في هذه المجموعة

١ ـ رسالة في أحكام الطلاق.................................................. ٧

٢ ـ رسالة في شرح حديث لسان القاضي بين جمرتين من نار................... ٢٣

٣ ـ رسالة في ارث الزوجة.................................................. ٣١

٤ ـ رسالة في الحبوة........................................................ ٥٧

٥ ـ رسالة في حرمة تزويج المؤمنة بالمخالف................................... ٨١

٦ ـ رسالة في استحباب كتابة الشهادتين على الكفن......................... ١١٧

٧ ـ رسالة في حكم التنفل قبل صلاة العيد وبعدها........................... ١٢٧

٨ ـ رسالة في بيان عدد الأكفان........................................... ١٣٧

٩ ـ رسالة في جواز التداوي بالخمر عند الضرورة............................ ١٤٩

١٠ ـ رسالة في حكم الحدث الأصغر المتخلل في غسل الجنابة.................. ١٦٩

١١ ـ رسالة في في المسائل الفقهية المتفرقة................................... ١٩٩

١٢ ـ رسالة في استحباب رفع اليدين حالة الدعاء............................ ٢٨٣

١١٣ ـ رسالة في بيان علامة البلوغ........................................ ٢٩٣

١٤ ـ رسالة في من أدرك الإمام في أثناء الصلاة.............................. ٣٠٥

١٥ ـ الرسالة الهلالية..................................................... ٣١٥


١٦ ـ الرسالة الذهبية..................................................... ٣٨٥

١٧ ـ الفصول الأربعة في من دخل عليه الوقت وهو مسافر فحضر وبالعكس والوقت باق    ٤٢٧

١٨ ـ رسالة في من زنا بامرأة ثم تزوج بابنتها................................ ٤٤٧

١٩ ـ رسالة في شرائط المفتي............................................... ٤٧١

٢٠ ـ رسالة في منجزات المريض........................................... ٤٩٣


سلسلة آثار المحقق الخاجوئي

(٤٦)

رسالة

في احكام الطلاق

للعلامة المحقق العارف

محم اسماعيل بن الحسين بن محمد رضا المازندراني الخاجوئي

المتوفى سنة ١١٧٣ هـ ق

تحقيق

السيد مهدي الرجائي



بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لقد سئلت عن هذه المسألة غير مرة ، لأنها كانت عامة البلوى ومبسوطة الجدوى ، فصار ذلك سببا مقدما لنا لتحريرها وتقريرها.

فأقول : وأنا العبد المذنب المفرط المقصر الجاني الفاني محمد بن الحسين بن محمد رضا المشتهر بإسماعيل المازندراني ، أنهم عرفوا الطلاق مطبقين عليه بأنه إزالة قيد النكاح بصيغة مخصوصة.

ولا يخفى أنه بظاهره يفيد أنه يزيله ويرفعه رأسا ، من غير فرق في ذلك بين طلاق وطلاق ، إذ الرجعي منه فيه كالبائن منه ، غير أنه يجوز فيه الرجوع دونه فالقول بأنه يرفع حكم الزوجية رفعا متزلزلا يستقر بانقضاء العدة ، أقوى من القول بأن خروج العدة تمام السبب في زوال الزوجية ، فيكون النكاح الأول باقيا متزلزلا يزول بانقضائها ، لأن فيه شائبة التناقض ، فان مقتضى الطلاق كما علم زواله ، فكيف يكون بعده باقيا مستتبعا لبقاء حكم الزوجية.

قال الشهيد في شرح الإرشاد : الفراق ازالة قيد النكاح بسبب شرعي ، ويدخل فيه الطلاق ، وهو ازالة قيد النكاح بصيغة طالق من غير عوض.

والخلع : وهو ازالة قيد النكاح بعوض ، بشرط كراهية الزوجة.


والمبارأة : وهي إزالة قيد النكاح بعوض مع كراهة الزوجين.

واللعان : وهو ازالة قيد النكاح بسبب الشهادات المخصوصة.

أقول : فكل ذلك مشترك في إزالة قيد النكاح ، ولا يقول أحد في غير الطلاق ان النكاح باق بعد ازالة قيده ولا الزوجية فما بال قوم يقولون في الطلاق الذي هو أيضا إزالة قيد النكاح انه باق بعده ، وكذا الزوجية.

وتفصيله : ان ازالة قيد النكاح لما كانت مشتركة بين الكل ، فمقتضاها ـ وهو زوال النكاح والزوجية ـ كان أيضا مشتركا بين الكل.

وذلك لان المقتضي تابع للمقتضى اشتراكا واختصاصا ، فإذا لا بد من القول بزوال النكاح والزوجية في الطلاق أيضا ، إذ لا يفهم من زوال قيد النكاح إلا زوال النكاح ، لأن إضافته إليه إضافة اللجين الى الماء.

وعلى احتمال كون الإضافة بيانية ، كان المعنى بحاله ، فزواله زواله.

فالقول ببقائه بعد الطلاق قول ببقاء الشي‌ء بعد زواله ورفعه ، وهو قول سوفسطائي ، لأن رفع كل شي‌ء نقيضه ، فبعد عروضه لمعروضه لا يبقى منه عين ولا أثر ، كالسواد العارض لمعروض البياض.

ومعلوم أن بعد زوال النكاح لا تبقى الزوجية ولا حكمها ، لأنها تابعة له ، فزواله زوالها ، كما أن بقاءه بقاؤها.

وبالجملة بقاء الزوجية بعد الطلاق ملزوم لبقاء النكاح الأول ، وقد جعل الطلاق مزيلا له ، فيلزم منه أن يكون مزيلا له وغير مزيل.

وبعضهم بعد أن صرح بأنه قد أزال قيد النكاح ، صرح بأنه باق بعده ، فلما أشعر بما قلناه ورام دفعه أخذ يقول تارة ان الطلاق ازالة قيد النكاح بالفعل وصيره بالقوة. واخرى أنه لم يزله رأسا ، وأخرى أن أثر النكاح الأول لم يزل بالكلية بل يتوقف على انقضاء العدة.


ثم بعد ذلك كله يقول : ان النكاح الأول باق غايته أنه متزلزل واستدامته غير ممتنعة ، الى غير ذلك من التكلفات المشعرة باضطرابه في توجيه القول الثاني من القولين المذكورين.

ثم قال : ويؤيد الأول تحريم وطئها بغير الرجعة ، ووجوب المهر بوطئها على قول ، وتحريمها به إذا أكمل العدة.

ويؤيد الثاني عدم وجوب الحد بوطئها ، ووقوع الظهار واللعان والإيلاء بها ، وجواز تغسيل الزوج لها وبالعكس ، فهي بمنزلة الزوجة.

أقول : لا تأييد فيه ، أما في الأول فلان وطئها وان لم يقصد به الرجوع رجوع ومنه يعلم أنه لم يجب به عليه حد ، نعم وطئها بقصد عدم الرجعة مع تذكره وعلمه بأن الطلاق قد رفع حكم الزوجية ، يوجب عليه الحد.

ومنه يعلم ما في هذا التأييد من شبه المصادرة ، فإن من يقول بأن الطلاق يرفع حكم الزوجية لا يقول بعدم وجوب الحد عليه بوطئها بقصد عدم الرجعة.

وأما في الثاني ، فلان رفع حكم الزوجية لما كان متزلزلا يمكنه رفعه بالمراجعة في العدة ، صح منه الظهار والإيلاء واللعان ، فمناط وقوعها في العدة هو كون رفع حكمها متزلزلا ، لإبقاء الزوجية والنكاح متزلزلا ، فإنه سفسطة كما سبقت.

وأما في الثالث ، فلان جواز التفصيل من الطرفين لعل الوجه فيه أنه غير مشروط ببقاء الزوجية إلى الموت ، بل يكفي فيه بقاء المدة التي يجوز فيها الرجوع وذلك كإرث الزوجة ، فإنه أيضا غير مشروط ببقاء الزوجية إلى الموت ، بل قد ترث وان ارتفعت الزوجية ، كما في المريض يطلق في مرض الموت ، فان زوجته المطلقة ترثه ما لم تخرج السنة ، أو يبرأ من مرضه أو تزوج.

والظاهر أن هذه الثلاثة وما شاكلها ، كجواز الرجوع في العدة من فوائد


الطلاق الرجعي ، ولا دلالة فيها ولا تأييد لبقاء النكاح والزوجية بعد الطلاق.

على أن كونها بمنزلة الزوجة لا يضرنا فيما نحن بصدده ، إذ الطلاق لما أزال النكاح بالفعل وذهب بعينه بالكلية ، وان لم يذهب بأثره كذلك ، بل جعله بالقوة المحضة ، كما هو المفهوم من كلماته المنقولة آنفا.

فحينئذ نقول : لا نسلم أنه لا يجوز النكاح المنقطع على من هي بمنزلة الزوجية الكذائية ، أي بالقوة ، فإن القدر المسلم انما هو عدم جوازه على الزوجة الدائمة ما دامت زوجة دائمة بالفعل.

فإذا خرجت عن حبالته بالفعل وصارت زوجة بالقوة ، فلا نسلم عدم جوازه عليها ، بل لا بد لنفيه من دليل ، فان جواز استدامته بالرجوع لا ينافي جواز الانقطاع بعدم الرجوع ، فله أن لا يرجع ونجعله منقطعا في زمن العدة كما له في ذلك الزمان أن يرجع ونجعله مستداما.

بل نقول : عامة النساء زوجة لعامة الرجال بالقوة على تفاوت مراتب القوة فقولهم ان الطلاق أزال قيد النكاح بالفعل وجعله بالقوة ، والرجعة سبب فاعل لحصوله بالفعل لا يضرنا.

إذ الطلاق لما أزال فعليته وجعله بالقوة ، فكما جاز أن تكون الرجعة سببا فاعلا لحصوله بالفعل ، جاز أن تكون غيرها كالنكاح المنقطع كذلك ، أي : سببا فاعلا لحصوله بالفعل.

والمحل كما هو قابل للأثر من الفاعل الأول ، وهو حصوله بالفعل وصيرورتها دائمة ، كذلك قابل للأثر من الفاعل الثاني ، وهو حصوله بالفعل وصيرورتها منقطعة.

وتوهم أن ذلك المحل لما كان قابلا للنكاح الدائم وكانت فيه قوة ، لم يكن قابلا للنكاح المنقطع ، ولم تكن فيه قوته. فاسد ، فان ذلك المحل بعد وقوع


الطلاق وخروجه من صرافة الفعل الى محوضة القوة ، صار كالمادة الاولى القابلة للصورتين على البدل ، فأيتهما سبقت الأخرى وحلت فيها قبلتها من غير مائز ، فمن ادعاه فعليه البيان.

وبالجملة فبعد رفع المانع ، وهو فعلية النكاح الدائم يؤثر المقتضي على وقف مقتضاه ، أن دائما فدائم ، وان منقطعا فمنقطع.

ثم لا يذهب عليك أن ما جعله مؤيدا ثالثا للقول الأول دليل واضح عليه ، إذ لا وجه لتحريمها بإكمال العدة على القول ببقاء النكاح الأول وعدم زوال الزوجية بعد الطلاق.

والقول بأن الطلاق الرجعي ناقص في إزالة قيد النكاح والزوجية ، وانما يصير تماما بخروج العدة ، سخيف يلزم منه الفرق من غير فارق بين طلاق وطلاق وعدة وعدة.

فان غير الرجعي من طلاق سبب تام في إزالة قيد النكاح والزوجية من غير مدخل فيه لخروج ، فليكن الرجعي منه أيضا كذلك تحقيقا وتحصيلا للعدة لمفهوم الطلاق ، والا فما الفارق؟ وبم صار هذا الطلاق ناقصا في مفهومه مستضعفا في أثره.

وكذا لا وجه لتحريم وطئها بغير الرجعة سوى زوال النكاح الأول بالطلاق ، ورفع حكم الزوجية به ، فهو أيضا دليل واضح عليه ، فلا وجه لجعله مؤيدا له ، وكذا وجوب المهر بوطئها.

والعجب من هذا القائل في هذا الموضع بأن وطئها بغير الرجعة يوجب عليه مهر المثل ، لظهور أنها بانت بالطلاق ، إذ ليس هناك سبب غيره ، وهنا نسب وجوبه الى قول وجعله مؤيدة للقول برفع حكم الزوجية ، وهو دليل واضح عليه.


أقول : وكذا عرفوا الرجعة بأنها رد نكاح زال بطلاق بملك الزوج رفعه في العدة ، وهذا كسابقه صريح في أنه يزيله ويرفعه رأسا ، وبعد زواله يزول حكم الزوجية لأنها تابعة له ، فإذا زال زالت.

وأما قولهم ان النكاح لو زال لكان العائد بالرجعة ، أما الأول وهو يستلزم اعادة المعدوم ، أو غيره وهو منتف ، والا لتوقف على رضاها فالنكاح الأول باق.

ففيه أن القائل بزوال النكاح الأول لا يقول انه لا يعود بالرجعة ليلزم منه اعادة المعدوم ، بل يقول : ان الرجعة نكاح مبتدأ ، ولا يتوقف على رضاها ، لان رفع حكم الزوجية لما كان متزلزلا يستقر بانقضاء العدة ، فما لم تنقض لم يستقر ، بل يمكن رفعه بالرجعة ، فلا تتوقف على رضاها لعدم اختيارها وقتئذ ، وانما تصير مختارة بعد انقضائها.

وحينئذ لو تجدد نكاح يتوقف على رضاها ، وأما قبل ذلك فلا. نعم لها قبله اختيار بالنسبة الى غير النكاح ، كالنكاح المنقطع ، فيتوقف صحته على رضاها.

على أن هذا الدليل مبني على امتناع اعادة المعدوم ، وذلك لم يثبت ، بل ظاهر بعض الاخبار والآثار يدل على إمكانها.

ثم أقول : ان الطلاق الخلعي يزيل النكاح وأثره بالكلية ، ويزول أحكام الزوجية بالمرة ، وهو اتفاقي ، ثم انها ان رجعت في البذل في العدة صار الطلاق رجعيا والعدة رجعية ، فلو لزم بقاء النكاح والزوجية فيها ، للزم هنا أيضا مع زوالهما وهو يستلزم اعادة المعدوم ان كان العائد برجوعها في البذل في العدة هو النكاح الأول.

وبتقرير آخر : أن العائد بصيرورة الخلعي يكون رجعيا بعد رجوعها في البذل ، أما الأول وهو يستلزم اعادة المعدوم أو غيره وهو منتف ، والا لتوقف على رضاها بل على رضاهما.


اللهم الا أن يقال : ان رجوعها في البذل ما دامت في العدة بمنزلة النكاح مبتدأ متزلزل ، يستقر برجوعه فيها ، فان لم يرجع حتى انقضت العدة بطل هذا النكاح ولا رجعة له بعده فتأمل.

واعلم أن القائل بأن الرجعة كالعقد المستأنف لا يقول بإمكان طلاقها ثلاثا بعد الرجعة بدون الوقاع ، وانما يقوله من يقول ببقاء الزوجية ، والنكاح الأول بعد الطلاق.

ومع عزل النظر عن هذا الخلاف ، فالأولى بل الأحوط أن لا يطلقها بعد الرجعة إلا بعد الوقاع ، كما هو مذهب بعض أصحابنا ودل عليه بعض أخبارنا ، ولما كانت الرجعة نكاحا مبتدأ جاز وطؤها بنية الرجوع بغير لفظ يدل عليه.

ومنه يعلم أن استدلالهم على بقاء النكاح الأول وعدم زوال أثره بالكلية بقولهم ضعيف ، ومن ثم جاز وطؤها بنية الرجوع بغير لفظ يدل عليه ولا شي‌ء ممن (١) ليست بزوجة يجوز وطؤها ، كذلك ضعيف.

لأنها لو كانت زوجة وكان النكاح الأول باقيا لجاز وطئها بغير نية الرجوع ، بل لا معنى حينئذ للرجوع ونيته ، لكنه لا يجوز وطئها بغير نية الرجوع ، فيظهر منه أنها ليست بزوجة ، وان النكاح الأول غير باق ، وانها وان لم تكن بعد الطلاق زوجة يجوز وطيها الا أنها بالرجعة التي هي نكاح مبتدأ صارت زوجة يجوز وطئها بغير لفظ دال عليه.

هذا. ويتفرع على الخلاف المذكور مسائل :

منها : ما لو عقد عليها زوجها في زمن عدتها عقدا منقطعا ، فإنه على القول الأول صحيح دون الثاني ، ولعل الصحة أقوى كما أومأنا إليه ، إذ لا شبهة في أن الطلاق محرم للنكاح ، وبعد تحريمه فكما صح تحليله بالرجعة وتصير حينئذ مستدامة ، صح تحليله بغيرها من النكاح المنقطع ونحوها ، إذ المقصود من الرجعة هو

__________________

(١) كذا في الأصل.


الاستباحة ، وانحصار طريقها فيها غير مسلم ، بل لها طرق أخر.

وبالجملة ينفسخ النكاح بالطلاق وان كان رجعيا ، لأن فائدة الرجعي جواز الرجوع فيه ، لإبقاء النكاح والزوجية ، والا لم تبن بانقضاء العدة.

فإذا انفسخ النكاح بالطلاق وصار مرتفعا في زمان العدة ورفع حكم الزوجية وصارت أجنبية في ذلك الزمان وحرم عليه وطئها فيه ، وحصلت الحيلولة بينهما فله أن يستبيح وطئها ، ويستحل فرجها بأي طريق شاء من الطرق المبيحة المحللة بالرجعة ، أو بالعقد ، أو بالاشتراء ، أو الاستحلال ، ان كانت زوجته المطلقة أمة غيره.

نعم تأخير العقد عليها الى أو ان انقضاء العدة لتصير صحته خارجة عن الخلاف لعله الأولى أو الأحوط لو سلم ذلك لهم.

وأما أنه لو عقد عليها قبل ذلك ، كان عقده هذا باطلا يحتاج الى تجديده بعد الانقضاء ، أو تصير الزوجة المطلقة بوطئها بعد ذلك العقد دائمة لكونه راجعة ، الى غير ذلك من الاحكام ، كالتوارث ، ووجوب النفقة والقسمة وغيرها ، فلا ، بل يجري عليها أحكام العقد المنقطع.

هذا ومما قررناه يستبين أن لا مانع على القول الأول أن يقول في حضور العدلين طلقتك ، ثم يقول بعده برضاها : متعتك. بل على القول الثاني أيضا لا مانع منه على بعض الوجوه التي أشرنا اليه ، والله تعالى يعلم.

ثم أقول : ومن المسائل المتفرعة على الخلاف المذكور ما لو طلقها رجعية فارتدت ، فان جعلنا الرجعة نكاحا مبتدأ لم تصح كما لا يصح ابتداء الزوجية ، بخلاف ما لو قلنا انها استدامة وازالة لما كان طرأ عليه من السبب الذي لم يتم ، فإنها تصح على هذا القول ، وقد عرفت قوة الأول.

واحتج على عدم الصحة أيضا بأن الرجوع تمسك بعصم الكوافر ، وهو


منهي عنه ، وان الرجعة إثبات لما صار بالقوة بالفعل ، إذ الطلاق أزال قيد النكاح بالفعل ، والرجعة سبب فاعل لحصوله بالفعل فكان كالمبتدإ.

وشرط تحقق الأثر من الفاعل قبول المحل ، وبالارتداد زال القبول ، وبأن المقصود من الرجعة الاستباحة ، وهذه الرجعة لا تفيد الإباحة ، فإنه لا يجوز الاستمتاع بها ولا الخلوة معها ما دامت مرتدة.

ويتفرع على ذلك أيضا ما لو طلق المرتدة في زمن العدة ، فإن جعلنا النكاح مرتفعا زمن العدة لم يقع بالأجنبية والا وقع.

ومنها : ما لو كانت عنده ذمية فطلقها رجعيا ، ثم راجعها في العدة ، فعلى القول بأن الرجعة كالعقد المستأنف لا تجوز ، وعلى القول بأنها لم تخرج عن زوجيته فهي كالمستدامة جازت ، وقد سبق الكلام مفصلا.

وقد بلغني بواسطة أظنها صادقة حاكية عن بعض الطلبة أن بعض معاصريه الذين كانوا من قبل زمانه هذا ، وسماهم فلانا وفلانا ، وظني أنهم لم يكونوا بالغي درجة الاجتهاد ، ولا لهم قوة تصرف في المسائل الاجتهادية ، كانوا يمنعون الناس عن ذلك ويحكمون بالبطلان (١).

والظاهر أن ذلك منهم كان بمحض تقليدهم بعض متأخري أصحابنا ، فإن ظاهرهم حيث قالوا ببقاء الزوجية ما دامت في العدة ، وعدم زوال أثر النكاح الأول بالكلية المنع من النكاح المنقطع قبل انقضاء العدة.

ولكن هذا لو صح فإنما يصح من أهله ، لا ممن لا يعرف الهر من البر ، كأكثر أهل دهرنا هذا ، فإنهم يفتون الناس مشافهة ومكاتبة ، وبينهم وبين درجة الاجتهاد بعد المشرقين أو أكثر ، وانما يأخذون ما يفتون من غير مأخذه من أفواه الرجال ، أو ما يجدونه مكتوبا في بعض الكتب.

__________________

(١) أي : عن العقد المنقطع في زمان الغدة.


وقل ما يكون فيهم من يستطيع الرجوع الى كتاب فقهي ، بل لا علم له بما فيه ولا بمدركه ومأخذه ، ولا بصحته وسقمه ، وانما يقول ما يقول من مقولة الرجم بالغيب.

وبهذه الأهواء المضلة يضلون ويضلون ولا يهتدون ، فذرهم في غمرتهم يعمهون حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون.

فإن المروي عن سيدنا أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام أنه قال : لا تحل الفتيا لمن لا يستغني (١) من الله بصفاء سره وإخلاص عمله وعلانيته وبرهان من ربه في كل حال ، لان من أفتى فقد حكم ، والحكم لا يصح الا بإذن من الله وبرهان. ومن حكم بالخبر بلا معاينة فهو جاهل مأخوذ بجهله ومأثوم بحكمه (٢).

ونحن نشرح هذا الحديث بهذا التقريب لتكون فائدته أتم ، والحجة على هؤلاء الغاغة أقوم.

فنقول : الفتيا بالياء وضم الفاء ، والفتوى بالواو وفتح الفاء ، ما أفتى به الفقيه.

وفيه دلالة على أن صفاء السر والعلانية وإخلاص العمل علة موجبة لان يفيض من الله عز اسمه على المفتي ما يغنيه في باب الإفتاء عن غيره تعالى ، بأن يعطيه الله من فضل رحمته قوة يتمكن بها من رد الفرع إلى أصولها واستنباطها منها.

وهذه القوة هي العمدة في هذا الباب ، والا فتحصيل مقدمات الاجتهاد كما قيل قد صار في هذه الأزمان لكثرة ما حققه العلماء والفقهاء فيها وفي بيان استعمالها سهلا.

__________________

(١) في المصباح : لا يصطفي.

(٢) مصباح الشريعة ص ١٦.


وهذه القوة بيد الله يؤتيها من يشاء من عباده ، بشرط ما سبق من صفاء سريرته وعلانيته ، وإخلاص عمله ونيته.

ويؤيده ما ورد في الخبر عن سيد البشر : ليس العلم بكثرة التعلم ، انما هو نور يقذفه الله في قلب من يريد أن يهديه.

وفي خبر آخر : من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه.

وفي آخر : العلم نور وضياء يقذفه الله في قلوب أوليائه وينطق به لسانهم.

وفي آخر : ما من عبد الا ولقلبه عينان ، وهما غيب يدرك بهما الغيب ، فإذا أراد الله بعبد خيرا فتح عيني قلبه ، فيرى ما هو غائب عن بصره.

وفي آخر : النور إذا دخل في القلب انشرح وانفسح ، قيل : يا رسول الله هل ذلك من علامة؟ قال : نعم التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله.

ويظهر منها ومما شاكلها أن العلم للعالم انما يحصل من الله جل ذكره إذا تبتل اليه تبتيلا ، واتخذ بالذكر والفكر اليه سبيلا ، على قدر صفائه وقبوله وقوته واستعداده.

ولا يحصل الا بعد فراغ القلب وصفاء الباطن وتخليته عن الرذائل ، خاصة عن رذيلة الدنيا وحبها وزهراتها وزخارفها ، فإنها رأس كل رذيلة ، والمانع من كل حصول الاجتهادية وغيرها ، مع تقارب المدارك منها مما يتنازع فيه الخصمان لمصالح المعاش وغالب الأحكام إلزام.

فبالانشاء تخرج الفتوى لأنها اخبار ، وبتقارب المدارك في المسائل الاجتهادية يخرج ما يضعف مدركه جدا ، كالعول والتعصيب وقتل المسلم بالكافر ، فإنه لو حكم به حاكم وجب نقضه ، وبمصالح المعاش تخرج العبادات ، فإنه لا مدخل


للحكم فيها ، فلو حكم به حاكم بصحة صلاة زيد مثلا يلزم صحتها ، بل ان كانت صحيحة في نفس الأمر فذاك ، والا فهي فاسدة.

وكذا الحكم بأن مال التجارة لا زكاة فيها ، وان الميراث لا خمس فيه ، فان الحكم فيه لا يرفع الخلاف ، بل لحاكم غيره أن يخالفه في ذلك.

نعم لو اتصل بها أخذ الحاكم ممن حكم عليه بالوجوب مثلا لم يجز نقضه ، فالحكم المجرد عن اتصال الأخذ اخبار كالفتوى ، وأخذه للفقراء حكم باستحقاقهم فلا ينقض إذا كان في محل الاجتهاد.

هذا ولعل المراد بالمعاينة غلبة ظنه بأن الحكم الفلاني يستنبط منه بعد استعماله شرائط الاستنباط كأنه يعاينه ، لا القطع واليقين ، فان ذلك مشكل في كثير من الاحكام.

وكذا المراد بمعرفة الاحكام في قولهم عليهم‌السلام : انظروا الى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا ، فاجعلوه بينكم حاكما هو غلبه ظنه بأن تلك الاحكام تستنبط من أخبارهم وآثارهم ، لا العلم واليقين بذلك.

فان الاستنباط هو الاستخراج بالاجتهاد المشار اليه بقوله تعالى ( لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) (١) لا يفيد الجزم ، وفي كثير من الاخبار دلالة على جواز استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية ، منها حديث من انقطع ظفره وجعل عليه مرارة كيف يصنع بالوضوء؟ فقال عليه‌السلام : تعرف هذا وأشباهه من كتاب الله ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (٢).

وفيه أيضا دلالة على جواز العمل بالظواهر القرآنية ، والمرارة في الأصل

__________________

(١) سورة النساء : ٨٣.

(٢) سورة الحج : ٧٨ ، وسائل الشيعة ١ / ٣٢٧ ، ح ٥.


هي التي تجمع المرة الصفراء معلقة مع الكبد ، كالكيس فيها ماء أخضر ، والمراد بها هنا الكيس ونحوه مما ينجبر به المكسور أو المقطوع.

فدل الخبر الذي نحن فيه وغيره مما سبق على أن الامام عليه‌السلام إذا كان غائبا عن شيعته ، فلهم أن يتفقهوا في الدين بالنظر فيما روي عنه ، ثم يحكموا بين المسلمين بما فهموا منه ، بشرط أن يكون الحاكم فيهم على صفاء في سريرته ، وطهارة في علانيته ، وإخلاص في عمله ونيته ، وجودة في قريحته ، ودقة في بصيرته.

وأن يكون له في حكمه في كل حال برهان وحجة من الله واذن ورخصة منه ، فمن ليس له ذلك فلا يجوز له الرئاسة في الدين والحكم والإفتاء في المسلمين.

وعلى هذا الخبر انما يكون حجة للحاكم إذا حصل له منه ظن غالب على حكم يحكم به ، والا فهو جاهل به ، والفتوى انما هي من وظائف العالم به ، ولذا لا عذر له في جهله ، بل هو مأخوذ به ومأثوم بحكمه.

ويستفاد منه أيضا أن الناس في هذا الزمان ، وهو زمان الغيبة والحيرة صنفان : مجتهد ويجب عليه الاتصاف بما نطق به الخبر ، ومقلد ويجب عليه السعي إلى معرفة يصير بالتفقه والنظر ، ليأخذ عنه ما عن الامام رواه بعد معرفته بمعناه.

لقوله عليه‌السلام : وعرف أحكامنا ، بعد أن قال : قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا ، فجعل معرفة الاحكام والنظر في الحلال والحرام شرطا في جواز حكمه ووجوب اتباعه ، كما تدل عليه تتمة الخبر.

وصلى الله على محمد وآله سادات البشر ما تبزغ الشمس ويطلع القمر.

وتم استنساخ وتصحيح هذه الرسالة في (٩) رجب الأصب سنة (١٤١١) هـ ق في بلدة قم المقدسة على يد العبد السيد مهدي الرجائي عفي عنه.



سلسلة آثار المحقق الخاجوئى

(٤٧)

رسالة

في شرح حديث لسان القاضي

بين جمرتين من نار

للعلّامة المحقّق العارف

محمّد إسماعيل بن الحسين بن محمّد رضا المازندراني الخاجوئي

المتوفّى سنة ١١٧٣ ه‍ ق

تحقيق

السيّد مهدي الرّجائي



بسم الله الرّحمن الرّحيم

في التهذيب في باب الزيادات في القضايا والاحكام ، عن أنس بن مالك عن سيد الأنام عليه وعلى آله الصلاة والسلام ، قال : لسان القاضي بين جمرتين من نار حتى يقضي بين الناس ، فاما الى الجنة واما الى النار (١).

قال صاحب البحار عليه رحمة الله الملك الغفار في حاشية له عليه : كان المراد من الجمرتين الميل الى كل من الخصمين ، فان لم يمل الى واحد منهما فإلى الجنة ، والا فإلى النار (٢).

ولا يخفى على ذوي الابصار أن ارادة الميل من الجمرة بعيدة ، إذ لا قرينة هنا ولا علاقة بينهما ، ولا طريق للانتقال منها اليه ، ولا وجه لتشبيهه بها وإطلاقها عليه ، بل هو من قبيل إطلاق آسمان وارادة ريسمان ، بل هو أبعد مما بينهما.

إذ لو كان المراد من الجمرتين الميل الى كل من الخصمين لكان الواجب أن يقول : حتى يقضي بين الخصمين لا بين الناس ، إذ لا معنى له أصلا ، وسيما إذا

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٦ / ٢٩٢ ، ح ١٥.

(٢) ملاذ الأخيار ١٠ / ١٨٩.


كانت « حتى » هذه لانتهاء الغاية.

وبالجملة فإنه مع بعده مما لا محصل له بحسب المعنى ، وارادة الخصمين من الناس من أبعد الأباعد.

ومثله ما أفاده والده الماجد قدس‌سرهما في حاشية له عليه ، حيث قال : أي النفس والشيطان في إغوائه ، فلما كانا سببين للنار أطلقت عليهما ، والملائكة في هدايته ، فاما أن يقبل قول الملائكة فيذهب الجنة ، وأما أن يتبع الشيطان فيذهب الى النار.

فإن استفادة كون الملائكة في هدايته من الحديث ، وارادة النفس والشيطان من الجمرتين كأنهما متعذرتان ، إذ لا قرينة على الأول ولا وجه للثاني ، وكان عليه أن يذكر له وجها ، كما ذكر لإطلاق النار عليهما.

وتوجيهه بأنهما لما استحقا لسوء صنيعتهما أن يرميا بالجمار أطلقت الجمرة عليهما ، بعيد.

ثم ظاهر ما أفاده يفيد أن يكون لسانه بينهما وبين الملائكة في الهداية والغواية ، لا أن يكون بينهما في إغوائه الى أن يقضي بين الناس ، كما هو مفاد الخبر على تقدير إرادتهما منهما.

وكأنه أراد أن يفيد معنى قوله « فاما الى الجنة واما الى النار » فزاد ما زاد ولا حاجة إليه ، فإنه على هذا يكون معناه : لسانه بينهما في إغوائه حتى يقضي بينهم ، فاما أن يخالقهما ولا يتبعهما فيه فإلى الجنة ، واما أن يوافقهما ويتبعهما فيه فإلى النار ، وحينئذ فلا حاجة الى تلك الزيادات.

أقول : ولو بنى الأمر على أمثال هذه الاحتمالات ، لاحتمل أن يكون المراد من الجمرتين أخذ الرشوة من كل من الخصمين ، فان لم يأخذ من واحد منهما فإلى الجنة ، والا فإلى النار.


وكما يجوز أن لا يأخذ الرشوة ويميل الى كل منهما ، كذلك يجوز أن يأخذها ولا يميل الى واحد منهما ، وحينئذ فلا ترجيح لهذا الاحتمال على هذا الاحتمال ، فتأمل.

أو المراد بهما أخذ الرشوة والتقصير في الاجتهاد الموجب للخطإ في الحكم ، فان لم يأخذ ولم يقصر فإلى الجنة ، والا فإلى النار.

أو المراد منهما الخصمان ، و « حتى » تعليلية ، وفي الكلام تشبيه واستعارة تمثيلية شبه الهيئة المنتزعة من القاضي ورده السلام ، والكلام عليهما ، أو رميه النظر إليهما ، تارة الى هذا واخرى الى ذلك بالهيئة المنتزعة من الناسك ، ورميه الحصاة على الجمرتين تارة على هذه واخرى على تلك.

والمعنى : أن القاضي لانه يقضي بين الناس لسانه بين خصمين منهم يكلمهما ويباحثهما في مباحثهما ، فاما أن يميل بقضائه بينهما بالحق إلى الجنة ، واما أن يميل بقضائه بينهما بالجور الى النار. ولما كان كل من المذكورات سببا للنار أطلقت عليه.

وهنا احتمالات أخر كلها كهذه الاحتمالات بعيدة.

والتحقيق أن كل قاض بما هو قاض لا يخلو من أن يكون جاهلا بالحق ، أو عالما به ، والعالم لا يخلو من أن يحكم على خلاف علمه لغرض نفساني ، أو على وفاقه. والأولان وهو الحكم جاهلا بالحق سواء وافقه حكمه أو خالفه ، وعالما به مع مخالفته مقتضاه يفضيان الى النار. والثالث وهو الحكم عالما بالحق مع موافقته له يوجب الجنة.

واليه يشير قول سيدنا أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام القضاة أربعة : ثلاثة في النار وواحد في الجنة ، رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بحق وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى


بالحق وهو يعلم فهو في الجنة (١).

والوجه في كون ثالث الثلاثة في النار وقضاءه بالحق ، ان من قضى بغير علم فقضاؤه هذا وان وافق الحق فهو جور لعدم العلم ، فالمراد بجمرتين من نار هو الحكمان المفضيان إليها ، فإن لسان القاضي بينهما الى أن يقضي بين الناس ، فان قضى بينهم بالحق فإلى الجنة ، فان لم يقض بينهم بواحد منهما فإلى الجنة ، والا فإلى النار.

والإيراد على هذا الوجه ما أوردناه على الوجوه السابقة ، فإن لسان القاضي يشهد له ، فإنه يكون بين الحكمين ، ولا يكون بين الميلين ، ولا بين النفس والشيطان ، ولا بين غيرها مما سبق الا بين الخصمين.

الا أن في هذا الوجه تكلف من وجه آخر ، وهو جعل « حتى » تعليلية ، فإنه خلاف الظاهر ، تأمل.

ويحتمل أن يكون هذا اخبارا عن حال القاضي بالجور وما يفعل به يوم القيامة ، بان لسانه فيه بين جمرتين من نار حتى يحكم الله بين الناس ، ويفرغ من حسابهم ، فاما أن يأمر باذهابه إلى الجنة ، واما أن يأمر باذهابه الى النار ، و « حتى » لانتهاء الغاية ، و « يقضي » على بناء المفعول ، والكلام محمول على الحقيقة.

فلا يرد أن القاضي بالحق وهو يعلم أنه حق لا يكون لسانه يوم القيامة بين جمرتين من نار ، لان هذا كما أشرنا إليه مخصوص بغيره ، وهو القاضي بالجور ، وتكون اللام في القاضي للعهد ، فلا عموم فلا تخصيص.

أو يقال : لما كان أغلب أفراد القاضي جائرا معذبا بهذا النوع من العذاب ، أطلق الحكم وجعله كليا ، تغليبا للأكثر على الأقل ، لأن القاضي كما سبق أربعة : ثلاثة في النار ، وواحد في الجنة ، وهو مع ذلك فرد نادر.

__________________

(١) الخصال ص ٢٤٧ ، برقم : ١٠٨.


وظني أن هذا الوجه من أسلم الوجوه ، إذ ليس فيه الا التخصيص على الاحتمال الأول ، ولا بأس به لما اشتهر بين الطلبة ما من عام الا وقد خص حتى هذا.

وأما الوجوه السالفة ، فجلها بل كلها مبني على ارادة خلاف الظاهر ، وإرادته بدون نصب قرينة ليست من دأب الفصحاء ، فمجرد الاحتمال لا يكفي في الإرادة ، الا أن يمنع من الحمل على الظاهر مانع ، وهو هنا مفقود ، فتأمل.

وتم استنساخ وتصحيح هذه الرسالة في (١٠) رجب المبارك سنة (١٤١١) هـ ق في بلدة قم المقدسة على يد العبد السيد مهدي الرجائي عفي عنه.



سلسلة آثار المحقق الخاجوئى

(٤٨)

رسالة

في إرث الزوجة

للعلامة المحقق العارف

محمد إسماعيل بن الحسين بن محمد رضا المازندراني الخاجوئى

المتوفّى سنة ١١٧٣ ه‍ ق

تحقيق

السيد مهدي الرجائي



بسم الله الرّحمن الرّحيم

بعد حمد من هو وارث السماوات والأرض ، والصلاة على من الصلاة عليه وآله عين الفرض.

يقول العبد الواثق بتأييد ربه الجليل محمد بن الحسين بن محمد رضا المشتهر بإسماعيل : هذه رسالة وجيزة في بيان ما استقر عليه رأينا من إرث الأزواج مطلقا من أزواجهن ، مرتبة على مقدمة وفصول أربعة وخاتمة.

المقدمة

[ جواز تخصيص العام ]

قد تقرر في محله جواز تخصيص العام القطعي المتن إذا كان ظني الدلالة ، بالخاص الظني المتن إذا كان قطعي الدلالة ، لأنه دليل شرعي عارض مثله ، وفي العمل به جمع بين الدليلين.

ولا ريب في أنه أولى من إبطال أحدهما بالكلية ، ومن التوقف في البين.


والحاصل أن كلا منهما له قوة من وجه ، فإذا تعارضا وجب الجمع بينهما ولو من وجه ، ولا يمكن ذلك الا مع العمل بالخاص ، إذ العمل بالعام يلغي الخاص ويبطله ، ولا شك في أن اعمال الدليلين خير من إلغاء أحدهما رأسا.

لا يقال : كل منهما لما كان قطعيا من وجه وظنيا من آخر ، فإذا تعارضا وجب التوقف لفقد الترجيح.

لأنا نقول : الترجيح في جانب العمل بالخاص ، فان فيه جمعا بينهما ، وأما العمل بالعام ففيه إبطال للخاص ، والجمع كما سبق أولى من الابطال.

لا يقال : غاية ما يقتضيه الدليل المذكور تساويهما في القوة والضعف ، والمتساويان فيهما لا يغير أحدهما الأخر ، فكيف صار الخاص يغير العام عن عمومه حتى جعله مثله خاصا؟ وهذا يقتضي كونه أقوى منه ، وهو خلاف المقدر.

لأنا نقول : لا كلام في أنهما متساويان فيهما ، ولكن نقول : ترك العمل بهما يوجب إلغاء الدليلين ، وكذا العمل بالعام يوجب إلغاء الخاص مع تساويهما فيهما ، فلا بد من العمل بالخاص ليكون ذلك جامعا بينهما.

فهذا وجه أعمالنا الخاص ، وذلك لا يتوقف على كونه أقوى من العام ولا يقتضيه.

وبالجملة ليس ايثارنا العمل بالخاص لكونه أقوى ، بل لكون العمل به جامعا بين الدليلين.

فما أفاده الشيخ البهائي قدس‌سره في حواشيه على زبدة الأصول ، بعد إيثاره القول بالوقف بقوله : وقد يقال هذا الدليل بعد تمامه يقتضي تساويهما ، وهو منظور القائل بالوقف.

فان المساوي لا يقدر على أضعاف مساويه ، ولا على تغييره على ما هو عليه ، وقد جعلتم الخاص فيما نحن فيه مغيرا للعام عن عمومه ، ومغيرا حاله عن حقيقته.


والحاصل أنكم بعد تقرير كون الواحد مساويا للكتاب في القوة والضعف جعلتموه مضعفا للكتاب ، ومغيرا حاله عن حقيقته ، مع بقائه على صرافته من غير تطرق ضعف إليه أصلا ، وهذا يقتضي كونه أقوى من الكتاب ، لأنه أضعفه وغيره من غير أن يعتريه شي‌ء من الضعف على حال من الأحوال.

محل تأمل لأن تقديمنا الخبر الواحد المساوي للكتاب عليه ، لا يقتضي كونه أقوى منه ، بل يقتضي أن يكون لتقديمه عليه وجه مطلوب ، وقد عرفت وجهه ، فتأمل.

وأما ما أفاده قدس‌سره في حاشية أخرى بقوله ، وأما ما يقال : ان الوقف يستلزم إلغاء الدليلين.

فجوابه أن المتوقفين يوجبون اعمال العام فيما لا يعارضه فيه الخاص من الافراد وانما يتوقفون فيما وقعت فيه المعارضة.

مثلا المعارضة بين ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ) (١) وبين لا تقتلوا الذمي ، انما هي في بعض أفراد المشركين الذين تضمنت الآية قتلهم ، وتضمن الحديث عدم قتلهم.

فالمتوقف يحكم بقتل من عدا الذمي ، ويتوقف في قتله ، لتعارض الآية والحديث فيه إثباتا ونفيا ، فقد أعمل العام في بعض ما يشمله لعدم ما يعارضه ، وتوقف في اعماله في الكل لوجود المعارض ، فأين إلغاء الدليلين.

ففيه أيضا نظر ، إذ لا معنى لإلغاء الدليل العام إلا إبطال عمله على وجه العموم ، ورفعه عما يقتضيه من هذا الوجه ، وقد تحقق ذلك هنا.

لان مقتضى ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ) شمول القتل جميع أفرادهم ، بحيث لا يشذ منهم شاذ ، فإذا عمل في بعض ما يشمله ، فقد ألغى عن مقتضاه الذي هو شمول

__________________

(١) سورة التوبة : ٥.


الكل من حيث هو كل ، ولا معنى لإبطاله عن العمل الا هذا.

وبالجملة كما أن رفع حكمه عن كل الأفراد إلغاء له بالكلية ، كذلك رفع حكمه عن البعض إلغاء له في الجملة. وأما اعماله في البعض ، فليس هو مما يقتضيه هو من حيث هو.

بل لا يبعد أن يقال : هذا من مقتضيات الخاص ، حيث عارض العام وخصه عن عمومه وحقيقته التي هي شمول الكل بما هو كل ، فهذا في الحقيقة عام مخصوص مرفوع عن حقيقته مصروف عن صرافته ، حيث أخرج عنه بعض أفراده ورفع عنه حكمه ، فتأمل فيه.

فان قلت : فما تقول فيما نقله قدس‌سره في متن زبدة الأصول عن الشيخ الطوسي وأتباعه ، أنهم لم يجوزوا تخصيص الكتاب بخبر الواحد.

ثم قال في الحاشية : وقد اعترض ـ أي الشيخ ـ على نفسه في كتاب العدة بأنك إذا أجزت العمل بالأخبار التي يختص بنقلها الطائفة المحقة ، فهلا أجزت العمل بها في تخصيصك عموم الكتاب؟

وأجاب طاب ثراه بأنه قد ورد عنهم عليهم‌السلام ما لا خلاف فيه من قولهم : إذا جاءكم عنا حديث فاعرضوه على كتاب الله ، فإذا وافق كتاب الله فخذوه ، وان خالفه فردوه واضربوا به عرض الحائط انتهى كلامه.

ثم قال فان قلت : كلامه منقوض بتخصيص الكتاب بالخبر المتواتر ، فقد جوزه طاب ثراه ، قلت : ذاك مما انعقد عليه الإجماع بخلاف هذا.

فان قلت : لا مخالفة بين العام والخاص ، وانما تتحقق لو رفع الحكم عن كل أفراد العام.

قلت : رفع الحكم عن البعض مخالف لإثباته للكل. وأيضا فالقصر على البعض معنى مجازي للعام مخالف لمعناه الحقيقي الذي هو شمول الكل.


وأيضا قد استدللتم على مجازية العام المخصص ، بأنه لولاها لكان حقيقة في معنيين مختلفين ، وهو معنى الاشتراك ، والمجاز خير منه ، فقد أقررتم بالمخالفة فلا تنكروها.

وأيضا فقد روى ثقة الإسلام في الكافي بسند صحيح عن الصادق عليه‌السلام : ان الحديث الذي لا يوافق القرآن فهو زخرف (١). والحاصل أن عدم موافقة الخاص لعامه أظهر من الشمس.

قلت : يرد عليهم أن ظاهر الأزواج المذكورة في آية الإرث الآتية بعيد ذلك يعم الدائمة والمنقطعة ، لأنها جمع مضاف يفيد العموم ، كما ثبت في محله ، والمنقطعة زوجة باتفاق الطائفة ، ومنهم الشيخ ومن تبعه.

وتدل عليه المنفصلة المذكورة في قوله تعالى ( إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ) (٢) وهم قد خصوها بالدائمة للروايات وليست بمتواترة فما هو جوابهم عن هذا فهو جوابنا عن ذاك.

وليس في المسألة إجماع حتى يقولوا انها خرجت به ، كما يشهد له قول الفاضل الأردبيلي رحمه‌الله في آيات أحكامه بعد نقله آية الإرث : الظاهر أنه يريد بالزوجة المعقود عليها بالعقد الدائم ، كما هو مذهب أكثر الأصحاب ، وان كان ظاهرها أعم للروايات (٣) انتهى كلامه رحمه‌الله.

ويستفاد منه أن أكثر أصحابنا يجوزون تخصيص (٤) الكتاب بخبر الواحد

__________________

(١) أصول الكافي ١ / ٦٩ ، ح ٣.

(٢) سورة المؤمنون : ٦.

(٣) زبدة البيان ص ٦٥٢.

(٤) تخصيص المتواتر بالآحاد جوزه الأكثرون ، ونفاه الأقلون ، وأما نسخة به فبالعكس ، والفرق أن التخصيص بيان وجمع للدليلين ، والنسخ إبطال ورفع « منه ».


لا خصوص العلامة وجماعة من العامة ، كما ذكره الشيخ البهائي في الزبدة ، تبعا لآخرين كشيخنا الحسن في معالم الأصول.

وانهم لا يلتفتون إلى أمثال هذه التشكيكات ، إذ لو ثبت أن بين العام وخاصه اختلافا ، بما ذكره في وجوه الاختلاف ، لزم منه أن يوجد في القرآن اختلاف كثير ، لان فيه عاما كثيرا أو خاصا له ، واللازم باطل بالإجماع ، وبآية ( لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ) (١).

وبما قررناه يندفع ما ربما يقال : ان الاخبار الآتية مخالفة لما دل عليه القرآن بظاهره ، وكل خبر مخالف له مردود ، للأخبار المستفيضة الواردة في ذلك.

ولعله كذلك قال الفاضل الأردبيلي رحمه‌الله في شرحه على الإرشاد : ان من ينظر الى ما روي عنهم عليهم‌السلام : إذا وصل إليكم منا الأخبار المختلفة ، فاعملوا بما يوافق القرآن واتركوا ما يخالفه.

يقول : بأن الزوجين يرثان كل واحد منهما صاحبه من كل ما ترك كسائر الورثة ، كما ذهب اليه ابن الجنيد ، وسيأتي إن شاء الله العزيز.

تنبيه

يستفاد من كلامه المنقول عن آيات أحكامه ميله رحمه‌الله الى القول بجواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد ، وان من لم يقل بذلك من الأصحاب أبقى الأزواج على عمومها ، وقال بالتوارث بين الزوج ومتعتها ، ورد الروايات الدالة على اختصاصه بالعقد الدائم : إما لأنها مخالفة لظاهر الكتاب ، أو غير صالحة لتخصيصه عنده ، لأنها خبر واحد لا يخصص به القرآن ، كما عليه جماعة من الأصوليين ، أو لرده الخبر الواحد مطلقا ، كما هو المنقول عن المتقدمين.

__________________

(١) سورة النساء : ٨٢.


فقول شارح اللمعة وقد تبع فيه الأخيرين : المتعة لا ترث بدون الشرط ، للأصل ، ولأن الإرث حكم شرعي ، فيتوقف ثبوته على توظيف الشارع ولم يثبت هنا ، بل الثابت خلافه ، كقول الصادق عليه‌السلام : من حدودها ـ يعني المتعة ـ أن لا ترثك ولا ترثها (١).

محل نظر ، لأن المتعة داخلة في عموم الأزواج ، فيثبت لها من الإرث ما تثبته الآية للأزواج ، فهو وظيفة شرعية ثابتة لها من قبل الشارع.

والأصل انما يصار إليه إذا لم يقم على خلافه دليل ، والخبر الواحد لا يخصص به القرآن ، أو ليس هو بحجة مطلقا عند القائل بالتوارث بينهما مطلقا كالقاضي ، أو مع عدم اشتراط عدم التوارث ، كابن أبي عقيل والسيد المرتضى ، لما عرفته آنفا وسابقا.

فالحق في تقرير هذه المسألة ما أشار إليه الفاضل الأردبيلي رحمه‌الله.

الفصل الأول

[ تحقيق حول آية الميراث ]

قوله تعالى ( وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمّا تَرَكْتُمْ ) (٢).

وان كان عاما في ثبوت الربع والثمن للزوجة من كل شي‌ء تركه زوجها ،

__________________

(١) شرح اللمعة ٥ / ٢٩٦ ـ ٢٩٧.

(٢) سورة النساء : ١٢.


كالنصف والربع له مما تركت زوجته ، لكنه خصص بالنصوص الصحيحة الصريحة ببعض ما تركه.

لا يقال : ان الآية كما أنها قطعية المتن ، فكذلك قطعية الدلالة ، لأنها نعم ذات الولد وغيرها ، وتدل على أنهما ترثان الميت من كل ما تركه.

لأنا نقول : هذا انما يرد على من قال : ان دلالة العام على العموم قطعية ، كدلالة الخاص على الخصوص.

وأما من قال بأن دلالته غير ظنية وهو الحق ، لاحتمال أن يكون المراد به هنا مثلا خصوص ذات الولد أوهما معا ، ولكن في بعض ما تركه ، غاية الأمر أنه مجاز من باب إطلاق العام وارادة الخاص.

أو من قبيل ما حذف فيه المضاف ، أي : ولبعضهن الربع ، أو ولهن الربع من بعض ما تركتم ، ولا بأس به ، لان باب المجاز واسع ، وهو في القرآن واقع.

وحينئذ فيقع التعارض بين التخصيص والمجاز ، والظاهر تساويهما ، وان ذهب بعضهم الى رجحان التخصيص.

وعليه فنقول : انه وان كان خلاف الظاهر وما يقابله الظاهر ، ولكن الظاهر لا يفيد القطع ، فدلالته عليه ظنية ، والتخصيص انما وقع في الدلالة بدليل منفصل خص إرثها ببعض ما تركه ، فلا يرد عليه ذلك.

ومما قررنا يندفع ما ربما يقال : ان مدار الاستدلال بالآيات والروايات من السلف الى الخلف على الظاهر المتبادر إلى الأذهان ، كما قد بين في أصول الأعيان حيث أنهم يمنعون أن يخاطب الحكيم تعالى بشي‌ء يريد خلاف ظاهره من دون البيان ، وإلا لزم منه الإغراء بالجهل ، لان المخاطب العام يوضع اللفظ يعتقد أنه يريد ظاهره.

