العنف يعقدها او يزيدها تعقيدا ويؤدي ذلك الى المزيد من المضاعفات السلبية ولذلك نرى ان الإسلام يرجح اسلوب اللين والحكمة والموعظة الحسنة في اكثر المجالات ولا يلجأ الى العنف الا اذا دعت الضرورة الى ذلك من باب ( آخر الدواء الكي ) كما ورد في المثل.

وقد اشرت الى هذه القصة مع قصص اخرى تضمنت بيان حلم الإمام الصادق 7 وكرمه وزهده في حديث يوم الجمعة بمناسبة شهادته وقد نشر مع مجموعة كثيرة من خطب هذا اليوم في الجزء الاول من كتابنا ـ من وحي الإسلام الذي نشرته دار الزهراء فمن اراد الاطلاع عليها والاستفادة من الدروس التربوية التي استوحيتها من حياة هذا الإمام العظيم 7 وحياة مجموعة اخرى من أئمة أهل البيت : فليطلع على هذا الكتاب المشتمل على ٢٥ خطبة من وحي المناسبات الدينية والموضوعات الإسلامية وكلها تدور في فلك الهدف التربوي الذي يشد الجيل الى رسالته الكاملة الشاملة ويسير به على نهجها القويم وصراطها المستقيم نحو غاية الكمال والسعادة في الدنيا والاخرة.

ومن الوسائل العلاجية التي اعتمد عليها الإسلام لعلاج مرض العداوة وحل مشكلتها السعي في سبيل اصلاح ذات البين وقد ورد الامر به والحث عليه في العديد من الآيات الكريمة والروايات المعتبرة قال سبحانه :

( وأصلحوا ذات بينكم واطيعوا الله ورسوله ان كنتم مؤمنين (٧٤) ) (١).

__________________

(١) سورة الانفال ، آية : ١.


وقال سبحانه :

( إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم ) (١).

وقال سبحانه على لسان نبيه شعيب 7 :

( إن أُريد الا إلاصلاح ما استطعت وما توفيقي الا بالله عليه توكلت واليه أُنيب (٨٨) ) (٢).

وروي عن النبي 6 قوله : « إصلاح ذات البين افضل من عامة الصلاة والصيام » والمراد بهما المستحب منهما.

كما روي عنه قوله 6 : « أفضل الناس عند الله يوم القيامة المصلحون بين الناس ».

وقوله ايضا : « الا اخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة »؟.

قالوا : « بلى يا رسول الله ».

قال : « إصلاح ذات البين إذا تقاطعوا ».

ولاهمية الاصلاح في المجتمع جوز الشرع المقدس الكذب في سبيله ونفي عن الناطق به صفة الكذب حيث روي عن النبي 6 قوله في هذا المجال : « ليس بالكاذب من اصلح بين الناس ».

وفي مقابل ذلك حرم الصدق اذا ادى الى فتنة وسبب عداوة وفرقة.

ومن الامور التي حث الشرع المقدس عليها ورغب فيها الرفق بالناس ومداراتهم ومعاملتهم باللين والرحمة لان ذلك يصلح لان يكون وقاية من

__________________

(١) سورة الحجرات ، آية : ١٠.

(٢) سورة هود ، آية : ٨٨.


حدوث مرض العداوة والخصومة كما يصلح لان يكون علاجا مساعدا على ازالته بعد حدوثه.

قال الله سبحانه في مقام مدح الرسول الاعظم 6 بتجمله باللين والرحمة مع قومه :

( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فأعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين (١٥٩) ) (١).

وعن ابي عبد الله 7 قال : قال رسول الله 6 : ثلاث من لم يكن فيه لم يتم له عمل ، ورع يحجزه عن معاصي الله وخلق يداري به الناس وحلم يرد به جهل الجاهل.

وروي عن الرسول 6 قوله : « رأس العقل بعد الايمان بالله مداراة الناس في غير ترك حق ».

وقوله 6 : أمرني ربي بمداراة الناس كما امرني بأداء الفرائض وقوله 6 : « مداراة الناس نصف الايمان والرفق بهم نصف العيش ».

__________________

(١) سورة آل عمران ، آية : ١٥٩.


موضوع الحديث في هذا الكتاب

هو الصوم الظاهري والباطني

قارئي العزيز : لعلك تقول : إن ما ذكر مؤخرا من ابحاث اخلاقية خارج عن موضوع الكتاب الذي حدد بالصوم وفلسفته وذلك لعدم التعرض فيها لذكر الصوم والتحدث عما يتعلق به.

وأقول : لدفع هذه الشبهة التي يتوقع حصولها عند البعض : ان هذا الاشكال والاستشكال انما يرد اذا قصر القارىء الكريم نظره على ظاهر الكلام ولم ينظر بعين بصيرته الى جوهر البحث وروح الحديث وهو الصوم المعنوي الكامل الشامل لباطن الإنسان وظاهره واما اذا تجاوز ظاهر الحديث وسطح الكلام وعمق نظر فكره الى محتواه الداخلي فهو يدرك ان الحديث لا يزال يتحرك في اطار موضوعه ويدور في فلكه بلحاظ كون الصوم المبحوث عنه وحوله هو الاعم من الظاهري والباطني الاساسي المقصود الذي يتمثل بإمساك النفس وجوانحها عن كل ما يكره المولى حصوله من المكلف بإرادته وما ذكرناه من الصفات الحميدة وابرزها الحب في الله والبغض في الله يعتبر تحديدا لاطار الصوم العام وربما لساحته الواسعة لان البغض في الله يمثل الامساك والترك لكل ما يكره المولى صدوره من المكلف بارادته تحريما او كراهة بحدها الخاص والحب في الله يمثل الغذاء الروحي والطعام المعنوي النفسي الذي تفطر عليه النفس بعد انصرام نهار الهوى وحلول ليل الهدى. وبالامساك الباطني عن كل صفة ذميمة ونية سقيمة يتحقق صوم الروح وهو


يمثل روح الصوم في مقابل صوم الجسم وحده المتمثل بالامساك عن تلك المفطرات المادية المعهودة ،

ومن المعلوم ان هذا الصوم الجسمي الظاهري اذا لم ينفذ الى الداخل لتصوم الروح مع الجسم ـ فهو صوم ناقص لانه صادر عن بعض الإنسان وهو جسمه وحده ولم يصدر عن مجموع كيانه المؤلف من الجسم والروح معا ـ ليكون صوما كاملا مقرباً من الله الكامل والحاصل انه بعد أن أدركنا ان الصوم الحقيقي الواقعي المقصود حصوله من الصوم الظاهري المعهود ـ هو الامساك العام عن كل ما يكره الله صدوره عنا من الافعال واتصافنا به من الصفات ندرك جيدا ان ما اشرت اليه ونبهت عليه من اهمية المحبة في الله وما يترتب عليها من الفوائد الهامة العامة مع بيان ابرز اسبابها المنتجة لها من اجل الالتفات اليها والمحافظة عليها ان كانت موجودة والسعي في سبيل ايجادها ان كانت مفقودة وكذلك ما لفت النظر اليه من خطورة العداوة وما يترتب عليها من المضار الكثيرة والخطيرة في الدنيا والاخرة اجل : بعد الالتفات الى ان موضوع الحديث في هذا الكتاب هو الصوم الحقيقي الواقعي لا خصوص الظاهري التقليدي المعهود المتمثل بالامساك عن تلك المفطرات المعهودة المعدودة واكثرها مباح في نفسه مع عدم الامساك عن المحرمات الشرعية الذاتية.

ندرك جيدا ان الحديث الذي تناولت به بيان الصوم الواقعي والاسباب المؤدية له للتتبع من اجل تحقيقه والعوامل المبطلة له من اجل تركها محافظة على حصوله وعدم ابطاله معنويا هو حديث ملتزم ومتحرك في اطاره المرسوم وحده المعلوم لان الامساك عن كل المحرمات المعلومة والتجرد من كل الصفات المذمومة هو الهدف الاساسي المقصود من الصوم الخاص بمعناه التقليدي.

وعلى هذا ندرك ان للصوم العام مبطلات كما ان للصوم الخاص مفطرات وعليه يتعين على المكلف اذا اراد تحقيق الصوم العام ان يمسك عن


مبطلاته مع امساكه عن مفطرات ومبطلات الصوم الخاص ـ فيمسك عن كل المحرمات المعلومة ويتجرد عن جميع الصفات المذمومة ـ كما يمسك عن الطعام والشراب وبقية المفطرات المادية المبطلة للصوم التقليدي المعهود.

وبهذا ينتهي ما اردت الحديث به حول موضوع ( فلسفة الصوم في الإسلام ) الذي هو محور البحث في الكتاب وعنوانه البارز وبه يظهر الجواب واضحا عن السؤال الثاني الذي طرح في المقدمة وحاصله.

أنا نصوم لان الله سبحانه تعبدنا بالصوم واوجبه علينا لنتوصل به الى الكثير من الفوائد التي مر ذكرها مفصلا ومن خلال الحديث التفصيلي حول كيفية الصوم المنشود وبيان انه الامساك الكامل الشامل للباطن وجوانحه مع الظاهر وجوارحه يعرف مفصلا الجواب عن الشق الثاني من السؤال وهو كيف نصوم.

ويسرني ان اختم الحديث حول موضوع الصوم وفلسفته في الإسلام بالابيات التالية لانها تصور الهدف الاساسي المقصود من هذه الفريضة المقدسة بوضوح وجلاء.

الصوم في نظر السماء رياضة

روحية وترفـــع وإبــاءُ

الصوم إن أدركت حكمـته التي

تحيي ـ عطاء منعش وسخاء

وتواضع يعلي الفتى وتراحــم

يطوي الاسى ومودة وإخــاء

وتمسك بعرى التقى وتجمــل

بمحامد ـ ونجـابة وحــياء

فإذا جنى منه الفتى ثمر التـقى

حصل المراد وتمت النعــماء

وإذا تجرد عن هـداه فصـومه

جوع يذيب وشقوة وعنـــاء

هي تلك فلسفة الصيام وروحـه

طهر يـشع ورحـمة وصـفاء

برزت بها اهـدافه وتألــقت

أنـواره وتبلـجت أجـــواء

وبعد الفراغ من الحديث حول المحورين الاولين اللذين تحدثت حولهما اما بالتبع والمناسبة كالاول الذي تحدثت فيه حول موضوع الدعاء


ودوره التربوي او بالاصالة كالمحور الثاني الذي تحدثت فيه حول موضوع ( فلسفة الصيام في الإسلام ).

يأتي دور الحديث حول المحور الثالث الذي سأتحدث فيه حول موضوع المناسبات الدينية والحوادث التاريخية التي حصلت في شهر رمضان المبارك.

بيان الاستقبال الحقيقي المناسب

لشهر الله تعالى

وقبل الشروع بالحديث حول هذه المناسبات المباركة احب تقديم كلمة حول ما جرت العادة عليه من استقبال المسلمين لهذا الشهر المبارك بالاحتفال والتكريم واعلان الزينة في الشوارع العامة ورفع شعارات الترحيب وكلمات التقدير ونحو ذلك من مظاهر الاهتمام والاحترام.

والذي اود التنبيه عليه ولفت النظر عليه في هذه الكلمة هو الاحتفال الواقعي والاحترام الحقيقي الذي يتناسب مع قدسية هذا الشهر العظيم وينطلق في طريق الغاية الكبرى والهدف الاسمى الذي خلق الإنسان من اجله في هذه الدنيا وهو عبادته سبحانه وحده لا شريك له فأقول :

« إن الاحتفال معناه الاحتفاء والتكريم وهذا لا يتحقق الا اذا قام المسلمون بما يجب عليهم في هذا الشهر من تأدية فريضة الصيام المقدسة وتحقيق الغاية الاساسية التي شرعت من اجلها وهي التقوى قال سبحانه :

( يايها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون (١٨٣) ) (١).

وذلك لان هذا الشهر المبارك يمثل مدرسة تربوية وصحية يتلقى

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ١٨٣.


الصائمون على مقاعدها الدروس المتنوعة في العقيدة الراسخة والاعمال الصالحة والاخلاق الفاضلة.

والمعلم الاول الافضل الذي القى فيها اروع وانفع الدروس هو الرسول الاعظم 6 وبعده الأئمة المعصومون : وبعدهم العلماء الاجلاء السائرون على نهجهم بالايمان الصادق والعلم النافع والعمل الصالح والخلق الفاضل.

ومن المعلوم ان احترام المدرسة وتقدير المدرس فيها والمدير المشرف عليها لا يتحقق الا بتلقي دروسها على الوجه الافضل مع العمل بها وتطبيقها في مجالاتها المحددة لها والزينة الحقيقية التي تناسب مقام هذه المدرسة هي ان يتجمل طلابها المنتسبون اليها ـ بالتقوى ومكارم الاخلاق فيضمون الى الزينة المادية التي ترفع في الشوارع وعلى ابواب المحلات ـ الزينة المعنوية التي تتمثل بالتجمل بأخلاق الإسلام ومكارمه السامية في الشارع والمحل والمنزل والمدرسة وفي كل مكان وفي جميع الشهور والايام عملا بقول الإمام الصادق 7 في وصيته لشيعته : « كونوا زيناً لنا ولا تكون شينا علينا ».

ومن المعلوم ان زينة كل مكان تكون بالنحو الذي يناسبه فزينة الشارع المعنوية تتحقق بحسن التعامل مع المارة بتطبيق نظام السير وعدم التسرع فيه من اجل تلافي الحوادث المدمرة وإفشاء السلام استحبابا ورد التحية وجوبا والتصدق على الفقير المستضعف المتجول لطلب المساعدة وقضاء حاجة من يحتاج الى تحقيق حاجة ما كمساعدة الشخص الذي تعطلت سيارته عن السير لحدوث طارىء عليها او لفقد مادة البنزين منها ونحو ذلك من الخدمات الاجتماعية التي يحتاجها ابناء المجتمع في طريق انطلاقهم الى اعمالهم وقضاياهم الحياتية والزينة في المحل التجاري تتمثل باتباع الاحكام الشرعية الموجهة للتاجر وذلك بفعل ما يجب او يستحب في المعاملة وترك ما يحرم او يكره فيها والزينة في المدرسة تكون باحترام الطلاب لنظامها والمحافظة


على الوقت المحدد للحضور اليها واتقان دروسها لتحصيل المعدل المناسب من النجاح في امتحاناتها وباحترام المعلمين بالقول والفعل.

وبإهتمام الاساتذة بدروس طلابهم ومعاملتهم برفق ورعاية ابوية وذلك لتسود ظاهرة المحبة والاحترام بين الجميع وهكذا تمشي الزينة الرمضانية بمعناها العام لتصل الى المنزل لتطلب من كل واحد من أبناء الأسرة إبداء الزينة الاخلاقية في جو الأسرة الإسلامية باحترام كل واحد من الزوجين للآخر ومعاشرته بالمعروف وبإحترام الابناء ابويهم وبرهما والاحسان اليهما خصوصا في زمن الشيخوخة والهرم عندما يصبح احدهما او كلاهما بحاجة ماسة الى الرعاية والمداراة التامة والعناية الفائقة كما اوصى الله سبحانه في كتابه الكريم والرسول الاعظم 6 وأهل بيته : في تعليماتهم التربوية.

وهكذا تمضي الزينة الاخلاقية الى الحقل لتطلب من صاحب العمل الرفق بالعامل واعطائه حقه كاملا واجرته معجلا قبل ان يجف عرقه ـ كما اوصى الرسول الاعظم 6 وتطلب من العامل ان يتقن عمله ويفي لصاحب العمل بالتزاماته.

وتبرز الزينة في ساحة النضال ايضا باحترام الجنود لقائدهم واخلاصهم لقضيتهم التي يناضلون في سبيلها وبمعاملة القائد لجنوده بالرفق والرعاية الابوية.

وبالتالي : ان الزينة التي يطلب من المسلمين إبداؤها واعلانها بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك هي زينة التقوى ومكارم الاخلاق التي يفرض في حقهم ان يكونوا متجملين بها قبل دخوله وان يتجملوا بها فيه بعد دخوله اذا كانوا متجردين منها على ان تبقى معهم بعد انصرافه كما هو المتوقع والمطلوب منهم لانها تعتبر النتيجة التي يطلب من الصائمين ان يصلوا اليها ويحصلوا عليها ويصحبوها معهم في كل الشهور والايام كما ينطلق الطلاب الناجحون من مدرستهم بعد انتهاء عامهم الدراسي وهو يحملون في عقولهم العلوم الكثيرة النافعة وفي قلوبهم الحب والاخلاص لمدرستهم واساتذتهم


وفي ايديهم الشهادات العالية التي تؤهلهم للقيام بمسؤولية الوظائف المحترمة.

وبذلك تفترق الزينة المعنوية عن المادية التي تعلن في اجواء الشهر المبارك لان الاولى تبقى وتستمر مع اصحابها في كل مكان وزمان ولا تختص بواحد معين منهما والثانية اي الزينة المادية تكون غالبا مختصة بأيام الشهر المبارك وقد تبقى بعدها ولكن الى زمن معين واجل مسمى.

وخلاصة الحديث : ان الاستقبال الحقيقي والاحترام الواقعي لشهر الرحمة والمغفرة يتحقق بالاقبال على صيامه بقلوب عامرة بالايمان والوعي لفلسفته والفوائد الكثيرة المترتبة عليه مع الاحتفاظ بهذه الفوائد بعد تحصيلها منه ويمكن ان يشار اليها بعنوان اجمالي يفيد انها عبارة عن التقوى والعمل الصالح والخلق الفاضل والصحة المادية والمعنوية بمعناها العام.

هذه هي فلسفة الصيام وثمرته اليانعة وحكمته البالغة وزينته الباقية التي تزين كيان الإنسان كله وتبقى معه ملازمة له في كل مكان وزمان.

واما الاستقبال التقليدي الذي يقوم به الكثيرون بتزيين الشوارع والمحلات والمنازل والمدارس والمساجد ونحوها فهو يكون ابتر ناقصا اذا لم يقترن بالاستقبال الحقيقي المعنوي الذي مر بيانه كما ان تلك الزينة المادية تكون ناقصة اذا لم تقترن بالزينة المعنوية التي تتمثل بالتقوى ومكارم الاخلاق ـ حيث تكون مع ذلك الاستقبال التقليدي بمنزلة الصوم الذي لا ينتج لصاحبه الغاية المقصودة منه وهي التقوى والعمل الصالح والخلق الفاضل كما تقدم وقد اشار ابو العلاء الى هذا النوع من الصوم بقوله :

ما الدين صوم يذوب الصائمون له

ولا صلاة ولا صوف على الجسد

وإنما الدين ترك الشـر مطـرحا

ونفضك الصدر من غل ومن حسد

وبقوله ايضا مخاطبا العابد الجاهل بفلسفة العبادة وجوهرها :

صل وصم وطف بمكة ناسكا

سبعين لا سبعا فلست بناسك


جهل الديانة من إذا عرضت له

شهواته لم يلف بالمتماسك

وقد اشرت الى مضمون هذه الابيات بمقطوعة شعرية قلت فيها :

يا أيها السـاري وفي افـــكاره

شبه يظن بها الهجين اصيلا

حكم ضميرك في المسائل والتمس

للحق من وحي السماء دليلا

لا يخدعنك مـظهر متــــأنق

يعطيك لونا رائعا مقــبولا

فلربما انكشف الغــطاء ولم تجد

إلا سرابا لا يبل غـــليلا

ليس التدين ان تحـــج لتشتري

لقبا وتدرك بالمظاهر سولا

ليس التدين ان تجوع مــغادرا

بصيامك المشروب والمأكولا

وتؤدي الصــلوات في اوقـاتها

لننال ذكراً بالثناء جــميلا

وتحالف السوداء تسبيـحا بهــا

وتكرر التكبير والتهــليلا

إن التدين ان تـحقق غـــاية

بعث الإله بها النبي رسولا

أن تتبع الحق الصراح ولا ترى

لهداه في هذي الحياة بديلا


حول إقامة حفلات الافطار في شهر

رمضان المبارك

ومن العادات المتبعة في شهر رمضان المبارك ـ إقامة حفلات الافطار انطلاقا من الروايات الكثيرة التي تدل على ترتب الثواب العظيم ـ على تفطير الصائمين وهذه عادة محمودة وتقليد مشكور وراجح شرعا وعرفا لما يترتب على اجتماع المؤمنين في المكان الواحد وعلى المائدة الواحدة من فوائد عديدة ابرزها التعارف والتآلف الذي يسود جو الاجتماع ويضم الى ذلك غالبا القاء كلمة او اكثر من وحي المناسبة يشير بها المتكلم غالبا الى ما يترتب على تأدية فريضة الصوم من الفوائد الكثيرة.

كما يطلب من المدعويين المساهمة في انجاز او دعم مشروع خيري ثقافي او صحي او انساني عام ونحو ذلك.

وكان لطلب المساهمة في ذلك اسلوب سابق مرجوح وحدث بعده اسلوب آخر راجح.

اما الاول : فهو الذي كان يعلن فيه عن اسماء المساهمين والمقدار الذي ساهموا به ووجه المرجوحية فيه واضح لانه اولا قد يؤثر على نية المساهم وإخلاصه فيها حيث يتدخل عنصر حب الشهرة والمدح ليكون الدافع لاصل الدفع او لزيادة المدفوع هو الرغبة في المدح والثناء وهذا عين الرياء الذي يبطل النية ويفسد العمل كما يفسد الخل العسل.


وثانيا : لان الاعلان عن الاسماء ومقدار المدفوع قد يسبب الاحراج لبعض الاشخاص الذين تعودوا وعودوا اصحاب المناسبة والحاضرين لمناسبة الافطار ـ على ان يدفعوا مقدارا معتدا به ـ واتفق حصول ظروف معاكسة منعتهم من اصل المشاركة في الدفع او من زيادة المبلغ المدفوع ـ وبالاعلان عن الاسماء يعرف عدم مشاركته من عدم ذكر اسمه كما تعرف كمية المدفوع المتواضعة وكلا الامرين صعب عليه لانه تعود ان يعطي كثيرا.

وبذلك يعرف الاسلوب الجديد الراجح ـ وبضدها تتميز الاشياء واذا اردت التصريح به والاعلان عنه فأقول :

« إنه الاسلوب الصامت الساكت الذي يقتصر فيه على توزيع الظروف على الحاضرين ليضع من تسمح له ظروفه بالمساهمة المبلغ المناسب لوضعه الراهن من حيث الزيادة والنقيصة وقد لا يذكر البعض اسمه ايثاراً لصدقة السر الموجبة للمزيد من الاجر.

وبعد الترحيب بهذه العادة المباركة المتبعة في شهر رمضان المبارك احب التنبيه على بعض الامور الراجحة.

منها : ترجيح استيعاب الدعوة لاكبر عدد ممكن من المستضعفين المحرومين لما يترتب على ذلك من الاجر العظيم والثواب الجسيم والوجه في ذلك واضح كما يترجح توزيع ما يفضل من الطعام على اكبر عدد منهم لنفس السبب ويقوى الرجحان في حق المستضعفين من الاقارب والجيران كما يترجح مواساة الجيران في هذا الشهر وغيره وتفقدهم بتقديم بعض الفواكه التي لا تسمح لهم ظروفهم الاقتصادية الصعبة بشرائها وكذلك غير الفواكه من الاطعمة الطيبة التي يحرمون منها بسبب غلائها وعجزهم الاقتصادي عن شرائها.

وهذه النصيحة مستوحاة من بعض الروايات الواردة عن أهل البيت : وهي نابعة من انسانية الإنسان وفطرته السليمة ويأتي الإسلام


المبارك لينميها ويقويها لتندفع في طريق الخير والفضيلة نحو هدف الكمال والسعادة في الدنيا والآخرة.

وذلك باعتبار انه رسالة المحبة والرحمة ومن هذا المنطلق جعل لكل واحد من الجيران حقوقا على جاره من اجل ان تؤدي تأديتها الى تعميق الرابطة الاجتماعية وتحول القرب المادي الحاصل بالجوار والقرب المكاني الى قرب معنوي تتعانق فيه الارواح وتتصافح القلوب وينطلق الجميع في درب المودة والوئام نحو هدف السعادة والسلام ـ وقد وسع الإسلام دائرة حق الجوار لتشمل الكافر مراعاة لاخوته في الإنسان ية وليؤدي الانفتاح عليه والتعامل معه بالحسنى الى ان يعرف الإسلام على حقيقته وانه دين الإنسان ية النبيلة والاخلاق الجميلة الذي انزل الله سبحانه ليكون رحمة للعالمين وبذلك يميل الى هذا الدين العظيم عاطفيا ويقتنع به عقليا ويؤدي به هذا الميل وذلك الاقتناع الى ان يدخل في الإسلام ويخرج الى النور من الظلام كما حصل من ذلك الجار اليهودي الذي كان يعامل الرسول الاعظم 6 بالاسلوب المؤذي نفسيا وجسميا كلما مر من امام باب داره ـ وعندما توقف عن ذلك فترة من الزمن وعرف النبي 6 بمرضه الذي منعه عن ذلك ـ ذهب لعيادته من اجل تأدية حق جواره ـ وكانت هذه البادرة النبيلة من رسول الإسلام وسيد الانام 6 موضع اعجاب وتقدير عنده الامر الذي جذبه بسلك الاقتناع بواقعية هذه الرسالة وسماحة تعاليمها الى الدخول فيها والاعتراف بصدق حامل لوائها وناشر ضيائها نبي الهدى والنور والرحمة محمد بن عبد الله 6.


حول ايقاظ النائمين للسحور

ومن جملة العادات المتبعة في شهر رمضان المبارك التزام جماعة من المؤمنين وبدافع حسن النية وسلامة القصد ـ والرغبة في الثواب ـ بإيقاظ النائمين لتناول طعام السحور.

وهذه العادة وان كانت راجحة في ذاتها وبلحاظ الغاية الشريفة المقصودة منها الا ان ما يترتب عليها من الانفعال والمضايقة النفسية والصحية بالنسبة الى الكثيرين من الناس ـ يجعل تركها ارجح من القيام بها وذلك لان الاخوان الاعزاء الذين يقومون بمهمة الايقاظ ـ تفرض عليهم هذه المهمة ان يبكروا بها قبل بزوغ الفجر الصادق بمدة طويلة نسبيا من اجل ان يستوعبوا منازل المنطقة الواسعة وهناك اشخاص يكونون نائمين في هذا الوقت وليست لديهم رغبة في الاستيقاظ للسحور اما لعدم صومهم لعذر شرعي او لانهم يتناولون طعامهم قبل نومهم حتى لا يحتاجوا الى الاستيقاظ في آخر الوقت لصعوبة ذلك عليهم او لانهم يصومون بدون سحور اصلا وهكذا ـ فهؤلاء يسبب لهم الايقاظ المبكر ازعاجا وربما إضرارا بصحتهم وخصوصا المريض كما لا يخفى.

لهذا اقدم لإخواني الأعزاء النصيحة والدين النصيحة ـ بترك هذه العادة ليعتمد كل أهل بيت على الوسيلة المنبهة المناسبة لهم وافضل واسهل وسيلة لذلك هي الساعة المنبهة لاصحابها في الوقت الذي يتناسب مع راحتهم ومصلحتهم وانا اطمئن اخواني الاعزاء بأن الله سبحانه الكريم الرحيم يعوض


عليهم ويكتب لهم نفس الثواب الذي كانوا متوقعين حصوله لهم بسبب الايقاظ لان الاعمال بالنيات مع ثواب آخر يترتب على رفقهم بإخوانهم المؤمنين ومحافظتهم على راحتهم وصحتهم النفسية والجسمية واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.

المناسبات الدينية والحوادث التاريخية الحاصلة

في شهر الله تعالى

بعد الفراغ من الحديث حول المحوريين الاول والثاني من المحاور الثلاثة التي دار الحديث حولها في هذا الكتاب وبعد تحرير الكلمة المناسبة لموضوعه.

يأتي دور الحديث حول المحور الثالث وهو المناسبات الدينية والحوادث التاريخية التي وقعت في شهر الله تعالى وارجح الحديث اولا حول الحوادث التاريخية المتصلة بالشخصيات الإسلامية البارزة التي كانت ولادة بعضها وشهادة البعض منها ووفاة البعض الاخر في هذا الشهر المبارك وهي اربع شخصيات فذة سطع نجمها في سماء المجد والعلى المستمد من المصدر الحقيقي لسمو الدرجة وارتفاع المنزلة وهو الايمان الراسخ والترجمة العملية لهذا الايمان بالتقوى والعمل والصالح.

وسيكون الحديث حول هذه الشخصيات الرسالية مرتبا بحسب تاريخ الحادثة والمناسبة المتعلقة بأية واحدة منها ولذلك يأتي حولها على الترتيب التالي.

أولاً : يقع الكلام حول شخصية بطل التوحيد ورمز الايمان الصادق ابي طالب عم الرسول الاعظم ووالد علي الاكرم مثال الكمال والفضيلة على الرسول والده الروحي وعليه ازكى السلام والتحية وعلى والده العظيم كافل


النبي طفلا وناصره والمدافع عنه رسولا ـ رضوان من الله تعالى عليه.

والحديث عن هذه الشخصية الإسلامية الخالدة بمناسبة وفاتها في اوائل هذا الشهر المبارك على ضوء بعض الروايات الواردة في هذا المجال.

وثانياً : يكون الحديث عن شخصية أم المؤمنين وزوج سيد المرسلين وجدة الأئمة المعصومين وذلك بمناسبة وفاتها في أوائل الشهر المذكور الميمون وبعد وفاة ابي طالب بثلاثة ايام على ضوء بعض الروايات.

وثالثاً : يكون الحديث حول شخصية الإمام الحسن الزكي 7 بمناسبة ولادته الميمونة في النصف من هذا الشهر.

ورابعا : يقع الحديث حول اعظم شخصية عرفها التاريخ بعد شخصية الرسول الاعظم 6 وهي شخصية أمير المؤمنين وسيد الوصيين وقائد الغر المحجلين الى جنات النعيم علي بن ابي طالب 7 وذلك بمناسبة استشهاده في الحادي والعشرين من الشهر المبارك.


الحديث عن شخصية أبي طالب

والحديث عن الشخصية الاولى يعتبر في الواقع حديثا عن الايمان الفطري الصادق والجهاد المبدئي الصامد والوفاء الإنسان ي النادر وليس وصفي له بذلك من نسيج الخيال وانما هو صدى لصوت الحق الذي حمله نوراً في عقله وايمانا راسخا في قلبه وجهادا مريرا وصبرا جميلا تجمل به وهو يصون الرسالة ويحمي الرسول 6 من خطر كل التحديات والاعتداءات التي تعرض لها وعرضت له على ايدي قومه المشركين.

وصبر هذا المؤمن الرسالي ناصر الرسالة وحامي الرسول 6 على الاذى وثباته على مبدئه الحق وايمانه الراسخ رغم تلك الضغوطات التي مارسها اعداء الرسالة ضده وضد ابن اخيه الرسول الاعظم 6 وخصوصا ايام حصاره وحصره مع هذا الرسول العظيم ومن يتصل به من الاعزاء كزوجته الصابرة المضحية خديجة وابنته الطفلة البريئة الطاهرة فاطمة الزهراء ونفسه وابن عمه علي القدر ورمز الوفاء والتضحية والفداء ومن انضم اليهم بدافع الغيرة والحمية الهاشمية ـ من بني هاشم.

أجل : ان صبره على الاذى الشديد العنيد وخصوصا مدة الحصار في الشعب المنسوب اليه والتي بلغت ثلاث سنوات ـ وعدم تنازله عن موقفه وانحرافه عن مبدئه ـ اصدق شاهد على واقعية ايمانه بهذه الرسالة العظيمة وتصديقه لحاملها العظيم 6.

وهناك مقدمات تمهيدية ساهمت في تلقيه الدعوة بالتصديق القلبي


الثابت بسرعة وبدون اي تردد وتوقف.

من هذه المقدمات صفاء فطرته التوحيدية التي فطر الله الناس عليها وسلامتها من التلوث بأدناس الشرك الجاهلي وذلك ببركة تولده من أب موحد وهو عبد المطلب المتولد من مؤمن موحد الى آخر جد له يربطه بالاب الاول والجد الاعلى آدم 7 وهذا مستفاد من النقل الصحيح المؤيد بالعقل السليم ومضمونه ان النبي المعصوم والإمام المعصوم لا بد ان يهيىء الله لهما الاصلاب الطاهرة والارحام المطهرة وذلك لان الشرك ظلم عظيم وظلام حالك والعصمة نور متألق ولا مجال لان يستقر النور مع الظلام في مكان واحد ـ والعصمة طهارة ونقاء والشرك رجس ونجاسة معنوية ومحال ان يجتمع هذان الضدان في مكان واحد.

وقد فسر قوله تعالى مخاطبا رسوله الاعظم 6 : وتقلبك في الساجدين بما ذكرناه من انتقال نور النبوة المعصومة من الاصلاب الطاهرة الى الارحام المطهرة من ادناس الشرك من كلا الطرفين الاب والام وحيث ان الإمام علياً 7 ثابت العصمة لدخوله في آية التطهير ولقول النبي 6 في حقه : علي مع الحق والحق مع علي فلا بد ان يكون ابواه موحدين في كل سلسلة نسبه الشريف الى الاب الاول والجد الاعلى كالنبي محمد 6 لنفس الوجه.

وعلى ضوء ذلك ذهب المشهور من مفسري الشيعة الى ان المراد بأزر الذي عبر عنه القرآن باسم الاب للنبي ابراهيم 7 هو عمه وليس اباه حقيقة واللغة العربية تطلق اسم الاب على العم مجازاً.

ويضاف الى هذه المقدمة الذاتية التي ساهمت في قبول ابي طالب الدعوة الإسلامية وتصديقه لها بسرعة ـ مقدمة اخرى خارجية وهي ما سمعه من علماء اهل الكتاب ـ من ان ابن اخيه محمدا هذا سوف يكون نبياً في المستقبل وذلك لانطباق الاوصاف الموجودة في كتبهم لنبي آخر الزمان عليه ولذلك كان شديد الخوف عليه من اليهود الامر الذي كان يدعوه لبذل اقصى


الجهد واخذ كافة الاحتياطات من اجل صون حياته من غدرهم اللئيم.

هذا كله يأتي في سياق المقدمات التمهيدية المساعدة على سرعة التصديق بالدعوة الجديدة المجيدة ـ وهي تسبب الاطمئنان بحصول هذا التصديق وتضعف احتمال عدم تحققه ـ وخصوصا اذا انضمت اليها علامات خارجية فعلية وقولية تؤكد واقعية ايمانه.