فان لم يرده مع اعتقاده إرادته له ، كان ذلك إغراء له على ذلك الاعتقاد الجهل


ولأنه بالنسبة إلى خلاف ظاهره مهمل.

وذلك لأنهم عليهم‌السلام وهم تراجمة وحي الله ومهابطه ، قد بينوا أن مراد الله سبحانه من هذه الآية خلاف ظاهرها في عدة أخبار :

منها : ما رواه شيخ الطائفة في التهذيب عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن ابن أذينة ، عن زرارة وبكير وفضيل وبريد ومحمد بن مسلم.

فالسند صحيح ، لما ثبت عندنا من توثيق أبي علي إبراهيم بن هاشم القمي وفصلناه في بعض دفاترنا.

عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام ، منهم من رواه عن أبي جعفر عليه‌السلام ومنهم من رواه عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، ومنهم من رواه عن أحدهما : ان المرأة لا ترث من تركة زوجها من تربة دار أو أرض ، الا أن يقوم الطوب (١) والخشب قيمة ، فتعطى ربعها أو ثمنها ، ان كان من قيمة الطوب والجذوع والخشب (٢).

وهذا كما ترى يعم كل زوجة ، سواء كان لها من الميت ولد أم لا ، لقوله عليه‌السلام « أو ثمنها » فإنه لذات الولد.

ومثله ما في الكافي ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن حماد بن عثمان ، عن زرارة ومحمد بن مسلم ، فالسند صحيح ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : لا ترث النساء من عقار الدور شيئا ، ولكن يقوم البناء والطوب وتعطى ثمنها أو ربعها ، قال : وانما ذلك لئلا يتزوجن فيفسدن على أهل المواريث مواريثهم (٣).

__________________

(١) الطوب : الطوابيق المطبوخة من الأجر « منه ».

(٢) تهذيب الاحكام ٩ / ٢٩٧ ـ ٢٩٨ ، ح ٢٤.

(٣) فروع الكافي ٧ / ١٢٩ ، ح ٦.


وله نظائر ستأتي في تضاعيف البحث.

وبالجملة ظواهر الاخبار والتعليلات الواردة فيها ، كما سبقت وستأتي أيضا تعم ذات الولد وغيرها ، وظاهر صاحب الكافي أيضا يفيد أنه يقول بعمومها ، فإنه قال فيه : باب أن النساء لا يرثن من العقار شيئا (١).

ثم روى فيه أخبارا تدل عليه من غير تصرف منه فيها.

هذا مع التزامه في صدر الكتاب أن لا يذكر فيه الا ما يعتقده ويفتي به ، وهذا هو المعتمد ، واليه ذهب المفيد والمرتضى والشيخ في الاستبصار (٢) وابن إدريس والمحقق في النافع وغيرهم ، بل ادعى ابن إدريس عليه الإجماع.

ويدل عليه أيضا ما كتبه الرضا عليه‌السلام الى محمد بن سنان فيما كتبه من جواب مسائله : علة أن المرأة أنها لا ترث من العقار شيئا إلا قيم الطوب والنقض (٣) ، لان العقار لا يمكن تغييره وقلبه ، والمرأة قد يجوز أن ينقطع ما بينها وبينه من العصمة ويجوز تغييرها وتبديلها ، وليس الولد والوالد كذلك ، لانه لا يمكن التفصي منهما ، والمرأة يمكن الاستبدال بها ، فما يجوز أن يجي‌ء ، ويذهب كان ميراثه فيما يجوز تبديله وتغييره إذا شبههما ، وكان الثابت المقيم على حاله كمن كان مثله في الثبات والقيام (٤).

ورواه الشيخ في التهذيب (٥) ، والصدوق في الفقيه (٦) بطريق ضعيف الى

__________________

(١) فروع الكافي ٧ / ١٢٧.

(٢) الاستبصار ٤ / ١٥١.

(٣) النقض بضم النون أو كسرها أو فتحها وسكون القاف بمعنى المهدوم « منه »

(٤) عيون اخبار الرضا ٢ / ٩٨.

(٥) تهذيب الاحكام ٩ / ٣٠٠ ، ح ٣٤.

(٦) من لا يحضره الفقيه ٤ / ٣٤٨ ، ح ٥٧٤٩.


محمد بن سنان ، وان كان محمد هذا ثقة عين ، كما بيناه في بعض رسائلنا.

وما في رواية حماد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : انما جعل للمرأة قيمة الخشب والطوب لئلا تتزوج فتدخل عليهم من يفسد مواريثهم (١).

وسندها وان كان في الكافي والتهذيب ضعيفا ، الا أنه رواها الصدوق في الفقيه عن محمد بن الوليد عن حماد بن عثمان عنه عليه‌السلام (٢).

والظاهر أن محمدا هذا هو محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد ، فالسند صحيح.

وفي رواية أخرى عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام لهن قيمة الطوب والبناء والخشب والقصب ، وأما الأرض والعقارات ، فلا ميراث لهن فيه ، قال الراوي قلت : فالثياب؟ قال : الثياب لهن.

قال قلت : كيف جاز ذا لهذه الربع والثمن مسمى؟

قال : لأن المرأة ليس لها نسب ترث به ، انما هي دخيلة عليهم ، وانما صار هذا هكذا لئلا تتزوج المرأة فيجي‌ء زوجها أو ولدها من قوم آخرين فيزاحم قوما في عقارهم (٣).

فهذه وما شاكلها وسيأتي يدل على اشتراك ذات الولد وغيرها في الحرمان من غير فصل بينهما في شي‌ء من الميراث ، فينبغي أن يكون عليه مدار العمل.

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٩ / ٢٩٨ ـ ٢٩٩ ، فروع الكافي ٧ / ١٢٩ ، ح ٧.

(٢) من لا يحضره الفقيه ٤ / ٣٤٨ ، ح ٥٧٥١.

(٣) تهذيب الاحكام ٩ / ٢٩٩ ، ح ٣١.


الفصل الثاني

[ ميراث الزوجة مع الولد وبدونه ]

المشهور بين المتأخرين أن الزوجة ان كانت ذات ولد منه ورثت من كل ما تركه ، وان كانت غير ذات ولد تمنع من الأرض عينا وقيمة ، ومن آلات البناء المستدخلة ، كالأخشاب والأبواب والابنية من الأحجار والطوب وغيرها عينا لا قيم.

واستدلوا عليه بما رواه الشيخ في التهذيب ، عن محمد بن أحمد بن يحيى ، عن يعقوب بن يزيد ، عن ابن أبي عمير ، عن ابن أذينة ، في النساء إذا كان لهن ولد أعطين من الرباع (١).

وفيه أن هذا خبر موقوف (٢) مقطوع ليس بحجة ، لأن ابن أذينة أفتى به ، ولم يسنده الى أحد من الأئمة عليهم‌السلام ، ويجوز أن يكون هذا رأيه ومذهبه وان كان خطا ، وما هذا شأنه فلا يخصص به الاخبار الصحيحة.

كصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام : ان المرأة لا ترث مما ترك زوجها من القرى والدور والسلاح والدواب شيئا ، وترث من المال والفرش والثياب ومتاع البيت مما ترك ، فيقوم النقض والأبواب والجذوع والقصب ، فتعطى حقها منه ، كذا في الكافي (٣).

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٩ / ٣٠١ ، ح ٣٦.

(٢) الخبر الموقوف ما روى عن مصاحب المعصوم من قول أو فعل ، وقد يطلق عليه المقطوع أيضا ، كما هو متعارف الفقهاء « منه ».

(٣) فروع الكافي ٧ / ١٢٧ ـ ١٢٨ ، ح ٢.


وفيه عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن جميل ، عن زرارة ومحمد بن مسلم ـ فالسند صحيح ـ عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : لا ترث النساء من عقار الأرض شيئا (١).

فهذان وما سبقهما وغيرهما من الاخبار المتعلقة بهذه المسألة خالية من الفرق بين الزوجتين ذات ولد وغيرها.

والقول بأن في الفرق تقليلا لتخصيص آية الإرث للزوجة ، وهو أولى من تقليل تخصيص الاخبار. منظور فيه ، لان تخصيص الآية لازم على مذهبي الفرق وعدمه.

أما على الأول ، ففي « لهن » وأما على الثاني ، ففي « ما تركتم » مع أن مذهب الفرق يحتاج الى تخصيص عموم الاخبار أيضا ، ففيه زيادة كلفة ليست في غيره.

واعلم أن الضمير في « لهن » على مذهب الفرق لذوات الأولاد من الأزواج ومعلوم أن تخصيص الضمير مع بقاء المرجع على عمومه يجعله مجازا.

إذ وضعه على المطابقة للمرجع ، فإذا خالفه لم يكن جاريا على قانون الوضع ، وكان سبيله سبيل الاستخدام ، فان من أنواعه أن يراد بلفظ معناه الحقيقي وبضميره معناه المجازي ، وما نحن فيه منه.

إذ قد فرض ارادة العموم الشامل لذوات الأولاد وغيرهن من الأزواج المذكورة في قوله تعالى ( وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ ) وأريد من ضميرها المعنى المجازي ، أعني : ذوات الأولاد منهن.

فان قلت : نظيره يلزم على مذهب عدم الفرق أيضا ، فإن الضمير في « لهن » على هذا المذهب للدائمات منهن ، ومرجعه الأعم ، لشموله المنقطعات منهن أيضا

__________________

(١) فروع الكافي ٧ / ١٢٨ ، ح ٤.


كما سبق إليه الإيماء.

قلت : وضع المضمر لما يراد بالمرجع ، فإذا أريد بالعام الخصوص ، كما هو مذهب أكثر الأصحاب على ما سبق أيضا ، لم يكن الضمير عاما ليلزم تخصيصه وصيرورته مجازا.

فليس هناك الا مجاز واحد مشترك بين المذهبين ، بخلاف مذهب الفرق ، فان فيه مجازين باعتبار الضمير ومرجعه.

هذا على مذهب من لم يقل بالتوارث بين المتعة وزوجها. وأما من قال به وبعدم الفرق بين الزوجتين في الميراث ، فلا مجاز ولا تخصيص ، لا في الضمير ولا في مرجعه ، بل المرجع والراجع اليه على حالهما في العموم.

ثم لا يذهب عليك أن على مذهب الفرق لا يعلم ميراث غير ذات الولد من الآية ، فهذا أيضا مما يوجب وهنه ، فتأمل فيه.

لا يقال : صحيحة زرارة المتقدمة مشتملة على ما لا يقولون به ، فإن الأقوال في هذه المسألة ثلاثة :

الأول : وهو المشهور حرمانها في نفس الأرض والقرى والرباع ، كالدور والمنازل ، ومن عين الآلات والابنية دون قيمتها.

الثاني : أنه من الدور والمساكن ، دون البساتين والضياع ، وتعطى قيمة الآلات والابنية.

الثالث : حرمانها من عين الرباع لا من قيمتها.

لأنا نختار الأول من الأقوال ، ونقول : اشتمالها على تلك الزيادة لا يضرنا ، لأنا منفية بالإجماع ، والمنفي بالإجماع يسقط ، والمختلف فيه وهو عدم إرثها من البساتين والضياع ومن قيمة الرباع يثبت بما سبق ، لعدم المقتضي لنفيه.

لا يقال : ينفيه ما في التهذيب من رواية العلاء عن محمد بن مسلم ، عن أبي


عبد الله عليه‌السلام أنه قال : ترث المرأة الطوب ، ولا ترث من الرباع شيئا ، لكن لهن منها الطوب والخشب ، فقلت له : ان الناس لا يأخذون هذا ، قال : إذا ولينا ضربناهم بالسوط ، فان انتهوا ، والا ضربناهم بالسيف (١).

وهذا يدل على أنهم لا يقولون بحرمان الزوجة مطلقا من تركة زوجها مطلقا فما ورد في طريقنا موافقا لهم في ذلك كما سيأتي ، فهو محمول على التقية.

لأنا نقول : انهما مع عدم صحتهما سندا بل مع ضعف الأخير جدا ، لان يزيد الصائغ من الكذابين المشهورين ، كما يظهر مما نقل عن الفضل في ترجمة محمد ابن علي أبي سمينة ، لا دلالة فيهما على الزائد من الأرض بنفي ولا إثبات ، فإذا دلت عليه تلك الاخبار تعين القول بها لعدم المعارض.

الفصل الثالث

[ تنقيح أخبار المسألة ]

ما رواه الشيخ في التهذيب ، عن الحسين بن سعيد ، عن فضالة ، عن أبان ، عن الفضل بن عبد الملك أو ابن أبي يعفور ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل هل يرث من دار امرأته ، أو أرضها من التربة شيئا ، أو يكون في ذلك بمنزلة المرأة ، فلا يرث من ذلك شيئا؟ فقال : يرثها وترثه كل شي‌ء ترك وتركت (٢).

غير معارض لما ذكرناه من صحاح الاخبار.

أما على القول بعدم العمل بالموثق ، فظاهر.

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٩ / ٢٩٩ ، ح ٢٩.

(٢) تهذيب الاحكام ٩ / ٣٠٠ ، ح ٣٥.


وأما على القول بالعمل به ، فلان الضعيف لا يقاوم القوي ، وخاصة إذا كان القوي موافقا لإجماعهم ، والضعيف مخالفا له ، وذلك أنهم اتفقوا الا ابن الجنيد على حرمان الزوجة في الجملة من شي‌ء من أعيان التركة.

وأما ابن الجنيد ، فإنه خالفهم في ذلك وحكم بإرثها من كل ما تركه زوجها كسائر الورثة ، وتمسك في ذلك بعموم الآية وخصوص هذا الخبر ، والظاهر أنه مبني على أنه لا يقول بجواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد ، كما هو مذهب جماعة من الأصوليين ، ولكن قد استبان في كتب الأصول وهنه لضعف دليله.

واعلم أن منهم من حكم بصحة هذا الخبر ، ولعله ظن أن المراد بأبان هذا ابن تغلب ، وهو بعيد ، فإنه قد مات في حياة سيدنا أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام ، وفضالة بن أيوب من رواة الكاظم والرضا عليهما‌السلام ، فهو لم يلق ابن تغلب ، فكيف يروي عنه؟

فالحق أن المراد به ابن عثمان الأحمر الناووسي من رواة الصادق والكاظم عليهما‌السلام ، فرواية ابن أيوب عنه غير بعيد ، ولكن السند كما قلناه موثق لا صحيح.

نعم هو كالصحيح ، لأن أبان بن عثمان ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه. والظاهر أن مرادهم بالصحة هذا ، لا ما هو المشهور من كون رجال السند في جميع الطبقات إماميا مصرحا بالتوثيق.

لا يقال : قوله تعالى ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) (١) يوجب عدم اعتبار رواية أمثال ابن عثمان ، إذ لا فسق أعظم من عدم الايمان.

لأنا نقول : الفسق هو الخروج عن طاعة الله مع اعتقاد الفاسق كذلك ، ومثل هذا ليس كذلك ، فان هذا الاعتقاد عند معتقده هو الطاعة لا غير. وفيه نظر.

__________________

(١) سورة الحجرات : ٦.


والاولى أن يقال : ان الإجماع خصصه ، فروايته مقبولة عند من يقبل الموثق إذا لم يكن في الطريق مانع من غير جهته.

وذلك أنهم اختلفوا في العمل بالموثق ، فقبله قوم مطلقا ، ورده آخرون مطلقا حيث اشترطوا في قبول الرواية الايمان والعدالة. وفصل ثالث فقبله إذا كان العمل بمضمونه مشتهرا بين الأصحاب.

والموثق فيما نحن فيه ليس كذلك ، إذ المشهور بينهم هو العمل بخلاف مضمونه ، كما سبق إليه الإيماء.

ويمكن حمله على التقية ، لأن هذه المسألة وهي حرمان الزوجة من بعض تركة زوجها من متفردات مذهب الإمامية ، كمسألة الحبوة ، وقد علم مما سبق من رواية يزيد الصائغ.

لا يقال : عبد الله بن أبي يعفور كان من خواص أصحاب أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام وحواريه ، فكيف يتقيه؟

لأنا نقول : لعله كان هناك غيره ممن يتقيه ، أو خاف الامام عليه‌السلام أن ينتشر ذلك منه في أهل الكوفة فيصيبه ، أو يصيب عبد الله هذا ما يخاف ويحذر ، فان عبد الله كان فاضلا مشهورا صاحب كتاب قارئا في مسجد الكوفة.

ألا يرى الى ما رواه الشيخ في التهذيب في الصحيح عن سلمة بن محمد ، قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ان رجلا أرمانيا مات وأوصى الي.

فقال : وما الارماني؟

قلت : نبطي من أنباط الجبال مات وأوصى الي بتركته وترك ابنته.

قال فقال لي : أعطها النصف.

قال : فأخبرت زرارة بذلك ، فقال : انما المال لها.

قال : فدخلت عليه بعد ، فقلت أصلحك الله أن أصحابنا زعموا أنك اتقيتني


فقال : لا والله ما اتقيتك ولكني اتقيت عليك ، فهل علم بذلك أحد ، قلت : لا قال : فأعطها ما بقي (١).

فبمقتضى قواعد الأصحاب حيث صرحوا بأن أحد الخبرين إذا كان مخالفا لأهل الخلاف والأخر موافقا لهم ، يرجح المخالف لاحتمال التقية في الموافق ، على ما هو المعلوم من أحوال الأئمة عليهم‌السلام.

وقد أخذوا ذلك من مقبولة عمر بن حنظلة بل صحيحته ، فان الشهيد الثاني رحمه‌الله وثقه في دراية الحديث ، قال : جعلت فداك وجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والأخر مخالفا لها ، بأي الخبرين يؤخذ؟ قال : بما يخالف العامة فإن فيه الرشاد ، وجب الأخذ بما يخالفهم.

ومن هنا ترى شيخ الطائفة يقول في كتابه العدة : إذا تساوت الروايتان في العدالة والعدد ، عمل بأبعدهما من قول العامة.

ويؤيد كونه محمولا على التقية قول الراوي « أو يكون في ذلك بمنزلة المرأة فلا يرث من ذلك شيئا » فإنه صريح في أن عدم إرثها من ذلك كان شائعا ذائعا فيهم مشهورا معروفا بينهم مسلم عندهم ، وانما كان المشتبه عليهم أمر الرجل ومساواته لها في ذلك.

فهذه الرواية في الحقيقة لنا لا علينا ، مع أنها معارضة بموثقات مثلها ، كما سيأتي.

لا يقال : هذا الخبر وان كان مخالفا لإجماعهم ، الا أنه موافق لعموم القرآن فله جهة ترجيح فليؤخذ بها.

لأنا نقول : احتمال وروده على التقية مع معارضته بموثقات مثله بمنع الأخذ به ، بل يسقط حكمه رأسا ، ويبقى ما دل عليه صحاح الاخبار سالما عن المعارض ،

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٩ / ٢٧٧ ، ح ١٤.


فيكون مخصصا لعموم الآية.

وما تمسك به جماعة من الأصوليين في عدم جواز تخصيص القرآن بخبر الواحد ، مدفوع بما ذكرناه في المقدمة ، ولنشر الى نبذة من المعارضات ، فنقول :

منها : ما رواه الشيخ عن الحسن بن محمد بن سماعة ، عن جعفر ، عن مثنى ، عن عبد الملك بن أعين ، عن أحدهما عليهم‌السلام ، قال : ليس للنساء من الدور والعقار شي‌ء (١).

ومنها : ما رواه عن الحسن بن محمد بن سماعة أيضا ، عن الحسن بن محبوب ، عن علي بن رئاب ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام : ان المرأة لا ترث مما ترك زوجها من القرى والدور والسلاح والدواب شيئا ، وترث من المال والرقيق والثياب ومتاع البيت مما ترك ، ويقوم النقض والجذوع والقصب فيعطى حقها منه (٢).

واشتمالها على زيادة لا يقولون بها لا يضر كما سبق.

ومنها : ما رواه عن علي بن الحسن بن فضال ، عن أحمد بن الحسن ، عن أبيه عن عبد الله بن المغيرة ، عن موسى بن بكر الواسطي.

فالسند موثق كسوابقه ، لا مجهول كما هو المشهور ، لان موسى هذا ممدوح مدحا كاد أن يرتقي إلى ذروة التوثيق ، كما فصلناه في رسالة معمولة لبيان تحريم تزويج المؤمنة بالمخالف.

قال قلت لزرارة : إن بكيرا حدثني عن أبي جعفر عليه‌السلام ان النساء لا ترث مما ترك زوجها من تربة دار ولا أرض الا أن يقوم البناء والجذوع والخشب ،

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٩ / ٢٩٩ ، ح ٣٠.

(٢) تهذيب الاحكام ٩ / ٢٩٩ ـ ٣٠٠ ، ح ٣٢.


فيعطى نصيبها من قيمة البناء ، فأما التربة فلا يعطى شيئا من الأرض ولا تربة دار ، قال زرارة : هذا لا شك فيه (١).

فإذا تعارضت الموثقتين تساقطتا ، وتبقى الصحاح من الاخبار الدالة على الحرمان بحالها.

ويدل عليه أيضا ما رواه يونس بن عبد الرحمن ، عن محمد بن حمران ، عن زرارة ومحمد بن مسلم.

فالسند معتبر بل صحيح ، لان الظاهر أن محمدا هذا هو ابن حمران بن أعين ، وهو من المعتبرين من أصحابنا ، كما يظهر مما ذكروه في ترجمة هشام بن الحكم ، والقرينة عليه روايته عن عمه زرارة بن أعين.

عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : النساء لا يرثن من الأرض ولا من العقار شيئا (٢).

وفي ضعيفة محمد بن مسلم قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام : ترث المرأة الطوب ولا ترث من الرباع شيئا ، قال قلت : كيف ترث من الفرع ولا ترث من الرباع شيئا ، فقال لي : لأنها ليس لها فيهم نسب ترث به ، وانما هي دخيل عليهم فترث من الفرع ولا ترث من الأصل ، ولا يدخل عليهم داخل بسببها (٣).

وهذا منه عليه‌السلام إشارة الى حكمة عدم إرثها من الأصل ، وحاصله أنها لو ورثت منه ، ثم تزوجت بعد موت زوجها ، لأمكن أن يدخل على الورثة به من يفسد عليهم مواريثهم ويزاحمهم في عقاراتهم ، وتدخل عليهم به منقصة ، فاقتضت الحكمة عدم إرثها منه ، دفعا للفساد الناشئ منه.

وأما إرثها من الفرع فلا يلزم منه ذلك ، وذلك لانتقاله بانتقالها ، فلا يدخل به

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٩ / ٣٠١ ، ح ٣٧.

(٢) تهذيب الاحكام ٩ / ٢٩٨ ، ح ٢٦.

(٣) تهذيب الاحكام ٩ / ٢٩٨ ، ح ٢٧.


عليهم داخل يترتب عليه ذلك النقص والفساد.

فتبين بما حررناه أن كل من يعمل بخبر الواحد ويجعله مخصصا لعموم الكتاب ، فلا بد له في هذه المسألة أن يقول بما نقول من التسوية بين الزوجتين ذات ولد وغيرها في الإرث من الفرع دون الأصل على نحو سبق بيانه.

وأما من لم يعمل به إذ لم يجعله مخصصا ، فله أن يعمل بظاهر ما دلت عليه الآية من التسوية بينهن حتى المتعة في الإرث من كل ما تركه أزواجهن ، كما ذهب اليه ابن الجنيد.

الفصل الرابع

[ ما لا ترث المرأة من زوجها ]

لفظ البناء الوارد في الاخبار السالفة يعم ما اتخذ للسكنى وغيرها ، من المصالح ، كالحمام والرحى والإصطبل والمراح ونحوها ، لصدق البناء على ذلك كله.

فقول الصدوق رحمه‌الله في الفقيه يعني بالبناء الدور (١). غير جيد.

ويظهر من قوله « الا أن يقوم الجذوع » حرمانها من أعيان الأشجار كالأبنية لا من قيمتها ، لان الجذع بالكسر ساق النخلة ( وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ) (٢) وهو المشهور بين المتأخرين. ويدل عليه أيضا ما ورد في عدة روايات من عدم إرثها من العقار شيئا ، فإن الشجر داخل في العقار.

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٤ / ٣٤٨.

(٢) سورة طه : ٧١.


قال ابن الأثير في النهاية : العقار بالفتح الضيعة والنخل والأرض ونحو ذلك (١).

لكن ذهب شيخ الطائفة ومن تبعه منهم إلى إرثها من عين الشجر ، محتجين بأن النصوص الصحيحة وغيرها دالة عليه أكثر من دلالتها على المشهور.

وفيه تأمل ، لأن قوله عليه‌السلام في صحاح الاخبار « يقوم الجذوع » و « قيمة الجذوع والعقار » ونحو ذلك يدل على المشهور صريحا ، الا أن يحمل الجذوع والعقار على غير الأشجار ، وظاهر اللغة لا يساعده.

ومع ذلك فرواية الحسن بن محبوب عن الأحول عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول : لا يرثن النساء من العقار شيئا ، ولهن قيمة البناء والشجر والنخل (٢) ناصة بالباب ، وذكرهما بعد العقار من مقولة التصريح بما علم ضمنا ، فيكون من باب ذكر الخاص بعد العام لزيادة الاهتمام.

والرواية صحيحة السند ، لان طريق الصدوق الى الحسن بن محبوب صحيح ، والأحول وان كان لقب جماعة منهم ، الا أن الإطلاق ينصرف الى محمد بن النعمان الأحول المشهور بمؤمن الطاق.

الخاتمة

وعلى ما قررناه من توجيه موثقة ابن أبي يعفور ، والتوفيق بينها وبين غيرها لا حاجة الى ما ذكره الصدوق رحمه‌الله في الفقيه في الجمع بينهما ، وتبعه في ذلك الشيخ في التهذيب ، من أن هذا ـ أي : إرث المرأة من كل شي‌ء تركه زوجها ـ إذا كان لها منه ولد ، فإذا لم يكن لها منه ولد ، فلا ترث من الأصول إلا قيمتها.

__________________

(١) نهاية ابن الأثير ٣ / ٢٧٤.

(٢) من لا يحضره الفقيه ٤ / ٣٤٨ ، ح ٥٧٥٠.


ثم قال : وتصديق ذلك ما رواه محمد بن أبي عمير ، عن ابن أذينة في النساء إذا كان لهن ولد أعطين من الرباع (١).

ومن هنا نشأ ما اشتهر بين المتأخرين من الفرق بين ذات ولد وغيرها في الإرث.

وقد عرفت أن لا منشأ له في الحقيقة ، فإن هذا الخبر الموقوف لا حجية فيه ، فلا يصلح لتخصيص هذه الاخبار الكثيرة بين الصحاح والحسان والموثقات. وأما موثقة ابن أبي يعفور السابقة ، فقد عرفت حقيقة الكلام وتخصيص المقام فيها.

وما أحسن ما قال من قال : لم يبق في الإمامية مفت على التحقيق ، بل كلهم حاك ، وذلك أن الصدوق لما ذهب الى ما ذهب اليه وتبعه فيه الشيخ ، سرى منه ذلك الى غيره واشتهر فيهم اشتهار الشمس في وسط السماء الرابعة ، فصار مصداق رب مشهور لا أصل له.

لا يقال : انه رحمه‌الله قد قال في الفقيه : ولم أقصد فيه قصد المصنفين في إيراد جميع ما رووه ، بل قصدت إلى إيراد ما أفتي به وأحكم بصحته وأعتقد فيه أنه حجة بيني وبين ربي تقدس ذكره (٢).

لأنا نقول : انه رحمه‌الله وان أفتى به وظن أنه حجة ظنية إلا أنك قد عرفت أنه ليس بحجة ، لأن ابن أذينة لم يسنده الى معصوم ، ومن الشائع أن يكون هذا من مذهبه ، لانه كان فاضلا صاحب كتاب صغير وكبير ، فلا بعد في أن يكون هذا مما أفتى هو به وان كان خطأ.

يشهد لما قلناه ما ذكروه في الدرايات من عدم حجية الخبر الموقوف ، فهذا شيخنا الشهيد الثاني رحمه‌الله يقول في دراية الحديث بعد ذكر أقسام الموقوف

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٤ / ٣٤٩.

(٢) من لا يحضره الفقيه ١ / ٣.


وكيف كان الموقوف فليس بحجة ، وان صح سنده على الأصح ، لأن مرجعه الى قول من وقف عليه ، وقوله ليس بحجة. وقيل : هو حجة مطلقا ، وضعفه ظاهر (١) انتهى.

والظاهر أن الشيخ الصدوق رحمه‌الله ممن قال بكونه حجة ، ولذا حكم به هنا ، وجعله مخصصا لعموم الاخبار ، مع التزامه في صدر الكتاب أن لا يروي فيه الا ما يعمل به.

وبالجملة فظهر مما قررناه أن القول بالتفصيل ضعيف غايته ، وان ما قيل في بيان ترجيحه من حيث أن فيه تقليلا لتخصيص الآية وظهور الشبهة في عموم هذه الاخبار بواسطة رواية عمر بن أذينة ، ورواية عبد الله بن أبي يعفور ، الدالة على إرثها من كل شي‌ء كالزوج ، بحملها على ذات الولد جمعا ، فلا أقل من انقداح الشبهة في العموم للزوجات ، المانع من حمل الآية على عمومها ، مضافا الى ذهاب جماعة من أجلاء المتقدمين ، كالصدوق والشيخ في التهذيب ، وجملة المتأخرين اليه ، وذهاب جماعة آخرين الى أن مثل هذه الاخبار لا يخصص القرآن مطلقا ، فلا أقل من وقوع الشبهة في التخصيص ، مثله في الضعف.

وان القول بالتسوية بين الزوجات قوي متين غايتهما ، وان حرمانهن ثابت في نفس الأرض والقرى والرباع كالدور والمنازل ، ومن عين الآلات والابنية والعقار والأشجار دون قيمتها فتأمل فيه ، ثم خذه بيد غير قصيرة وكن من الشاكرين.

والحمد لله رب العالمين ، والصلاة على سيدنا سيد الأنبياء والمرسلين ، محمد وعترته الطيبين الطاهرين الى يوم الدين.

وتم استنساخ وتصحيح هذه الرسالة في (١٦) رجب المرجب سنة (١٤١١) هـ ق في بلدة قم المقدسة على يد العبد السيد مهدي الرجائي عفي عنه.

__________________

(١) الرعاية في علم الدراية ص ١٣٤.


سلسلة آثار المحقق الخاجوئى

(٤٩)

رسالة

في الحبوة

للعلّامة المحقّق العارف

محمّد إسماعيل بن الحسين بن محمّد رضا المازندراني الخاجوئي

المتوفّى سنة ١١٧٣ ه‍ ق

تحقيق

السيّد مهدي الرّجائي



بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله الذي هدانا بمنه للإيمان ، (١) وحبانا بجوده أشرف الأديان ، والصلاة على نبيه أكمل أفراد الإنسان ، محمد المصطفى المبعوث بالقرآن ، على كافة أشخاص الانس والجان ، وعلى آله وعترته كل أوان وزمان.

وبعد : فهذه رسالة وجيزة نشير فيها الى ما هو الظاهر والراجح عندنا في مسألة تفرد بها الأصحاب ، لروايات رووها عن أئمتهم الأطياب ، بيد أنّهم اختلفوا فيها في مقامات نشير إليها في تضاعيف البحث.

وهي مسألة الحبوة مثلثة ، يقال : حباه كذا وبكذا إذا أعطاه ، والحباء : العطية.

وفي القاموس : حبا فلان فلانا أعطاه بلا جزاء ومن ، أو عام ، والاسم الحباء ككتاب (٢).

ولعلهم انما سموا ما يختص بالولد الأكبر من تركة أبيه من بين الورثة

__________________

(١) اقتباس من قوله تعالى ( بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) « منه ».

(٢) القاموس ٤ / ٣١٥.


بالحبوة ، لانه يأخذه مجانا زائدا على سهمه ، فإذا حوسب ذلك عليه من سهمه ، كما عليه بعض الأصحاب وسيأتي.

فحينئذ لا وجه لتسميته بالحبوة والعطية ، إذ ليس هذا المحسوب عليه من سهمه من الحباء والعطاء في شي‌ء ، فتأمل.

فصل

[ أدلة المسألة ]

في مستند هذا الحكم المخالف لظواهر آيات مواريث الأولاد والأبوين والزوجين ، وهو روايات رواها جماعة من العدول والموثقين عن أئمتنا المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين.

فمنها ما رواه شيخ الطائفة في التهذيب عن الفضل بن شاذان ، عن ابن أبي عمير ، عن ربعي بن عبد الله ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إذا مات الرجل فلا كبر ولده سيفه ومصحفه وخاتمه ودرعه. (١)

قال الفاضل الأردبيلي رحمه‌الله في شرحه على الإرشاد بعد نقل هذه الرواية : في صحتها اشكال من جهة توقفها على توثيق محمد بن إسماعيل الذي ينقل عنه محمد بن يعقوب ، وينقل هو عن الفضل بن شاذان ، لأنه ان كان ابن بزيع الثقة ففي ملاقاته بعد. وان كان غيره ، فغير ظاهر. ولكن صرحوا بصحة مثل هذا الخبر وهو كثير جدا ، وبخصوص هذه الرواية أيضا من غير توقف فتأمل. انتهى كلامه رفع في عليين مقامه.

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٩ / ٢٧٥ ، ح ٦.


أقول : انهم اختلفوا في محمد بن إسماعيل الذي يروي عنه الكليني رحمه‌الله ، فحكم جماعة منهم العلامة بأنه : اما ابن البزيع ، أو البرمكي الموثقان ، ومقتضى ذلك كون روايته صحيحة إذا لم يكن في الطريق مانع من غير جهته.

وفيه تأمل ، لأن محمد بن إسماعيل بن أحمد بن بشير البرمكي أبا جعفر المعروف بصاحب الصومعة ، مع كونه ضعيفا كما صرح به ابن الغضائري ، وان وثقه النجاشي ، وظاهر تقدم الجرح على التعديل رازي الأصل.

كما صرح به في الحديث الثالث من باب حدوث العالم وغيره من الكافي هكذا : محمد بن جعفر الأسدي ، عن محمد بن إسماعيل البرمكي الرازي السند (١).

وكثيرا ما يذكر في طرق الكشي هكذا : حمدويه ، عن محمد بن إسماعيل الرازي.

وصرح في « لم » من « جخ » أن حمدويه سمع يعقوب بن يزيد (٢).

ويعقوب هذا من رجال الرضا والجواد عليهما‌السلام ، فيكون البرمكي في طبقة يعقوب ، فكيف يعاصر الكليني ويروي عن الفضل بن شاذان الذي من رواة الهادي والعسكري عليهما‌السلام.

وفي ترجمة عبد الله بن داهر من النجاشي أن البرمكي يروي عن عبد الله هذا ، وهو عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٣). فمتى يجوز رواية الكليني عن البرمكي وروايته عن الفضل؟

وفي ترجمة يونس بن عبد الرحمن رواية البرمكي عن عبد العزيز بن

__________________

(١) أصول الكافي ١ / ٧٨ ، ح ٣.

(٢) رجال الشيخ ص ٤٦٣.

(٣) رجال النجاشي ص ٢٢٨.


المهتدي ، وهو من أصحاب الرضا عليه‌السلام ورواية الفضل عنه أيضا (١). فيبعد رواية الكليني عن البرمكي ، وهو عن الفضل.

وأيضا فإن جعفر بن عون الأسدي داخل في العدة المذكورة في الكافي بين الكليني وسهل بن زياد ، والأسدي هذا يروي عن البرمكي ذاك ، فيبعد رواية الكليني عنه بلا واسطة.

ثم محمد بن إسماعيل بن بزيع من أشياخ الفضل ، فكيف يروي عنه دائما من غير عكس ، على أن الكليني يروي عن ابن بزيع بواسطة علي بن إبراهيم عن أبيه عنه ، ولان ابن بزيع من أصحاب الكاظم والرضا والجواد عليهم‌السلام.

فعلى تقدير رواية الكليني عنه يلزم أن يكون من أصحاب ستة من الأئمة عليهم‌السلام ، ويكون بين الكليني وبين كل واحد منهم عليهم‌السلام بواسطة واحدة.

وهذا مع بعده لانه لا يتصور إلا في حدود مائة وعشرين سنة لابن بزيع ، كيف لا يروي الكليني عن أحد من الأئمة بواسطة واحدة ، مع حصول هذا العلو وقرب الاسناد المعتبر عندهم غاية الاعتبار.

والحق أن محمد بن إسماعيل الذي يروي عنه الكليني هو أبو الحسن النيسابوري المعروف ببندفر تلميذ الفضل بن شاذان ، لأن الكليني في طبقة الكشي لرواية ابن قولويه عنه وعن الكليني ، والكشي يروي عن محمد هذا بلا واسطة ، وهو عن الفضل.

فيظهر منه أنه الذي يروي عنه الكليني عن الفضل ، فظهر أن الواسطة بين الكليني والفضل من جملة الرجال المسلمين بمحمد بن إسماعيل الأربعة عشر ليس إلا النيسابوري.

فجزم شيخنا البهائي بكونها البرمكي ، ونفي مولانا عبد الله التستري البعد

__________________

(١) رجال النجاشي ص ٤٤٧.


عن كونها ابن بزيع ، محلا تأمل.

ثم ان محمدا هذا لا يوثق ولا يمدح صريحا في كتب الرجال ، ولكنه معتبر لاعتماد الكليني على روايته كثيرا في الاحكام وغيرها ، فالرواية غير محكوم بصحتها على قانون الرواية وان كانت معتبرة.

فإن قلت : للشيخ الطوسي إلى الفضل بن شاذان طرق عديدة ، كما يظهر من مشيخته ، حيث قال : وما ذكرته عن الفضل بن شاذان ، فقد أخبرني به الشيخ أبو عبد الله والحسين بن عبيد الله ، وأحمد بن عبدون ، كلهم عن أبي محمد الحسن ابن حمزة العلوي الحسيني الطبري ، عن علي بن محمد بن قتيبة النيسابوري ، عن الفضل بن شاذان.

وروى أبو محمد الحسن بن حمزة ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن الفضل بن شاذان (١).

ومن جملة ما ذكرته عن الفضل بن شاذان ما رويته بهذه الأسانيد عن محمد بن يعقوب ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، ومحمد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان (٢).

وأخبرني الشريف أبو محمد الحسن بن أحمد بن القاسم العلوي المحمدي عن أبي عبد الله محمد بن أحمد الصفواني ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن الفضل بن شاذان (٣) انتهى.

قلت : هذا لا يجدي نفعا ، لانه لا يدفع احتمال كون محمد بن إسماعيل في طريق هذه الرواية التي نحن فيها ، لان الشيخ رواها في التهذيب عن الفضل ،

__________________

(١) الاستبصار ٤ / ٣٤١.

(٢) تهذيب الأحكام المشيخة ص ٤٧ ـ ٥٠.

(٣) الاستبصار ٤ / ٣٤١ ـ ٣٤٢.


ويجوز أن يكون من الوسائط بينه وبين محمد هذا ، فالاحتمال قائم والاشكال بحاله.

على أن الطريق الأول هنا حسن ، والثاني والثالث معتبران ، والرابع ضعيف ، وعلى أي طريق أخذته فالرواية غير محكوم بصحتها على قانون الرواية ، كما أومأنا اليه. هذا.

ومنها : ما رواه فيه أيضا عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبيه ، عن حماد ، عن ربعي بن عبد الله ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : إذا مات الرجل فسيفه وخاتمه وكتبه وراحلته وكسوته لأكبر ولده ، فان كان الأكبر بنتا ، فللأكبر من الذكور (١).

قال الفاضل المذكور في شرحه المسطور بعد نقل هذه الرواية : وفي صحتها أيضا شي‌ء ، لوجود محمد بن خالد البرقي ، وفيه تأمل ، لعدم توثيق النجاشي إياه ، وذكر ما يدل على ضعفه ، ولكن وثقه الشيخ وتبعه العلامة ، وهي صحيحة في الفقيه من غير إشكال.

أقول : محمد بن خالد البرقي كما وثقه الشيخ (٢) ، كذلك وثقه ابن الغضائري (٣) وأما النجاشي فقال : انه كان ضعيفا في الحديث ، وكان أديبا حسن المعرفة بالاخبار وعلوم العرب (٤).

والظاهر أن مراده بكونه ضعيفا في الحديث أنه كان يروي عن الضعفاء كثيرا ويعتمد المراسيل ، كما أشار إليه ابن الغضائري ، لا أنه كان ضعيفا في نفسه.

وعلى هذا فإذا علم روايته عن العدل ، كما في هذا السند ، كان حديثه صحيحا

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٩ / ٢٧٥ ـ ٢٧٦.

(٢) رجال الشيخ ص ٣٨٦.

(٣) رجال العلامة ص ١٣٩.

(٤) رجال النجاشي ص ٣٣٥.


بالاتفاق ، إذا لم يكن في الطريق قادح من غير جهته.

ومنها : ما رواه في التهذيب أيضا عن علي بن الحسن بن فضال ، عن أحمد بن الحسن ، عن أبيه ، عن حماد بن عيسى ، عن شعيب العقرقوفي ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يموت ماله من متاع بيته؟ قال : السيف ، قال : الميت إذا مات فان لابنه السيف والرحل والثياب ثياب جلده (١).

وسند هذه الرواية كما ترى موثق بابني فضال وبه لا بأبي بصير.

لكن الفاضل المذكور لما نقلها عن الكافي قال في الشرح : وموثقة أبي بصير له ، لاحتمال أنه يحيي بن القاسم ، لنقل شعيب بن يعقوب الذي ابن أخته عنه ، ويحتمل كونه ليث البختري.

فهي صحيحة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : الميت إذا مات ، فان لابنه الأكبر السيف والرحل والثياب ثياب جلده وهذه مروية في التهذيب عن شعيب العقرقوفي بزيادة غير جيدة لعلها غلط انتهى.

أقول : أما أبو بصير المذكور في الحديث ، فالمراد به اما يحيى بن أبي القاسم ، أو المرادي ليث بن البختري ، أو أبو يحيى ، فإن المطلق قد يكون مشتركا بينهم ، كما إذا روى عن الباقرين أو أحدهما عليهما‌السلام.

وأما إذا روى عن الكاظم عليه‌السلام فإنه مخصوص بيحيى بن أبي القاسم.

وروايات هؤلاء بثلاثتهم إذا لم يكن في الطريق مانع من غير جهتهم صحيحة لكن اشتبه أمر أبي بصير المطلق على كثير من أصحابنا المتأخرين ، فظنوا اشتراكه بين الثقة الإمامي وغيره.

والظاهر أن الاشتراك توهم ، وله جهات :

منها : أنه مشترك بين جماعة منهم يوسف بن الحارث ، وهو غير موثق في

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٩ / ٢٧٦ ، ح ٩.


كتب الرجال ، بل في الخلاصة (١) واختيار الرجال للشيخ أن يوسف هذا من أصحاب الباقر عليه‌السلام يكنى أبا بصير بالياء بعد الصاد بتري.

والجواب أن أبا بصير إذا أطلق ينصرف الى المشهور المعروف بينهم ، ويوسف هذا مجهول غير مذكور في الفهرست وكتاب النجاشي ، فكيف ينصرف المطلق اليه ، على أن رواية أبي بصير هذه عن الصادق عليه‌السلام ، ويوسف هذا من أصحاب الباقر عليه‌السلام.

ومنها : أنه مشترك بين جماعة منهم يحيى بن القاسم الحذاء ، وهو واقفي.

والجواب : أن أبا يحيى أو يحيى بن أبي القاسم غير يحيى بن القاسم الحذاء الواقفي ، وليس شعيب العقرقوفي ابن أخت هذا حتى يكون قرينة عليه ، بل هو ابن أخت يحيى بن أبي القاسم.

كما أشار إليه ملا عناية الله في حواشيه على مجمع الرجال ، ونسب ما في النجاشي حيث عده من ابن أخت الأول إلى الاشتباه وتعجب منه ، ثم قال : وهذا أظهر من أن يخفى ويتصدى لبيانه.

وعليه فالرواية صحيحة السند كما أشرنا اليه.

وأما قوله رحمه‌الله ما في التهذيب من الزيادة غلط ، فيمكن إصلاحه بالحذف والإيصال ، أي : ما لابنه من متاع بيته ، كما يدل عليه الجواب ، وقوله « قال : الميت إذا مات » بدل من قوله « قال : السيف » فتأمل.

ومنها : ما رواه في التهذيب أيضا عن علي بن الحسن بن فضال ، عن علي بن أسباط ، عن محمد بن زياد بن عيسى ، عن ابن أذينة ، عن زرارة ومحمد بن مسلم وبكير وفضيل بن يسار ، فالسند موثق ، عن أحدهما عليهما‌السلام ان الرجل إذا ترك

__________________

(١) رجال العلامة ص ٢٦٥.


سيفا أو سلاحا فهو لابنه ، فان كانوا اثنين فهو لأكبرهما (١).

قال الفاضل في شرحه بعد نقله هذه الرواية : قال الشهيد الثاني في الرسالة : أنها موثقة (٢). وليست بظاهرة ، لوجود محمد بن زياد بن عيسى المجهول ، وعدم ظهور الطريق الى علي بن الحسن ، الا أن يكون المأخوذ من كتابه المعلوم أنه كتابه ، فتأمل انتهى.

أقول : هذا منه رحمه‌الله مع طول يده في هذا الشأن اشتباه عظيم ، لأنهم صرحوا في ترجمة ابن زياد بأنه تقدم بعنوان محمد بن أبي عمير.

وقد قالوا في موضع الحوالة أن اسم أبي عمير زياد بن عيسى ، كما في الكشي والنجاشي والفهرست ورجال الشيخ ، فلا فرق بين النسبتين والابنين ، فان محمد بن زياد هو محمد بن أبي عمير وبالعكس.

وابن أبي عمير زياد بن عيسى جليل القدر عظيم المنزلة فينا وفي المخالفين ، وكان من أوثق الناس عند الخاصة والعامة ، حتى قال الجاحظ : انه كان أوحد زمانه في الأشياء كلها.

وكيف يكون محمد هذا مجهول؟ وأمره أشهر وأظهر من الشمس.

وأما طريق الشيخ الى علي بن الحسن ، فأظهر من هذا ، كما ظهر من مشيخته حيث قال : وما ذكرته في هذا الكتاب عن علي بن الحسن بن فضال ، فقد أخبرني به أحمد بن عبدون المعروف بابن الحاشر سماعا منه واجازة ، عن علي بن محمد بن الزبير ، عن علي بن الحسن بن فضال (٣).

وهذا الطريق كما ترى حسن بل هو صحيح ، لان علي بن محمد هذا كان شيخ

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٨ / ٢٧٦ ، ح ٨.

(٢) رسالة الحبوة للشهيد الثاني ص ٢٢٢.

(٣) تهذيب الأحكام المشيخة ص ٥٥ ـ ٥٦.


وقته يقرأ عليه ، ويقبل قوله ونقله مثل غيره ، كما يظهر مما ذكره النجاشي في ترجمة علي بن الحسن بن فضال (١) ، وأحمد بن عبد الواحد (٢).

فظهر أن ما ذكره الشهيد الثاني في الرسالة من كونها موثقة الفضلاء حق وصدق لا شبه فيه ولا مرية « إذا قالت حذام فصدقوها ».

ومنها : ما رواه فيه أيضا عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن حماد بن عيسى ، عن حريز ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إذا هلك الرجل فترك بنين فللأكبر السيف والدرع والخاتم والمصحف ، فان حدث به حدث فللأكبر منهم (٣).

قال الفاضل في الشرح : هذه رواية حسنة.

أقول : بل هي صحيحة ، لأن إبراهيم هذا ثقة ، كما ذهب إليه رحمه‌الله في آيات أحكامه في كتاب الصوم ، حيث قال فيه بعد أن نقل حديثين أحدهما عن محمد بن مسلم والثاني عن زرارة :

وأما الأول ـ وأراد به ما رواه محمد بن يعقوب ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن حماد بن عيسى ، عن حريز ، عن محمد بن مسلم ـ فالظاهر أنه حسن لوجود أبي علي إبراهيم بن هاشم ، وكذا سماه في المختلف والمنتهى.

وقال الشيخ زين الدين في شرح الشرائع : ولصحيحة محمد بن مسلم وزرارة ، وما وجدت في كتب الاخبار غير ما ذكرته عن محمد بن مسلم ، فالظاهر أنه عنى ذلك ، فاشتبه عليه الأمر ، أو تعمد وثبت توثيقه عنده. والظاهر أنه يفهم

__________________

(١) رجال النجاشي ص ٢٥٩.

(٢) رجال النجاشي ص ٨٧.

(٣) تهذيب الاحكام ٩ / ٢٧٥ ، ح ٤.


توثيقه من بعض الضوابط (١) انتهى.

ولعله أشار بذلك الى أن اعتبار مشايخ القميين له ، وأخذ الحديث عنه ونشر الرواية منه ، على ما في الفهرست والنجاشي ، يعطي أنه ثقة عندهم في الرواية والنقل ، لأن أهل قم كانوا يخرجون الراوي منه ويؤذونه لمجرد توهم شائبة ما فيه.

فكيف يجتمعون عليه ويقبلون حديثه لو لا وثوقهم به واعتمادهم عليه ، فيصير حديثه لذلك صحيحا ، كما لا يخفى على من له قليل من الانصاف.

قال في الفهرست ومثله في النجاشي : إبراهيم بن هاشم أبو إسحاق القمي أصله من الكوفة وانتقل الى قم ، وأصحابنا يقولون : انه أول من نشر حديث الكوفيين بقم ، وذكروا أنه لقي الرضا عليه‌السلام ، والذي أعرف من كتبه : كتاب النوادر كتاب قضايا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أخبرنا بهما جماعة من أصحابنا ، ثم ذكر السند اليه (٢). وقال العلامة في الخلاصة : انه عندي مقبول (٣).

وفي المنتهى كثيرا ما يسمى الخبر الواقع هو فيه صحيحا ، ويفهم منه توثيقه ، والله يعلم.

فصل

[ تنقيح أخبار المسألة ]

هذه الاخبار المستفيضة كلها متفقة في ثبوت أصل الحبوة ، وانما اختلفت في

__________________

(١) زبدة البيان للمحقق الأردبيلي ص ١٥٤ ـ ١٥٥.

(٢) الفهرست ص ٤.

(٣) رجال العلامة ص ٥.


مقدار ما يحبى به ، ولعل الوجه فيه سهو بعض الرواة ، أو غفلته عن تلك الزيادة دون بعض.

لان غفول الإنسان عما يجري بحضرته لاشتغاله عنه كثير الوقوع ، مع احتمال سماعه حين التحمل وعدم تذكره وقت الرواية ، فإن النسيان كالطبيعة الثانية للإنسان ، بخلاف سهوه فيما لم يسمعه حتى يجزم بأنه سمعه ، فإنه نادر.

فعدم رواية غيره تلك الزيادة لا يصلح مانعا لقبولها ، لانه عدل جازم بسماعها ، فوجب قبول قوله فيه ، حتى أنهم صرحوا بأن ثقة إذا روى عن ثقة حديثا.

فان لم ينكره ولكن قال : لا أعرفه أو لا أذكره ونحوه ، لم يقدح ذلك في رواية الفرع على الأصح ، إذ لا يدل عليه بوجه ، لاحتمال السهو والنسيان من الأصل ، والحال أن الفرع ثقة جازم ، فلا يرد بالاحتمال.

وبالجملة فالمانع مفقود ، والمقتضي للقبول موجود ، وصيرورة الأصل فرعا غير قادح بوجه ، وإذا جاز سهو كل الحديث ونسيانه ، فسهو بعضه أولى.

وعلى هذا فيمكن أن يقال : كما لا اختلاف في هذه الاخبار باعتبار ثبوت أصل الحبوة ، فكذلك لا اختلاف فيها في مقدار ما يحبى به باعتبار أصل المأخذ أعني : باعتبار ما عينه الامام عليه‌السلام.

وانما نشأ ذلك من قبل الرواة وسهو بعضهم ونسيانه بعض أجزاء الاخبار المتلقاة من المعصوم عليه‌السلام في بعض الطبقات ، أو غفلته عن ذلك البعض حين التحمل دون غيره.

وأما اختلاف الألفاظ وعبارات الاخبار ، فالظاهر أنه انما نشأ منهم من قبل النقل بالمعنى.

وعلى هذا فاختلاف الاخبار في مقدار ما يحبى به لا يؤيد القول باستحباب


الحبوة ، وانما كان ذلك كذلك أن لو ثبت أنه من الامام عليه‌السلام دون ثبوته خرط القتاد ، فاعرفه ينفعك في المباحث الآتية إن شاء الله العزيز.

فصل

[ جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد ]

كل من قال من الأصحاب بجواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد ، وهم الأكثرون منهم ، كما أشرنا إليه في بعض رسائلنا ، يلزمه القول بوجوب الحبوة للأكبر من أولاد الذكور ، أو الذكر الذي لا أكبر منه ، مجانا أي بلا بدل ولا قيمة ، كما هو الظاهر من إطلاق الروايات السالفة والآتية المذكورة فيها المفيدة للملك أو الاستحقاق.

وأما احتجاج السيد المرتضى وابن الجنيد ومن شايعهما بعموم آيات الإرث مثل ( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) (١) ونحوها على استحباب الحبوة ، وانها يحسب على الولد من سهمه ، وانما التخصيص بالعين.

فغريب ، لأنهم ان لم يعملوا بخبر الواحد مطلقا ، ولم يخصصوا عمومها به فلا معنى حينئذ لاستحبابها وحسابها عليه من سهمه ، لان ظواهر آيات ميراث الأولاد والأبوين والزوجين الذين هم في طبقة واحدة تفيد اشتراك جميعهم في جميع ما تركه مورثهم من غير اختصاص بعضهم ببعض التركة دون بعض.

وان عملوا وخصوا عمومها به ، فمقتضاه بحسب الظاهر ما ذكرناه من الوجوب مجانا ، فهم بارتكابهم خلاف مقتضى الظاهر من الجانبين لم يعملوا لا بظواهر الآيات ولا بظواهر الروايات.

__________________

(١) سورة النساء : ١١.


وأما قولهم : ان الحبوة حكم مخالف للأصل وعموم الآيات.

فمجاب بأن الأصل انما يصار اليه لو لم يقم على خلافه دليل شرعي ، وعموم الآيات مخصوص بالروايات ، ومن يعمل بها فعليه أن يقول بما نقول ، والا فلا حبوة عنده ، فضلا عن أن تكون مستحبة ، أو محسوبة عليه بالقيمة.

وكذا قولهم : ان العمل بظواهر روايات الحبوة من دون احتسابها عليه بالقيمة يوجب الإجحاف بالورثة.

مجاب بأن الإرث حكم شرعي ، فيتوقف ثبوته على توظيف الشارع ، فإذا ثبت اتبع ، وقد ثبت هنا فليتبع ، أجحف أم لم يجحف.

على أن هؤلاء الورثة ليسوا بوارثين لما يحبى به ، بل هو من حقوق المحبو كما دلت عليه الروايات ، وحينئذ فلا معنى للإجحاف بهم.

وكذا قول من علق منهم إباحة الحبوة على ما إذا دفع الورثة ذلك اليه على وجه التراضي.

مجاب بأن ذلك خارج عن مدلول الروايات السابقة ، بل هو في الحقيقة رد للاخبار وطعن في الآثار ، فان ظواهرها تفيد أن هذا الحباء لازم لا يتوقف على رضاء الورثة ، ولا يجوز تركه ولا منع المحبو من المطالبة به بوجه.

وبالجملة ما ذكروه من حديث الاستحباب والحساب وتوقفه على رضاء الورثة ، مما لا يفهم من ظواهر هذه الاخبار أصلا.

بل الحق في ذلك ما ذكرناه من أن من يعمل بخبر الواحد ويجعله مخصصا للكتاب ، فعليه أن يقول بوجوب الحبوة مجانا ، رضي به الوارث أم لم يرض.

ومن لم يعمل به ، أو لم يجعله مخصصا له ، فلا حبوة عنده ، فله عن مئونة أمثال هذه التكلفات التي ارتكبوها فراغ.


فصل

[ مقدار ما يحبى به ]

ومن الأصحاب من جعل اختلاف الروايات في مقدار ما يحبى به مؤيدا للقول بالاستحباب ، ولا كذلك كما عرفته ، ولأن الرواية المشتملة على أقل ما يحبى به ، كالسيف والسلاح مثلا ، لا دلالة فيها على الزائد منهما بنفي ولا إثبات ، فإذا دلت عليه تلك الاخبار وجب المصير اليه لعدم المعارض.

فان قلت : مسلم أنه لا معارض له من السنة ، ولكنه قد عارضه الكتاب.

قلت : انهما دليلان شرعيان تعارضا ، فوجب الجمع بينهما بتخصيص العام منهما بغير ما دل عليه الخاص ، والا لزم إلغاؤه ، والجمع أولى من الإلغاء.

ومنه يظهر أن الأحوط اختصاص المحبو بجميع ما دلت عليه الاخبار بعمومها لا خصوص ما هو المشهور فيهم من الثياب والخاتم والسيف والمصحف ، فإن الزائد على ذلك من الدرع والكتب والرحل والراحلة مما دل عليه الخبر الصحيح ولا معارض له ، فتعين القول به.

كما هو ظاهر الصدوق في الفقيه (١) فإنه ذكر في باب نوادر الميراث ما دل على ذلك ، وقد التزم في صدر الكتاب أن لا يذكر فيه الا ما يفتي به ويعتقد أنه حجة بينه وبين ربه تقدس ذكره.

نعم أنه لم يذكر فيه الدرع والراحلة ، ولكنهما مذكوران في صحيح الخبر فلا وجه للاعراض عنهما ، وتخصيص الحبوة بما عداهما ، فإنه تخصيص من غير مخصص.

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٤ / ٣٤٦.


ومن الأصحاب من وجه المشهور بأن مستنده الإجماع لا الاخبار. ومنهم من وجهه بأصالة عدم التخصيص.

وفيهما نظر ، لأن الأول لم يثبت ، والثاني مدفوع بأن الأصل انما يصار إليه إذا لم يدل دليل على خلافه ، مع أنه لو تم لدل على انتفاء أصل الحبوة فلا وجه معها للتخصيص بالأربعة بل هو تحكم بحت.

وأولوية الاقتصار على ما ذكروه في المشهور بناء على أن الضرر على سائر الورثة حينئذ أقل يعارضها ضرر المحبو ، بل دفعه عنه أولى بالاعتبار ، لأن إرثه واستحقاقه لذلك ثابت بحكم الشرع على العمل بالاخبار بخلاف غيره.

وبالجملة فقانون العمل بالاخبار مع القول بتخصيصها الكتاب ، كما عليه أغلب الأصحاب يقتضي ما ذكرناه ، فتأمل.

فصل

[ ما يدخل في حقيقة الثوب ]

الثوب في اللغة اللباس وهو ما يلبس ، كما في القاموس (١) وغيره ، فكل ما يصدق عليه أنه يلبس حتى العمامة والقلنسوة ، فضلا عن السراويل ونحوها ، فهو داخل في مفهومه.

فان كان متعددا يحبى له كله ، لانه قد جاء بلفظ الجمع المضاف المفيد للعموم لقوله عليه‌السلام « ثياب جلده » والمراد بها ما كان يلبسه ، أو أعده للبس وان لم يلبسه قط لدلالة العرف على كونه ثيابه ولباسه.

فتخصيص بعضهم الثياب بثياب مصلاه ، أو ما كان يعتاد لبسه ويديمه ، محل نظر.

__________________

(١) القاموس ١ / ٤٢.


ومثل الثياب في مجيئها بلفظ الجمع المضاف المفيد للعموم ما ورد في صحيحة الربعي من قوله عليه‌السلام « وكتبه » فإنها تعم جميع أنواعها المختلفة ، لأن اسم الجنس الذي يطلق على قليل ذلك الجنس وكثيره إذا جمع أريد به أنواعه كما صرح به النحاة في باب التميز. وإذا أضيف أفاد استغراق أنواعه.

ولا إجماع هنا يدل على نفيه ، لان عدم وجدان القائل به لو سلم لهم ذلك ، لا يدل على تحقق الإجماع على نفيه.

كيف؟ وظاهر الصدوق كما سبق يفيد أنه يقول بذلك ، مع أنا نطالبهم بالدليل على التخصيص بالأنواع الأربعة دون غيرها مع الكل في الدليل نفيا وإثباتا.

فعلى النافي ان ينفي كلها ، وعلى المثبت أن يثبت كلها ، إذ لا دليل على اشتراك الاقتصار على بعض دون بعض ، هذا فيما جاء بلفظ الجمع.

وأما ما جاء بلفظ الوحدة ، كسيفه ودرعه وخاتمه ومصحفه ورحله وراحلته ونحوها ، فان كان منحصرا في واحد فقط ، فهو له ولا كلام فيه ، وان كان متعددا يعطى منه واحدا بالقرعة.

ولو قيل (١) : انه يحبى كله ، لان اسم الجنس المضاف يفيد العموم ، وهو الظاهر مما ذكر في الاخبار السابقة ، فإن من البين أن ليس المراد بقوله « وخاتمه » مثلا واحدا من خواتيمه المستعملة والمعدة ، بل المراد به كلها ، وعليه فقس البواقي.

وأما ما ذكره بعض أصحابنا بقوله : وفي دخول القلنسوة والثوب من اللبد نظر ، من عدم دخولها في مفهوم الثياب ، وتناول الكسوة المذكورة في بعض الاخبار لهما ، ويمكن الفرق ودخول الثاني دون الأول ، لمنع كون القلنسوة من الكسوة ومن ثم لم يجزئ في كفارة اليمين المجزئ فيها ما يعد كسوة.

__________________

(١) جواب « لو » محذوف ، أي : لكان حسنا « منه ».


فمحل نظر ، لأن القلنسوة وان لم تدخل في مفهوم الكسوة لو سلم له ذلك ، إذ الظاهر أن المراد بها هنا الثياب ثياب جلده ، فيتوافق الخبران ، الا أنها داخلة في مفهوم الثياب ، وكذا الثوب من اللبد ، لأنهما مما يلبس وهو المراد بالثوب كما سبق.

فصل

[ تملك الولد الأكبر الحبوة من دون شرط شي‌ء ]

لا يخفى أن هذه الاخبار خالية عن الدلالة على اشتراط الحبوة ببلوغ الولد ولا بعدم كونه سفيها فاسد الرأي ، ولا بحصول تركة غيرها ، ولا بقيامه بقضاء ما فات من صيام وصلاة.

بل هو واجب برأسه غير منوط بالحبوة ، يجب على أكبر ذكور أولاده القيام به ، ومع تساويهم يقسط عليهم.

نعم لما كانت الحبوة نوعا من الإرث لو سلم ذلك ، لا يبعد أن يشترط في حصولها خلو ذمة الميت عن دين مستغرق للتركة ، إذ لا حبوة حيث لا إرث وللمحبو افتكاكها من ماله ان شاء ، لانه وارث فله الخيرة في جهات قضائه.

ولو تعدد الأكبر وتساووا في السن ، يقسم الحبوة بينهم بالسوية.

ولو اختص أحدهم بالبلوغ والأخر بكبر السن ، فظاهر الاخبار يفيد اختصاصه بالحبوة ، لوروده فيها بلفظ الأكبر ، واسم التفضيل انما يشتق مما يقبل التفاضل ، وهو هنا في السن لا غير.

ويمكن أن يقال : ان البالغ هو الأكبر شرعا من حيث التكليف ، فلا عبرة بكبر غير المكلف ، ولعله في القضاء واضح ، وأما في الاختصاص بالحبوة فلا ،


الا على القول بأن القضاء شرط في استحقاق الحبوة بحيث يجعل عوضا عنه.

وأما القول بأنهم إذا تساووا في السن ، فلا حبوة ولا قضاء ، لان ذلك قد علق في الاخبار الواردة في الحبوة والقضاء بالولد الأكبر ولا أكبر هنا.

فبعيد ، لان تعليق ذلك وتخصيص الوجوب بالأكبر انما هو عند وجوده لا مطلقا ، بل لا يبعد أن يقال : ان أفعل التفضيل هنا منسلخ عن معناه ، فيكون المراد بالأكبر من لا يكون هناك ذكر أكبر منه ، فيشمل الواحد والمتعدد المتساوون في السن ، فتكون الحبوة له أو لهم ، ويتعلق القضاء به أدبهم (١).

وفي بعض الاخبار السابقة ، كموثقة الفضلاء أن الحبوة لابنه ، والمتبادر منه عرفا من له وجود في العين ، ويشار إليه إشارة حسية بأن هذا ابنه ، إذ بدونه لا يصح إطلاق الابن عليه.

وقيل : تحققه في نفس الأمر كاف في ذلك ، وان لم ينفصل حال موت أبيه.

والأول أظهر عرفا وفهما من الاخبار.

والمنقول عن السيد المرتضى في وجه تخصيص الحبوة بالأكبر ، ظاهره يفيد أن مجرد انفصاله حين موت أبيه لا يكفي في استحقاقه الحبوة ، بل لا بد وأن يكون هناك آخر غيره ، ويكون هو أكبر منه.

لانه قال : ووجه التخصيص بذلك مع الاحتساب بقيمته عليه أنه القائم مقام أبيه والساد مسده ، فهو أحق من النسوان والأصاغر للمرتبة والجاه ، وظاهره يفيد أن المحبو لا بد وأن يكون له سن ومرتبة وجاه في الجملة ، وان الحبوة إنما خص به حفظا لمرتبته وجاهه.

ولا يخفى أن كل ذلك خلاف ظاهر هذه الاخبار ، ولا يعلم له الباعث على أمثال هذه التكلفات ، فان المشهور منه أنه لا يعمل بالاخبار الآحاد ، ويقول : انها

__________________

(١) كذا في الأصل.


لا تفيد علما ولا عملا ، فأية حاجة له والحال هذه الى هذا وأمثاله ، فتأمل.

واعلم أن الظاهر من صحيحة حفص عن الصادق عليه‌السلام في الرجل يموت وعليه صلاة أو صيام ، قال : يقضي عنه أولى الناس بميراثه ، قلت : فان كان أولى الناس امرأة ، قال : لا الا الرجل (١).

ومكاتبة الصفار في الصحيح عن أبي محمد عليه‌السلام في رجل مات وعليه قضاء من شهر رمضان عشرة أيام وله وليان ، هل يجوز لهما أن يقضيا عنه جميعا خمسة أحد الوليين وخمسة أيام الأخر؟ فوقع عليه‌السلام : يقضي عنه أكبر وليه عشرة أيام ولاء ان شاء الله (٢).

عدم الفرق بين أن يكون الفوات لعذر أو غيره ، لكن نقل عن المحقق أنه قال : الذي ظهر لي أن الولد يلزمه قضاء ما فات الميت من صيام أو صلاة لعذر ، كالمرض والسفر والحيض ، لا ما تركه عمدا مع قدرته عليه (٣).

قيل : ولا بأس به ، لان الروايات تحمل على الغالب من الترك ، وهو انما يكون على هذا الوجه ، وهل يجزئ الاستيجار مع القدرة؟ الأظهر لا ، لان الوجوب انما تعلق بالولي وهو أكبر أولاده الذكور وسقوطه بفعل غيره ، يحتاج الى دليل ظاهر وليس بظاهر.

ثم ان الظاهر من كلام المحقق السابق ذكره أن الولد يلزمه قضاء ما فات امه من صيام أو صلاة.

وصحيحة أبي حمزة عن الباقر عليه‌السلام ، وان دلت على وجوب القضاء عن المرأة ، قال : سألته عن امرأة مرضت في شهر رمضان أو طمثت أو سافرت ، فمات

__________________

(١) وسائل الشيعة ٧ / ٢٤١ ، ح ٥.

(٢) وسائل الشيعة ٧ / ٢٤٠ ، ح ٣.

(٣) شرائع الإسلام ١ / ٢٠٣.


قبل خروج شهر رمضان هل يقضي عنها؟ فقال : أما الطمث والمرض فلا ، وأما السفر فنعم (١).

ومثلها موثقة محمد بن مسلم عن الصادق عليه‌السلام (٢).

ولكن ظاهرهما يعم الولي والأجنبي بالأجرة والتبرع.

وقول ابن إدريس لا قضاء عن المرأة ، إذ الإجماع إنما انعقد على وجوب القضاء عن الرجل خاصة ، وإلحاق المرأة به يحتاج الى دليل ، مبني على أصله من عدم العمل بأخبار الآحاد ، والا فقد عرفت دليله.

وعلى القول بوجوب القضاء منها لو كان للخنثى ولدان : ظهري ، وبطني ، واستويا في السن ، اشتركا في القضاء ، لان كلا منهما لو انفرد تعلق به الوجوب ، فلا يسقط بانضمام غيره اليه.

نعم القول بأنه في مقابل الحبوة يلزم تخصيصه بالظهري دون البطني ، فتأمل.

هذا ما سودة بيمناه الجانية الفانية العبد الجاني محمد بن الحسين المشتهر بإسماعيل المازندراني أوتيا كتابهما يمينا وحوسبنا حسابا يسيرا.

وتم استنساخ وتصحيح هذه الرسالة في (١٨) رجب المبارك سنة (١٤١١) هـ ق في بلدة قم المقدسة على يد العبد السيد مهدي الرجائي عفي عنه.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٧ / ٢٤١ ، ح ٤.

(٢) وسائل الشيعة ٧ / ٢٤٣ ، ح ١٦.



سلسلة آثار المحقق الخاجوئى

(٥٠)

رسالة

في حرمة تزويج المؤمنة بالمخالف

للعلّامة المحقّق العارف

محمّد إسماعيل بن الحسين بن محمّد رضا المازندراني الخاجوئي

المتوفّى سنة ١١٧٣ ه‍ ق

تحقيق

السيّد مهدي الرّجائي



بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي حرم المؤمنات على المسلمين ، كما حرم الكافرات على المؤمنين تنويها بشأن الايمان ، وتعظيما لأهل الدين ، والصلاة على أشرف المرسلين محمد وعترته الطاهرين.

وبعد : يقول العبد الواثق بتأييد ربه الجليل محمد بن الحسين بن محمد رضا المشتهر بإسماعيل سقاهم الله برحمته كأسا بعد كأس مزاجها الزنجبيل ، من عين خلقها في الجنة وسماها السلسبيل :

ان السبب المقدم لي على تأليف رسالتي هذه أني لما وقفت على مصنفات فقهائنا رحم الله السلف منهم والخلف ، وجدتهم بين مانعين تزويج المؤمنة بالمخالف ، وهم الأكثر ، متمسكين فيه بالأخبار الواردة عن الأئمة الأطهار عليهم صلوات الله الملك الغفار ، وذاهبين الى جواز ذلك على كراهة ، من غير دليل لهم عليه ، ولا شاهد من الآثار.

بيد أن من تأخر عنهم اعتذر لهم ، بأن تلك الاخبار بين مرسل وضعيف ومجهول ، فلا تفيد التحريم ، بل غايتها الكراهة ، كما قال بها أولئك الاخبار.

فلما راجعت كتب الاخبار ، وأمعنت النظر فيها وفيما فيها ، ألفيته ينطق بخلاف


ذلك ، ويشهد بوجود صحاح وحسان وموثقات من الاخبار المنقولة عن سيد الأبرار وعترته الأخيار ، ناصة بالباب ، ناطقة بفصل الخطاب ، كما ستطلع عليه في هذا الكتاب ، بعون الله الملك الوهاب.

فقصدت نقلها والإشارة إلى صحتها وسقمها ، وما يستفاد منها ويتفرع عليها ، مما يتعلق بمسألتنا هذه.

فإن وجدتني في ذلك مصيبا ، والا فعليك بإصلاح الفساد وعدم ترويج الكساد ان الله لا يضيع أجر المحسنين.

فصل

[ تنقيح المسألة ]

هل يجوز للمؤمنة التزويج بالمخالف من أي فرق الإسلام كان ولو من الشيعة غير الإمامية؟ قولان :

أحدهما وعليه المعظم : المنع لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله « المؤمنون بعضهم أكفاء بعض » (١) دل بمفهومه على أن غير المؤمن لا يكون كفوا للمؤمنة.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه ، ألا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير (٢). والمؤمن لا يرضى دين غيره.

وقول الصادق عليه‌السلام : ان العارفة لا توضع الا عند عارف (٣).

__________________

(١) عوالي اللئالي ٢ / ٢٧٤ ، والتهذيب ٧ / ٣٩٧.

(٢) تهذيب الاحكام ٧ / ٣٩٤ ، ح ٢.

(٣) فروع الكافي ٥ / ٣٥٠ ، ح ١١.


وفي معناها أخبار كثيرة واضحة الدلالة على المنع لو صح سندها ، وفي بعضها تعليل ذلك بأن المرأة تأخذ من أدب زوجها ويقهرها على دينه.

والثاني : الجواز على كراهية ، اختاره المفيد والمحقق ابن سعيد ، اما لان الإيمان هو الإسلام ، أو لضعف الدليل الدال على اشتراط الايمان فإن الأخبار بين مرسل وضعيف ومجهول.

ولا شك أن الاحتياط المطلوب في النكاح المترتب عليه مهام الدين ، مع تظافر الأخبار بالنهي ، وذهاب المعظم اليه ، حتى ادعى بعضهم الإجماع عليه ، يرجح القول الأول ، واقتصار المصنف على حكاية القولين مشعر بما نبهنا عليه ، كذا في اللمعة وشرحها (١).

وفيه نظر ، يتوقف بيانه على تمهيد مقدمة مفيدة في نفسها.

فنقول : موسى بن بكر الواسطي من أصحاب الكاظم عليه‌السلام أصله كوفي ، وهو واقفي له كتاب يرويه جماعة. وذكر الكشي رحمه‌الله في ترجمته روايات تدل على اختصاصه به عليه‌السلام.

منها : ما رواه عن جعفر بن أحمد ، عن خلف بن حماد ، عن موسى بن بكر ، قال : سمعت أبا الحسن عليه‌السلام يقول قال أبي عليه‌السلام : سعد امرء لم يمت حتى يرى منه خلفا تقر به عينه ، وقد أراني الله جل وعز من ابني هذا خلفا ، وأشار بيده الى العبد الصالح عليه‌السلام ما تقر به عيني (٢).

قال الفاضل القهبائي ملا عناية الله قدس‌سره في حاشيته المتعلقة على هذا الموضع : وذكر أبو عمرو الكشي رحمه‌الله في جعفر بن خلف بعد ذكر مثل هذه الرواية لمدح الرجل واعتباره ، حتى يرتقي إلى ذروة التوثيق هكذا : وفيه

__________________

(١) شرح اللمعة ٥ / ٢٣٥ ـ ٢٣٦.

(٢) اختيار معرفة الرجال ٢ / ٧٣٧ ، ح ٨٢٥.


دلالة على خصوصيته ، وكأنهما كانا في مجلس السماع من الامام عليه‌السلام فدل على توثيقهما واعتبار الرواية بهما ، إذا لم يوجد في الطريق من يطعن فيه ، كما لا يخفى (١) انتهى كلامه رفع مقامه.

وهذا منه رحمه‌الله إشارة الى ما رواه الكشي رحمه‌الله في ترجمة جعفر بن خلف من أصحاب أبي الحسن موسى عليه‌السلام ، عن جعفر بن أحمد ، عن يونس بن عبد الرحمن ، عن جعفر بن خلف ، قال : سمعت أبا الحسن عليه‌السلام يقول : سعد امرء لم يمت حتى يرى منه خلفا ، وقد أراني الله من ابني هذا خلفا ، وأشار إليه يعني الرضا عليه‌السلام. وفيه دلالة على خصوصيته (٢) ، انتهى كلام الكشي رحمه‌الله.

قال الفاضل المذكور في حاشيته المتعلقة بقوله « وفيه دلالة على خصوصيته » هذا كلام الشيخ الجليل الكشي رحمه‌الله في مقام الاستدلال على اعتبار الراوي ، وليس له حكم الشهادة على النفس ، فان المضمون مما لا ريب فيه ، فإنه نقله غيره بطريق آخر ، كما نقل في موسى بن بكر الواسطي مبسوطا ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٣) الى هنا كلامه رفع في عليين مقامه.

ومما نقلناه ظهر أن موسى هذا وان كان واقفيا ، الا أنه من خاصة الكاظم عليه‌السلام وبطانته وثقاته المعتبرين عنده ، وكان في خدمته عليه‌السلام كثيرا ، كما يظهر من ترجمة المفضل بن عمر.

ومما رواه الكشي بإسناده الصحيح الى محمد بن سنان ، وهو أيضا صحيح ، كما فصلناه في بعض رسائلنا ، عن موسى بن بكر الواسطي ، قال : أرسل الي أبو الحسن عليه‌السلام فأتيته ، فقال لي : ما أراك مصفرا؟ وقال لي : ألم آمرك بأكل اللحم؟

__________________

(١) مجمع الرجال ٦ / ١٥١.

(٢) اختيار معرفة الرجال ٢ / ٧٧٤ ، ح ٩٠٥.

(٣) مجمع الرجال ٢ / ٢٧.


فقلت : ما أكلت غيره منذ أمرتني.

فقال : كيف تأكله؟ قلت : طبيخا ، قال : كله كبابا ، فأكلت ، فأرسل الي بعد جمعة فإذا الدم قد عاد في وجهي ، فقال لي : نعم.

ثم قال : يخف عليك أن نبعثك في بعض حوائجنا ، فقلت : أنا عبدك فمرني بم شئت ، فوجهني في بعض حوائجه إلى الشام (١). هذا آخر الرواية المذكورة في الكشي.

فعلم أن رواية موسى هذا موثقة ، إذا لم يكن في الطريق قادح من غير جهته ، وهذه فائدة تفيدك في كثير من الاخبار الواردة في الإيقاعات والعقودات والاحكام والعبادات ، فليكن على ذكر منك إن شاء الله العزيز.

وأما علي بن الحكم الأنباري الكوفي تلميذ ابن أبي عمير ، وشيخ الفضل بن شاذان ، فهو مثل ابن فضال وابن بكير على ما في الكشي ، وهذا منه إشارة إلى توثيقه ، كما صرح به الشيخ في فهرسته.

حيث قال : علي بن الحكم الكوفي ثقة جليل القدر ، له كتاب أخبرنا به جماعة ، ثم أسنده إليه بطرق عديدة (٢).

واعلم أن طريق الصدوق رحمه‌الله في الفقيه إلى زرارة صحيح كما يظهر من مشيخته ، حيث قال روح الله روحه : وما كان فيه عن زرارة بن أعين ، فقد رويته عن أبي رضي‌الله‌عنه ، عن عبد الله بن جعفر الحميري ، عن محمد بن عيسى بن عبيد ، والحسن بن ظريف ، وعلي بن إسماعيل بن عيسى ، كلهم عن حماد بن عيسى عن حريز ، عن زرارة بن أعين (٣). والسند كما ترى صحيح.

إذا تمهد هذا فنقول : في الكافي عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ،

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال ٢ / ٧٣٧ ، ح ٧٢٦.

(٢) الفهرست ص ٨٧.

(٣) من لا يحضره الفقيه ٤ / ٤٢٥.


عن علي بن الحكم ، عن موسى بن بكر ، عن زرارة بن أعين ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : تزوجوا في الشكاك ، ولا تزوجوهم ، فإن المرأة تأخذ من أدب زوجها ويقهرها على دينه (١).

وهذا المتن بعينه مذكور في الفقيه بسند آخر عن زرارة عنه عليه‌السلام (٢). وقد عرف مما سبق أنه في الكافي موثق ، وفي الفقيه صحيح.

ورواه الشيخ في الاستبصار عن الحسين بن سعيد ، عن أحمد بن محمد ، عن عبد الكريم ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : تزوجوا في الشكاك الحديث كما سبق (٣).

والسند موثق كالصحيح ، لان عبد الكريم هذا وان كان واقفيا الا أنه ثقة ، كما نص عليه النجاشي ، حيث قال : انه روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن عليهما‌السلام ، ثم وقف على أبي الحسن عليه‌السلام ، كان ثقة ثقة عينا ، يلقب كرام ، له كتاب يرويه عدة من أصحابنا ، ثم أسنده بإسناده اليه. (٤)

فصل

[ تحقيق حول خبر الكافي في المسألة ]

الخبر المذكور مذكور في الكافي في باب مناكحة النصاب والشكاك بطريقين :

أحدهما : ما رواه رحمه‌الله في أول هذا الباب عن عدة من أصحابه ، عن

__________________

(١) فروع الكافي ٥ / ٣٤٩ ، ح ٥.

(٢) من لا يحضره الفقيه ٣ / ٤٠٨ ، ح ٤٤٢٦.

(٣) الاستبصار ٣ / ١٨٤ ، ح ٧.

(٤) رجال النجاشي ص ٢٤٥.


سهل بن زياد ، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر ، عن عبد الكريم بن عمرو ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام (١).

والثاني : ما رواه في هذا الباب أيضا بعد هذا السند بفاصلة خبرين آخرين بسند ذكرناه آنفا (٢).

والشهيد الثاني قدس‌سره لما غفل عن هذا وكان نظره على الأول ، قال في شرح الشرائع في مقام القدح في هذا الخبر : وفي طريقه سهل بن زياد ، وهو فاسد المذهب. وعبد الكريم بن عمرو وهو واقفي ، وأبو بصير وهو مشترك بين الثقة والضعيف ، وعلى هذا بناء كلامه في شرحه على اللمعة.

وهذا منه قدس‌سره غريب ، وأغرب منه قوله باشتراك أبي بصير ، وروايات أبي بصير سواء أريد به الأسدي والمرادي وابن أبي القاسم صحيحة إذا لم يكن في الطريق قادح من غير جهتهم ، والاشتراك اشتباه.

والروايات الدالة على الطعن فيهم معارضة بأكثر منها الدالة على مدحهم وتوثيقهم. ونحن قد بسطنا الكلام فيهم في بعض رسائلنا بما لا مزيد عليه ، فليطلب من هناك.

واعلم أن المتبادر من الشكاك مطلق المخالفين ، سماهم بذلك لأنهم أرباب شكوك وخيالات وأصحاب شبه وجهالات ، ليس لهم قدم صدق عند ربهم فيما اعتقدوه ، ولإثبات جاش وطمأنينة فيما عقلوه.

بل علماؤهم وأئمتهم الباقون على ضلالتهم تائهين متحيرين ، وعلى ما حصلوه طول أعمارهم نادمين ، ولا يجزمون بنجاة أنفسهم من حيث العقيدة والدين ،

__________________

(١) فروع الكافي ٥ / ٣٤٨ ، ح ١.

(٢) فروع الكافي ٥ / ٣٤٩ ، ح ٥.


وليسوا في سداد من يزعمونه امام الأمة وخليفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بمستيقنين ، لما رووه فيهم ورأوه من ذويهم.

وأما الشيخ الشارح قدس‌سره ، فلم يفسرهم في شرح الشرائع بتفسير ، غير أنه قال في مقام رد هذه الرواية : انها لا تدل على المطلوب ، فإن النهي عن الشكاك لا يستلزم النهي عن غيرهم (١).

والظاهر منه أنه خصهم بفرقة منهم ، ولعل نظره الى ما في بعض الكتب المعقودة لنقل المذهب ، من أن الشاكية والشكاك من قولهم ان مرتكب الكبيرة لا كافر ولا مؤمن ولا فاسق ، بل منافق وان أماطته الأذى من الايمان ، ومنهم مالك ، والشافعي وشريك بن عبد الله وابن أبي ليلى ، وسفيان الثوري ، قالوا : الايمان كله باللسان والأركان.

فصل

[ تحقيق حول النبوية الواردة في المسألة ]

المروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الكافي (٢) وان كان ضعيفا ، الا أنه مروي في الفقيه عن أبي جعفر عليه‌السلام بسند موثق.

فإنه روى فيه عن محمد بن الوليد ، عن الحسين بن يسار ، وفي بعض النسخ بشار ، وستعرف وجهه ، قال : كتبت الى أبي جعفر عليه‌السلام في رجل خطب الي ، فكتب عليه‌السلام : من خطب إليكم فرضيتم دينه وأمانته كائنا من كان فزوجوه ، الا تفعلوا

__________________

(١) المسالك في شرح الشرائع ١ / ٤٩٧.

(٢) فروع الكافي ٥ / ٣٤٧ ، ح ١.


تكن فتنة في الأرض وفساد كبير (١).

وطريق الصدوق الى محمد بن الوليد موثق ، كما يظهر من مشيخته ، حيث قال نور الله مرقده : وما كان فيه عن محمد بن الوليد الكرماني ، فقد رويته عن أحمد ابن زياد بن جعفر الهمداني رضي‌الله‌عنه ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن محمد بن الوليد الكرماني (٢).

ومحمد هذا كرماني أصلا ، وكوفي جوارا ، ثقة عين من أجلة العلماء والفقهاء والعدول من الكوفة ، الا أنه فطحي.

وفي الكشي الحسين بن بشار بالموحدة سيذكر إن شاء الله تعالى بالمثناة والسين المهملة « م » الحسين بن بشار « ضا » الحسين بن بشار مدائني مولى زياد ثقة صحيح ، روى عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام ، والحسين بن بشار أشهر.

ومنه يعلم أن المراد بأبي جعفر هنا هو الثاني ، وهو محمد بن علي الجواد عليه‌السلام.

وبما نقلنا يندفع ما ذكره في شرح الشرائع بعد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه ، بقوله : اضافة الخلق الى الدين والخلق ليس معتبرا في الكفاءة إجماعا ، فدل على أن المقصود الأمر بتزويج من هو كذلك لكماله ، ولا يلزم منه تحريم غيره (٣).

وذلك لان المذكور في الفقيه هو أمانته. ومثله ما في التهذيب (٤) في رواية الحسين بن يسار الواسطي ، فإن المذكور فيها أيضا دينه وأمانته لا خلقه ، نعم هو

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٣ / ٣٩٣ ، ح ٤٣٨١.

(٢) من لا يحضره الفقيه ٤ / ٥٢٤.

(٣) المسالك ١ / ٤٩٧.

(٤) تهذيب الاحكام ٧ / ٣٩٦ ، ح ٩.


مذكور في الكافي.

وفي التهذيب بسند صحيح عن علي بن مهزيار ، قال : قرأت كتاب أبي جعفر عليه‌السلام الى ابن شيبة الأصبهاني : فهمت ما ذكرت من أمر بناتك وانك لا تجد أحدا مثلك ، فلا تنظر في ذلك يرحمك الله ، فان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه ، فإنكم إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير (١).

وفيه عن محمد بن يعقوب ، عن عدة من أصحابه ، عن سهل بن زياد ، ومحمد ابن يحيى ، عن أحمد بن محمد جميعا ، عن علي بن مهزيار ، قال : كتب علي بن أسباط إلى أبي جعفر عليه‌السلام في أمر بناته أنه لا يجد أحدا مثله.

فكتب إليه أبو جعفر عليه‌السلام : فهمت ما ذكرت من أمر بناتك الحديث (٢). كما سبق ، والسند الثاني صحيح.

وفيه عنه عن عدة من أصحابه عن أحمد بن أبي عبد الله ، عن إبراهيم بن محمد الهمداني ، والسند صحيح ، قال : كتبت الى أبي جعفر عليه‌السلام في التزويج فأتاني كتابه بخطه : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه الحديث (٣)

فصل

[ تحقيق حول أخبار المسألة ]

ومما نقلناه يعلم أيضا أن قوله « فإن الأخبار بين مرسل وضعيف ومجهول »

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٧ / ٣٩٥ ، ح ٤.

(٢) تهذيب الاحكام ٧ / ٣٩٦ ، ح ١٠.

(٣) تهذيب الاحكام ٧ / ٣٩٦ ، ح ٨.


انما نشأ من عدم رجوعه الى الكتابين ، بل كان نظره وقت كتابة الشرحين مقصورا على ما في الكافي ، بل ولم يمعن النظر على ما فيه أيضا.

لأن ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله « المؤمنون بعضهم أكفاء بعض » وان كان مرسلا في الكافي في باب بلوغهن وتحصينهن بالأزواج (١).

الا أنه روى فيه في باب أن المؤمن كفو للمؤمنة ، عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن محبوب ، عن مالك بن عطية ، عن أبي حمزة الثمالي ، والسند كما ترى صحيح ، عن الباقر عليه‌السلام في حديث طويل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من حديث جويبر أنه قال : جويبر مؤمن ، والمؤمن كفو للمؤمنة والمسلم كفو للمسلمة (٢).

ومنه يعلم أن تأويلهم الايمان الى الإسلام في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « المؤمنون بعضهم أكفاء بعض » بعيد ، لدلالة العطف على المغايرة ، والحمل على التفسير خلاف الظاهر.

ويدل عليه قوله تعالى ( قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا ) (٣) نفى أحدهما وأثبت الأخر فتغايرا ، فبطل كون الايمان هو الإسلام.

وفي رواية سفيان بن السمط عن الصادق عليه‌السلام قال : الإسلام هو الظاهر الذي عليه الناس ، شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصيام شهر رمضان ، فهذا الإسلام ، والايمان معرفة هذا الأمر مع هذا ، فإن أقر بها ولم يعرف هذا الأمر كان مسلما وكان ضالا (٤).

__________________

(١) فروع الكافي ٥ / ٣٣٧ ، ح ٢.

(٢) فروع الكافي ٥ / ٣٣٩ ، ح ١.

(٣) سورة الحجرات : ١٤.

(٤) أصول الكافي ٢ / ٢٤ ، ح ٤.


فما ذكره في شرح الشرائع بعد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « المؤمنون بعضهم أكفاء بعض » بقوله : وفي الاستدلال به نظر. أما من حيث السند ، فلأنها مرسلة رواها الكليني عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وقال : سقط عني إسناده.

وأما من حيث دلالة المتن ، فلان المراد بالمؤمن المسلم ، أو المصدق بقلبه لما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا الايمان الذي يعتبره أصحابنا ، فإنه اصطلاح متأخر لا يراد عند إطلاقه في كلام الله تعالى ونبيه إجماعا (١).

محل نظر أما إرسال السند ، فلأنك قد عرفت أنه لا يضر لوجود مثله في رواية مسندة صحيحة السند.

وأما قوله « المراد بالمؤمن المسلم » فقد سبق ما فيه ، ويزيده بيانا صحيحة جميل بن دراج عن الصادق عليه‌السلام في كريمة « قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا » الآية ، فقال عليه‌السلام : ألا ترى أن الايمان غير الإسلام (٢).

وموثقة أبي بصير عن الباقر عليه‌السلام ، قال : سمعته يقول « قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا » فمن زعم أنهم آمنوا فقد كذب ، ومن زعم أنهم لم يسلموا فقد كذب (٣).

فإنهما صريحتان في أن الايمان غير الإسلام في كتاب الله العزيز.

وأما قوله « أو المصدق بقلبه لما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا الايمان الذي يعتبره أصحابنا » فلان التصديق القلبي بجميع ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عين الإيمان الذي يعتبره أصحابنا ، فإن القول بامامة أثنا عشر اماما من أعظم ما جاء به وأكمل أفراده.

__________________

(١) المسالك ١ / ٤٩٧.

(٢) أصول الكافي ٢ / ٢٤ ، ح ٣.

(٣) أصول الكافي ٢ / ٢٥ ، ح ٥.


فصل

[ المناقشة في استدلال من اكتفى بالإسلام مطلقا ]

وأما استدلاله على الاكتفاء بالإسلام بصحيحة ابن سنان عن الصادق عليه‌السلام ، قال : سألته بم يكون الرجل مسلما يحل مناكحته وموارثته؟ وبم يحرم دمه؟ فقال : يحرم دمه بالإسلام إذا أظهر ، ويحل مناكحته موارثته (١). قال : وهو أصح ما في الباب سندا وأظهر دلالة.

ففيه مع معارضته بما في الكافي في باب مناكحة النصاب والشكاك ، عن علي ابن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير عن الحلبي.

فالسند صحيح على ما تقرر عندنا ، وذهب اليه الشيخ الشارح في شرح الشرائع ، والفاضل الأردبيلي في آيات أحكامه ، ونحن قد فصلناه في بعض رسائلنا.

عن الصادق عليه‌السلام أنه أتاه قوم من أهل خراسان من وراء النهر ، فقال لهم : تصافحون أهل بلادكم وتناكحونهم؟ أما أنكم إذا صافحتموهم انقطعت عروة من عرى الإسلام ، وإذا ناكحتموهم انهتك الحجاب فيما بينكم وبين الله عزوجل (٢) ان أهل الخلاف لا نصيب لهم في الإسلام. كما سيأتي في صحيحتي محمد وابن أبي يعفور ، الا ان يخص بالنصيب الأخروي.

ويقال : ان هذا الإسلام الظاهري يحقن دماءهم ، ويحل ذبيحتهم ، وبه يتحقق التوارث والتناكح بين المؤمنين وبينهم ، فهم يشاركون أهل الايمان في الأحكام

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٧ / ٣٠٣ ، ح ٢٣.

(٢) فروع الكافي ٥ / ٣٥٢ ، ح ١٧.


الدنيوية ، ويفارقونهم في الأحكام الأخروية ، لا لمجرد ما ذكره قدس‌سره بل لروايات أصح سندا وأوضح دلالة.

كصحيحة حمران بن أعين عن الباقر عليه‌السلام قال : سمعته يقول : ان الايمان ما استقر في القلب ، وأفضى به الى الله عزوجل ، وصدقة العمل بالطاعة والتسليم لأمره ، والإسلام ما ظهر من قول أو فعل ، وهو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلها ، وبه حقنت الدماء ، وعليه جرت المواريث وجاز النكاح.

الى أن قال قلت : فهل للمؤمن من فضل على المسلم في شي‌ء من الاحكام والحدود وغير ذلك؟

فقال : لا هما يجريان في ذلك مجرى واحد ولكن للمؤمن فضل على المسلم في إعمالهما وما يتقربان به الى الله الحديث (١).

وحسنة الفضيل بن يسار عن الصادق عليه‌السلام قال : سمعته يقول : ان الايمان يشارك الإسلام ، ولا يشاركه الإسلام ، ان الايمان ما وقر في القلوب ، والإسلام ما عليه المناكح والموارث وحقن الدماء الحديث (٢).

وموثقة سماعة ، قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أخبرني عن الإسلام والايمان أهما مختلفان؟

فقال : ان الايمان يشارك الإسلام ، والإسلام لا يشارك الايمان.

قلت : فصفهما لي.

فقال : الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله ، والتصديق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، به حقنت الدماء ، وعليه جرت المناكح والمواريث ، وعلى ظاهره جماعة الناس.

والايمان الهدى وما يثبت في القلوب من صبغة الإسلام ، وما ظهر من العمل

__________________

(١) أصول الكافي ٢ / ٢٦ ـ ٢٧ ، ح ٥.

(٢) أصول الكافي ٢ / ٢٦ ، ح ٣.


به ، والايمان أرفع من الإسلام بدرجة ، أن الايمان يشارك الإسلام في الظاهر ، والإسلام لا يشارك الايمان في الباطن ، وان اجتمعا في القول والصفة (١).

أقول : ظاهر الأصحاب يفيد أن هذه الاخبار وما شاكلها لم تكن معمولا بها عندهم ، والا فلا وجه لذهابهم الى خلاف ظاهرها من عدم جواز مناكحة أهل الخلاف ، كما ذهب اليه معظم الأصحاب ، حتى ادعى عليه الإجماع بعضهم.

أو عدم ثبوت التوارث بيننا وبينهم ، بان نرثهم ولا يرثونا ، كما ذهب اليه المفيد وأبو الصلاح.

أو عدم جواز الصلاة عليهم ، كما ذهب اليه المفيد في المقنعة والشيخ في التهذيب.

أو عدم استحلال ذبيحتهم ، كما ذهب إليه القاضي وابن إدريس ، فإن القاضي منع من ذبيحة غير أهل الحق ، وقصر ابن إدريس الحل على المؤمن والمستضعف الذي لا منا ولا من مخالفينا ، واستثنى أبو الصلاح من المخالف جاحد النص ، فمنع من ذبيحته.

واحتج المانع من غير المؤمن بصحيحة زكريا بن آدم ، قال قال أبو الحسن عليه‌السلام : اني أنهاك عن ذبيحة كل من كان على خلاف الذي أنت عليه وأصحابك إلا في وقت الضرورة (٢).

وهي كما ترى تتضمن النهي عن ذبيحة من لم يكن مؤمنا.

هذا وذلك لان ظاهر هذه الاخبار على تقدير العمل يفيد عدم الفرق بين المؤمن والمسلم في شي‌ء من الاحكام ، وقد دل على خلافه كثير من الاخبار ،

__________________

(١) أصول الكافي ٢ / ٢٥ ، ح ١.

(٢) تهذيب الاحكام ٩ / ٧٠ ، ح ٣٣.


حتى ورد أن المؤمن لا يقتل بالمخالف ، كما سيأتي في صحيحة بريد إن شاء الله العزيز.

فصل

[ التجنب عن النصاب والشكاك ]

من الغريب أن الشهيد الأول بعد توقفه في جواز تزويج المؤمنة بالمخالف جوز العكس ، معللا بأن المرأة تأخذ من دين بعلها ، فيقودها الى الايمان ، وهذا التعليل لو تم لدل على جواز الأصل قطعا من غير توقف ، لأنها ربما انتقلت عن دينها بكثرة المعاشرة إلى دين زوجها ، وهو غير دين الله.

كما تدل عليه صحيحة محمد بن مسلم عن الباقر عليه‌السلام فتصير ضالة بعد هداها تابعة غير سبيل المؤمنين ، فيوليها الله ما تولت ، ويصليها جهنم وساءت مصيرا.

قال أبو جعفر عليه‌السلام لمحمد بن مسلم : يا محمد ان أئمة الجور وأتباعهم لمعزولون عن دين الله قد ضلوا وأضلوا ، فأعمالهم التي يعملونها كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شي‌ء وذلك هو الضلال البعيد (١).

ومثلها صحيحة عبد الله بن يعفور عن الصادق عليه‌السلام قال : سمعته يقول : ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب اليم : من ادعى امامة من الله ليست له ، ومن جحد اماما من الله ، ومن زعم أن لهما في الإسلام نصيبا (٢).

فإنها صريحة في أن اتباع أئمة الجور مثلهم في الكفر والضلال. وأيضا فإن أهل الضلال لا يجوز مصاحبتهم ولا مجالستهم ، لأنهم من أهل البدع والمناكير.

__________________

(١) أصول الكافي ١ / ٣٧٥ ، ح ٢.

(٢) أصول الكافي ١ / ٣٧٣ ، ح ٤.


وقد قال سيدنا الصادق عليه‌السلام في صحيحة عمر بن يزيد : لا تصحبوا أهل البدع ولا تجالسوهم ، فتصيروا عند الناس كواحد منهم ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المرء على دين خليله وقرينه (١).

والمرأة المسكينة لا بد لها من مصاحبة زوجها ومجالسته ومعاشرته ، فنأخذ من بدعه وأهوائه ومناكيره ما تصير به من أهل الضلالة والعداوة لأهل البيت عليهم‌السلام وقد أمر الله بولايتهم ومودتهم.

لأنها لنقصان عقلها سريعة الانخداع ، فتميل الى دين قرينها ، وهو شيطان مارد ، فتصير ناصبية بعد أن كانت إمامية ، إذ ما من مخالف الا وله نصب ، كما يشهد به تتبع أحوالهم ، ولا أقل من كتمانه حسنة من حسناتهم عليهم‌السلام ، وانقباضه عند ذكرهم ، أو ذكر مناقبهم وفضائلهم.

وأيضا من البين أنه من لا يبرأ من أعداء أهل البيت عليهم‌السلام فهو عدو لهم. كما هو صريح صحيح إسماعيل الجعفي ، قال قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : رجل يحب أمير المؤمنين عليه‌السلام ولا يبرأ من عدوه ، ويقول : هو أحب الي ممن خالفه ، فقال : هذا مخلط وهو عدو لا تصل خلفه ولا كرامة الا أن تتقيه (٢).

فحكم عليه‌السلام بعداوة من لا يبرأ من أعدائهم ، وان قال بأن أمير المؤمنين عليه‌السلام أحب إليه ممن خالفه ، ولا نعني بالناصب الا من نصب العداوة لأهل البيت عليهم‌السلام مسرا كان أو معلنا ، بل نقول : من يعادي أحباؤهم عليهم‌السلام فهو ناصب.

لقول سيدنا الصادق عليه‌السلام وقد سئل عن الناصب : ليس الناصب من نصب العداوة لنا ، فإنك لو دررت العراقين لما وجدت من يبغضنا ، وانما الناصبي من

__________________

(١) أصول الكافي ٢ / ٣٧٥ ، ح ٣.

(٢) من لا يحضره الفقيه ١ / ٣٨٠ ، ح ١١١٧.


نصب العداوة لشيعتنا وهو يعلم أنهم شيعتنا (١).

وعلى هذا التفسير وهو الحق ، فجل المخالفين بل كلهم داخلون في أهل النصب.

وقريب منه صحيحة ابن أذينة عنه عليه‌السلام قال : ما تروي هذه الناصية؟ فقلت : جعلت فداك في ما ذا؟ فقال : في آذانهم وركوعهم وسجودهم ، فقلت : انهم يقولون : ان أبي بن كعب رآه في النوم.

فقال : كذبوا فان دين الله عزوجل أعز من أن يرى في النوم الحديث وطوله (٢).

وفيه دلالة على أن من لم يقل بإمامتهم عليهم‌السلام من الفرق كلها فهو ناصب ، لانه لا يخلو من نصب عداوة لواحد منهم عليهم‌السلام ، حيث اعتقد فيه أنه ليست له مرتبة الإمامة وفرض الطاعة.

إذا تقرر هذا فنقول : في صحيحة ابن سنان عن الصادق عليه‌السلام قال : سألته عن الناصب الذي عرف نصبه وعداوته هل يزوجه المؤمن وهو قادر على رده؟ قال : لا يتزوج المؤمن الناصبية ، ولا يتزوج الناصب المؤمنة. كذا في الكافي (٣).

وفيه إيماء إلى أنه لا يشترط في المنع من الناصب إعلانه بالعداوة ، بل متى عرف منه البغض وان كان بعنوان نصبه له اماما باطلا ، فهو ناصبي وان لم يعلن ، ولم يظهر ذلك منه ، وإطلاق الناصب على من نصب اماما باطلا ، وهو مطلق المخالف في الاخبار شائع.

منها : صحيحة وهب بن عبد ربه عن الصادق عليه‌السلام أيحج الرجل عن الناصب

__________________

(١) معاني الأخبار ص ٣٦٥.

(٢) فروع الكافي ٣ / ٤٨٢ ، ح ١.

(٣) فروع الكافي ٥ / ٣٤٩ ، ح ٨.


فقال : لا ، فقلت : فان كان أبي ، قال ان كان أباك فنعم (١).

فان المراد بالناصب هنا المخالف ، إذ لو كان المراد به المعلن بالعداوة لم يجز الحج عنه بإجماع الأصحاب وان كان أبا ، لخروجه عن الإسلام.

ومنها : صحيحة بريد عن الباقر عليه‌السلام قال : سألته عن مؤمن قتل ناصبيا معروفا بالنصب على دينه غضبا لله أيقتل به؟ فقال : أما هؤلاء فيقتلونه ، ولو رفع الى امام عادل (٢) لم يقتله ، قلت : فيبطل دمه؟ قال : لا ولكن ان كان له ورثة ، فعلى الامام أن يعطيهم الدية من بيت المال (٣).