الشواهد الجلية على إيمان أبي طالب

بالدعوة الإسلامية

أما الفعلية فقد تمثلت بما ذكرناه من تحمله شتى انواع الاذى والمضايقة من قبل المشركين وخصوصا مدة الحصار الصعب كما تمثلت ايضا بقوة حرصه على سلامته من الاعداء الى درجة دعته الى ان ينوم الرسول اول الليل في مكان ظاهر يساعد الاخرين على معرفة مكان نومه ـ وبعد ذلك ينقله الى مكان آخر وينوم مكانه ولده عليا حتى اذا حصل ضرر ووقع خطر يصيب ولده الجسمي دون ولده الروحي الرسول الاعظم 6.

وبذلك يعرف السبب والوجه في موافقة الإمام علي 7 على المبيت في فراش الرسول ليلة الهجرة عندما طلب منه ذلك بأمر من الله تعالى ليكون مبيته مكانه مغطيا لانسحابه من بينهم فلا يعرفوا به الا بعد ذلك.

لان تمرنه على هذه التضحية قبل ذلك جعلها سهلة عليه والباعث الاقوى لاجابته هذا الطلب هو إيمانه الاقوى الذي بعث في نفسه الرغبة في ان يبيع نفسه النفيسة لله سبحانه لينال بذلك شرف الشهادة وقمة السعادة وقد اشار الله سبحانه الى هذا البيع الرابح بقوله :

( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد ) (١).

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ٢٠٧.


وتقديم ولده فداء للرسول والرسالة اقوى دليل واصدق شاهد على قوة ايمانه وثباته على مبدئه كما هو واضح ويؤكد ذلك طلبه من ولده جعفر ان يصلي في جهة اليسار من شخص الرسول 6 عندما وجده قائما يصلي وعلي يصلي في الجهة اليمنى وخديجة قائمة تصلي خلفه ـ فهو لم يقتصر على موافقته وسماحه لولده علي بالصلاة مع الرسول بل طلب من ولده الاخر ان يصلي في الجهة الاخرى بقوله : « صل جناح ابن عمك ».

وهناك شواهد خارجية كثيرة تدل على واقعية ايمان هذا البطل التوحيدي الخالد منها ابقاء فاطمة بنت اسد زوجة عمه هذا عنده وعدم فصلها عنه لانها كانت من السابقات الى الإسلام فلو كان غير معترف بالرسالة ومصدق للرسول الاعظم 6 ، لما جاز إبقاؤها عنده على زوجيتها السابقة كما هو واضح.

هذا حاصل ما ذكرته من الشواهد الفعلية الناطقة بواقعية ايمان شيخ البطحاء ووالد سيد الاوصياء ابي طالب رضوان الله عليه واما الشواهد القولية فكثيرة منها ما هو صادر منه ومنها ما هو صادر من غيره في حقه.


الشواهد القولية على إيمان أبي طالب

وخير ما نفتتح به الشواهد القولية أية بينة منطبقة عليه بوضوح وجلاء وهي قوله تعالى :

( والذين ءاووا ونصروا أُولئك هم المؤمنون حقا ) (١).

وذلك لان ابا طالب هو المصداق الاجلى والفرد الاكمل الاعلى لهذه الآية الكريمة لانه كان في طليعة من حضن الرسول وأواه صغيرا وحماه ونصره كبيرا كما هو المعروف عند الجميع في التاريخ الإسلامي وتأتي بعد هذه الآية الكريمة روايات كثيرة ومعتبرة واردة عن اهل البيت : وهي تشهد بايمانه وتحكم بفسق من ينكر ذلك بعد وضوح الادلة وجلاء الشواهد الدالة عليه.

من هذه الروايات ما جاء عن أبان بن محمود انه قال للإمام علي بن موسى الرضا 7 : جعلت فداك اني قد شككت في إسلام ابي طالب فكتب له 7 : « إنك ان لم تقر بإيمان ابي طالب كان مصيرك الى النار ».

وجاء عن الإمام محمد بن علي الباقر انه سئل عما يقوله الناس ان ابا طالب في ضحضاح من نار فقال : لو وضع ايمان ابي طالب في كفه وايمان هذا الخلق في الكفة الاخرى لرجح ايمانه واما الشهادة القولية الصادرة من

__________________

(١) سورة الانفال ، آية : ٧٤.


ابي طالب فهي نثرية وشعرية اما الاولى فهي ما جاء في الطبقات الكبرى لابن سعد ان ابا طالب لما حضرته الوفاة دعا بني عبد المطلب وقال لهم :

« لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمد واتبعتم امره فاتبعوه واعينوه ترشدوا ».

وروى هذه الوصية ابن الجوزي في تذكرة الخواص والنسائي في الخصائص وصاحب السيرة الحلبية في سيرته (١).

واما الشهادة القولية الشعرية فهي تتمثل بأشعاره التي يعبر بها عن ايمانه برسالة النبي 6 وتصديقه بها من ذلك قوله :

ولقد علمت بأن دين محـمد

من خير أديان البرية ديـنا

والله لن يصلوا اليك بجمعهم

حتى اوسد في التراب دفينا


وقوله 6:

ألم يعلموا أنا وجدنا محمــداً

رسولا كموسى خُط في اول الكتب

وان عليه في العبـاد محـبة

ولا حيف فيمن خصه الله في الحب

وخلاصة القول في ايمان ابي طالب : ان ملاحظة مجموع ما تقدم من الشواهد الفعلية والقولية الصادرة منه مباشرة ومن غيره في حقه مع الآية الكريمة والروايات المعتبرة الناطقة بإيمانه.

أجل : إن ملاحظة مجموع ذلك يوحي بالقطع بواقعية ايمان هذا البطل الايماني الخالد.

ومجرد عدم تصريحه بالشهادتين لو سلم ذلك ـ لا يضر بما ذكرنا من ثبوت ايمانه بالادلة القاطعة والشواهد الواضحة وذلك لاحتمال ان يكون ذلك

__________________

(١) نقل ذلك المرحوم المقدس حجة الإسلام المحقق استاذي الجليل السيد هاشم معروف في كتابه القيم سيرة المصطفى صفحة ٢٠٤ عن كتاب الغدير للأميني ( قده ).


لحكمة ومصلحة اقتضته لان اعلان ذلك والتصريح به يسبب المزيد من الضغط عليه وعلى الرسول الاكرم 6 : ويبطل دور الوساطة ومحاولة التخفيف من ضغطهم الظالم عليه وعلى الرسالة مع ان شعره المذكور صريح باعترافه وتصديقه بالدعوة الإسلامية المباركة.

ويؤكد ذلك ما روي من ان الله سبحانه اوحى للنبي 6 بعد وفاة عمه هذا ـ طالبا منه الهجرة من مكة المكرمة الى المدينة المنورة ومعللا له هذا الطلب بموت ناصره الذي كان يحميه ويدفع عنه اعتداء المشركين وقد اخبر الرسول الاعظم بما طرأ عليه من ظلمهم بعد وفاة كافله وحاميه بقوله 6 : ما نالت مني قريش الا بعد وفاة عمي ابي طالب.

ويضم الى المؤكد المذكور مؤكد اخر وهو الحزن الشديد الذي هز كيان الرسول 6 على اثر وفاة عمه هذا مع وفاة زوجته المؤمنة الوفية المخلصة المضحية في سبيل الرسول والرسالة ـ وهي خديجة بنت خويلد ام سيدة نساء العالمين وجدة الأئمة الطيبين الطاهرين وقد عبر عن عميق حزنه وشدة تألمه لحدوث هاتين المأساتين في عام واحد ـ بتسمية هذا العام بعام الحزن.

ومن الواضح ان النبي المعصوم الذي لا ينطق بلسانه ولا يحزن في قلبه الا اذا كان ذلك النطق صدقا وهذا الحزن لله وفي سبيل الله تعالى كما لا يحب ولا يبغض الا لله وفي الله هذا اوضح دليل واصدق شاهد على توحيد عمه وايمانه الصادق اذ لا يعقل في حقه ان يحزن لوفاة انسان مشرك حتى ولو كان من اقرب الناس اليه وخصوصا اذا كان الحزن عميقا ومعلنا عنه بمدة عام.

هذا هو الواقع الذي اشرق فجره وضاء يبدد ليل الاوهام والشبهات التي اثارها اعداء الرسول والرسالة من بني امية وبني العباس عبر تلك الروايات التي لفقوها زوراً وبهتانا من اجل ان ينالوا من مقام هذا المؤمن الموحد الصلب في ايمانه ـ ابي طالب ( رض ) ونجله الإمام علي 7 بطريق غير مباشر ـ لذلك يتوقع من كل انسان حر الضمير سليم الفكر والمنطق ان لا


يتأثر بتلك الشبهات الواهية والدعايات المغرضة التي ينبغي ان لا يبقى لها اي وجود في ذهن اي انسان يحترم عقله وينظر بعين البصيرة الصحيحة الى انوار شمس الحقيقة الساطعة التي يغني اشراقها في سماء الوعي والانصاف عن البرهنة وإقامة الدليل والى هذا المعنى اشرت بالابيات التالية:

إن شـع نور الحق في الاذهان

أغنى عـن التـدليل والــبرهان

وأنار درب الصالحات لسالك

يهوى الوصول الى رضا الرحمن

لينال في دنياه مجدا شامـخا

وهناك في الاخرى نـعيم جـنان


وفي نهاية الحديث عن شخصية ابي طالب الفذة احب الاجابة على السؤالين اللذين طرحا في المقدمة وهما لماذا نحتفل بالمناسبات الدينية عامة والرمضانية خاصة وكيف يتحقق هذا الاحتفال ليكون محققا للهدف الرسالي الذي ينبغي ان يكون المقصود والمستهدف من احياء المناسبات واقامة الاحتفالات.

وذلك من اجل ان تكون هذه الاجابة ممهدة لمعرفة كيفية استيحاء الدرس والعبرة من حياة الشخصيات الرسالية الاربع التي تحدثت عن الاولى منها بايجاز وسيتلو الحديث عنها الحديث عن الباقي على الترتيب السابق.

والمراد من المناسبات الدينية معناها العام الشامل للمناسبات التاريخية ونحوها مما يتعلق بالرموز الدينية التي كان لها دور بارز في نصرة الرسالة والرسول 6 والدفاع عنهما او في تحمل المسؤلية الدينية بكفاءة وثبات لغاية حفظ الرسالة من الضياع والامة من الضلال فأقول :

ان كل باحث واع يطلب منه ان يكون نظره للحوادث التاريخية البارزة وسيرة الشخصيات الاجتماعية اللامعة ـ نظر تأمل وتحليل من اجل ان يستوحي الدروس الواعية الموعية مما يطلع عليه من الحوادث الماضية او يقرأه من سيرة الشخصيات البارزة والمقصود بالدروس الواعية ـ ما يكون منها مصدرا لتحصيل العقيدة الصحيحة ان كان الشخص فاقدا لها ـ او لتقويتها


وتعميقها في الذهن ان كانت موجودة بمرتبة ضعيفة.

كما تكون مصدرا للإيمان بما يتفرع على تلك العقيدة من احكام شرعية وقوانين دينية تنظم علاقة المخلوق بخالقه ليعرف ماذا يجب عليه نحوه وكيف يطيعه ليحقق الغاية التي خلقه من اجلها وهي عبادته وحده لا شريك له.

كما تنظم علاقته بأفراد المجتمع الصغير وهو الاسرة والكبير وهو المجتمع ليعرف ماذا يجب عليه نحو غيره في اطار هذين المجتمعين ليؤديه بالاخلاق الإسلامية والاداب المحمدية المتمثلة بالحكمة والموعظة الحسنة اذا حصل توقف من الاخر عن تأديتها.

واذا عرفنا ان العبادة التي خلق الله الإنسان من اجلها يراد بها اطاعته والانقياد اليه بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه في كل المجالات ندرك انه يكون على حالة عبادة له سبحانه في كلا المجالين المشار اليهما وفي مجال ارتباط العبد بخالقه عبر العبادات الخاصة المعهودة ومجال معاملته وتعامله مع الاخرين في اطار الوظيفة الشرعية المحددة له من قبل المشرع الاول وهو الله سبحانه.

لانه كما يصدق عليه عنوان العبادة والعبودية لله سبحانه وهو يؤدي له تلك العبادات المعهودة كذلك يصدق عليه هذا العنوان وهو يؤدي وظيفته الشرعية في اطار المجتمع لان تأدية كلتا الوظيفتين ـ وظيفة اطاعة الله سبحانه بفعل العبادات الخاصة والوظيفة الشرعية في اطار المجتمع ـ تعتبر عبادة لله سبحانه بالمعنى العام للعبادة كما تقدم.

وقد تستفاد من دراسة حياة العظماء في التاريخ دروس اخرى نافعة وعظات بالغة غير ما مرت الاشارة اليه من الدرس والعبرة الموجبة لتحصيل الايمان الصادق بعد العدم او لتقويته وتعميقه بعد الضعف.


دروس تربوية من سيرة أبي طالب

وحيث اننا في نهاية الحديث عن شخصية ابي طالب رضوان الله عليه ـ وإيمانه الراسخ فيترجح ان نقف من هذه الشخصية الفذة وقفة تأمل واعتبار لنستلهم منها الدروس النافعة والعبر المفيدة وهي كثيرة وسأقتصر على ذكر بعضها وهو الاهم الابرز فأقول : من الدروس التي يمكن ان نستهلمها من سيرة ابي طالب وجهاده البطولي الصامد ـ درس في الوعي والاخلاص للحقيقة المبدئية والواقع الراهن ـ يستفاد ذلك من ثباته على مبدئه الحق ودفاعه عنه وتحمل كل انواع الاذى والتعسف في سبيله نتيجة التجرد عن التقليد الاعمى والتعصب الاحمق لتقاليد المجتمع الفاسدة وعقائده الباطلة.

وقد برز هذا كله بوضوح وجلاء بموقفه الإيجابي من الدعوة الإسلامية منذ اللحظة الاولى التي انطلق الرسول الاعظم 6 بها بشيراً ونذيراً وداعياً الى الله بإذنه وسراجاً منيراً حيث وقف منها موقف الدعم والتأييد مع الدفاع والحماية رغم المعاناة الشديدة التي كان يتحملها في هذا السبيل الى ان انتقل الى جوار ربه راضيا مرضيا.

والمطلوب من جيلنا الجديد ان يقتدي ببطل التوحيد ابي طالب باعتناق العقيدة الصحيحة التي بني عليها الإسلام العظيم ـ بالدليل القاطع الذي انطلقت منه وقامت على اساسه وهو كامن في طي الفطرة السليمة المؤيدة بآيات الكتاب الحكيمة وذلك يؤدي به عفويا الى الايمان بالنظم العادلة والتشريعات السماوية الكاملة التي تنظم علاقة الإنسان بخالقه وبأخيه الإنسان


وتحقق له اهدافه الحياتية وتطلعاته الإنسان ية جميعها فلا تبقى له حاجة لاستجداء القوانين الوضعية المستوردة من الخارج والخارجة عن طبيعة الإنسان وفطرته السليمة التي فطره الله عليها وبذلك تبنى شخصيته الإنسان ية على اساس وطيد من الايمان الراسخ الذي ينير داخله بضوء العقيدة الصحيحة كما يضيء له درب حياته ليسير على نور وبصيرة في كل تصرفاته فيفعل ما ينفعه ويرفعه في حاضره ومستقبله القريب والبعيد بعد انتقاله الى جوار ربه راضياً مرضياً.

وذلك لسبب منطقي يظهر للإنسان بقليل من التدبر وهو صدور الإسلام بأصوله وفروعه عن خالق الإنسان العارف بما يصلحه له من القوانين والتشريعات فيكون بذلك منسجما مع طبيعته وفطرته وهذا هو سر نجاح الدعوة الإسلامية وانتشارها في الاقطار والامصار خلال فترة قصيرة رغم العراقيل التي وضعت في طريقها من قبل الاعداء سابقا ولاحقا.

ومن الدروس التي تستفاد من سيرة ابي طالب رضوان الله عليه درس في الاقدام والتضحية بأغلى الاشياء وأعز الاعزاء وهو الولد ـ في سبيل نصرة المبدأ وصونه من التضعضع امام اعتداء الظالمين وتعسف الجاهلين ـ وذلك لما تقدم نقله عنه من انه كان يضع احد اولاده والمعروف انه الإمام علي 7 في مكان مبيت الرسول 6 اول الوقت بعد نقله ـ اي الرسول الى مكان آخر حتى اذا وقع ضرر وطرأ خطر يصيب ولده دون الرسول 6.

كل ذلك من اجل حرصه على سلامة الرسالة بسلامة شخص الرسول 6 الحامل لها والمبعوث بها رحمة للعالمين وقد استفاد ولده علي 7 درسا في التضحية والفداء واقدم على تقديم نفسه الشريفة فداء للرسالة ليلة مبيته في فراش الرسول الاعظم 6 عندما عزم على الهجرة من مكة المكرمة الى المدينة المنورة ـ وقد اقتدى سيد الشهداء بجده ابي طالب بإقدامه على تقديمه اولاده فداء للإسلام ـ كما اقتدى بوالده بالاقدام على تقديم نفسه النفيسة فداء للدين وصونا له من الزوال وللامه من الضلال.


وخلاصة الحديث في شخصية ابي طالب وايمانه الصادق ـ ان الشواهد المنطقية والامارات الفعلية والقولية التي مر ذكرها ويضاف اليها غيرها مما لم اذكر وهو اكثر مما ذكر.

أجل : إن هذه الشواهد الناطقة والامارات الصحيحة الصادقة تؤكد ان ابا طالب رضوان الله عليه ـ كان من المبادرين السابقين الى اعتناق الإسلام وإيمانه الجازم بأصوله وفروعه وان ما نسب اليه من قبل اعداء الإسلام ـ من عدم ايمانه ـ شبهة في مقابل البديهة ،

وقد الفت كتب كثيرة في أيمان هذا البطل الإسلامي الخالد قديما وحديثا ومن المؤلف مؤخرا كتابان جليلان مفيدان ارجح الاطلاع عليهما والاستفادة منهما في هذا الموضوع الحيوي. وهما كتاب ( ابو طالب مؤمن قريش ) لفضيلة العلامة الشيخ عبد الله الخنيزي ( وكتاب بطل الإسلام ) لفضيلة العلامة السيد حيدر محمد سعيد العرفي والاول منشورات المكتب العالمي للتأليف والترجمة دار مكتبة الحياة بيروت والثاني لم يذكر دار نشره.


أبو طالب شيخ البطحاء أهل لمدح الشعراء

ويسرني في ختام الحديث عن شخصية هذا البطل الإسلامي الخالد ان اذكر بعض الابيات الشعرية المنظومة في مدحه وبيان مقامه الرفيع وبعدها انقل المقطوعة الشعرية التي نظمتها تقريظا للملحمة الشعرية التي نظمها المرحوم شاعر اهل البيت الحاج سعيد عسيلي في سيرة عم الرسول 6 موضوع الحديث تحت عنوان ( أبو طالب كفيل الرسول ) قال ابن ابي الحديد في مدحه مع نجله الإمام علي 7 :

ولولا ابــو طالب وابنه

لما مثل الدين شخصا فقاما

فهذا بمكــة آوى وحاما

وذاك بيثرب خاض الحماما

فلله ذا فاتحــا للهـدى

ولله ذا للـمعالي خــتاما

ونسبت للإمام علي 7 الابيات التالية في رثاء والده ابي طالب رضوان الله عليه وهذا يؤكد اسلامه لان عليا مع الحق والحق معه كما ورد في شأنه على لسان الرسول الاعظم 6 وهذا النص كأية التطهير يدل على عصمة الإمام علي 7 فلا ينطق عن الهوى كالنبي محمد 6 من هذه الجهة وهي ما يلي :

أبا طالب عصمة المستجير

وغيث المحول ونور الظـلم

لقد هد فقدك أهل الحـفاظ

فصلى عليك ولـي الــنعم

ولقاك ربك رضـــوانه

فقد كنت للمصطفى خير عم


وقال حجة الإسلام المغفور له الشيخ محمد تقي صادق على ما ورد في كتاب الكنى والالقاب الجزء الاول في مدحه رضوان الله عليه.

أبو طالب أصل المعالي ورمزها

ومبدأ عنوان العلى وانتـهاؤه

توحد في جمع الفضائل والنـهى

وضم جميع المكرمات رداؤه

أصاغ الى الديـن الحنيف مـلبيا

لدعوته لما اتـاه نـــداؤه

وباع بإعزاز الشـريعة نفســه

فبورك قدراً بـيعه وشـراؤه

وفيما يلي المقطوعة المنظومة تقريظا للملحمة المذكورة والمنشورة في مقدمتها بعد مقدمة حررها سماحة العلامة المجاهد الشيخ عبد الامير قبلان :

من نور فجر العدل والانصـاف

وجمال روض الحسن والالطاف

صغت اللئاليء عقد حب صادق

وزففته شعراً لعـبد مـــناف

عـم النبي كفيله ونصـــيره

في نشر دين فائق الاوصــاف

لـولا حمـايته وذود ولــيده

الكرار نجل السادة الاشــراف

لم يأتلق صبح الرشاد ولا انجلى

ليل الهوى والبـغي والاجـحاف

فهما عماد الدين والقطب الـذي

دارت عليه رحى الجهاد الـوافي

سيظل نجمهما مشـعا لامــعاً

يمحو ظلام الدس والإرجــاف

وتظل ملحمة السعيد مـــنارة

تهدي العقول لمنهج الانـصـاف

فله من الرحمن تحفة عـــفوه

ومن الوصي شفاعة الاتحــاف

لا زال بالروح العظيم مــؤيداً

ما دام ينهل من معين صــافي

من شرعة المختار مدرسة الهدى

وغدير فكر بالحقائق طـــافي

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الرسول الاعظم وعلى وصيه علي الاكرم وعلى والدهما الروحي والجسمي ابي طالب المعظم ورحمة الله.


خديجة بنت خويلد مثال

المسلمة الفاضلة والزوجة الصالحة

بعد الفراغ من الحديث عن شخصية الناصر الاول لدعوة الرسول الافضل عمه وكافله والحامي له ولرسالته ابي طالب رضوان الله عليه بما تيسر وسمح الوقت بالتحدث به عنه من أجل اعطاء صورة مختصرة عن سيرته العاطرة وعقيدته التوحيدية الصادقة وذلك بمناسبة حدوث وفاته في اوائل شهر رمضان المبارك.

أجل : بعد الحديث الموجز عن هذه الشخصية الايمانية الفذة يأتي دور الحديث عن ناصر آخر لهذه الدعوة الصادقة وهو زوج الرسول الاعظم 6 خديجة بنت خويلد أم المؤمنين وأم الزهراء سيدة نساء العالمين وجدة الأئمة المعصومين.

وذلك بمناسبة حدوث وفاتها في اوائل هذا الشهر المبارك وبعد وفاة عمه المذكور ـ بالخير ـ بثلاثة أيام على ضوء بعض الروايات.

والحديث عن هذه المرآة الجليلة بوحي من تلك المناسبة الاليمة يعتبر حديثا عن العقل الكبير المنير المتألق بنور الوعي والحكمة والذي ساعدها على ان تعرف كيف تحصل الثروة المالية الطائلة وتنميها بالتجارة الرابحة التي كانت تكلف بها من تثق بخبرته وامانته من الرجال وأخيراً شاءت الحكمة الإلهية ان تضم هذا العقل الكبير الى صاحب العقل الاكبر والفضل الاظهر


محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين البالغ من العمر ٢٥ سنة وهو لا يزال اعزب اجل : شاءت الارادة الإلهية ان يلتقي هذان العقلان المنيران والقلبان الكبيران ـ على درب الوحدة النفسية والانصهار في بوتقة الحياة الزوجية التي تجعل منهما نفسا واحدة منطلقة في درب المحبة والوئام نحو هدف السعادة والسلام واذا اراد الله امرا هيأ اسبابه وكان سبب هذا الامر الإلهي والتقدير السماوي هو ان تكلف خديجة هذه محمدا هذا بأن يقوم بما كانت تكلف به غيره من السفر الى الخارج لغاية التجارة ولبى محمد هذا الطلب ليقضي الله أمراً كان مفعولا.

واتفق ان ربحت تجارتها هذه المرة ربحا خياليا لم يحصل لها من قبل ولم يكن يدور في ذهنها مضافا الى ما عرفت بحصوله له من الكرامات السماوية التي لا تحصل الا للأشخاص الذين تربطهم بالله سبحانه علاقة خاصة مميزة.

من هذه الكرامات تظليل الغمامة ومصاحبتها له ذهابا وايابا لتحجب عنه حرارة الشمس ـ وقد لاحظ هذه الظاهرة السماوية العجيبة الغريبة غلامها ميسره الذي انطلق بصحبته واخبرها بذلك بعد عودته من سفرته هذه.

فحصول الربح الكثير وحدوث هذه الكرامة مضافا الى ما كان معروفا وموصوفا به بين افراد المجتمع من الصدق والامانة حيث كانوا يلقبونه بالصادق الامين.

كل هذه العوامل تجمعت صورها المتألقة في خاطر خديجة لتزرع المحبة له في قلبها وتخرج من المتعارف في اسلوب المحاولة الهادفة لحصول الامنية الشريفة والحلم السعيد وهي امنية القرآن المبارك المجيد بالشخص الحميد ـ وقد تمثل خروجها عن المتعارف في ذلك ـ بأمرين الاول ابتداؤها بطلب حصول العلاقة المقدسة وابداؤها الرغبة فيها بتوسط احدى صديقاتها والثاني اقدامها على الاقتران بشخص لا مال له وهي المرأة الثرية التي بلغت ثروتها الرقم القياسي في محيطها.


أجل : إن مجموع الامرين المذكورين مضافا الى ما كانت معروفة به من العفة والطهارة والنجابة ومكارم الاخلاق ويجمع ذلك كله العنوان الذي لقبت به في مجتمعها وهو عنوان الطاهرة كما لقب الرسول الاعظم قبل بعثته بالصادق الامين.

وهذا الوصف الرفيع وان كان مفردا في لفظه ولكنه واسع المعنى متعدد الجوانب فهي طاهرة العقل من الشرك والشبهات وطاهرة القلب من الحقد الدفين والحسد اللئيم والطمع اللعين ونحو ذلك من المعاني المظلمة كما أنها لذلك كله طاهرة النفس والذات من كل صفة ذميمة وخلق وضيع.

والذي ساهم في صنع هذه الشخصية الفذة عدة عوامل ابرزها بعد عامل الارادة الإلهية والعناية السماوية لتجعل منها خير ام لافضل امرأة في التاريخ الإنسان ي ـ هو عامل الوراثة السليمة والتربية الحكيمة ـ.

وقد تمثل عنصر الإرادة والعناية السماوية بما زودها الله به من العقل المتألق وعياً وحكمة الأمر الذي دفعها لان تشق طريق المجد الامثل والشرف الرفيع باختيار افضل رفيق في اسمى طريق لارفع هدف وهو هدف السمو الحقيقي والثراء الواقعي الذي تشتري به اسمى مراتب الكمال والسعادة في الدنيا والآخرة.

وهذا العقل المنير وهو الرسول الباطني هو الذي دفعها للمبادرة الى التصديق برسالة الرسول الظاهري كما بادرت في الامس للتصديق بكفاءته لان يكون رفيق درب وشريك حياة زوجية قائمة على اساس الحب المبدئي العميق والاخلاص الوثيق الذي تمثل اولاً على صعيد الحياة الزوجية باسمى ما تتجمل به زوجة مع زوجها من المعاني السماوية والمثل الرفيعة كما تمثل ثانيا على صعيد الحياة الرسالية بعد ان اشرق نور الحق وعياً في عقلها وايمانا في قلبها وتضحية وفداء وبذلا وعطاء في سلوكها الرسالي وهي تقف مع رفيق درب الجهاد في ساحة الصراع والتحدي لتشد على يد الرسول المناضل


بالكلمة الطيبة والسماحة النادرة والبذل السخي الذي ساعد على ثبات الرسالة العظيمة والرسول العظيم والصفوة الصافية من المؤمنين المضحين امام كل التحديات الصعبة والمحاولات اللئيمة التي استهدفت الدعوة الصادقة وارادت القضاء عليها في مهدها وبذلك يظهر الوجه في اعتبار هذه المرأة الجليلة من الانصار الثلاثة الذين كان لهم الدور الطليعي في احتضان الرسالة وصونها من الاخطار الجسمية التي احدقت بها في بداية انطلاقها في طريق الظهور والبروز على الصعيد الخارجي.

وهؤلاء الانصار والابطال معروفون في التاريخ ومعترف لهم بالفضل ـ وهم ابو طالب بحمايته ونجله البطل الفدائي ببطولته والثالث موضوع الحديث وموضع الاجلال والاعجاب خديجة الكبرى رضوان الله عليها حيث ضحت بثروتها الطائلة في سبيل الدفاع عن الإسلام ونصرة المسلمين ودعم موقفهم النضالي الابي.

ولم يكن دعم هذه البطلة المجاهدة للرسالة والرسول 6 ، والذين آمنوا به ـ مقصورا على العطاء المادي كما ربما يتوهم من الكلمة المأثورة المشهورة القائلة : انتصر الإسلام بسيف علي ومال خديجة بل امتد عطاؤها السخي ليشمل البذل المعنوي والسخاء الروحي الذي كان يتمثل بصبرها الجميل وخلقها النبيل وابتسامتها المشرقة بنور الامل وضياء الرجاء والتطلع والنظر بعين التفاؤل وان كل ما يتحمله الإنسان الرسالي في سبيل نصر الحق والدفاع عنه يثمر له الاجر العظيم والثواب الجسيم.

وقد تجلى ذلك بوضوح ايام الحصار الصعب والمقاطعة الظالمة التي مارستها قريش ضد الرسول واتباعه بقصد الضغط عليهم ليتنازلوا عن موقفهم المبدئي تجاه رسالتهم الخالدة فلم يزدهم ذلك الا ايمانا وتسليما مرددين شعار الايمان الصادق وهو قوله تعالى عن لسانهم : « حسبنا الله ونعم الوكيل ».

وخديجة بطلة الإسلام كانت داخل هذا الحصار تقدم الدعم المادي


ببذل مالها والمعنوي بما تجملت به من صبرها واحتمالها مستسهلة الصعب ومستعذبة المر في سبيل نيل رضا الله سبحانه ولم تكن المقاطعة التي عانت منها بطلة الإسلام هذه ايام الحصار هي الاولى ـ بل سبقتها مقاطعة اخرى من قبل نساء قريش في مكة بسبب مخالفتها لرأيهن الجاهلي الذي دعاهن لان ينصحنها بترك الزواج من الرسول الاكرم 6 بسبب فقره وحيث انعم الله عليها بالعقل السليم والفطرة الصافية التي تدرك على ضوئها ان الميزان الحقيقي للسمو الواقعي هو الثراء الروحي والغنى المعنوي فقد اعرضت عن رأيهن الجاهلي وسارت على ضوء هدى السماء لاختيار افضل رفيق في خير طريق ، طريق الكمال والفضيلة.


تفضل الله على خديجة بابنتها فاطمة

وشاءت العناية الإلهية ان تقدم لها اثمن جائزة مكافأة لها على ايثارها رضا الله باختيار رسوله وترجيحه على غيره ـ وكانت هذه الجائزة هي فاطمة الزهراء التي وهبها الله لامها هذه من اجل ان تقر بها عينها بأصل وجودها في عالم الرحم وتنفيي عنها حالة الانفعال العاطفي بسبب تلك المقاطعة القاسية ـ وذلك بما كان يجريه الله على لسانها وهي لا تزال جنينا في رحم امها من الكلام الذي كانت تحدثها به حال انفرادها وكانت تكتم ذلك عن النبي 6 فدخل عليها يوما ووجدها تتكلم وليس معها غيرها فسألها 6 عمن كانت تخاطبه فقالت : ما في بطني فإنه يتكلم معي فقال النبي 6 : ابشري يا خديجة هذه بنت جعلها الله ام احد عشر من خلفائي يخرجون بعدي وبعد ابيهم (١) وعندما قربت ولادة السيدة خديجة ارسلت الى القوابل من قريش ليلين منها ما تلي النساء من النساء فأبين عليها بسبب مخالفتها لرأيهن بزواجها من النبي الاعظم 6 وبينما هي على حالة الاستعداد للولادة اذ دخل عليها اربع نساء عليهن من الجمال والنور ما لا يوصف فقالت احداهن لخديجة : انا امك حواء وقالت الاخرى انا آسية وقالت الاخرى انا كلثم اخت موسى وقالت الاخرى انا مريم جئنا لنلي امرك (٢).

__________________

(١) هذا منقول بالمعنى والمضمون عن كتاب فاطمة من المهد الى اللحد ص ٣٩.

(٢) نقل بتصرف عن كتاب ( فاطمة الزهراء من المهد الى اللحد ) ص ٤٢.


ولا يخفى ما في كل واحدة من القصتين المذكورتين من الكرامة والاكرام للسيدة خديجة من الله سبحانه ويمكن ان يستفاد منها درس تربوي يعمق ايماننا بالله سبحانه ويدفعنا الى اللجوء اليه والتوكل عليه كلما عصفت بنا نوائب الدهر او تعرضنا للأذى والظلم من الطغاة المعتدين ـ وقبل ان اشير الى هذا الدرس بصورة تفصيلية وكيفية استفادته من هاتين القصتين احب ان ارجع الى بداية الحديث عن سيرة هذه البطلة لاستلهم منها الدروس التربوية النافعة فأقول : ان الدروس التي يمكن استيحاؤها من سيرة ام الزهراء 8 كثيرة سأقتصر على ذكر اهمها :

دروس تربوية من سيرة خديجة

الدرس الاول : من هذه الدروس ـ درس في السير على منهج الفطرة السليمة والخطة المستقيمة التي تثمر للإنسان الكمال والفضيلة والسعادة الروحية والبهجة النفسية في الدنيا كما تثمر له كلتا السعادتين الروحية والمادية في الاخرة ـ مهما كلفه السير على هذا النهج من تضحيات لان حلاوة العاقبة تزيل مرارة المشقة والمعاناة التي يتحملها الإنسان في هذه الحياة من اجل ادراك غاية سامية وهدف رفيع وهذا ما نستفيده من اقدام هذه البطلة على اختيار اشرف انسان ـ رفيق درب وشريك حياة رغم اعتراض المعارضين وايذاء المغرضين بإعتبار ان الميزان المستقيم للسمو والرفعة هو التقوى ومكارم الاخلاق والمادة عرض زائل لا قيمة له في مقابل جوهر الفضيلة ومصدر السعادة الحقيقية وهو الايمان الصادق والعمل الصالح والخلق الفاضل.