والمراد به المخالف ، إذ لو كان المراد به المعلن بعداوة أهل البيت عليهم‌السلام لكان دمه هدرا ولم يلزم منه الدية من بيت المال بالإجماع.

فصل

[ تحقيق حول المستضعف في الاخبار ]

قد سبقت الإشارة في كلام ابن إدريس الى أن المستضعف هو الذي لا منا ولا من مخالفينا ، ولعله يرجع اليه ما هو المشهور بين أصحابنا ، من أن المراد به من لا يعرف الحق ولا يعاند فيه ، ولا يوالي أحدا بعينه.

__________________

(١) فروع الكافي ٣ / ٣٠٩ ، ح ١.

(٢) هذا كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ان الله تعالى قد فرض عليكم الجمعة ، فمن تركها في حياتي أو بعد موتى وله امام عادل صريحة في أن المراد به المعصوم من آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لا امام الصلاة ، كما زعمه كثير منهم ، وقد بسطنا الكلام فيه في رسالة الجمعة ، فليطلب من هناك « منه ».

(٣) فروع الكافي ٧ / ٣٧٤ ، ح ١٤.


وقال بعضهم : هو من يعترف بالولاية ، ويتوقف على البراءة ويرده كثير من الاخبار الواردة في تفسيره ، فإنها صريحة في أن المراد به من لا يعرف الحق ولا يعاند فيه.

وأما من يعترف بالولاية ويتوقف عن البراءة ، فهو مخلط عدو ، كما دلت عليه صحيحة الجعفي السابقة.

حيث قال قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : رجل يحب أمير المؤمنين عليه‌السلام ولا يتبرأ من عدوه ويقول : هو أحب الي ممن خالفه ، قال : هذا مخلط وهو عدو (١).

ويظهر من بعض الاخبار أنه الذي يكون مخالفا للحق ولا يعادي أهل الحق من الشيعة ، والناصب هو المعادي لهم وان لم يكن يظهر العداوة لأهل البيت عليهم‌السلام.

وفي صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : المستضعفون الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ، قال : لا يستطيعون حيلة الى الايمان ولا يكفرون ، كالصبيان وأشباه عقول الصبيان من الرجال والنساء (٢).

وفي صحيحة عمر بن أبان ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن المستضعفين ، فقال : هم أهل الولاية ، فقلت : أي ولاية؟ فقال : أما أنها ليست بالولاية في الدين ولكنها الولاية في المناكحة والموارثة والمخالطة ، وهم ليسوا بالمؤمنين وليسوا بالكفار ، وهم المرجون لأمر الله عزوجل (٣).

ويظهر من بعض الاخبار إطلاقه على ضعفاء العقول من الشيعة صريحا ، والقول

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ / ٣٨٠.

(٢) معاني الأخبار ص ٢٠١ ، ح ٤. أصول الكافي ٢ / ٤٠٤ ، ح ٢.

(٣) معاني الأخبار ص ٢٠٢ ، ح ٨. أصول الكافي ٢ / ٤٠٥ ، ح ٥.


بدخول كلهم فيه ليس ببعيد ، لضعف دينهم من الطرفين ، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.

وفي الكافي في صحيحة زرارة ، قال قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : اني لأخشى أن لا يحل لي أن أتزوج من لم يكن على أمري ، فقال : ما يمنعك من البله من النساء؟ قلت : وما البله؟ قال : هن المستضعفات اللاتي لا ينصبن ولا يعرفن ما أنتم عليه (١).

وفيه في رواية أخرى عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال قلت له : أصلحك الله اني أخاف أن لا يحل لي أن أتزوج ، يعني ممن لم يكن على أمره ، قال : وما يمنعك من البله من النساء ، وقال : هن المستضعفات اللاتي لا ينصبن ولا يعرفن ما أنتم عليه (٢).

ويؤيده ما فيه في رواية أخرى عن زرارة ، قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أتزوج مرجئة أم حرورية؟ قال : لا عليك بالبله من النساء ، قال زرارة فقلت : والله ما هي إلا مؤمنة أو كافرة.

فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : فأين أهل ثنوى الله عزوجل؟ قول الله أصدق من قولك ( إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ) (٣) (٤).

وفيه في رواية أخرى عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام : فعليك بالبلهاء من النساء قلت : وما البلهاء؟ قال : ذوات الخدور العفائف ، فقلت : من هو على دين سالم بن

__________________

(١) فروع الكافي ٥ / ٣٤٩ ، ح ٧.

(٢) فروع الكافي ٥ / ٣٤٩ ـ ٣٥٠ ، ح ١٠.

(٣) سورة النساء : ١٠١.

(٤) فروع الكافي ٥ / ٣٤٨ ، ح ٢.


أبي حفص؟ فقال : لا ، فقلت : من هو على دين ربيعة الرأي؟ قال : لا ولكن عوائق اللاتي لا ينصبن ولا يعرفن ما تعرفون (١).

وفي صحيحة أبي بصير عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : من عرف اختلاف الناس فليس بمستضعف (٢).

وفي رواية أخرى عنه عليه‌السلام : ليس اليوم مستضعف أبلغ الرجال الرجال والنساء النساء (٣) إذا سبق.

هذا فنقول : روى شيخ الطائفة في الاستبصار عن الحسين بن سعيد ، عن النضر بن سويد ، عن عبد الله بن سنان ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الناصب الذي عرف نصبه وعداوته هل يزوجه المؤمن وهو قادر على رده وهو لا يعلم برده؟ قال : لا يتزوج المؤمن الناصبة ، ولا يتزوج الناصب مؤمنة ، ولا يتزوج المستضعف مؤمنة (٤).

وإذا لم يجز تزويج المؤمنة بالمستضعف وهو من لا يعاند في الحق وان لم يعرفه ، فعدم جواز تزويجها بالمخالف المعاند للحق الموالي لأعداء الله والمعادي لأوليائه أولى.

والقول بأن النهي فيه محمول على الكراهة ، كما يشعر به رواية الفضيل بن يسار ، قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن المرأة العارفة هل أزوجها الناصب؟ قال : لا ، لان الناصب كافر ، قلت : فأزوجها غير الناصب ولا العارف؟ فقال : غيره أحب الي منه (٥).

__________________

(١) فروع الكافي ٥ / ٣٥٠ ، ح ١٢.

(٢) أصول الكافي ٢ / ٤٠٦ ، ح ١٠.

(٣) أصول الكافي ٢ / ٤٠٦ ، ح ١٢.

(٤) الاستبصار ٣ / ١٨٣ ، ح ٢.

(٥) الاستبصار ٣ / ١٨٤ ، ح ٤.


يستلزم أن يكون تزويج الناصب مؤمنة مكروها ولم يقل به.

وأما رواية الفضيل ، ففي طريقها أبو جميلة ، وهو كذاب وضاع ، فلا يعبأ به ولا بروايته.

وأما ما ذكره الشيخ الشارح قدس‌سره في شرح الشرائع بعد نقل صحيحة ابن سنان المتقدمة الدالة على النهي عن تزويج المؤمنة بالمستضعف بقوله :

وأما رواية عبد الله بن سنان ، فإنها وان كانت صحيحة ، الا أن المستضعف يطلق على معان : منها ما هو أسوأ حالا من المخالف العارف ، فلا يلزم من النهي عن نكاح المستضعف النهي عن نكاح غير المؤمن مطلقا ، وان كان في إقراره ما هو أحسن حالا من المخالف.

ففيه أن الحق من معانيه هو الذي قدمناه ، وهو المشهور بين الأصحاب ، حتى أنه قدس‌سره في شرحه على اللمعة فسره به ، حيث قال بعد قول المصنف في الصلاة على الميت يدعو في المستضعف بدعائه ، وهو الذي لا يعرف الحق ولا يعاند فيه ، ولا يوالي أحدا بعينه.

مع أنه ليس من إفاداته قدس‌سره ، بل هو مأخوذ من كلام المحقق الثاني الشيخ علي قدس‌سره ، فإنه قال في جواب من سأله بهذه العبارة : وما قولهم في المؤمن الحقيقي والمستضعف؟ :

فان أقوال العلماء في تفسيرهما على طرائق شتى ، أصح الأقوال أن الايمان هو التصديق المخصوص بالقلب واللسان ، فمتى اعتقد المكلف بقلبه وأقر بلسانه بالأصول الخمسة فهو مؤمن.

فإن كان هذا الاعتقاد لا عن دليل ، فهو أدنى مراتب الايمان وأضعفها ، ومتى خلا المكلف عن هذا الاعتقاد وكان مقرا بالشهادتين ولم يعتقد ما يضاد شيئا من الأصول المذكورة فهو المستضعف.


فمن ثم كان تعريف المستضعف بأنه الذي لا يعرف الحق ولا يعاند فيه ولا يوالي أحدا بعينه أقرب الأقوال ، انتهى كلامه رفع مقامه.

فأمثال هذه المنوع والاحتمالات البعيدة منه قدس‌سره في شرح الشرائع محض تكلف ، رام به ترميم كلام المتن ، ولذا رجع عن القول به ، ورجح القول بعدم جواز تزويج المؤمنة بالمخالف في شرحه على اللمعة ، وهو الحق.

فصل

[ فيما ورد في الآثار من تزويج بنات الأنبياء والأوصياء ]

ان قلت مناكحة الضال قد وجدت من الأنبياء عملا وعرضا ودعاء ، فهذا لوط عليه‌السلام يقول ( هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ) (١).

وقد أقر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المنافقين على نكاح المؤمنات ، والمؤمنات على نكاحهم ، ولم يمنع ذلك من تباين الفريقين في الدين.

وقد زوج أمير المؤمنين عليه‌السلام ابنته أم كلثوم عمر بن الخطاب وقد عرف خلافه ونقل نقلا مشهورا أن فاطمة بنت الحسين عليه‌السلام تزوجت بعبد الله بن عمرو بن عثمان ، وشاع ذلك وذاع ، حتى قيل : انها ولدت منه محمد الذي يلقب بالديباج قلت : كان عرض نبي الله لوط عليه‌السلام من عرض بناته على قومه وهم كفارا استصلاحهم وردهم عن ضلالهم ، وإتمام الحجة عليهم ، ومع ذلك كان ذلك في شرع من قبلنا ، فلم يكن حجة علينا.

وأما إقرار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المنافقين على النكاح ، فليس مما نحن فيه ، لأنهم كانوا على ظاهر ما كان عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلم يكن بين الفريقين مباينة في

__________________

(١) سورة هود : ٧٨.


الدين بحسب الظاهر ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله كان مأمورا بأخذ الظاهر وترك الباطن ، كما قال نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر.

ولو أن مخالفا نافق وقال بلسانه دون قلبه بما نقول به ، فنحن نجوز تزويج المؤمنة به ، لأنه مؤمن على ظاهر حاله.

وأما أمير المؤمنين سلام الله عليه ، فكان فيما فعله مضطرا ، والضرورات تبيح المحذورات.

يدل على ذلك ما رواه الكليني في الكافي في باب عقده في تزويج أم كلثوم ، عن زرارة في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام في تزويج أم كلثوم ، فقال : ان ذاك فرج غصبناه (١).

وعن هشام بن سالم في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : لما خطب اليه ، قال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : انها صبية ، قال : فلقي العباس فقال له : ما لي؟ أبي بأس؟ قال : وما ذاك؟ قال : خطبت الى ابن أخيك فردني ، أما والله لأعورن زمزم ولا أدع لكم مكرمة إلا هدمتها ، ولا فيمن عليه شاهدين بأنه سرق ، ولا قطعن يمينه ، فأتاه العباس فأخبره وسأله أن يجعل الأمر إليه ، فجعله اليه (٢).

وفي رواية عمر بن أذينة ، قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ان الناس يحتجون علينا أن أمير المؤمنين عليه‌السلام زوج فلانا ابنته أم كلثوم ، وكان عليه‌السلام متكئا فجلس وقال : تقبلون أن عليا أنكح فلانا ابنته ، ان قوما يزعمون ذلك ، ما يهتدون الى سواء السبيل ولا الرشاد.

ثم صفق بيده وقال : سبحان الله ما كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يقدر أن يحول بينه وبينها ، كذبوا لم يكن ما قالوا ، ان فلانا خطب الى علي عليه‌السلام بنته أم كلثوم فأبى ،

__________________

(١) فروع الكافي ٥ / ٣٤٦ ، ح ١.

(٢) فروع الكافي ٥ / ٣٤٦ ، ح ٢.


فقال للعباس : والله لئن لم يزوجني لأنتزعن منك السقاية وزمزم ، فأتى العباس عليا ، فكلمه فأبى عليه ، فألح العباس.

فلما رأى أمير المؤمنين عليه‌السلام مشقة كلام الرجل على العباس ، وانه سيفعل معه ما قال ، أرسل الى جنية من أهل نجران يهودية يقال لها : سحيقة بنت جريرية ، فأمرها فتمثلت في مثال أم كلثوم ، وحجبت الابصار عن أم كلثوم بها ، وبعث بها الى الرجل.

فلم تزل عنده حتى أنه استراب بها يوما ، فقال : ما في الأرض أهل بيت أسحر من بني هاشم ، ثم أراد أن يظهر للناس ، فقتل فحوت الميراث وانصرفت الى نجران ، وأظهر أمير المؤمنين عليه‌السلام أم كلثوم (١).

قيل : لا منافاة بينه وبين سائر الأخبار الواردة في أنه زوجه أم كلثوم.

كموثقة معاوية بن عمار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن المرأة المتوفّى عنها زوجها أتعتد في بيتها أو حيث شاءت ، قال : بل حيث شاءت ، ان عليا عليه‌السلام لما توفى عمر أتى أم كلثوم ، فانطلق بها الى بيته (٢).

وصحيحة سليمان بن خالد ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن امرأة توفي زوجها أين تعتد في بيت زوجها تعتد أو حيث شاءت؟ قال : بل حيث شاءت ثم قال : ان عليا عليه‌السلام لما مات عمر أتى أم كلثوم ، فأخذ بيدها فانطلق بها الى بيته (٣).

وذلك لأنهم صلوات الله عليهم كانوا يتقون من غلاة الشيعة ، وكان هذا من الاسرار ، ولم يكن أكثر أصحابهم قابلين لها.

وذكر أبو محمد النوبختي في إثباة الإمامة ، أن أم كلثوم بنت علي عليه‌السلام كانت

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٢ / ٨٨ ، ح ١٦.

(٢) فروع الكافي ٦ / ١١٥ ، ح ١.

(٣) فروع الكافي ٦ / ١١٥ ـ ١١٦.


صغيرة ، ومات عمر قبل أن يدخل بها.

وسئل مسعود العباسي عن ذلك ، فقال : كان سبيله مع أم كلثوم كسبيل آسية مع فرعون ، كما حكى عنها ( رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ ) (١).

ومما قررناه يظهر جواب الشبهة عن تزويج فاطمة بعبد الله على تقدير صحة النقل ، وهو أنها كانت فيما فعلته مضطرة.

ولما سئل آية الله العلامة عن قصتها وتزويجها ، وقيل : ان ذلك نقل شائع ، قال في الجواب : لا يجوز أن ينسب الى أحد من الذرية ارتكاب محرم متفق على تحريمه ، واسناد النقص إلى الرواية أولى من إسناده إليهم عليهم‌السلام.

أقول : الظاهر أنه من مفتريات بني أمية ، وعلى تقدير الصحة والوقوع ، فالعذر ما قدمناه.

فصل

[ اعتبار الايمان في جانب الزوج ]

قال الفاضل المجلسي قدس الله روحه القدسي في بعض فوائده : لا خلاف في عدم جواز تزويج الناصبي والناصبية ، واختلاف في غيرهم من أهل الخلاف ، فذهب الأكثر إلى اعتبار الايمان في جانب الزوج دون الزوجة ، وادعى بعضهم الإجماع عليه.

وذهب ابن حمزة والمحقق الى الاكتفاء بالإسلام مطلقا ، وأطلق ابن إدريس في موضع من السرائر أن المؤمن ليس له أن يتزوج مخالفة له في الاعتقاد. والأول أظهر في الجمع بين الاخبار ، والله يعلم.

__________________

(١) سورة التحريم : ١١.


أقول : ظاهر كلام ابن إدريس يفيد عدم جواز ذلك مطلقا دواما ومتعة ، ولا وجه له ظاهرا ، إذ المسألة لا إجماع فيها ، وهو لا يعمل بأخبار الآحاد.

مع أن الاذن بتزويج المخالفة في الاعتقاد في الاخبار كثير ، وقد علل ذلك في بعضها بأن المرأة تأخذ بأدب زوجها ويقهرها فيسوقها الى الايمان.

وحينئذ فلا بد في القول بترجيح تزويج المخالفة له في الاعتقاد على الموافقة له فيه إذا كان الغرض منه استمالتها وإرشادها الى الايمان مع الإمكان.

ويمكن تقييد المخالفة في كلامه بما يؤدي الى كفر المخالفة له في الاعتقاد ، كالناصبية واليهودية والنصرانية.

فصل

[ تنقيح المسألة السابقة ]

هذا الخلاف انما يتمشى على المشهور بين الأصحاب من طهارة أهل الخلاف وإسلامهم.

وأما على مذهب المرتضى وابن إدريس ومن يمشي ممشاهم في القول بنجاسة كل الجمهور وكفرهم ، فلا شك في عدم جواز تزويج المؤمنة بالمخالف وبالعكس ، وبطلان العقد على تقدير التزويج إذ ( لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ) (١).

ومنه يظهر سر قول ابن إدريس المؤمن ليس له أن يتزوج مخالفه له في الاعتقاد ، وكذا على المشهور بين الأصحاب من اشتراط ايمان الزوج في نكاح المؤمنة لو عقد عليها المخالف ، كان العقد باطلا.

__________________

(١) سورة الممتحنة : ١٠.


ولا حاجة في التفريق بينهما الى طلاق ولا فسخ ، كما أومأ إليه آية الله العلامة في المختلف بعد قول أبي الصلاح : وإذا وضعت نفسها في غير موضعها أو عقدت على غير كفو ، فلأبيها وجدها فسخ العقد ، وان كانت ثيبا.

بقوله : ان قصد بغير الكفو غير الموافق في الايمان ، كان العقد باطلا ، ولا حاجة الى فسخ الجد والأب ، وان عنى بالشرف والمال والحسب ، فلا نسلم أن لهما الفسخ.

فصل

[ ما يتفرع على بطلان النكاح ]

وإذا كان العقد باطلا ، فلا مهر ولا توارث بينهما ، ولا بينهما وبين أولادهما ، لأن ذلك كله فرع صحة العقد وتحقق الزوجية بينهما.

وهل يكون الولد الحاصل منهما بذلك العقد على تقدير جهلهما بالحكم من أولاد الزنا؟ وهل يجب عليهما الحد على هذا التقدير؟ محل نظر.

وأما على تقدير كونهما عالمين به ، فالظاهر أن الولد ولد زنية والحد واجب ، الا أن يكون أحدهما أو كلاهما مجبورا ، أو مقلدا لمن يصحح العقد ، فيسقط عنه أو عنهما الحد.

فصل

في ذكر أهل الخلاف

انهم قد تعددت آراؤهم وتشعبوا بحسب تشعب أهوائهم.


فمنهم : المجسمة كداود وعامة الحنابلة ، فإنهم قالوا : انه تعالى جسم يجلس على العرش ، ويفضل عنه من كل جانب ستة أشبار بشبره ، وأنه ينزل في كل ليلة جمعة على حمار له ، وينادي إلى الصباح هل من تائب؟ هل من مستغفر؟ وحملوا آيات التشبيه على ظواهرها ، وقد تمارى أكثرهم فقال : انه تعالى يجوز عليه المصافحة ، وان المخلصين في الدنيا يعانقونه.

وقال داود : اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عما وراء ذلك. وقال : ان معبوده جسم ذو لحم ودم وجوارح وأعضاء ، وانه بكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه ، وعادته الملائكة لما أسبلت عيناه.

ومنهم : الحلولية ، يقولون : انه تعالى يحل في أبدان العارفين ويتحد بهم.

ومنهم : القدرية ، يسندون أفعال العباد اليه تعالى ، ويقولون : لا مؤثر في الوجود الا الله ، وقد ذمهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : القدرية مجوس هذه الأمة (١).

وعن عبد الله (٢) بن عمر أنه قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : القدرية مجوس هذه الأمة ، ان مرضوا فلا تعودوهم ، وان ماتوا فلا تصلوا عليهم ، وان لقيتموهم فلا تسلموا عليهم.

قيل : من هم يا رسول الله؟

قال : الذين يعملون المعاصي ، ثم يزعمون أنها من الله كتبها عليهم ، وبإزائهم قوم يزعمون أنه تعالى لا قدرة له على صرفه ومنعه عباده عما يفعلون ، بل ولا قدرة له على إيجادها ، هم عليه قادرون ، وهم المشهورون بالمفوضة.

ومنهم : المرجئة قوم يزعمون أن أهل القبلة كلهم مؤمنون بإقرارهم الظاهر بالايمان ورجوا لهم المغفرة.

__________________

(١) عوالي اللئالي ١ / ١٦٦.

(٢) رواه في كنز العمال ١ / ١١٩ ، ح ٥٦٦.


وروى ابن عمر عنه أنه قال : صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب : المرجئة ، والقدرية (١).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : المرجئة يهود هذه القبلة.

وفي نهاية ابن الأثير : المرجئة فرقة من فرق الإسلام ، يعتقدون أنه لا يضر مع الأيمان معصية ، ولا ينفع مع الكفر طاعة ، سموا مرجئة لاعتقادهم أن الله تعالى أرجأ تعذيبهم على المعاصي ، أي : أخره عنهم (٢).

الى غير ذلك من الآراء الفاسدة والأهواء الكاسدة المذكورة في المطولات فلينصف العاقل من نفسه هل يجوز تزويج كريمته المؤمنة العارفة بهؤلاء الكفرة الفجرة ، لا أظنه أن يجوز ذلك لو خلي وطبعه ، فليكن الحاكم دوني.

فصل

[ أقسام الشيعة ]

الشيعة على سبعة أقسام :

زيدية ، وهم القائلون بإمامة علي الى زين العابدين عليهم‌السلام وابنه زيد.

وكيسانية ، وهم القائلون بإمامة أربعة علي والحسن والحسين عليهم‌السلام ومحمد ابن حنفية.

وفطحية ، وهم القائلون بإمامة سبعة من علي الى الصادق عليهم‌السلام وابنه الأفطح

وناووسية ، وهم القائلون بإمامة ستة من علي الى الصادق عليهم‌السلام.

وواقفية ، وهم القائلون بإمامة سبعة من علي الى الكاظم عليهم‌السلام.

__________________

(١) كنز العمال ١ / ١١٨ ، ح ٥٥٨.

(٢) نهاية ابن الأثير ٢ / ٢٠٦.


واسماعيلية ، وهم القائلون بإمامة سبعة من علي الى جعفر عليهم‌السلام وابنه إسماعيل.

واثنا عشرية ، وهم القائلون بإمامة اثنا عشر من علي الى المهدي محمد بن الحسن صاحب العصر والزمان وقاطع البرهان عليهم صلوات الله الملك المنان.

ولا يجوز تزويج المؤمنة بواحد من هؤلاء الفرق سوى الإمامية الاثنا عشرية لان من عداهم كفار مشركون زنادقة شر من النصاب ، كما دلت عليه روايات.

منها : ما رواه الكشي في كتاب الرجال في ترجمة الواقفية ، بإسناده إلى عمر بن يزيد ، قال : دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام فحدثني في فضائل الشيعة مليا.

ثم قال : ان من الشيعة بعدنا من هم شر من النصاب ، قلت : جعلت فداك أليس ينتحلون حبكم ، ويتولونكم ويبرؤون من عدوكم؟ قال : نعم ، قلت : جعلت فداك بين لنا نعرفهم ، فلعلنا منهم ، قال : كلا يا عمر ما أنت منهم ، انما هم قوم يفتنون بزيد ، ويفتنون بموسى (١).

ومنها : ما رواه بإسناده إلى الرضا عليه‌السلام أنه قال : الواقفة حمير الشيعة ، ثم تلا ( إِنْ هُمْ إِلّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ) (٢) وكانت الزيدية والواقفية والنصاب عنده عليه‌السلام بمنزلة واحدة.

وفي رواية يونس بن يعقوب قال قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : أعطي هؤلاء الذين يزعمون أن أباك حي من الزكاة شيئا؟ قال : لا تعطهم فإنهم كفار مشركون زنادقة (٣).

والاخبار في ذلك أكثر من أن تحصى ، ويكفي فيه قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيهم عليهم‌السلام : من أنكر واحدا منهم فقد أنكرني.

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال ٢ / ٧٥٩ ، برقم : ٨٦٩.

(٢) سورة الفرقان : ٤٤.

(٣) اختيار معرفة الرجال ٢ / ٧٥٦ ، ح ٨٦٢.


وقول الرضا عليه‌السلام : من جحد حقي كمن جحد حق آبائي.

وقول الصادق عليه‌السلام لما سئل عن الزيدي والمخالف : هما والله سواء ، ولما روجع ثانيا قال : لا فرق بين من أنكر آية من القرآن ، وبين من أنكر آيات منه وبين من أنكر نبيا من الأنبياء ، وبين من أنكر كلهم.

الى غير ذلك من الاخبار ، ونحن قد استوفينا الكلام في ذلك في بشارات الشيعة ، فليطلب من هناك ، وبالله التوفيق ، وهو نعم المولى ونعم الرفيق.

وتم استنساخ وتصحيح هذه الرسالة في (٢٠) رجب المبارك سنة (١٤١١) هـ ق في بلدة قم المقدسة على يد العبد السيد مهدي الرجائي عفي عنه.



سلسلة آثار المحقق الخاجوئي

(٥١)

رسالة

في استحباب كتابة الشهادتين على الكفن

للعلّامة المحقّق العارف

محمّد إسماعيل بن الحسين بن محمّد رضا المازندراني الخاجوئي

المتوفّى سنة ١١٧٣ ه‍ ق

تحقيق

السيّد مهدي الرّجائي



بسم الله الرّحمن الرّحيم

في التهذيب عن سعد بن عبد الله ، عن يعقوب بن يزيد ، عن محمد بن شعيب عن أبي كهمس ، قال : حضرت موت إسماعيل ، وأبو عبد الله عليه‌السلام جالس عنده فلما حضره الموت شد لحييه وغمضه وغطى عليه الملحفة ثم أمر بتهيئته.

فلما فرغ من أمره دعا بكفنه ، فكتب في حاشية الكفن : إسماعيل يشهد أن لا إله إلا الله (١).

وفي كشف الغمة عن الأمة هكذا : كان إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي عليه‌السلام أكبر اخوته ، وكان أبوه عليه‌السلام شديد المحبة له والبر به والإشفاق عليه.

وكان قوم من الشيعة يظنون أنه القائم بعد أبيه ، والخليفة له من بعده ، إذ كان أكبر اخوته سنا ، ولميل أبيه اليه وإكرامه له ، فمات في حياة أبيه بالعريض وحمل على رقاب الرجال إلى أبيه بالمدينة حتى دفن بالبقيع.

وروي أن الصادق عليه‌السلام جزع عليه جزعا شديدا ، وحزن عليه حزنا عظيما ، وتقدم سريره بغير حذاء ولا رداء ، أمر بوضع سريره على الأرض قبل دفنه مرارا كثيرة ، وكان يكشف عن وجهه وينظر اليه ، ويريد بذلك تحقيق أمر وفاته عند

__________________

(١) تهذيب الاحكام ١ / ٣٠٩ ، ح ٦٦.


الظانين خلافته من بعده ، وازالة الشبهة عنهم في حياته (١). الى آخر ما قاله هناك.

ولا يخفى ما فيهما من التدافع والتنافي ، فإن ذاك يدل على أنه مات بمحضر من أبيه عليه‌السلام ، وهذا يدل على أنه مات بالعريض ، ولم يكن أبوه هناك حاضرا عنده ، بل كان بالمدينة بقوله « وحمل على رقاب الرجال إلى أبيه بالمدينة » وقوله « وتقدم سريره بغير حذاء ولا رداء » الخبر ، ودون التوفيق بينهما خرط القتاد ، فلا بد من ترجيح أحدهما على الأخر أو طرحه.

فنقول : هذا الخبر وان كان مجهول السند ، باهمالهم محمد بن شعيب ، حيث ذكروه من غير مدح فيه ولا قدح ، الا أن له مؤيدات ترجحه على ما في كشف الغمة.

منها : أنه معمول به عند الأصحاب ، حيث قالوا في كتبهم الفقهية : ويستحب كتابة اسم الميت على الكفن ، وانه يشهد الشهادتين وأسماء الأئمة عليهم‌السلام ، وما لهم بذلك من مستند سوى ما سبق من الخبر ، كما اعترفوا به.

قال في المدارك بعد نقل قول المصنف « ويكتب على الحبرة والقميص والإزار والجريدتين اسمه ، وأنه يشهدا الشهادتين ، وان ذكر الأئمة عليهم‌السلام وعددهم الى آخرهم كان حسنا ، ويكون ذلك بتربة الحسين عليه‌السلام ، فان لم يوجد فبالإصبع » :

الأصل في هذه المسألة ما رواه أبو كهمس ، ونقل الحديث كما سبق.

ثم قال : وزاد الأصحاب في المكتوب والمكتوب عليه ، ولا بأس به ، وان كان الاقتصار على ما ورد به النقل أولى.

وذكر المصنف رحمه‌الله هنا أن الكتابة تكون من تربة الحسين عليه‌السلام ، فان لم يوجد فبالإصبع.

__________________

(١) كشف الغمة ٢ / ١٨٠.


وقال في المعتبر : انها تكون بالطين والماء (١) وأسند ما اختاره هنا الى الشيخين والنص خال من تعيين ما يكتب ، ولا ريب أن الكتابة بتربة الحسين عليه‌السلام أولى.

والظاهر اشتراط التأثير في الكتابة لأنه المعهود. وأما الكتابة بالإصبع مع تعذر التربة أو الطين ، فذكره الشيخان ولا أعرف مأخذه (٢) انتهى.

وقال الشهيد الثاني قدس‌سره : الوارد في الخبر من الكتابة ما روي أن الصادق عليه‌السلام كتب في حاشية كفن ابنه إسماعيل : إسماعيل يشهد أن لا إله إلا الله ، وزاد الأصحاب الباقي كتابة ومكتوبا عليه ومكتوبا به للتبرك ، ولانه خير محض مع ثبوت أصل الشرعية (٣).

وفيه أن أصل شرعيته غير ثابت ، كيف وهذا الخبر مع مخالفته لما سبق مجهول السند ، فكيف يستدل به على ثبوت أمر في الشرع؟

وبعملهم هذا لا ينجبر جهالته ، إذ الظاهر أن المفيد لما عمل به في المقنعة مقتصرا على ما دل عليه ، قلده في ذلك من تأخر عنه ، ولم يكتفوا بذلك كما اكتفى به ، بل زادوا عليه ما زادوا ، وعللوه بالتبرك.

وهو كلام واه ، إذ لو جازت تلك الزيادة لذلك لجازت زيادة القرآن كله ، وكذا سائر الأدعية ، لأنه خير محض وهم لا يقولون به ، لانه قياس محض ، فالاقتصار على مورد النقل كما اقتصر عليه المفيد من الواجب المتحتم ، لو ثبت ورود هذا النقل وسلم لهم ذلك.

وكيف يليق بهم زيادة أمثال ذلك ، وهو إدخال في الدين ما ليس منه. هذا.

ومنها : أن الجزع كما يدل عليه ما في كشف الغمة مما لا يلائم حال المعصوم

__________________

(١) المعتبر ١ / ٢٨٥.

(٢) مدارك الاحكام ٢ / ١٠٧ ـ ١٠٨.

(٣) شرح اللمعة ١ / ١٣٤ ـ ١٣٥.


وان كانت البلية شديدة والرزية عظيمة ، لانه من الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا انا لله وانا إليه راجعون.

ولذلك كان سيدنا أمير المؤمنين عليه‌السلام يشد ميزره في الليلة التي ضرب فيها ، وكان يقول :

اشدد حيازيمك للموت

فان الموت لاقيكا

ولا تجزع من الموت

إذا حل بواديكا (١)

ومنها : أنه مطابق لما في التهذيب في باب تلقين المحتضرين من صحيحة إسماعيل بن جابر ، قال : دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام حين مات ابنه إسماعيل الأكبر ، فجعل يقبله وهو ميت.

فقلت : جعلت فداك أليس لا ينبغي أن يمس الميت بعد ما يموت ، ومن مسه فعليه الغسل.

فقال : أما بحرارته فلا بأس ، إنما ذاك إذا برد (٢).

وما في الفقيه قال الصادق عليه‌السلام : لما مات إسماعيل أمرت به وهو مسجى أن يكشف عن وجهه ، فقبلت جبهته وذقنه ونحره ، ثم أمرت به فغطى.

ثم قلت : اكشفوا عنه فقبلت جبهته أيضا وذقنه ونحره ، ثم أمرتهم فغطوه ثم أمرت به فغسل ، ثم دخلت عليه وقد كفن.

فقلت : اكشفوا عن وجهه ، فقبلت جبهته وذقنه ونحره وعوذته ، ثم قلت : أدرجوه ، فقيل له : بأي شي‌ء عوذته ، فقال : بالقرآن (٣).

__________________

(١) ديوان الامام على عليه‌السلام ص ٧٢.

(٢) تهذيب الاحكام ١ / ٤٢٩ ، ح ١١.

(٣) من لا يحضره الفقيه ١ / ١٦١.


ومما نقلناه ظهر أن لا مستند لهم في هذه المسألة سوى رواية أبي كهمس المجهولة.

قال صاحب الذخيرة فيه بعد قول المصنف وكتب اسمه وأنه يشهد الشهادتين والإقرار بالأئمة عليهم‌السلام على اللفافة والقميص والإزار والجريدتين ، وذكر ابن بابويه استحباب كتابة الشهادة بالتوحيد ، وزاد الشيخان ومن تبعهما الباقي ، ومستند هذا الحكم ما رواه الشيخ عن أبي كهمس.

ثم قال : وهذه الرواية مختصة بالشهادة بالتوحيد ، ولا دلالة فيها على عموم المكتوب عليه ، لكن ذكر كثير من الأصحاب ، وأضاف جماعة منهم الشيخ في المبسوط ، وابن البراج والشهيد ، العمامة معللا بعدم تخصيص الخبر ، وفيه نظر انتهى.

وأما إباحة كتابة دعاء الجوشن ، والشعر المعروف « وفدت على الكريم » وغيرهما ، فمما لا عين له ولا أثر ، لا في كتبهم ولا في الكتب الأربعة.

نعم ذكر ابن طاوس في مهج الدعوات بسند مرفوع محذوف أو ضعيف جدا أن أبا عبد الله الحسين صلوات الله عليه قال : أوصاني أبي أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه‌السلام وصية عظيمة بهذا الدعاء وحفظه ، يعني دعاء الجوشن ، وقال لي : يا بني اكتب هذا الدعاء على كفني ، وقال الحسين عليه‌السلام : فعلت كما أمرني أبي (١).

ولعل فقهائنا رضوان الله عليهم لضعفه ورفعه لم يتعرضوا لذكره ، ولم يجعلوه مستند هذا الحكم ، والله يعلم.

والأحوط عدم كتابة شي‌ء من ذلك على الكفن ، لعدم ثبوت المستند.

والاستناد في ذلك بقوله عليه‌السلام « كل شي‌ء مطلق حتى يرد فيه نهي » وذلك مما

__________________

(١) مهج الدعوات ص ٢٣١.


لم يرد فيه نهي ، غايته إباحة الأمر وأما رجحانه فلا.

نعم لو ثبت ما نقل من فعل سيدنا الصادق عليه‌السلام لثبت رجحانه ، ولكن دون ثبوته خرط القتاد ، لجهالة سند الحديث ، وعدم ثبوت سائر المنقولات.

وأما ما ذكره الفاضل الأردبيلي في شرحه على الإرشاد بقوله : وأما استحباب الكتاب ، ففي المستند ليس الا فكتب عليه‌السلام في حاشية الكفن : إسماعيل يشهد أن لا إله إلا الله ، والزيادات من الأصحاب ، فكأنهم أخذوا من غير هذا (١).

ففيه أن الشيخ لم يذكر في التهذيب بعد نقل عبارة المقنعة ، ويستحب أن يكتب على قميصه وحبرته أو اللفافة التي تقوم مقامها والجريدتين بإصبعه فلان يشهد أن لا إله إلا الله ، الا رواية أبي كهمس.

فلو كان هناك مستند غيرها لكان عليه ذكره ، ولعل المفيد لعدم عثوره على مستند الزائد لم يذكره.

بل الاولى عدم كتابة هذا القدر أيضا ، لعدم ثبوت مستنده أيضا ، فيحتمل أن يكون هذا أيضا تشريعا وإدخالا في الشرع ما ليس منه.

لا يقال ـ : انها بانضمام عمل الأصحاب إليها تفيد الرجحان ، فيعمل بها رجاء للثواب ، أو تفصيا عن العقاب.

لأنا نمنع إفادتها الإباحة فضلا عن الرجحان ، وعدالة الراوي غير معلومة مع قول الصادق عليه‌السلام « ان لكل رجل منا رجلا يكذب عليه ».

فلا خبر من هذا القبيل الا ويحتمل أن يكون من قبيل المكذوب ، فاحتمال البدعة والتشريع بحاله.

وأما قوله « انه يعمل بها رجاء للثواب » فليس بشي‌ء ، إذ لم يرد ذلك في شي‌ء من الاخبار ، ولم يقل به أحد من العلماء الأخيار.

__________________

(١) مجمع الفائدة ١ / ١٩٨.


وبه يندفع ما يتوهم من التشبث في ذلك بما روي عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : من سمع شيئا من الثواب على شي‌ء فصنعه كان له أجره ، وإن لم يكن على ما بلغه (١) إذ لم يقل أحد بأن للميت أجرا وثوابا بكتابة الكفن ، نعم لقوله « تفصيا عن العقاب » وجه لو ثبت لأصل الحكم مستند.

وأعلم أن ما نقلناه عن الفقيه يدل على رجحان تعويذ الميت بالقرآن ، لقوله عليه‌السلام « عوذته بالقرآن » أي : علقته عليه وربطته بمعوذ ، وهو كمعظم موضع القلادة ، على ما في القاموس (٢).

فيمكن أن يستدل به على تقدير صحة السند ، وهي غير معلومة ، لأنه رحمه‌الله رواه عنه عليه‌السلام بحذف السند ، ولم يتعرض له في مشيخته.

وهو وان ضمن صحة ما فيه في صدر الكتاب ، الا أنه ليس بالمعنى المتعارف بين المتأخرين ، كما أشار إليه بعض الفضلاء.

بعد أن قال : الظاهر أن التقبيل منه ، أي : من الصادق عليه‌السلام ومن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان لبيان الجواز وتعليم المحبة ، أو كان للتعليم مع المحبة البشرية ، فإنها لا تنافي العصمة.

بقوله : ان صح الخبران على إباحة كتابة القرآن ، وغيره من دعاء الجوشن وما شاكله على الكفن ، ليكون عوذة للميت من ضغطة القبر وعذابه ، فالأولى الاقتصار على ما ورد به النقل من تعويذ القرآن على نحو سبق ، دون كتابته على الكفن.

فلعل في ضمن الأول حكمه نحن عنها غافلون ، وانما علينا التسليم والانقياد والتأسي فيما يثبت صدوره عنهم عليهم‌السلام ، ولذلك كان الاولى والأحوط من ذلك

__________________

(١) المحاسن ص ٢٥.

(٢) القاموس ١ / ٣٥٦.


ترك ذلك كله ، لعدم ثبوت المستند كما عرفت ، فيتطرق اليه ما أسلفناه فتذكر.

قال الفاضل المجلسي قدس‌سره في شرحه على الفقيه ، بعد قول الصدوق ويكتب على قميصه وإزاره وحبرة والجريدتين فلان يشهد أن لا إله إلا الله :

الموجود عندنا من الاخبار أن الصادق عليه‌السلام كتب على حاشية كفن ابنه إسماعيل : إسماعيل يشهد أن لا إله إلا الله.

ويمكن إطلاق الكفن على الثلاثة ، لكن الجريدة التي ذكرها الصدوق وتبعه الأصحاب وغيرها من العمامة وكتابة شهادة الرسالة والإمامة وغيرها ، وكونها بالتربة وغير ذلك مما هو مذكور في الكتب ، لم نطلع على مستندها ولعله يكون لها ، وروى الكفعمي كتابة الجوشن الكبير ، والسيد بن طاوس كتابة الجوشن الصغير على الكفن (١) انتهى.

وعلى ما قررناه من عدم ثبوت أصل شرعية كتابة الكفن ، فاباحة أخذ الأجرة على كتابته ، كما هو الشائع في هذه الأعصار والأمصار ، لا تخلو من شي‌ء.

لأنه أخذ اجرة على الباطل ، وهو منهي عنه بقوله تعالى ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) (٢) فتأمل ثم أذعن بما هو الحق من ذلك ، والله الهادي.

تم الاستنساخ والتصحيح في (١٩) رجب المبارك سنة (١٤١١) هـ ق في بلدة قم المقدسة على يد العبد السيد مهدي الرجائي عفي عنه.

__________________

(١) روضة المتقين ١ / ٣٧٦.

(٢) سورة البقرة : ١٨٨.


سلسلة آثار المحقق الخاجوئى

(٥٢)

رسالة

فى حكم التنفل قبل صلاة العيد وبعدها

للعلّامة المحقّق العارف

محمّد اسماعيل بن الحسين بن محمّد رضا المازندراني الخاجوئي

المتوفى سنة ١١٧٣ ه‍ ق

تحقيق

السّيّد مهدى الرّجائي



بسم الله الرّحمن الرّحيم

كراهة التنفل قبل صلاة العيد وبعدها الى الزوال ، الا الركعتان في المدينة بمسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل خروجه الى المصلى ، مشهورة بين الاصحاب.

واستدلوا عليها بصحيحة زرارة عن الباقر عليه‌السلام قال قال : صلاة العيدين مع الامام سنة ، ليس قبلها ولا بعدها صلاة ذلك اليوم الى الزوال (١).

ومثلها صحيحته الاخرى عنه عليه‌السلام قال : ليس في الفطر والاضحى أذان ولا اقامة أذانهما طلوع الشمس اذا طلعت خرجوا ، وليس قبلهما ولا بعدهما صلاة ، ومن لم يصل مع امام في جماعة فلا صلاة له ولا قضاء عليه (٢).

ويعارضهما ما ورد من صلاة عشرين ركعة في الجمعة ، ثمانية عشر منها قبل الزوال ثلاثا بهذا الترتيب : ست منها عند انبساط الشمس ، وست عند ارتفاعها وست عند قيامها ، واثنتان بعد الزوال.

اذ لم يقل أحد فيما علمناه بسقوط نوافل الجمعة اذا وافقت العيد ، أو تحتم تأخيرها الى ما بعد الزوال.

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٣ / ١٣٤ ، ح ٢٤.

(٢) تهذيب الاحكام ٣ / ١٢٩ ، ح ٨.


ومن هنا يمكنك التوفيق بينهما ، بحمل ما دل على كراهة الصلاة في العيدين الى الزوال على النوافل المبتدأة وما لا سبب له. وأما ماله سبب ، كصلاة الحاجات والزيارات ونوافل اليومية ، وصلاة أول الشهر في عيد الفطر ونحوها فلا كراهة.

وذلك أنه وردت روايات صحيحة دلت على كراهة الصلاة في أوقات خمسة عند طلوع الشمس وغروبها وقيامها ، وبعد صلاة الصبح والعصر ، والاصحاب حملوها على ما لا سبب له من النوافل ، واستدلوا عليه بأن شرعية ذي السبب عامة واذا تعارضت العمومات وجب الجمع ، فيحمل على غير ذوات الاسباب ، وهذا بعينه يجري فيما نحن فيه.

قال الفاضل الاردبيلي في شرحه على الارشاد ، بعد نقل قول الشارح : ولو أقيمت الصلاة ، أي : صلاة العيد في مسجد لعذر ، استحبت صلاة التحية فيه أيضا ، لانه موضع ذلك.

الظاهر أنه لا يحتاج الى العذر ، مع أن في المدعى والدليل تأملا ، لعموم أدلة الكراهة ، الا أنه لما كان في الادلة ضعف ـ كما أشرنا اليه ـ وثبت استحباب التحية بخصوصها ، فتحمل تلك على الكراهة لا بسبب ، بل مجرد العيد ، فيستثنى النوافل التي لها سبب ، كما قيل في الكراهة والافعال الخمسة (١) ، انتهى كلامه رفع مقامه.

وحاصل اعتراضه عليه أن الاصحار بصلاة العيد أمر مستحب ، وترك المستحبات لا لعذر جائز ، فيجوز له أن يصلي في المسجد وهو متمكن من الخروج الى الصحراء.

ويؤيده تعميم الشارح في شرحه على اللمعة ، حيث قال : لو صليت في المساجد لعذر أو غيره ، استحب صلاة التحية للداخل ، وان كان مسبوقا والامام

__________________

(١) مجمع الفائدة ٢ / ٤١١.


يخطب ، لفوات الصلاة المسقط للمتابعة (١).

فان قلت : ظاهر كلام الشارح يفيد أنه استثنى من الكراهة خصوص صلاة التحية ولم يعمم فيه.

قلت : لا قائل بالفصل ولا وجه للتخصيص ، فان النظر الى عموم أدلة الكراهة يقتضي الحكم بكراهة صلاة التحية وغيرها مطلقا ، والنظر الى أن في الادلة ضعفا وان شرعية ذي السبب عامة تقتضي استثناء النوافل التي لها سبب مطلقا ، كما أشار اليهما الفاضل الاردبيلي رحمه‌الله.

بل يفهم من كلامه أن النافلة قبلها وبعدها انما تكره لو صليت بقصد تحية العيد ، أما لو صليت لا بهذا القصد فلا كراهة فيها.

فظهر مما نقلناه أن الشيخ الشارح والفاضل الاردبيلي قدس‌سرهما متفقان على ما أشرنا اليه من الجمع والتوفيق.

فان قلت : يرده ما في رواية أخرى عن زرارة عن الصادق عليه‌السلام قال : صلاة العيدين مع الامام سنة ، وليس قبلهما ولا بعدهما صلاة ذلك اليوم الى الزوال. فان فاتك الوتر في ليلتك قضيته بعد الزوال (٢) ، فان الوتر من ذوات الاسباب ومع ذلك أمره عليه‌السلام بقضائها بعد الزوال.

قلت : تلك الزيادة غير موجودة في الروايات الصحيحة ، والمقرر في الاصول أن العدل اذا انفرد بزيادة في الحديث ، فتلك الزيادة هل تقبل أم لا؟ فالجمهور على أنها تقبل. وقال بعضهم : لا تقبل.

وهاهنا ليس كذلك ، لان هذه الرواية ضعيفة السند بابراهيم بن اسحاق الاحمري النهاوندي ، وفي طريقها محمد بن الحسن بن أبي خلف ، وهو مجهول ،

__________________

(١) شرح اللمعة ١ / ٣٠٩.

(٢) تهذيب الاحكام ٣ / ١٢٩ ، ح ٩.


فلا اعتماد على هذه الرواية وما شاكلها ، كما أشار اليه الفاضل الاردبيلي رحمه‌الله في كلامه السابق ذكره بقوله « في الادلة ضعف ».

وبالجملة الاخبار الصحيحة العامة الواردة في هذا الباب غير مشتملة على ذوات الاسباب ، فهي مخصوصة بغيرها ، والخاصة المشتملة عليها ضعيفة ، فلا تصلح لتخصيص عموم شرعية ذوات الاسباب ، فيعمل بمقتضاه الى أن يوجد ما يصلح أن يصرفه عن ذلك ويخصصه ولم يوجد بعد.

ولعل هذا مراده رحمه‌الله ، وان كانت عبارته المنقولة قاصرة عن افادة ذلك هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه كلامه رحمه‌الله ، وهو بعد محل تأمل.

لان الصدوق رحمه‌الله روى في الفقيه عن حريز عن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : لا تقض وتر ليلتك ـ يعني في العيدين ـ ان كان فاتك حتى تصلي الزوال في ذلك اليوم (١).

وطريقه رحمه‌الله الى حريز بن عبد الله مستقيم ، كما يظهر من مشيخته.

حيث قال أحسن الله اليه : وما كان فيه عن حريز ، فقد رويته عن أبي ومحمد ابن الحسن رضي‌الله‌عنهما ، عن سعد بن عبد الله والحميري ، ومحمد بن يحيى العطار ، وأحمد بن ادريس ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسين بن سعيد ، وعلي بن حديد ، وعبد الرحمن بن أبي نجران ، عن حماد بن عيسى الجهني ، عن حريز بن عبد الله السجستاني.

ورويته أيضا عن أبي ومحمد بن الحسن رضي‌الله‌عنهما ، ومحمد بن موسى ابن المتوكل رضي‌الله‌عنه ، عن عبد الله بن جعفر الحميري ، عن علي بن اسماعيل ومحمد بن عيسى ، ويعقوب بن يزيد ، والحسن بن ظريف ، عن حماد بن عيسى ،

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ / ٥٠٩.


عن حريز بن عبد الله السجستاني (١). والسندان كما ترى صحيحان.

وفي الرواية مبالغة في عدم جواز التنفل قبل صلاة العيد وبعدها الى الزوال ، لانه اذا كان منهيا عن قضاء الوتر وهو مرغوب ، كان منهيا عن غيره بطريق أولى.

ومنه يعلم أن لا وجه لاستثناء الشارح قدس‌سره صلاة التحية في الصورة المذكورة ، لعموم دليل الكراهة وصحته ، وان ما اعتذر له الفاضل بقوله « لما كان في الادلة ضعف » الى آخر ما أفاد وأجاد غير مسموع ، والدليل الصحيح صريح في المنع عن النوافل التي لها سبب ، فكيف يمكن استثناؤها وحمل تلك على الكراهة لا بسبب والحال هذه.

والظاهر أن هذا الحديث ما كان وقت التأليف في نظرهما قدس‌سرهما ، بل كان النظر مقصورا على ما في التهذيب ، ومقتضاه ما أفاده رحمه‌الله كما عرفت.

ولكن المعارضة بين هذا الحديث وما أسلفناه من حديث نوافل الجمعة بحالها فانه بقوته يقتضي سقوطهما في ذلك اليوم كما أومأنا اليه ، والمنع من التنفل قبل صلاة العيد وبعدها الى الزوال ، كما يعم الجمعة وغيرها ، كذلك شرعية نوافل الجمعة تعم العيد وغيره فجعل الاول مخصصا للثاني ليس بأولى من العكس بل هذا أولى ، اذ لم يقل أحد بسقوط نوافل الجمعة اذا وافقت العيد.

بل نسوق هذا الكلام في صلاة التحية أيضا ، لثبوت استحبابها بخصوصها مطلقا كما سبق ، فشرعيتها واستحباب ايقاعها تعم العيد وغيره ، وعليه فقس البواقي مما ورد فيه من الشارع نص وثبت استحبابه بخصوصه.

وعلى هذا فالمسألة قوية الاشكال ، لتعارض أدلة الطرفين ، وعدم امكان تخصيص أحدهما بالاخر ولا طرحه ، وترجيحه لصحة دليل كل منهما وقوته.

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٤ / ٤٤٣.


فان قلت : يمكن ترجيحه بأن المراد بكراهة الصلاة في العيدين كونها خلاف الاولى ، اذ لا يراد بها هنا المرجوح في نفسه ، لامتناع ذلك في العبادات ، لانها قربة فلا بد فيها من الرجحان.

والمراد بكونها خلاف الاولى أنها مرجوحة بالاضافة الى غيرها ، وان كانت راجحة في نفسها ، فلها ثواب ولكنه أقل من ثواب غيرها.

قيل : لا يتصور للكراهة بمعنى أقل ثوابا هنا حاصل ، وكيف يصح النهي عن الطاعة لقلة الثواب اذا لم يمكن ادراكها في ضمن ما يكون أكثر ثوابا ، نعم لو أريد بها ما لا يعاقب ولا يثاب عليه كان له وجه.

فان قلت : ايقاع صلاة لا يثاب عليها حرام.

قلت : لم يقم عليه دليل فيما علمناه ، نعم ان اعتقد أنه يثاب عليها كان اعتقاده باطلا ، ولا يبعد العقاب عليه.

والظاهر أنه حمل الكراهة هنا على معناها المتعارف في الاصول ، وهو أنه لو لم ينقل في العيدين قبل صلاة العيد ولا بعدها الى الزوال ، لكان أحسن من التنفل ، أي : عدمه خير من وجوده ، ولكنه لا يعاقب عليه.

وفيه أن هذا انما يصح ان لم يقل باعتبار النية في هذه النافلة ، أو قيل باعتبارها ولم يقل باعتبار القربة في النية ، اذ لا قربة في الفعل المكروه بهذا المعنى ، بل لا يبعد أن يقال : ان نية القربة في المكروه الاصولي تشريع حرام.

أقول : وعلى تقدير تعارض الادلة وتساقطها يمكن ترجيح جانب التنفل بقوله عليه‌السلام « الصلاة خير موضوع ، فمن شاء استقل ومن شاء استكثر » فانه يدل على رجحان ايقاع الصلوات في عموم الاوقات ، الا ما أخرجه الدليل ، ولا دليل هنا عليه بعد التعارض والتساقط ، فتأمل.

وأيضا فبعد تعارض الدليلين من الطرفين ، وتساقطهما من البين ، الاصل


اباحة ايقاع النافلة في ذلك الوقت ، وعدم كراهته الى أن يثبت ما يدل على الكراهة ولم يثبت بعد ، فهو على اباحته الاصلية.

ثم المنع من قضاء الوتر وهو مرغوب يقتضي المنع من قضاء غيره مما هو دونه في الترغيب ، لا المنع من أداء النوافل الموقتة بهذا الوقت ، كنوافل الجمعة وصلاة التحية بعد دخول المسجد قبل زوال يوم العيد ، وصلاة أول الشهر في عيد الفطر ، أو صلاة الزيارة قبلها أو بعدها قبل زوال يوم العيد ، ونحو ذلك من الصلوات الموقتة بهذا الوقت ، فصحيحة زرارة على ما في الفقيه أيضا لا ينافي بهذا الوجه هذا وما شاكله ، فتأمل فيه حقه ، وبالله التوفيق.

هذا ما تيسر لي وأنا العبد الضعيف النحيف الفاني الجاني محمد بن الحسين ابن محمد رضا المشتهر باسماعيل المازندراني عفى الله عن جرائمهم بمحمد وآله وقائمهم في تقرير هذه المسألة وتحريرها.

حررناها اجابة لالتماس بعض الاصحاب ، لانه كان حقيقا بذلك ، لكونه من أولي الالباب ، وفقه الله وايانا لما يحب ويرضى ، انه بذلك جدير وبالاحسان الى عباده والامتنان عليهم اذا يشاء قدير.

وتم الاستنساخ والتصحيح في (٢٠) رجب المبارك (١٤١١) هـ ق في بلدة قم المقدسة على يد العبد السيد مهدي الرجائي عفي عنه.



سلسلة آثار المحقق الخاجوئى

(٥٣)

رسالة

فى بيان عدد الاكفان

للعلّامة المحقّق العارف

محمّد اسماعيل بن الحسين بن محمّد رضا المازندراني الخاجوئي

المتوفى سنة ١١٧٣ ه‍ ق

تحقيق

السّيّد مهدى الرّجائي



بسم الله الرّحمن الرّحيم

قال في المدارك بعد قول المحقق أعلى الله درجتهما « ويجب أن يكفن في ثلاث أقطاع : مئزر ، وقميص ، وازار » : اقتصر سلار على ثوب واحد ، ولم نقف له على حجة يعتد بها.

واحتج له في الذكرى بصحيحة زرارة ، قال قلت لابي جعفر عليه‌السلام : العمامة للميت من الكفن؟ قال : لا ، انما الكفن المفروض ثلاثة أثواب ، وثوب تام لا أقل منه يواري فيه جسده كله فما زاد ، فهو سنة الى أن يبلغ خمسة فما زاد فمبتدع ، والعمامة سنة (١).

وهو انما يتم اذا كانت الواو بمعنى « أو » لتفيد التخيير بين الاثواب الثلاثة والثوب التام ، وهو غير واضح ، وحمله الشهيد في الذكرى على التقية ، أو على أنه من باب عطف الخاص على العام ، وهو بعيد. وفي كثير من نسخ التهذيب ثلاثة أثواب تام لا أقل منه يواري فيه جسده كله ، وقد نقله كذلك المصنف في المعتبر والعلامة في جملة من كتبه (٢).

__________________

(١) تهذيب الاحكام ١ / ٢٩٢ ، ح ٢٢.

(٢) مدارك الاحكام ٢ / ٩٣.


أقول : هذه النسخة لا يلائمها قوله « تام » ولا قوله « منه » و « فيه » بعلامة المذكر ، وانما يلائمه النسخة الاولى ، وهي صريحة فيما ذهب اليه سلار من غير خفاء ، الا في جعل الواو بمعنى أو ، ولكنه في كلام الفصيح غير عزيز ، قال الله تعالى ( مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ) (١).

بل هذا هو الظاهر في حل الحديث ، لان حمله على التقية ، أو عطف الخاص على العام لما كان بعيدا ، فلا بد وأن يكون الواو فيه بمعنى أو ، ليستقيم الكلام وعليه فقوله عليه‌السلام « فما زاد » أي : على ثوب واحد ، لا على الاثواب الثلاثة.

اعلم أن النسخ التي عندنا من التهذيب كلها متفقة على ما نقلناه أولا ، وفي كلها ثلاثة أثواب تام بكلمة أو دون الواو. وعلى هذا فلا اشكال ، لانه ناص بالباب والله أعلم بالصواب.

ثم أقول : وفي الكافي في صحيحة عبد الله بن سنان ، قال قلت لابي عبد الله عليه‌السلام كيف أصنع بالكفن؟ قال : تؤخذ خرقة فتشد بها على مقعدته ورجليه قلت : فالازار؟ قال : انها لا تعد شيئا ، انما تصنع ليضم ما هناك لئلا يخرج منه شي‌ء وما يصنع من القطن أفضل منها ، ثم يخرق القميص اذا غسل ، وينزع من رجليه ، قال : ثم الكفن قميص غير مزرور ولا مكفوف وعمامة يعصب بها رأسه ويرد فضلها على رجليه (٢).

وظاهرها يفيد الاقتصار على ثوب واحد ، لان العمامة لا تعد من الكفن ولا الخرقة كما سبق.

وقد تقرر أن المعرف باللام اذا جعل مبتدأ ، فهو مقصور على الخبر ، نحو الامير زيد والشجاع عمرو ، ويلزم منه أن يكون الواجب من الكفن مقصورا

__________________

(١) سورة النساء : ٣.

(٢) فروع الكافى ٣ / ١٤٥ ، ح ٩.


على قميص موصوف بالصفات المذكورة. وفيه ما ادعاه سلار.

وأما ما دل على أن الكفن ثلاثة أثواب ، فمحمول عنده على الاستحباب ، والاصل وهو عدم وجوب الزائد معه ، كما أن الدال على الزائد على الثلاثة محمول عند غيره عليه.

ثم قال صاحب المدارك قدس‌سره : أما الميزر فقد ذكره الشيخان وأتباعهما وجعلوه أحد الاثواب الثلاثة المفروضة ، ولم أقف في الروايات على ما يعطي ذلك ، بل المستفاد منها اعتبار القميص والثوبين الشاملين للجسد أو الاثواب الثلاثة.

ثم قال : والمسألة قوية الاشكال ، ولا ريب أن الاقتصار على القميص واللفافتين أو الاثواب الثلاثة الشاملة للجسد مع العمامة والخرقة التي يشد بها الفخذان أولى (١).

أقول : في الكافي في رواية معاوية بن وهب ، عن الصادق عليه‌السلام قال : يكفن الميت في خمسة أثواب قميص لا يزر عليه ، وازار وخرقة يعصب بها وسطه ، وبرد يلف فيه ، وعمامة يعمم بها ويلقى فضلها على صدره (٢).

وفي التهذيب : على وجهه (٣).

والمراد بالازار هنا الميزر ، لان كلا منهما يطلق على الاخر ، فجعل أصل الكفن ثلاثة أثواب قميصا وميزر ولفافة بردية. وأما الخرقة والعمامة ، فقد علم أنهما ليستا من الكفن ، ولو كان المراد بالازار هنا لفافة اخرى ، لكان الظاهر أن يقال : وازار وبرد يلف فيهما.

__________________

(١) مدارك الاحكام ٣ / ٩٤ ـ ٩٥.

(٢) فروع الكافى ٣ / ١٤٥ ، ح ١١.

(٣) تهذيب الاحكام ١ / ٢٩٣ ، ح ٢٦.


والظاهر من الشيخ أنه حمل الازار هنا على الميزر ، لانه نقل هذا الحديث في شرح قول المفيد ويعد الكفن ، وهو قميص وميزر وخرقة يشد بها سفله الى وركيه ولفافة وحبرة وعمامة.

وأما أن الازار يطلق على الميزر ، فيدل عليه ما في شرح الرسالة للسيد المرتضى : لا يحل الاستمتاع من الحائض الا بما فوق الميزر ، ثم احتج عليه بصحيحة الحلبي عن الصادق عليه‌السلام في الحائض ما يحل لزوجها منها ، قال : يتزر بازار الى الركبتين فتخرج سرتها ، ثم له ما فوق الازار.

وفي نهاية ابن الاثير : وفي الحديث « كان يباشر بعض نسائه وهي مؤتزرة في حالة الحيض » أي : مشدودة الازار.

وأما أن الميزر يطلق على الازار ، فلما في النهاية أيضا : وفي حديث الاعتكاف « كان اذا دخل العشر الاواخر أيقظ أهله وشد الميزر » الميزر الازار ، وكنى بشده عن اعتزال النساء انتهى (١).

فظني أن المستفاد من الاخبار هو أن القدر الواجب من الكفن ثوب واحد شامل للجسد كله ، وما زاد عليه. الى أن يبلغ خمسة أثواب سنة ، فيجوز الاقتصار على الميزر والقميص واللفافة ، وعلى القميص واللفافتين ، وعلى الاثواب الثلاثة الشاملة ، فان كل ذلك من أفراد السنة ، وبه يوفق بين الاخبار.

ومما قررنا يظهر أن حمل صحيحة زرارة ثلاثة أثواب وثوب تام على التقية مما لا وجه له ، فان من مذهب أهل البيت عليهم‌السلام أنه يجوز ان يزاد على الاثواب الثلاثة ثوب وثوبان ، حتى يبلغ العدد خمسة أثواب ، كما صرح به الصدوق في الفقيه (٢) ، ودلت عليه هذه الصحيحة ، فالوجه فيها ما قدمناه.

__________________

(١) نهاية ابن الاثير ١ / ٤٤.

(٢) من لا يحضره الفقيه ١ / ١٥٢.


ثم الاولى أن يستدل بها وبما شاكلها على ما ذهب اليه المتأخرون ، من استحباب كون الكفن زائدا على الثلاثة.

لا بصحيحة أبي مريم الانصاري ، قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : كفن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في ثلاثة أثواب : برد أحمر حبرة ، وثوبين أبيضين صحاريين ، ثم قال وقال : ان الحسن بن علي عليهما‌السلام كفن اسامة بن زيد في برد أحمر حبرة وان عليا عليه‌السلام كفن سهل بن حنيف في برد أحمر حبرة (١).

ولا بحسنة الحلبي عن الصادق عليه‌السلام قال : كتب أبي في وصيته أن اكفنه بثلاثة أثواب ، أحدها رداء له حبرة كان يصلي فيه يوم الجمعة ، وثوب آخر ، وقميص ، فقلت لابي : لم تكتب هذا؟ فقال : أخاف أن يغلبك الناس ، فان قالوا : كفنه في أربعة أو خمسة فلا تفعل ، قال : وعممني بعد بعمامة ، وليس تعد العمامة من الكفن ، انما يعد ما يلف به الجسد (٢).

ولا بموثقة سماعة ، قال : سألته عما يكفن به الميت ، فقال : ثلاثة أثواب ، وانما كفن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في ثلاثة أثواب : ثوبين صحاريين ، وثوب حبرة. والصحارية تكون باليمامة (٣).

كما فعله صاحب المدارك ، ثم اعترض عليهم بأن هذه الروايات انما تدل على استحباب كون الحبرة احدى الاثواب الثلاثة ، لا على استحباب جعلها زيادة على الثلاثة كما ذكروه.

ثم نقل عن أبي الصلاح وابن أبي عقيل أنهما قالا : السنة في اللفافة أن تكون حبرة يمانية ، وجعله مؤيدا لاعتراضه على المتأخرين.

__________________

(١) تهذيب الاحكام ١ / ٢٩٦ ، ح ٣٧.

(٢) تهذيب الاحكام ١ / ٢٩٣ ، ح ٢٥.

(٣) تهذيب الاحكام ١ / ٢٩١ ، ح ١٨.


ولا منافاة بين استحباب كون اللفافة حبرة ، واستحباب جعلها زيادة على الثلاثة كما ذكروه ، للاخبار الدالة عليه ، وذلك ظاهر فتأمل.

وفي حديث الخدري لما حضره الموت دعا بثياب جدد فلبسها ، ثم ذكر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : ان الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها.

أقول : الثوب في اللغة اللباس ، كما في القاموس (١) وغيره.

وأما هنا فالمراد بثيابه أعماله الحسنة أو السيئة ، وصفاته الحميدة أو الذميمة وأخلاقه الفضيلة أو الرذيلة الحالة ، أو الملكة في النفس ، فان كل ما يدركه الانسان بحواسه يرتفع منه أثره الى روحه ، ويجتمع في صحيفة ذاته وخزانة مدركاته.

وكذلك كل مثقال ذرة من خير أو شر يعمله يرى أثره مكتوبا ثمة ، وخاصة ما رسخت بسببه الهيئات ، وتأكدت به الصفات وصار خلقا وملكة ، فانه مما يصير كثيابه المحيطة به اللازمة له ، قال الله تعالى ( بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ) (٢).

لكنه اليوم مكتوم عن مشاهدة الابصار ، وانما يكشف بالموت ورفع ما تورده الشواغل الحسية ، فشبه صفاته واخلاقه في احاطتها بالنفس ، أو في فضيلتها ورذيلتها بالثياب في احاطتها وشمولها للبدن ، وفي جيادتها ورداءتها.

فالكلام اما تمثيل وتشبيه للمعقول بالمحسوس ، أو استعارة مصرحة ذكر فيه المشبه به وأريد به المشبه ، وقد جاء في تفسير قوله تعالى ( وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ) (٣) أي : ونفسك فطهرها من الذنوب والرذائل ، والثياب عبارة عنها ، فيكون بحذف

__________________

(١) القاموس ١ / ٤٢.

(٢) سورة البقرة : ٨١.

(٣) سورة المدثر : ٤.


المضاف ، أي : وذوات ( ثِيابَكَ فَطَهِّرْ ) أي فأصلح ، يقال للرجل الصالح : طاهر الثياب والطالح خبيثها.

وفيه اشارة الى أن الانسان انما يبعث على الاعتقادات والملكات والاخلاق التي يموت عليها ، فهي مناط الحكم وملاكه ، فمدار الامر على حسن العاقبة وسوئها نعوذ بالله منه واليه يشير قول العارف الشيرازي :

مى ومستورى ومستى همه بر عاقبت است

كس ندانست كه آخر بچه حالت برود

كرد آخر عمر از مى ومعشوق ببر

حيف ايام كه يكسر به بطالت برود

وعلى القول بتجسد الاعمال والاخلاق ، لا بعد في القول بصيرورة تلك الاعمال والصفات والملكات الفضيلة أو الرذيلة ثيابا جيدة أوردية.

عن فيثاغورس الحكيم ، وهو من أعاظم الحكماء ومن الاقدمين : اعلم أنك ستعارض بأفكارك وأقوالك وأفعالك ، وسيظهر من كل حركة فكرية أو قولية أو فعلية صورة روحانية وجسمانية.

فان كانت الحركة غضبية شهوية صارت مادة شيطان ، يؤذيك في حياتك ، ويحجبك عن ملاقاة النور بعد وفاتك. وان كانت الحركة أمرية عقلية ، صارت ملكا تلتذ بمنادمته في دنياك ، وتهتدي بنوره في اخراك الى جوار الله وكرامته.

وأمثال هذا مما يدل على تجسد الاعمال والاقوال والافعال في كلامهم كثيرة قد بسطنا الكلام فيه في رسالة لنا جيدة في تجسيد الاعمال ، فليطلب من هناك.

وعن الخطابي أنه قال : أما أبو سعيد ، فقد استعمل الحديث على ظاهره. وقد روى في تحسين الكفن أحاديث ، قال : وقد تأوله بعض العلماء على المعنى ، وأراد به الحالة التي يموت عليها من الخير والشر وعمله الذي يختم له به. يقال


فلان طاهر الثياب اذا وصفوه بطهارة النفس والبراءة من العيب.

وجاء في تفسير قوله تعالى ( وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ) أي : عملك فاصلح ، ويقال : فلان دنس الثياب اذا كان خبيث الفعل والمذهب ، وهذا كالحديث الاخر يبعث العبد على ما كان عليه.

أقول : قول الخطابي « وقد روي في تحسين الكفن أحاديث » اشارة الى ما ورد من الحث على تجويده والترغيب في تحسينه في طريقهم وطريقنا.

فمما ورد في طريقنا موثقة يونس بن يعقوب قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام : ان أبي أوصاني عند الموت : يا جعفر كفني في ثوب كذا وكذا وفي ثوب كذا وكذا واشتر لي بردا واحدا وعمامة وأجدهما ، فان الموتى يتباهون بأكفانهم (١).

وصحيحة ابن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : تنوقوا في الاكفان فانكم تبعثون بها ، كذا في التهذيب (٢).

وفي الفقيه : فانهم يبعثون بها (٣). أي : تحسنوا فيها ، من تنوق في الامر أنق فيه ، وشي‌ء أنيق حسن عجيب.

ولا يخفى أنه ينافي ما ورد أنهم يحشرون حفاة عراة ، وظاهر قوله تعالى ( كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) (٤) فاما أن يحمل الحشر في الاكفان بالنسبة الى الناجين أو الصلحاء منهم ، أو يختلف بالنظر الى أحوالها ، بأن يحشروا عراة أولا ثم يكسوا.

والاولان بعيدان ، لما ورد عن أبي عبد الله عليه‌السلام : ان فاطمة بنت أسد سمعت

__________________

(١) تهذيب الاحكام ١ / ٤٤٩ ، ح ٩٨.

(٢) تهذيب الاحكام ١ / ٤٤٩ ، ح ٩٩.

(٣) من لا يحضره الفقيه ١ / ١٤٦.

(٤) سورة الاعراف : ٢٩.


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يقول : ان الناس يحشرون يوم القيامة عراة ، فقالت : وا سوأتاه ، فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : فاني أسأل الله أن يبعثك كاسية.

فانها من أكمل أفراد الناجين ، فلو كان الحشر في الاكفان بالنسبة اليهم ، لاخبرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك من غير حاجة الى أن يضمن لها أن يبعثها الله كاسية.

وفي الفقيه عنه عليه‌السلام : أجيدوا أكفان موتاكم فانها زينتهم (١).

ولا ريب أن هذا غير مراد في حديث أبي سعيد الخدري ، لان الاكفان غير الثياب التي يموت فيها الانسان ، ولذا نقل عن الهروي أنه قال : وليس قول من ذهب به الاكفان بشي‌ء ، لان الانسان انما يكفن بعد الموت.

أقول : ومما قررناه ونقلناه يظهر معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : رب حامل فقه الى من هو أفقه منه. تأمل تعرف.

تم الاستنساخ والتصحيح في (٢١) رجب المبارك سنة (١٤١١) هـ ق في بلدة قم المقدسة على يد العبد السيد مهدي الرجائي عفي عنه.

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ / ١٤٦.



سلسلة آثار المحقق الخاجوئى

(٥٤)

رسالة

فى جواز التداوى بالخمر عند الضرورة

للعلّامة المحقّق العارف

محمّد اسماعيل بن الحسين بن محمّد رضا المازندراني الخاجوئي

المتوفى سنة ١١٧٣ ه‍ ق

تحقيق

السّيّد مهدى الرّجائي



بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله على السراء والضراء الذي خلق الداء ، ثم جعل له الدواء ، ولم يجعل في شي‌ء مما حرمه دواء ولا شفاء ، والصلاة على سيد الانبياء محمد وعترته الائمة النجباء ما دامت الارض والسماء ، وتجدد الصباح والمساء.

وبعد : هذا مما كتبه أحوج عباد الله الى رحمته العبد الجاني محمد بن الحسين بن محمد رضا المشتهر باسماعيل المازندراني اجابة للسيد السند النجيب الحسيب الفاضل البحر الزاخر سيدنا مير محمد طاهر زيدت توفيقاته ، فان وافق المسئول فهو المأمول ، والا فهو بستر العوار أولى ، وبسد خلل التقصير أحرى.

فقد اختلفت أقوال العلماء من المخالف والمؤالف في جواز التداوي عند الضرورة بالخمر ، وما فيه شي‌ء من المسكر ، فأردنا أن نشير الى ما هو أقوى عندنا من تلك الاقوال ، ليكون ذلك مرجعا لنا نرجع اليه عند الحاجة والضرورة.

فنقول : هل يجوز وقت الضرورة أن يتداوى المريض المكلف اذا كان مؤمنا بالانبذة والاشربة المسكرة ، وبالادوية التي فيها شي‌ء منها ، أكلا أو شربا


أو اكتحالا؟ قيل : لا ، وقيل : نعم.

وقيل : يجوز اذا لم يكن لها بدل يقوم مقامها ويفيد مفادها ، وذلك انما يعلم باخبار طبيب مجتهد في فنه متتبع حاذق ، يفيد اخباره العلم أو الظن المتاخم له. ومنهم من خصه بتداوي العين وطرح غيره من البين.

ونحن نذكر ما ورد في ذلك من الاخبار ، ثم نتبعه بما يقتضيه ضرب من الاعتبار ، وذلك في فصول :

الفصل الاول

[ ما يدل على المنع مطلقا ]

قال الله تعالى في سورة المائدة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (١) ولا يختص الخمر بعصير العنب ، بل يعم كل شراب مسكر.

كما رواه عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الخمر من خمسة : العصير من الكرم ، والنقيع من الزبيب والبتع من العسل ، والمزر من الشعير ، والنبيذ من التمر ورواه ثقة الاسلام في الكافي بسند صحيح (٢).

وروى شيخ الطائفة في التهذيب بسند صحيح أيضا عن علي بن يقطين ، عن أبي الحسن الماضي عليه‌السلام قال : ان الله لم يحرم الخمر لاسمها ، ولكن حرمها

__________________

(١) سورة المائدة : ٩٠.

(٢) فروع الكافى ٦ / ٣٩٢ ، ح ١.


لعاقبتها ، فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر (١).

اذا عرفت هذا فنقول : وقد استدل بعض الفقهاء بقوله تعالى ( فَاجْتَنِبُوهُ ) على عدم جواز التداوي بالخمر ، ولو من خارج البدن كالاطلاء به ، وهو غير بعيد لاطلاق الامر بالاجتناب من غير تقييد بحال دون حال ، فيدخل التداوي الى أن يقوم الدليل على جوازه.

وسيأتي الكلام المستوفى في ذلك انشاء الله العزيز.

في الكافي عن أبي علي الاشعري ، عن محمد بن عبد الجبار ، عن صفوان ، عن ابن مسكان ، عن الحلبي ـ فالسند صحيح ـ قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن دواء عجن بالخمر ، فقال : لا والله وما أحب أن أنظر اليه ، فكيف أتداوى به ، أنه بمنزلة شحم الخنزير أو لحم الخنزير (٢) ، وان أناسا ليتداوون به (٣).

وهذا أي نهيه عليه‌السلام عن استعمال الدواء المعجون بالخمر يعم على اطلاقه حالتي الضرورة وعدمها ، أي : الاضطرار والاختيار ، والاكل والشرب ، والاكتحال وغيرها.

وفيه في رواية مرسلة عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : من اكتحل بميل من مسكر كحله الله بميل من نار (٤).

لا بد من تقييدها بغير وقت الاضطرار ، توفيقا بينها وبين سائر الاخبار ، كحسنة ابن حمزة ، بل صحيحته الاتية.

وفيه في مرسلة أبي بصير ، قال : دخلت أم خالد العبدية على أبي عبد الله عليه‌السلام

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٩ / ١١٢ ، ح ٢٢١.

(٢) الترديد من الراوى « منه ».

(٣) فروع الكافى ٦ / ٤١٤ ، ح ٤.

(٤) فروع الكافى ٦ / ٤١٤ ، ح ٧.


وأنا عنده ، فقالت : جعلت فداك أنه يعتريني قراقر في بطني ، وقد وصف لي الاطباء النبيذ بالسويق ، وقد وقفت وعرفت كراهيتك له ، فأحببت أن أسألك عن ذلك.

فقال : وما يمنعك من شربه؟ فقالت : قد قلدتك ديني فألقى الله حين ألقاه فأخبره أن جعفر بن محمد أمرني ونهاني.

فقال : يا أبا محمد ألا تسمع الى هذه المرأة وهذه المسائل؟ لا والله لا آذن لك في قطرة منه ، ولا تذوقي منه قطرة ، فانما تندمين اذا بلغت نفسك هاهنا ، وأومى بيده الى حنجرته ، يقولها ثلاثا أفهمت؟ قالت : نعم (١).

الظاهر أن الغرض من السؤال بقوله « وما يمنعك من شربه » اختبار مراتب عقلها وتدينها واظهاره على الحاضرين ، والا فمانعها من شربه قد علم من قولها « وقد عرفت كراهيتك له » فتأمل.

ويظهر منه أن النبيذ مع السويق ينفع قراقر البطن وربح البواسير ، كما سيأتي أيضا ، وذلك أنه عليه‌السلام لم يرد قولهم ووصفهم بكونه نافعا لها ، وانما نهاها عنه لكونه حراما موجبا للندامة والعقاب والمؤاخذة في يوم الحساب.

ومثله صحيحة الحلبي السابقة ، فانه عليه‌السلام لم ينف عما عجن بالخمر الدوائية والنفع ، بل سلم أنه دواء نافع ، وانما منع من التداوي به ، معللا بأنه بمنزلة لحم الخنزير في الحرمة ، فما لم تمس الحاجة والضرورة اليه لم يجز التداوي به.

ويستفاد منه جوازه عند الضرورة ، كما يجوز تناول لحم الخنزير لمن اضطر اليه غير باغ ولا عاد ، فانه لا اثم عليه فيه ، بل يستنبط منه أن التداوي به أضعف حرمة من تناوله ضرورة ، ضرورة ضعف المشبه فيما شبه به من المشبه به ، فتأمل.

__________________

(١) فروع الكافي ٦ / ٤١٣ ، ح ١.


ثم الظاهر أن هؤلاء الاطباء الواصفين كانوا من المخالفين ، فان النبيذ على مذاهبهم حلال ، ولذلك جوزوا التداوي به ، وهو كما ورد في أخبارنا خمر استصغره الناس.

أو كانوا من المؤالفين ، ولكنهم كانوا جهلاء.

أو علماء فسقاء غير متدينين بدينهم ، كاكثر أطباء زماننا هذا ، فانهم يداوون المريض من غير مبالاة منهم ورعاية لقانون الشريعة المطهرة ، بل لقانون شيخهم ورئيسهم ابن سينا بأي دواء يزعمون أنه دواء نافع له ، حلالا كان أم حراما نجسا كان أم طاهرا.

ولذلك تراهم باحثين في كتبهم الطبية عن الخمر ومضارها ومنافعها وكيفية شربها وآلاته وأوقاته وماشا كل ذلك ، مشايعة منهم للفلاسفة وأطباء الازمنة الجاهلية.

هذا والمراد بالكراهة هنا الحرمة ، فانها كثيرا ما يطلق عليها في الاخبار.

وفيه في مرسلة (١) علي بن أسباط ، قال : أخبرني أبي ، قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام فقال رجل : ان بي أرياح البواسير ، وليس يوافقني إلا شرب النبيذ.

فقال : وما لك ولما حرم الله ورسوله ، يقول ذلك ثلاثا ، عليك بهذا المريس الذي تمرسه بالليل وتشربه بالغداة ، وتمرسه بالغداة وتشربه بالعشي ، قال : هذا ينفخ البطن. قال : فأدلك على ما هو أنفع من هذا ، عليك بالدعاء فانه شفاء من كل داء ، قال : فقليله وكثيره حرام (٢).

وفيه دلالة على أن الدعاء أنفع للمريض من الدواء ، وذلك أن الداء والدواء

__________________

(١) هذا الحديث رواه الشيخ في التهذيب عن عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن علي بن أسباط ، وهو كما ترى ضعيف لا مرسل « منه ».

(٢) فروع الكافى ٦ / ٤١٣ ، ح ٣.


والشفاء كله من الله ، وهو الداوي والشافي ، فاذا دعي للشفاء ووافق حكمته ومصلحته شفاه من غير حاجة الى مئونة الدواء ، فالدواء والدعاء والصدقة كلها من أسباب الشفاء.

الا أن أقربها وسيلة الى الشفاء هو الدعاء ، ولذلك تراهم عليهم‌السلام وهم أطباء النفوس والابدان وضعوا لكل داء دعاء ، كما تشهد به كتب الادعية.

والدليل على أن الداء والدواء منه تعالى ما روي عن سيدنا الصادق عليه‌السلام أنه قال : كان فيما مضى يسمى الطبيب المعالج ، فقال موسى بن عمران عليه‌السلام : يا رب فممن الداء؟ قال : مني ، فقال : فممن الدواء؟ فقال : مني ، فقال : فما يصنع الناس بالمعالج؟ فقال : يطيب بذلك أنفسهم ، فسمي الطبيب بذلك طبيبا (١).

وفيه في مجهولة معاوية بن عمار ، قال : سأل رجل أبا عبد الله عليه‌السلام عن الخمر يكتحل منها؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : ما جعل الله في حرام شفاء (٢).

وفيه عن علي بن ابراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن عمر بن أذينه ـ فالسند حسن على المشهور ، وصحيح على ما تقرر عندنا ـ قال : كتبت الى أبي عبد الله عليه‌السلام أسأله عن الرجل يبعث له الدواء من ريح البواسير فيشربه بقدر أسكرجة من نبيذ صلب ليس يريد به اللذة انما يريد به الدواء ، فقال : لا ولا جرعة ، وقال : ان الله عزوجل لم يجعل في شي‌ء مما حرم دواء ولا شفاء (٣).

سكرجة بضم السين والكاف والراء والتشديد : اناء صغير يؤكل فيه الشي‌ء القليل من الادم ، وهي فارسية ، وأكثر ما يوضع فيها الكواميخ ونحوها ، كذا في نهاية ابن الاثير (٤).

__________________

(١) علل الشرائع ص ٥٢٥.

(٢) فروع الكافي ٦ / ٤١٤ ، ح ٦.

(٣) فروع الكافي ٦ / ٤١٣ ، ح ٢.

(٤) نهاية ابن الاثير ٢ / ٣٨٤.


الفصل الثانى

[ ما يدل على جواز التداوى ]

فان قلت : هذا ، أي عدم جعله تعالى في شي‌ء منه دواء ولا شفاء ، مع أنه خلاف الواقع والعيان ، وما دلت عليه التجربة والامتحان ، وما ذكره كثير من الاطباء من كونه دواء لكثير من الداء ، وقد سبقت اليه الاشارة والبيان.

ينافيه ما رواه في الكافي عن محمد بن أحمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين والحسن بن موسى الخشاب ، عن يزيد بن اسحاق شعر ، عن هارون بن حمزة الغنوي.

فالسند صحيح على الظاهر ، اذ ليس فيه من لم يصرحوا بتوثيقه الا ابن اسحاق ولكنه وثقه الشهيد الثاني في شرح الدراية ، وهو غير بعيد ، ومع ذلك سماه في شرح الشرائع حسنا.

عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل اشتكى عينيه ، فنعت له كحل يعجن بالخمر ، فقال : هو خبيث بمنزلة الميتة ، فان كان مضطرا فليكتحل به (١).

فانه صريح في أن في الخمر ، وهي أم الخبائث ومن أكبر المحرمات دواء وشفاء ولذلك أبيح له الاكتحال به وقت الاضطرار والظاهر أن الامر هنا للاباحة ، بمعنى الاعم الشامل للوجوب ، لان الاضطرار قد يؤدي اليه اذا خاف فساد العين مثلا ، وكان الدواء منحصرا في الكحل المعجون بالخمر.

قلت : ليس المراد بعدم جعله تعالى فيه دواء ولا شفاء أنه سلبه عنه بالكلية حتى يقال انه خلاف الواقع ، بل المراد أنه تعالى منع عباده من التداوي به

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٩ / ١١٤ ، ح ٢٢٨ ، ولم أعثره فى الكافى.


أكلا وشربا ، ونهاهم عنه ولم يرخصهم أن يستفيدوا منه دواء ولا شفاء ، لكون مفاسده أكثر من مصالحه ، كما أشار اليه بقوله ( وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) (١)

ولما لم تكن المفاسد في صورة الاكتحال به ، لم يمنعهم من ذلك بل رخصهم ، كما هو صريح صحيح ابن حمزة ، فهو مخصص للعمومات ، ومقيد للاطلاقات ، ولذلك استثناه المحقق في الشرايع بقوله :

لا يجوز التداوي بالخمر ولا بشي‌ء من الادوية التي معها شي‌ء من المسكر أكلا ولا شربا ، ويجوز عند الضرورة أن يتداوى به للعين (٢) انتهى. والى هذا الجواز ذهب أكثر من قال بأخبار الاحاد.

وقال ابن ادريس بناء على أصله : لا يجوز التداوي به للعين ولا لغيرها ، وانما هذا خبر واحد من شواذ أخبار الاحاد ، وأورده شيخنا في نهايته ، ورجع عنه في مسائل خلافه ، حتى أنه حرم شربها عند الضرورة من العطش (٣).

حيث قال : اذا اضطر الى شرب الخمر للعطش أو الجوع أو التداوي ، فالظاهر أنه لا يبيحها أصلا ، وقد روي أنه يجوز عند الاضطرار الى أن يشرب ، فأما الاكل والتداوي فلا ، وبهذا التفصيل قال أصحاب الشافعي ، وقال الثوري وأبو حنيفة : يحل للمضطر الى الطعام والشراب ويحل للتداوي به.

ثم استدل عليه باجماع الفرقة وأخبارهم ، وبأن طريقة الاحتياط يقتضيه. وأيضا تحريم الخمر معلوم ضرورة ، واباحتها تحتاج الى دليل ، قال : وما قلناه مجمع عليه ، وليس على ما قالوه دليل (٤).

__________________

(١) سورة البقرة : ٢١٩.

(٢) شرائع الاسلام ٣ / ٢٣١.

(٣) السرائر ٣ / ١٣١.

(٤) الخلاف كتاب الاطعمة ، مسألة : ٢٧.


أقول : الاجماع غير ثابت في موضع النزاع ، والدليل على ما قالوه أن الضرورات تبيح المحذورات ، والاخبار الواردة في المنع من التداوي بها محمولة على حال الاختيار ، فيجوز التداوي بها حال الاضطرار ، كما ذهب اليه جماعة من الاخيار.

وأما الاحتياط وليس من الادلة الشرعية ، فيقتضي أباحتها عند الضرورة ، لان حفظ البدن وأجزائه من الواجبات وتركه من المحرمات ، والاجتناب من الخمر وما شاكلها من المسكرات انما يجب اذا لم يؤد الى ما هو أشد منه تحريما ، ولذلك لم يجب حال التقية وخوف قتل النفس والضرر البدني والمالي الذي لا يحتمل مثله مثله.

هذا ، أقول : ومما يدل على جواز التداوي بالمحرم في حال الاضطرار ما رواه الشيخ في التهذيب والاستبصار في باب ما يجب على المحرم اجتنابه في احرامه ، عن الحسين بن سعيد ، عن صفوان بن يحيى ، عن اسماعيل بن جابر ، وكانت عرضت له ربح في وجهه من علة أصابته وهو محرم ، قال فقلت لابي عبد الله عليه‌السلام : ان الطبيب الذي يعالجني وصف لي سعوطا فيه مسك ، فقال : استعط به (١).

سعط الدواء ، وأسعطه اياه أدخله في أنفه ، والسعوط كصبور ذلك الدواء.

وجه الدلالة أن المحرم يحرم عليه في احرامه من الطيب أربعة أشياء : المسك والعنبر ، والورس ، والزعفران. وقد رخصه الامام عليه‌السلام أن يستعط وهو محرم بسعوط فيه مسك لضرورة ما كانت به من علة.

ويستفاد من هذا الحديث الصحيح جواز الرجوع الى الطبيب والعمل بقوله في المعالجات ، أفاد قوله الظن بما قال أم لم يفد ، مسلما كان أم كافرا ، عادلا كان

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٥ / ٢٩٨ ، والاستبصار ٢ / ١٧٩.


أم فاسقا ، كما يفيده ظاهر الاطلاق.

والقول بأن هذا الطبيب لعله كان مسلما عادلا مفيدا قوله الظن بما قال ، أو كان الامام عليه‌السلام عالما بالحال ، وان هذا السعوط نافع لهذا المرض ، خلاف الظاهر ومدار الاستدلال على الظاهر ، ولا تدفعه الاحتمالات البعيدة ، كما تقرر في فن الاصول ، وقد حكم بأنه الاحرى بالقبول.

وقال في المبسوط : اذا لم يجد المضطر الا الخمر ، فالنصوص لاصحابنا أنه لا سبيل لاحد الى شربها ، سواء كان مضطرا الى الاكل والشرب والتداوي ، وبه قال جماعة ، وقال بعضهم : ويحل التداوي بها ، قال : ويجوز على ما روي في بعض أخبارنا عند الضرورة التداوي به للعين دون الشرب (١).

أقول : هذه الاختلافات من شيخنا في الفتاوي انما تنشأ من اختلافه فيما يعتبر في الراوي وفي العمل بالاخبار ، فتارة يشترط في قبول الرواية الايمان والعدالة ، كما قطع به في كتبه الاصولية ، وهذا يقتضي أن لا يعمل بالاخبار الموثقة والحسنة ، وأخرى يكتفي في العدالة بظاهر الاسلام ولا يشترط ظهورها ، ومقتضاه العمل بها مطلقا كالصحيح.

ووقع له في الحديث وكتب الفروع غرائب ، فتارة يعمل بالخبر الضعيف مطلقا ، حتى أنه يخصص به أخبارا كثيرة صحيحة ، حيث يعارضه باطلاقها. وتارة يصرح به والحديث لضعفه ، وأخرى برد الصحيح معللا بأنه خبر واحد لا يوجب علما ولا عملا ، كما عليه المرتضى.

هذا وقال ابن البراج : اذا كان في الدواء شي‌ء من الخمر ، لم يجز التداوي به ، الا أن لا يكون له عنه مندوحة ، والاحوط تركه.

واختار العلامة جواز شربه عند خوف التلف من العطش والمرض اذا اندفعا

__________________

(١) المبسوط ٦ / ٢٨٨.


به ، واستدل عليه بأن اباحة الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير للمضطر تستلزم اباحة كل ما حرم تناوله ، لان تحريمها أفحش ، فاباحته تستلزم اباحة الادون.

وتبعه في ذلك الشهيد الثاني قدس‌سره في شرح الشرائع ، حيث قال : وتحريم الميتة ولحم الخنزير أفحش وأغلظ من تحريم الخمر ، فاباحتهما للمضطر يوجب اباحة الخمر بطريق أولى.

ثم أيده برواية محمد بن عبد الله ، عن بعض أصحابه ، قال قلت لابي عبد الله عليه‌السلام : لم حرم الله الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير؟ فقال : ان الله تعالى لم يحرم ذلك على عباده وأحل لهم ما سواه من رغبة منه فيما حرم عليهم ولا الزهد فيما حل لهم.

ولكنه خلق الخلق وعلم ما تقوم به أبدانهم وما يصلحهم ، فأحله لهم وأباحه تفضلا منه عليهم به لمصلحتهم ، وعلم ما يضرهم ، فنهاهم عنه وحرمه عليهم ، ثم أباحه للمضطر ، فأحله في الوقت الذي لا يقوم بدنه الا به ، فأمره أن ينال منه بقدر البلغة لا غير ذلك الحديث (١). قال : وهو نص في المطلوب لكنه مرسل

__________________

(١) تتمة الحديث في الفقيه هكذا : ثم قال : وأما الميتة فانه لم ينل أحد منها الا ضعف بدنه ، ووهنت قوته ، وانقطع نسله ، ولا يموت آكل الميتة الا فجأة.

وأما الدم فانه يورث آكله الماء الاصفر ويورث الكلب ، وقساوة القلب ، وقلة الرأفة والرحمة ، حتى لا تؤمن على حميمه ، ولا يؤمن على من صحبه.

وأما لحم الخنزير ، فان الله تبارك وتعالى مسخ قوما فى صور شتى ، مثل الخنزير والقرد والدب ، ثم نهى عن أكل المثلة ، لئلا ينتفع بها ولا يستخف بعقوبتها وأما الخمر فانه حرمها لفعلها وفسادها. ثم قال : ان مدمن الخمر كعابد وثن ، ويورثه الارتعاش ، ويهدم مروءته ، ويحمله على أن يجسر على المحارم من سفك الدماء ، وركوب الزنا ، حتى لا يؤمن اذا سكر أن يثب على حرمه وهو لا يعقل ذلك ، والخمر لا يزيد شاربها الاكل شر « منه ».


وفي سنده جهالة ، فلذا جعلناه شاهدا لا دليلا (١) انتهى.

أقول : هذا الحديث مسند في الفقيه (٢) ، رواه الصدوق عن محمد بن عذافر عن أبيه ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، وطريقه الى محمد هذا صحيح ، كما يظهر من مشيخته.

حيث قال فيها : وما كان فيه عن محمد بن عذافر ، فقد رويته عن أبي ومحمد ابن الحسن رضي‌الله‌عنهما ، عن سعد بن عبد الله والحميري جميعا عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب ، عن محمد بن اسماعيل بن بزيع ، عن محمد بن عذافر الصيرفي (٣) انتهى.

والسند كما ترى في غاية الصحة بقي الكلام في عذافر بن عيسى الخزاعي الصيرفي الكوفي أبي محمد.

فنقول : أرباب الرجال وان لم يصرحوا في كتبهم بتوثيقه ، الا أنهم لم يقدحوا فيه بوجه ، بل صرحوا بأنه امامي من أصحاب الباقرين عليهما‌السلام كما في ترجمته وترجمة زرارة وابنه محمد ، وله عنهما عليهما‌السلام روايات كثيرة.

وقد قال بعض محققي أصحابنا ممن له قدم راسخة في هذا الشأن في بعض حواشيه على كتابه الموسوم بمجمع الرجال : ان من المدح وكماله أن يكون الرجل راويا عن أحد من النبي والائمة عليهم‌السلام ، بأن يذكر في أصحابه ورواته ولو حديثا واحدا ولا يذكر ذمه.

قال : ويوضح المطلب أنه لو لم يكن كون الرجل راويا عن واحد أو اثنين أو ثلاثة منهم عليهم‌السلام من المدح الكلي ، يصير كتاب الرجال للشيخ قدس‌سره

__________________

(١) مسالك الافهام ٢ / ٢٥١ ـ ٢٥٢.

(٢) من لا يحضره الفقيه ٣ / ٣٤٥ ـ ٣٤٦.

(٣) من لا يحضره الفقيه ٤ / ٥١٨.


عبثا ، وكذلك كثير من كتاب فهرسته وكتاب النجاشي بلا نفع وفائدة ، فانه لا يذكر في أكثر كتاب الرجال في أبوابه ممن يروي عنهم عليهم‌السلام وفي أبواب من لم يرو الا الرجل ووالده وموضعه وصنعته فقط ، بلا اشارة الى توثيقه ومدحه ، كما لا يخفى على من له التتبع التام انتهى.

فظهر أن هذا حديث مسند حسن سنده ، ولا أقل أن يكون قويا ، وهو ما رواه الامامي الغير الممدوح ولا المذموم ، فيكون دليلا ، بناءا على العمل بالحسان ، وخاصة مثل هذا الحديث الوارد في الطريقين عن الامامين الهمامين الباقرين عليهما‌السلام المطابق لمقتضى الدليل.

واعلم أن بين ما نقله الشهيد الثاني في شرح الشرايع ، ورواه الصدوق في الفقيه اختلاف ، منه قوله « فقال : ان الله تبارك وتعالى لم يحرم ذلك على عباده وأحل لهم ما وراء ذلك عن رغبة فيما أحل لهم ولا زهد فيما حرمه عليهم » ولعله أظهر.

ثم أقول : وأما ما ذكره قدس‌سره من حديث الاولوية ، فهو ممنوع ، لانا لا نسلم أن تحريمها أفحش من تحريم الخمر ، اذ لا دليل عليه ، بل الدليل على خلافه ، ولان آكل الميتة والدم ولحم الخنزير لا يقتل وان تكرر ذلك منه ، بخلاف شارب الخمر لانه يقتل في الثالثة أو الرابعة أو الثامنة ، كما دلت عليه الاخبار وصرح به الاخيار ، وهذا دليل على أن تحريمها أغلظ من تحريمها.

وفي الفقيه في رواية ابراهيم بن هاشم ، عن عمرو بن عثمان ، عن أحمد بن اسماعيل الكاتب عن أبيه ، قال : أقبل محمد بن علي عليهما‌السلام في المسجد الحرام ، فقال بعضهم : لو بعثتم اليه بعضكم يسأله ، فأتاه شاب منهم فقال له : يا عم ما أكبر الكبائر؟ قال : شرب الخمر ، فأتاهم فأخبرهم ، فقالوا له : عد اليه فلم يزالوا به حتى عاد اليه فسأله.


فقال له : ألم أقل لك يا ابن أخي شرب الخمر ، ان شرب الخمر يدخل صاحبه في الزنا والسرقة وقتل النفس التي حرم الله ، وفي الشرك بالله ، وأفاعيل الخمر تعلو على كل ذنب كما تعلو شجرتها على كل شجرة (١).

وظاهر أن كل ما كان ذنبه أكبر كان تحريمه أغلظ وأفحش ، ومنه يلزم أن يكون تحريم الخمر أغلظ من تحريم الميتة ولحم الخنزير.

وأيضا فان الخمر مفتاح كل شر وشاربها كعابد وثن ، ومن شربها حبست صلاته أربعين يوما ، فان تاب في الاربعين لم تقبل توبته وان مات فيها دخل النار ، ولعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الخمر وغارسها وحارسها وحاملها والمحمولة اليه وبايعها ومشتريها وآكل ثمنها وعاصرها وساقيها وشاربها ، وتحريم الميتة وأخواتها ليس بهذه الشدة والغلظة ، فضلا عن أن يكون أغلظ منها.

وروى الصدوق في الفقيه بسند حسن عن اسحاق بن عمار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : آكل الميتة والدم ولحم الخنزير عليه أدب ، فان عاد أدب ، قلت : فان عاد ، قال : يؤدب وليس عليه قتل (٢).

قال : واذا شرب الرجل الخمر والنبيذ والمسكر جلد ثمانين جلدة ، وكلما أسكر كثيره فقليله وكثيره حرام ، والفقاع بتلك المنزلة ، وشارب المسكر خمرا كان أو نبيذا يجلد ثمانين جلدة ويقتل في الثامنة ، الى هنا منقول من الفقيه.

الفصل الثالث

[ الجواب عن أخبار المنع ]

أجاب العلامة عن الاخبار الواردة في المنع من التداوي بالخمر بحملها على

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٣ / ٥٧١.

(٢) من لا يحضره الفقيه ٤ / ٧١.


طلب الصحة لا طلب السلامة ، قال : ونحن انما نسوغ شربه في طلب السلامة ، بحيث لو لم يشربه أو يتداو به حصل التلف ، أما في طلب العافية فلا.

وكلامه هذا وما نقلنا عنه سابقا صريح في أن جواز شربه والتداوي به مشروط بشرطين : خوف التلف من المرض ، والعلم والظن المتاخم له بأن المرض أو خوف التلف منه يندفع به.

وذلك يحصل : اما بالتجربة ، أو القياس المفيد له ، فكل طبيب لم يحصله لا يجوز له أن يداوي المريض به ، ولا للمريض أن ينقاد له ويقبل منه ، فلو اتفقا وفعلا والحالة هذه أثما ، واستحق المريض الشارب الحد ، والطبيب المداوي له بذلك التعزير على فعله المحرم.

فبالله عليك أيها الطبيب المداوي أن لا تقدم عليه من غير علم حاصل لك بأحد الطريقين فتهلك وتهلك.

هذا وصرح صاحب الدروس فيه بجواز استعمال الخمر للضرورة مطلقا حتى للدواء كالترياق والاكتحال ، لعموم الآية الدالة على جواز تناول المضطر اليه ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) (١) وحمل الاخبار الدالة على المنع من استعمالها مطلقا حتى الاكتحال على الاختيار ، والفرق بين الحملين واضح.

وما اختاره العلامة هو الاقوى ، لان حفظ النفس من التلف واجب عقلا ونقلا ، وتركه محرم وهو أغلظ تحريما ، فاذا تعارض التحريمان وجب ترجيح الاخف وترك الاقوى.

وأيضا فان اباحة شربها حال التقية اذا حصل خوف التلف من العدد بتركه يستلزم اباحة شربها والتداوي بها اذا حصل خوف التلف من المرض بتركه ، والاول لا يجوز تركه فكذا الثاني.

__________________

(١) سورة البقرة : ١٧٣.


وأما عدم جواز شربه مطلقا عند عدم خوف التلف ، فلدلالة هذه الاخبار الكثيرة عليه وفيها ما هو صحيح ، مع أنه لا يحتاج الى دليل ، لان الخمر وكل مسكر حرام بالضرورة من الدين لا يجوز أكله ولا شربه ولا التداوي به الا ما أخرجه الدليل ، وشربه لطلب الصحة ليس منه.

وقال بعض متأخري أصحابنا : لو قام غير الخمر مقامها وان كان محرما قدم عليها ، لاطلاق النهي الكثير عنها في الاخبار ، وهو جيد اذا كان غيرها أضعف تحريما منها ، وأما اذا كان مثلها أو أقوى منها تحريما كالميتة والدم ولحم الخنزير ، كما أشار اليه العلامة وتبعه فيه الشهيد الثاني.

ودل عليه قوله عليه‌السلام في صحيحة الغنوي « هو خبيث بمنزلة الميتة » وقوله في صحيحة الحلبي « انه بمنزلة شحم الخنزير أو لحم الخنزير » فان المشبه به أقوى من المشبه على ما تقرر عندهم فلا.

مثلا لو فرض أن الترياق الفاردق يقوم مقامها وفيه جزء من الميتة ، وهو أخبث منها وأشد تحريما ، لما جاز تقديمه عليها والعدول منها اليه ، فتأمل.

الفصل الرابع

[ ما يحصل به الضرورة المبيحة ]

خوف التلف من المرض ، كما يحصل للمريض بتجربته أو بحذاقته في الطب ، وعلمه بأن المرض الفلاني مهلك لو لا الدواء الفلاني ، كذلك يحصل باخبار من يفيد اخباره العلم بذلك ، مسلما كان أم كافرا ، حاذقا كان أم غيره.