الدرس الثاني : هو درس في التضحية بالراحة الجسمية والمتع الحياتية والثروة المادية في سبيل نصرة المبدأ والدفاع عن رسالة السماء باعتبار ان المعاناة الجسيمة تتبخر امام راحة النفس وابتسام الضمير واطمئنان القلب لسلامة المصير وسداد المسير وان الثروة المادية الجامدة لا قيمة لها ولا عبرة


بها ما دامت باقية على جمودها وركودها ولم تبعث فيها روح التضحية والفداء لتتحرك من عالم المادة الزائلة الى دار الخلود والسعادة الباقية.

ولذلك أثرت هذه البطلة الخالدة العاقلة ان تحول ثروتها المادية الى ثروة روحية معنوية جعلتها فوق مستوى نساء عصرها سمواً ورفعة باستثناء ابنتها سيدة النساء.

كما ضحت بالمتع المادية الفانية في سبيل النعيم الخالد والسعادة الابدية المادية والروحية مع رضوان من الله اكبر.

الدرس الثالث : في الصبر والثبات على المبدأ وتحمل كل انواع الاذى في سبيله بانتظار الفرج بعد الشدة واليسر بعد العسر. في هذه الحياة غالبا مع ترقب حصول الفوز الاعظم والجزاء الاوفى في دار الجزاء وعالم الخلود والبقاء انطلاقا من الايمان الجازم بتحقق وعد الله سبحانه الذي قدمه لعباده الصابرين (١).

الدرس الرابع : في توقع الفرج وحصوله معجلا عندما تشتد الازمة وتصل الى مرحلة يصعب تحملها والصبر عليها وخصوصا اذا كان المقام من مقامات التحدي التي يؤدي تأخير الفرج عن اولياء الله تعالى واستمرار اعدائه على حالة الزهو والتعالي على المؤمنين الى المزيد من الم المظلومين وتكبر المستكبرين الى درجة تغريهم وتغرقهم في الجهل المركب والضلال المدمر.

ففي هذه الحالة لا بد ان يفرج الله عن عباده المؤمنين وينتقم لهم من اعدائهم الظالمين كما حصل في التاريخ ويتكرر ذلك كلما شاءت الإرادة الإلهية والحكمة السماوية ان تعجل الفرج للمؤمنين والعقوبة للظالمين

__________________

(١) الفرق بين هذا الدرس والرابع التالي له ان هذا يتضمن توقع الفرج ولو على المدى البعيد وذك يتضمن حصوله معجلا لفقد طاقة الصبر ولحصول سبب تعجيل الانتقام من الاعداء.


المعتدين.

ولو فرض تأخر النصر المادي العسكري للمؤمنين او عدم حصوله اصلا فهم لا يصابون بالاحباط واليأس من روح الله تعالى ولا ينحرفون نفسيا ومعنويا لعلمهم بأن الله تعالى حكيم وعليم رحيم فقد تقتضي الحكمة تأخير النصر المادي وعدم تعجيله في هذه الحياة وذلك من اجل امتحان المؤمنين ومعرفة المؤمن حقا وتميزه عن غيره ممن يعبد الله على حرف.

وقد اشار الله سبحانه الى هذا الامتحان وحكمته بقوله :

( الم (١) أحسب الناس ان يتركوا ان يقولوا آمنا وهم لا يفتنون (٢) ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين (٣) ) (١).

وهذا الدرس يستفاد من القصتين المذكورتين وهما قصة تكلم فاطمة الزهراء في بطن أمها وتحدثها معها ـ وقصة حضور أربع نسوة من الصالحات اللاتي كان لهن شأن في التاريخ.

حيث يستفاد منهما ان الله سبحانه جعل لها من بعد الشدة فرجا فانطق لها طفلتها وهي لا تزال جنينا في بطنها لتسليها وتدفع عنها الم الانفراد بعد مقاطعتها وابتعاد النساء الجاهليات عنها وكذلك انزل لها اربع نساء صالحات ليحققن لها ما ارادت حصوله من نساء مكة.

__________________

(١) سورة العنكبوت ، آية : ١ ـ ٣.


الصحيح أن خديجة لم تتزوج غير الرسول ( ص )

وأن عمرها كان ٢٨ سنة

وفي نهاية هذا الحديث عن السيدة خديجة أم المؤمنين وفاطمة سيدة نساء العالمين ـ لا بد من التنبيه على أمر حيوي هو متمم لهذا الحديث وباعث فيه روح الموضوعية والإنصاف لهذه المرأة الجليلة وحاصل هذا الامر هو ان المعروف في التاريخ ان خديجة هذه كانت متزوجة بشخصين قبل تشرفها بالاقتران بالرسول الاعظم 6 وانه كان لها من العمر يوم حدوث هذا القران السعيد اربعون سنة.

والصحيح ما نقله الاستاذ العقاد في كتابه ( فاطمة والفاطميون ) عن ابن عباس من ان عمرها الشريف كان ثمانية وعشرين عاماً واستقرب الاستاذ هذا القول معبراً عن ترجيحه له بقوله (١) :

واحرى بهذه الرواية ان تكون اقرب الروايات الى الصحة كما ان الصحيح انها كانت عذراء غير متزوجة بأحد قبل الرسول الاعظم 6 وهو ما ذكره الشيخ علي محمد علي دخيل في هامش كتابه اعلام النساء حيث نقل عن البحار ما نصه :

جاء في المجلد السادس من البحار في باب نساء النبي 6 روى

__________________

(١) فاطمة والفاطميون صفحة ١٥.


أحمد البلاذري وابو القاسم الكوفي في كتابيهما والمرتضى في الشافي وابو جعفر في التلخيص ان النبي 6 تزوج بها وكانت عذراء يؤكد ذلك اكثر ان الرحم الذي اختاره الله سبحانه لان يكون وعاء لفاطمة الزهراء الطاهرة المعصومة وام الأئمة المعصومين لا يعقل ان يحل فيه ماء الشرك المحكوم بكلتا النجاستين المادية والمعنوية مضافا الى ما ورد في حق النبي 6 والإمام علي وابنائه الطاهرين من ان الله سبحانه اختار لهم الاصلاب الطاهرة والارحام المطهرة من آدم الاب الصلبي المباشر وحيث ان فاطمة معصومة فلا بد ان يختار الله لها الرحم الطاهر.

ويدل على ذلك ان خديجة كانت مؤمنة موحدة تعبد الله على دين جدها ابراهيم والشخصان اللذان ينقل تزوجها بهما كانا مشركين وحرمة اقتران المؤمنة الموحدة بالمشرك موجودة في كل الاديان وغير مختصة بالإسلام.


الشعر المقبول في مدح أم البتول

ويسرني ان اختم الحديث عن هذه المرأة البطلة والمجاهدة المضحية بالابيات التالية التي نظمتها مؤخرا بوحي من اعجابي وتقديري لايمانهما الصادق الذي ترجمته على الصعيد العملي بالتقوى والعمل الصالح والخلق الفاضل وتضحيتها النادرة في سبيل نصر الرسالة الخالدة ومواقف الرسول الصامدة.

أكبرت من أم البتــول

عقلا سما فوق المـــيول

وأنار منهاج الـــهدى

والرشد والخلق الـــنبيل

وبه سمت فوق الـنساء

وأصبحت زوج الرســول

وغدت تصدق بالــذي

وافى من الرب الجـــليل

وتصد عدوان الطــغاة

بقوة الصبر الجــــميل

وتساعد الفقراء بالاحـ

ـان والبذل الجــــزيل

وبذاك شاركت الوصـي

بنصرة الدين الاصـــيل

وجنت بذاك المـــدح

والاطراء في الزمن الطويل

ومضت الى النعمــاء

والرضوان في أهدى سبيل

ولها من الابناء شــكر

صـادر من كـل جــيل

هي أم كل المــؤمنين

وهم لها اوفـى سـلــيل

وهم فروع قد زكــت

والفرع يزكـو بالاصـول

بجهادها المالي اضـحى

الدين يشرق فـي العـقول

ويزيل عن قلب الهـدى

ظمأ الهـوى بالســلسبيل


نفحات عاطرة من حياة الحسن الطاهرة

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين

والصلاة والسلام على اشرف الخلق وسيد المرسلين نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتجبين :

وبعد :

فيما يلي نفحات عاطرة من سيرة وحياة الإمام الحسن 7 الطاهرة بمناسبة ولادته المباركة في النصف من شهر رمضان المبارك سنة ٣ للهجرة واذا كانت شهادته في السابع من شهر صفر سنة ٥٠ للهجرة يكون عمره الشريف سنة شهادته ٤٧ سنة.

ولا اريد بالحديث عن حياته الشريفة التعرض للجوانب التاريخية وما يتصل بها كما جرت عادة المؤرخين ومن سار على نهجهم ـ وانما اريد تناول الجوانب المضيئة من شخصيته الرسالية المثالية التي تعتبر في واقعها تجسيدا حيا لما في الإسلام من مثل سامية وقيم رفيعة يصح اعتبارها مصدرا لاستحياء الكثير من العبر النافعة والدروس التربوية المفيدة.

ومن هذا المنطلق سيكون حديثي حول الصفات المثالية باعتبارها الابرز في حياة المعصومين : وهي كما يلي على الترتيب المناسب علم الإمام الحسن 7 وعبادته وحلمه وكرمه وشجاعته وتواضعه وهناك صفات اخرى كانت لامعة في حياة هذا الإمام العظيم 7 مذكورة في كتب السيرة وسأختم حديثي بكلمة حول صلحه مع معاوية لبيان سببه المؤدي له والنتائج الايجابية المترتبة عليه.


علم الإمام الحسن والمعصومين بصورة عامة

إن علم أهل البيت : يختلف عن علم غيرهم من كلتا الناحيتين الكيفية والكمية والاولى يراد بها كيفية حصول العلم ومصدر تحققه لهم وهو الالهام الإلهي بمعنى ان الله سبحانه كان يلهم كل واحد منهم العلم بأي شيء تقتضي المصلحة ان يعلم به ولذلك كان يجيب اي واحد منهم على أي سؤال يقدم له ويطرح عليه وان كان طفلا صغيرا وكان السؤال صعبا وعميقا وقصة المناظرة التي حصلت بين الإمام الجواد 7 ويحيى بن اكتم قاضي بغداد في عصره مشهورة وقد تمخضت عن إفحام هذا الإمام الصغير سناً والكبير شأنا لذلك القاضي.

وبذلك يعرف الوجه في اختلاف علمهم : وتميزه عن علم غيرهم من جهة الكمية والكثرة التي كانوا يتفوقون بها على معاصريهم من العلماء الاجلاء ـ وحيث ان كل واحد منهم كان معصوما لا يتوقع حصول المخالفة من احدهم لاحكام الشريعة ولو بدون قصد وتعمد كما ثبت ذلك بحكم العقل المؤيد بشهادة النقل المعتبر.

يعرف الوجه في النص عليهم وتعيينهم للمنصب الديني والقيادة الشرعية من قبل الله سبحانه لانه اعلم حيث يجعل رسالته وقد بلغ النبي 6 ما انزل اليه من ربه في هذا الشأن عبر الروايات المعتبرة وبعضها متواتر ضمن روايات الامة الإسلامية.


عبادة الإمام الحسن ( ع )

لم يبلغ الأئمة : تلك المرتبة الرفيعة والمنزلة السامية عند الله سبحانه والعارفين بفضلهم المنصفين لهم لمجرد كونهم اعلم من غيرهم بل لانهم كانوا اعبد وازهد واحلم واكرم وافضل من غيرهم في كل الصفات الكمالية ومن جميع الجهات ـ وحيث ان كل واحد منهم معصوم لا يخرج عن اطار الإرادة الإلهية والوظفية الشرعية بكل تصرفاته الاختيارية ندرك ان اي واحد منهم كان اعبد اهل زمانه على الاطلاق بعد ان نعرف ان كل تصرفاته تكون عبادة لله سبحانه عندما تصدر منه وفق ارادته تعالى كما هو المقصود من العبادة بمعناها العام الذي كان الداعي لخلق الله الكون والإنسان كما يستفاد من نص قوله تعالى :

( وما خلقت الجن والإنس الا ليعبدون (٥٦) ) (١).

وذلك هو السر في تميزهم وتفوقهم على غيرهم بالعبادة بمعناها الخاص المتمثل بالعبادات الخاصة المعهودة وفيما يلي بعض الشواهد التاريخية على ذلك بالنسبة الى الإمام الحسن 7.

ورد في الجزء الاول من كتاب ( أئمتنا ) للحاج علي محمد علي دخيل صفحة ١١٢ الطبعة السادسة النص التالي :

قال الإمام الصادق 7 : حدثني ابي عن ابيه 7 ان الحسن بن

__________________

(١) سورة الذاريات ، آية : ٥٦.


علي بن ابي طالب 7 كان اعبد الناس في زمانه وازهدهم وافضلهم وكان اذا حج حج ماشيا وربما مشى حافيا وكان اذا ذكر الموت بكى واذا ذكر القبر بكى واذا ذكر البعث والنشور بكى واذا ذكر الممر على الصراط بكى اذا قام في صلاته ترتعد فرائصه بين يدي الله عز وجل الخ ) (١).

وانه كان اذا توضأ ارتعدت فرائصه واصفر لونه فقيل له في ذلك فقال ؛

حق على كل من وقف بين يدي رب العرش ان يصفر لونه وترتعد فرائصه وكان اذا بلغ باب المسجد يرفع رأسه ويقول :

« إلهي ضيفك ببابك يا محسن قد أتاك المسيء فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك يا كريم » (٢).

__________________

(١) منقول عن أمالي الصدوق صفحة ١٥١ ونقل في المصدر المذكور انه حج خمسا وعشرين حجة ماشيا وان النجائب لتقاد معه منقول عن كشف الغمة.

(٢) عن أعيان الشيعة.


حلم الإمام الحسن ( ع )

المراد من الحلم صفة ثابتة في نفس الشخص الحليم تعبر عن رحابة صدره وسعة افقه النفسي فلا يضيق ذرعا بما يحصل له من منافيات الطبع البشري المؤدية للإنفعال العاطفي بل يهضم ذلك بمعدة نفسه الكبيرة التي تأبى ان تنزل عن مستواها الرفيع الى مستوى النفوس الصغيرة التي تتجاوز حد الادب الإنسان ي والخلق الإسلامي الرفيع.

وينشأ عن ذلك كظم الغيظ والعفو عن المسيء وربما تجاوزت النفس الكبيرة حد العفو الذي يحمل في طي مفهومه معنى سلبيا وهو عدم الرد على المسيء بالمثل ـ الى معنى ايجابي رائع تتمثل فيه الإنسان ية باسمى معانيها وهو الرد على الاساءة بالاحسان الذي يرفع مقام الإنسان الى مستوى الملائكة ـ ولاهمية صفة الحلم ودورها الطليعي في علاج اصعب مشكلة اجتماعية وازالة اخطر مرض نفسي يفتك في كيان الإنسان فردا ومجتمعا ـ فقد ورد الحث عليها والترغيب فيها في الكتاب الكريم وسنة النبي العظيم وتوجيهات اهل بيته عليهم الصلاة وازكى التسليم.

قال الله سبحانه في مدح المؤمنين السائرين على نهج السماء بالايمان الصادق والخلق الفاضل والتقوى والعمل الصالح :

( الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين والعافين عن الناس والله يحب المحسنين (١٣٤) ) (١).

__________________

(١) سورة آل عمران ، آية : ١٣٤.


ومن السنة قول النبي 6 على ما روي عنه في وصيته للامام علي 7 وهي موجهة لنا بواسطته لانه معصوم يندفع بذاته للعمل بهذه الوصية : يا علي : لا تغضب فإذا غضبت فاقعد وتفكر في قدرة الرحمن على العباد وحلمه عنهم واذا قيل لك : اتق الله فانبذ غضبك وراجع حلمك وروي عنه 6 ايضا : « من كظم غيظا وهو يقدر على انفاذه ملأ الله قلبه أمناً وايماناً ».

وقد تقدم الحديث حول هذا الموضوع من هذا الكتاب في مقام بيان الدواء المزيل لمرض العداوة والشحناء فليراجع صفحة ٥٨ والفوائد المترتبة على الحلم كثيرة اهمها القضاء على مشكلة العداوة والخصومة التي تنشأ بين افراد المجتمع وتسبب للانسان المعادي الكثير من الاضرار وهي متنوعة فمنها ما هو صحي نفسي ومنها ما هو اجتماعي دنيوي ومنها ما هو ديني اخروي.

اما الاول وهو النفسي فواضح الخطورة والاضرار لان العداوة والشحناء تثير في النفس الالم وتحرك الحقد الذي يتطور في كثير من الاحيان الى الحسد المدمر وهو تمني زوال النعمة عن الغير مع السعي في سبيل حصول هذا الزوال حالا بالقول او بالفعل ومن المعلوم ان الحقد الدفين والحسد اللعين من اخطر الامراض النفسية التي تسبب الكثير من الامراض الجسمية واذا كان المثل المشهور القائل : العقل السليم في الجسم السليم صحيحا فالعكس صحيح ايضا لان العقل اذا كان سقيما والقلب لم يكن سليما يترتب على ذلك الكثير من الامراض البدنية الخطيرة.

واما الاضرار الاجتماعية الدنيوية فلأن العداوة في حقل النفس كشجرة الحنظل التي لا تعطي الا الثمر المر فهي تدفع صاحبها الى الغيبة التي تحطم كرامة الطرف الاخر وقد تنضم اليها النميمة وشهادة الزور ضده ونحو ذلك من المواقف السلبية التي تسبب للشخص الاخر اضرارا كثيرة مادية ومعنوية وتسبب في الوقت نفسه لهاذا المعادي المصاب بمرض العداوة الكثير من الاضرار المادية والمعنوية مضافا الى الاضرار الاكثر والاخطر التي تحصل له


يوم الحشر الاكبر والحساب الاعسر وهذا ما اشرت الى ترتبه على العداوة من الاضرار الاخروية.

لان الغيبة وما عطف عليها من الصفات الذميمة هي من الكبائر العظيمة التي اوعد الله عليها بالعقاب الشديد.

وبذلك تعرف فائدة الحلم العظيم لانه يساعد على التخلص من مرض العداوة والشحناء التي تجر الى كل ذلك البلاء ومن اجل توضيح ذلك اكثر اقول :

ان العداوة والبغضاء مرض نفسي خطير والدواء الذي يستعمل للتخلص من شره نوعان احدهما مسكن لألمه والثاني مقتلع له من الجذور في الغالب.

اما الاول المسكن فهو كظم الغيظ والعفو عن المسيء بمعنى عدم الرد عليه بالمثل وهو المعبر عنه بالحلم وهذا الدواء المعنوي وان كان راجحا ومطلوبا شرعا وعرفا الا ان اثره في الغالب يقف عند حد التسكين ولا يقتلع مرض العداوة من الاساس وبذلك تعرف أهمية الدواء الثاني وهو الرد على الإساءة بالاحسان قولا وفعلا وذلك لان الإنسان مطبوع على حب من احسن اليه وخصوصا اذا صدر الاحسان ممن حصلت له الاساءة التي تقتضي بطبعها الرد بالمثل وربما كان الرد اشد واعنف ـ فإذا حصل الاحسان مكانها سبب ذلك ردة فعل ايجابية عند المسيء ـ غالبا حيث يندم على ما صدر منه ويصبح بصدد الاعتذار ممن اعتدى عليه واساء اليه ويرغب بعد ذلك بمقابلة الاحسان المعالج ـ باحسان مماثل ليكون تكفيرا لخطيئة الاساءة السابقة وتعبيراً عن زوال سببها وهو العداوة وحلول المحبة مكانها.

وهذا ما اشار اليه بقوله تعالى :

( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي احسن فإذا الذي بينك وبينه


عداوة كأنه ولي حميم (٣٤) ) (١).

وقال الشاعر :

أحسن الى الناس تستعبد قلوبهم

فطالما استعبد الإنسان إحسان

وقد ظهر خلال الحديث ان اضرار العداوة لا تنحصر بالطرف الاخر المعادى ـ بفتح الدال ـ بل تبتدىء بنفس المعادي ـ بكسر الدال لتسبب له الكثير من الاضرار المادية والروحية الدنيوية والاخروية ولذلك يطلب من كلا الطرفين ومن يتصل بهما ان يبذلوا اقصى الجهد في سبيل القضاء على هذا الشر الخطير والضرر الكبير الذي كان ولا يزال مصدر الكثير من الاضرار التي تحطم كيان الإنسان فردا ومجتمعا.

وبذلك يعرف السر في حث الإسلام على السعي في سبيل اصلاح ذات البين واعتباره افضل من الصلاة والصيام المستحبين وقد مر الحديث حول موضوع الاصلاح واهميته وذلك في معرض الكلام حول الوسائل العلاجية التي دعا اليها الإسلام من اجل القضاء على مرض العداوة وازالته من جسم المجتمع الصغير ـ الاسرة والكبير المعهود ـ وحيث شاءت الارادة الإلهية والرحمة السماوية ان تقدم الإسلام المنقذ والمسعد ـ بكلا جناحيه النظري المتمثل بكتاب الله سبحانه والسنة القولية المتمثلة بروايات الرسول الاعظم واهل بيته : ـ مع الجناح التطبيقي المتمثل بسيرة هذا الرسول وعترته من اجل ان تتضح صورة هذا الدين العظيم ويظهر على حقيقته امام افراد المجتمع البشري فتتم الحجة وتقدم الاسوة والنهج فيعرفوا الشرع واسلوب تطبيقه.

اجل : حيث ان الله سبحانه انزل الدين ليكون رحمة للعالمين وكان ذلك متوقفا على الحجة المبلغة لاحكامه على حقيقتها والسابقة الى العمل والتطبيق ـ فقد هيأ واعد لشرعه الاخير الاكمل رسوله الاخير الافضل واهل

__________________

(١) سورة فصلت ، آية : ٣٤.


بيته بعده ليمثلوا دوره وينشروا نوره عبر القرون والاجيال كلها الى ان يرث الله الارض ومن وما عليها ـ وذلك هو مقتضى الحديث القائل :

حلال محمد حلال الى يوم القيامة وحرامه حرام الى يوم القيامة وهذا وذاك هو السر في تفوق اهل البيت : على سائر افراد الامة بكل الصفات الكمالية كما كان جدهم الاعظم الرسول الاكرم 6 كذلك من اجل ان تتم الحجة وتتحقق غاية البعثة وهدف الرسالة.

ومن الصفات الكمالية التي برزت في حياة كل واحد منهم وتفوق بها على غيره ـ صفة الحلم التي تجمل بها الرسول الاعظم 6 مع قومه الذين آذوه نفسيا وجسميا بما لم يؤذ به نبي قبله ـ كما قال. وخصوصا في معركة أُحد حيث حصل له ما حصل من قبلهم ـ وطلب البعض منه ان يدعو عليهم لينتقم الله له منهم فأبى ودعا لهم قائلا :

« اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون » بدل ان يدعو عليهم بالهلاك وقصته مع جاره اليهودي الذي كان يسبب له الاذى كلما مر امام باب داره ورد رسول الرحمة على ذلك بعيادته له حال مرضه الامر الذي سبب دخول هذا اليهودي في الإسلام ـ هذه القصة مشهورة معروفة عنه 6 في التاريخ وكذلك عفوه عن قومه يوم فتح مكة وقوله لهم : « اذهبوا فأنتم الطلقاء ».

وانطلاقا من نفس هذا المبدأ الإنسان ي النبيل والإسلامي الرفيع ـ كان عفو الإمام علي 7 عن خصومه في معركة الجمل رغم تمكنه من اتخاذ الاجراء القاسي والمستحق بالنسبة اليهم وكذلك عفوه عن خصومه يوم صفين حيث سمح لمعاوية وجيشه بورود المشرعة واخذ حاجتهم منها رغم منع معاوية وجماعته الإمام وجيشه من ذلك عندما سبقوا اليها وسيطروا عليها وعندما سمع سباً من بعض اصحابه لمعاوية واصحابه ـ ردعه عن ذلك قائلا له :

إني أكره لكم ان تكونوا سبابين ولم يقف حلم علي عند هذا الحد بل


امتد واتسع بسعة الإسلام وصدر هذا الإمام 7 حتى شمل عدوه اللئيم وقاتله اللعين حيث اوصى به اولاده طالبا منهم ان يطعموه مما يأكلون ويسقون مما يشربون وان يعاملوه برفق ولين وان يتركوا الامر اليه ليتخذ القرار المناسب اذا عوفي من ضربته واذا قتل بها يقتصرون على ضربة واحدة قاتلة له قصاصا ولا يمثلون به لمنع الإسلام ورسوله 6 من التمثيل ولو بالكلب العقور وعلى نفس هذا النهج القويم سار الإمام الحسن 7 الحليم مع ذلك الشامي الذي اخذ يسبه متأثرا بالشبهات التي كان معاوية يثيرها ضد الإمام علي واولاده : وفيما يلي نص هذه القصة على ما ورد في الجزء الاول من كتاب أئمتنا صفحة ١١٤.

عن المبرد وابن عائشة قالا : إن شاميا رأه راكبا فجعل يلعنه والحسن لا يرد فلما فرغ اقبل الحسن وضحك وقال : ايها الشيخ اظنك غريبا ولعلك شبهت فلو استعتبتنا اعتبناك ولو سألتنا اعطيناك ولو استرشدتنا ارشدناك ولو استحملتنا حملناك وان كنت محتاجا اغنيناك وان كنت طريدا أويناك وان كانت لك حاجة قضيناها لك فلو حركت رحلك الينا وكنت ضيفنا الى وقت ارتحالك كان اعود عليك لان لنا موضعا رحبا وجاها عريضا ومالاً كثيراً.

فلما سمع الرجل كلامه بكى ثم قال : اشهد انك خليفة الله في ارضه. الله اعلم حيث يجعل رسالته وكنت انت وابوك ابغض خلق الله الي والان انت احب خلق الله الي وحول رحله اليه وكان ضيفه الى ان ارتحل وصار معتقداً لمحبتهم 7.


كرم الإمام الحسن ( ع )

الكرم من الصفات النبيلة التي لمعت في حياة كل واحد من اهل البيت : واذا لاحظنا مصدر هذه الصفة وغيرها من الصفات الحميدة والاخلاق الرفيعة وادركنا انه هو الايمان الصادق.

نعرف ان اتصاف اهل البيت : بالكرم امر طبيعي جدا لان كل واحد منهم بلغ ارقى درجة واعلى مرتبة من الايمان الراسخ.

والوجه في ترتب صفة الكرم ونحوها من الصفات السامية وارتباطها بالايمان الصادق هو ان المؤمن معتقد بحب الله للكرم والكريم وانه يجازيه على ذلك معجلا بسعة الرزق وطول العمر ودوام النعمة ودفع البلاء وقد ابرم ابراما ـ مضافا الى ما يناله غدا من النعيم الدائم والسعادة الخالدة يوم الجزاء فيكون تعامله مع الله سبحانه على ضوء هذه العقيدة الصحيحة بتجمله بصفة الكرم النبيلة وغيرها من الصفات المجيدة مع قيامه بالاعمال الصالحة المقربة منه تعالى والنافعة لخلقه. نظير تعامل التاجر مع غيره بتجارة يعتقد بترتب الربح الكثير عليها ـ وقد اشار الإمام علي 7 الى هذا المضمون بقوله :

« من ايقن بالخلف جاد بالعطية » كما يستفاد ما ذكرته من ترتب الفوائد الكثيرة على صرف نعمة الله سبحانه كالمال ونحوه ـ في سبيل مرضاته من صريح قوله تعالى :

( لئن شكرتم لازيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ) (١).

__________________

(١) سورة إبراهيم ، آية : ٧.


وذلك باعتبار ان الاتصاف بصفة الكرم ونحوها من المزايا الحميدة مع القيام بالاعمال الصالحة المقربة من الله سبحانه والنافعة لعباده من اوضح مصاديق الشكر العملي كما هو واضح.

وقد تناولت هذا الموضوع ـ وهو صفة الكرم والسخاء ـ بحديث تفصيلي في الجزء الاول من كتابنا ( من وحي الإسلام ).

ولذلك سأقتصر على ذكر بعض القصص المتعلقة بشخصية الإمام الحسن 7 وهي تدل على تجمله بصفة الكرم مع بعض الصفات الاخرى الحميدة ـ وهي منقولة عن الجزء الاول من كتاب (١) ( أئمتنا ) منها ما روي عنه عليه من انه مر على فقراء قد وضعوا على وجه الارض كسيرات من الخبز كانوا قد التقطوها وهم يأكلون منها فدعوه الى مشاركتهم فأجابهم الى ذلك وهو يقول : « ان الله لا يحب المتكبرين ». ولم فرغوا من الطعام دعاهم الى ضيافته فأطعمهم وكساهم.

وهذه القصة تدل على كرم الإمام 7 مع تواضعه كما هو واضح وقيل له : « لاي شيء نراك لا ترد سائلاً وان كنت على فاقة؟.

فقال : « إني لله سائل وفيه راغب وانا استحي ان اكون سائلا وارد سائلا وان الله عودني عادة ان يفيض نِعَمَهُ عليّ وعودته ان افيض نعمه على الناس فأخشى ان قطعت العادة ان يمنعني العادة وانشد يقول :

إذا ما أتاني سائل قلت مرحبا

بمن فضله فرض علي معجل

وروي عنه انه اشتري 7 حائطا ـ اي بستانا ـ من قوم من الانصار بأربعمائة الف درهم فبلغه انهم احتاجوا ما في ايدي الناس فرده اليهم.

وروي ايضا انه جاءه بعض الاعراب فقال : اعطوه ما في الخزانة فوجد

__________________

(١) للمؤمن الصالح والمؤلف الناجح الحاج علي محمد علي دخيل.


فيها عشرون الف درهم فدفعها اليه فقال الاعرابي :

« يا مولاي الا تركتني ابوح بحاجتي وانشر مدحتي »؟. فأنشأ الحسن يقول :

نحن أناس نوالنا خضــل

يرتع فيه الرجاء والامـــل

تجود قبل السؤال انفســنا

خوفا على ماء وجه من يسـل

واما شجاعة الإمام الحسن 7 وغيرها من الصفات الكمالية فلا اراني بحاجة الى ذكرها تفصيلا وتكفي الاشارة اليها اجمالا بعد ملاحظة ان الإمام الحسن 7 وبقية افراد بيت النبوة والإمامة الطاهرين المعصومين ـ ملتقى لجميع الصفات النبيلة والاخلاق الجميلة ـ كما هو المعلوم الواضح لدى جميع العارفين بحقهم الإلهي والمطلعين على مقامهم السامي واذا اقتضت المصلحة ان يؤتى على ذكر بعض مزاياهم الغراء كما حصل بالنسبة الى ما تقدم ذكره من فضائل هذا الإمام العظيم.

فذلك من اجل التبرك بذكر فضائلهم الميمونة واستحياء بعض الدروس التربوية من سيرتهم العاطرة.


صلح الإمام الحسن أسبابه ونتائجه

والدروس المستفادة منه

قد حان وقت الوفاء بما وعدت به في صدر الحديث عن شخصية الإمام الحسن 7 ـ من الكلام حول مصالحة هذا الإمام العظيم الحكيم لعدوه معاوية ـ بذكر الاسباب التي ادت اليه والنتائج الايجابية التي ترتبت عليه والدروس التربوية التي يمكن ان تستلهم منه.

وقبل الشروع بذلك احب ان امهد بمقدمة مختصرة تلقى الضوء على الموضوع وتميزه بوضوح وجلاء فأقول : ان الاصل الاولي والقاعدة الاساسية في الإسلام هي السلم والسلام واما الحرب التي شرع من اجلها نظام الجهاد العسكري فهي حالة استثنائية تفرضها المصلحة العامة للمجتمع البشري كالدواء المر والعملية الجراحية اللذين يصفهما الطبيب الحكيم الرحيم للمريض عندما يتوقف شفاؤه من عارضه عليهما فهو يريد ان ينقله بمرارة الدواء الى حلاوة الشفاء كما يريد ان ينقله بواسطة الالم القليل ـ بسبب العملية ـ الى الشفاء الطويل.

وعلى هذا تكون الحرب والجهاد العسكري بكلا قسميه الابتدائي والدفاعي لخدمة المجتمع الإنسان ي ومصلحته عندما يكون الهدف من البدء بالقتال ـ قتل الكفر واخطاره ـ ومن الدفاع دفع العدوان واضراره ـ وقد اشار الله سبحانه الى حكمة الجهاد الدفاعي بقوله تعالى :


( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض ولكن الله ذو فضل على العالمين (٢٥١) ) (١).

وقوله سبحانه :

( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره ان الله لقوي عزيز (٤٠) ) (٢).

وبعد هذا المقدمة الموجزه ندخل في الحديث حول الموضوع الاساسي وهو الصلح الذي وقع في التاريخ بين الإمام الحسن 7 ومعاوية ويسرني في المقام ان انقل نص الكلمة التي كتبتها سابقا حول شخصية الإمام الحسن 7 بمناسبة ولادته الميمونة في النصف من شهر رمضان المبارك سنة ١٤٠٧ هـ وذلك لاشتمالها على الحديث حول موضوع الصلح المشار اليه مع الاشارة الى شخصية اخيه الحسين 7 وبيان السبب الذي اقتضى اختلاف موقفه الابي عن موقف اخيه الحسن الزكي أخيراً حيث وافق على ترك الاستمرار على محاربة معاوية والمصالحة معه بينما رفض الحسين ذلك من البداية واستمر على ثورته ضد حاكم عصره حتى النهاية التي تمخضت عن استشهاده مع من كان معه من ابنائه الاعزاء ـ باستثناء الإمام زين العابدين 7 ـ واخوانه الاحباء واصحابه الاوفياء مع حصول ما حصل بعد ذلك من السبي والتجول بالنساء الطاهرات والاطفال الابرياء وشمول ذلك للإمام السجاد 7 وفيما يلي نص هذه الكلمة :

من وحي مناسبة ولادة الإمام الحسن 7 نقدم لمحة موجزة عن حياته المباركة والحديث عن حياة هذا الإمام العظيم يعتبر في واقعه حديثا عن القرآن الناطق الذي تجسمت مفاهيم الإسلام السامية وتعاليمه المربية ـ في حياته الشريفة المعطاء وذلك لان سيرة كل واحد من اهل البيت : تعتبر

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ٢٥١.

(٢) سورة الحج ، آية : ٤٠.


في واقعها تجسيداً حياً وتطبيقاً عملياً لكل ما جاء في الرسالة المحمدية من عقائد حقة وتعاليم سامية ونظم حكيمة عادلة تنطلق بالإنسان فردا ومجتمعا على درب الفضيلة والكمال الى هدف السعادة والمجد والخلود ـ وقد اكد النص القرآني هذه الحقيقة بقوله تعالى :

( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيراً ) (١).