وبالجملة فهو في ذلك يرجع الى ظنه المستند الى امارة ، أو تجربة ، أو قول من يفيد قوله الظن ، وان كان فاسقا أو كافرا ، كأطباء غير الملة.


فاذا حصل له الظن بأن الداء مهلك والدواء منحصر في الخمر ، وجب عليه استعماله بقدر ما يحصل له به ظن السلامة لا الصحة ، كما في نظائره ، فلو أفرط أو فرط والحال هذه أثم.

ولا يجوز له الامتناع منه الى زمن اشرافه على الموت ، فان التناول حينئذ لا ينفع ولا يدفع ، بل لو انتهى الى تلك الحال لم يحل له التناول ، لانه غير مفيد والغرض من اباحة المحرم حفظ النفس.

وأما تركه الشرب مطلقا بعد حصول ظن التلف بتركه ، فاعانته على النفس وهي حرام منهي عنه بقوله تعالى ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) (١).

وعن سيدنا أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام : من قتل نفسه متعمدا فهو في نار جهنم خالدا فيها ، قال الله تبارك وتعالى ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً * وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً ) (٢).

والقول بأن الصبر عنه لكونه محرما ضرب من الورع ، فلا يكون تركه اثما منظور فيه ، لانه في هذا الحال لا يكون حراما ، بل يكون واجبا ، لان حفظ النفس الموقوف عليه واجب ، فيكون واجبا ، فلا يكون تركه ورعا بل هو كفر.

كما يشعر به ما في نوادر الحكمة لمحمد بن أحمد بن يحيى بن عمران الاشعري عن الصادق عليه‌السلام من اضطر الى الميتة والدم ولحم الخنزير ، فلم يأكل شيئا من ذلك فهو كافر. أي : هو كالكافر لانه قاتل نفسه.

وبهذا يندفع قول ابن ادريس بعدم جواز التداوي به مطلقا ، مستدلا عليه بقوله عليه‌السلام « ما جعل الله في حرام شفاء » لان كونه حينئذ من المحرمات الممنوع منها ممنوع ، بل هو من المباحات ولا أقل منه ، لما قد عرفت.

__________________

(١) سورة البقرة : ١٩٥.

(٢) من لا يحضره الفقيه ٣ / ٥٧١.


وأما استدلاله عليه باطلاق النص والاجماع بتحريمه الشامل لموضع النزاع ، فمجاب بأن اطلاقهما مقيد بغير صورة الاضطرار ، توفيقا بين الادلة.

تنبيه

[ حكم من دلس الامر على المريض ]

من دلس الامر على المريض وأطعمه شيئا من المسكر أو فرجه بدوائه ليصح لا ليسلم ، فهو آثم لارتكابه محرما ، ولكنه لا يحد بل يعزر.

نعم لو ترك المريض ذلك ظنا منه أنه نوع ورع ، وتيقن الطبيب أو ظن ظنا متاخما للعلم بأن تركه هذا يؤدي الى اتلافه واهلاكه ، فدلس الامر وأطعمه ليسلم لا ليصح لا يكون آثما بل يكون مثابا ، لان من أحيا نفسا فكأنما أحيا الناس جميعا. والطبيب الحاذق أبصر بالمريض منه بنفسه ، فليعمل فيه على رأيه ، مراعيا فيه قانون الشريعة المطهرة ، لا ما يستفيده من قانون ابن سينا اذا كان مخالفا له ، فانه حينئذ لا ينفع ولا يدفع ، فيكون كما قال الله تعالى ( خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ ) (١) نعوذ بالله منه.

كتبه مؤلفه الحقير الفقير الى رحمة ربه الجليل محمد بن الحسين بن محمد رضا المشتهر باسماعيل عفى الله عنه وعن والديه الكثير ، وقبل بفضل رحمته منهم اليسير ، انه بذلك جدير ، وهو على ما يشاء قدير.

والحمد لله العلي الكبير ، والصلاة على نبيه البشير النذير السراج المنير ، وعلى آله وعترته سيما على أخيه المنصوص بخم الغدير.

تم استنساخ وتصحيح هذه الرسالة في (٢٨) رجب الاصب سنة (١٤١١) هـ ق في بلدة قم المقدسة على يد العبد الفقير السيد مهدي الرجائي عفي عنه.

__________________

(١) سورة الحج : ١١.


سلسلة آثار المحقق الخاجوئى

(٥٥)

رسالة

فى حكم الحدث الاصغر المتخلل فى غسل الجنابة

للعلّامة المحقّق العارف

محمّد اسماعيل بن الحسين بن محمّد رضا المازندراني الخاجوئي

المتوفى سنة ١١٧٣ ه‍ ق

تحقيق

السّيّد مهدى الرّجائي



بسم الله الرّحمن الرّحيم

بعد حمد من جعل الغسل أكمل (١) الطهارات ، والصلاة على نبيه وآله أفضل الصلوات ، يقول العبد المفتاق الى رحمة ربه الجليل محمد بن الحسين بن محمد رضا المشتهر باسماعيل :

هذه رسالة محتوية على ثمانية فصول نبين فيها ما هو الظاهر عندنا من الاقوال المنقولة عن أصحابنا رضوان الله عليهم في حكم الحدث الاصغر المتخلل قبل اكمال غسل الجنابة.

فان أصبت فيه فمن الله ، وان أخطأت فمن عند نفسي ، وبالله أعتصم من الخطأ والزلل في القول والعمل ، وهو الموفق للسداد والصواب ، ومنه المبدأ

__________________

(١) لانه أكمل من الوضوء ، وهو أكمل من التيمم.

أما الثاني فظاهر ، وأما الاول فلقوله عليه‌السلام « أي وضوء أنقى من الغسل وأبلغ » وقوله « أى وضوء أطهر من الغسل » واذا لم يكن أطهر منه فاما مساو له أم هو دونه ، والمساواة لا يلائم مقام المدح ، فيكون دونه.

وأيضا فانه أقوى تأثيرا منه ، حيث يرفع الحدث الاكبر دونه ، وهو أحمز منه ، وأفضل الاعمال أحمزها فتأمل فيه « منه ».


واليه المآب.

الفصل الاول

[ تنقيح المسألة ]

الحدث الواقع في أثناء غسل الجنابة هل يبطل حكم الاستباحة أم لا؟ وعلى الاول هل يوجب الوضوء أو الاعادة؟ ثلاث مذاهب ، ذهب الى كل ذاهب.

والثاني منها نسب الى السيد المرتضى علم الهدى ، واختاره بعض (١) المتأخرين ، واستدل عليه بأن الحدث الاصغر ليس موجبا للغسل ولا لبعضه قطعا فيسقط وجوب الاعادة ، وأما وجوب الوضوء فان الحدث المتخلل لا بد له من رافع ، وهو أما الغسل بتمامه أو الوضوء ، والاول منتف لتقدم بعضه ، فتعين الثاني (٢) انتهى.

ولك أن تقول : انا لم نجعل وجوب الاعادة معلولا لايجاب الحدث الاصغر الغسل وبعضه ، حتى يتفرع عدمه على عدمه ، بل جعلناه معلولا لابطاله حكم الاستباحة المسلم عندنا وعندكم.

فانه لما أبطله فلا بد من تجديد طهارة لها ، وهو الان جنب ، لان حدث الجنابة انما يرتفع بتمام الغسل ، وطهارة الجنب للاستباحة انما هي بالغسل دون الوضوء ، فيجب عليه اعادة ما سبق من أبعاض الغسل تحصيلا للاستباحة ، فهنا أوجب الحدث الاصغر اعادة بعض الغسل ، اذ لولاه لما وجبت عليه اعادته.

وهذا الجواب كأنه أحسن مما أجاب به آية الله العلامة في المختلف ، بأن

__________________

(١) المراد بهذا البعض سيدنا قدس‌سره في المدارك.

(٢) مدارك الاحكام ١ / ٣٠٧.


ايجاب الاعادة ليس باعتبار الحدث الاصغر ، بل بحكم الجنابة الباقي قبل كمال الغسل انتهى.

ولعل الوجه فيه أن الحدث الاصغر لما أبطل حكم الاستباحة ، وأوجبت تجديد طهارة لها ، وكان هو الان كما كان جنبا ، وطهارته لها انما هي بالغسل ، أوجب ذلك عليه اعادته ، فالموجب للاعادة هنا في الحقيقة هو بقاء الجنابة ، اذ لولاه لما وجبت عليه بالحدث الاصغر ، بل كان الواجب هو الوضوء لا الاعادة.

ويمكن أن يقال : ان الموجب هنا هو المجموع لا الجنابة بدونه ولا هو بدونها بل لكل دخل في الايجاب ، والموجب التام هو المجموع لا كل منهما بحياله ، فتأمل. وأما أن الحدث المتخلل لا بد له من رافع فمسلم ، ولكن نقول : انه الغسل بتمام أجزائه فيجب عليه اعادته لا الوضوء ، فانه لا يرفعه في هذه الصور. واستدل المحقق على ما نقل عنه شارح الجعفرية على صحة مذهب السيد بعد اختياره بأن الحدث الاصغر اذا حصل بعد اكماله أي الغسل أوجب الوضوء فكذا في أثنائه.

ونقل العلامة في المختلف هذا الدليل عن السيد ، حيث قال : وقال السيد المرتضى : يتم الغسل ويتوضأ اذا أراد الدخول في الصلاة ، واحتج عليه بأن الحدث الاصغر لو حصل بعد كمال الطهارة أوجب الوضوء ، فكذا في أثنائها.

أقول : ويمكن معارضته بمثله ، بأن الحدث الاصغر لو حصل قبل الشروع في الطهارة لم يوجب الوضوء فكذا في أثنائها ، على أنه قياس معه فارق ، لان الاول لا يلزمه محذور بخلاف الثاني.

لانك قد عرفت أن الحدث الاصغر اذا حصل في أثناء الطهارة وأبطل حكم الاستباحة ، فلا بد لها من تجديد طهارة ، وطهارة الجنب للاستباحة هي الغسل لا الوضوء.


وأيضا فان الوضوء منفي مع غسل الجنابة ، بل مع غيره أيضا من الاغسال الواجبة والمندوبة الا غسل يوم الجمعة.

أما الاول ، فلقول سيدنا الصادق عليه‌السلام : في كل غسل وضوء الا الجنابة (١).

وقوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة : ليس قبله ولا بعده وضوء (٢).

وقوله في صحيحة حكم بن حكيم : أي وضوء أنقى من الغسل وأبلغ (٣).

وقول الرضا عليه‌السلام في صحيحة أحمد بن محمد : ولا وضوء فيه (٤).

وقول الباقر عليه‌السلام في صحيحة سليمان بن خالد : الوضوء بعد الغسل بدعة (٥) وله نظائر.

لا يقال : ان الرواية الاولى مرسلة رواها الشيخ في التهذيب عن ابن أبي عمير ، عن حماد بن عثمان وغيره ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وقد طعن المحقق في المعتبر والشهيد الثاني في شرح دراية الحديث في مراسيله.

لانا نقول : يعارضه تصريح الشيخ بأن ابن أبي عمير لا يروي الا عن الثقات وكونه ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه ، واشتهار مراسيله بين الاصحاب.

وأما الثاني ، فلما روي في الكافي أنه ليس شي‌ء من الغسل فيه وضوء الا غسل يوم الجمعة ، فان قبله وضوء ، ثم قال : وروي أي وضوء أطهر من الغسل (٦).

وهذا منه اشارة الى ما في التهذيب في صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر

__________________

(١) تهذيب الاحكام ١ / ١٤٣.

(٢) تهذيب الاحكام ١ / ١٤٨.

(٣) تهذيب الاحكام ١ / ١٣٩.

(٤) تهذيب الاحكام ١ / ١٣١.

(٥) تهذيب الاحكام ١ / ١٤٠.

(٦) فروع الكافى ٣ / ٤٥ ، ح ١٣.


عليه‌السلام قال : الغسل يجزئ عن الوضوء وأي وضوء أطهر من الغسل (١) فانه يدل على عدم الاحتياج الى الوضوء في شي‌ء من الاغسال ، الا أن يجعل اللام (٢) في الغسل اشارة الى غسل الجنابة وهو بعيد ، مع أنه يستلزم المطلوب.

لانا نقول : هذا الغسل المتخلل بالحدث ان كان غسل جنابة ، فالوضوء معه منفي ، وان لم يكن فالحدث الاكبر معه باق ، فلا يجدي معه الوضوء.

والقول بأن قوله عليه‌السلام « في كل غسل وضوء الا الجنابة » لا عموم له على وجه يتناول هذه الصورة ، محل نظر ، لان المستثنى وهو غسل الجنابة المنفي عنه الوضوء مفهوم كلي يصدق على كل فرد من أفراده ، فان كان هذا فردا منه كان الوضوء معه منفيا ، والا فلا يجدي نفعا.

نعم لو قيل : انه فرد منه ولكن الوضوء انما يكون منفيا مع غسل الجنابة لم يتخلله حدث ، وهو الفرد الغالب منه ، وعليه فحمل الروايات الواردة في بيانه ونفي الوضوء معه لم يكن بعيدا.

ولكن ظني أن الذي سبق آنفا من أن الحدث الاصغر الواقع في الاثناء يبطل حكم الاستباحة ، وبعد ابطاله له لا بد من تجديد طهارة لها وطهارة الجنب هي الغسل لا الوضوء تمام على من قال بتأثيره وابطاله حكم الاستباحة ، فتأمل.

والقول بأن ظاهر الكتاب والسنة يفيد أن الحدث الاصغر يوجب الوضوء لا اعادة الغسل ، مجاب بأن هذا مسلم فيما اذا وقع بعد اكماله ، واما اذا وقع في

__________________

(١) تهذيب الاحكام ١ / ١٣٩.

(٢) اشارة الى ما قيل أن غسل الجنابة من بين الاغسال لحصوله سببه فى أكثر الاحيان وكثرة الاحتياج اليه ، حتى صار غيره اليه بمنزلة النادر المعدوم ، كان بمنزلة الحاضر المعهود في الذهن ، فالحمل عليه غير بعيد وفيه أن هذا مسلم اذا كان غير غسل الجنابة نادرا قليل الوقوع ، وليس الامر كذلك ، بل الظاهر العموم بقرينة التعليل « منه ».


الاثناء ، فافادتهما ذلك ممنوع والفرق جلي كما سبق.

الفصل الثاني

[ تحقيق حول القول باتمام الغسل ]

القول باتمام الغسل خاصة ، كما ذهب اليه ابن ادريس وابن البراج ، وتبعهما فيه بعض (١) المتأخرين ، واستدل عليه بأن الحدث الاصغر غير موجب للغسل ، فلا معنى للاعادة ، والوضوء منقي مع غسل الجنابة بالنص والاجماع.

محل نظر أيضا ، لما سبق في الفصل السابق ، ولامتناع خلو الحدث الواقع في الاثناء عن أثر ، فهو موجب : اما اعادة الغسل من رأس ، أو الوضوء بعد اتمامه والثاني منفي لما أفاده من النص والاجماع ، فتعين الاول.

لا يقال : ان الاجماع غير ثابت في محل النزاع ، للخلاف المنقول عن المرتضى.

لانا نقول : انه قد انعقد قبله ، اذ لم ينقل عن أحد ممن سبقه هذا الخلاف ، والا لكانت نسبته اليه أولى من نسبته اليه.

بل الظاهر كما يشهد به التأمل والتتبع أن من زمن أصحاب المعصومين عليهم‌السلام الى زمانه كان القول بنفي الوضوء الواجب مع غسل الجنابة مطلقا شايعا من غير نكير ولا تفصيل.

ولعله لذلك حكم علي بن الحسين بن بابويه ، وهو من قدماء أصحابنا ممن أدركوا بعض سفراء صاحبنا ووكلائه صلوات الله عليه بوجوب اعادة الغسل في

__________________

(١) المراد بهذا البعض شيخنا المحقق الثاني الشيخ على « منه ».


الصورة المفروضة ، حذرا عن اجتماع وضوء الواجب مع غسل الجنابة.

اذ لا بد لرفع الحدث الواقع من رافع : اما الاعادة ، أو الوضوء ، والثاني لما كان فيه المحذور المذكور لا جرم حكم بالاعادة ، ونقل في ذلك حديثا مطابقا مضمونه مقتضى الدليل ، ولذا اكتفى بنقله عن تقرير الدليل ، واستغنى به عن القال والقيل.

هذا وقد قرر بعضهم الدليل على صحة مذهب ابن ادريس وشيعته بتقرير آخر ، وهو أن الحدث الاصغر لا يوجب الغسل اجماعا ، بل الاصغر يدخل تحت الاكبر ، ولا دليل على وجوب الوضوء مع تحقق الغسل ، فلا تجب عليه اعادته ولا الوضوء معه ، بل عليه الاتمام خاصة.

وفيه أيضا نظر. أما أولا ، فلما سبق أن ايجاب الاعادة ليس لايجاب الحدث الاصغر الغسل ، ليلزم من عدمه عدمه ، بل لابطاله حكم الاستباحة.

وأما ثانيا ، فلان دخول الاصغر تحت الاكبر وارتفاعه بارتفاعه مسلم اذا وقع قبل الاخذ في الغسل. وأما اذا وقع في أثنائه ، فدخوله تحته وارتفاعه بارتفاعه ممنوع ، بل هو عين موضع النزاع.

ولذا حكم فريق بارتفاع الاكبر باتمام الغسل دون الاصغر ، حيث أوجبوا لارتفاعه الوضوء ، ودليلهم على وجوبه مع تحقق الغسل أن الآية والاخبار الكثيرة دلت على أن الحدث الاصغر موجب للوضوء ، خرج منه ما كان قبل غسل الجنابة بالدليل ، فبقى الباقي على حال ايجابه.

واحتمال عدم تأثيره في الاثناء مع تأثيره بعد تمام الغسل بعيد ، والاحتمالات البعيدة لا تدفع الظواهر ، والقول بتأثيره وارتفاعه باتمام الغسل أبعد. وكيف يكون اتمامه سببا لرفعه؟ وبعض السبب لا يكون سببا. هذا كلامهم.

ولا كلام لنا معهم الا في ايجابه الوضوء دون الاعادة ، فان فيه ما عرفته.


تذنيب :

شنع القائل بوجوب الاتمام والوضوء على القائل بوجوب الاتمام خاصة ، بأنه يلزمكم أن لو بقي من الغسل قدر درهم من الجانب الايسر ثم تغوط ، أن يكتفي عن وضوئه بغسل موضع الدرهم ، وهو باطل.

أجاب عنه القائل بوجوب الاتمام خاصة ، بأن هذا مجرد استبعاد غير نافع في الاحكام الشرعية ، لانه اذا جاز ارتفاع حدث الجنابة بغسل هذا القدر اليسير وبقاؤه مع ما يترتب عليه من الاثار بدونه ، فلم لا يجوز أن يرتفع به الحدث الاصغر أيضا.

مع أنه وارد عليكم مثله ، فانه يلزمكم أن من غسل من رأسه جزءا يسيرا بقدر درهم ثم أحدث ، أن لا يكفيه غسل تتمة الاعضاء ، ولا يسوغ له الدخول في الصلاة الا بعد الوضوء ، وهو أشد استبعادا مما ذكرتم.

وفيه ما سبق أن بعض السبب خاصة مثل هذا القدر القليل لا يكون سببا تاما ، ولهذا لا يجوز أن يرتفع به الحدث الاصغر ، وليس هذا في صورة ارتفاع الحدث الاكبر به ، لانه بمنزلة الجزء الاخير من العلة التامة لرفعه ، فاذا تحقق صار المؤثر تاما بالنظر الى رفع حدث الجنابة ناقصا بالنظر الى حصول الاستباحة ، فيترتب الاثر على الاول دون الثاني.

وبالجملة رافع الحدث اما طهارة كبرى بتمامها ، أو طهارة صغرى كذلك ولا ثالث لهما ، فلا يجوز أن يكون بعض الرافع رفعا ، ضرورة أن لا تأثير للعلة الناقصة في ايجاد المعلول واحداثه.

فبعد تسليم تأثير الحدث الاصغر الواقع فيما قبل الجزء الاخير من الغسل ، فالقول بجواز ارتفاعه بغسل هذا القدر كاد بطلانه أن يكون ضروريا ، وأمثال هذه


المنوع والاحتمالات البعيدة تجري في كثير من الضروريات ، لكنها لا تقدح في اثبات أصل المقصود ، فتأمل.

ويمكن الزام القائل بوجوب الاعادة بمثل هذا أيضا ، بأن يقال : لو وجبت الاعادة بتخلل الحدث الاصغر في الاثناء ، لزم عليه اذا بقي من جانبه الايسر قدر درهم ثم أحدث أن يعيد الغسل ويجاب بالتزامه ، فانهم يقولون بوجوب الاعادة وان بقي من بدنه جزء لا يتجزى ، لانه حال بقائه يكون جنبا ، وطهارة الجنب للاستباحة بالغسل لا الوضوء.

الفصل الثالث

[ المذهب المختار في المسألة ]

أحق المذاهب بالاتباع في هذه المسألة ثالث المذاهب ، واليه ذهب الشيخ في المبسوط (١) والنهاية (٢) وابنا بابويه وجماعة من قدماء الاصحاب ومتأخريهم كالشهيد الاول في الذكرى (٣) واللمعة ، والثاني في شرح الشرايع ، والعلامة في الارشاد وغيرهم.

ومستندهم في ذلك زائدا على ما سبق وسيأتي ما رواه الصدوق في كتاب عرض المجالس عن سيدنا أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : لا بأس بتبعيض الغسل تغسل يدك وفرجك ورأسك ، وتؤخر غسل سائر جسدك الى وقت الصلاة ، ثم تغسل جسدك اذا أردت ذلك ، فان أحدثت حدثا من بول أو غائط أو ريح أو مني بعد ما

__________________

(١) المبسوط ١ / ٢٩.

(٢) النهاية ص ٢٢.

(٣) الذكرى ص ١٠٦.


غسلت رأسك من قبل أن تغسل جسدك ، فاعد الغسل من أوله (١).

وهذا كما ترى حديث منفصل صريح في بطلانه ووجوب اعادته بوقوعه في أثنائه ، صغيرا كان أم كبيرا بلا فرق بينهما.

قال سيدنا في المدارك : لو صحت هذه الرواية لما كان لنا عنها عدول لصراحتها في المطلوب ، الا أني لم أقف عليها مسندة (٢). أقول : قد أفتى بها علي بن الحسين بن موسى بن بابويه أبو الحسن والد الصدوق قدس الله روحهما في رسالته اليه ، كما ذكره في الفقيه.

حيث قال : وقال أبي رحمه‌الله في رسالته الي : لا بأس بتبعيض الغسل ، تغسل يديك وفرجك ورأسك (٣) ، وذكر عين عبارة الحديث المذكور من غير زيادة ولا نقصان.

ومن البعيد بل أبعد منه أن يعمل ويفتي مثله ومثل ابنه وجماعة من الموثقين بحديث غير صحيح ولا مسند ولا محفوف بقرائن تفيد صحته وصدوره من المعصوم مع عدالتهم وكمال احتياطهم ، وتصلبهم في الدين ، وقرب عهدهم بزمان المعصوم وصحبتهم واختلاطهم سفراءه ووكلاءه ، كما يظهر من كتب الرجال.

حيث نقلوا أن والد الصدوق قدم العراق واجتمع مع أبي القاسم الحسين ابن روح السفير وسأله مسائل وبعد ما فارقه كاتبه وجعله واسطة بينه وبين صاحبنا صلوات الله عليه في طلب الولد.

فكتب عليه‌السلام اليه : قد دعونا الله لك بذلك ، وسترزق ولدين ذكرين خيرين فولد له أبو جعفر وأبو عبد الله من أم واحد ، وكان أبو جعفر الصدوق يقول : أنا

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ / ٥٠٩ ، ح ٤.

(٢) مدارك الاحكام ١ / ٣٠٨.

(٣) من لا يحضره الفقيه ١ / ٨٨.


ولدت بدعوة صاحب الامر عليه‌السلام وكان يفتخر بذلك وهو في محله.

ومن خلاف العادة أن يعمل ويفتي مثله بأمر ويأمر ولده العزيز به ، ولم يحصل له فيه العلم مع تمكنه منه وقدرته على استعلام ما هو الحق فيه.

ولعله وجه ما قال في الذكرى من أن الاصحاب يتمسكون بما يجدونه في شرايع أبي الحسن بن بابويه عند اعواز النصوص لحسن ظنهم به ، وان فتواه كروايته ، ولهذه العلة تراهم يرجحون الاخبار المعمولة عند المتقدمين الموافقة لفتاوي أكثرهم على أخبار صحيحة الاسانيد.

أقول : اذا كانت فتواه في أمر كروايته فيه ، فكيف ظنك بما اذا اجتمعنا فيه؟ وقد تحقق هنا ما كان باعثا لهم على تمسكهم بما يجدونه في شرايعه ، وهو اعواز النصوص ، اذ لا نص فيه سوى ما ذكره في رسالته الى ولده ، ورواه هو في عرض المجالس ، فكيف يتمسكون بما يجدون من فتواه في غير هذا الموضع ، ولا يتمسكون به فيه وهو أولى به لما سبق.

بل نقول : عملهم بمضمونه وافتاؤهم به أول دليل وأعدل شاهد على صحة سنده وثبوته عندهم ، وهذا القدر من الظن يكفينا للعمل بمضمونه ، وخاصة اذا وافق مضمونه مقتضى الدليل ، كما مضى وسيأتي.

وليس هذا من مقولة التقليد ، كما يظهر بالنظر الحديد ، بل هو استدلال بالقرائن الواضحة الجلية على صحة السند وثبوته ، لان جماعة من العدول والموثقين اذا نقلوا حديثا وعملوا بمضمونه وأفتوا به ، يغلب على الظن أنه حجة ، لان عدالتهم مانعة من عملهم وافتائهم بغير حجة شرعية ، والمفروض أن لا حجة لهم فيهما الا هذا الحديث ، كما ظهر مما نقلناه من صاحب الرسالة رحمه‌الله.

اللهم الا أن يقال : انهم كانوا يعملون بالاخبار الضعيفة ، كما صرح الشيخ في الفهرست ، وكذا الصدوق في الفقيه ، بأن في الاخبار الضعيفة ما هو معتمد


بين الطائفة. وهذا عذر واضح لهم في العمل بها.

ولكنه لا يجدينا نفعا ، لما تبين من كثرة وقوع الخطأ في الاجتهاد ، وان مبنى الامر على الظن لا اليقين ، فالموافقة لهم فيما قالوه وأفتوا به تقليد لا يسوغ وفيه أن هذا خبر محذوف السند لم يعرف ضعفه ، نعم هو مرسل باصطلاح المتأخرين ، ولكن ارسالهم له وحذفهم (١) سنده مع عملهم بمضمونه وافتائهم به ، يفيد أنه كان مسندا لديهم حجة عندهم ، والا لما عملوا بمضمونه ولا أفتوا به.

فاذا لم يكن من الفرقة المحقة خبر يخالفه وجب العمل به ، ولا سيما اذا أيد بغيره من الدليل ، لان ارسالهم هذا منجبر بعملهم به واعتمادهم عليه ، كيف لا وجم من متأخري أصحابنا عملوا بالمرسل من غير أن يسبقهم به أحد من السلف.

فكيف اذا وجد فيهم جماعة قد عملوا به وبنوا افتائهم عليه ، ولا معارض له من جهة الاخبار ، بل له معاضد من حيث الاعتبار ، لان الحدث الواقع في الاثناء ممتنع خلوه عن أثر ، فهو موجب اما اعادة الغسل أو الوضوء والثاني كما عرفته ، فتعين الاول.

الفصل الرابع

[ مذهب السيد المرتضى فى المسألة ]

سيدنا المرتضى لما لم يكن عاملا بخبر الواحد ترك العمل بمضامين الاخبار واستدل على عدم وجوب الاعادة بما سبق ، فتبعه في ذلك بعض المتأخرين ، وقدحوا

__________________

(١) الظاهر أن هذا الحذف كان من الصدوق فى عرض المجالس ، وأما أبوه فانما أفتى عين الحديث بعينه من غير اشعار بكونه حديثا ، وهذا يدل على غاية اعتماده على هذه ، كما يظهر بأدنى تأمل « منه ».


في الخبرين المذكورين بما سبق من عدم كون أحدهما مسندا والاخر عاما وفيه ما عرفته.

وبه يظهر أن مذهب السيد ليس سيد المذاهب ، كما ظنه الفاضل الاردبيلي في شرحه على الارشاد (١) عند شرح قول مصنفه « ولو أحدث في أثنائه بما يوجب الوضوء أعاد » وتبعه في ذلك تلميذه سيدنا في المدارك (٢). بل المذهب الخالي عن التشويش في هذه المسألة ما ورد عليه النص الدال على وجوب الاعادة.

وأما مذهب السيد ، فهو كما ينافيه هذا النص الصريح ، كذلك ينافيه اطلاق النصوص الدالة على عدم جواز الوضوء مع غسل الجنابة ، بل ومع غيره أيضا على أن مذهبه خلاف ما يقتضيه الاخبار الواردة في الحث على مراعاة الاحتياط وتحصيل البراءة اليقينية في الاحكام والعبادات كما سيأتي.

ومنه يعلم أن الحدث الموجب للوضوء لو تخلل في غير غسل الجنابة من الاغسال يوجب بطلان حكم الاستباحة واعادته من رأس ، اذ لا وضوء معه أيضا ، فلا يسوغ اتمامه والوضوء معه.

فقول الشهيد الثاني في شرح الشرائع : انما الخلاف في غسل الجنابة ، أما غيره فيكفي اتمامه والوضوء معه بغير اشكال. محل اشكال أيضا ، وهو مبني على عدم كفاية غير غسل الجنابة عن الوضوء ، كما هو المشهور.

ولكن ظاهر كثير من الاخبار الصحيحة والموثقة ، كموثقة عمار قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن الرجل اذا اغتسل من جنابته أو يوم الجمعة أو يوم عيد ، هل عليه الوضوء قبل ذلك أو بعده؟ فقال : لا ليس عليه قبل ولا بعد قد أجزأه الغسل والمرأة مثل ذلك اذا اغتسلت من حيض أو غير ذلك ، فليس عليها الوضوء لا

__________________

(١) مجمع الفائدة ١ / ١٤٠.

(٢) مدارك الاحكام ١ / ٣٠٧.


قبل ولا بعد قد أجزأها الغسل (١).

يفيد عدم الحاجة الى الوضوء في شي‌ء من الاغسال ، كما هو مذهب المرتضى

الفصل الخامس

[ تحقيق حول استدلال العلامة في المسألة ]

استدل العلامة في النهاية على وجوب الاعادة ، بأن الحدث الاصغر لو تعقب كمال الغسل أبطل حكم الاستباحة ، ففي أبعاضه أولى ، فلا بد من تجديد طهارة لها وهو الان جنب ، اذ لا يرتفع الا بكمال الغسل ، فيسقط اعتبار الوضوء (٢).

وأجاب عنه بعض (٣) المتأخرين بمنع الاولوية ، قال : بل القدر المسلم أن الحدث الاصغر اذا لم يجامع الاكبر فهو سبب لوجوب الوضوء ، واذا جامع الاكبر فلا تأثير له أصلا ، لا بد لذلك من دليل ، ألا يرى أنه بعد الغسل يقتضي الوضوء ، وفي الاثناء لا يقتضيه عندكم ، فلم لا يجوز أن لا يؤثر في الاثناء أصلا أو يؤثر تأثيرا يرتفع ببعض الغسل ، لا بد لنفيه من دليل.

أقول : الحدث الاصغر اذا وقع مع الاكبر أو بعده وقبل الشروع في الغسل فلا تأثير له أصلا. وأما اذا وقع في الاثناء ، ففي تأثيره وعدمه خلاف ، فمن قال بوجوب الاعادة أو الوضوء معه ، قال بتأثيره في ابطال حكم الاستباحة ، فالفريقان متفقان على تأثيره ، وأثره مختلفان في موجبه. وأما من قال باتمامه خاصة ، قال بأنه لا تأثير له أصلا ، فوجوده عدمه عنده.

__________________

(١) تهذيب الاحكام ١ / ١٤١.

(٢) نهاية الاحكام ١ / ١١٤.

(٣) المراد بهذا البعض صاحب الذخيرة « منه ».


ولعل القول بالتأثير أمتن ، لان لكل جزء من أجزاء الغسل تأثيرا ناقصا في رفع الحدث وحصول الاستباحة وتحققها ، كما أن للغسل بتمام أجزائه تأثيرا تاما فيه ، فاذا تعقبه الحدث الاصغر أبطل تأثيره في حصول الاستباحة ، ويبطل ببطلانه تأثير كمال الغسل في حصولها ، ضرورة انتفاء تأثير الكل بانتفاء جزئه.

وبالجملة لا تأثير له بالنظر الى الغسل وكل جزء منه ، فانه لا يبطلهما ولكن له تأثير بالنظر الى كفايته عن الاعادة والوضوء ، وأما أنه اذا تعقب أبعاضه أبطل حكم الاستباحة بطريق أولى ، فلان رفع التأثير عن جزء الشي‌ء وابطال حكمه أسهل من رفع التأثير عن الكل وابطال حكمه ، فان كان الشي‌ء مؤثرا في الكل رافعا تأثيره وهو على كمال قوته وتأثيره التام ، فكونه مؤثرا في الجزء رافعا تأثيره وهو في غاية ضعفه أولى ، ولعله أمر ضروري.

وانما يقول المنازع فيه بخلافه زعما منه أن بين الصورتين فرق ، وهو أن بعد تمام الغسل قد ارتفع الحدث وأبيحت العبادة ، فأمكن طرء حكم الحدث ، وهو بطلان الاستباحة بخلاف ما قبله ، لان الحدث لا يرتفع الا بتمام الغسل.

وهو مجاب بأن هذا ليس فرقا يعتد به ، وذلك لان الحدث الواقع في الاثناء بعد تمام جزء من الغسل ، يبطل تأثيره في حصول الاستباحة ، وبعد بطلان التأثير لا يتحقق الاثر.

فحاصل الفرق أن في الصورة الاولى كانت الاستباحة متحققة ، ثم رفعت بالحدث المتعقب ، وفي الثانية لم تكن متحققة ، ولكن منع من تحققها مانع ، وهو الحدث المتعقب ، وهذا لا يضر بأصل المقصود.

فظهر أن الاولوية المذكورة غير قابلة للمنع ، ومنه علم أن الحدث الواقع في الاثناء له تأثير بين في رفع حكم الاستباحة ، فلا بد من تجديد طهارة لها ، وهو الان كما كان جنب ، وطهارة الجنب لتحصيل الاستباحة انما هي بالغسل دون


الوضوء ، فيسقط حينئذ اعتباره.

ويؤكده الخبر المذكور في عرض المجالس ، بل هذا الذي أفاده المستدل بيان في الحقيقة للحكمة في أمره عليه‌السلام باعادة الغسل اذا تخلله الحدث الاصغر.

ثم أنت خبير بأن القول بتأثيره في رفع الاستباحة اذا لم يجامع الاكبر وعدمه اذا جامعه ، قول بالفرق بين الصورتين ، والفارق مطالب بالدليل لا النافي فتأمل.

واعلم أن هنا مقدمتين متعارضتين ، بيانه موقوف على مقدمة هي أن مما يجري مجرى الاصل الاستصحاب ، وحقيقته ترجع الى أن الاصل بقاء الشي‌ء على ما كان كان نقول : هذا شي‌ء كان مؤثرا ، والاصل بقاؤه على تأثيره حتى يعلم خلافه ، فاذا علم خلافه وهو عدم التأثير ، فالاصل بقاؤه عليه الى أن يعلم تأثيره.

اذا تمهد هذا فنقول : للقائل بالتأثير أن يقول : ان الحدث الاصغر كان له تأثير في ابطال حكم الاستباحة في صورة الانفراد ، والاصل بحكم الاستصحاب بقاؤه في صورة الاجتماع الى أن يعلم بدليل زواله ، والاصل أيضا عدم الفرق في ذلك بين صورتي الانفراد والاجتماع.

وللقائل بعدمه أن يقول : انه لم يكن مؤثرا وقت اجتماعه مع الاكبر قبل الاخذ في الغسل ، والاصل بحكم الاستصحاب بقاؤه عليه في الاثناء ، والاصل أيضا عدم الفرق في ذلك بين صورتي مجامعته له قبل الغسل أو في الاثناء.

والخبر المذكور في عرض المجالس ، وبعد عدم تأثيره في الاثناء مع تأثيره بعد تمامه ، وذهاب الفريقين وهم معظم أعيان الفقهاء الى تأثيره ، مع ما تقرر عندهم أن الاحتمالات البعيدة لا تقدح في الظواهر ، يؤيد القول بالتأثير.

وأما ما اشتهر بين الطلبة اذا جاء الاحتمال سقط الاستدلال ، فانما هو في العقليات الصرفة المطلوب فيها اليقين. وأما في النقليات التي يكتفى فيها بمجرد


الظن والظهور فلا.

وبه يندفع ما يمكن أن يقال : ان العقل غير مستقل في الاحكام الشرعية ، فلعل الحدث الاصغر اذا تعقب كمال الغسل أثر في ابطال حكم الاستباحة اذا تعقب أبعاضه لم يؤثر فيه ، فتأمل.

وأما التنوير الذي ذكره ، ففيه أن الحدث الواقع بعد الغسل انما يقتضي الوضوء ، لانه يبطل حكم الاستباحة الحاصلة من الغسل الكامل لا الغسل نفسه ، فلا بد حينئذ لمريد الدخول في العبادات من تجديد طهارة لها ، وهو الان ليس بجنب ، وطهارة غير الجنب للاستباحة انما هي بالوضوء.

وأما الحدث الواقع في الاثناء ، فانما لا يقتضيه بل تقتضي الاعادة ، لانه لما أبطل حكم الاستباحة فلا بد من تجديد طهارة لها ، وهو الان كما كان جنب ، وطهارته للاستباحة انما هي بالغسل ، فيسقط اعتبار الوضوء ، فعدم اعتبار الوضوء لعدم اقتضائه له هنا لمانع ، ولا مانع له من اقتضائه الغسل ، فاذا رفع المانع ووجد المقتضي أثر وتحقق المقتضي.

ومثل هذا قوله أو يؤثر تأثيرا يرتفع ببعض الغسل ، لان رافع الحدث في الشريعة المطهرة : اما طهارة كبرى ، أو طهارة صغرى ، ولا ثالث لهما ، فبعض كل منهما لا يكون رافعا ، لعدم تأثير السبب الناقص في المعلول بالايجاد ، فهذا هو الدليل.

ثم قال قدس‌سره : وقريب منه ، أي من كلام العلامة كلام الشهيد في الذكرى حيث رجح وجوب الاعادة لامتناع الوضوء في غسل الجنابة ، وامتناع خلو الحدث عن أثر هنا مع تأثيره بعد الكمال. وجوابه يظهر مما قررناه.

أقول : وجوابه أيضا يظهر مما قررناه.

ثم نقل قدس‌سره عن الشارح الفاضل دليلا آخر على وجوب الاعادة ، وهو


أن غسل الجنابة يرفع أثر الحدث الاكبر والاصغر على تقدير وجوده قبل الغسل فهو مؤثر تام لرفعهما معا ، فكل جزء منه مؤثر ناقص في رفعهما ، بمعنى أن له صلاحية التأثير.

ولهذا لو أخل بلمعة يسيرة من بدنه لم يرفع الحدث أصلا ، لان كمال التأثير موقوف على كل جزء من الغسل ، فاذا فرض عروض حدث أصغر في أثنائه ، فلا بد لرفعه من مؤثر تام ، وهو اما الغسل بجميع أجزائه كما قررناه ، أو الوضوء ، والثاني منتف في غسل الجنابة ، للاجماع على عدم مجامعة الوضوء الواجب له وما بقي من أجزاء الغسل ليس مؤثرا تاما لرفعه ، فلا بد من اعادته من رأس.

ثم أجاب عنه ، بأنا لا نسلم أن غسل الجنابة يرفع أثر الحدث الاصغر ، اذ لا نسلم أن الحدث الاصغر اذا جامع الجنابة يكون له أثر يحتاج الى رافع ولا دليل اذ لا يستقل العقل بالحكم عليه ولا اجماع فيه ، انما الاجماع على أن الاحداث اذا حصلت مع عدم مجامعتها للجنابة كانت سببا لوجوب الوضوء ، ولا دلالة للكتاب أيضا عليه.

فلا يتخيل هنا دليل الا الاخبار الدالة على أن الاحداث موجبة للوضوء ، وتلك الاخبار مخصصة بما عدا صور مقارنة الجنابة كما ذكرنا ، وعلى تقدير العموم غير نافع ، لانه خلاف المدعى ، سلمنا أن الاحداث مطلقا يحتاج الى رافع ، لكن لم لا يجوز أن يكون بعض الغسل كافيا لرفعه في صورة التخلل. وكفاية الشي‌ء لشي‌ء في بعض الصورة لا يقتضي العموم والانسحاب في غيره ، ثم دعواه الاجماع على عدم مجامعة الوضوء الواجب له في المسألة المتنازع فيها ، محل نظر.

أقول : الحدث الاصغر اذا وقع قبل الاكبر ، وكانت هناك استباحة حاصلة من طهارة يبطل حكمها ، فابطاله حكم الاستباحة أثر له يحتاج الى رافع ، فاذا


وقع بعده الاكبر يمنع من اللبث في المساجد مثلا ، فهذا أثر له يحتاج الى رافع أيضا ، وغسل الجنابة يرفع أثريهما ، فهو مؤثر تام لرفعهما معا.

فلو فرض وقوع الاصغر في الاثناء ، فلا بد له من رافع أيضا ، ولا يكون بعض الغسل ، لما سبق من امتناع كون بعض السبب سببا ولا الوضوء للاجماع ، وقد عرفت سابقا أنه ثابت في محل النزاع ، فيكون رافعه هو الغسل بجميع أجزائه ، فلا بد من اعادته من رأس ، ولا قائل بالفصل ، فيتم المدعى كليا.

وأنت بعد احاطتك بما أسلفناه يمكنك دفع أمثال هذه المنوع ، مع أن المقدمة الممنوعة مستدركة لا حاجة اليها في اتمام الدليل ، فلا يضر منعها.

لانا نقول : الحدث الواقع في الاثناء له أثر ، وهو رفعه حكم الاستباحة ، كالواقع بعد كماله ، فيحتاج الى رافع ، وهو اما الغسل بتمام أجزائه أو الوضوء ، والثاني منفي بالاجماع ، فتعين الاول.

والقول بأن الواقع في الاثناء لا يرفع حكم الاستباحة ، فلا يحتاج الى رافع بخلاف الواقع بعد كماله ، قول بالفرق فيطالب بالدليل.

فان قيل : دليله أن الثاني اجماعي ، بخلاف الاول للمخالف المنقول عن ابن ادريس وتابعيه.

فجوابه عين ما سبق ، فانا نطالبهم بالدليل على هذا الفرق. وأما الفرق بأن بعض الغسل هنا كاف لرفعه وليس هناك ذاك ، فليس كما عرفته بشي‌ء ، لاستحالة كون جزء العلة علة ، فتأمل.

الفصل السادس

[ حاصل الابحاث السابقة ]

وبما قررناه سابقا وآنفا يندفع به جميع ما ذكره رحمه‌الله في تقوية القول


باتمام الغسل خاصة ، وتضعيف القول بوجوب الوضوء معه ، وهو قوله « ويدل عليه » أي : على الاكتفاء بمجرد الاكمال قوله تعالى ( وَلا جُنُباً إِلّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) (١).

وجه الاستدلال أنه سبحانه منع عن مقاربة الصلاة الى غاية حصول الاغسال فبعد حصوله لم يكن جواز الصلاة متوقفا على شي‌ء آخر تحقيقا لمعنى الغاية ووجوب مخالفة ما بعدها لما قبلها.

ولما رواه الشيخ عن يعقوب بن يقطين في الصحيح عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : سألته عن غسل الجنابة هل فيه وضوء أم لا فيما نزل به جبرئيل عليه‌السلام ، فقال : الجنب يغتسل يبدأ ـ الى أن قال : ثم قد قضى الغسل ولا وضوء عليه (٢).

وجه الاستدلال بهذا الحديث أن من أحدث في الاثناء ، ثم أتم الغسل كما وصف عليه‌السلام ، يصدق عليه أنه قد قضى ولا وضوء عليه.

وبالجملة كلامه عليه‌السلام في قوة قولنا من فعل كذلك فقد قضى الغسل ولا وضوء عليه ، والمحدث في الاثناء داخل في الموضوع ، فيكون داخلا في المحمول أيضا ، اذ التخصيص خلاف الاصل.

لا يقال : الاخبار الدالة على أن الحدث يوجب الوضوء عام ، خرج منه الاحداث الواقعة قبل الاغتسال بالادلة ، فتكون الاحداث الواقعة في أثنائه داخلة في عموم الاخبار المذكورة.

لانا نقول : محصل ما يستفاد من تلك الاخبار يرجع الى قضية هي قولنا : كل من أحدث حدثا أصغر وجب عليه الوضوء.

ومحصل هذا الخبر الذي احتججنا به الى قضية أخرى هي قولنا : كل من

__________________

(١) سورة النساء : ٤٣.

(٢) تهذيب الاحكام ١ / ١٤٢.


اغتسل من الجنابة وفرغ منه لم يجب عليه الوضوء حينئذ ، والنسبة بينهما عموم من وجه ، فاما أن يخصص الاول الثاني ، أو الامر بالعكس.

لا وجه للاول ، لانه على هذا التقدير يرجع محصل القضية الثانية الى قولنا كل من اغتسل من الجنابة لم يجب عليه الوضوء ، الا أن يصدق عليه أنه أحدث حدثا أصغر ، وهو خلاف الاجماع ، وخلاف ما علم من الكتاب والاخبار.

وفيه مناقشة دقيقة تندفع بالتأمل الصادق ، نعم لو كان خبر خاص يخصصه باخراج محل النزاع لم يكن مخالفا للاجماع وكان صحيحا ، وليس فليس.

نعم يرد عليه أن النظر في الاخبار الواردة عنهم عليهم‌السلام انما يكون مقصورا على الافراد الشايعة الغالبة ، لا الافراد النادرة التي لا تتبادر اليها الاذهان.

ويدل عليه أيضا قول الصادق عليه‌السلام في صحيحة زرارة : ليس قبله ولا بعده وضوء (١). وجه الاستدلال قريب من السابق. وبالجملة فصح تقسيمه الى قولنا سواء أحدث في الاثناء أم لا ، وذلك آية العموم.

ويرد عليه ما أشرنا اليه ، وقول الصادق عليه‌السلام في موثقة عمار الساباطي وقد سئل عن الرجل اذا اغتسل من جنابته أو يوم جمعة أو يوم عيد ، فهل عليه وضوء قبل ذلك أو بعده؟ فقال : لا ليس عليه قبل ولا بعد قد أجزأه الغسل الحديث (٢).

ويؤيده في الجملة قوله عليه‌السلام في بعض الاخبار الصحيحة : الغسل يجزئ عن الوضوء ، وأي وضوء أطهر من الغسل (٣). وبعض الاخبار الدالة على أن الوضوء بعد غسل الجنابة بدعة ، والنظر الذي أشرنا اليه يتطرق الى الكل ، الى هنا كلامه رفع مقامه.

__________________

(١) تهذيب الاحكام ١ / ١٤٨.

(٢) تهذيب الاحكام ١ / ١٤١.

(٣) تهذيب الاحكام ١ / ١٣٩.


وحاصله كما أفاده أن كل من اغتسل من الجنابة وفرغ منه لم يجب عليه الوضوء ، وهو مسلم أن لو كان هذا المتنازع فيه غسل جنابة يحصل به حكم الاستباحة ، وقد سبق أنه لا يحصل به ، لامتناع كون جزء علة الاستباحة علة تامة لها.

الفصل السابع

[ تحقيق حول كلام الشيخ البهائى فى المسألة ]

وأما ما أفاده شيخنا بهاء الدين تبعا للاخرين في كتابه الموسوم بحبل المتين بعد صحيحة محمد بن مسلم ، قال دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام فسطاطه وهو يكلم امرأة فأبطأت عليه.

فقال : ادنه هذه ام اسماعيل جاءت وأنا أزعم أن هذا المكان الذي أحبط الله فيه حجها عام أول كنت أردت الاحرام ، فقلت : ضعوا لي الماء في الخباء ، فذهبت الجارية فوضعته ، فاستخففتها وأصبت منها.

فقلت : اغسلي رأسك وامسحيه مسحا شديدا لا تعلم به مولاتك ، فاذا أردت الاحرام فاغسلي جسدك ولا تغسلي رأسك فتستريب مولاتك ، فدخلت فسطاط مولاتها فذهبت تتناول شيئا ، فمست مولاتها رأسها ، فاذا لزوجة الماء ، فحلقت رأسها فضربتها ، فقلت لها : هذا المكان الذي أحبط الله فيه حجك (١).

ورواية ابراهيم بن عمر اليماني المختلف فيه ، فان النجاشي (٢) وثقه ، وابن

__________________

(١) تهذيب الاحكام ١ / ١٣٤.

(٢) رجال النجاشي ص ٢٠.


الغضائري (١) ضعفه ، قال الشهيد الثاني : ان النجاشي حكى توثيقه عن أبي العباس وغيره ، وأبو العباس مشترك ، وغيره غير معلوم ، وأيضا الجرح مقدم ، فما ثبت توثيق الرجل.

عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ان عليا عليه‌السلام لم ير بأسا أن يغسل الجنب رأسه غدوة ، ويغسل سائر جسده عند الصلاة (٢).

بقوله : لا يذهب عليك أنه يمكن أن يستنبط من ظاهر الحديثين أن تخلل الحدث الاصغر في أثناء غسل الجنابة غير مبطل له.

فان اطلاق الصادق عليه‌السلام اتمامها الغسل اذا أرادت الاحرام يشمل ما اذا تخلل بين غسل رأسها وارادتها الاحرام حدث وعدمه ، وكذلك اطلاق أمير المؤمنين عليه‌السلام اتمام الغسل من الغدوة الى الظهر ، بل الى ما بعده ، مع أن توسط مثل هذه المدة مظنة لتخلل الحدث ، كما لا يخفى.

وأما المرسلة التي أوردها الصدوق في عرض المجالس المتضمنة للتسوية في وجوب الاعادة بين تخلل الحدث الاصغر والاكبر ، فلو لا الارسال لم يكن لنا عنها مندوحة. واستقصاء الكلام في هذه المسألة ، وتفصيل الاقوال فيها مبسوطة في مظانه من كتب الفقه.

وكان والدي قدس الله روحه يميل الى مذهب السيد المرتضى رضي‌الله‌عنه من وجوب الاتمام والوضوء ، ولعله أجود الاقوال ، والله أعلم بحقيقة الحال (٣).

فمحل تأمل ، اذ لا دلالة فيهما على زائد من جواز تبعيض الغسل بتغسيل الرأس في زمان ، وتأخير غسل الجسد الى زمان آخر ، وهو المراد من الحديثين.

__________________

(١) رجال العلامة ص ٦.

(٢) تهذيب الاحكام ١ / ١٣٤.

(٣) الحبل المتين ص ٤١.


وأما دلالتهما على أن الحدث المتخلل غير مبطل فحاشا ، لان طول الزمان المتوسط بين الغسلين لو سلم له أن المراد به حقيقته لا المبالغة في جواز التبعيض وعدم وجوب الموالاة بين غسل أعضاء الغسل كما في الوضوء ، لا يدل عليه ولا يقتضيه بوجه.

ولو صح بمثل هذا الاطلاق استنباط صحة مثل هذا الغسل لصح أن يستنبط منه عدم حاجته الى انضمام الوضوء اليه ، فكان مؤيدا لمذهب ابن ادريس لا السيد ، فكونه حينئذ أجود المذاهب محل نظر.

وليس ببعيد كثيرا أن يراد بالصلاة المذكورة في الحديث صلاة الصبح لا صلاة الظهر ، فان الغدوة بالضم عبارة عما بين الفجر وطلوع الشمس ، كما في القاموس (١).

فيحتمل أن يكون المراد أنه عليه‌السلام كان لم ير بأسا أن يغسل الجنب رأسه عند طلوع أول الفجر ، ويؤخر غسل سائر جسده لمانع أو غيره الى زمان يريد فيه صلاة الصبح ، فعند ذلك يغسله ويصليها ، فتأمل.

على أن هاتين الروايتين مطلقتان ، ومرسلة الصدوق مفصلة ، والمفصل يحكم على المطلق ، وقد عرفت أن هذا الارسال غير ضائر ، فتدبر.

الفصل الثامن

[ ما يقتضيه الاحتياط فى المسألة ]

لا شك أن اعادة هذا الغسل أقرب الى طريق الاحتياط ، للاتفاق ظاهرا على صحته ، لان القائل بالاتمام مع الوضوء أو بدونه لا يقول بحرمة الاعادة ولا بطلانها بل يقول بعدم وجوبها ، أو عدم الحاجة اليها ، كما يظهر من النظر الى دليلهم.

__________________

(١) القاموس ٤ / ٣٦٩.


حيث قال المستدل : على الاول في مقام التفريع ، فيسقط وجوب الاعادة ، قال المستدل على الثاني في مثل هذا المقام ، فلا معنى للاعادة ، فغسل المعيد اذا اكتفى فيه بنية القربة صحيح بالاتفاق ، غاية الامر أنه لا يسوغ الدخول في العبادات ، وما يشترط فيه الطهارة بدون الوضوء أو التيمم ، على مذهب السيد من شايعه ، كما ستأتي الاشارة اليه ، وهذا كلام آخر.

وبالجملة هذا الغسل وهو المعتاد وان لم يكن رافعا للحدث الواقع في الاثناء على هذا المذهب ، الا أنه صحيح في نفسه ، ولا دليل على بطلانه ، ولا قول به ، بخلاف غسل المتم مع الوضوء أو بدونه ، فانه غير صحيح عند من قال بأن الحدث الواقع في أثناء غسل الجنابة يوجب اعادته ، ولو بقي جزء لا يتجزى من البدن.

وأيضا فان الذمة كانت مشغولة بالغسل يقينا ، فلا بد من تحصيل اليقين ببرائتها ولا يعلم ببرائتها يقينا باتمام مثل هذا الغسل مع الوضوء أو بدونه ، فانه مختلف فيه بين الفقهاء ، بخلاف ما اذا أعاده من رأس ، فانه تحصل بها البراءة اليقينية ، لاتفاق الكل ظاهرا على صحته.

ويمكن أن يقال : قد ثبت بقوله عليه‌السلام « لا صلاة الا بطهور » (١) اشتراط صحة الصلاة بالطهور ، وحصوله في محل البحث بدون الاعادة بل بمجرد الاتمام مع الوضوء أو بدونه مشكوك ، والشك في الشرط يوجب الشك في المشروط ، فتجب الاعادة تحصيلا للبراءة اليقينية من التكليف الثابت في الذمة ، فتأمل.

قال بعض المحققين : ان من الطريق المنجية يقينا التي يتحتم ارتكابها لاهل التقليد بمذهب أهل البيت عليهم‌السلام الاحتياط بحسب ما يمكن في العبادات والاحكام الشرعية ، وهو طريق الابرار الاخيار الذين يخافون الله.

__________________

(١) عوالى اللالى ٢ / ٢٠٩ و ٣ / ٨.


وقد ورد الامر به عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته المعصومين عليهم‌السلام ، مثل قولهم « دع ما يريبك الى ما لا يريبك » (١) « وليس بناكب عن الصراط من سلك طريق الاحتياط » أمثال ذلك لا تحصى.

وقد أجمع العلماء كلهم على أنه طريق منج ، ووافق العقل على ذلك ، والاحتياج اليه في زماننا أكثر لفقد المجتهد ظاهرا ، وكثير منه يقع مستحبا ، كصيام آخر يوم من شعبان وترك النجس والمحرم غير المحصور ، واعادة الصلاة لو شك بعد الانتقال من فعل أو بعد الفراغ ، واعادة الزكاة لو شك في استحقاق القابض ، والشك في الحدث بعد يقين الطهارة وأمثال ذلك.

وكثير منه واجب ، كالقول بوجوب السورة ، ونجاسة الغسالة ، ونجاسة ما دون الكر وان لم يتغير ، وأمثال ذلك مما وقع الخلاف بين الفقهاء رحمهم‌الله انتهى كلامه رفع في عليين مقامه.

وأنت خبير بأن وجوب اعادة الغسل في الصورة المفروضة مما وقع الخلاف فيه بين الفقهاء رضوان الله عليهم ، فوجبت اعادته بناءا على هذا التحقيق ، وهو داخل تحت عموم قوله « وأمثال ذلك ».

ولا يبعد أن يقال : ان مراد متأخري أصحابنا بوجوب اعادة الغسل هنا هو الوجوب الاحتياطي ، واذا انضم اليه ما دل عليه الخبر المذكور في عرض المجالس والذي دل على عدم جواز الوضوء بعد الغسل ، وما دل على امتناع كون بعض السبب سببا وغير ذلك ، يصير قويا فيفيد ظنا واجبا اتباعه ، فتأمل.

واعلم أن الاحوط من ذلك أن تتوضؤ بعد اعادتك الغسل بنية القربة اذا أردت الدخول في الصلاة ، أو ما يشترط فيه الطهارة ، لتخرج بذلك عن الخلاف.

وذلك لان على مذهب من لم يحكم بوجوب الاعادة بوقوع الحدث في

__________________

(١) عوالى اللالى ١ / ٣٩٤ و ٣ / ٣٣٠.


أثنائه كالسيد وتابعيه ، لا يرفع الحدث بمجرد الاعادة لان اعادة غسل العضو المغسول قبل الحدث الاصغر لا دخل له على هذا المذهب في رفعه ، فيكون رافعه حينئذ غسل بقية الاعضاء ، فيلزم منه أن يكون بعض السبب سببا. والوضوء انما يكون منفيا مع غسل الجنابة اذا كان بنية الوجوب ، وأما اذا كان بنية القربة أو الندب فلا.

فتأمل في أطراف الكلمات المذكورة في هذا المقام ، ثم اتبع ما هو أحق بالاتباع وأحوط للدين ، والحمد لله رب العالمين ، والصلاة على خاتم النبيين وأشرف المرسلين محمد وأهل بيته المعصومين وعترته الطاهرين والسلام عليهم أجمعين الى يوم الدين.

تم استنساخ وتصحيح هذه الرسالة في أول يوم من شعبان المكرم سنة (١٤١١) هـ ق في بلدة قم المقدسة على يد العبد الفقير السيد مهدي الرجائي عفي عنه.



سلسلة آثار المحقق الخاجوئى

(٥٦)

رسالة

فى المسائل الفقهية المتفرقة

للعلّامة المحقّق العارف

محمّد اسماعيل بن الحسين بن محمّد رضا المازندراني الخاجوئي

المتوفى سنة ١١٧٣ ه‍ ق

تحقيق

السّيّد مهدى الرّجائي



بسم الله الرّحمن الرّحيم

١ ـ مسألة

[ وجوب قطع يد السارق وفى هذه المسألة منقبة لفاطمة عليها‌السلام ]

في كتاب المناقب لابن شهرآشوب ، عن صحيح الدارقطني أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر بقطع لص فقال اللص : يا رسول الله قدمته في الاسلام وتأمره بالقطع ، فقال : لو كانت ابنتي فاطمة ، فسمعت فاطمة عليها‌السلام فحزنت ، فنزل جبرئيل بقوله ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) (١).

فحزن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فنزل ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا ) (٢) فتعجب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من ذلك ، فنزل جبرئيل وقال : كانت فاطمة حزنت من قولك ، فهذه الايات لموافقتها لترضى (٣).

أقول : قدم بمعنى تقدم ، كما في القاموس (٤) ونهاية ابن الاثير (٥) ، يقال

__________________

(١) سورة الزمر : ٦٥.

(٢) سورة الانبياء : ٢٢.

(٣) المناقب ٣ / ٣٢٤.

(٤) القاموس ٤ / ١٦٢.

(٥) نهاية ابن الاثير ٤ / ٢٥.


قدم بالفتح يقدم قدما ، أي : تقدم.

فقوله « قدمته » أي : سبقت المأمور المدلول عليه بأمر في الاسلام « وتأمره بالقطع » أي : بقطعي ، فاللام عوض عن المحذوف ، ولعله ظن أن من قدم غيره في دخول الاسلام لا يجوز له قطعه ، لشرافته بكونه أقدم منه اسلاما.

فقال : لو كانت ابنتي فاطمة قدمته في الاسلام وكانت لصة ، لامرته بقطعها ، لعدم جواز تعطيل حدود الله ، وعدم منع القدم من قطع القادم بعد الاستحقاق بالجريمة ، فخبر « كان » مع جواب « لو » محذوفان.

وأما قولنا « وكانت لصة » فالمقتضي لهذا التقدير عدم استقامة الكلام بدونه ، وقد تقرر في الاصول أن هذا من القرائن على الحذف ، كما في قوله « رفع عن امتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه » (١) والمحذوف قد يكون جملة ، وقد يكون أكثر منها ، كما في ( أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ. يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ ) (٢).

وانما حذفه للاحتراز عن نسبة اللصوصية اليها صريحا ، وكذا عن اضافة ما يتفرع عليه من الامر بقطعها.

فرعى في هذا الكلام جانبي تعظيم الله برعاية حدوده واجرائها ، ولو على أقرب الناس اليه ، وتعظيم ابنته فاطمة عليها‌السلام واحترامها ، حيث لم يضف اللصوصية اليها الا بطريق الفرض والتقدير ، ومع ذلك لم يصرح به وبما يستتبعه من القطع لفظا ، بل أجمل القول فيه وأبهمه.

فسمعت فاطمة عليها‌السلام هذا القول بواسطة أو بدونها ، فحزنت لانها فهمت منه ، أي : من القيد المذكور ـ اشتراكها بغيرها في امكان تحقق اللصوصية ووقوعها في حقها ، أو لدلالته على ضرب من عدم المحبة والمودة.

__________________

(١) عوالي اللئالي ١ / ٢٣٢.

(٢) سورة يوسف : ٤٥ ـ ٤٦.


والاول أوفق بقوله « لَئِنْ أَشْرَكْتَ » أي : بعد ذلك فاطمة عليها‌السلام بغيرها في امكان صدور اللصوصية فيها ولو بالفرض « لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ » وهذا على سبيل الفرض والتقدير ، لامتناع صدور الاشتراك منه بعد ما نهى عنه ، والمحالات قد تفرض لغرض ، وهو هنا استرضاء فاطمة عليها‌السلام وتسليتها.

فحزن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لدلالة هذا الكلام على جواز شركه وحبط عمله ، مع عدم علمه بسبب نزوله ، وانما أجمل الامر وأبهمه حتى صار سببا لحزنه ليكون ذلك مصداقا لقوله تعالى كما تدين تدان (١).

ومن العجب أنه تعالى لم يكتف بهذا القدر ، بل بالغ فيه ، فأكد اجلال قدر فاطمة عليها‌السلام وتأديب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله بانزال قوله « لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا » مريدا به لازم معناه ، حيث جعل اشراكها بغيرها في امكان اللصوصية بمنزلة اشراك غيره تعالى به في الالوهية.

فتعجب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من ذلك ، لان هذا الكلام انما يناسب أن يخاطب به المشرك ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله كان موحدا مع عدم علمه بالسبب ، وانها سمعت قوله فحزنت وتلك الايات نزلت لتسليتها وتطيب نفسها.

فأخبره جبرئيل بذلك ، فقال : انها كانت حزنت من قولك ، فنزلت هذه الايات لموافقتها لترضى.

والغرض المسوق له الكلام اظهار عصمتها وجلالة قدرها عليها‌السلام عند الله جل قدره ، ولذلك ذكره محمد بن شهرآشوب السروي من سواد المازندران في كتاب المناقب.

هذا ما استفاده الذهن الكليل والفكر العليل من سياق هذا الكلام باستعانة قرائن المقام ، والعلم عند الله وعند أهله عليهم‌السلام.

__________________

(١) كلام قدسى.


٢ ـ مسألة

[ سقوط الزكاة عن الكافر بالاسلام ]

قال في المدارك : وقد نص المحقق في المعتبر والعلامة في جملة من كتبه على أن الزكاة تسقط عن الكافر بالاسلام ، وان كان النصاب موجودا ، لقوله عليه‌السلام « الاسلام يجب ما قبله ».

ويجب التوقف في هذا الحكم ، لضعف الرواية المتضمنة للسقوط سندا ومتنا ، ولما روي في عدة أخبار صحيحة من أن المخالف اذا استبصر لا يجب عليه اعادة شي‌ء من العبادات التي أوقعها في حلال ضلالته سوى الزكاة ، فانه لا بد أن يؤديها ، ومع ثبوت هذا الفرق في المخالف يمكن اجراؤه في الكافر.

وبالجملة فالوجوب على الكافر متحقق ، فيجب بقاؤه الى أن يحصل الامتثال أو يقوم على السقوط بالاسلام دليل يعتد به (١).

أقول : ظاهر الفاضل الاردبيلي رحمه‌الله في آيات أحكامه يفيد أن سقوط الزكاة عن الكافر بالاسلام مما لا خلاف فيه بين الاصحاب ، فانه قال بعد قوله تعالى ( وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ ) (٢).

فيها دلالة على وجوب الزكاة على الكفار ، لانه يفهم منها أن للوصف بعدم ايتاء الزكاة دخلا في ثبوت الويل لهم ، ولكن علم من الاجماع وغيره عدم الصحة منهم الا بعد الاسلام ، وكذا علم بالاجماع سقوطها عنهم بالاسلام ، ويدل عليه الخبر المشهور « الاسلام يجب ما قبله » (٣).

__________________

(١) مدارك الاحكام ٥ / ٤٢.

(٢) سورة فصلت : ٧.

(٣) زبدة البيان ص ١٨٠.


ولا ينافيه شكه في تحقق الاجماع في شرحه على الارشاد ، حيث قال : أما لو كان صاحب المال كافرا أوجبت ـ أي : الزكاة ـ عليه ، على ما هو رأي الاصحاب فلو أسلم لم يضمن ، يعنى يسقط عنه الزكاة ، كأنه للاجماع والنص ، مثل « الاسلام يجب ما قبله » (١).

لان تصنيفه آيات أحكامه بعد شرحه على الارشاد ، فيمكن أن يكون ما كان هناك مشكوكا صار هنا متيقنا بتتبعه في كلامهم وتصفحه فيه طول هذه الازمان. وبالجملة نقل مثله الاجماع مع احتياطه في الفتوى يفيد الظن بتحققه وثبوته وكفى به ناقلا.

اذا قالت حذام فصدقوها

فان القول ما قالت حذام

فان قلت : قوله « ويدل عليه الخبر المشهور » يفيد أنه خبر شايع ذايع عند أهل الحديث ، قد نقله منهم رواة كثيرون ، فما وجه قول صاحب المدارك : لضعف الرواية المتضمنة للسقوط سندا ومتنا.

قلت : الحديث المشهور له معان :

الاول : ما شاع عند أهل الحديث خاصة دون غيرهم ، بأن نقله منهم رواة كثيرون ، ولا يعلم هذا القسم الا أهل الصناعة.

الثاني : ما شاع عندهم وعند غيرهم ، كحديث « انما الاعمال بالنيات » (٢) وأمره واضح ، وهو بهذا المعنى أعم من الصحيح.

الثالث : ما شاع عند غيرهم خاصة ، ولا أصل له عندهم ، فاذا حمل المشهور في كلامه رحمه‌الله على أحد المعنيين الاخرين ، زال التنافي والتدافع بين القولين.

نعم يرد عليه قدس‌سره أنا لو سلمنا له ضعف سند الرواية ، فلا نسلم ضعف

__________________

(١) مجمع الفائدة ٤ / ٢٦.

(٢) تهذيب الاحكام ٤ / ١٨٦ ، ح ٢.


متنه ، لانه حديث مشهور مذكور في طريق العامة والخاصة ، وقد تلقاه بالقبول جم غفير من الفحول ، وجمع كثير من ذوي الاحلام والعقول من غير قدح فيه لا في متنه ولا في سنده.

قال ابن الاثير في نهايته : الجب القطع ، ومنه الحديث « ان الاسلام يجب ما قبله ، والتوبة تجب ما قبلها » أي : يقطعان ويمحوان ما قبلهما من الكفر والمعاصي والذنوب (١).

ثم أنت خبير بأن اجراءه حكم المخالف على الكافر وايجابه الزكاة به عليه قياس لا نقول به ، مع ثبوت الفرق بينهما بوجود أخبار صحيحة دالة على وجوبها على المخالف بعد استبصاره ، ووجود الاجماع والخبر المشهور الدالين على عدم وجوبها على الكافر بعد اسلامه.

روى الصدوق في الصحيح عن زرارة وبكير والفضيل ومحمد بن مسلم وبريد بن معاوية العجلي ، عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام في الرجل يكون في بعض هذه الاهواء الحرورية والمرجئة والعثمانية والقدرية ، ثم يتوب ويعرف هذا الامر ويحسن رأيه ، يعيد كل صلاة صلاها أو صوم أو زكاة أو حج أو ليس عليه اعادة شي‌ء من ذلك؟

قال : ليس عليه اعادة شي‌ء من ذلك غير الزكاة ، فانه لا بد أن يؤديها ، لانه وضعها في غير موضعها ، وانما موضعها أهل الولاية (٢). وله نظائر.

فان قلت : قد روى علي بن ابراهيم في تفسيره عن أبان بن تغلب ، قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام : يا أبان أترى أن الله طلب من المشركين زكاة أموالهم وهم

__________________

(١) نهاية ابن الاثير ١ / ٢٣٤.

(٢) فروع الكافى ٣ / ٥٤٥.


يشركون به ، حيث يقول ( وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ) (١) الاية ، قلت له : جعلت فداك فسره لي.

فقال : ويل للمشركين الذين أشركوا بالامام الاول ، وهم بالائمة الاخرين كافرون. يا أبان انما دعا الله العباد الى الايمان به ، فاذا آمنوا بالله وبرسوله افترض عليهم الفرائض (٢).

وهذا صريح في أن الكفار غير مكلفين بالاحكام الشرعية ما داموا باقين على الكفر ، فكيف حكموا بوجوب الزكاة عليهم والحال هذه؟

قلت : مدار الاستدلال بالايات والروايات من السلف الى الخلف على الظاهر المتبادر ، وظاهر هذه الآية دليل على وجوبها عليهم.

فهذا الخبر بظاهره لما كان مخالفا للمذهب المشهور المنصور ، ولظاهر هذه الآية وظواهر كثير من الايات والروايات ، وجب تأويله على تقدير امكانه ، أورده على تقدير عدمه ، لما ورد عنهم عليهم‌السلام في كثير من الصحاح والحسان والموثقات اذا جاءكم عنا حديث فاعرضوه على كتاب الله ، فاذا وافقه فخذوه ، وان خالفه فردوه.

هذا وقد ظهر بما حررناه أن توقفه قدس‌سره في هذا الحكم في غير موقفه وبالله التوفيق.

٣ ـ مسألة

[ حكم الزكاة فى غلات اليتيم ]

قال في المدارك : واستدل الشيخ في التهذيب على وجوب الزكاة في غلات

__________________

(١) سورة فصلت : ٦.

(٢) تفسير القمي ٢ / ٢٦٢.


اليتيم بما رواه في الصحيح عن زرارة ومحمد بن مسلم ، عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهم‌السلام أنهما قالا : مال اليتيم ليس عليه في العين والصامت شي‌ء ، وأما الغلات فان عليها الصدقة واجبة (١).

ثم قال : فأما ما رواه علي بن الحسن ، عن حماد ، عن حريز ، عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه سمعه يقول : ليس في مال اليتيم زكاة ، وليس عليه صلاة وليس على جميع غلاته من نخلة أو زرع أو غلة زكاة وان بلغ ، فليس عليه لما مضى زكاة ولا عليه لما يستقبل حتى يدرك ، وان أدرك كانت عليه زكاة واحدة ، وكان عليه مثل ما على غيره من الناس (٢).

فليس بمناف للرواية الاولى ، لانه عليه‌السلام قال : وليس على جميع غلاته زكاة ونحن لا نقول ان على جميع غلاته زكاة ، وانما يجب على الاجناس الاربعة التي هي : التمر والزبيب والحنطة والشعير.

وانما خص اليتامى بهذا الحكم ، لان غيرهم مندوبون الى اخراج الزكاة عن سائر الحبوب ، وليس ذلك في أموال اليتامى ، فلا جل ذلك خصوا بالذكر.

ولا يخفى ما في هذا التأويل من البعد وشدة المخالفة للظاهر ، مع أنها ضعيفة السند ، بأن راويها مشترك بين الثقة وغيره ، ولو كانت صحيحة السند لوجب حملها على نفي الوجوب ، توفيقا بين الروايتين.

وكيف كان فالاصح الاستحباب في الغلات ، كما اختاره المرتضى وابن الجنيد وابن أبي عقيل وعامة المتأخرين ، لان لفظ الوجوب الواقع في رواية زرارة وابن مسلم ، لم يثبت اطلاقه في ذلك العرف حقيقة على ما رادف الفرض ، بل ربما كان الظاهر خلافه ، لانه قد اطلق في الروايات الكثيرة على ما تأكد استحبابه ، وان

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٤ / ٢٩.

(٢) تهذيب الاحكام ٤ / ٢٩.


لم يستحق بتركه العقاب (١).

أقول : ظاهر كلام الشيخ يفيد أنه حمل السلب على رفع الايجاب الكلي لا على السلب الكلي ، لئلا ينافي ما سبق من وجوب الزكاة على غلات الطفل ، وليس هذا بأبعد من حمل الوجوب المرادف للفرض ، بل آكد منه في الرواية الاولى على الاستحباب.

وحمل السلب الظاهر في نفي الوجوب والاستحباب معا على نفي الوجوب فقط بل هذا أبعد ، لانه تأويل في الروايتين معا ، بخلاف ما اختاره الشيخ ، بل ليس فيه بعد ولا تأويل ، بل هو من مقتضى ظاهر ما يستفاد من لفظ الخبر.

ثم المشهور أن الواجب يرادف الفرض ، وهما سيان ، بل يستفاد من كلام المحقق الثاني الشيخ علي في بعض حواشيه أن الواجب آكد من الفرض.

حيث قال : الواجب ما لا يسقط عن المكلف أصلا ، كمعرفة الله تعالى ، والفرض ما يسقط مع العذر ، كالصلاة وباقي العبادات.

ومنهم من فرق بينهما ، بأن الواجب ما يتعلق غرض الشارع بايقاعه لا من حيث شخص بعينه ، وتجوز فيه النيابة اختيارا ، كالزكاة ونحوها. والفرض ما يتعلق غرض الشارع بايقاعه عن شخص بعينه ولا تجوز فيه النيابة ، كالصلاة والصوم ونحوهما. ومنه يعلم وجه ايثار الواجب هنا على الفرض ، فتأمل.

نعم قد أطلق مجازا في بعض الاخبار على المؤكد استحبابه مع وجود صارف من حمله على معناه الحقيقي من العقل أو النقل ، فحيث لا صارف عنه كما هنا على ما سيظهر عن قريب ، وجب حمله على حقيقته.

وأما ضعف سند الرواية لو سلم ذلك ، فليس مما يضر بدليله ، بل هو يؤيده ويشيده ، فانه يبقى حينئذ سالما عن المعارض ، فيكون الواجب أعرف في افادة

__________________

(١) مدارك الاحكام ٥ / ٢١ ـ ٢٢.


الوجوب ، اذ لا داعي حينئذ الى صرفه وتأويله الى تأكيد الاستحباب ، بل يجب ابقاؤه على معناه الظاهر المرادف للغرض.

بل لا حاجة حينئذ في اتمام الدليل الى تأويل هذه الرواية الضعيفة السند ، قريبا كان التأويل أم بعيدا ، الا أن الشيخ رحمه‌الله لما التزم في صدر الكتاب أن يوفق بين الاخبار مهما أمكن ، ارتكب هنا هذا التأويل من غير حاجة له في اتمام دليله اليه.

مع أن القول باشتراك الراوي بين الثقة وغيره وهم منه ، فان راويها الطاطري وهو وان كان واقفيا الا أنه ثقة ، نعم طريق الشيخ اليه في هذا الكتاب مجهول ، كما سيأتي مفصلا وهذا كلام آخر ، وكذا الكلام في أبي بصير ، فانه صحيح واشتراكه بين الثقة وغيره وهم.

وبالجملة تأويل الوجوب في الحديث الصحيح الى تأكد الاستحباب ، ثم القول باستحباب الزكاة في غلات الطفل مما لا داعي اليه ولا دليل عليه ، فيبقى حكمهم هذا بلا دليل.

وأما أصالة عدم الوجوب ، فانما يصار اليها اذا لم يرد على خلافه نص صحيح صريح ، نعم هذا الاصل انما يكون دليلا للقائل بأن خبر الواحد وان كان صحيحا مما لا يفيده علما ولا عملا ، كالمرتضى ومن يذهب مذهبه. وأما عامة المتأخرين العاملين بخبر الواحد ، فليس لهم دليل على ما ذهبوا اليه على ما علمناه.

قيل : وعمدة دليلهم على الاستحباب عدم تكليفهم أي الاطفال. وفيه أن الوجوب في أموالهم لا يستلزم تكليفهم ووجوب شي‌ء عليهم ، والا لزم عدم الاستحباب أيضا ، لانهم ليسوا بمخاطبين ولو ندبا على ما قالوه.

واعلم أن العلامة في المختلف صرح بأن رواية أبي بصير هذه موثقة ، والظاهر أنه حمل عليا هذا على علي بن الحسن الطاطري الواقفي الثقة من


أصحاب الكاظم عليه‌السلام ، لا على علي بن الحسن بن فضال الفطحي الثقة ، كما حمله عليه بعضهم ، لانه من أصحاب الهادي والعسكري عليهما‌السلام ، وحماد هذا من أصحاب الصادق والكاظم عليهما‌السلام ، وقد توفى في عهد الرضا عليه‌السلام.

وقال الفاضل الاردبيلي رحمه‌الله : رواية أبي بصير غير صحيحة ، بل غير موثقة ، لانها نقلت في الكتابين عن علي بن الحسن ، والطريق اليه غير ظاهر ، مع اضطراب في المتن.

أقول : علي بن الحسن الذي يروي عنه الشيخ في الكتابين منحصر في الطاطري وابن فضال ، وطريقه الى الثاني وان كان موثقا الا أن طريقه الى الاول مجهول ، كما يظهر من مشيخته.

حيث قال : وما ذكرته عن علي بن الحسن الطاطري ، فقد أخبرني به أحمد ابن عبدون ، عن علي بن محمد بن الزبير ، عن أبي الملك أحمد بن عمر بن كيسبة عن علي بن الحسن الطاطري (١). الطريق هنا وفي النجاشي مجهول ، وفي الفهرست موثق.

قال عظم أجره : وما ذكرته في هذا الكتاب عن علي بن الحسن بن فضال ، فقد أخبرني به أحمد بن عبدون المعروف بابن الحاشر سماعا واجازة ، عن علي بن محمد بن الزبير ، عن علي بن الحسن بن فضال (٢) انتهى.

الطريق فيها موثق ، لكنه غير مراد هنا ، بل المراد به الاول ، ولذلك قال رحمه‌الله : ان الطريق اليه غير ظاهر باعتبار الطريق المذكور هنا ، فانه مجهول كما سبق لكن جهالة سند الرواية أو ضعفه غير ضار بدليل الوجوب ، بل ينفعه كما عرفت.

ولذلك قال رحمه‌الله بعد كلامه المنقول : فالدليل يقتضي الوجوب ، ويؤيده

__________________

(١) التهذيب ، المشيخة ص ٧٦.

(٢) التهذيب ، المشيخة ص ٥٥ ـ ٥٦.


بعد الاستحباب ، وانه اذا جاز التصرف في مال اليتيم من غير نزاع الاعطاء الى غيره ، فالاحوط كونه بنية الوجوب ، ليحصل بها البراءة على اليقين ، لعدم تكليفه مرة أخرى اتفاقا بعد البلوغ.

نعم لو لم يجوزوا ذلك لقوله تعالى ( وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (١) وغيرها ، وحملوا الصحيحة على التقية ، لان الوجوب مذهب الجمهور كان القول بعدم الوجوب حسنا ، فلما ندبوا ذلك بغير خلاف على الظاهر فالوجوب أولى ، كما هو مذهب الشيخ في الكتابين. وعن السيد المرتضى أنه قال : انه مذهب أكثر الاصحاب أن الامام يأخذ الصدقة عن زرع اليتيم وضرعه (٢).

أقول : الدليل على الاول تمام ، وأما الثاني وهو وجوب الزكاة في ضرعه ومواشيه ، فلا دليل عليه سوى العمومات ، ولكنها معارضة بالعمومات الدالة على عدم وجوب الزكاة على مال اليتيم ، والاصل عدم الوجوب بل الاستحباب أيضا ، حيث لا دليل عليهما ، ولقوله تعالى ( وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ ) خرج ما خرج بالدليل وبقي الباقي تحته ، والله يعلم.

٤ ـ مسألة

[ أقل ما يجزئ فى استنجاء البول ]

قال في المدارك بعد قول المصنف « وأقل ما يجزى‌ء مثلا ما على المخرج » : هذه العبارة مجملة ، والاصل فيها ما رواه الشيخ عن نشيط بن صالح ، عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته كم يجزى‌ء من الماء في الاستنجاء من البول؟ فقال : مثلا

__________________

(١) سورة الانعام : ١٥٢.

(٢) مجمع الفائدة ٤ / ١١ ـ ١٢.


ما على الحشفة من البلل (١).

وهي ضعيفة السند ، لان من جملة رجالها الهيثم بن أبي مسروق ، ولم ينص عليه الاصحاب بمدح يعتد به ، ومروك بن عبيد ولم يثبت توثيقه (٢).

أقول : هيثم بن أبي مسروق النهدي فاضل كأبيه عبد الله كما صرح به حمدويه وقريب الامر كما صرح به النجاشي (٣) ، روى عنه سعد بن عبد الله كما صرح به الكشي ، له كتاب يرويه عنه محمد بن علي بن محبوب ، ومحمد بن الحسن الصفار كما صرحوا به ، وكل واحد من هذه الاوصاف بانفراده يدل على مدحه.

أما الاول والثاني ، فقد صرح بدلالة كل منهما على المدح شيخنا الشهيد الثاني في الدراية.

وأما الثالث والرابع ، فقد صرح بدلالة كل منهما على المدح مولانا عناية الله القهبائي في بعض حواشيه على كتابه المسمى بمجمع الرجال ، فاذا كان كل بحياله يدل على مدحه ، وبذلك يلحق حديثه اذا لم يكن في الطريق قادح من غير جهته بالحسن ، كما صرح بمثل ذلك الشيخ في الدراية ، قائلا بأن الحسن عبارة عن رواية الممدوح من أصحابنا مدحا لا يبلغ حد التعديل. فما ظنك اذا اجتمع كلها فيه كما صرحوا به ، فانه كاد أن يفيد توثيقه وأكثر ، فكيف يقال : انهم لم ينصوا عليه بمدح يعتد به.

وأما مروك بن عبيد ، فنقل الكشي عن محمد بن مسعود أنه قال : سألت علي ابن الحسن ، عن مروك بن عبيد بن سالم بن أبي حفصة ، فقال : ثقة شيخ صدق (٤).

__________________

(١) تهذيب الاحكام ١ / ٣٥.

(٢) مدارك الاحكام ١ / ١٦٢ ـ ١٦٣.

(٣) رجال النجاشى ص ٤٣٧.

(٤) اختيار معرفة الرجال ٢ / ٨٣٥ ، برقم : ١٠٦٣.


وقال الشيخ في الفهرست : له كتاب رويناه عن جماعة (١).

وقال النجاشي قال أصحابنا القميون : نوادره أصل (٢).

ولم يقدح فيه أحد من أئمة الرجال مع تصريحهم بما سبق ، فكيف يقال : لم يثبت توثيقه ، ويحكم بضعف سند الرواية ، وهي حسنة كالصحيحة.

نعم عليها اشكال مشهور ، وهو أن الغلبة والجريان معتبر في الغسل ، وظاهر أن هذا منتف من كل من المثلين ، اذ المماثل لما على الحشفة من البلل لا يغلب عليه ، فلا يحصل الجريان ، فكيف يكون مجزيا.

وأجيب بأن الحشفة تتخلف عنها بعد خروج البول قطرة غالبا ، فلعل المماثلة بين هذه وما يرد عليها من الماء الذي مثلها ، ولا ريب أن القطرة يمكن اجراؤها على المخرج وغلبتها على البلل الذي في حواشيه.

وهنا اشكال آخر ، وهو أنهم شرطوا تخلل الفصل بين المثلين ، لتحقق تعدد الغسل ، قالوا : فلو ورد المثلان من الماء دفعة واحدة كان ذلك غسلة واحدة ، مع أن نشيط بن صالح روى أيضا عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : يجزى‌ء من البول أن تغسله بمثله ، وأجاب عنه الشيخ في الاستبصار بأن هذا الخبر لا ينافي الاول ، لاحتمال أن يكون الضمير في قوله بمثله راجعا الى البول لا الى ما بقي منه ، وذلك أكثر من الذي اعتبرنا من مثلي ما عليه (٣).

وفيه تأمل ، لان قوله « يجزى‌ء » ينافر بمفهومه ما احتمله ، فانه يفيد عدم اجزائه ما هو أقل منه ، ولا ريب أن غسل مخرج البول وتطهيره يمكن بأقل من مثله بكثير.

__________________

(١) الفهرست ص ١٧٠.

(٢) رجال النجاشي ص ٤٢٥.

(٣) الاستبصار ١ / ٥٠.


وأيضا فان البول يختلف كما باختلاف الاشخاص والاوقات ، فتارة يكون كثيرا وأخرى قليلا ، فكيف يحد تطهيره بمثله؟ ويلزم منه وجوب أن يكون الغسل كثيرا اذا كان البول كثيرا ، وقليلا اذا كان قليلا ، ولا دخل لقلة البول وكثرته في الحاجة الى قلة الغسل وكثرته ، لان مخرج البول وحواشيه ينجس بخروجه ، قليلا كان أم كثيرا ، فتطهيره لا يتفاوت على الحالين.

ويمكن التوفيق بينهما بأن أقل ما يجزى‌ء من الماء في الاستنجاء من البول مثل ما يبقى منه على الحشفة من القطرة ، فان تلك القطرة كما سبق يمكن اجراؤها على المخرج وما على حواشيه من البلل وأكمل منه في الاجراء والاجزاء مثلا ما عليها من القطرة ، لما فيها من قوة الغلبة وشدتها والاستظهار في ازالة النجاسة.

وأما ما قيل ان المثلين كناية عن الغسلة الواحدة ، لاشتراط الغلبة في المطهر وهو لا يحصل بالمثل ، فان أراد به مثل ما على الحشفة من البلل ، فمسلم أنه لا يغلب عليه ، ولكنه لا يضر بما قلناه ، وان أراد به مثل ما عليها من القطرة ، فممنوع عدم حصوله به ، والسند ما مر ، فتأمل.

٥ ـ مسألة

[ ما لو مسح العضو وعليه بلل ]

قال العلامة في جواب من سأله عمن توضأ وهو قائم في الماء ، فاذا أكمل وضوءه أخرج رجليه وهي تقطر بالماء ، فمسح عليهما بنداوة الوضوء الذي في يده ثم أعادها الى الماء هل يصح وضوءه؟ : كان والدي يفتي بالمنع من ذلك ، وهو جيد ، لانه يكتسب في المسح ماء جديدا ، وهو ممنوع منه (١).

__________________

(١) أجوبة المسائل المهنائية ص ٦٣.


أقول : فيه أنه لا يصدق عليه أنه استأنف للمسح ماءا جديدا ، بأن كان وضع يديه في الماء ، ثم مسح بذلك الماء رجليه ، كما هو من دأب المخالفين ، وهو ممنوع منه.

بل يصدق عليه أنه استعمل فيه نداوة الوضوء مما بقي في يديه من البلل وجفاف أعضاء المسح ، كما يقتضيه كلامه ليس بشرط في صحة الوضوء ، ولا يدل عليه شي‌ء من الاخبار ، بل كثير منها المذكورة في التهذيب وغيره يشعر بخلافه والاصل واطلاق الامر وصدق الامتثال يقتضي صحته. وقد ورد « كل شي‌ء مطلق حتى يرد فيه نهي » (١) وهذا مما لم يرد فيه نهي.

نعم الاولى والاحوط أن يرفع رؤوس أصابعه بعد اخراجها من الماء ويخفض عقبه ويصبر هنيئة ليميل الماء بأجمعه الى العقب ، وهو لا ينافي الموالاة ، ثم يمسح عليها كما هي ليكون ذلك أبعد من احتمال التقاطر والاستئناف.

وقال العلامة في المنتهى : ولو مسح العضو وعليه بلل يكون المسح مجزيا (٢) وهو خيرة ابن ادريس ، بل صرح المحقق في المعتبر بما هو أبلغ من ذلك ، فقال : لو كان في ماء وغسل وجهه ويديه ثم مسح برأسه ورجليه جاز ، لان يديه لم تنفك عن ماء الوضوء ، ولم يضره ما كان على قدميه من الماء (٣).

وقال الشهيد في الذكرى : لو غلب ماء المسح رطوبة الرجلين ارتفع الاشكال (٤).

وظني أن الغلبة غير معتبرة في صحة الوضوء ، لما سبق من الاصل واطلاق

__________________

(١) عوالي اللئالي ٣ / ١٦٦ و ٤٦٢.

(٢) منتهى المطلب ١ / ٤٣.

(٣) المعتبر ١ / ١٦٠.

(٤) الذكرى ص ٨٩.


الامر وصدق الامتثال.

٦ ـ مسألة

[ حرمة شرب الفقاع ونجاسته ]

قال في المدارك بعد نقل قول المصنف « وطريق تطهيره بنزح جميعه ان وقع فيها مسكر أو فقاع » قال في القاموس : الفقاع كرمان هذا الذي يشرب ، سمي بذلك لما يرتفع في رأسه من الزبد (١).

وذكر المرتضى في الانتصار أن الفقاع هو المتخذ من الشعير (٢). وينبغي الرجوع فيه الى العرف ، لانه الحكم في مثله اذا لم يعلم اطلاقه على ما علم حله وطهارته ، كماء الزبيب الذي لم يتغير عن حقيقته مثلا ، لان تسمية ما علم حله بذلك لا يقتضي تنجيسه ، وهذا الحكم ـ أعني : نزح الجميع للفقاع ـ ذكره الشيخ ومن تأخر عنه.

قال في المعتبر : ولم أقف على حديث يدل بنطقه عليه ، ويمكن أن يحتج لذلك بأن الفقاع خمر ، فيكون له حكمه (٣). أما الثانية فظاهرة.

وأما الاولى ، فلقول الصادق عليه‌السلام في رواية هشام بن الحكم ، وقد سأله عن الفقاع : انه خمر مجهول (٤) وقول الكاظم عليه‌السلام : هو خمر استصغرها الناس (٥).

__________________

(١) القاموس ٣ / ٦٦.

(٢) الانتصار ص ١٩٩.

(٣) المعتبر ١ / ٥٨.

(٤) فروع الكافى ٣ / ٤٠٧ ، ح ١٥.

(٥) فروع الكافى ٦ / ٤٢٣ ، ح ٩.


ويتوجه عليه أن الاطلاق أعم من الحقيقة ، والمجاز خير من الاشتراك (١).

أقول : الاصل في الاطلاق هو الحقيقة ، وانما يصار الى المجاز لصارف أو مانع ، وهما منتفيان هنا ، وقد ورد في أخبار كثيرة من الطرفين أن الفقاع هو الخمر. وحمل جميعها على المجاز يرفع الاعتماد عن الحقيقة ، ولذلك حمل الفقاع علماء الفريقين على الخمر.

قال أبو هاشم الواسطي : الفقاع نبيذ الشعير ، فاذا نش فهو خمر.

وقال ابن الاثير في النهاية : وفيه « اياكم والغبيراء فانها خمر العالم » ثم فسر الغبيراء بضرب من الشراب يتخذه الحبش من الذرة ، قال : وتسمى السكركة قال : وقال ثعلب : هي خمر يعمل من الغبيراء هذا التمر المعروف ، أي : هي مثل الخمر التي يتعارفها جميع الناس لا فصل بينهما في التحريم (٢).

ويرد على تفسيره ما رواه أحمد بن حنبل باسناده عن صمرة ، قال : الغبيراء التي نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عنها الفقاع.

وقال العلامة في بعض فوائده : الاصل في تحريم الفقاع ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه نهى عن تناول الغبيراء ، وهي الشراب المعمول من الشعير حتى أن العامة رووا عنه عليه‌السلام الامر بضرب عنق من داوم عليها ، ولم يترك شربها بعد نهيه عليه‌السلام.

وهذا منه رحمه‌الله اشارة الى ما رووه عن ام حبيبة زوجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ان ناسا من أهل اليمن قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليعلمهم الصلاة والسنن والفرائض ، فقالوا : يا رسول الله ان لنا شرابا نعمله من القمح والشعير ، فقال عليه‌السلام : الغبيراء فقالوا : نعم ، قال : لا تطعموها.

__________________

(١) مدارك الاحكام ١ / ٦٤.

(٢) نهاية ابن الاثير ٣ / ٣٣٨ ـ ٣٣٩.


قال الساجي صاحب كتاب اختلاف الفقهاء في حديثه : قال عليه‌السلام ذلك ثلاثا.

وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : ثم لما كان بعد ذلك بيومين ذكروها له عليه‌السلام فقال : الغبيراء؟ فقالوا : نعم ، قال : لا تطعموها ، ثم لما أرادوا أن ينطلقوا سألوه عليه‌السلام أيضا ، فقال : الغبيراء؟ فقالوا : نعم ، فقال : لا تطعموها ، قالوا : فانهم لا يدعونها ، فقال عليه‌السلام : من لم يتركها فاضربوا عنقه (١).

وقد ورد في طريقنا أخبار كثيرة تدل على تحريم الفقاع ، وانه يجري مجرى الخمر في جميع أحكامها من حد شاربها ورد شهادته وفي نجاستها ، الى غير ذلك.

قال سليمان بن جعفر قلت لابي الحسن الرضا عليه‌السلام ما تقول في شرب الفقاع؟ فقال : هو خمر مجهول يا سليمان فلا تشربه ، أما أنا يا سليمان لو كان الحكم لي لجلدت شاربه ولقتلت بايعه (٢).

وقال الوشاء : كتبت الى الرضا عليه‌السلام أسأله عن الفقاع ، فكتب حرام وهو خمر ، ومن شربه كان بمنزلة شارب الخمر ، قال وقال لي أبو الحسن عليه‌السلام : لو أن الدار داري لقتلت بايعه ، ولجلدت شاربه. وقال أبو الحسن الاخير عليه‌السلام : حده حد شارب الخمر ، وقال عليه‌السلام : هي خمر استصغرها الناس (٣).

وقال الحسن بن الجهم وابن فضال : سألنا أبا الحسن عليه‌السلام عن الفقاع ، فقال : حرام هو خمر مجهول ، وفيه حد شارب الخمر (٤).

وقال محمد بن سنان : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الفقاع ، فقال : هي الخمرة بعينها (٥).

__________________

(١) السنن الكبرى للبيهقي ٨ / ٢٩٢.

(٢) فروع الكافى ٦ / ٤٢٤ ، ح ١٠.

(٣) فروع الكافى ٦ / ٤٢٣ ، ح ٩.

(٤) فروع الكافى ٦ / ٤٢٣ ، ح ٨.

(٥) فروع الكافى ٦ / ٤٢٣ ، ح ٤.


وقال الحسين القلانسي : كتبت الى أبي الحسن الماضي عليه‌السلام أسأله عن الفقاع فقال : لا تقربه فانه من الخمر (١).

وقال أبو جميل البصري : كنت مع يونس بن عبد الرحمن ببغداد وأنا أمشي معه في السوق ، ففتح صاحب الفقاع فقاعه وأصاب يونس ، فرأيته قد اغتم لذلك حتى زالت الشمس ، فقلت له : ألا تصلي؟ فقال : ليس أريد أن أصلي حتى أرجع البيت وأغسل هذا الخمر من ثوبي.

قال فقلت : هذا رأيك أو شي‌ء رويته ، فقال : أخبرني هشام بن الحكم أنه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن الفقاع ، فقال : لا تشربه فانه خمر مجهول ، واذا أصاب ثوبك فاغسله (٢).

وقال الصادق عليه‌السلام في جواب عمار لما سأله عن الفقاع : هو خمر (٣).

الى غير ذلك من الاخبار ، وهي كما ترى يفيد الظن الغالب بأن الفقاع من أنواع الخمر حقيقة ، لقوله عليه‌السلام في عدة أخبار « هو خمر مجهول » وقوله « وهو خمر » وقوله « هي خمرة » وقوله « فانه من الخمر » وقوله « هو خمر » وقوله « هي الخمرة بعينها » وهم اذا لم يؤمنوا بهذا الحديث في افادته الحقيقة ، فبأي حديث بعده يؤمنون؟ واذا كان خمرا حقيقة ، فيترتب عليه ما يترتب عليه من الاحكام.

وفوق هذا كلام ، وهو أن الفقاع اذا كان نجسا ، كما دل عليه حديث يونس ابن عبد الرحمن عن هشام بن الحكم عن الصادق عليه‌السلام ، ولم يقدر له منزوح ، ينزح بوقوعه في البئر جميع مائها على أشهر الافوال وأصحها ، فهذا حديث يدل بنطقه عليه من غير حاجة الى الاحتجاج لذلك بأن الفقاع خمر ، فيكون له حكمه.

__________________

(١) فروع الكافى ٦ / ٤٢٢ ، ح ٣.

(٢) فروع الكافى ٦ / ٤٢٣ ، ح ٧.

(٣) فروع الكافى ٦ / ٤٢٢ ، ح ٢.


والعجب أنه قدس‌سره قد نقل رواية هشام ، وفيها ما يدل على نجاسة الفقاع ولم يتفطن لما ذكرناه ، والله المستعان وعليه التكلان.

٧ ـ مسألة

[ عدم وجوب اعلام الفقير بأن المدفوع اليه زكاة ]

قال في المدارك بعد قول المصنف « ولا يجب اعلام الفقير أن المدفوع اليه زكاة ، فلو كان ممن يترفع عنها وهو مستحق ، جاز صرفها اليه على وجه الصلة » :

انما جاز ذلك لان المفروض كون المدفوع اليه مستحقا ، والدفع مشتملا على الامور المعتبرة فيه من النية الصادرة من المالك ، أو وكيله عند الدفع ، أو بعده مع بقاء العين ، وليس ثم ما يتخيل كونه مانعا إلا عدم الاعلام ، وهو لا يصلح للمانعية ، تمسكا بمقتضى الاصل.

وما رواه الكليني وابن بابويه عن أبي بصير قال قلت لابي جعفر عليه‌السلام : الرجل من أصحابنا يستحيي أن يأخذ الزكاة فأعطيه من الزكاة ولا أسمي له أنها من الزكاة؟ فقال : اعطه ولا تسم له ولا تذل المؤمن (١).

ومقتضى الرواية استحباب الدفع الى المترفع عنها على هذا الوجه ، وبه جزم العلامة في التذكرة ، وقال : انه لا يعرف فيه خلافا ، لكن الرواية ضعيفة السند باشتراك الراوي بين الثقة والضعيف.

ومع ذلك معارضة بما رواه الكليني في الحسن ، عن محمد بن مسلم ، قال قلت لابي جعفر عليه‌السلام : الرجل يكون محتاجا ، فنبعث اليه بالصدقة ، فلا يقبلها على وجه الصدقة يأخذه من ذلك ذمام واستحياء وانقباض ، أفنعطيها اياه على غير ذلك

__________________

(١) فروع الكافى ٣ / ٥٦٣ ، ح ٣.


الوجه وهي منا صدقة؟

فقال : لا ، اذا كانت زكاة فله أن يقبلها ، فان لم يقبلها على وجه الزكاة فلا تعطها اياه ، وما ينبغي له أن يستحيي مما فرض الله عزوجل ، انما هي فريضة الله فلا يستحيي منها (١) (٢).

أقول : سند الرواية الاولى في الفقيه حسن على المشهور بابراهيم بن هاشم وصحيح على ما حقق عندنا ، وذهب اليه الشهيد الثاني في شرح الشرائع ، والفاضل الاردبيلي في آيات أحكامه.

والسند في أصل الكتاب هكذا : روى عاصم بن حميد عن أبي بصير (٣).

وفي مشيخته هكذا : وما كان فيه عن عاصم بن حميد ، فقد رويته عن أبي ومحمد بن الحسن الصفار رضي‌الله‌عنهما ، عن سعد بن عبد الله ، عن ابراهيم بن هاشم ، عن عبد الرحمن بن أبي نجران ، عن عاصم بن حميد (٤).

نعم هو ضعيف في الكافي باشتماله على سهل بن زياد الادمي الرازي ، لا لاشتراك أبي بصير بين الثقة والضعيف ، فانه وان كان كذلك على المشهور ، وتبعهم في ذلك صاحب المدارك ، الا أنه مندرج تحت قولهم « رب مشهور لا أصل له » كما بيناه في بعض رسائلنا ، وصرح به صاحب الذخيرة قدس‌سره في بحث تحقيق الكر ، وصاحب مجمع الرجال في حواشيه عليه.

وهو الظاهر من الفاضل الاردبيلي في شرح الارشاد ، حيث حكم بأن رواية أبي بصير ضعيفة في التهذيب وحسنة في الفقيه ، فلو كان أبو بصير عنده مشتركا

__________________

(١) فروع الكافى ٣ / ٥٦٤ ، ح ٤.

(٢) مدارك الاحكام ٥ / ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

(٣) من لا يحضره الفقيه ٢ / ١٣.

(٤) من لا يحضره الفقيه ٤ / ٤٧٧.


بين الثقة والضعيف ، لما حكم بكونها حسنة السند في الفقيه ، وهو مشتمل على أبى بصير كما عرفت.

وبالجملة فهذا السند على ما في الفقيه بين حسن وصحيح. ومثله سند الرواية الثانية على ما في الكافي ، فانه رواها عن علي بن ابراهيم عن أبيه ، عن حماد ، عن حريز ، عن محمد بن مسلم.

فهما اذا كانتا متكافئتان في السند ومتناقضتان في الدلالة ، فان احداهما دلت على جواز دفع الزكاة لا على وجهها ، بل على وجه الصلة والهدية ونحوهما ، والاخرى دلت على عدم جواز الدفع الا على وجه الزكاة والصدقة ، وحمل هذه على كراهة ردها من المستحق والمبالغة في زجره من المنع وتحريمه نفسه ما عينه الله له.

وعلى احتمال وجود ما يخرجه عن الاستحقاق ، فلا يجوز اعطاؤها اياه ، أو على الاظهار أنه ليس بزكاة ، فلا يبعد منع مثله عن الذي لا يقبلها ، لاحتمال عدم الاستحقاق وغيره ، وحمل الاولى على الاعطاء الغير المانع الذي فيه الاحتمال المذكور ، وعلى وجه لا يعرف أنه زكاة ، لا على وجه يعلم أنه ليست بزكاة على الجواز مع الكراهة.