وقوله تعالى :

( يايها الذين آمنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول وأُولي الامر منكم ) (٢).

بعد ملاحظة النصوص المعتبرة التي فسرت كلمة أُولي الامر ـ بالأئمة المعصومين : ـ ويؤكد ذلك ورود الامر باطاعتهم في سياق الامر باطاعة الله سبحانه ورسوله الاعظم 6 ـ مضافا الى ورود النصوص المعتبرة عن النبي 6 بهذا الشأن ومنها حديثا السفينة والثقلين المنقولان في كتب الفريقين بشهرة بلغت حد التواتر.

وهناك نصوص خاصة وردت في حق الإمام الحسن 7 وحده ونصوص اخرى وردت في فضله وفضل اخيه الحسين :.

من الاولى قول النبي 6 :

من احبني فليحب ولدي هذا واشار الى الحسن 7 ومن الثانية قوله 6 : إبناي هذان إمامان قاما أو قعدا إنهما ريحانتاي من الدنيا.

وإذا أدركنا أن حب النبي 6 لولديه هذين لم يكن بدافع عاطفي محض وانما كان من خلال ما توسمه فيهما وادركه في شخصيهما المباركين من القابلية والاستعداد الذاتي الذي اودعه الله فيهما لغرض نهوضهما بالدور

__________________

(١) سورة الاحزاب ، آية : ٣٣.

(٢) سورة النساء ، آية : ٥٩.


الطليعي المعدين له في مجال حفظ الرسالة من الانهيار وصون المسيرة الإسلامية من الانحراف عن جادة الحق.

اذا ادركنا ذلك جيدا فإننا ندرك عظمة هذين السبطين بصورة خاصة وعظمة الأئمة من ذرية الحسين المعصومين : بصورة عامة.

واذا كان لا بد من تجلية نقطة خاصة تتعلق بصاحب الذكرى فإن اهم نقطة تستحق البحث الموضوعي والقاء الضوء الكاشف هي نقطة صلحه مع النظام الجائر المعاصر له بعد ثورته عليه ومحاربته له أول الامر.

وذلك لان عدول الإمام 7 عن موقفه الاول الرافض الى موقفه الثاني المهادن اقتضى الحيرة والتساؤل من قبل الكثيرين قديما وحديثا بعد ملاحظة موقف اخيه الحسين الصلب الذي انطلق به ضد الحاكم الجديد وبقي عليه حتى استشهد ومن معه من الاعزاء الذين جاهدوا معه ـ دون ان يقدم له ويعطيه شيئا من المصالحة والمهادنة مرددا شعاره الابي المشهور :

« والله لا اعطيكم بيدي اعطاء الذليل ولا اقر لكم اقرار العبيد » وقبل ان اجيب على هذا السؤال وادفع الشبهة التي ثارت او اثيرت حول هذا الموضوع لا بد من الاشارة الى المبدأ العام المشترك بين الأئمة الذي ينطلقون منه في مقام التعامل مع الاخرين والحوادث التي تجري على صعيد هذه الحياة فأقول :

ان اهل البيت : بحكم مسؤليتهم الهامة وقيادته الشرعية العامة التي اعطيت لهم بالتعيين الإلهي المبلغ من قبل النبي صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين ـ عبر النصوص الكثيرة المعتبرة لغرض حفظ الرسالة وصون الامة كما سلف فهم لا يتجاوزون الدور المحدد لكل واحد منهم ـ من قبل الله تعالى ولا يصدر عنهم الا ما تقتضيه المصلحة العامة في الحاضر او المستقبل.

وهذا يختلف من شخص لاخر باختلاف العوامل الموضوعية التي


تحكم الساحة وتملي الموقف المعين الذي تقتضيه طبيعة المرحلة وتحتمه المقتضيات الراهنة.

وحيث اقتضت المصلحة الإسلامية العليا موافقة الإمام الحسن 7 ـ على الصلح مع معاوية بعد محاربته له اولا لتوفر العدد القابل لان يعتمد عليه من افراد جيشه بحسب الظاهر وتبين عدم اخلاص الكثيرين منهم للقيادة الشرعية بدليل التحاق البعض منهم بجيش العدو واستعداد غيرهم لذلك بل لاكثر واخطر منه وهو تسليم الإمام 7 لعدوه اذا اراد.

اجل : بعد ملاحظة الإمام الحسن 7 عدم جدوى الاستمرار على محاربة عدوه وان نتيجتها ستكون سلبية على الإسلام والمسلمين في الحاضر والمستقبل ـ نظرا لما كان متوقعا حصوله على فرض الاستمرار وعدم المصالحة ـ من القضاء على حياته وحياة اخيه الحسين 7 ومن كان باقيا معهما من الانصار ـ في ظل ظروف غامضة وتعتيم اعلامي متعمد من قبل النظام الجائر واعوانه حيث كان الكثيرون وخصوصا الشاميين معتقدين بشرعية حكم العدو ولازم ذلك تفسير محاربته بأنها خروج على الشرعية التي كان متوقعا لها ان تنتقل بالوراثة الى الحاكم الجديد ـ كما حصل بالفعل ـ بدون وجود ما يقتضي الثورة عليه والاطاحة بنظامه الجائر ـ ما دام الحاكم الاول كان منصبه شرعيا والثاني مثل سابقه وان الحسنين تجاوزا حدهما فقتلا بسيف جدهما ـ كما ورد على لسان بعض وعاظ السلاطين مبررا قتل يزيد الظلم والجور لحسين العدل والحق.

ونتيجة ذلك ان تذهب تلك الدماء الطاهرة هدراً من دون ان يترتب على بذلها بسخاء في ساحة النضال ـ اي اثر ايجابي بل كان المتوقع ترتب الكثير من المضاعفات السلبية والآثار السئية المتمثلة بالقضاء على الدين من خلال القضاء على رموزه الحافظة له فكراً وعقيدة ومنهجاً ونظام حياة.

ولذلك اضطر الإمام الحسن 7 للموافقة على الصلح ضمن شروط


أملاها على خصمه مدخلاً في حسابه ترتب احدى الحسنين اما الوفاء بها وفي ذلك مصلحة للإسلام والمسلمين بلحاظ المستقبل او النكث بالعهد ومخالفة تلك الشروط كما كان الإمام 7 متوقعا ـ وفي ذلك مصلحة ايضا حيث يتعرى معاوية ويبدو على واقعه وانه حاكم جائر ينكث بالعهد ولا يفي بالشرط ـ وهذا يسلب عنه شرعية الحكم ويبرزه على واقعه ـ وهو واقع الظلم والغصب للمنصب الشرعي من اهله ـ وهم اهل البيت : وبذلك يتهيأ الجو المناسب للإمام الحسين ليثور على الحاكم الجديد الغاصب للمنصب الشرعي من الحسين بعد ان غصبه ابوه سابقا من الحسن 7.

ويزيد الموقف وضوحا والثورة واقعية وسدادا تجرد يزيد من كل الشعائر الدينية ومحاربته بصراحة للرسالة المحمدية بإنكاره نزول الوحي على الرسول الاعظم 6 وهذا منه كفر صريح غير قابل للتأويل والحمل على وجه صحيح ـ وذلك بما نقل عنه من قوله المتحلل :

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل

وهذا مضافا الى تجاهره بالفسق والفجور بتركه اهم الواجبات وارتكابه اكبر المنكرات مثل الزنا وشرب الخمر بكل وقاحة واستخفاف بأهم الاركان الدينية وهي الصلاة وذلك بما نقل عنه من قوله :

دع المساجد للعباد تســـكنها

ومل الى دكة الخمار واسقينا

ما قال ربك ويل للألى شربوا

بل قال ربك ويل للمـصلينا

ومن المعلوم انه بعد تردي الوضع الديني الى هذا الحد وبلوغ الجمود والركود في الامة الى هذه المرحلة التي تنذر بالخطر على الدين وجهود وتضحيات سيد المرسلين ـ لا يبقى مجال للمهادنة والسكوت عن كلمة الحق امام السلطان الجائر ـ مع علم الإمام الحسين 7 بأن سكوته لا يكفي لسلامته ومن يتعلق به لو اراد السلامة المادية الدنيوية الزائلة ـ على حساب المبدأ والرسالة ـ بل لابد ان يبايع الحاكم الجديد وينزل على حكمه ـ كما


طلب منه ـ وحاشا لحسين البطولة والشمم ولرجل المبدأ والفضيلة ان يضع يده الطاهرة في تلك اليد النجسة ليتعاون مع صاحبها على هدم صرح الشريعة المحمدية لتعود الامة الى ما كانت عليه من الضلال والجاهلية.

أجل : بعد تحقق ما اراد الإمام الحسن 7 ـ ان يتحقق ببركة مصالحته لعدوه الجائر ـ من ظهور واقع النظام الاموي على واقعه وانه نظام جاهلي يحمل في طيه كل احقاد التاريخ وانحراف الجاهلية وان الثورة ضده تكون صادرة من اهلها وواقعة في محلها ـ الامر الذي يحرك الرأي العام ضد ذلك النظام ويحوله الى صف الحق والشرعية من اجل ان ينقلب عليه ويطيح به ويقضي على رموز اعداء الحق والفضيلة.


اشارة الى سبب الثورة الحسينية

بعد تحقق ذلك كله وادراك الإمام الحسين 7 ان دمه الطاهر وبقية الدماء الزكية ـ اذا بذلت في سبيل نصرة الدين سوف لا تذهب هدراً بل لا بد ان تتحول الى مشاعل تضيء درب الحرية والثورة على اولئك الظالمين ليقضى على وجودهم مادياً بعد ان فقدوا وجودهم المعنوي بتجردهم من روح الرسالة وقلب الفضيلة واصبحوا اشباحا بلا ارواح ـ فاقدين لحياة العزة والكرامة والشرف والفضيلة بعد هذا التحول في الاوضاع والتغير في المعادلة وحصول الجو المناسب للجهاد المثمر المعطاء والهادم البناء.

كانت الثورة الحسينية المجيدة التي اطاحت بعرش بني امية بعد ذلك ببركة تلك الثورات المباركة التي انطلقت بقصد نصرة الحق والاخذ بالثأر من اولئك الذي تعاونوا على الاثم والعدوان بمحاربتهم لاهل البيت الطاهر وارتكابهم في حقهم ابشع المجازر.

وقد اشار الشاعر الى ما حصل لاعداء الحق وخصوم المبدأ من تحول نصرهم المادي الزائف الى هزيمة عسكرية منكرة بعد انهزامهم من الاول معنويا بقوله مخاطبا الحسين 7.

قتلوك للدنيا ولكن لم تــدم

لبني امية بعد قتلك جــيلا

ولرب نصر عاد شر هزيمة

تركت بيوت الظالمين طلولا

وتحصل مما تقدم ان الظرف في عهد الإمام الحسن لم يكن صالحا


للإستمرا على الحرب لذلك آثر ان يصالح ويقعد عنها وقعد معه اخوه الحسين منتظراً سنوح الفرصة وحصول الظرف الملائم وقد تحقق ذلك ببركة الصلح الذي اظهر العدو على حقيقته وحفظ للحسين حياته ليثور في الوقت الملائم وينال الشهادة المحققة لهدفين كبيرين احدهما نصره الحق بعد ذلك على ايدي الابطال الحسينيين الذين تخرجوا من مدرسة كربلاء النضالية ـ والثاني نيل شرف الشهادة في الدنيا مع السعادة الخالدة ورضوان الله سبحانه في الاخرة وذلك هو الفوز المبين وقد ظهر من مجموع ما تقدم الجواب الواضح على السؤال الذي طرح سابقا ولا يزال يطرح لاحقا وهو : لماذا صالح الحسن معاوية وحارب الحسين يزيد وهناك جواب اجمالي عام يستفاد من العلم بعصمة كل واحد من اهل البيت : وان تصرف اي واحد منهم يصدر منسجما مع الحكم الشرعي الذي يتوجه اليه على ضوء ظروفه الحاكمة ولذلك قد يختلف تكليف احدهم عن غيره من ابناء هذا البيت الطاهر تبعا لاختلاف ظرفه عن ظرف الغير ـ وهذا ما تحقق بالفعل وبشكل واضح بالنسبة الى هذين الإمامين المعصومين حيث حتم على الحسن 7 ظرفه ووضعه الخاص ان يصالح ويقعد عن الحرب بانتظار سنوح الفرصة ومساعدة الظرف لاخيه الحسين 7 ليقوم بعد ذلك بالاصالة عن نفسه والنيابة عنه ( اي عن الحسن 7 ) بواجب الثورة على الحاكم الجائر.

وخلاصة الحديث : ان الظرف الحسني حتم عليه وعلى اخيه الحسين معه ان يقعدا عن الحرب فقعدا عملا بوظيفتهما الشرعية والظرف الحسيني حتم عليه ان يثور فثار قياما بواجبه الشرعي ولو كان اخوه الحسن باقيا الى زمانه لثار معه لنفس السبب والى ذلك اشار النبي الاعظم بقوله 6 : الحسن والحسين امامان قاما او قعدا.

واما الدروس التي يمكن استفادتها من صلح الإمام الحسن 7 فكثيرة واهمها وابرزها ما يلي :


دروس توجيهية من صلح الإمام الحسن ( ع )

الدرس الاول : في تحديد الميزان الشرعي السليم الذي يعتمد عليه لمعرفة مشروعية الحرب ورجحانها وعدم ذلك وبعد التأمل في روح التشريع الإسلامي وفلسفة احكامه التي شرعت من اجل خدمة الإنسان ية بتحصيل المنافع لها ودفع الاضرار عنها.

اجل : بعد التأمل في ذلك ندرك ان الميزان في مشروعية الحرب ورجحانها هو ترتب ما يعود على الدين بالسلامة وعلى الامة بالعزة والكرامة وعلى الوطن بالاستقلال والحرية فلا يخضع اهله الا لله سبحانه وشرعه العادل الكامل في كل المجالات وبكل التصرفات ـ وعليه فأي حرب تنتج ذلك تكون مشروعة وراجحة وربما تصبح واجبة كما هو الغالب في اكثر الموارد ـ بالوجوب الكفائي ـ وقد يتحول الى وجوب عيني في حق بعض الاشخاص الذين يكون له دور بارز واثر بليغ في انتزاع النصر والانتصار على الاعداء في ساحة المواجهة.

وكل ما يبذل في هذا السبيل يعتبر مبذولا في سبيل الله فإن كان المبذول نفسا ـ كان الباذل شهيدا مستحقا ما اعطاه الله سبحانه له من المنزلة الرفيعة في الدنيا بحيث يصبح معها حيا خالدا لا ينطبق عليه عنوان الميت في المنظور القرآني والمنطق الإسلامي القائل :

( ولاتحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتا بل احياء عند ربهم يرزقون ) (١).

__________________

(١) سورة آل عمران ، آية : ١٦٩.


والقائل :

( ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله اموات بل احياء ولكن لا تشعرون (١٥٤) ) (١).

مضافا الى ما يناله في الآخرة من النعيم الخالد والسعادة الدائمة ورضوان من الله أكبر.

وكذلك كل ما يبذل في السبيل المذكور من المال ونحوه يعتبر مبذولا في سبيل مرضاة الله سبحانه بحيث يكون من مصاديق الجهاد في سبيل الله بالمال وهو ما صرح الله به في قوله تعالى :

( يايها الذين آمنوا هل ادلكم على تجارة تنجيكم من عذاب اليم (١٠) تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وانفسكم ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون (١١) ) (٢).

وقوله تعالى :

( * إن الله اشترى من المؤمنين انفسهم واموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التورات والانجيل والقران ومن اوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم (١١١) ) (٣).

واذا لم تكن الحرب راجحة بالميزان المذكور وللهدف المذكور ـ بأن كان الظرف حسنيا لا حسينيا ومكيا لا مدنيا ـ فلا تكون مشروعة بل تصبح محرمة اذا ترتب عليها اضرار جسيمة في الانفس والاموال من دون ترتب اثر ايجابي وهدف شرعي عقلائي.

وذلك لان الحرب لم تشرع في الإسلام الا لدفع خطر جسيم او لتحصيل نفع عظيم يفوق ما يبذل من الانفس والاموال في هذا السبيل كما تقدم وبدون ذلك تكون لغواً والقاء للانفس في التهلكة وصرفا للطاقات

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ١٥٤.

(٢) سورة الصف ، آية : ١٠ و ١١.

(٣) سورة التوبة ، آية : ١١١.


المادية والمعنوية ـ وهي ملك الله سبحانه في غير مرضاته وهذا هو السبب الذي اقتضى ان يقعد الإمام الحسن 7 عن القتال.

كما ان دفع الضرر الجسيم والخطر العظيم الذي كان متوقعا حصوله للرسالة والامة لو استقر نظام بني امية ـ في الوجود هو الذي كان المبرَر الشرعي والعقلائي لان ينهض الحسين 7 بثورته المباركة في سبيل حفظ الدين من الانهيار والمحافظة على معطياته الايجابية الكثيرة والكبيرة التي ترتبت عليه منذ بزغ فجر رسالته الخالدة المنقذة واستمرت معه جنبا الى جنب في كل القرون التي سلفت وستبقى ملازمة له ملازمة النور والحرارة للشمس ـ وان اختلفت في النوعية والكمية تبعا لاختلاف الظروف الموضوعية والعوامل الخارجية التي تؤثر سلبا وايجابا بحسب طبيعة المرحلة كما هو المعلوم.

والشاهد التاريخي الواضح على هذه الحقيقة الموضوعية هو الازدهار والانتشار الذي حصل للرسالة الإسلامية المباركة في زمن الإمامين الباقر والصادق : الامر الذي سبب انتساب المذهب والطائفة الشيعية الى الإمام جعفر الصادق 7 فقيل المذهب الجعفري والطائفة الجعفرية.

الثاني من الدروس التي تستلهم من قضية مصالحة الإمام الحسن 7 لمعاوية هو درس في التنسيق والتفاهم على موقف موحد تملية المصلحة الإسلامية العليا ـ كما اتفق بين الإمامين العظيمين الحسن والحسين : حيث رجحا معا التوقف عن الحرب بانتظار سنوح الفرصة وعدم المغامرة بالاستمرار عليها مع ظهور العلامات الكثيرة المنذرة بالفشل وعدم ترتب اي اثر ايجابي عليه ـ اي على الاستمرار ولم يكن اتفاق الرأي وتوحيد الموقف بين الإمامين 8 من جهة العصمة بل من جهة الوعي والحكمة التي تقتضي التدبر والنظر الى القضايا بعين البصيرة النافذة التي تنظر الى الحاضر وملابساته والمستقبل ومعطياته.

والجهة التي يتوقع استفادتها هذا الدرس ـ هي الرموز القيادية التي


تتحمل مسؤولية قيادة الشعب والسير به نحو اهدافه النافعة مع تجنب كل المغامرات التي تبعده عن هذه الاهداف وتوقعه في متاهات خطيرة ومضاعفات سلبية كثيرة.

وحيث ان التنسيق في المواقف واتخاذ القرارات الجادة يؤدي الى توحيد الموقف المثمر لكل خير والمنجي من سلبيات التصادم وسوء التفاهم ـ فلا بد من التضحية في سبيل انجازه وذلك بالتنازل عن بعض الخصوصيات التي يؤدي التقيد بها والوقوف عندها ـ الى اهتزاز الموقف وضعف الصف والذي يساهم في تحقق التضحية والتنازل هو الاخلاص لله سبحانه ووضع المصلحة العليا التي يثمر تحقيقها رضا الله سبحانه ونفع الامة فوق كل اعتبار.

ولذلك أمر الله سبحانه بالاعتصام بحبل الوحدة ونهى عن التفرق بقوله تعالى :

( واعتصموا بحبل الله جميعا ولاتفرقوا ) (١).

كما نهى عن التنازع لانه يؤدي الى الضعف والفشل في تحقيق هدف النصر وغيره من الاهداف الكبيرة التي تتوقف على التعاون والتضامن وذلك بقوله تعالى :

( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا ان الله مع الصابرين (٤٦) ) (٢).

وارشد الله سبحانه الى الاسلوب الراجح الناجح المساعد على حل التنازع بهدوء وحكمة وهو رده الى الله سبحانه ورسوله 6 ليكون الحل السليم على ضوء الشرع الحكيم وذلك بقوله تعالى :

__________________

(١) سورة آل عمران ، آية : ١٠٣.

(٢) سورة الانفال ، آية : ٤٦.


( يا ايها الذين آمنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول وأُولي الامر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر ذلك خير واحسن تأويلا (٥٩) ) (١).

الثالث درس في اعتماد الرأي والتدبير السياسي وحمله سلاحا معنويا في ساحة المواجهة قبل نشوب الحرب العسكرية اذا امكن الاكتفاء به لدفع الاخطار المتوقعة او بعد نشوبها اذا كان الاستمرار عليها مؤديا الى مضاعفات سلبية كبيرة وخطيرة كما حصل مع الإمام الحسن 7 حيث وافق على الصلح ضمن تلك الشروط المعهودة مدخلا في حسابه حصول احدى الحسنيين اللتين مرت الاشارة اليهما سابقا بعد يأسه من جدوى الاستمرار على الحرب العسكرية المادية.

واخيرا نجحت الخطة وادى الصلح هدفه وهو حفظ حياة الحسين وبقاؤه الى الظرف المناسب مع تعرية الخصم وظهوره على حقيقته اللاإسلامية امام الرأي العام عندما نكث بالعهد وخالف الشروط المتفق عليها وفي ذلك مخالفة صريحة لقوله تعالى :

( يا ايها الذين آمنوا اوفوا بالعقود ) (٢).

وقول الرسول الاعظم 6 : « المؤمنون عند شروطهم ».

وقد انضم الى مخالفته للشرع بصراحة ووقاحة ـ تنصيبه ولده يزيد المعروف بالاستهتار والفسق والفجور كما وصفه الحسين 7 بعد ذلك.

فمجوع الامرين المذكورين مخالفة الشروط الشرعية وتنصيبه نغله يزيد خليفة ـ للامة الإسلامية ـ كشفه وعراه على حقيقيته اللاإسلامية وهيأ الارضية الصالحة لان تزرع فيها شجرة الثورة الحسينية بعد ذلك وتسقى بالعرق والدماء وبكل انواع التضحية والفداء من اجل ان تثمر الحرية والعزة والكرامة

__________________

(١) سورة النساء ، آية : ٥٩.

(٢) سورة المائدة ، آية : ١.


في ظل شريعة العدالة والرحمة.

وقد اشار الشاعر الى دور سلاح الرأي السديد والتخطيط السياسي المفيد في انتراع النصر باسلوب لا يتحقق بدونه وذلك بقوله :

الرأي قبل شجاعة الشجعان

هو اول وهي المحل الثاني

فإذا هما اجتمعا لنفس حرة

بلغت من العلياء كل مكان

هذا ما سمحت الفرصة للتحدث به حول شخصية الإمام الحسن 7 بمناسبة ميلاده المبارك.


قصيدة من وحي ميلاد الإمام الحسن ( ع )

ويسرني ان اختم الحديث عنه بذكر مقدار من قصيدة نظمتها سابقا بوحي من مناسبة عيد ميلاده السعيد.

وذلك في ١٧ / ٣ / ١٩٩١ م و ١٥٠/ ٩ / ١٤١١ هـ. وهي كما يلي :

بسنا الهدى والحق اشرق مــولد

للسبط توجه العـلى والــسؤدد

وسما الى افق الخلــود جـلالة

فغدا يقوم له الزمان ويــــقعد

هو قمة المــجد الاثـيل وذروة

الشرف الاصيل بلا خلاف يوجد

لم لا ووالده الوصــي وامــه

فخر النساء وجده هـو أحــمد

ورث الفضائل كلها فغدا الافاضل

كلهم في شخـصه تتــجــسد

هو أحمد برشاده هــو حــيدر

بجهاده وهو الحـسين الامــجد

وهو الأئمة من أخـيه تــحدروا

نسباً به يسمو العـلاء ويـصعد

بعلومه انكشف الضلال واشرقـت

شمس الكـمال بــنوره تـتوقد

وبجوده انحسر الشقاء وامـطرت

سحب الندى تروي الظماء وترفد

وبحلمه رد السفاهة مـن فتــى

اضحى على شرع السما يتمـرد

وبصلحه حقن الدماء واصبـحت

سبل الجهاد لمـا يريد تمـــهد

لولاه ما انتـفض الحسين محـققا

بنضـاله ما يــبتغيه وينــشد

بالرأي يدرك عــاقل مــتبصر

يوم الوغى ما لا يفيــد مهــند

والحق مـيزان لنـصر حــاسم

بجسامه يطوى الهـوى ويــبدد

هذا الحسين وقد قضى يوم الوغى

ظلما وعزله النـصير المنــجد


لكنه قتل الـعدو بموقـف

حق به يحمى الهدى ويشيد

وبعد الفراغ من الحديث عن شخصية الإمام الحسن 7 بمناسبة ولادته في النصف من شهر رمضان المبارك.

يأتي دور الحديث عن معركة بدر الكبرى لوقوعها في السابع عشر من هذا الشهر المبارك من السنة الثانية للهجرة النبوية وقد ترجح عندي ان انقل نص الكلمة التي كتبتها حول هذا الموضوع واذيعت عبر الاذاعة اللبنانية ليلة السابع عشر من الشهر الميمون سنة ١٤٠٧ هـ. وهي كما يلي


حديث من وحي معركة بدر

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين

والصلاة والسلام على اشرف الخلق وسيد المرسلين نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتجبين.

والسلام عليكم ايها المستمعون الكرام ورحمة الله وبركاته.

وبعد :

قال الله سبحانه وتعالى :

( ولقد نصركم الله ببدر وانتم اذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون (١٢٣) ) (١).

إخوتي الاعزاء : ما امس حاجتنا اليوم ونحن نعيش نفحات هذا الشهر المبارك شهر النصر المبين والفتح العظيم ان نعيش اجواء معركة بدر الكبرى من جديد بالعودة فكريا وروحيا الى ذلك اليوم التاريخي المجيد لنستاف شذاه العاطر ونقتبس من سناه الزاهر فنستمد من ذلك الشذا الفواح والسنا الوضاح قوة روحية ومددا معنويا في معاركنا العديدة التي نخوضها هنا وهناك دفاعا ودفعا لاعدائنا الذين يشنون ضدنا اشرس حرب عرفها التاريخ لا لشيء الا لاننا ابينا ان نركع الا الله سبحانه ورفضنا ان نعطي بأيديها اعطاء الذليل ونقر لهم اقرار العبيد مترسمين بذلك خطى سيد الشهداء الحسين 7 مرددين شعار الحرية وانشودة الإباء التي اطلقها في اجواء عاشوراء قائلا : هيهات منا الذلة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت ونفوس ابية وانوف حمية من ان نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام.

وقد نشأ من طغيان هؤلاء الظالمين الذين مثلوا من جديد دور ابي لهب وابي جهل وامية بن خلف واتباعهم ـ ودور يزيد وعبيد الله بن زياد بعد ذلك.

__________________

(١) سورة آل عمران ، آية : ١٢٣.


أجل : لقد نشأ من تمثيل هؤلاء الطغاة المعتدين دور اولئك الظالمين المستكبرين في التاريخ ـ تمثيلنا لدور الرسالة الابية الرافضة لكل اشكال الظلم والاضطهاد عبر حماتها الابطال وفي طليعتهم الرسول الاعظم 6 واهل بيته :.

وقد ترتب على تمثيلنا لهذا الدور الابي ووقوفنا في وجه طغاة العصر ـ اكثر من معركة حملت كل واحدة منها في طيها اسباب ومنطلقات واهداف معركة بدر وأُحد والاحزاب وخيبر وغيرها مما حصل في عهد الرسول الاعظم 6 من المعارك الدامية ونظيرها ما حصل بعد ذلك في عهد الإمام علي 7 كمعركة الجمل وصفين والنهروان وبعد ذلك كربلاء الثورة والإباء في عهد سيد الشهداء الإمام الحسين 7.

وعلى هذا فنحن نخوض هذه المعارك كلها من جديد لنفس الاهداف التي جاهد الرسول الاعظم 6 ، واهل بيته بعده ـ من اجلها وهي صون الرسالة من الانهيار والامة من الانحراف والفضيلة والرشاد من الذوبان في بوتقة الفساد والافساد.

واذا اخذنا بالمقياس الصحيح والميزان الحقيقي للنصر الواقعي نحرز توفره لجبهة الحق المتمثلة بالرسول الاعظم 6 واهل بيته : والسائرين على نهجهم من المسلمين الاحرار والمجاهدين الابرار ـ على جبهة الباطل المتمثلة بأعدائهم عبر التاريخ حتى في المعارك التي حرمت فيها جبهة الحق من النصر العسكري بسبب عدم تكافؤ بين الجبهتين في الميزان المادي ـ وذلك لان نفس ثبات هذه الجبهة المحقة ـ على مبدئها وتصديها للدفاع عنه بدافع تأدية الواجب المقدس الملقى على عاتقها من قبل الله سبحانه ـ يعتبر نصرا معنويا كبيرا وربحا اخرويا عظيما وفي المقابل يعتبر انحراف اتباع الباطل عن منهج الحق ومحاربتهم لانصاره هزيمة روحية وانتحارا معنويا يصبح به اهله موتى الاحياء بسبب موت ضمائرهم وقلوبهم ليصبحوا بذلك مصداقا لقول الشاعر :


ليس من مات فاستراح بميت

إنما الميت مـيت الاحيــاء

إنما الميت من يعيـش كئيبا

كاسفا باله قلـيل الرجــاء

وبهذا وذاك ندرك انا نحن السائرين على خطى الرسول الاعظم 66 وأهل بيته : والتابعين لهم بإحسان منتصرون معنويا على كل اعدائنا في كل الجبهات والمعارك التي حركوها ضدنا هنا في لبنان وفلسطين وهناك في ايران وافغانستان وفي كل مكان يتصارع فيه المبدأ الحق وانصاره والمبدأ الباطل واتباعه والمطلوب منا نحن المسلمين وجميع المستضعفين ان نطور النصر المعنوي الى نصر عسكري مادي نستطيع من خلاله اقامة نظام الحق والعدل والمساواة بين جميع ابناء المجتمع بغض النظر عن الفوارق الدينية والمذهبية والسياسية.

وقد فرض الله سبحانه الجهاد وحث الامة على تطبيق نظامه ابتداء من اجل نشر نور العدل والاحسان في كل مكان باعتبار ان ذلك هو الهدف الاساسي من انزال الله الشرائع وارسال الانبياء وخصوصا الشريعة الاخيرة الخاتمة الكاملة وخصوصا الرسول الاعظم 6 حيث جاء ليتمم مكارم الاخلاق وليكون رحمة للعالمين ـ وكذلك الجهاد الدفاعي فهو لم يشرع الا من اجل الدفاع عن كرامة الإنسان وقداسة الاديان وحرية الاوطان ودفع الاضرار عن كل المظلومين المستضعفين في العالم وقد اعتبر الإسلام الجهاد من اجل تحقيق الاهداف الرسالية الإنسان ية التي شرع من اجلها ـ جهادا في سبيل الله وان تحقيق هذه الاهداف نصر لله سبحانه وعد المحققين له من المجاهدين بالنصر المؤزر في الكثير من آيات كتابه الكريم.

منها قوله تعالى :

( إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم (٧) )(١).

__________________

(١) سورة محمد ، آية : ٧.


وقوله تعالى :

( ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز (٤٠) ) (١).

وحيث شاءت الحكمة الإلهية ان تدرك المسببات بأسبابها العادية فلا بد من توفير اسباب النصر الذي هو امنية المؤمنين الحريصين على ان تبقى كلمة الله هي العليا وكلمة الباطل هي السفلى حتى لا يتحقق منهم خضوع الا لارادة الله سبحانه كما شاء سبحانه لهم واراد منهم لان الخضوع له وحده هو عين العزة والكرامة والسمو والرفعة ومصدر الرخاء والسعادة.

والاسباب التي تساهم في انتزاع النصر في ساحة الصراع الفكري او العسكري ـ عديدة اهمها بالنسبة الى النصر الفكري ـ ما يلي :

١ ـ الدراسة الموضوعية الواعية للرسالة الإسلامية والاحاطة بالبراهين الفطرية والعلمية التي توجب العلم الجازم بأصول الدين المعهودة وتزيل الشبهات والشكوك التي اثيرت او تثار حولها من قبل اعداء الإسلام وكذلك يطلع على الادلة الصحيحة الدالة على ان الشريعة الإسلامية هي اصلح نظام يحقق للمجتمع اهدافه وتطلعاته في كل مجالات حياته.

٢ ـ ان تكون هذه الدراسة بقصد التقرب الى الله بتأدية اهم الواجبات الشرعية التي يجب على كل مكلف ان يقوم بها لان هذا القصد مع الاخلاص لله تعالى يساعد على التوفيق لتحصيل العلم بما يجب او يستحب للمكلف ان يحصله كما هو واضح.

٣ ـ التطبيق العملي لكل الاحكام الشرعية وامتثالها على الوجه المطلوب مهما كلف ذلك من تضحيات وصعوبات ما لم يصل الى مرحلة الضرر او الحرج الشديد القريب منه ـ فإذا توفرت هذه الاسباب للشخص الذي يخوض معركة الصراع الفكري مع اعداء الرسالة الإسلامية يظفر بالنجاح

__________________

(١) سورة الحج ، آية : ٤٠.


والتغلب على خصومه في هذه المعركة الفكرية ويشهد بهذه الحقيقة الايمانية الموضوعية الانتصارات الكثيرة التي ظفر بها انصار الحق في العقيدة والحق في النظام والشريعة الصالحة المنبثقة من العقيدة الصحيحة ـ على خصومهم في التاريخ ـ والاحتجاج بكلا جزئية للطبرسي ـ حافل بذلك واما اسباب النصر العسكري فعديدة ايضا واهمها ما يلي :

١ ـ القيادة الرسالية الحكيمة الشجاعة المخلصة لله سبحانه في النية والقصد وللهدف ببذل كل الجهود التي تتطلبها الساحة النضالية.

٢ ـ توفر الجنود المؤمنين بالله سبحانه والمتوكلين عليه والمخلصين له في النية والقصد والمطيعين للقيادة الشرعية الحكيمة التي تمثل اطاعتها والعمل بتوجيهاتها ـ الاطاعة لله سبحانه بحيث تكون هذه الاطاعة من مصاديق نصر الله سبحانه الذي وعد بالمكافأة عليه بنصر من عنده تعالى كما هو نص الآيتين السابقتين وهذا يقتضي ان تكون القيادة شرعية مستمدة سلطتها من الشرع الحنيف كما هو مضمون السبب الاول الذي عبرنا عنه بالقيادة الرسالية.

٣ ـ توحيد الصف بين جميع الاطراف والافراد الذين يهمهم امر النصر ، والانتصار على الاعداء وذلك بغض النظر عن الخلافات الدينية والنزاعات المذهبية والصراعات السياسية الهامشية والتقاء الجميع تحت راية القواسم المشتركة التي تهم الجميع.

والوجه في تأثير السبب الاخير في انتزاع النصر ـ واضح ـ لان الوحدة تسبب القوة والقدرة على تحقيق هدف التغلب على الخصم ـ وعلى العكس من ذلك الشرذمة والانقسام فهي تسبب ضعف الصف المجاهد وقوة الطرف المقابل بطريق غير مباشر ـ كما هو الحاصل فعلا بين العدو التاريخي الغاصب للاراضي الإسلامية والمدنس لمقدساتها رغم قلته عدداً وكثرة العرب والمسلمين كما وعُددا كل ذلك لانهم تأثروا بالسياسة الاستعمارية القائمة على اساس بث الفتن وتحريك النعرات الطائفية والمذهبية عملا بسياستهم


المعهودة التي مثلوها بشعارهم الاستعماري القائل : ( فرق تسد ).

وبذلك يظهر السر في أمر الله سبحانه الامة الإسلامية باعتصامها بحبل الله الواحد ونهيها عن التفرق بقوله سبحانه :

( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) (١).

كما نهاها عن التنازع المؤدي الى الضعف والفشل في تحقيق هدف النصر وغيره من الاهداف الرسالية التي لا تتحقق الا بالتضامن والتعاون وذلك بقوله تعالى :

( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين (٤٦) ) (٢).

وبين سبحانه الوسيلة الناجحة والراجحة التي تساعدهم على حل النزاع الحاصل ـ على اساس العدل والحكمة ومراعاة المصلحة العامة التي هي محل اهتمام الجميع وذلك بقوله سبحانه :

( يايها الذين آمنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول وأُولي الامر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر ذلك خير واحسن تأويلاً (٥٩) ) (٣).

فقد اشتملت هذه الآية المباركة على الامر بما يكون وقاية من حصول الخلاف والتنازع غالبا ـ وهو اطاعة الله سبحانه والرسول 6 وأُولي الامر وهم اهل بيته : باعتبار ان اطاعتهم تعتبر اطاعة لله سبحانه ولرسوله 6 كما هو واضح وهي بطبعها اذا تحققت تقي افراد الامة من الصراع والتنازع غالبا كما اشتملت هذه الآية على ما يكون علاجا ناجحا ونافعا لازالة آثار التنازع السلبية ـ على تقدير حصوله ـ وهو رده الى الله سبحانه ورسوله 6 ـ وهذا عبارة عن الرجوع الى الشرع الإسلامي المقدس لحل المشكلة العارضة

__________________

(١) سورة آل عمران ، آية : ١٠٣.

(٢) سورة الانفال ، آية : ٤٦.

(٣) سورة النساء ، آية : ٥٩.


وحسم النزاع الطارىء لانه شرع الله العادل الكامل الذي بعث به رسوله الاعظم 6 ليقدم لكل موضوع حكمه ولكل مشكلة حلها ولكل حاجة حياتية قضاءها.

تحصل مما ذكر مؤخرا للنصر العسكري اسبابه الكثيرة واهمها ثلاثة وهي القيادة الشرعية الحكيمة الشجاعة والجندية الوفية المخلصة المطيعة والوحدة الإسلامية الجامعة لكل الاطراف والافراد تحت راية كلمة التوحيد تميهدا لتوحيد الكلمة.

والشواهد التاريخية والارقام الواقعية تثبت بوضوح مدى تأثير توفر الشروط الثلاثة المذكورة في انتزاع النصر على الاعداء وصون الرسالة والامة من الظلم والاعتداء.

فبانقياد المهاجرين والانصار من المسلمين لتوجيهات القائد الاعظم والرسول الاكرم 6 في وقعة بدر واتحاد كلمتهم ـ كان الانتصار الحاسم في هذه المعركة التاريخية.

وبانقياد اصحاب الحسين 7 وثباتهم على موقفهم وابدائهم الاستعداد الاقصى لبذل اعظم التضحيات في سبيل نصر المبدأ والرسالة هو الذي شجعه على الانطلاق الى المعركة لكسب النصر المعنوي تمهيداً لانتزاع النصر العسكري بعد ذلك.

وما أمس حاجتنا نحن المسلمين وجميع المواطنين في لبنان الى نبذ جميع خلافاتنا الجانبية الداخلية وتوحيد صفنا الإسلامي والوطني على صعيد الوطن الواحد من اجل حشد كل الطاقات المادية والمعنوية في معركة التحرر وتقرير المصير التي تخوضها اليوم مقاومتنا الرسالية البطلة على صعيد الجنوب والبقاع الغربي من اجل تحرير الارض واستعادة العزة والكرامة الإسلامية والإنسان ية هذا حاصل ما اقتضت المصلحة نقله من الكلمة واذيعت سابقا في شهر رمضان المبارك قبل عشر سنوات تقريبا من وحي معركة بدر


وقد حذفت مقدارا منها واضفت مقدارا اليها تمشيا مع مقتضيات المرحلة الراهنة.

أبيات شعرية من وحي الوحدة ومعركة بدر

يسرني ان اختم هذه الكلمة بأبيات نظمت سابقا حول موضوع الوحدة وحررتها في الجزء الاول من كتابي ( من وحي الإسلام ) وهي كما يلي :

بالوحدة العصماء يبتسم الغد

وننال ما نصبو اليه ونـنشد

في ظلها الطاقات تحشد كلها

ليقوم صرح بالوفاق مشـيد

الجمع يدرك بالتعاون دائـماً

ما يبتغيه وليس ينجح مـفرد

كلتا اليدين تصفقان لمـأرب

يُجنى ولا تستطيع تصفيقا يد

كما يسرني نقل المقطوعة الشعرية التي نظمت بمناسبة عيد النصر الذي ظفر به الإسلام بقيادة رسوله الاعظم 6 وبطولة الإمام علي 7 في معركة بدر الكبرى وكان نظمها في السابع عشر من رمضان وهو يوم عيد الانتصار من (١) سنة ١٤١٤ هـ الموافق ٢٧ ـ ٢ ـ ١٩٩٤ م وهي كما يلي :

( بدر ) أطلت كوكبا ســيارا

يحمي الهدى ويحطم الكـفارا

والقائد الاعلى النـبي محــمد

يدعو لخوض غمارها الكرارا

ليحطم الشرك العنـيد بهــمة

علوية تستوجب الاكـــبارا

ويظل دين محمد عبر المـدى

فجرا يبث على الورى الانوارا

ليحققوا في حاضر هدف السما

منهم ويحيوا بالهدى احـرارا

وبعد الفراغ من الحديث عن الشخصيات الرسالية الثلاث ابي طالب رضوان الله عليه وخديجة ام المؤمنين رحمة الله عليها والإمام الحسن 7.

__________________

(١) هذه سنة النظم واما سنة المعركة فهي الثانية من هجرة الرسول الاعظم 6.


حديث حول شخصية الإمام علي ( ع )

يأتي دور الحديث عن الشخصية الفذة التي ذابت في الإسلام فكرا وعاطفة وعملا فكانت اسلاما عمليا متحركا على صعيد الحياة الخارجية كما ذابت في الرسول الاعظم 6 حبا وقربا وتجاوبا وسلوكا فكانت محمدا الثاني الذي خلقه الله سبحانه ورعاه بعين عنايته الفائقة ليكون صورة اخرى عن رسوله الاكرم 6 ويكون وحده المتعين لان يكون خير خليفة وخلف لخير سلف بدون حاجة الى ورود نص ونقل بعد وضوح الحقيقة في نظر الوجدان السليم وشهادة العقل.

وقد عبر الله سبحانه عن تلك الوحدة الرسالية التي صهرت هاتين الشخصيتين في بوتقة الرسالة الواحدة وذلك بآية المباهلة وهي قوله تعالى :

( فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع ابناءنا وابناءكم ونساءنا ونساءكم وانفسنا وانفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين (٦١) ) (١).

وقد اتفق المفسرون على ان هذه الآية الكريمة قد نزلت في اربعة من اهل البيت : حيث ورد في التفسير ان المراد من الابناء الحسنان ومن النساء فاطمة الزهراء ومن انفسنا ـ علي 7.

وقبل الشروع بالحديث عن شخصية الإمام علي 7 احب ان اشير الى تحقق صدفة موفقة وحاصلها انه عندما فرغت من الحديث حول الشخصيات الثلاث المتقدمة واردت الشروع بالحديث عن شخصية الإمام علي 7 صادف ذلك في اليوم الثالث عشر من رجب وهو نفس يوم ولادته المباركة قبل بعثة الرسول الاعظم بعشر سنوات على المشهور وشاء الله سبحانه ان تحصل هذه الصدفة ليكون خروج فكرة الحديث عن هذه الشخصية

__________________

(١) سورة آل عمران ، آية : ٦١.


العظيمة ـ من عالم النظرية والفكر الى عالم الوجود والتطبيق ـ مقترنا بتاريخ خروجها من عالم الرحم الى دنيا الوجود.

وحيث كان هذا الإمام العظيم قرآنا ناطقا كما وصف نفسه يوم صفين وكما تحدث عنه الرسول الاعظم بقوله 6 : علي مع القرآن والقرآن مع علي يدور معه حيثما دار ـ كان نفس الرسول 6 بنص آية المباهلة المتقدمة ـ يكون الحديث عنه تفسيرا للقرآن الناطق وتوضيحا لآياته المباركة كما يكون ترجمة لحياة الرسول الاعظم 6 ومن اجل توضيح ما ذكرته في حقه من جهة توجه الرعاية الإلهية والعناية السماوية بذاته المقدسة ليكون كما اراد الله له ان يكون محمداً الثاني فلا بد من ان يكون الحديث عن شخصيته الفذة منطلقا معه منذ البداية وقبل خروجه من عالم الرحم الى عالم الوجود الخارجي ـ وبعد ذلك ابتداء من اول يوم من ايام ولادته والى يوم شهادته لندرك سر العظمة في شخصية هذا الإمام العظيم.

فأقول : حيث اراد الله سبحانه ان تتحقق الغاية السامية التي خلق الكون والإنسان من اجلها وهي عبادته على الوجه الافضل الاكمل ـ فقد هيأ الوسائل والاسباب التي تساعد على تحققها كما اراد سبحانه واهم هذه الوسائل وابرزها إنزال الرسالة الافضل والاكمل على الرسول الافضل الاكمل بلحاظ البداية.

ووجود الشخصيات الافضل الاكمل من جميع الجهات بعد الرسول الاعظم 6 لتنوب عنه وتمثل دوره في تحقيق الغاية الفضلى على الوجه الافضل.

ومن المعلوم ان الله سبحانه اذا اراد أمراً هيأ اسبابه وقد اوجد الاسباب التي يتوقف عليها تحقق الغاية المذكورة على الوجه المذكور فأنزل الرسالة الاكمل والافضل من كل الرسالات التي سبقتها بدليل انها انزلت لتغني عنها ولتطبق في كل العصور الى يوم القيامة بينما كانت السابقة محدودة الزمان والإنسان كما هو المعلوم ـ وذلك يعبر عن افضلية الرسول الاخير الخاتم من


جميع الانبياء والرسل السابقين ليكون هناك تناسب بين الرسالة الافضل وشخصية الرسول الذي بعث بها لتكون رحمة للعالمين وقد نبه على هذه الافضلية في الكثير من الآيات والعديد من الروايات المعتبرة المؤيدة لحكم العقل السليم الذي يحكم بضرورة التناسب والتكافؤ بين قيمة الرسالة وشخصية الرسول وذلك لان الدين السماوي يمثل المدرسة الإلهية وتعاليمه تمثل الدروس والمنتمون الى هذه المدرسة من المسلمين يمثلون طلاب مدرستها ـ ومن الواضح الملموس بالوجدان ان الدروس الارقى لا بد ان يناط القاؤها بالاستاذ الافضل الارقى ليستطيع ان يقوم بدور التدريس على الوجه المطلوب المحقق للغاية المنشودة من تأسيس المدرسة وانزال الدروس وتسجيل الطلاب واختيار الاساتذة ليقوموا بدور التدريس والتفهيم المحقق للهدف المقصود.

وبذلك يعرف بحكم العقل السليم والوجدان المستقيم ضرورة ان يكون من ينوب عن الرسول 6 ويمثل دوره الرسالي بالتدريس والتوضيح ـ افضل اهل زمانه كما كان الرسول في عصره وذلك من اجل ان يكون قادرا على تفهيم الاحكان وإنارة العقول والافهام وكشف الشبهات والاوهام التي تثار بين الحين والاخر حول الرسالة الإلهية بأصولها العقائدية الحقة المعهودة والتشريعات السماوية القائمة عليها ـ وقد اثيرت الشكوك والشبهات سابقا ولا تزال تثار حولها لاحقاً من قبل الكفار الملحدين والمشركين ويلحق بهم المنافقون وكان كل واحد من اهل البيت المعصومين يتصدى لدفع هذه الشبهات وخصوصا الإمام الصادق 7 حيث ظهرت في عهده موجة الزندقة والتشكيك وكان 7 واقفا بالمرصاد يجيب على كل سؤال ويدفع كل اشكال وكتاب الاحتجاج حافل بالمناظرات والاحتجاجات التي كان اهل البيت : يتصدون فيها للمناقشة والاجابة العلمية السديدة المفيدة.

وكذلك العلماء الاجلاء الذين تخرجوا من مدرسة اهل البيت الفكرية


والفقيهة ـ قد مثلوا دور الأئمة المعصومين ونابوا عنهم في توضيح الحقائق في العقيدة والشريعة وما يتعلق بها ودفعوا الشبهات التي اثيرت حولها بأدلة قاطعة وبراهين ساطعة في السابق واللاحق.

وقد نوه الله سبحانه في كتابه الكريم بالعديد من الآيات البينات على فضل اهل بيت الرسول 6 وسمو منزلتهم وتفوقهم على غيرهم من اجل ان يلفت الانظار اليهم ويبين للآخرين انهم حججه على خلقه ومرجع الامة بعد رحيل نبيه الاعظم الى جواره المقدس ـ كما نوه الرسول الاعظم 6 بشأنهم الرفيع وانهم خلفاؤه الشرعيون الذين يجب على الامة ان ترجع اليهم وتعتمد في قضاياهم الشرعية عليهم ـ ومن المعلوم ان النبي 6 لا ينطق عن الهوى ـ لذلك يكون ارجاعه الناس الى اهل بيته بعده راجعا الى أمر الله سبحانه وارشاده وفيما يلي بعض الايات الدالة على قيادتهم الشرعية الثابتة لهم بعد جدهم الرسول الاعظم 6 وبعض الروايات الواردة في هذا المجال إما تفسيرا لآية واردة في حقهم : او بيانا مستقلا مؤكدا للنص المفسر ولحكم العقل المستقل بضرورة الرجوع الى القائد الشرعي الذي تتوفر فيه كل شروط القيادة الشرعية وتندرج كلها بعنوانين وشرطين رئيسيين هما العصمة والتجرد من كل نقص والاعلمية من كل ابناء العصر ـ كما كان ذلك معتبرا في شخص النبي 6 فيلزم اعتباره وتوفره فيمن ينوب عنه من اجل ان تتم الحجة وتتحقق الغاية المنشودة من إنزال الرسالة وبعثة الرسول الاعظم 6 كما سبق.

من الايات الواردة لبيان المرجعية والقيادة الشرعية لاهل بيت الرسول بعده 6 آية التطهير.

وهي قوله تعالى :

( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) (١).

__________________

(١) سورة الاحزاب ، آية : ٣٣.


وهذه الآية المباركة وان وردت في حق اربعة من اهل البيت مع الرسول 6 وهم علي وفاطمة وولداهما الحسن والحسين : على ضوء التفسير الوارد عند الفريقين الا ان كل واحد من الأئمة الثلاثة المذكورين ـ نص على من يكون خليفته بعده مضافا الى النص العام الدال على خلافة وامامة الاثني عشر من اهل بيت الرسول 6 الطاهرين من الكتاب والسنة المعتبرة وبعضها بلغ حد التواتر لدى الفريقين.

من الاول ـ اي الكتاب ـ قوله تعالى :

( يايها الذين آمنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول وأُولي الامر منكم ) (١).

بقرينة الرواية المعتبرة التي ورد فيها السؤال للنبي 6 عن المراد بكلمة ( أُولي الامر ) على لسان جابر بن عبد الله الانصاري وبين الرسول بجوابه ان المراد منها هم علي وابناؤه الاحد عشر ويؤكد ذلك حكم العقل واستقلاله بضروة ان يكون المراد منها هؤلاء الأئمة المعصومين لانهم وحدهم القابلون لان يأتوا في المرتبة التالية لمنزلة جدهم الرسول الاعظم 6 نظرا لعصمتهم وهي الشرط الاول ولأعلمية كل واحد منهم من كل معاصريه وهي الشرط الثاني لما تقدم ولذلك امر الله سبحانه بإطاعتهم مطلقا بدون تحفظ وتقييد كما أمر بإطاعة الرسول كذلك وهو أوضح دليل على عصمتهم وان كل ما يصدر عنهم ومنهم من قول او فعل او تقرير وامضاء لتصرفات الاخرين هو منسجم تمام الانسجام مع روح الشريعة وحكمها كالرسول 6 من هذه الجهة ومن الثاني اي من الروايات ما ورد عن النبي 6 في مقام بيان من يخلفه من اهل بيته وهو نوعان الاول خاص ببعضهم كحديث الغدير الذي ورد في حق الإمام علي 7 وهو متواتر لدى الطرفين وهو قوله 6 : « من كنت مولاه فهذا علي مولاه » وكالحديث الوارد في حق الحسن والحسين 8 ومضمونه :

__________________

(١) سورة النساء ، آية : ٥٩.


« الحسن والحسين إمامان ان قاما وان قعدا ».

والثاني عام شامل للأئمة الإثني عشر وقد ورد في بعض الروايات النص على العدد فقط وفي بعضها الاخر ورد النص على الاسماء مع النص على العدد وهنا اقتصر على الاول وهو ما ورد في عدة طرق عن النبي 6 من جملتها ما روي عن الإمام علي 7 من قوله 7 : قال رسول الله 6 :

« الأئمة بعدي اثنا عشر اولهم انت يا علي واخرهم القائم الذي يفتح الله على يديه مشارق الارض ومغاربها ».

ومن المعلوم ان نص النبي 6 على خلافة اهل بيته وامامتهم : هو تعيين من الله سبحانه ودور النبي هو البيان والتبليغ كما هو الشأن بالنسبة الى الاحكام الشرعية لانه معصوم لا ينطق ولا يخبر ويعين عن الهوى بل عن الوحي والهدى.

وهذا النوع من النص يعتبر تعيينا بالقول وشاءت حكمة الله سبحانه وعنايته الفائقة بالامة وهدايتها الى ما فيه سعادتها وسلامتها في الدنيا والآخرة وهو القيادة الشرعية التي تسير بها في طريق الحق والهدى الى هدف السعادة الذي اراد الله سبحانه ان تصل اليه وتحصل عليه من قيامها بواجب العبادة :

أجل : إن العناية الإلهية والرعاية السماوية للامة الإسلامية اقتضت ان تضم الى النص القولي الدال على القادة الشرعيين النص العملي المعبر عن كفاءة هؤلاء القادة واستعدادهم التام للنهوض بمسؤولية القيادة الشرعية على الوجه الافضل الذي يريده الله سبحانه.


النص العملي على أهلية

أهل البيت للقيادة الشرعية

وقد تمثل هذا النص العملي الصادر من قبل الله سبحانه مباشرة بما اوجده لكل واحد من المعصومين الاربعة عشر من المعجزات والكرامات الخارقة للعادة والخارجة عن نطاق قدرة البشر ليدل ذلك على مدى قربهم من الله سبحانه واستعدادهم المتفوق للقيام بواجب القيادة على الوجه الاكمل المقصود لله سبحانه.

وحيث ان موضوع الحديث في المقام هو شخصية الإمام علي عليه السالم ناسب ذلك ان اذكر بعض الكرامات الدالة على سمو منزلته عند الله سبحانه وانه الكفؤ المعين لقيادة الامة على نهج الحق ـ بعد رسول الحق عندما ينتقل الى جوار الله الحق عز وجل.

وقبل ان اذكر شيئا من كرامات الإمام علي 7 احب ان اذكر بعض الكرامات التي حصلت للرسول الاعظم 6 اولا لانهما نفس واحدة بنص آية المباهلة كما تقدم فإذا ذكرت كرامة لاحدهما ناسب ذلك ان تذكر كرامة للآخر ـ وثانيا من اجل لفت النظر الى امر ربما يغيب عن اذهان الكثيرين وهو ان النبي 6 قد حقق الله سبحانه له تلك الكرامات التي حصل بعضها وقت ولادته وبعد ذلك قبل بعثته ثم حصل بعضها الاخر بعد البعثة ـ وكان ذلك بقصد لفت الانظار الى شخصية الرسول ليؤمنوا برسالته ويصدقوا دعوته بإعتبار ان الكرامات السابقة على البعثة كانت تمهيدا لحصول القبول


والتصديق بدعوته بعد بعثته كما ان ما حصل منها مقترنا بالدعوة وحاصلا بعدها جاء ليكون برهانا على صدقه وانه مرسل من قبل الله سبحانه ـ على اساس ان المعجزة والكرامة من فعل الله سبحانه القادر على كل شيء وليست من فعل الإنسان لعجزه عنها ولهذا سميت بالمعجزة ـ والله سبحانه بحكمته وعدله لا يصدق كاذبا كما هو المعلوم ـ وانما يفضحه ويكذبه كما حصل مع مسيلمة الكذاب من اجل ان يعرف الناس واقعه فلا ينخدعوا بدعوته ويضلوا بحيلته.

وكما ان النبي يحتاج الى المعجزة والكرامة الخارقة لتكون برهان صدقه ـ كذلك الإمام النائب عنه يحتاج الى ذلك لنفس السبب والوجه ـ لان الله سبحانه اعلم حيث يجعل رسالته ابتداء مع الرسول وانتهاء واستمرارا مع نائبه الممثل له الذي يجب ان تتوفر فيه نفس الشروط المعتبرة في الرسول وقد تقدم انها ـ اي الشروط ـ يمكن ارجاعها الى شرطين اساسيين وهما العصمة والافضلية من كل معاصريه ومن جميع الجهات.

والذي ينظر الى الواقع بعين الانصاف والموضوعية يدرك انحصار هذين الشرطين في أئمة أهل البيت الاثني عشر : وجاء النص القولي مؤكدا للنص العملي الذي حققه الله سبحانه لكل واحد منهم بما اجرى على يديه من المعجزات وتحققت له من الكرامات.


بعض ما حصل للرسول ( ص )

من الكرامات قبل ولادته وحينها

وفيما يلي بعض الكرامات التي حصلت للرسول 6 قبل بعثته وحال ولادته ـ وبعدها اذكر بعض ما جرى له بعد بعثته اما الاول فمنه ما ورد في بعض الروايات المستفيضة عن أمه آمنة بنت وهب وانها حدثت واخبرت بأنها انبئت حين حملت بالرسول الاعظم 6 وقيل لها : انك حملت بسيد هذه الامة فإذا وقع على الارض فقولي : اعيذه بالواحد من شر كل حاسد فإن آية ذلك ان يخرج منك نور يملأ قصور بُصرى من ارض الشام فإذا ولد فسميه محمداً فإن اسمه في التوراة أحمد يحمده أهل السموات والارض واسمه في الانجيل حميد يحمده اهل السموات والارض واسمه في القرآن محمد فسميه محمداً فسميته بذلك ومن الكرامات التي قارنت ولادة النبي 6 ما روي من انه لما كانت الليلة الاولى التي ولد فيها رسول الله 6 ارتجس (١) إيوان كسرى فسقطت منه اربعة وعشرون شرفة وخمدت نيران فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام وفاضت بحيرة ساوه وهناك كرامات اخرى ذكرها الشيخ الطبرسي في اعلام الورى واما المعجزات التي حصلت للرسول بعد بعثته فكثيرة ايضا منها مجيء الشجرة اليه وتحركها من مكانها اجابة لطلبه حتى وقفت بين يديه على تفصيل مذكور في محله من كتاب الاعلام المذكور ومنها

__________________

(١) اي اهتز واضطرب.


خروج الماء من بين اصابعه وحنين الجذع الذي كان يخطب مستندا اليه ـ وذلك عندما صنع للرسول 6 منبر فترك الوقوف مستندا اليه وصعد المنبر ـ واشباعه الخلق الكثير بالطعام القليل.

الكرامات التي حصلت للإمام علي ( ع )

واما الكرامات التي حصلت للإمام علي 7 فكثيرة وهي متنوعة بلحاظ زمان حصولها ـ لان بعضها حصل له 7 حال وجوده في عالم الرحم ـ وبعضها حصل مقترنا بزمان ولادته ومنها ما حصل بعدها.

اما ما حصل له حال وجوده في رحم امه فحاصله على ضوء بعض الروايات التي تفيد ما مضمونه ان والدته فاطمة بنت اسد كانت اذا جاءت الى بيت الله الحرام لتطوف حول الكعبة المشرفة تحس بإضطرابه في بطنها بحركة قوية تزعجها كلما دنت من احد الاصنام التي كانت منصوبة في الكعبة يومذاك فعرفت بذلك سر اضطرابه وانه كان يحصل منه لمجرد دنوها من الصنم ولو صدفة وبدون قصد التبرك به كما كانت عادة المشركين وهي منزهة عن ذلك بإيمانها الصادق وتوحيدها الخالص وان دلت هذه الكرامة على شيء فإنها تدل على ان لهذا الجنين شأنا كبيرا ودورا خطيرا ضد هذه الاصنام الحجرية والبشرية ايضا عندما يصدع الرسول الاعظم 6 بدعوته المباركة وينطلق هذا البطل للتصديق بها والدفاع عنه وعنها بكل ما اوتي من طاقة وقوة معنوية وجسمية وهذا ما تحقق بعد ذلك كما تحدث التاريخ.

ومن الكرامات الحاصلة قبل ولادته انشقاق جدار الكعبة لوالدته لتدخل من خلال شقها الى داخلها بكرامة واكرام من الله سبحانه لها ولحملها الميمون المبارك ـ وكان ذلك عندما جاءت والدته كعادتها الى بيت الله الحرام من اجل الطواف والتعبد لله سبحانه وكانت حاملا به وفي الشهر التاسع من


حملها وصادف ان جاءها المخاض واشتد عليها ألم الولادة فلم يكن منها سوى ان انقطعت لله بالتضرع والدعاء بأن ييسر عليها ولادتها ويجعل لها من بعد عسر يسرا واخيرا استجاب الله دعاءها وفتح لها بابا من جدار الكعبة لتدخل من خلاله الى داخلها وتبقى في ضيافة الرحمن مدة ثلاثة ايام وهي تتغذى من طعام الجنة وفواكهها وبعد انتهاء مدة الضيافة فتح الله ذلك الباب من جديد بعد ان كان مسدوداً بالتئام الجدار والتحامه كما كان قبل ذلك.

والكرامات (١) التي حصلت لهذه المؤمنة أم أمير المؤمنين وسيد الوصيين ـ كثيرة ـ وهي اولا انشقاق الجدار لها لتدخل من خلال شقه الى داخل الكعبة المشرفة وثانيا نزول الطعام لها من الجنة كما حصل ذلك لمريم بنت عمران عندما كانت تعتكف في بيت الله للعبادة وثالثا انشقاق الجدار مرة اخرى تمهيدا لخروجها ورابعا سماعها هاتفا يقول لها عندما ارادت الخروج من الكعبة ـ ما حاصله : يا فاطمة سميه عليا فهو علي والله العلي الاعلى يقول : شققت اسمه من اسمي وادبته بآدابي واوقفته على غامض علمي وهو الذي يكسر الاصنام في بيتي وهو الذي يؤذن فوق ظهر بيتي ويقدسني ويمجدني فطوبى لمن احبه واطاعه وويل لمن ابغضه وعصاه وقد اشتهرت حادثة ولادة الإمام علي 7 في بيت الله الحرام في التاريخ الإسلامي ولدى الفريقين من الشيعة والسنة وقد تحدث عنها الكثيرون من العلماء والادباء الكتاب والشعراء بتقدير واجلال لصاحب هذه الكرامة التي اراد الله سبحانه بها لفت الانظار الى شخصه العظيم وان له قدرا رفيعا عند الله سبحانه ومنزلة سامية تجعله في المنزلة الثانية والرتبة التالية لشخصية الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله الطاهرين وفيما يلي بعض ما ورد في شأن هذه الحادثة نثراً وبعده اذكر بعض ما ورد في شأنها شعرا.

__________________

(١) يصح اعتبار هذه الكرامات من كرامات المولود المبارك لانها حصلت لها ببركته من باب القول المشهور ( من أجل عين الف عين تكرم ).


من الاول ما ورد في كتاب ( علي من المهد الى اللحد ص ٢٢ ) للمرحوم السيد محمد كاظم القزويني نقلا عن محمود الآلوسي في شرح قصيدة عبد الباقي العمري العينية التي افتتحها بالبيت التالي مخاطبا الإمام علياً 7 بقوله :

أنت العلي الذي فوق العلى رفعا

ببطن مكة وسط البيت إذ وضعا

وفيما يلي نص الآلوسي ( وفي كون الأمير كرم الله وجهه ولد في البيت امر مشهور في الدنيا وذكر في كتب الفريقين السنة والشيعة ولم يشتهر وضع غيره كرم الله وجهه كما اشتهر وضعه واحرى بإمام الأئمة ان يكون وضعه فيما هو قبلة للمؤمنين سبحان من يضع الاشياء في مواضعها وهو احكم الحاكمين ).


ما قيل شعرا بمناسبة ولادة الإمام

في بيت الله الحرام

وفيما يلي بعض المقطوعات الشعرية التي نظمت بمناسبة ولادته 7 في بيت الله الحرام.

قال السيد الحميري بوحي من هذه المناسبة المباركة :

ولدته في حرم الإله وأمنـه

والبيت حيث فناؤه والمـسجد

بيضاء طاهرة الثياب كريمة

طابت وطاب وليدها والمـولد

في ليلة غابت نجوم نحوسها

وبدت مع القمر المنير الاسعد

مالُف في خرق القوابل مثله

الا ابن أمنة النبي محمـــد

وقال السيد رضا الهندي ( ره ) مخاطبا الإمام علي 7 :

لما دعاك الله قِدَمــاً لأن

تولد في البيت فــلبيته

شكرته بين قريش بـأن

ظهرت من اصنامهم بيته

وقال الشيخ حسين نجف رحمه الله تعالى :

جـعل الله بـيته لعــلي

مولدا يا له على لا يضاهى

لم يشاركه في الولادة فيه

سيد الرسل لا ولا انبيـاها

وقال السيد اسماعيل الشيرازي رحمه الل

ه المتوفى سنة ١٣٠٥ هـ :

ولدت شمس الضحى بدر التمام

فانجلت عنا دياجير الظلام


ناديـا بشراكم هـذا غلام

وجهـه فلقــة بدر يهتدى

بسنا انــواره في الظلــم

هذه فاطمة بـنت اســـد

اقبلت تحـمل لاهوت الابـد

فاسجدوا ذلاله فيمن سجــد

فله الاملاك خـرت سجـدا

اذ تجلــى نــوره في آدم

هل درت ام العلى ما وضعت

أم درت ثدي الهدى ما ارضعت

ام درت كف النهى ما رفعت

ام درى رب الحجى ما ولــدا

جــل معنــاه فلـما يــعلم

سيد فاق عُلىً كـل الانـام

كـان اذ لا كائن وهـو إمام

شرف الله به البيــت الحرام

حيــن اضحى لـعلاه مولدا

فوطــا تربتــه بالقــدم

إن يكـن يجعــل لله البنـون

وتعـالى الله عمــا يصفون

فوليد البيت احـرى ان يكـون

لولــي البيت يدعــى ولدا

لا عزيــر لا ولا ابــن مريم

وقال عبد الباقي العمري مخاطبا الإمام علياً 7 :

أنت العلي الذي فوق العلى رفعا

ببطن مكة وسط البيـت اذ وضعا

وأنت أنت الذي حطت له قـدم

في موضع يده الرحمن قد وضعا

ربيب طه حبيب الله انت ومـن

كان المربى له طه فـقد بــرعا

وقلت في مدحه 7 مشيرا الى ولادته في بيت الله الحرام في بيت من المقطوعة التالية :

ماذا يقول بـك الاديب وينـظم

وعلاك اسمى والإمامة اعظم

ادركت بالإيمان مجدا شامــخا

بالحق تقصر عن مداه الانجم

مثلت احكام الإلـه بســـيرة

نبوية فيها الكتاب متــرجم

بدأت حياتك بيــته بــولادة

ولديه اضحت بالشهادة تختم

كـنت الرسول فضائلاً وشمـائلاً

فكلاكما لعلى الفضيلة تـوأم


الاّ النبـوة مـيـزت شخصيكما

فبها الرســول مفضل ومـقدم

خلدتما في الدهر شمـس هـداية

بشعاعها لـيل الضــلال يحطم

وعليكما مني التحـيــة كلـما

اضحى بمدحكما الهــدى يترنم

حول احتضان النبي لعلي ( ع )

وكما ان ولادة الإمام علي 7 في الكعبة تعتبر كرامة كرمه الله بها على وجه التخصيص لعدم مشاركة احد له فيها. كذلك يعتبر احتضان النبي محمد 6 له من اول يوم من ايام ولادته واشرافه المباشر على تربيته وتغذيته الروحية والبدنية كما تحدث بذلك علي نفسه عن هذه الرعاية الخاصة والعناية الفائقة التي اولاها النبي 6 قبل بعثته لعلي من يوم ولادته الى يوم حصول البعثة المباركة.

أجل : ان هذه الرعاية الخاصة والتربية الرائعة التي لم تحصل لاحد غير علي 7 تعتبر من الكرامات التي تميز بها ونال المرتبة السامية والدرجة الرفيعة نظراً لما يترتب على التربية الصحيحة المنسجمة مع روح الشريعة الغراء ونهج التربية الفطرية الناجحة ـ من الاثر البليغ في استقامة سلوك النشء وارتقائه الى المنزلة الرفيعة والمرتبة السامية في العقيدة الصحيحة الراسخة والاعمال الصالحة والاخلاق الفاضلة.

واشراف النبي محمد 6 على تربية الإمام علي 7 وان كان قبل بعثته المباركة بالرسالة الإسلامية الكاملة الخالدة الا ان ذلك لم يكن مانعا من حصول التربية الراجحة الناجحة التي يريد الله سبحانه حصولها للإمام علي 7.

وذلك لان العناية الإلهية قد رافقت شخص النبي منذ صباه بالالهام السماوي الذي كان يصقل به فطرته ويزيدها تألقا واشراقا من جهة وتكليف


الله سبحانه لاعظم ملك من ملائكته ليحتضن شخصه الكريم ويسلك به طريق المكارم ـ من جهة ثانية قد ساهم كل واحد منهما (١) في صياغة شخصية الرسول 6 صياغة سماوية جعلته افضل مخلوق واكمل رسول على الاطلاق.

وقد تحدث الإمام علي 7 عن احتضان الرسول له من اول ايام وجوده في هذه الحياة وذلك بقوله في نهج البلاغة من خطبته المسماة بالقاصعة :

وقد علمتم موضعي من رسول الله 6 بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة وضعني في حجره وانا ولد يضمني الى صدره ويكنفي في فراشه ويمسني جسده ويشمني عرفه وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في فعل.

ولقد قرن الله به 6 من لدن ان كان فطيما اعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن اخلاق العالم ليله ونهاره ولقد كنت اتبعه اتباع الفصيل اثر امه يرفع لي في كل يوم من اخلاقه علما ويأمرني بالاقتداء به.

ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري ولم يجمع بيت واحد في الإسلام غير رسول الله 6 وخديجة وانا ثالثهما ارى نور الوحي والرسالة واشم ريح النبوة.

وقد شرح الإمام علي 7 بكلامه هذا مدى عناية الرسول به من الناحية المادية والجسمية بما كان يقدمه له من الطعام بعد مضغه له ليتمكن من ابتلاعه بسهولة مع عنايته به من الناحية الروحية التربوية الامر الذي جعله متأثرا بهذه التربية الفائقة التي لم تحصل لاي شخص آخر لان عظمة التربية

__________________

(١) أي كل واحد من الرعاية الإلهية المباشرة واشراف الملك بأمر من الله سبحانه.


وتقدمها في ميدان النجاح تتبع شخصية المشرف عليها والقائم بها فبقدر ما يكون عظيم الشخصية ومستقيم السلوك ورفيع الخلق ـ يكون نجاحه في تربيته وتفاعل المربى ـ معها ايجابا ليصبح صورة اخرى عمن يصوغ شخصيته ويصبها في قالب الفضيلة وقد بين الإمام ( 7 ) نتيجة تجاوبه وتأثره بهذه التربية الفذة بقوله :

وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في فعل وبين السبب المثمر المؤدي الى هذه النتيجة السليمة بقوله :

ولقد كنت اتبعه اتباع الفصيل اثر أمه يرفع لي في كل يوم من اخلاقه علما ويأمرني بالاقتداء به.

كما بين 7 مدى الاعتناء السماوي في بناء شخصية الرسول منذ نعمومة اظفاره وذلك بمصاحبة اعظم ملك له بأمر من الله سبحانه ليسلك به طريق المكارم ومحاسن اخلاق العالم وكأن الإمام 7 يريد ان يبين مدى العناية الإلهية والاعتناء السماوي ببناء شخصية كل واحد من الرسول الاعظم 6 وابن عمه الاكرم وصياغتها على النحو الذي يساعد كل واحدة من هاتين الشخصيتين الفذتين على النهوض بالمسؤولية الكبرى التي ستلقى على عاتقه في المستقبل وهي مسؤولية القيام بالدعوة الإسلامية من اجل ان يخرج بها شخص الداعي العظيم وهو الرسول الاعظم 6 ـ المجتمع الجاهلي ـ من ظلمات الشرك وعبادة الاصنام الى نور التوحيد في العقيدة والتوحيد في عبادة الله الواحد العلام وهذه هي مسؤولية النبوة والنبي الاكرم 6 واما المسؤولية التي اعدت شخصية الإمام علي لينهض بها في مستقبله الجهادي فهي اولا مسؤولية دعم الدعوة بالمبادرة الى اعلان التصديق بها والعمل بمقتضاها والدفاع عنها قدر الامكان ـ وثانياً مسؤولية النيابة العامة والقيادة الشرعية بعد الرسول 6.

ومن المعلوم ان مسؤولية الرسول في دعوته وعلي في نصرته اولا وقيادته العامة الهامة ثانيا في منتهى الصعوبة والخطورة فلا يقدر على النهوض


بها الا من أوتي حظا وافرا من العناية السماوية والرعاية الإلهية بشكل مميز وقد حقق الله سبحانه ذلك في حق كلا الشخصين العظيمين النبي المرسل والوصي المبجل وذلك بما اودعه في كل واحد منهما من الكفاءة والاستعداد للتلقي علماً والترقي خلقاً وعملاً وضم الى زرع ذلك الاستعداد ايجاد المربي المعصوم الذي يستثمر ذلك ويخرجه من مرحلة القابلية والقوة الى مرحلة الفعلية والتحرك الايجابي الهادف على درب الرسالة دعوة لها ونشراً لنورها في افاق العقول واجواء النفوس من قبل الرسول الاعظم 6.

ومبادرة الى التصديق بها والعمل بمقتضاها مع الدفاع عنها وازالة العراقيل من طريق انتصارها وانتشارها ـ من قبل الناصر المحامي والممثل الشرعي لشخص النبي الاكرم بعد انتقاله الى جوار الله سبحانه.

وكان المربي المعصوم الذي اعده الله للنبي المعصوم هو ذلك الملك الاعظم كما كان المربي المعصوم للوصي المعصوم هو شخص النبي 6 ـ واذا عرفنا ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله هو افضل من جميع الملائكة كما انه افضل من جميع الانبياء ـ ندرك السر في العظمة والتفوق الذي ظفر به شخص الإمام علي 7 الامر الذي جعله افضل من جميع الخلق ملائكته وجنه وإنسه باستثناء شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله الطاهرين.

وذلك لنص آية المباهلة التي اعتبرت علياً نفس النبي باستثناء درجة النبوة المميزة والرافعة ـ وحيث ان النبي محمداً 6 افضل الخلق على الاطلاق كذلك من يكون نفسه.

وهذا يعتبر من الكرامات والخصوصيات التي خص بها الله سبحانه شخص الإمام علي 7 ليكون اعداداً تربوياً وبناء معنوياً لشخصيته الرسالية المثالية يؤهله للإضطلاع بدور النصرة والحماية للرسول ورسالته في البداية وللنهوض باعباء القيادة العامة والمسؤولية الكبرى بعد الرسول الاعظم 6 كما مرت الاشارة اليه.


وحيث اننا نريد من الكرامة التي كرم الله بها رسوله الاعظم 6 ووصيه علياً الاكرم 7 ـ العناية الفائقة والرعاية الخاصة بنحو مميز لهما عن غيرهما من ابناء المجتمع السابقين واللاحقين ـ فإن صفات الإمام علي الكمالية ومواقفه الرسالية التي برز بها بتفوق في كل الساحات والميادين ـ تعتبر كرامات فذة وخصوصيات مميزة تقتضي بطبعها تميزه وتفوقه عمن سواه من البشر باستثناء شخص النبي محمد 6 لانه وحده بلغ ذروة الكمال البشري بتخطيط من الله سبحانه ليتحقق التناسب بين اكملية وافضلية رسالته واكملية وافضلية شخصيته كما تقدم والى هذه الافضلية التي خص الله بها حبيبه ونبيه محمداً أشار بعضهم بقوله :

بلـــغ العلــى بكمــاله

كشــف الدجــى بجمــاله

حسنــت جميــع خصـاله

صلـــوا عليــه وآلـــه

وقال آخر مشيراً الى تفوق شخصيته 6 على من سواه

وأجمل منك لم تــر قط عيني

واكمــل منك لم تلد النساء

خلقت مبرأ من كــل عـيب

كأنــك قد خلقت كما تشاء

وقال آخر في مدحه 6.

فاق النبيين في خلق وفي خلق

ولم يدانوه في عـلم وفـي كـرم

وكلهم من رسول الله ملـتمس

غرفاً من البحر او رشفاً من الديم

فهو الذي تم معناه وصـورته

ثم اصطفاه حبيـباً باريء النـسم

منزه عن شريك في محاسـنه

فجوهر الحسن فيه غـير منقـسم

وفيما يلي ابيات رائعة مدح بها صفي الدين الحلي ( قده ) الإمام عليا 7.

جمعــت في صفاتك الاضـداد

شـجاع زاهد حـاكم حـليـم

ولهــذا عـزت لك الانــداد

نــاســك فاتك فقـير جواد


خلق يخجل النسيم من اللطــف

شيم ما اجتمعن في بشر قــط

وبــأس يذوب مـنه الجماد

ولا حــاز مثلـهن العــباد

ولا يريد هذا الشاعر تفضيل الإمام علي على كل العباد كما يظهر من البيت الاخير لوضوح افضلية النبي 6 منه لدى كل الطوائف الإسلامية وانما يريد تفضيله على من سواه فيكون هذا الوضوح قرينة على مراده من كلامه.


تفوق الإمام علي 7 بالصفات الكمالية

ومن اجل توضيح ما ذكرته آنفا من ان الإمام عليا 7 كان متفوقا في كل صفاته الكمالية ومواقفه الرسالية على من سواه باستثناء الرسول الاعظم 6 نحتاج الى ان نقف ولو قليلا من الوقت امام ابرز صفاته السامية ومعانيه الراقية من اجل ان نستلهم منها الدروس والعبر التي تنور عقولنا بالعرفان الواعي وقلوبنا بالايمان الثابت وتجمل نفوسنا بالمثل الرفيعة والقيم السامية التي تجمل بها وسما الى اعلى مراتب المجد والسؤدد التي لم يبلغها بل سما فوقها سوى الرسول الاعظم 6.

من صفاته البارزة التي تفوق بها على غيره ما عدا الرسول الاعظم 6 العلم ويشهد له بتفوقه به الواقع الملموس مضاف الى ما ورد في حقه من النصوص وهي كثيرة منها ما روي عن النبي 6 لدى الفريقين من قول النبي 6 في حقه :

أنا مدينة العلم وعلي بابها وقد اشار الشاعر الى هذا المعنى بقوله :

إنما المصطفى مدينة علم

وهو الباب من أتاه أتاها

واشتهر عن الإمام علي قوله 7 : « علمني رسول الله الف باب من العلم يفتح لي من كل باب الف باب ».

وكذلك قوله 7 : « لو ثنيت لي الوسادة لافتيت اهل التوراة بتوراتهم واهل الانجيل بإنجيلهم واهل الفرقان بفرقانهم ».


وقوله 7 : مشيراً الى صدره الشريف : « ان هاهنا لعلمنا جما لو اصبت له حمله » وشهادة النبي في حقه وانه مع الحق والحق معه يدور معه حيثما دار ـ تجعل شهادته مقبولة حتى في حق نفسه لانه معصوم لا ينطق عن الهوى ويؤكد هذه الشهادة شهادته الاخرى في حقه ايضا وهي قوله 6 : علي مع القرآن والقرآن مع علي.

وقال 6 : « اقضاكم علي » وفي حديث آخر عنه 6 : « قسمت الحكمة عشرة اجزاء فأعطي علي تسعة اجزاء والناس جزء واحداً » وقد اشتهر عن الخليفة الثاني قوله : « لولا علي لهلك عمر » وقوله : « اللهم لا تبقني لمعضلة ليس لها ابن ابي طالب ».

وروي عن ابن عباس قوله : « علم رسول الله من علم الله تبارك وتعالى وعلم علي من علم النبي 6 وعلمي من علم علي وما علمي وعلم اصحاب محمد 6 في علم علي الا كقطرة في سبعة ابحر ».

وقد اشتهر عنه قوله 7 : « سلوني والله لا تسألوني عن شيء يكون الى يوم القيامة الا اخبرتكم وسلوني عن كتاب الله فوالله ما من آية الا وانا اعلم ابليل نزلت ام بنهار في سهل ام في جبل ».

وعن ابن عباس ان عمر بن الخطاب قال للامام علي 7 : يا ابا الحسن انك لتعجل في الحكم والفصل للشيء اذا سئلت عنه قال : فأبرز علي كفه وقال له : كم هذا؟. فقال عمر : خمسة فقال له علي : عجلت ابا حفص قال : لم يخف عليَّ فقال علي 7 : « وانا اسرع فيما لا يخفى علي ».


حلم الإمام علي ( ع )

لم يكن اكبارنا لشخصية الإمام علي 7 لمجرد انه كان اعلم الناس بعد الرسول 6 بل لانه كان افضلهم واسبقهم الى كل الصفات الكمالية والمواقف الرسالية التي تخدم الإسلام والمسلمين بل والناس اجمعين لانه مثل بسلوكه المستقيم وخلقه الكريم خلق الرسول العظيم فكان محمداً الثاني وحيث ان الإسلام حث على الحلم وكظم الغيظ وطبق الرسول الاعظم ذلك على نفسه بسيرته القويمة وحث عليه بسنته الحكيمة حيث قال :

« صل من قطعك واعط من حرمك واعف عمن ظلمك واحسن الى من اساء اليك » فلا بد ان يكون الإمام علي 7 من السابقين الى ذلك عملا وقولا لانه نفس الرسول 6 بنص آية المباهلة كما تقدم ولانه معد لان يكون الممثل للرسول والمطبق للرسالة تطبيقا كاملا بالاتصاف بكل الصفات الكمالية التي دعت اليها وحثت عليها ليكون قوله الذي حث به غيره على فعل ما ينفع والاتصاف بما يرفع ـ مسبوقا او مقترنا بالعمل والممارسة فيكون اكثر تأثيرا وفاعلية مما اذا تجرد عن ذلك كما هو واضح وسأذكر في المقام بعض ما روي عنه 7 من الحكم التي دعا بها الى العفو والصفح عن المسيء من ذلك قوله 7 : في نهج البلاغة : « اذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه ». وقد طبق الإمام 7 هذه الوصية على نفسه حيث عمل بها في عدة موارد منها ما حاصله ان شخصا يدعى نعيما بن دجاجة قد صدر منه عمل فيه اساءة للامام 7 فأمر بأن يضرب تأديباً له فقال نعيم هذا : إن


المقام معك لذل وان فراقك لكفر فلما سمع الإمام منه ذلك قال : قد عفونا عنك ان الله عز وجل يقول :

( ادفع بالتي هي احسن السيئة ) (١).

اما قولك : « ان المقام معك لذل فسيئة اكتسبتها واما قولك ان فراقك كفر فحسنة اكتسبتها فهذه بهذه ».

ومن موارد حلمه وعفوه 7 انه قدم نصيحة لاصحابه على اثر حصول تصرف غير مناسب للحكم الشرعي والخلق الإسلامي فقال احد الخوارج : « قاتله الله كافرا ما افقهه » فوثب القوم ليقتلوه فقال 7 : رويدا انما هو سب بسبب او عفو عن ذنب ومنها ما نقل في البحار من ان امير المؤمنين مر بأصحاب التمر فإذا هو بجارية تبكي فقال : « يا جارية ما يبكيك »؟. فقالت : « بعثني مولاي بدرهم فابتعت من هذا تمراً فأتيتهم به فلم يرضوه فلما اتيته به ابى ان يقبله ».

قال 7 لذلك الرجل : « يا عبد الله انها خادم وليس لها امر فاردد اليها درهمها وخذ التمر فقام اليه الرجل فلكزه فقال الناس : هذا امير المؤمنين فخاف الرجل واصفر لونه واخذ التمر ورد الدرهم ثم قال : « يا امير المؤمنين ارض عني » فقال 7 ما ارضاني عنك ان انت اصلحت امرك وفي رواية اخرى : اذا وفيت الناس حقوقهم » ومنها انه دعا غلاما له مراراً فلم يجبه فخرج فوجده على باب البيت فقال : « ما حملك على ترك اجابتي »؟.

فقال : « كسلت عن اجابتك وامنت عقوبتك فقال 7 : « الحمد لله الذي جعلني ممن يأمنه خلقه امض فأنت حر لوجه الله ».

__________________

(١) سورة المؤمنون ، آية : ٩٦.


تواضع الإمام علي ( ع )

ومن الصفات الكمالية التي ترفع مقام صاحبها ـ التواضع وكان الإمام علي من المتصفين بها بل من السابقين الى هذا الاتصاف وقد ذكر المرحوم السيد محمد كاظم القزويني في كتابه النفيس ( علي من المهد الى اللحد ) قصة تبرز اتصافه بهذه الصفة بشكل واضح وباسلوب رائع وحاصلها انه ورد عليه 7 اخوان له مؤمنان ( اب وابن ) فقام اليهما واكرمهما واجلسهما في صدر المجلس وجلس بين ايديهما ثم امر بطعام فأحضر فأكلا منه ثم جاء قنبر بطست وابريق خشب ومنديل وجاء ليصب على يد الرجل فوثب الإمام علي 7 واخذ الابريق وصب على يد الاب باصرار منه على ذلك رغم عدم رضا هذا الضيف بهذا العمل وطلب من ابنه محمد بن الحنفية ان يصب الماء على يد الضيف الابن.

وقال الإمام العسكري 7 معلقا على هذه القصة بقوله :

فمن تبع عليا على ذلك فهو الشيعي حقا بعد ان كان قد قال 7 : اعرف الناس بحقوق اخوانه واشدهم قضاء لها اعظمهم عند الله شأنا ومن تواضع في الدنيا لاخوانه فهو عند الله من الصديقين ومن شيعة علي بن ابي طالب 7 حقا هذا من حيث السيرة والعمل واما من حيث القول فقد روي عنه 7 قوله : « ما تواضع الا رفيع وما تكبر الا وضيع » قال الشاعر :

تواضع تكن كالنجم لاح لناظر

على صفحات الماء وهو رفيع

ولا تك كالدخان يعلو بنفسـه

الى طبقات الجو وهو وضـيع


زهد الإمام علي ( ع )

وقد فسر لنا الزهد بقوله 7 : « ليس الزهد ان لا تملك شيئاً ولكن الزهد ان لا يملك شيء ».

هذا هو الزهد في نظر الإسلام وقد فسره الإمام علي 7 بعبارة مختصرة لفظاً ولكنها واسعة معنى حيث توحي بأن الإنسان اذا سعى في سبيل تحصيل الثراء الواسع من المصدر الحلال وللهدف المشروع والمصرف المباح بالمعنى العام للاباحة في مقابل المصرف الحرام مع الالتزام بإخراج الحق المعلوم للسائل والمحروم ـ فإنه بذلك يكون زاهداً ولو ملك مال قارون او ظفر بملك النبي سليمان على نبينا وعليه افضل التحية وازكى السلام ـ كما يكون عابداً لله سبحانه بذلك كله بالعبادة المقربة من الله زلفى بعد ملاحظة ان المراد من العبادة التي جعلها الله سبحانه السبب الداعي والعلة الغائية الباعثة على الخلق والايجاد للإنسان والكون كله ـ هو الخضوع المطلق والانقياد الكلي لارادة الله سبحانه بكل تصرف اختياري يصدر من الإنسان بارادته واختياره.

وحيث ان الله سبحانه امر بالسعي في سبيل تحصيل المال من المصدر الحلال وجوبا او استحبابا كما أمر بأخراج الحق الشرعي وجوباً وبما يزيد عليه استحبابا ـ وبالانفاق اللازم على النفس وسائر افراد الاسرة الذين تجب نفقتهم على المكلف ـ وجوبا وبما يزيد على النفقة الواجبة ـ استحبابا ـ.

أجل : حيث ان الله سبحانه امر بذلك وجوبا واستحبابا فإن المكلف الذي يمتثل هذا الامر الوجوبي او الاستحبابي ـ يكون عابدا لله سبحانه ومحصلاً بهذه العبادة الثواب العظيم الذي يستحق به ما يرغب فيه ويحلم به


من النعيم الخالد والسعادة الدائمة مضافا الى ما يحصله في هذه الحياة من النعيم الروحي والمادي بما وفقه الله له أيضا من الثروة المادية وما توفق له من القيام بالواجب او المستحب الذي يبعث في قلبه السرور والابتهاج نتيجة شعوره واحساسه بتأدية ما طلبه منه مولاه الحقيقي وهو الله سبحانه من تأدية وظيفة العبودية التي تعود عليه بالخير والسعادة في الدنيا والآخرة.

وعلى ضوء ما ذكرناه من المعنى الواعي الموضوعي للزهد حسبما يفهم من كلام الإمام 7 ندرك ان تمتع الإنسان المؤمن بما احل الله له من المتع المادية والروحية ـ لا ينافي الزهد بل يكون كما ذكرنا عابدا ـ مضافا الى كونه زاهدا.

ويظهر ذلك جليا من الآيات المباركة والرويات المشهورة التي تحث على العمل لكلتا الدارين معا ـ الدنيا والاخرة ـ في اطار الشروط المذكورة للتصرفات المادية كسبا وصرفا وتصرفا ـ بمعنى ان يكون المصدر حلالا والمصرف حلالا ـ مع الالتزام بإخراج الحق الشرعي الواجب كما تقدم وذلك لان الإسلام دين الفطرة الذي جاء لينعشها وينطلق معها في سبيل تحقيق غاية الخلق والايجاد ولا يمنع الا من المحرمات فهي وحدها التي طلب من الملكف ان يزهد فيها ويتجنب ممارستها نظرا لما يترتب عليها من المفاسد المادية والمعنوية الفردية والاجتماعية واما غيرها من المتع المباحة فهو يرغبه فيها ويشجعه على التمتع بها ما دامت لا توجب ضررا للإنسان فردا ومجتمعا ـ كما هو واضح من طبيعة التشريع الإسلامي السمحاء.

قال سبحانه :

( قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ) (١).

__________________

(١) سورة الاعراف ، آية : ٣٢.


وقال سبحانه :

( وابتغ فيما آتاك الله الدار الاخرة ولاتنس نصيبك من الدنيا ) (١).

وروي عن النبي 6 قوله : « ليس منا من ترك اخرته لدنياه ولا من ترك دنياه لاخرته » كما روي عن الإمام الحسن 7 قوله : « اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لاخرتك كانك تموت غدا ».

واما ما روي عن الإمام علي 7 من تقشفه في طعامه ولباسه ومسكنه ونحو ذلك وروي عنه قوله : « ولقد رقعت مدرعتي حتى استحييت من راقعها » فليس ذلك لان الزهد بطبعه يقتضي هذا الوضع الخاص من التقشف ـ بل لحالة استثنائية طارئة اقتضت ان يبرز الإمام 7 بهذه الحالة وذلك لان الوضع الاقتصادي العام كان صعبا في عهده الامر الذي ادى الى انتشار ظاهرة التقشف في اوساط المجتمع بصورة غير اختيارية فإضطر الإمام 7 لان يبرز على الحالة السائدة يوم ذاك وبدرجة اصعب من الوضع العام ـ من اجل ان يساوي نفسه بالطبقة المحتاجة ليكون ذلك مخففا من الم التقشف عندما يرى اكثر الشعب امامهم مساويا لهم بل اصعب وضعا منهم.

وقد صرح الإمام 7 بذلك لبعض الاشخاص الذي التبس عليه الامر وتوهم ان الابتعاد عن الدنيا ومتعها يكون محبوبا لله ومقربا منه ـ ولو كانت من الحلال ـ فأدى ذلك لان يلبس الملابس المتواضعة جدا ويبتعد عن اهل بيته فأخبر اخوه الإمام بذلك فاستدعاه بواسطة اخيه هذا ونصحه بترك تلك الحالة من التقشف والعود الى وضعه الطبيعي من حيث التمتع بما احل الله سبحانه من المتع فقال للامام 7 ما مضونه : ها انت في خشونة ملابسك وجشوبة طعامك فأجابه الإمام 7 بأن هذا وضع مختص به بصفته القائد والإمام للمجتمع فيطلب منه ان يساوي الطبقة الفقيرة حتى تكون

__________________

(١) سورة القصص ، آية : ٧٧.


مواساته لهم مخفقة من الم الحاجة والفقر.

ويؤكد هذه الحقيقة بروز الإمام الحسن 7 بالظاهرة الطبيعية التي يريد الإسلام ان يعيشها الإنسان في حياته وهي ظاهرة الاعتدال والتوازن بين مطالب الروح وحاجات البدن وبذلك يتحقق التوازن تلقائيا بين حاجات الدنيا ومطالب الاخرة لان نفس هذا التوازن المتمثل باعطاء البدن حاجته المادية مطلب اخروي وتكليف شرعي وجوبي بالقدر اللازم واستحبابي بالنسبة الى الزائد.


الإمام علي 7 رمز الحق والعدالة

الحديث عن عدالة الإمام علي 7 والتزامه منهج الحق ـ لا يراد به الكشف عن مجهول بالنسبة الى اي شخص له معرفة ولو اجمالا بشخصية هذا الإنسان العظيم ولذلك اكتفي في المقام بالاشارة الاجمالية الى واقع هذه الشخصية الرسالية المثالية والعقل السليم والفهم المستقيم يتحرك من هذه الصورة الاجمالية الى الكثير من الصور التفصيلية المشرقة.

وتوضيح ذلك باختصار اننا ندرك على ضوء آية المباهلة ان الإمام علياً هو نفس النبي 6 وان النبي 6 هو مجمع المثل السامية وملتقى القيم الرفيعة ـ بدليل وصف الله له بأنه على خلق عظيم مع قوله 6 وهو حق لانه معصوم لا ينطق عن الهوى :

« إنما بعثت لاتمم مكارم الاخلاق » وذلك لا يكون الا اذا كان متصفا بها كلها وبدرجة رفيعة مميزة.

أجل : ان ملاحظة مجموع ذلك ينتج ان الإمام علياً متجمل بجميع الاخلاق الفاضلة والمكارم السامية التي حث عليها الإسلام وتجمل بها كلها نبينا محمد 6 سيد الانام ولذلك يكون التعرض لذكر بعض المحامد الرفيعة والرافعة ـ من باب ذكر النماذج الفذة والشواهد الحية المؤكدة لحقيقة تجمل الإمام بمكارم اخلاق الإسلام ـ وقد ذكرت بعضا من هذه المزايا الحميدة وفيما يلي بعض آخر منها اذكره لا لمجرد التبرك ونيل الثواب بالتحدث بفضائله 7 بل من اجل استيحاء الكثير من العبر والدروس كما


مرت الاشارة اليه في السابق ـ مضافا الى تحصيل الثواب العظيم المترتب على ذكر فضائل اهل البيت : بصورة عامة والإمام علي بصورة خاصة ـ على ضوء بعض الروايات الناصة على ذلك في كتب الفريقين ومما ورد في كتب السنة ما رواه اخطب خوارزم عن رسول الله 6 ونقله عنه المرحوم المقدس الشيخ المظفر في الجزء الثاني من دلائل الصدق ص ٣٢٠.

قال : قال رسول الله 6 : ان الله جعل لاخي علي فضائل لا تحصى كثرة فمن ذكر فضيلة من فضائله مقرا بها غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ومن كتب فضيلة من فضائله لم تزل الملائكة تستغفر له ما بقي لتلك الكتابة رسم ومن استمع الى فضيلة من فضائله غفر الله له الذنوب التي اكتسبها بالاستماع ومن نظر الى كتاب من فضائله غفر الله له الذنوب التي اكتسبها بالنظر.

ثم قال : النظر الى عليّ عبادة وذكره عبادة ولا يقبل الله ايمان عبد الا بولايته والبراءة من اعدائه.

واذا كان الإمام علي 7 لا يترك فعل مستحب من الافعال ولا التجمل بما هو مستحب من الخصال فبالطريق الاولى ان لا يترك واجبا من ذلك كله ـ ومن اوضح الواجبات واهمها صفة العدل والعمل بمقتضاها.

ومما روي عنه في هذا المجال ان عمرو بن العاص دخل على أمير المؤمنين ليلة وهو في بيت المال وكان الإمام 7 ينظر في اموال المسلمين وحسابهم ودواوين العطاء وعنده سراج يضيء بنوره الضيئل وقد اشترى زيت السراج من بيت المال فلما دخل ابن العاص واراد ان يتحدث مع الإمام 7 في بعض الشؤون الخاصة اطفأ الإمام السراج وجلس في ضوء القمر ولم يستحل ان يستعمل السراج المضاء بمال المسلمين في غير مصلحتهم والقصص الواردة في عدله كثيرة اقتصرت على ذكر هذه القصة كنموذج لهذه الصفة بسبب ضيق المجال ووضوح اتصافه بها الذي يغني عن المزيد من البيان حيث يكون من توضيح الواضحات وخصوصا بالنسبة الى هذه الصفة التي يعتبر الاتصاف بها من اهم الواجبات كما سبق.


كرم الإمام علي ( ع )

واتصافه بهذه المزية واضح ايضا بعد ملاحظة انه 7 هو القرآن الناطق والإسلام العملي المتحرك ويؤكد ذلك دعوته الاخرين الى الاتصاف بهذه الصفة النبيلة ولا يعقل في حقه وهو الإمام المعصوم ان يدعو غيره الى فعل الخير ثم ينسى نفسه ومما نقل عنه 7 من الكلام الذي دعا به الى البذل والعطاء قوله 7 : « من ايقن بالخلف جاد بالعطية » وقوله : « البخل بالموجود سوء ظن بالمعبود » ومن المشهور عنه 7 قوله :

« لو كشف لي الغطاء لما ازددت يقينا » (١) فإن هذا القول الصادق الصادر عن المعصوم الصادق يدل على قوة يقينه بالخلف والعوض الذي يقدمه الله سبحانه للكرماء المحسنين ومع قوة يقينه بذلك لا يحتمل في حقه ان يكون لديه شيء من سوء الظن بالمعبود ولو بنسبة ضيئلة لا تذكر لامتناع اجتماع ذلك مع قوة اليقين ومما يذكر كنموذج ومثال فقط لكرمه النادر ما جاء في كتاب البحار من ان اعرابيا جاء الى الإمام علي 7 فقال :

يا أمير المؤمنين إني مأخوذ بثلاث علل علة النفس وعلة الفقر وعلة الجهل فأجابه الإمام 7 وقال : يا اخا العرب : علة النفس تعرض على الطبيب وعلة الجهل تعرض على العالم وعلة الفقر تعرض على الكريم فقال الاعرابي انت الكريم وانت العالم وانت الطبيب فأمر أمير المؤمنين بأن يعطى من بيت المال ثلاثة آلاف درهم وقال ) تنفق الفا في علة النفس والفا في علة الجهل والفا في علة الفقر.

__________________

(١) قد وردت هذه الجملة في الجزء الاول ص ٧٢ سطر ١٦ بقلم بعض المشرفين على التصحيح هكذا : ( لو كشف لي الغطاء لما ازددت الا يقينا ) والاقرب ذكرها بدون الا.


وسأله اعرابي شيئا فأمر له بألف فقال الوكيل من ذهب او فضة فقال 7 : كلاهما عندي حجر فأعط الاعرابي انفعهما له.

وقال له ابن الزبير : اني وجدت في حساب ابي ان له على ابيك ثمانين الف درهم فقال له : « ان اباك صادق فقضى ذلك ثم جاءه فقال : غلطت فيما قلت انما كان لوالدك على والدي ما ذكرته لك فقال : والدك في حل والذي قبضته هو لك ـ وروي ان رجلا جاء الى الإمام علي 7 فقال : « يا امير المؤمنين ان لي اليك حاجة » فقال : « اكتبها في الارض فإني ارى الضر فيك بيناً » فقال 7 : « يا قنبر اكسه حلتين فأنشأ الرجل يقول :

كسوتني حلة تبلـى محـــاسنها

فسوف اكسوك من حسن الثنا حللا

ان نلت حسن ثنائي نلت مـكرمة

ولست تبغى بما قد نلته بـــدلا

ان الثناء ليـحي ذكر صــاحبة

كالغيث يحيي نداه السـهل والجبلا

لا تزهد الدهر في عرف بدأت به

فـكل عبد سيجزى بالــذي فعلا

فقال 7 : « اعطوه مائة دينار فقيل يا أمير المؤمنين لقد اغنيته فقال : اني سمعت رسول الله 6 يقول : « انزل الناس منازلهم » ثم قال 7 : « اني لاعجب من اقوام يشترون المماليك بأموالهم ولا يشترون الاحرار بمعروفهم ».


شجاعة الإمام علي ( ع )

اذا تأملنا في المصدر الفياض الذي تتدفق منه كل معاني الخير وصفات النبل وافعال البر ومواقف الاباء والصدق والوفاء فإننا نجد انه الايمان الصادق والعقيدة الراسخة لانها هي التي تشد المخلوق الى خالقه العظيم الكريم والرحمن الرحيم ليستلهم من صفات كماله وجلاله نفحة عاطرة من ازهار كماله المطلق وقبسة زاهرة من فجر هذا الكمال ـ تجاوبا مع الحديث المشهور القائل : « تجملوا بأخلاق الله تعالى » واذا تأملنا في روح هذا التجمل وجوهره نجد انه العبادة الحقيقية المقربة من الله سبحانه بعد ملاحظة ان المراد من القرب والتقرب منه سبحانه الذي اعتبر قصده شرطا في صحة العبادات الخاصة المعهودة ـ هو القرب المعنوي المؤل بالقرب من رحمته سبحانه ورضوانه ـ لان اخلاقه تعالى تمثل الكمال المطلق وهو سبحانه لم يأمرنا بالعبادة لذاته العظيمة والانقياد لارادته الحكيمة الا من اجل ان ندنو من هذا الكمال فنقتبس من نوره ما يضيء لنا درب السعادة والخير في جميع المجالات ومن جميع الجهات باعتبار انه النور المشرق والخير المطلق والحق المتأملق والعدل الشامل والفضل الكامل والعزة العزيزة والقوة المطلقة والقدرة الخارقة وهكذا الى آخر الصفات الكمالية والإنسان الرسالي المستقيم في خط العبودية الخالصة والمخلصة لله سبحانه عندما يدنو من هذا الكمال بعبادة الله سبحانه وبالتجمل بصفاته الكمالية فهو يبتعد عن الصفات المضادة والافعال المبعدة عن رحمة الله ورضوانه بمعنى انه يبتعد عن الضلال والظلام المعنوي بقدر قربه من الحق وعن الظلم بقدر قربه من العدل وعن الذلة بقدر


قربه من العزة وعن الضعف والوهن بقدر قربه من مصدر القدرة المطلقة والقوة الخارقة ـ وحيث ان كل واحد من اهل البيت : ابتداء بالنبي وانتهاء بالمهدي عجل الله تعالى فرجه ـ قد ذابوا في الله حبا وزادوا بذلك قربا كانوا متفوقين بكل الصفات الكمالية ومن اهل هذا البيت الطاهر علي 7 ومن الصفات الكمالية صفة الشجاعة والبطولة الايمانية وبما ذكرنا ظهر الوجه في بروزه بهذه الصفة وتفوقه على غيره باستثناء النبي محمد 6 ولا نحتاج الى المزيد من البيان لتوضيح هذه الحقيقة وتأكيد ثبوتها في حقه 7 اولا للوجه الاجمالي العام الدال على سبب تفوقه بكل المزايا الحميدة وثانيا لشهادة الواقع والحوادث التاريخية بواقعية كل ما نسب اليه ووصف به من الخصال السامية وخصوصا صفة البطولة والشجاعة فقد عرف بها واشرقت في شخصيته الفذة من ايام طفولته عندما كان يطرد الاطفال الذين يتعرضون للنبي 6 بالايذاء باغراء من آبائهم وعندما عرف علي الطفل ـ بذلك طلب من النبي 6 ان يصحبه معه اذا اراد الخروج الى اي مكان ولبى النبي 6 طلبه وصحبه معه وتوجه الاطفال نحوه ليقوموا بعملية الايذاء والاعتداء واذا بعلي الشبل ينطلق نحوهم بقوة وينقض على احدهم انقضاض النسر الكبير على العصفور الصغير ويأخذه بأذنه ليحس بالالم الشديد وكأنها انقلعت بيده وادى ذلك الى تخوفهم منه وتهيبهم من التصدي للنبي حال حضوره معه وأصبحوا بعد ذلك يشردون منه بمجرد رؤيتهم له ويقولون جاء قالع الاذان ـ واتفق يوما من ايام طفولته البطلة ـ ان كان ماشيا بصحبة طفل آخر وشاء القدر ان يسقط هذا الطفل في باب بئر محفور في طريق عبورهما واذا بعلي البطل يسرع اليه ليأخذ برجله وينقذه من السقوط في ذلك البئر رغم ان هذا الطفل كان اكبر منه سنا بسنة.

وقد برزت هذه الشجاعة الايمانية والبطولة الحيدرية بأوضح صورها ليلة مبيته مكانه في فراشه تمهيدا لهجرته المباركة وقد اشار الله اليها واشاد بذكرها في كتابه الكريم بقوله تعالى :

( ومن الناس من يشري نفسه ـ اي يبيعها ـ ابتغاء مرضات الله والله


رؤوف بالعباد (٢٠٧) ) (١) واشار الشاعر الى ذلك بقوله :

ومواقف لك دون أحمد جـاوزت

بمقامك التعريف والتحـــديدا

فعلى الفراش مبيت ليلك والعـدى

تهدى اليك بوارقا ورعـــودا

فرقدت مثلوج الفــؤاد كأنــما

يهدي القراع لسمعك التغــريدا

رصدوا الصباح لينفقوا كنز الهدى

او ما دروا كنز الهدى مرصودا

وتأتي المعارك المشهورة بعد ذلك ليكون فارس ميدانها وقاتل ابطالها وفرسانها ففي معركة بدر التي وقعت في السنة الثانية من الهجرة قتل المسلمون من المشركين سبعين شخصا قتل علي وحده نصف هذا العدد وشارك المسلمين في قتل النصف الثاني ـ وكان النصر المبين بعناية الله وبطولة علي أمير المؤمنين ـ وفي معركة أُحد التي وقعت في السنة الثالثة من الهجرة قتل علي اولا اصحاب الالوية التسعة فدب الرعب في جيش المشركين وانهزموا الا ان مخالفة الاشخاص الذين طلب منهم الرسول الاعظم مرابطتهم في ذلك المكان الذي كان من المتوقع تسلل الاعداء منه الى داخل الساحة بأسلوب المفاجأة المؤثرة سلبا على سير المعركة ـ اجل : ان هذه المخالفة التي حصلت من اولئك الذين تحرك الحرص على المادة في قلوبهم فتركوا موقعهم ليشاركوا بقية المسلمين في جمع الغنائم ـ وادى تركهم له الى حصول المحذور الذي كان متوقعا للرسول الاعظم 6 حيث التف المشركون الذين نفذوا منه ـ حول المسلمين فجأة ـ الامر الذي اربك الجبهة الإسلامية وسبب شرود اكثر المسلمين وقتل عدد كثير منهم ولم يبق مع النبي 6 سوى عدد قليل وفي طليعتهم الإمام علي 7 الذي جعل من جسمه الشريف درعا يقي به شخص الرسول الأعظم 6 فكانت السهام المسددة الى الرسول 6 تصيب جسم علي 7 حتى اصبح جسمه كتلة من الجراح ولولا وجود الإمام علي في هذه المعركة لما حصل النصر الاول

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ٢٠٧.


ولولا بقاؤه ثابتا مع النبي 6 مدافعا عنه وواقيا له بجسمه الشريف ـ لما سلم 6 من القتل وبذلك يعرف فضل الله سبحانه ومدى عنايته بالرسول والرسالة حيث اعد لهما هذا البطل ليجاهد في سبيل نصر الإسلام ورسوله وحمايتهما من كيد الاعداء.

وقد اعجب جبرائيل بهذا الموقف البطولي الذي وقفه الإمام علي على ساحة الصراع الدامي والخطير ووقى شخص الرسول 6 من الخطر الذي كان محدقا به فقال ان هذه لهي المواساة يا محمد قال 6 : انه مني وانا منه قال جبرائيل : « وانا منكما » وروي ان جبرائيل قال في حق علي 7 بوحي من هذه المناسبة التاريخية : « لا سيف الا ذو الفقار ولا فتى الا علي » وهكذا ننطلق في ظلال شخصية علي 7 وهو ينطلق من معركة الى اخرى ليقوم بالدور الذي خلقه الله سبحانه من اجله وهو دور التضحية والفداء والبطولة والاباء وها نحن نحيى معه في اجواء معركة الاحزاب التي تجمع فيها كل خصوم الإسلام من المشركين واليهود بقيادة ابي سفيان في السنة الخامسة من الهجرة واستعدوا لان يهاجموا المدينة الحصن الحصين للاسلام ويهجموا على المسلمين ليقضوا عليهم وعلى قائدهم الاعلى الرسول الاعظم 6 ويقضوا بذلك على الإسلام ويأمنوا من خطره المتوقع ـ وعندما عرف النبي 6 بما عزم عليه الاعداء استشار اصحابه في اسلوب المواجهة عملا بقوله تعالى : ( وشاورهم في الامر ) (١). فأشار سلمان الفارسي بحفر الخندق حول المدينة من الجهة التي يتوقع حصول الهجوم من ناحيتها ـ كما كانوا يصنعون في بلاد الفرس ـ واستصوب الرسول رأيه واشترك مع المسلمين في حفر الخندق ـ واخيرا وصل جماعة من الاعداء بقيادة عمرو بن ود العامري الذي كان يعادل الف فارس وجالوا حول الخندق حتى وجدوا جانبا منه قصير المسافة فضرب عمرو هذا فرسه وقفز فوقه الى جهة المسلمين واخذ يجول

__________________

(١) سورة آل عمران ، آية : ١٥٩.


ويقول : « هل من مبارز هليّ من مبارز مكررا هذه الكلمة وقال ايضا متحديا للمسلمين : « اين جنتكم التي تزعمون ان من قتل منكم دخلها ».

وقال الرسول 6 يومذاك : من لعمرو وقد ضمنت له على الله الجنة ولم يجب طلب عمرو للمبارزة وطلب النبي 6 للمواجهة سوى علي 7 كلما كرر عمرو طلب ذلك حيث كان يقول كل مرة :

انا له يا رسول الله وكان الرسول 6 يطلب منه الجلوس وفي المرة الاخيرة قال لعلي : اجلس انه عمرو فرد عليه بطل الإسلام الخالد قائلا وان كان عمرواً فأنا علي بن ابي طالب واخيرا اذن له الرسول 6 فنهض لمبارزته وقال النبي 6 في حقه كلمته المشهورة : برز الايمان كله الى الشرك كله ـ وبعد حوار دار بين الطرفين ـ سبق عمرو عليا بضربة على موضع سجوده الشريف فرد عليه علي بضربة حيدرية وتر بتر بها ساقيه فسقط صريعا على الارض كالجمل وارتقى علي على صدره ليقطع رأسه فشتمه فتوقف عن قطع رأسه واخذ يمشي قليلا ثم عاد صدره وقطع رأسه وانطلق به نحو المسلمين وهو يمشي مشية العزة والاباء والابتهاج بنصر الله سبحانه له وللمسلمين على الاعداء بقتل قائدهم وقطع رأس شركهم.

وعندما سئل الإمام علي 7 عن سبب توقفه عن قطع رأس عمرو بين سبب ذلك بقوله 7 عندما اردت قطع رأسه شتمني فغضبت وتوقفت عن ذلك حتى هدأ غضبي ليكون قطع رأسه خالصا لوجه الله سبحانه ـ ولا يكون هناك عامل آخر باعث على ذلك ـ.

واخيرا توج الرسول الاعظم 6 هذا الموقف البطولي الذي وقفه بطل الإسلام في سبيل نصرة الإسلام والمسلمين بقوله 6 : ما مضمونه :

ان ضربة علي عمرواً يوم الخندق تعدل عمل الثقلين الى يوم القيامة وفي رواية اخرى كلمة عبادة الثقلين.

والوجه في ذلك واضح يفهم من قوله 6 : برز الايمان كله الى


الشرك كله ـ لانه لولا هذه الضربة الحاسمة القاصمة لظهر الشرك والقاطعة لرأسه ـ لكانت النتيجة عكس ذلك وهي ان ينتصر الشرك كله على الايمان كله والإسلام كله ـ ومن المعلوم ان عبادة الله والاعمال المقربة منه والنافعة للمؤمنين العاملين متوقفة على وجود الدين والايمان بأصوله وفروعه ـ فإذا قضي على الدين وعاد بعده الشرك مرة اخرى الى الوجود ـ فلا يبقى هناك دين يتعبد به لله ولا عابد مؤمن به سبحانه وعامل بما يحقق عبادته وحده لا شريك له ـ وبذلك ندرك ان الإمام علياً 7 قد نال ثواب عبادة الثقلين من يوم الاحزاب الى يوم الحساب مضافا الى ثواب عبادته الخاصة وهذا يناسب ان نتحدث عن عبادته 7 كما تحدثنا عن جملة من صفاته الغراء ومواقفه الجليلة التي طبق بها الإسلام ودافع بها عنه ليظل منهج حياة ودستور تقدم وازدهار في مختلف المجالات كما شاء الله سبحانه ورسوله 6 فنقول :


عبادة الإمام علي ( ع )

اذا عرفنا ان العبادة التي جعلها الله سبب الخلق والايجاد للكون وكل من فيه وما فيه ـ يراد بها معناها العام وهو الانقياد الكلي لارادة الله سبحانه بكل عمل اختياري يصدر من المكلف بارداته واختياره نعرف بذلك ان كل التصرفات الارادية والاعمال الاختيارية التي صدرت من المعصومين الانبياء واوصيائهم ومن ألحق بهم من الاولياء والمؤمنين الصلحاء الملتزمين بخط السماء بالايمان الصادق والعمل الصالح كانت عبادة لله سبحانه مقربة منه زلفى لان جميع تصرفاتهم الاختيارية كانت منسجمة مع ارادته تعالى وبذلك ندرك نوع عبادة الإمام علي 7 من حيث الكيفية كما ندرك مدى سعتها وامتدادها في حياته الشريفة من جهة المقدار والكمية ـ والروايات التي تحدثنا عن وضعه الخاص حال قيامه بين يدي الله سبحانه للصلاة ـ ترسم لنا الصورة التفصيلية عن كيفيتها ونوعيتها الخاصة التي كانت تتمثل بالذوبان والفناء في ذات الله سبحانه حباً وقرباً وخشوعا ودموعا ـ الامر الذي كان يغيب به عن عالمه المادي ليصبح في عالم آخر على حد غياب الإنسان الذي تعطى له ابرة البنج ليغيب بها حسه واحساسه بالالم وغيره من العوارض الطارئة على الجسم ـ ويؤكد لنا ذلك ما روي عن ولده الإمام الحسن 7 من انه كان ينتظر وقت دخول والده في الصلاة لينتزع من جسمه السهام التي كانت تنبت في جسمه الشريف وقت الحرب ـ علما منه بعدم شعوره واحساسه 7 بالالم اذا اخرجت من جسمه السهام حال قيامه بين يدي الله سبحاه في صلاته الخاشعة ـ وعظمة الصلاة بالنسبة الى هذا الإنسان العظيم تتمثل بالخشوع


الفكري والنفسي الدائم امام عظمة الله سبحانه لا في حال قيامه وتلبسه بالصلاة ـ والفرق بين حال الصلاة وغيرها من احواله البشرية هو انه في الاولى كان يغيب حسه الروحي مع حسه الجسمي ونتيجة غياب الثاني عدم تأثره واحساسه بالالم المادي ونتيجة غياب الاول عن غير الله سبحانه عدم انفصال احساسه المعنوي بذلك الغير عن الاحساس بعظمة الله وجلاله وحضوره الشامل والمستوعب لكل الكائنات والموجودات من مخلوقاته وهذا ما عناه 7 بقوله : ما رأيت شيئا الا ورأيت الله قبله وبعده وفيه ومعه.

وبهذا الحضور المعنوي الدائم لعظمة الله سبحانه في عقل المؤمن وقلبه يتحقق الخشوع والخضوع له سبحانه حال الصلاة وبعدها ونتيجة ذلك تحقق الغاية الاساسية المقصودة من تشريع الصلاة وهي الانتهاء عن الفحشاء والمنكر كما ذكر الله سبحانه في كتابه الكريم لان الصلاة الواعية الخاشعة تقرب صاحبها من الله الحق والهدى والعدل والخير المطلق كما تقدم ومن لوازم القرب من هذه المعاني السامية الابتعاد عن اضدادها ليكون القرب من الحق في العقيدة والشريعة والممارسة سببا للبعد عن الباطل في ذلك كله وكذلك يكون القرب من الهدى مقتضيا للبعد عن الضلال والقرب من العدل يكون سببا للبعد عن الظلم بكل اقسامه والقرب من الخير المطلق يكون مقتضيا للبعد عن الشر بكل انواعه.

وبذلك نعرف الميزان الصحيح الذي يميز به بين العبادة الكاملة شكلا وهدفا وهي التي تترتب عليها غايتها ـ والعبادة الناقصة التي تفقد شرط صحتها او شرط كمالها.

والدرس الذي يطلب منا ان نستفيده من عبادة الإمام علي 7 هو اداراك الغاية الاساسية المطلوب ترتبها على العبادة لتكون كاملة تقربنا من الله سبحانه ورضوانه الذي يعود علينا بالخير العميم والنفع الجسيم في الدنيا والاخرة واذا دققنا النظر وعمقنا الفكر لاستجلاء تلك الغاية المقصودة من العبادة بمعناها العام ـ ندرك انها التقوى التي تتمثل بفعل الواجبات وترك


المحرمات باعتبار انها بهذا المعنى تحقق هدف الكمال والسعادة الذي اراد الله سبحانه ان نتوصل اليه بالعبادة وقد اشار الله سبحانه الى ذلك بقوله تعالى :

( ولو ان اهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض ) (١).

وقال تعالى :

( ومن يتق الله يجعل له مخرجا (٢) ويرزقه من حيث لايحتسب ) (٢).

__________________

(١) سورة الاعراف ، آية : ٩٦.

(٢) سورة الطلاق ، آية : ٢ و ٣.


شهادة الإمام علي ( ع )

حيث كان الحديث عن شخصية الإمام علي 7 بوحي من مناسبة شهادته السعيدة المسعدة له ـ والتي حصلت في الحادي والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة ٤٠ هجرية ـ اقتضى ذلك ان اقدم حديثا عن الشهادة ودورها الطليعي في قيام الدين وتشييد صرحه السامي الخالد ـ في البداية وفي بقائه سالما من الانهيار امام التحديات والاعتداءات الفكرية والعسكرية التي شنت ولا تزال تشن ضده بين الحين والاخر ـ بلحاظ النهاية ـ وحيث ان الشهادة والاستشهاد لا يتحققان غالبا الا في ساحة التضحية والجهاد في سبيل الله سبحانه فلا بد من تقديم كلمة ولو مختصرة عن اهمية فريضة الجهاد ودورها الفعال في حفظ الرسالة الإسلامية وصونها من الاخطار التي تهدد كيانها المعنوي وتمنع من انطلاقها واشراقها في سماء الحياة لتنيرها بأضواء الهداية والرقي والتقدم في جميع المجالات ومن جميع الجهات فأقول :

« إن عظمة الجهاد والتضحية في هذا السبيل مستمدة من عظمة هذا الدين الذي هو المصنع المعنوي الرباني الذي تصنع فيه وبه انسانية الإنسان وتبنى شخصية الرسالية المثالية التي يصبح معها افضل من الملائكة ولم يكن امر الله سبحانه الملائكة بالسجود لادم الى من اجل ان يشير الى هذا المعنى.

واذا لا حظنا ان الدين حق بأصوله وفروعه وكل ما يتصل به. والحق كان ولا يزال محاربا من قبل اهل الباطل عبر التاريخ فكريا وعسكريا لانه بطبعه يقتضي تقييدهم بقيود العدل والشرف والفضيلة وتأبى عليهم اهواؤهم


الجامحة واطماعهم الطامحة ان يتقيدوا بهذه القيود التي هي في واقعها تمثل حدود انسانيتهم وعنوان شرفهم وكرامتهم ولكنها مع ذلك تشكل صعوبة وتسبب حرمانا مما يرغبون فيه ويميلون اليه من ارتكاب المحرمات والتحلل من الفضائل والكمالات ـ لذلك يحرصون على تحطيمه وازالته من ساحة الوجود كما حصل من المشركين واهل الكتاب في بدء البعثه النبوية بالرسالة الإسلامية حيث اتفقوا على باطلهم وتعاونوا على الاثم والعدوان فيما بينهم لمنع الدين الجديد من الانتصار ورسالته من الانتشار حتى كان الفتح المبين والنصر العظيم الذي حصل للدين وانصاره ـ يوم فتح مكة المكرمة بالاسلوب السلمي الهاديء الذي تمثل بذلك الشعار الإنسان ي النبيل الذي رفعه الإمام علي 7 بأمر من الرسول 6 وهو قوله :

« اليوم يوم المرحمة اليوم تحمى الحرمة ـ مع قوله الاخر الذي اكد به الاول وهو قوله 7 من القى سلاحه فهو آمن ومن دخل بيته فهو آمن ومن دخل بيت ابي سفيان فهو آمن ».

وبهذا الشعار المقدس الذي يترجم حقيقة الإسلام بما يحمله في طيه من قيم الرحمة والسماح واليسر والانفتاح ـ كان الفتح الحقيقي والانتصار الواقعي الذي يسعى اليه الإسلام في كل مواقفه ومعاركه الفكرية والعسكرية ـ وهو فتح القلوب والبصائر على نور الحق والهدى وانتصار الخير على الشر والفضيلة على ضدها.

وقد تحقق الهدف المقصود من وراء ذلك الفتح السلمي الإنسان ي الذي حصل بعون الله وتأييده بدون ان تسفك قطرة دم واحدة ـ وهو ـ اي الهدف المقصود ـ دخول الناس بعد ذلك في دين الله افواجا ـ بعد ان عرفوا حقيقته وادركوا غايته وهي الرحمة الشاملة والاخلاق السامية والمكارم العالية كما ورد التصريح بذلك في قوله تعالى :


( وما ارسلناك الا رحمة للعالمين (١٠٧) ) (١).

وبما اشتهر نقله عن لسان النبي 6 من قوله 6 : « انما بعثت لاتمم مكارم الاخلاق ».

وحيث ان للجهاد قيمته السامية ودوره الطليعي في صون الرسالة من الانهيار امام اعتداء المعتدين كما تقدم فقد حثت الشريعة المقدسة عليه ورغبت فيه وامرت به بأسلوب خاص لم تستعمله في مقام ايجاب سائر الفرائض الشرعية كما يظهر بالتأمل في مضمون واسلوب الايتين الكريمتين التاليتين كما ورد التعبير عن اهمية الجهاد في العديد من الروايات بالاسلوب المقارب للاسلوب القرآني.

الاولى من الايتين المذكورتين قوله تعالى :

( إن الله اشترى من المؤمنين انفسهم واموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيَقْتُلونَ ويُقْتَلون وعداً عليه حقا في التوراة والانجيل والقران ومن اوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم (١١١) ) (٢).

والثانية قوله تعالى :

( ياأيها الذين آمنوا هل ادلكم على تجارة تنجيكم من عذاب اليم (١٠) تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وانفسكم ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون (١١) يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الانهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم (١٢) ) (٣).

ومن الروايات الواردة في مقام بيان فضل الجهاد واهميته في الإسلام

__________________

(١) سورة الانبياء ، آية : ١٠٧.

(٢) سورة التوبة ، آية : ١١١.

(٣) سورة الصف ، آية : ١٠ و ١١ و ١٢ وقد عبرت عن هذه الايات الثلاث بالآية باعتبار انها بمنزلة الواحدة من حيث مضمونها.


ـ ما روي عن النبي 6 من قوله : « فوق كل ذي بِرٍ بِرْ حتى يقتل المرء في سبيل الله فليس فوقه بر ».

وروي عن الإمام علي 7 قوله : ما حاصله « لالف ضربة بالسيف أحب اليّ من ميتة على فراش » وقوله ايضا : « ان الجهاد باب من ابواب الجنة فتحه الله لخاصة اوليائه » وقوله 7 : « الايمان اربعة اركان الصبر واليقين والعدل والجهاد » وعن الصادق 7 قوله : « اصل الإسلام الصلاة وفرعه الزكاة وذروة سنامه الجهاد ».


منزلة الشهيد الرفيعة في الإسلام

وقد بين الله سبحانه مقام الشهيد ومنزلة الشهادة السامية المترتبة على الجهاد في سبيل الله بقوله تعالى :

( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتا بل احياء عند ربهم يرزقون (١٦٩) ) (١).

وقوله سبحانه :

( ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله امواتا بل احياء ولكن لا تشعرون (١٥٤) ) (٢).

وقد تقدم ان قيمة الجهاد والشهادة والاستشهاد مستمدة من قيمة الدين ودوره الطليعي في صنع انسانية الإنسان وبناء شخصيته الرسالية وتحقق الغاية الاساسية السامية التي خلق الله الكون والإنسان من اجلها وهي عبادته وحده لا شريك له ـ وذلك باعتبار توقفها على انزال الله سبحانه التشريع السماوي والايمان بأصوله وفروعه والعمل بمقتضاها كما تقدم مفصلا وقد ذكرت اكثر من مرة في اكثر من مورد ان الله سبحانه لم يخلقنا للعبادة ويوجبها علينا الا من اجل ان نتوصل بها الى الكمال والسعادة ـ وتظهر هذه الحقيقة جلية بالمقارنة السريعة بين وضع الإنسان قبل بزوغ فجر الإسلام على آفاق الوجود ووضعه بعده ففي العهد الاول كان حيوانا مفترسا وفي العهد الجديد اصبح بشرا سويا وانسانا وفيا ومؤمنا وليا لله تعالى عابدا له وحده لا شريك له بعد

__________________

(١) سورة آل عمران ، آية : ١٦٩.

(٢) سور البقرة ، آية : ١٥٤.


عبادته الاصنام ومحبا الخير لغيره وكارها الشر له وساعيا في سبيل حصول هذا الخير له وفي سبيل دفع الشر عنه ـ وباراً بوالديه ومحترما للمرأة وخصوصا زوجته ومؤديا لها حقوقها المادية والمعنوية ومحبا للبنت ومدركا انها هدية من الله ليحسن تربيتها وينال الاجر العظيم بذلك ومؤديا لحق الاخرين بالرفق والعطف والحنان وموسعا دائرة ذلك لتتسع رحمته تبعا لاتساع رحمة الله سبحانه التي وسعت كل شيء ولذلك يرفق حتى بالحيوان ويقوم بواجب النفقة نحوه ولا يكلفه فوق طاقته والحاصل ان الإنسان الجديد في ظل العهد الجديد اصبح مصداقا للمؤمن النبيل الذي ورد في وصفه ان خيره مضمون وشره مأمون ـ بعد ان كان عكس ذلك في ظل الجاهلية الجهلاء.


سبب استشهاد الإمام علي ( ع )

وبعد بيان اهمية الجهاد وقيمة الشهادة والاستشهاد في سبيل الله تعالى احب ان اشير باختصار الى العوامل التي ساهمت في استشهاد الإمام علي 7 بالسبب الذي حصل له فاقول :

ان العوامل التي ساهمت في تحقق شهادته عديدة ابزرها الحسد اللئيم والحقد الدفين والحرص اللعين ـ اما مصدر العامل الاول فهو بلوغ الإمام علي 7 اعلى مراتب الفضل والمجد والسؤدد من عدة جهات وقد اعترف بعضهم بهذه الظاهرة النادرة اللافتة بقوله :

« لقد كنا ننظر الى شخص علي بن ابي طالب في عهد النبي 6 كالبدر بين النجوم ـ وبقدر ما تعلو مرتبة الشخص بالفضل والفضيلة فإن حساده يكثرون وقد اعتبر بعض الشعراء تفوق شخصية الإمام علي 7 وبروز مقامه عذرا لحاسديه حيث غطى نور فضله المتألق على اضواء غيره كما يغطي نور الشمس على ما عاداها من النجوم اللامعة والكواكب الساطعة ـ فقال ذلك الشاعر :

إني لاعذر حاسديك على الذي

اعطاك ربك ذو الجلال وذو العلى


واما الحقد الدفين فسببه ادخال الإمام علي 7 الحزن والثكل الى اكثر البيوت نتيجة قتله العدد الكثير من اعداء الإسلام في المعارك الدامية التي خاضها للدفاع عنه وصونه من اعدائه اللئام وحيث ان الإسلام الذي دخلوا


مدرسته مؤخراً لم تترسخ عقيدته في قلوبهم بالدرجة القابلة لازالة رواسب الجاهلية ونزعة حب الاخذ بالثأر ـ نتج عن ذلك تغلب الهوى على الهدى وتعاون اعداء الحق على الاثم والعدوان من اجل اطفاء نوره بأية وسيلة ـ وبذلك يعرف سبب وجود الطمع اللعين لدى الكثيرين ممن وقفوا في صف المعارضة لحكم الإمام علي 7 لانه كان شديد الحرص على تطبيق نظام العدالة بدقة وحزم حتى في حق القريب فضلا عن البعيد الغريب وقصته مع اخيه عقيل مشهورة ومثلها قصته مع عمرو بن العاص عندما جاءه ليلا وهو مشغول بادارة شؤون المسلمين ونظم امورهم على ضوء السراج الذي كان مضاء بالزيت المشترى من بيت مال المسلمين ـ حيث اطفأ السراج لمجرد علمه بأن عمروا هذا قد جاءه بقضية خاصة به من اجل ان لا يصرف ولو قليلا من زيت مصباح المسلمين في غير مصلحتهم.

ومن المعلوم ان هذه الشدة في تطبيق الاحكام الشرعية وخصوصا فيما يتعلق بالقضايا المالية لا تنسجم مع طبق وطمع الكثيرين ممن تعودوا على خلاف ذلك وعلى الاخص بعد اعلانه العزم على استرجاع ما يستطيع ارجاعه من مال بيت للمسلمين الذي اخذ منه وصرف في مورد غير مشروع او على شخص غير مستحق حتى ولو تزوج به النساء واشتريت به العبيد والاماء.

والجامع المشترك بين الاسباب الثلاثة التي ساهمت في اطفاء نور الحق بالقضاء على شخص كان مع الحق كما كان الحق معه كما اخبر الرسول الاعظم 6 ـ هو عدم الايمان او ضعفه الى درجة يصبح معها بحكم العدم ـ وذلك لان المؤمن حقا لا يحسد ولا يحقد ولا يطمع بغير رحمة الله ورضوانه.

وحيث ان الشهادة كانت الحلم السامي والامل الوضاء الذي سعى في سبيل تحصيله سابقا وقوي تطلعه لادراك هذه الامنية ليلة المبيت في فراش الرسول 6 ويوم أُحد وشاءت الحكمة الالهية ان تؤخر له ادراك هذا الهدف الغالي العالي.


أجل : حيث ان الشهادة كانت الامنية العزيزة المحبوبة للامام 7 وتوفق اخيرا لادراكها في اشرف ليلة وهي ليلة القدر وافضل شهر وهو شهر الله واشرف مكان وهو بيت الله وحال قيامه بأفضل عمل هو عبادة الله التي تمثلت بصلاة الصبح يومذاك.

لذلك استقبلها الإمام بصدر رحب وقلب مشرق بنور السرور والسعادة التي احس بها حين ظفره بسبب الشهادة وقد عبر عن فرحه الروحي وابتهاجه النفسي بقرب لقائه بالحبيب الحبيب وهو الله سبحانه بقوله : بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله فزت ورب الكعبة.


بعض الدروس التربوية المستفادة

من شهادة الإمام علي ( ع )

وكما استفدنا بعض الدروس من عبادته 7 ينبغي ان نستلهم بعضا منها بمناسبة شهادته واهم درس يمكن ان نستفيده من هذه المناسبة العظيمة هو ان نبقى مع الحق كما كان الإمام معه يدور معه حيثما دار ونجاهد في سبيل نصرته والدفاع عنه ولا نساوم عليه ولا نتنازل عنه مهما كانت التضحيات والصعوبات وبذلك نكون مع علي 7 ومن شيعته حقا الذين ينالون في الدنيا احترامه ومحبته وفي الآخرة شفاعته ويسرني في ختام الحديث المختصر عن شخصية الإمام علي 7 ان اهدي الى هذه الشخصية الفذة المقطوعة الشعرية التالية :

حي الوصي وحي العـلم والعــملا

حي الأبي الكمي الفارس البــطلا

حي الإمام الـذي صـانت مواقــفه

شرع السماء ـ بما اعطى وما بذلا

لولا مبيت علي الطــهر ما سلـمت

حياة أحمد مما حـــيك بل قـتلا

لولاه لولاه في بــدر وفـي احــد

ما تم لجيش الحق بـــل خــذلا

لولاه لولاه في الاحزاب ما انهـزمت

وما تحقق للمــختار مـا أمــلا

لولا بـطولته فـي خـيبر ذهــبت

تلك الجهود ونالت كلهـا الفــشلا

ومن سواه بيوم الفـتح قـال لــهم

اليوم مرحمة نحيي بـها المـــثلا

ومن سواه سما قـــدرا ومــنزلة

وفوق منكب خير المرسلــين علا

وطهر البيت من اصـنام شــركهم

وكان للحق في توحيــده مــثلا


ومـن سواه ببيت الله مــولده

فضل تنال به تكريمها الفضلا

ومن سواه من المحراب كان له

حلم الشهادة لما فاز مرتـحلا

في بيت خالقه كانت ولادتــه

ومنه للفوز بالنعمى قد انتـقلا

كلمة هادفة من وحي فتح مكة المكرمة

من الحوادث التاريخية التي حدثت في شهر رمضان المبارك حادثة فتح مكة المكرمة وهي حادثة ذات اهمية قصوى تقتضي الاهتمام والنظر إليها بعين الفكر والبصيرة النافذة من اجل ان تستوحي منها الدروس والعبر المفيدة.

ولهذه الحادثة سببها المؤدي اليها نتيجتها الايجابية المترتبة عليها والدروس التربوية التوجيهية التي يمكن استفادتها منها.

اما سببها فهو مجموع امرين ـ الاول الصلح (١) الذي حصل بين المسلمين الممثلين بالرسول الاعظم 6 وقريش ممثلة بسهيل بن عمرو ـ وذلك عندما عزم الرسول الاعظم 6 على زيارة بيت الله الحرام في مكة المكرمة بقصد العمرة في السنة السادسة من هجرته المباركة الى المدينة المنورة فلم توافق قريش على ذلك لانها ترى فيه نوعا من الاذلال لها حاصلا بدخول مكة عنوة بدون سابق مفاهمة معها واخيرا تم الصلح بين الطرفين والاتفاق على تأجيل الرسول زيارة بيت الله الحرام الى العام القادم ضمن شروط اتفق عليها الفريقان وكان من جملة هذه الشروط ان يكون دخول المسلمين في العام القادم بدون الظهور المسلح ـ باستثناء سلاح الراكب بشرط وضعه في قرابه ومن الشروط ارجاع المسلمين من يأتي اليهم مسلما من قريش ـ الى اهله في مكة وعدم التزام قريش بارجاعها من يأتي اليها مرتدا من المسلمين ـ وهناك شروط اخرى لم اذكرها للاختصار وبعد الاتفاق على الشروط الخاصة دعا الرسول 6 علياً 7 لأن يكتب وثيقة

__________________

(١) وهو المسمى بصلح الحديبية.


الصلح فكتب في بدايتها : بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل بن عمرو مخاطبا الرسول الاعظم 6 : هذا كتاب بيننا وبينك يا محمد فافتحه بما نعرفه واكتب باسمك اللهم فقال 6 مخاطبا عليا 7 : اكتب باسمك اللهم وامح ما كتبت فقال علي 7 : لولا طاعتك يا رسول الله لما محوت فقال النبي 6 لعلي 7 : اكتب هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو فقال : سهيل : لو اجبتك في الكتاب الى هذا لاقررت لك بالنبوة فامح هذا الاسم واكتب محمد بن عبد الله فقال له علي 7 : انه والله لرسول الله على رغم انفك فقال النبي 6 : امحها يا علي فقال له يا رسول الله : ان يدي لا تنطلق بمحو اسمك من النبوة قال : ضع يدي عليها فمحاها رسول الله 6 بيده وقال لعلي 7 : ستدعى الى مثلها فتجيب وانت على مضض ثم كتب :

باسمك اللهم هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ومن معه من المسلمين ـ سهيل بن عمرو ومن معه من اهل مكة على ان الحرب مغلولة فلا اغلال ولا اسلال (١) ولا قتال وعلى ان لا يستكره احد على دينه وعلى ان يعبد الله بمكة علانية وعلى ان يخليها له في قابل ثلاثة ايام فيدخلها بسلاح الراكب وتخرج قريش كلها من مكة الا رجلا واحدا من قريش يخلفونه مع محمد واصحابه الخ.

هذا حاصل الامر الاول من مجموع الامرين اللذين شكلا معا سبب حصول الفتح وهو امر اساسي معنوي كما لاحظنا.

واما الفتح الثاني فهو عسكري وحاصله : انه بعد حصول الاتفاق على الصلح وتوقيع الطرفين على شروطه المحددة ـ اتفق ان حصل من رجل ينتمي الى قبيلة بكر تغن بهجاء الرسول 6 على مسمع من رجل هو من قبيلة

__________________

(١) للارسال عدة معان منها الغارة الظاهرة والاغلال معناه الخيانة.


خزاعة وكان بين هذه القبيلة والرسول الاعظم 6 عهد واتفاق على ان تمنعه مما تمنع منه نفسها ولذلك غضب الخزاعي من البكري وضربه فثارت قبيلته وتذكرت عداءها القديم لقبيلة خزاعة واستعانت بحلفائها من قريش فأعانتها قريش سرا بالعدة والرجال ثم توجهوا الى قبيلة خزاعة وافرادها آمنون مسالمون وقتلوا منهم فوق العشرين فلجأ الخزاعيون الى حليفهم الرسول الاعظم 6 واخبروه بما فعلت قريش فقال 6 : « والله لامنعنكم مما امنع نفسي منه » ثم تجهز للسفر الى مكة ولم يخبر احدا واستنفر الاعراب من حول المدينة وقال لهم : « من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فليحضر رمضان في المدينة » قال ذلك واخفى مقاصده عن بقية الجيش حتى لا تعرف قريش فتستعد للحرب وهو لا يريد ذلك محافظة على حرمة البيت الحرام وانما اراد اذلال قريش بدخوله مكة عنوة وبدون رضاها.

واخيرا : تحقق له مراده حيث دخل مكة فاتحا منتصرا واضعا جبهته الشريفة على قربوس فرسه تواضعا لله سبحانه وحياء من قومه وامر الإمام عليا بأن يدخل الراية ادخالا رفيقا مرددا شعار السلم والامان بقوله 7 اليوم يوم المرحمة اليوم تحمى الحرمة ـ واكد ذلك بقوله 7 ايضا :

من القى سلاحه فهو آمن ومن دخل بيته واغلق بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن ومن دخل بيت ابي سفيان فهو آمن وعندما وصل النبي 6 الكعبة الشريفة وكان فيها عدد كثير من اعدائه لجأوا اليها خوفا وتهيبا قال لهم : « ما تظنون اني صانع بكم » قالوا : « اخ كريم وابن اخ كريم » فقال لهم 6 : « اذهبوا فأنتم الطلقاء ».

تحصل من مجموع ما تقدم ان فتح مكة المكرمة على الوجه الذي حصل نتج من مجموع امرين الاول سياسي وهو معاهدة الصلح والثاني عسكري تمثل بمخالفة قريش ونقضها للعهد بالعمل العسكري الذي قامت به مع حليفتها قبيلة بكر ضد قبيلة خزاعة حليفة الرسول 6 واما النتجية الايجابية التي ترتبت على هذا الفتح المبارك فهي واضحة لانه ادى لان يفهم


الاخرون الإسلام على حقيقته وسماحته ورحمته التي يشمل بها كل الناس حتى المعادي منهم بل وحتى الحيوان من الكائنات الحية التي تحس بغريزتها وطبيعتها الحيوانية باللذة والالم ـ كما مرت الاشارة اليه في بعض ابحاث هذا الكتاب.

وما الدروس التي يمكن استلهامها من قصة الفتح فكثيرة سأقتصر على ذكرها اهمها وهي كما يلي.

دروس تربوية من فتح مكة المكرمة

الدرس الاول : من هذه الدروس هو درس في ايثار الحل السلمي في مقام الصراع وعدم اللجوء الى العنف والحل العسكري الا وقت الحاجة الماسة والضرورة الملحة ـ فيلجأ اليه حينئذ كما يلجأ الطبيب الحكيم الى الدواء المر والعملية الجراحية عندما يتوقف العلاج وحفظ حياة المريض على ذلك ـ واستفادة هذا الدرس كانت من موافقة النبي 6 على الحل السلمي الذي تم الاتفاق عليه بين الطرفين ولم يصر على الحل العسكري حتى ولو كان مؤديا الى النصر المادي العسكري ـ وذلك لان الحرب لا تطلب في الإسلام لذاتها وانما تطلب لما يترتب عليها من نفع كثير او دفع ضرر خطير ـ فإذا كانت لا تؤدي الى هذا الهدف الإنساني فهي تفقد مبررها وقد اكد الله سبحانه هذه الحقيقة بقوله تعالى مخاطبا نبيه محمد 6.

( * وان جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله انه هو السميع العليم (٦١) ) (١).

الدرس الثاني : في التواضع والتنازل عن بعض الاعتبارات في سبيل تحقيق هدف كبير ومصلحة عليا متوقفة عليه وقد حصل ذلك من النبي 6 في مكانين من المعاهدة المذكورة الاول عندما كتب الإمام علي البسملة

__________________

(١) سورة الانفال ، آية : ٦١.


( بسم الله الرحمن الرحيم ) في افتتاحية المعاهدة ولم يوافق عليها الطرف المقابل وهو سهيل بن عمرو وطلب كتابة ما تعارفوا عليه عندهم وهو عبارة ( باسمك اللهم ).

الثاني : عندما كتب الإمام علي 7 بطلب من الرسول 6 العبارة التالية : « هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله الخ ولم يوافق على ذلك سهيل وطلب محوها والاقتصار على اسم الرسول مجردا عن وصف الرسالة ».

وذلك لان الرسالة الإسلامية المباركة التي جاءت رحمة للعالمين ولانقاذ الناس اجمعين ـ قد بلغت من الاهمية درجة تقتضي ان يضحي في سبيلها بالانفس النفيسة والابناء الاحباء والاخوة الاعزاء والاصحاب الاوفياء كما حصل من الحسين 7 ذلك كله عندما تعرض الدين للخطر كما هو المعلوم فبالطريق الاولى ان يضحى بما هو اقل من ذلك في هذا السبيل.

الدرس الثالث : في احترام العهود والمواثيق مهما كان ذلك صعبا وكلف من تضحيات جسام ـ لان ذلك تأكيد لمصداقية اسلام المسلم وتعميق لتعاليم الدين في نفوس ابناء المجتمع وخصوصا اذا كان الوفاء بالعهد مع غير المسلم ـ فإن ذلك يرغبه في الانتماء الى الدين الإسلامي والسير على نهجه القويم بعدما يدرك واقعيته وعدالته الاصيلة التي تشمل بنفحاتها العاطرة حتى غير المسلمين وبذلك يعرف المراد من قول الإمام الصادق 7 وهو يوصي شيعته بتطبيق تعاليم الدين والتجمل بمكارم اخلاقه مع الناس اجمعين حتى مع الاشخاص الذي يختلفون معهم في التوجه الديني او المذهبي او السياسي لان ذلك هو طبيعة الرسالة الإسلامية التي شاءها الله سبحانه ان تكون كالشمس تشرق على كل الناس وتمدهم بنورها الوضاء وحرارتها المنعشة وكالمطر الذي ينزل على الارض كلها بلا استثناء.

وقد تمثل الوفاء بالعهد والاتفاق المبرم بين الطرفين ـ بارجاع النبي 6 ـ بعض من جاءه الى المدينة من مكة مسلما هاربا بدينه من قومه


المشركين ـ وهو ابو جندل بن سهيل حيث طالب والده سهيل هذا بارجاعه اليهم وفاء بالعهد فقام الرسول 6 واخذ بيده ليرجعه الى ابيه ثم اقبل على الناس وقال 6 :

انه ليس عليه بأس انما يرجع الى أبيه وأمه وإني اُريد ان اتم لقريش شرطها ورجع رسول الله 6 الى المدينة وانزل الله عليه في الطريق سورة الفتح مخاطبا له بقوله تعالى :

( انا فتحنا لك فتحا مبينا (١) ) (١).

الدرس الرابع : من الدروس التي يمكن ان تستفاد من حادثة فتح مكة ـ درس في الشكر لله سبحانه على نعمة الفتح والانتصار ويستفاد ذلك من الهيئة والحالة التي كان الرسول الاعظم 6 متلبسا بها حين دخوله مكة المكرمة ـ وهي حالة وضع جبهته الشريفة ـ على قربوس فرسه معبرا بذلك عن شكره لله سبحانه الذي امده بالنصر العظيم والفتح المبين بدون حصول مواجهة عسكرية هي منافية لحرمة البيت الحرام ولطبيعته الحليمة الرحيمة وذلك بسبب ذوبانه في ذات الله حبا وقربا والله سبحانه ارحم الراحمين وقد بعثه رحمة للعالمين وقد عبر عن ذلك بالشعار الذي أمر الإمام عليا برفعه حال دخول مكة المشرفة وهو قوله 6 : « اليوم يوم المرحمة اليوم تحمى الحرمة ».

ثم اكد ذلك بشعاره السلمي الثاني الذي قال فيه : « من القى سلاحه فهو آمن ومن دخل بيته واغلق بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن ومن دخل بيت ابي سفيان فهو آمن ».

وقد اراد الإمام علي 7 بحصول الأمن لمن يدخل دار ابي سفيان ان

__________________

(١) نقلت قصة الفتح باختصار عن كتاب إعلام الورى للطبرسي ص ١٠٥ و ١٠٦ وكتاب امالي رمضان لمحمد عبد الرحمن الجديلي ص ١٩١ ـ ١٩٢.


يبين الإسلام على حقيقته وانه دين السماح والانفتاح لذلك يدعو مشرعه الإله الاعظم ورسوله الاكرم الى كظم الغيظ والعفو عن المسيء واكد ذلك ببيان انه يحب المحسنين حتى للمسيئين اذا كان الاحسان اليهم يساعد على اقتلاع جذور البغضاء والعداوة من قلوبهم وحلول المودة والولاء الوثيق مكانها كما يستفاد ذلك من صريح قوله تعالى :

( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي احسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم (٣٤) ) (١).

والسنة النبوية بقولها وفعلها مترجمة لتعاليم الإسلام ومجسمة لاخلاق القرآن فمن القولية ما روي عنه 6 من قوله للامام علي 7 :

« يا علي ثلاث من مكارم الاخلاق تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك ». ومن الفعلية عفوه عن قومه المشركين عندما ظفر بهم وتمكن من عقوبتهم في قصة فتح مكة المتقدمة والإمام علي نفس النبي 6 بنص آية المباهلة ولذلك كان صورة اخرى عنه بتجمله بمكارم الاخلاق التي كان الرسول الاعظم متجملا بها وقد مدحه الله سبحانه على ذلك بقوله تعالى :

( وانك لعلى خلق عظيم (٤) ) (٢).

وكما صدر من النبي 6 قول يدعو الى العفو وفعل ممثل للعفو العملي فكذلك الإمام علي وابناؤه : فمن قوله 7 : ما روي عنه من قوله 7 : « اذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه » ومن عفوه الفعلي ما روي عنه من عفوه عن خصومه يوم الجمل وسماحه لمعاوية وجيشه بورود المشرعة يوم صفين بعد منعهم الإمام عليا وجيشه من

__________________

(١) سورة فصلت ، آية : ٣٤.

(٢) سورة القلم ، آية : ٤.


ذلك عندما سبقوا الى هذه المشرعة ـ وكذلك طلبه من اولاده ان يرفقوا بأسيرهم عدو الرحمن بن ملجم ـ وان يطعموه مما يأكلون ويسقوه مما يشربون. ومن ذلك كله ما ورد في قصة الفتح وما عطف عليه مما روي عن النبي 6 واهل بيته نستطيع ان نستفيد درسا خاصا في الحلم ومكارم الاخلاق وهو اعظم واسمى درس يطلب من الناس جميعا بصورة عامة والمسلمين خاصة ـ ان يتجملوا به لان مكارم الاخلاق تعتبر في واقعها ثوبا معنويا جميلا ينفع ويرفع المتجمل به في الدنيا والاخرة وعلى العكس من ذلك التجرد منه فهو يحطم الشخص المتجرد ويضره معنويا وماديا دنيويا واخرويا قال الشاعر :

وإنما الامم الاخلاق ما بقيت

فإن هم ذهبت اخلاقهم ذهبوا

وهناك دروس اخرى يمكن ان تستوحى من قصة الفتح باعتبار ان كل واحد من الرسول الاعظم والوصي الاكرم علي 7 يمثل الإسلام العملي المتحرك والقرآن الناطق فكل تصرف يصدر منهما يعتبر تجسيما حيا لما في هذا الإسلام العظيم وذلك القرآن الكريم من مثل رفيعة وتعاليم سامية ونفس الشيء يقال بالنسبة الى البقية من ابناء علي المعصومين المطهرين وامهم المعصومة ام ابيها فاطمة الزهراء سلام الله عليهم جميعاً لان الكل نور واحد.

ويسرني ان اختم الحديث حول قصة الفتح بالمقطوعة الشعرية التالية التي نظمت مؤخرا بوحي من هذه المناسبة التاريخية الخالدة.

ما الفـتــح فتـح للــبلاد

بقوة السيـــف المبيــده

لكـنه فتــح القــلــوب

بنـــور اخلاق حميــده

وبـذاك اقـبلـت الوفــود

لهــا بأفـواج عــديـده

من بعدمــا وجـدت بشرع

الحق انظمــة سـديــده

تـدعو الــورى لعــبادة

لله نــافـعــة مفيــده


بالانقيـــاد لمـا يريــد

وفعل مــا يجـدي عبيـده

فهم العيـــال ويــرتقى

من خصهــم فـي الله جوده

هذا هـو الفتــح الــذي

بـمــودة نـغدو جنــوده

نحميــه من شر الطـغاة

ونبتغــي ابـدا صــعوده

ليظــل حـصنا واقــيا

يحمي بــه وطني حـدوده


حديث من وحي ليلة القدر المباركة

ويأتي الحديث مؤخرا من وحي هذه الليلة المباركة ليكون مسك الختام لهذا الكتاب باعتبار كونها احدى المناسبات الدينية التي تحيى في شهر رمضان المبارك والحديث من وحي هذه الليلة الغراء يكون عادة في ثلاث جهات.

الاولى : يبين فيها الوجه في تسميتها بليلة القدر وقد وجه ذلك بعدة وجوه واعتبارات فقيل : سميت بذلك باعتبار ان الله سبحانه يقدر فيها كل ما يجري على الإنسان من حوادث وطوارىء في سنته الحالية الى سنته التالية ـ وقيل سميت بذلك لان الله سبحانه يعطي للاعمال التي يؤتى بها فيها قيمة رفيعة ومنزلة سامية بلحاظ درجة الثواب المترتب عليها بحيث يكون ثواب العمل المأتى به فيها معادلا لثواب عمل ألف شهر مجرد عن هذه الليلة ولذلك وصفت بأنه خير من الف شهر ـ وقيل سميت بذلك لان الله سبحانه انزل فيها كتابا ذا قدر على نبي ذي قدر من اجل امة ذات قدر على يدي ملك ذي قدر ـ وهو جبرائيل.

الجهة الثانية : يبحث فيها عن فضل هذه الليلة ويكفيها فضلا وشرفا مضاعفة ثواب الاعمال الواقعة فيها ليبلغ مقدار ثواب الاعمال الواقعة في الف شهر مجرد عنها مضافا الى شرف نزول القرآن الكريم فيها واستجابة الدعاء ونحو ذلك من الخصوصيات الشريفة والمشرفة لهذه الليلة المباركة.

والجهة الثالثة : يبحث فيها عدة عن تحديد هذه الليلة وبيان انها اية ليلة


من ليالي هذا الشهر المبارك مع تسليم استمرارها بعد عصر الرسول 6 وعدم انحصارها في زمانه مضافا الى القول بانحصارها في شهر رمضان الميمون كما هو المشهور وعدم الالتفات الى القول المفيد لوقوعها في بعض الشهور الاخرى ـ كشعبان والمشهور لدى الطائفة الشيعية ترتيب الاثر على ثلاث ليالي ورد بيانها والنص عليها في جواب سؤال وجه الى الإمام الصادق من قبل احد اصحابه طلب منه به تعيين ليلة القدر فقال 7 : اطلبها في تسع عشر واحدى وعشرين وثلاث وعشرين ـ وان كان الراجح لدى البعض كونها الاخيرة اي ليلة ثلاث وعشرين ـ اعتمادا على بعض الروايات المتضمنة لذلك وبيان هذه الامور التي مرت الاشارة اليها في الجهات الثلاث وان كان راجحا ومفيدا بلا اشكال الا ان الاهم بيان ما هو الاهم منها بلحاظ النتيجة والآثار الايجابية التي ينبغي ان تحصل وتترتب على احياء ليلة القدر ـ ليكون احياء حقيقيا عمليا لا يقف اثره على صورة الاعمال ومقدار ما يمارس منها بعنوان الاحياء ـ بل ينفذ الى الروح روح تلك الاعمال المستحبة المعهودة حتى يبعثها فيها فتصبح حية بعد الموت ومتحركة بعد الجمود في طريق تحقيق الهدف الكبير والغاية الاساسية التي خلق الله الإنسان والكون من اجلها وهي عبادته وحده لا شريك له وهذه العبادة الخالصة المخلصة هي التي عبر عنها بالتقوى في كثير من الايات الكريمة ومنها قوله سبحانه :

( يايها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون (١٨٣) ) (١).

وبعد معرفة روح الاعمال التي يؤتى بها بعنوان العبادة والتعبد لله سبحانه سواء كانت واجبة ام مستحبة في شهر رمضان ام في غيره ـ نستطيع ان نعرف نوعها وواقعها من حيث الحياة والموت ومن حيث القوة والضعف

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ١٨٣.


الذي قد يلحقها بالاعمال الميتة التي تبقى حيث توجد ولا تتحرك في طريق القبول نحو الله سبحانه ومرضاته.

وبقليل من التدبر ندرك روح الاعمال التي هي مصدر حياتها وتحركها نحو الهدف المقصود منها ـ وهي إخلاص المؤمن العامل في نيته مع فرض رجحان العمل ومحبوبيته لله في ذاته ـ ومعنى الاخلاص في النية ـ ان يكون الباعث الى العمل امر الله سبحانه مجردا عن اي باعث اخر مؤثر في صدور العمل بحيث يكون متمما لباعثية الامر الالهي ـ والغاية الاساسية المقصودة من كل الاعمال المطلوبة لله سبحانه ـ هي تقواه المتمثلة بفعل الواجبات وترك المحرمات ـ وعلى ضوء معرفة ما هو روح الاعمال وما هي الغاية المستهدفة بها ـ ندرك نوعية العمل وهل هو حي بحياة قوية تدفعه وتحركه نحو الهدف او ضعيفة لا تحركه اصلا او تحركه بحركة بطيئة جدا لا تساعده على بلوغه او هو ميت لا حياة فيه ولا حركة له ليصبح بحكم المعدوم.

ومن الواضح ان القسم الاول من الاعمال هو المطلوب لله سبحانه والمقرب منه وهو الصادر من المكلف بدافع التعبد لله سبحانه والتقرب منه وحده لا شريك مع ايصاله الى الهدف المنشود والغاية الاساسية المقصودة واما بقية الاقسام فهي بحكم العدم اما لفقدها روح الاخلاص ووقوعها ميتة من اول وجودها او لفقدها القوة المحركة نحو تلك الغاية وبذلك تعرف كيفية احياء ليالي القدر وايامه وشهره وسائر الليالي والايام والشهور ـ وندرك ان الاحياء الحقيقي للوقت كله ولشهر ورمضان ولياليه وايامه بصورة خاصة ـ لا يتحقق الا اذا كانت الاعمال التي نأتي بها بعنوان التعبد لله سبحانه والتقيد بنظام عبادته ـ واجدة للحياة النابضة بالنشاط والحيوية الدافعة لصاحبها نحو الهدف الكبير ـ لان واجد الحياة في ذاته يستطيع ان يمد بها سواه ليصبح مثله في الحيوية والحركة في طريق الغاية الكبرى واما الاعمال التي تقع سقطا فاقدة لروح الاخلاص ان تكون واجدة لهذه الروح


حين العمل الممارسة ولكنها تكون فاقدة للوعي والتبصر الديني الذي يكشف للمؤمن العامل السر المستهدف من وراء تشريع العبادات وهو التقوى ـ كما تقدم.

اما هذه الاعمال فلا يتحقق بها احياء اي وقت تقع فيه سواء كان وقت شهر رمضان بلياليه وايامه ام غيره ـ والسر في ذلك واضح ـ لانها بعد ان كانت ميتة او بحكم الميتة فلا يتوقع منها افاضتها لروح الحياة على غيرها ولهذا اشتهر القول المأثور : فاقد الشيء لا يعطيه وعلى ضوء هذه الحقيقة الايمانية الموضوعية ـ ندرك جيدا ان الشخص الذي يتوفق للاخلاص في العمل ولتحقيق الغاية الاساسية المقصودة منه وهي تقوى الله سبحانه والتقيد بأحكامه الشرعية بفعل المأمور به وترك المنهي عنه يكون عمله هذا حيا وذا قيمة وقدر لتصبح كل ليلة يأتي به فيها قدر وكل يوم يوم قدر كما يصبح كل شهر يمسك فيه عما حرم الله تحقيقا لغاية الصوم ـ شهر رمضان حتى ولو كان ذلك العمل قليلا من الناحية الكمية عندما يقتصر على الاتيان ببعض الاعمال الواجبة او المستحبة بتوجه واخلاص ووعي للغاية والتزام بتحقيقها ـ وعلى العكس من ذلك العمل الذي يكون ميتا فاقدا لروح الاخلاص ـ او ضعيفا فاقد لقوة الوعي التي تحركه في خط الهدف ـ فمثل هذا العمل يكون بحكم العدم مهما كان كثيرا في الكمية ومثيرا للاعجاب من جهة الصورة والكيفية ـ وذلك لان الاعمال بالنيات كما ورد عن اهل البيت : ولان الله سبحانه ينظر الى القلوب والاعمال لا الى الصور والاموال كما ورد في حديث آخر.

وخلاصة هذا الحديث الذي قدمته بمناسبة ليلة القدر ـ هي ان الاعمال التي جرت العادة على الاتيان بها في ليلة القدر مثل قراءة سور خاصة مضافا الى قراءة القرآن بصورة عامة مع الصلوات المعينة والادعية المخصوصة ونحو ذلك من مستحبات هذه الليلة كزيارة الحسين 7 والغسل ـ هذه الاعمال وان كانت مستحبة في الشرع ومسببه لنيل الاجر والثواب


لمن يأتي بها بدافع التقرب والاخلاص لله سبحانه ـ ولكن المطلوب من المؤمن الواعي ان يدرك فلسفة العبادة بمعناها العام ويعرف الغاية الاساسية المقصودة من تشريعها وهي ترسيخ صفة التقوى والتجمل بها في كل الاحوال وعند ممارسة جميع الاعمال لتصبح كلها عبادة له تعالى يتقرب بها اليه زلفى وبذلك ندرك ان قيمة قراءة القرآن تكون بقدر تجاوب القارىء مع تعاليمه السامية وتوجيهاته المربيه ـ ويتمثل ذلك بفعل ما يأمر به من واجب او مستحب وترك ما ينهى عنه من حرام او مكروه واذا لم يكن لديه طموح عبادي يدفعه لفعل المستحب مع الواجب ويمنعه من فعل المكروه مع الحرام ـ فلا اقل ومن باب اضعف الايمان ان يلتزم بامتثال الحكم الالزامي الوجوبي والتحريمي ـ وبذلك يعرف ان المؤمن الواعي لغاية قراءة القرآن لو قرأ قليلا منه ولو آية وطبقها في حياته العملية فإنه ينال الثواب العظيم ويتفوق به على من قرأ القرآن كله ولم يعمل بأية آية من آياته ولكنه اكتفى بالتلاوة فقط انسياقا مع العادة الجارية واخذا بظاهر ما دل على استحباب قراءة القرآن بصورة مؤكدة في شهر رمضان وخصوصا في ليلة القدر وحيث ان مقصودي من هذا الحديث لفت النظر الى بعض الامور الغامضة التي يغفل عنها الكثيرون من اخواني المؤمنين الاعزاء وابنائي الاحباء ـ فلا بد من التنبيه الى ما اشرت اليه وبيان ان القراءة المطلوب هي المقترنة بالتدبر عملا بقوله تعالى :

( أفلا يتدبرون القران أم على قلوب اقفالها (٢٤) ) (١).

والتدبر الواعي يوحي لنا ان المقصود من تلاوة آيات هذا الكتاب الكريم ـ هو العمل بمقتضاه والسير على ضوء هداه لانه كتاب تربية ودستور عمل ومنهج حياة ولم ينزل لمجرد التبرك بتلاوته وتحصيل الثواب بقراءته لينال القارىء هذه الفائدة بمجرد التلاوة وعلى ضوء معرفة الغاية الاساسية

__________________

(١) سورة محمد ، آية : ٢٤.


التي انزل الكتاب العظيم من اجلها.

ندرك ان القارىء لآياته المباركة بدون تدبر لمعانيه والتفات ولو اجمالا ـ لمراميه بمعنى ان القراءة كانت مطلوبة لذاتها كما هو شأن الكثيرين ممن يقرأون القرآن في شهر رمضان المبارك بسرعة خاطفة وكل همهم ان يقرأوا القرآن كله اكثر من مرة لينالوا بذلك الثواب الاكثر.

اجل : على ضوء معرفة الغاية الاساسية المقصودة من انزال القرآن الكريم وهي نفسها مقصودة من تلاوته ـ ندرك ان التلاوة المجردة عن التدبر الواعي يكون ثوابها قليلا ـ وربما فقد الثواب وحل مكانه استحقاق العقاب اذا كان لا يتمثل امرا بواجب ولا نهيا عن حرام فيترك الحج مع استطاعته والصلاة مع تلاوته الايات الامرة بها ـ كما يترك تأدية الفريضة المالية من الخمس والزكاة مع تعلقها بمالها وبعضهم يلتزم بالصلاة في خصوص شهر رمضان ويتركها في غيره نتيجة جهله بالغاية الاساسية التي شرع الصوم من اجلها وهي التقوى كما سبق ـ وهي لا تتحقق الا بفعل جميع الواجبات وترك جميع المحرمات في جيمع الاوقات كما هو واضح ـ فمثل هذا الشخص يكون صومه ناقصا وكذلك من لا يتورع بترك المحرمات وخصوصا الغيبة والنميمة والكذب ونحو ذلك من المحرمات الكبائر وهو المقصود بقول النبي 6 : رب صائم ليس له من صومه الا الجوع والعطش وكذلك من يصلي ويقتصر على صورة الصلاة من دون ان يعرف فلسفتها ويدرك غايتها وهي الانتهاء عن الفحشاء والمنكر وهو المعنى بقول الرسول الاعظم 6 : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد عن الله الا بعدا ـ ونفس الشيء يمكن ان يقال بالنسبة الى من يكتفي بتلاوة آيات القرآن الكريم ولا يتدبر معناها ولا يعمل بمقتضاها لانه يكون شبيها بالشخص الذي يحمل المصباح بيده ولا يفتح عينيه على نوره ليستفيد منه ويسلم من العثور هذا كله بالنسبة الى تلاوة القرآن الكريم وخصوصا في الشهر المبارك وعلى الاخص في ليالي القدر وايامه ـ واما الصلاة المستحبة


في ليالي القدر فلا تكون مفيدة لصاحبها ومحققه لغاية الاحياء الا اذا كانت محققة للغاية الاساسية التي شرعت الصلاة الواجبة من اجلها وهي التقوى المتمثلة بما وصفها الله به من نهيها صاحبها وانتهائه به عن الفحشاء والمنكر ـ وكذلك الادعية لا تكون محققة لهدف الاحياء الا اذا كانت حية في نفسها واجدة لروح الاستجابة وهي الشروط الاساسية المعتبرة في استجابتها وترتب الاثر عليها وقد اشار الله سبحانه الى شروط استجابته لدعاء الداعي بقوله تعالى :

( واذا سألك عبادي عني فإني قريب اجيب دعوة الداع اذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون (١٨٦) ) (١).

فإنه يفهم من قوله تعالى ان الايمان به واستجابة دعوته للعمل بهذا الايمان هو شرط لاستجابته دعاء من يدعوه وقد عبرت بالشروط مع ان المذكور في الآية المذكوره شرطان لاستجابة دعاء الداعي ـ وهما الايمان بالله والعمل بهذا الايمان الذي عبر الله عنه بالاستجابة ـ وذلك بلحاظ الشروط الاخرى المذكورة في محلها لاستجابة الدعاء.

ويسرني في ختام الحديث عن ليلة القدر ان اختمه بالمقطوعة الشعرية التي نظمتها مؤخرا بوحي من مناسبتها المباركة وهي كما يلي :

ليلة القدر سمو وارتـقاء

ومعان ترفع القدر وضـاء

وصلاة ننتهي عن منكـر

بهداها وزكـاة وعطــاء

وصيام يثمر التقوى لـنا

مثلما يبغي الهي ويــشاء

وجهاد اكبر يطوي بــه

عن سماء النفس حقد وعداء

ذلك القدر الذي نصبو له

موقف حر وصدق ووفـاء

لنعيش القدر حبـا صادقا

يتسامى بــعلاه النــبلاء

_________________

(١) سورة البقرة ، آية : ١٨٦.


والتقى روح وقلب نابض

إن توارت يعتري القدر انتهاء

واخر دعوانا ان الحمد لله مع طلب الدعاء بالتوفيق وحسن العاقبة من اخواني في الله ـ والسلام عليهم وعلى كل من يلتقي بي فكراً وخطاً وهدفاً على صفحات هذا الكتاب ـ ورحمة الله وبركاته

فرغت من تحرير هذه الصفحات

ليلة الاحد : ٧ ـ ١٢ ـ ١٩٩٦ الموافق : ٢٦ / ٧ / ١٤١٧ هـ.

حسن طراد


الفهرست

تمهيد وتقديم. .................................٥

الأدعية المستحبة في شهر رمضان المبارك. ٧

كلمة حول موضوع الاستهلال. ٩

الدعاء ودوره التربوي في حياة المؤمن. ١٢

بيان الامور المساعدة على إستجابة الدعاء ٢٠

بيان المراد من العبادة بمعناه العام ٢٩

دور الصيام في ترسيخ الإيمان والتقوى. ٣٤

الصوم ودوره التربوي في سلوك المسلم. ٣٨

تأثير الصيام في البر والإحسان. ٤١

دور الصيام في سلامة البدن من الامراض.. ٤٢

دور الصيام في صحة العقل وعدم انحرافه عن منهج الفطرة ٤٦

دور الصوم في صحة القلب.. ٤٨

الحب في الله والبغض في الله. ٥٢

وجوب خضوع الطبع لحكم الشرع. ٥٦

أسباب المحبة والصفاء ٥٨

بيان أسباب التعارف والتعاطف.. ٦١

أسباب العداوة ونتائجها السلبية ٦٢

فوائد المحبة المعجلة في الدنيا ٦٤

النتائج السلبية المترتبة على العداوة ٦٦


وسائل علاج مرض العداوة ٦٨

وسيلة علاج مرض العداوة عند أهل البيت.. ٧٠

ترجيح الإسلام علاج المشكلة بالتي هي أحسن. ٧٣

موضوع الحديث في هذا الكتاب هو الصوم الظاهري والباطني. ٧٧

بيان الاستقبال الحقيقي المناسب لشهر الله تعالى. ٨٠

حول إقامة حفلات الافطار في شهر رمضان المبارك. ٨٥

حول ايقاظ النائمين للسحور ٨٨

المناسبات الدينية والحوادث التاريخية الحاصلة في شهر الله تعالى. ٨٩

الحديث عن شخصية أبي طالب.. ٩١

الشواهد الجلية على إيمان أبي طالب بالدعوة الإسلامية ٩٤

الشواهد القولية على إيمان أبي طالب.. ٩٦

دروس تربوية من سيرة أبي طالب.. ١٠١

أبو طالب شيخ البطحاء أهل لمدح الشعراء ١٠٤

خديجة بنت خويلد مثال المسلمة الفاضلة والزوجة الصالحة ١٠٦

تفضل الله على خديجة بابنتها فاطمة ١١١

دروس تربوية من سيرة خديجة ١١٢

الصحيح أن خديجة لم تتزوج غير الرسول ( ص ) وأن عمرها كان ٢٨ سنة ١١٥

الشعر المقبول في مدح أم البتول. ١١٧

نفحات عاطرة من حياة الحسن الطاهرة ١١٨

علم الإمام الحسن والمعصومين بصورة عامة ١١٩

عبادة الإمام الحسن ( ع ) ١٢٠

حلم الإمام الحسن ( ع ) ١٢٢

كرم الإمام الحسن ( ع ) ١٢٨

صلح الإمام الحسن أسبابه ونتائجه والدروس المستفادة منه ١٣١

اشارة الى سبب الثورة الحسينية ١٣٨


دروس توجيهية من صلح الإمام الحسن ( ع ) ١٤٠

قصيدة من وحي ميلاد الإمام الحسن ( ع ) ١٤٦

حديث من وحي معركة بدر ١٤٨

أبيات شعرية من وحي الوحدة ومعركة بدر ١٥٥

حديث حول شخصية الإمام علي ( ع ) ١٥٦

النص العملي على أهلية ١٦٢

أهل البيت للقيادة الشرعية ١٦٢

بعض ما حصل للرسول ( ص ) من الكرامات قبل ولادته وحينها ١٦٤

الكرامات التي حصلت للإمام علي ( ع ) ١٦٥

ما قيل شعرا بمناسبة ولادة الإمام في بيت الله الحرام ١٦٨

حول احتضان النبي لعلي ( ع ) ١٧٠

تفوق الإمام علي عليه السلام بالصفات الكمالية ١٧٦

حلم الإمام علي ( ع ) ١٧٨

تواضع الإمام علي ( ع ) ١٨٠

زهد الإمام علي ( ع ) ١٨١

الإمام علي عليه السلام رمز الحق والعدالة ١٨٥

كرم الإمام علي ( ع ) ١٨٧

شجاعة الإمام علي ( ع ) ١٨٩

عبادة الإمام علي ( ع ) ١٩٥

شهادة الإمام علي ( ع ) ١٩٨

منزلة الشهيد الرفيعة في الإسلام ٢٠٢

سبب استشهاد الإمام علي ( ع ) ٢٠٤

بعض الدروس التربوية المستفادة من شهادة الإمام علي ( ع ) ٢٠٧

كلمة هادفة من وحي فتح مكة المكرمة ٢٠٨

دروس تربوية من فتح مكة المكرمة ٢١١

حديث من وحي ليلة القدر المباركة ٢١٧

الفهرست.. ٢٢٥

من وحي الإسلام - ٢

المؤلف: الشيخ حسن طراد
الصفحات: 228