ثم أيد رواية أبي بصير برواية ابن سنان ، قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام : ان صدقة الخف والظلف تدفع الى المتجملين من المسلمين ، فأما صدقة الذهب والفضة وما كيل بالقفيز وما أخرجت الارض فللفقراء المدقعين ، قال ابن سنان قلت : وكيف صار هذا هكذا؟ فقال : لان هؤلاء يستحيون من الناس ، فيدفع اليهم أجمل الامرين عند الناس (١).

ويؤيدها أيضا ما دل على اعزاز المؤمن ورفع حاجته ، وانها مما اتفق على العمل

__________________

(١) فروع الكافى ٦ / ٥٥٠ ، ح ٣.


بمضمونها الاصحاب ، حتى قال العلامة في التذكرة : لا نعرف فيه خلافا كما سبق مع عدم صلاحية ما تخيل مانعا من عدم الاعلام للمانعية.

وقد سبق في كلام صاحب المدارك أن المقتضي وهو كون المدفوع اليه مستحقا والدفع مشتملا على الامور المعتبرة فيه موجود ، فاذا وجد المقتضي وعدم المانع وجب وجود المعلول وترتب الاثر على المؤثر ، فهذا كله مما يرجح به الاولى ، وعلى الثانية مع استوائهما في السند كما عرفت.

وأما ما رواه في الكافي عن عبد الله بن هلال بن خاقان ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : تارك الزكاة وقد وجبت له مثل مانعها وقد وجبت عليه (١).

فمع جهالة سنده بعبد الله الراوي ، فانه مهمل ، واشتماله على الحسن بن علي ، وهو مشترك بين الثقة والضعيف ولا قرينة ، انما يدل على حرمة الامتناع من الاخذ ، لا على عدم جواز اعطاء من لا يقبلها على وجه الصدقة حتى مؤيدا لرواية ابن مسلم كما ظن.

نعم على القول باعتبار العدالة في مستحق الزكاة يشكل جواز اعطاؤها له ، وهو لا يقبلها على وجه الصدقة فانه بامتناعه عن قبولها وقد وجبت له يصير فاسقا كمانعها وقد وجبت عليه ، لكنه كلام آخر فتدبر.

واعلم أن للاعلام قد تكون فائدة تعود الى المالك ، وذلك في صورة يكون مقصرا في الاجتهاد بتخيل أن المدفوع اليه أهل للزكاة ولم يكن أهلا لها ، فاذا دفعها اليه بدون الاعلام يمكن أن يتصور هو أنها نحلة أو هدية اهديت اليه فيقبلها.

فبعد تبين خطائه وتقصيره في الاجتهاد وعدم امكان ارتجاعها بتلف العين وفقره الطاري أو غير ذلك يتضرر المالك ، لانه يجب عليه أن يؤديها مرة أخرى

__________________

(١) فروع الكافى ٣ / ٥٦٣ ، ح ١.


حتى يخرج عن العهدة ، وذلك الضرر قد يندفع بالاعلام ، لان المدفوع اليه اذا علم أنها زكاة وهو لا يستحقها ، فلعله يردها الى مالكها ، فيندفع به الضرر ، لكنه لا يدل على عدم اجزاء الدفع بدون الاعلام ، والاجتهاد صواب ، والمدفوع واقع موقعه ، وانما الكلام فيه كما سبق.

٨ ـ مسألة

[ وجوب الاعتكاف بمضى يومين ]

اختلفوا في وجوب الاعتكاف المندوب بالدخول ، فقال المرتضى وابن ادريس : لا يجب أصلا ، بل له الرجوع فيه متى شاء ، واختاره العلامة في جملة من كتبه.

وقال المحقق في المعتبر : انه الاشبه بالمذهب (١). وذهب الشيخ في المبسوط (٢) وأبو الصلاح الى وجوبه بالدخول فيه كالحج. وقال ابن الجنيد وابن البراج وجماعة من المتأخرين : انه انما يجب بعد مضي يومين ، فيجب الثالث.

واحتجوا عليه بصحيحة ابن مسلم عن الباقر عليه‌السلام ، قال : اذا اعتكف يوما ولم يكن اشترط ، فله أن يخرج ويفسخ الاعتكاف ، وان أقام يومين ولم يكن اشترط فليس له أن يفسخ اعتكافه حتى يمضي ثلاثة أيام (٣).

وصحيحة أبي عبيدة عنه عليه‌السلام قال : ومن اعتكف ثلاثة أيام ، فهو يوم الرابع

__________________

(١) المعتبر ٢ / ٧٣٧.

(٢) المبسوط ١ / ٢٨٩.

(٣) فروع الكافى ٤ / ١٧٧ ، ح ٣.


بالخيار ان شاء زاد ثلاثة أيام اخر ، وان شاء خرج من المسجد ، فان أقام يومين بعد الثلاثة ، فلا يخرج من المسجد حتى يتم ثلاثة أخر (١).

واحتج المرتضى ومن شايعه بأن الاعتكاف عبادة مندوبة ، فلا تجب بالشروع كالصلاة المندوبة ، قالوا : ولا ينتقض بالحج والعمرة لخروجهما بدليل.

قال في المدارك : وجوابه أن الدليل كما وجد في الحج والعمرة ، كذا وجد في الاعتكاف ، وهو ما سبق من الروايتين الصحيحتي السند الواضحتي الدلالة (٢).

أقول : فيه ان المرتضى ومن يذهب مذهبه لا يعمل بخبر الواحد ، ويقول : انه لا يفيد علما ولا عملا ، فكيف يكون هذا حجة ودليلا عليه. وأما الحج والعمرة ، فانما أخرجهما بقوله تعالى « وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ » (٣) لا بخبر الواحد.

نعم هو دليل على مثل العلامة والمحقق وغيرهما ممن شايع السيد في هذه المسألة من العاملين بخبر الواحد ، لكن لهم أن يمنعوا صراحة الخبر الاول في وجوب الثالث ، بل انما دل على كراهية فسخه وأولوية اتمامه ، ومثله الرواية الثانية ، فانها انما دلت على كراهة فسخ السادس لا على وجوب اتمامه ، وأصل عدم الوجوب وبراءة الذمة عنه معهم ، فتأمل.

ويمكن أن يستدل عليه بقوله تعالى « وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ » (٤) فانه يقتضي النهي عن ابطال العمل ، والاعتكاف المندوب عمل ، فيندرج تحت النهي الدال بظاهره على التحريم.

__________________

(١) فروع الكافى ٤ / ١٧٧ ، ح ٤.

(٢) مدارك الاحكام ٦ / ٣١٣.

(٣) سورة البقرة : ١٩٦.

(٤) سورة محمد : ٣٣.


وصورة القياس هكذا : الاعتكاف المندوب عمل ، وكل عمل لا يجوز ابطاله أما الصغرى فظاهرة ، وأما الكبرى فلان الجمع المضاف يفيد العموم ، فيشمل جميع مراتب العمل ، الا ما أخرجه الدليل ، فلا يرد أن كلية الكبرى ممنوعة ، لجواز الافطار في الصوم الواجب والمندوب ، لانها باقية على كليتها.

وخروج الصوم ونحوه منها لما كان من باب خروج ما أخرجه الدليل لا ينافيها اذ المراد أنها كلية فيما لا دليل على خروجه من تحت النهي الدال بظاهره على التحريم ، فيكون من قبيل تخصيص العام ببعض أفراده ، لوجود قرينة أو دليل.

وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : اختروا الجنة على النار ، ولا تبطلوا أعمالكم فتقذفوا في النار منكسين خالدين فيها أبدا.

والاولى أن يقال : ان بعض أفراد المندوب فاعله قبل الشروع فيه مخير بين فعله وتركه ، فأما بعد الشروع فعليه اكماله ، كالحج والصلاة النافلة ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « صلوا كما رأيتموني أصلي » (١) اذ الظاهر منه أنه لم يقطع الصلاة المندوبة اختيارا ، بخلاف الصوم المندوب وبعض أفراده الواجب ، فانهم نصوا على جواز قطعه حال الاختيار.

والاقوى أنه لا يجب النفل بالشروع فيه الا الحج والعمرة ، وفي الاعتكاف ما مر من الوجوب بالشروع ، والوجوب بمضي يومين ، وعدم الوجوب أصلا ، ولعل الاوسط أوسط.

٩ ـ مسألة

[ القصد فى المشى حال الطواف ]

قال الفاضل الاردبيلي رحمه‌الله في شرحه على الارشاد : قال في المنتهى :

__________________

(١) عوالي اللئالي ١ / ١٩٨ ، ح ٨.


ويستحب أن يقصد في مشيه ، بأن يمشي مستويا بين الاسراع والابطاء ، قاله الشيخ في بعض كتبه.

وقال في المبسوط : يستحب أن يرمل ثلاثا ويمشي أربعا في طواف القدوم خاصة ، اقتداء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لانه كذلك فعل ، رواه جعفر بن محمد عن أبيه عليهما‌السلام عن جابر. والظاهر أن الرواية عن العامة والفتوى أيضا لهم ، وذلك في الثلاثة الاول.

قال في المنتهى : اتفق الجمهور كافة على استحباب الرمل وهو الهرولة في الثلاثة الاول والمشي في الاربعة الباقية.

ودل على القول الاول رواية عبد الرحمن بن سيابة ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الطواف فقلت : أسرع وأكثر أو أبطئ ، قال : مشي بين المشيين (١) الا أن عبد الرحمن مجهول.

وروى في الفقيه قويا عن سعيد الاعرج أنه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن المسرع والمبطئ في الطواف ، فقال : كل واسع ما لم يؤذ أحدا (٢). وهذه تدل على التسوية ، ولا يبعد حملها على الجواز وعدم المبالغة فيهما.

وحمل رواية عبد الرحمن على ذلك ، ويمكن حملهما على غير طواف القدوم وعلى الاربعة الاشواط الاخيرة ، للجمع بين الاخبار ، لبعد كذب العامة في نقل مثل هذه الائمة عليهم‌السلام ، مع عدم نقلهم عنهم الا قليلا ، فتأمل (٣).

أقول : سيأتي إن شاء الله العزيز في المسألة التالية أن عبد الرحمن هذا ثقة ، فروايته صحيحة ، وأما رواية سعيد بن عبد الله الاعرج ، فموثقة في الفقيه كما يظهر

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٥ / ١٠٩ ، ح ٢٦.

(٢) من لا يحضره الفقيه ٢ / ٤١١ ، ح ٢٨٤٢.

(٣) مجمع الفائدة ٧ / ١٠٣.


من مشيخته.

حيث قال رضي‌الله‌عنه : وما كان فيه عن سعيد الاعرج ، فقد رويته عن أبي رضي‌الله‌عنه ، عن سعد بن عبد الله ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن أحمد ابن محمد بن أبي نصر البزنطي ، عن عبد الكريم بن عمرو الخثعمي ، عن سعيد ابن عبد الله الاعرج الكوفي (١) انتهى. والسند موثق.

والحديث دل على أن الاسراع والابطاء لا ترجيح لاحدهما على الاخر في مطلق الطواف وفي جميع أشواطه ، بل يجوز فيه الابطاء ، كما يجوز فيه الاسراع ما لم يؤد الى أذية أحد ، والمنقولة عن العامة دلت على استحباب الاسراع في الثلاثة الاول ، والمشي في الاربعة الباقية ، فبينهما نوع منافرة.

وقد تقرر في أصولنا أن العامي اذا روى عن أحد من الائمة عليهم‌السلام ، نظر فيما يرويه ، فان كان مخالفا لما يرويه الخاصي وجب اطراحه ، كما يشير اليه مقبولة عمر.

وأيضا فتأويله للجمع بينهما ، أو تخصيصه وتقييده به ، معللا بأن كذبهم في نقل مثله عنهم عليهم‌السلام بعيد غير جيد ، اذ لا بعد فيه نظرا الى دواعيهم الفاسدة وأغراضهم الكاسدة ، حتى نقل عن بعضهم وقد استبصر أنه قال : أنظروا هذا الحديث عمن تأخذونه ، فانا كنا اذا رأينا رأيا جعلنا له حديثا. مع أن هذا الحديث غير منقول عنهم عليهم‌السلام ، بل هو منقول عن جابر ، وهو عليه‌السلام ناقل عنه ، وهو حاك عن فعله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وفي فعله صلى‌الله‌عليه‌وآله اذا لم يعلم جهته بالنسبة اليه ، فبالنسبة الى أمته فيه مذاهب الوجوب ، والندب والاباحة ، والوقف ، والتفصيل. بأنه ان ظهر قصد القربة فالندب والا فالاباحة ، فالقطع بأنه هنا للندب لا يخلو عن شي‌ء ، فتأمل.

ان قلت : كيف جوز قدس‌سره كونه حديثا حتى تكلف للجمع بينه وبين

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٤ / ٤٧٢.


ما رواه عن جابر وهو من رعيته ، ومن أصول الامامية أن الامام أولى بالاتباع من رعيته ، فانه مؤيد بروح القدس ، وعنده جميع ما يحتاج اليه الامة وما كان وما هو كائن الى يوم القيامة.

قلت : له وجه يصحح به تجويز كونه حديثا ، وهو ما رواه حريز عن أبان بن تغلب ، قال : حدثني أبو عبد الله عليه‌السلام قال : ان جابر بن عبد الله كان آخر من بقي من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان رجلا منقطعا الينا أهل البيت ، وكان يقعد في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو معتم بعمامة سوداء ، وكان ينادي يا باقر العلم يا باقر العلم ، فكان أهل المدينة يقولون : جابر يهجر.

وكان يقول : والله ما أهجر ، ولكن سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : انك ستدرك رجلا من أهل بيتي اسمه اسمي وشمائله شمائلي يبقر العلم بقرا ، فذاك الذي دعاني الى ما أقول.

قال : فبينا جابر يتردد ذات يوم في بعض طرق المدينة اذ هو في طريق في ذلك الطريق كتاب فيه محمد بن علي بن الحسين عليهم‌السلام ، فلما نظر اليه قال : يا غلام أقبل فأقبل ، ثم قال : أدبر فأدبر.

فقال : شمائل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والذي نفس جابر بيده يا غلام ما اسمك ، فقال : اسمي محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام فأقبل عليه يقبل رأسه ، وقال : بأبي وأمي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقرؤك السلام ويقول لك ويقول لك.

فرجع محمد بن علي الى أبيه علي بن الحسين عليهم‌السلام وهو ذعر فأخبره الخبر فقال له : يا بني قد فعلها جابر؟ قال : نعم ، فقال : يا بني ألزم بيتك ، فكان جابر يأتيه طرفي النهار.

وكان أهل المدينة يقولون : واعجبا لجابر يأتي هذا الغلام طرفي النهار ، وهو آخر من بقي من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : فلم يلبث أن مضى علي بن الحسين


عليهما‌السلام ، وكان محمد بن علي عليهما‌السلام يأتيه على وجه الكرامة لصحبته لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قال : فجلس فحدثهم عن أبيه ، فقال أهل المدينة : ما رأينا أحدا قط أجرأ من ذا ، فلما رأى ما يقولون حدثهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال فقال أهل المدينة : ما رأينا أحدا أكذب من ذا يحدث عمن لم يره ، فلما رأى ما يقولون حدثهم عن جابر بن عبد الله فصدقوه ، وكان جابر والله يأتيه يتعلم منه (١).

١٠ ـ مسألة

[ أفضلية الطواف للمجاور من الصلاة ]

قال الفاضل الاردبيلي في شرحه على الارشاد ، بعد قول مصنفه قدس الله سرهما « والطواف للمجاور أفضل من الصلاة والمقيم بالعكس » : دليله رواية حريز قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الطواف لغير أهل مكة لمن جاور بها أفضل أو الصلاة؟ قال : الطواف للمجاورين أفضل ، والصلاة لاهل مكة والقانطين بها أفضل من الطواف (٢).

ورواية حفص بن البختري وحماد وهشام عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : اذا أقام الرجل بمكة سنة ، فالطواف أفضل ، واذا أقام سنتين خلط هذا وهذا ، فاذا أقام ثلاث سنين فالصلاة أفضل (٣).

ولو لا اشتراك عبد الرحمن الذي روى عنه موسى بن القاسم في سندهما

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال ١ / ٢١٧ ـ ٢٢٢.

(٢) تهذيب الاحكام ٥ / ٤٤٦ ـ ٤٤٧ ، ح ٢٠١.

(٣) تهذيب الاحكام ٥ / ٤٤٧ ، ح ٢٠٢.


لكانا صحيحين ، مع أن في الكافي الاولى حسنة لابراهيم ، والثانية صحيحة. وقال في المنتهى : هما صحيحتان وهو أعرف (١).

أقول : هذا حق على التقديرين ، أما على الاشتراك ، فلما سبق وأما على ما في الكافي ، فلما ثبت من توثيق أبي علي ابراهيم بن هاشم القمي ، كما ذهب اليه الفاضل الاردبيلي أيضا في آيات أحكامه في كتاب الصوم.

حيث قال فيه بعد أن نقل حديثين : أحدهما عن محمد بن مسلم ، والثاني عن زرارة. وأما الاول وأراد به ما رواه عن محمد بن يعقوب ، عن علي بن ابراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن حماد بن عيسى ، عن حريز ، عن محمد بن مسلم. فظاهر أنه حسن لوجود أبي علي ابراهيم بن هاشم ، وكذا سماه في المختلف والمنتهى.

وقال الشيخ زين الدين في شرح الشرائع : ولصحيحة محمد بن مسلم وزرارة ، وما وجدت في كتب الاخبار غير ما ذكرته عن محمد بن مسلم ، فالظاهر أنه انما عنى ذلك ، فاشتبه عليه الامر أو تعمد وثبت توثيقه عنده. والظاهر أنه يفهم توثيقه من بعض الضوابط (٢) انتهى.

ولعله منه رحمه‌الله اشارة الى أن اعتبار مشايخ القميين له وأخذ الحديث عنه ونشر الرواية منه على ما في الفهرست والنجاشي يعطي أنه ثقة عندهم في الرواية والنقل ، لان أهل قم كانوا يخرجون الراوي منه ويؤذونه لمجرد توهم شائبة ما فيه فكيف يجتمعون عليه ويقبلون حديثه لو لا وثوقهم به واعتمادهم عليه ، فيصير حديثه صحيحا لذلك ، كما لا يخفى على من له قليل من الانصاف.

قال في الفهرست ومثله في النجاشي : ابراهيم بن هاشم أبو اسحاق القمي

__________________

(١) مجمع الفائدة ٧ / ٣٨٦ ـ ٣٨٧.

(٢) زبدة البيان ص ١٥٤ ـ ١٥٥.


أصله من الكوفة وانتقل الى قم ، وأصحابنا يقولون : انه أول من نشر حديث الكوفيين بقم ، وذكروا أنه لقى الرضا عليه‌السلام ، والذي أعرف من كتبه كتاب النوادر وكتاب قضايا أمير المؤمنين عليه‌السلام أخبرنا بهما جماعة من أصحابنا ، ثم ذكر سنده اليه (١).

وقال العلامة في الخلاصة : انه عندي مقبول (٢). وفي المنتهى كثيرا ما يسمى الخبر الواقع هو فيه صحيحا ، ويفهم منه توثيقه.

فصح أنهما صحيحتان على التقديرين ، دالتان على أفضلية الطواف للمجاورين والصلاة للقاطنين ، وان العلامة قدس‌سره كان عارفا بما قال والله أعلم بحقيقة الحال.

تنبيه :

لا يذهب عليك أن قوله رحمه‌الله في آيات الاحكام « وكذا سماه في المختلف والمنتهى » يناقض ظاهر قوله هنا « وقال في المنتهى هما صحيحتان ».

الا أن يقال : هذا بالنظر الى غير ما في الكافي ، فبحثه معه قدس‌سرهما ترديدي ، بأنه ان أراد أنهما صحيحتان في غير الكافي ، فاشتراك عبد الرحمن في الثاني مانع عنه. وان أراد صحتهما في الكافي ، فوجود ابراهيم في طريق الاول يمنعه.

أو يقال : ان العلامة طاب ثراه تبع المشهور في أوائل المنتهى الى كتاب الصوم ونحوه ، فحكم بأن رواية أبي علي اذا لم يكن في الطريق قادح من غير جهته حسنة ، ثم لما تبين له من بعد ما رأى الايات أنه ثقة حكم بأنها صحيحة ، وذلك

__________________

(١) الفهرست ص ٤.

(٢) رجال العلامة ص ٤.


من كتاب الحج الى آخر الكتاب ، والاول أظهر.

وليست عندنا الان نسخة المنتهى لنرجع اليها في تحقيق الحال وتصحيح المقال ، والحمد لله على كل حال ، والصلاة على محمد وآله خير آل.

١١ ـ مسألة

[ حكم التحالف فى حال الاحرام ]

قال الفاضل الاردبيلي في شرح الارشاد بعد رواية أبي بصير ، قال : سألت ابا عبد الله عليه‌السلام عن المحرم يريد أن يعمل العمل ، فيقول له أصحابه : والله لا نعمله فيقول : والله لا عملنه فيحالفه مرارا ، فيلزمه ما يلزم صاحب الجدال؟ فقال : لا ، انما أراد بهذا اكرام أخيه ، انما يلزمه ما كان لله عزوجل معصية (١) قال في المنتهى : رواها ابن بابويه في الصحيح ، وهو غير ظاهر الصحة في الفقيه ، لانه روى عن ابن مسكان عن أبي بصير ، وما صح طريقه الى ابن مسكان ، مع أنه مشترك بين الضعيف والثقة ، مثل أبي بصير.

ثم قال : وهي صحيحة في الكافي ، ويمكن صحتها في الفقيه أيضا بكون ابن مسكان هو عبد الله الثقة ، والطريق اليه صحيح لشهرته ، وعدم نقل رواية عن محمد وذكر طريقه ، وكأن أبا بصير هو ليث لكثرة روايته ، وكأن ذلك كله ظاهر عند المصنف ، حيث لا يلتفت الى الاشتراك ويسميها صحيحة ، فتأمل (٢).

أقول : وجه ظهوره عنده وعدم التفاته اليه وتسميته لها صحيحة ، ان ابن مسكان وان كان مشتركا بين أربعة : محمد ، وعمران ، وعبد الله ، والحسين ، الا أن الاكثر

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٢ / ٣٣٣.

(٢) مجمع الفائدة ٦ / ٢٩٧.


هو عبد الله ، كما نص عليه الكشي في الكنى ، حتى أنه يتبادر عند الاطلاق دون غيره ، فهذا مع عدم ذكر الصدوق في مشيخته طريقه الى الثلاثة الباقية قرينة على أن المراد بابن مسكان هذا هو عبد الله لا غير.

وأما ما ذكره الشارح رحمه‌الله ، فأخص من المدعى ، لان بمجرد عدم نقل الصدوق رواية عن محمد وعدم ذكره طريقه اليه لا يثبت أن المراد بابن مسكان هذا هو عبد الله ، لاحتمال أن يكون المراد به هو أحد الاخيرين ، فتأمل.

وأما أبو بصير المذكور في الحديث ، فالمراد به : اما يحيى بن أبي القاسم أو المرادي ليث بن البختري ، أو أبو يحيى ، فان المطلق قد يكون مشتركا بينهم كما اذا روى عن الباقرين أو أحدهما عليهما‌السلام ، وأما اذا روى عن الكاظم عليه‌السلام فانه مخصوص بيحيى بن أبي القاسم. وروايات هؤلاء الثلاثة اذا لم يكن في الطريق مانع من غير جهتهم صحيحة.

لكن اشتبه أمر أبي بصير المطلق على كثير من أصحابنا المتأخرين ، فظنوا اشتراكه بين الثقة الامامى وغيره. والظاهر أن الاشتراك توهم وله جهات.

منها : أنه مشترك بين جماعة ، منهم : يوسف بن الحارث ، وهو غير موثق في كتب الرجال ، بل في الخلاصة واختيار الرجال للشيخ أن يوسف هذا من أصحاب الباقر عليه‌السلام ، يكنى أبا بصير بالياء بعد الصاد.

والجواب أن أبا بصير اذا أطلق ينصرف الى المشهور المعروف بينهم ، ويوسف هذا مجهول غير مذكور في الفهرست وكتاب النجاشي ، فكيف ينصرف المطلق اليه ، وفي كتاب الكشي أبو نصر بن يوسف بن الحارث (١). ويحتمل اتحادهما ، ووقوع التصحيف في كتاب الشيخ ، على أن رواية أبي بصير هذه عن الصادق عليه‌السلام ، ويوسف بن الحارث من أصحاب الباقر عليه‌السلام.

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال ٢ / ٢٨٨.


ومنها : أنه مشترك بين جماعة ، منهم : عبد الله بن محمد الاسدي. والجواب عنه نحو من السابق.

ومنها : أنه مشترك بين جماعة ، منهم : يحيى بن القاسم الحذاء ، وهو واقفي والجواب أن أبا يحيى بن القاسم ، أو يحيى بن أبي القاسم غير يحيى بن القاسم الحذاء الواقفي ، والشاهد لذلك أمور أوردناها في بعض رسائلنا.

ومنها : أن أبا بصير كنية ليث بن البختري المرادي. وأورد الكشي روايات تدل على الطعن فيه. والجواب أن الروايات الدالة على فضيلته وكمال درجته وعلو شأنه أكثر وأصح وأشهر ، وما ورد بالطعن فيه قابل للتأويل ، فلا وجه للتوقف في رواياته اذا لم يكن في الطريق مانع من غيره ، وقد أوضحنا حقيقة حاله في رسالة لنا ، فليقف من هناك.

١٢ ـ مسألة

[ الطواف فى ثوب متنجس بالدم ]

قال مولانا أحمد الاردبيلي رحمه‌الله في شرح الارشاد ، بعد نقله صحيحة البزنطي ، عن بعض أصحابه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال قلت له : رجل في ثوبه دم مما لا تجوز الصلاة في مثله ، فطاف في ثوبه ، فقال : أجزأه الطواف فيه ، ثم ينزعه ويصلي في ثوب طاهر (١) ، ولا يضر بصحته ارساله لما ثبت عندهم أنه ممن اجتمعت العصابة على تصحيح ما صح عنه ، وان مرسلته مسندة الى العدل (٢).

أقول : هذا الاخير بخصوصه كما هو مفاد كلامه رحمه‌الله غير ثابت في

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٥ / ١٢٦ ـ ١٢٧.

(٢) مجمع الفائدة ٧ / ٧١.


كتبهم ، لا في الرجال ولا في الدرايات ، وانما هو داخل تحت عموم قول بعضهم ان المرسل مقبول اذا علم أن مرسله لا يرسل الا عن عدل ، وهذا الدخول على تقدير حصول هذا العلم.

وفيه أن هذا القدر من العلم غير كاف في العمل بروايته ، بل لا بد له من ذكره وتعيينه ، ولينظر هل له جارح أولا ، فان مع الابهام لا يؤمن من وجوده ، لجواز أن يكون له جارح وهو لا يعرفه.

ومنه يعلم ضعف قوله وان مرسله مسندة الى العدل ، أي : العدل باعتقاده لا في الواقع ، فيجوز أن يكون فاسقا وهو لا يعرفه ، ولو عينه لعرف فسقه الذي خفي عليه.

وبالجملة بعض أصحابه لا ينحصر في العدل ، لان العدل كما يروي عن مثله فقد يروي عن غيره. وعلى تقدير انحصاره فيه انما يقبل التعديل اذا انتفت عنه معارضة الجرح ، وانما يعلم ذلك بتعيين المعدل وتسميته.

والقول بأن الاصل عدم الجرح مجاب بوقوع الاختلاف في شأن كثير من الرواة ، فرب معدل عند قوم مجروح عند آخرين. ولتفصيل هذا المطلب موضع آخر فليطلب من هناك.

واذا ثبت أن المرسل ليس بحجة مطلقا في الاصح من الاقوال للاصوليين والمحدثين ، فلا عبرة بما استنبطه قدس‌سره من هذه الرواية.

حيث قال : وفيها دلالة ظاهرة على عدم اشتراط خلو الثوب عن نجاسة الدم وكان غيره والبدن أيضا كذلك ، لعدم الفرق وعدم القائل به على الظاهر ، وعلى عدم اخراج النجاسة الغير المتعدية عن المساجد ، وصحة الصلاة مع العلم بها في المسجد ، حيث حكم عليه‌السلام بصحة الطواف معه من غير تفصيل الى العلم والجهل والنسيان وعدمه ، بل الظاهر أنه مع العلم ، وبأنه يقلع ويصلي وما حكم باخراجه


عن المسجد ثم يصلي (١).

وذلك لان الواجب على كل مجتهد تحصيل الظن فيما يعمل أو يفتي به ، وهذا لا يحصل من الخبر المرسل ، للجهل بحال المحذوف ، فيحتمل كونه ضعيفا ومجرد رواية العدل عنه ليس تعديلا له بل أعم منه وعلى تقدير كونه تعديلا ففيه ما عرفته.

ومنه يعلم أن مجرد تصحيح رواية بتعديل رواتها لا يكفي في جواز العمل بها بل لا بد من مراجعة سندها وملاحظة حال رواتها ليؤمن من معارضة الجرح ، فرب رواية عدل قوم رواتها وهي عند آخرين ضعيفة السند وبالعكس ، كما سبقت اليه الاشارة.

١٣ ـ مسألة

[ كفارة تقبيل امرأته فى الطواف ]

قال الفاضل المذكور في الشرح المسطور : ينبغي حمل ما يدل عليه الكفارة في تقبيل امرأته ، أي : المحرم بغير شهوة على الاستحباب ، مثل صحيحة مسمع ابن أبي سيار الممدوح في الجملة.

قال قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : يا أبا سيار أن حال المحرم ضيقة ان قبل امرأته على غير شهوة وهو محرم ، فعليه دم شاة ، وان قبل امرأته على شهوة فأمنى فعليه جزور ويستغفر ربه ، وان مس امرأته وهو محرم على شهوة فعليه دم شاة ، ومن نظر الى امرأته نظر شهوة فأمنى فعليه جزور ، ومن مس امرأته أو لازمها من

__________________

(١) مجمع الفائدة ٧ / ٧٢.


غير شهوة فلا شي‌ء عليه (١).

للاصل وعموم ما يدل على عدم شي‌ء في المس بغير شهوة ، وعدم توثيق مسمع ومدحه بحيث يفيد حسن الخبر (٢).

أقول : لا يخفى ما في كلامه رحمه‌الله من الاضطراب والتشويش ، فانه سمى حديثه صحيحا أولا ، وهذا يفيد توثيقه ، ثم نفى عنه الحسن آخرا ، وهذا يدل على عدم مدحه فضلا عن توثيقه ، وقال فيما بينهما : انه ممدوح في الجملة.

وأنت خبير بأن الرجل اذا كان اماميا ممدوحا وان كان في الجملة ، فحديثه حسن ولا أقل منه لانه ليس بمجهول ولا ضعيف ولا موثق ولا قوي ولا غيره من أنواع الحديث الا الحسن.

والحق أن ما ورد في مسمع بن عبد الملك أبي سيار الملقب كردين من أصحاب الباقر والصادق والكاظم عليهم‌السلام يبلغ به حد التوثيق وذروته.

فنقول : في مشيخة الفقيه ان الصادق عليه‌السلام قال له أول ما رآه : ما اسمك؟ فقال : مسمع ، فقال : ابن من؟ قال ابن مالك ، قال : بل أنت مسمع بن عبد الملك (٣) في كتاب الكشي ، قال محمد بن مسعود : سألت أبا الحسن علي بن الحسن ابن فضال عن مسمع كردين أبي سيار ، فقال : هو ابن مالك من أهل البصرة وكان ثقة (٤).

وفي الفهرست له كتاب ، ثم أسند باسناده اليه (٥).

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٥ / ٣٢٦ ، ح ٣٤.

(٢) مجمع الفائدة ٧ / ٢٦.

(٣) من لا يحضره الفقيه ٤ / ٤٥١.

(٤) اختيار معرفة الرجال ٢ / ٥٩٨ ، برقم : ٥٦٠.

(٥) الفهرست ص ١٢٨ ـ ١٢٩.


وفي مشيخة الفقيه هو عربي من بني قيس بن ثعلبة (١).

وفي النجاشي : انه شيخ بكر بن وائل بالبصرة ووجهها وسيد المسامعة ، وكان أوجه من أخيه عامر بن عبد الملك وأبيه ، روى عن أبي جعفر عليه‌السلام رواية يسيرة ، وروى عن أبي عبد الله عليه‌السلام وأكثر واختص به ، وقال له أبو عبد الله عليه‌السلام : اني لاعدك لامر عظيم يا أبا السيار ، وروى عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام ، وله نوادر كبيرة (٢).

فاذا كان الرجل اماميا فاضلا صاحب كتاب كبير ، صحب جمعا من المعصومين عليهم‌السلام ، وكان خصيصا بهم ، وأكثر الرواية عنهم ، وقد ورد في مدحه ما سمعت وقد وثقه أبو الحسن بن فضال ، وهو فقيه أصحابنا ووجههم وثقتهم وعارفهم بالحديث ، كما في النجاشي.

حتى قال محمد بن مسعود : ما لقيت في من لقيت بالعراق وناحية خراسان أفقه ولا أفضل ولا أحفظ من ابن فضال ، كما في الكشي (٣).

فكيف يسوغ أن يقال : روايته ليست بصحيحة بل ولا حسنة ولا في طريقها مانع سواه على ما هو المفروض.

١٤ ـ مسألة

[ موضع المقام ]

قال آية الله العلامة في جواب من سأله عما يقوله بعض أصحابنا وبعض العامة

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٤ / ٤٥١.

(٢) رجال النجاشي ص ٤٢٠.

(٣) اختيار معرفة الرجال ٢ / ٨١٢.


أيضا أن المقام كان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لاصقا بالبيت ، وان عمر بن الخطاب هو الذي أزاله عن موضعه في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأعاده الى موضعه في الجاهلية ، وهو الموضع الذي هو فيه الان ، فاذا كان الامر على هذه الصورة كيف تصح الصلاة؟ مع أن الامر بالصلاة قد عين فيه مقام ابراهيم : المشهور عند أصحابنا أن موضع المقام حيث هو فيه الان ، ولا عبرة بمن خالف ذلك (١).

أقول : هذا الجواب مما لا يعجبني ، فان تغيير مكان المقام على ما كان عليه في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد نقله جماعة من أصحابنا ، وابن الجريري أيضا من العامة ، وابن الجوزي في كتاب اثارة عزم الساكن الى أشرف الاماكن ، ونقله الازرقي في تاريخ مكة ، وغيرهما من مصنفي العامة ، ودل عليه كثير من الاخبار.

كرواية محمد بن مسلم ، قال : سألته عن حد الطواف بالبيت الذي من خرج منه لم يكن طائفا بالبيت ، قال : كان الناس على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يطوفون بالبيت والمقام ، وأنتم اليوم تطوفون بين المقام وبين البيت ، فكان الحد من موضع المقام اليوم ، فمن جازه فليس بطائف والحد قبل اليوم واليوم واحد قدر ما بين المقام وبين البيت ومن نواحي البيت كلها ، فمن طاف فتباعد من نواحيه أكثر من مقدار ذلك ، كان طائفا بغير البيت بمنزلة من طاف بالمسجد ، لانه طاف في غير حد ولا طواف له (٢).

فان فيها اشارة الى أن موضع المقام الذي هو فيه الان غير موضعه الذي كان فيه على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وانه كان في زمنه أقرب الى البيت من موضعه الذي هو فيه اليوم ، والا لم يكن الحد اليوم وفي عهده واحدا ، ولقوله « من موضع المقام اليوم ».

__________________

(١) أجوبة المسائل المهنائية ص ١٦٣ ـ ١٦٤.

(٢) تهذيب الاحكام ٥ / ١٠٨ ـ ١٠٩.


ويدل عليه ما في الفقيه ، قال زرارة لابي جعفر عليه‌السلام : قد أدركت الحسين عليه‌السلام؟ قال : نعم أذكر وأنا معه في المسجد الحرام وقد دخل فيه السيل والناس يقومون على المقام يخرج الخارج فيقول : قد ذهب به السيل ، ويدخل الداخل فيقول : هو مكانه.

قال فقال : يا فلان ما يصنع هؤلاء؟ فقلت : أصلحك الله يخافون أن يكون السيل قد ذهب بالمقام ، قال : ان الله عزوجل قد جعله علما لم يكن ليذهب به ، فاستقروا.

وكان موضع المقام الذي وضعه ابراهيم عليه‌السلام عند جدار البيت ، فلم يزل هناك حتى حوله أهل الجاهلية الى المكان الذي هو فيه اليوم ، فلما فتح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مكة رده الى الموضع الذي وضعه ابراهيم عليه‌السلام ، فلم يزل هناك الى أن ولي عمر فسأل الناس من منكم يعرف المكان الذي كان فيه المقام؟ فقال له رجل : أنا قد كنت أخذت مقداره بنسع فهو عندي ، فقال : ايتني به ، فأتاه فقاسه ، ثم رده الى ذلك المكان (١).

فالصواب في الجواب أن يقال : مقام ابراهيم عبارة عن الحجر الذي قام عليه وغسل ، فانغمست قدماه وبقي أثره فيه ، فحيثما كان هذا الحجر من المسجد يصدق عليه أنه مقام ابراهيم ، فاذا صلى عنده يصدق عليه أنه اتخذ من مقام ابراهيم مصلى ، فيكون ممتثلا فيخرج عن عهدة التكليف.

وبالجملة تقرير الائمة عليهم‌السلام على الصلاة خلفه في هذا المكان من دون أن يغيره أمير المؤمنين عليه‌السلام في زمن خلافته وبسط يده ، أو يبين باقي الائمة عليهم‌السلام أن الصلاة في موضعه الاول يدل على أن موضع صلاة الطواف هو خلف المقام وأحد جانبيه أينما وقع في المسجد ، كما يفهم من ظاهر قوله تعالى « وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٢ / ٢٤٣ ـ ٢٤٤.


إِبْراهِيمَ مُصَلًّى » (١).

ويدل عليه أيضا صحيحة ابراهيم بن أبي محمود ، قال قلت للرضا عليه‌السلام : اصلي ركعتي طواف الفريضة خلف المقام حيث هو الساعة ، أو حيث كان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ قال : حيث هو الساعة (٢).

وهذه مع صحتها وصراحتها فيما قلناه صريحة في تغيير مكان المقام على ما كان عليه في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومثلها في الدلالة صحيحة زرارة السابقة ، فان طريق الصدوق في الفقيه اليه صحيح ، كما يظهر من مشيخته ، وكأنا قد نقلناه في بعض المسائل السالفة.

فانكار العلامة قدس‌سره أمثال هذه الصحاح من الاخبار ، وعدم اعتباره لها وذهابه الى المشهور ، وقد قيل : رب مشهور لا أصل له ، مما لا وجه له ولا عبرة به وكأنه كان ذاهلا عنها وقت الجواب ، والا فلا باعث له عليه مع ظهور ما سبق من الجواب الصواب المستفاد من السنة والكتاب.

ثم لا يذهب عليك أن هذه الصحاح من الاخبار مع ما نقلناه من الخاصة والعامة صريحة في عدم ايمان الثاني بالله وبرسوله ، ومعاندته لهما ، وبقائه على ما كان عليه من الحمية الجاهلية ، وميله اليهم ودلالته عليهم ، فعليه وعليهم ما عليه وعليهم.

١٥ ـ مسألة

[ حكم حج المخالف لو استبصر ]

قال الفاضل الاردبيلي قدس‌سره في شرح الارشاد بعد نقله صحيحة بريد بن

__________________

(١) سورة البقرة : ١٢٥.

(٢) تهذيب الاحكام ٥ / ١٣٧ ، ح ١٢٥.


معاوية العجلي ، قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل حج وهو لا يعرف هذا الامر ثم من الله عليه بمعرفته والدينونة به عليه حجة الاسلام أو قد قضى فريضة ، فقال : قد قضى فريضة ، ولو حج لكان أحب الي.

قال : وسألته عن رجل وهو في بعض هذه الاصناف من أهل القبلة ناصب متدين ثم من الله عليه فعرف هذا الامر يقضي حجة الاسلام؟ فقال : يقضي أحب الي.

وقال : كل عمل عمله وهو في حال نصبه وضلالته ثم من الله عليه وعرفه الولاية ، فانه يؤجر عليه الا الزكاة فانه يعيدها ، لانه وضعها في غير مواضعها لانها لاهل الولاية. وأما الصلاة والحج والصيام ، فليس عليه قضاء (١).

وحسنة عمر بن اذينة ، قال : كتبت الى أبي عبد الله عليه‌السلام أسأله عن رجل حج ولا يدري ولا يعرف هذا الامر ، ثم من الله عليه بمعرفته والدينونة به ، أعليه حجة الاسلام أو قضى فريضة الله؟ قال : قد قضى فريضة الله والحج أحب الي.

وعن رجل وهو في بعض هذه الاصناف من أهل القبلة ناصب متدين ، ثم من الله عليه فعرف هذا الامر ، أيقضي عنه حجة الاسلام أو عليه أن يحج من قابل؟ قال : يحج أحب الي (٢).

وحسنة زرارة وبكير والفضيل ومحمد بن مسلم وبريد العجلي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام أنهما قالا : في الرجل يكون في بعض هذه الاهواء الحرورية والمرجئة والعثمانية والقدرية ، ثم يتوب ويعرف هذا الامر ويحسن رأيه ، أيعيد كل صلاة صلاها أو صوم او زكاة أو حج ، أو ليس عليه اعادة شي‌ء من ذلك؟ قال : ليس عليه اعادة شي‌ء من ذلك غير الزكاة ، فانها لا بد أن يؤديها ، لانه وضعها في

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٥ / ٩ ، ح ٢٣.

(٢) تهذيب الاحكام ٥ / ١٠ ، ح ٢٥.


غير موضعها ، وانما موضعها أهل الولاية (١).

انها تدل على اسلام هذه الجماعة ، والا فلا معنى لصحة عباداتهم وخروجهم عن عهدة فريضة الله تعالى والاجر عليها ، وكذا على أنهم غير مخلدين في النار فتأمل ، وهو الظاهر (٢).

أقول : ان أريد أنها تدل على عدم خلودهم فيها بعد ما ماتوا على معرفتهم هذا الامر ، فمسلم ولا نزاع فيه. وان اريد أنها تدل عليه وهم قد ماتوا على ضلالتهم ، فغير مسلم دلالتها عليه.

فان قلت : انها دلت على اسلامهم وصحة عباداتهم ، فهم يستحقون عليها الثواب ، فاما أن يقدم على العقاب ، وهو مع استلزامه المطلوب وهو عدم الخلود لانه كما يتصور من الانتهاء كذلك يتصور من الابتداء ، باطل بالاتفاق ، أو بعكس وهو عين المدعى.

قلت : صحة عباداتهم واستحقاقهم عليها الثواب المستلزم لعدم الخلود موقوف على الاستبصار والولاية ، فان استبصروا صحت وإلا ردت ، وكلامه رحمه‌الله في أنها تدل على عدم خلودهم فيها وهم قد ماتوا على ضلالتهم ، وهذا غير مسلم ، وهو محل النزاع.

فان أصحابنا اختلفوا في من خالفونا في الامامة ، فمنهم من حكم بكفرهم ، لدفعهم ما علم من الدين ضرورة ، وهو النص الجلي على امامة أمير المؤمنين علي عليه‌السلام مع تواتره. وقال الاخرون منهم : انهم فسقة. ثم اختلفوا على أقوال :

الاول : أنهم مخلدون في النار لعدم استحقاقهم الجنة بعد ايمانهم.

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٤ / ٥٤ ، ح ١٤.

(٢) مجمع الفائدة ٦ / ٩٩ ـ ١٠١.


الثاني : أنهم يخرجون منها اليها.

الثالث : أنهم يخرجون منها ، لعدم كفرهم الموجب للخلود ، ولا يدخلون الجنة لعدم ايمانهم المقتضي لاستحقاقهم الثواب ، والمسألة لا تخلو عن اشكال. وظاهر الاخبار الواردة في الطرفين يؤيد الاول ، فمنها ما صح واستفاض عند الفريقين من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية.

ومنها : ما في الكافي عن ابن أبي يعفور عن الصادق عليه‌السلام قال : سمعته يقول ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ، من ادعى امامة من الله ليست له ، ومن جحد اماما من الله ، ومن زعم أن لهما في الاسلام نصيبا (١) وهذا صريح في كفرهم ، ولكنه قابل للتأويل.

ومنها : ما رواه الصدوق بأسانيد متعددة عن أبي حمزة عن علي بن الحسين عليهما‌السلام أنه قال لنا : أي البقاع أفضل؟ فقلت : الله ورسوله أعلم ، فقال : أما أن أفضل البقاع بين الركن والمقام ، ولو أن رجلا عمر ما عمر نوح في قومه ألف سنة الا خمسين عاما يصوم النهار ويقوم الليل في ذلك المكان ، ثم لقى الله بغير ولايتنا لم ينفعه ذلك شيئا (٢).

ومنها : ما ورد في طريق العامة عن أبي امامة الباهلي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن الله تعالى خلق الانبياء من أشجار شتى ، وخلقت أنا وعلي من شجرة واحدة ، فأنا أصلها وعلي فرعها وفاطمة لقاحها ، والحسن والحسين ثمارها ، وأشياعنا أوراقها ، فمن تعلق بغصن من أغصانها نجى ومن زاغ هوى.

ولو أن عبدا عبد الله بين الصفا والمروة ألف عام ، ثم ألف عام ، ثم ألف عام حتى يصير كالشن البالي ، ثم لم يدرك محبتنا ، أكبه الله على منخريه في النار

__________________

(١) اصول الكافى ١ / ٣٧٣ ، ح ٤.

(٢) من لا يحضره الفقيه ٢ / ٢٤٥.


ثم تلا « قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى » (١).

الى غير ذلك من الاخبار ، ونحن قد ذكرنا طرفا منها في أوائل رسالتنا الموسومة بجامع الشتات ، فليطلب من هناك.

١٦ ـ مسألة

[ لو أفتى بالادماء فعلى المفتى شاة ]

قال مولانا أحمد الاردبيلي رحمه‌الله في شرح الارشاد ، بعد أن نقل عن مصنفه أنه قال في المتن : لو أفتاه غيره في تقليم الظفر فقلم ظفره فأدماه ، وجب على المفتي شاة ، ولا يجب على المقلم شي‌ء ، للاصل.

ولرواية اسحاق بن عمار عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : سألته عن رجل نسي أن يقلم أظفاره ، قال فقال : يدعها ، قال قلت : انها طوال ، قال : وان كانت ، قلت : فان رجلا أفتاه أن يقلمها وأن يغتسل ويعيد احرامه ففعل ، قال : عليه دم (٢).

والسند في التهذيب غير صحيح لاسحاق وعبد الله الكناني المجهول ، وان كانت صحيحة في الفقيه والكافي الى اسحاق ، وهو لا بأس به ، وانها ليست بمشتملة على الادماء ، وهو غير ظاهرة في الوجوب على المفتي.

ولرواية اسحاق الصيرفي ، قال قلت لابي ابراهيم عليه‌السلام : ان رجلا أحرم فقلم أظفاره وكانت اصبع له عليلة ، فترك ظفرها لم يقصه ، فافتاه رجل بعد ما أحرم فقصه فأدماه ، قال : على الذي أفتاه شاة (٣).

__________________

(١) كفاية الطالب ص ١٧٨.

(٢) تهذيب الاحكام ٥ / ٣١٤ ، ح ٨٠.

(٣) تهذيب الاحكام ٥ / ٣٣٣ ، ح ٥٩.


وهذه صريحة في الوجوب على المفتى مطلقا ، سواء كان من أهل الافتاء أم لا ، محرما أو محلا بشرط الادماء ، وظاهرة في العدم على المقلم ، ولكن سندها غير واضح ، فتأمل (١).

أقول : لا يخفى عليك بعد ما سبق في المسألة السابقة أن اسحاق الراوي في الروايتين واحد ، وهو اسحاق بن عمار بن حيان الكوفي الصيرفي الامامي الثقة بقرينة المروي عنه ، وهو أبو ابراهيم في الثانية ، وأبو الحسن في الاولى ، وهما كنيتان للكاظم عليه‌السلام ، واسحاق هذا من أصحابه ، فسندهما في الفقيه والكافي في الوضوح وعدمه سيان.

فالقول بعدم وضوح سند الثانية دون الاولى تحكم بحت ، وخاصة على القول بالاتحاد والاشتراك ، كما عليه جماعة منهم الفاضل الشارح على ما سبق.

ثم ان عبد الله الكناني المذكور في كتب الرجال منحصر في عبد الله بن سعيد ابن حيان بن أبجر الكناني أبو عمرو الطبيب ، وهو شيخ من أصحابنا ثقة ، كما صرح به النجاشي في كتابه ، قال : وله كتاب الديات ، رواه عن آبائه وعرضه على الرضا عليه‌السلام والكتاب يعرف بين أصحابنا بكتاب عبد الله بن أبجر ثم أسنده باسناده اليه (٢) فالسند في التهذيب أيضا صحيح.

ثم لا بعد كثيرا في ارجاع ضمير عليه في الرواية الاولى الى المفتي لا الى المقلم ، وتقييد وجوب الدم عليه بالادماء لان الاولى مجملة مطلقة ، والثانية مفصلة مقيدة ، والمجمل والمطلق يحكم عليهما المفصل والمقيد ، كما هو المقرر عندهم ، فيكون مفاد هاتين الروايتين الصحيحتين المتحدين في الراوي والمروي عنه واحدا ، حتى في اطلاق المفتي الشامل للافراد الاربعة ، فتأمل فيه.

__________________

(١) مجمع الفائدة ٧ / ٣٧ ـ ٣٨.

(٢) رجال النجاشى ص ٢١٧.


١٧ ـ مسألة

[ القصر والاتمام ]

قال صاحب المدارك بعد نقله صحيحة محمد بن اسماعيل بن بزيع ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يقصر في ضيعته؟ فقال : لا بأس ما لم ينو مقام عشرة أيام ، الا أن يكون له فيها منزل يستوطنه ، فقلت : ما الاستيطان؟ فقال : أن يكون له فيها منزل يقيم فيه ستة أشهر ، فاذا كان كذلك يتم فيها متى دخلها (١).

وبهذه الرواية احتج الاصحاب على أنه يعتبر في الملك أن يكون قد استوطنه ستة أشهر فصاعدا ، وهي غير دالة على ما ذكروه ، بل المتبادر منها اقامة ستة أشهر في كل سنة.

وبهذا المعنى صرح ابن بابويه في من لا يحضره الفقيه ، فقال بعد أن أورد قوله عليه‌السلام في صحيحة اسماعيل بن الفضل اذا نزلت قراك وأرضك فأتم الصلاة قال مصنف هذا الكتاب : يعنى بذلك اذا أراد المقام في قراه وارضه عشرة أيام ومتى لم يرد المقام بها عشرة أيام قصر ، الا أن يكون له بها منزل يكون فيه في السنة ستة أشهر ، فاذا كان كذلك أتم متى دخلها ، وتصديق ذلك ما رواه محمد بن اسماعيل بن بزيع وأورد الرواية المتقدمة (٢) (٣).

أقول : فهم اشتراط اتمام المسافر الصوم والصلاة في المنزل باقامة فيه ستة

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٣ / ٢١٣.

(٢) من لا يحضره الفقيه ١ / ٢٨٨.

(٣) مدارك الاحكام ٤ / ٤٤٤.


أشهر في كل سنة من هذه الرواية مما يحتاج الى الاستعانة بضرب من الرمل.

والظاهر أن المضارع هنا واقع موقع الماضي ، فانه قد يقع كذلك كما صرحوا به ، ويقتضيه أيضا احتجاج الاصحاب ، اذ لو حمل على معنى الاستقبال أو الحال ، لزم منه أن يكون اتمامه في المنزل بعد وصوله اليه موقوفا على اقامته فيه ستة أشهر استقبالية ، وهو كما ترى.

ويؤيد ما ذكرناه صحيحة سعد بن أبي خلف ، قال : سأل علي بن يقطين أبا الحسن عليه‌السلام عن الدار يكون للرجل أو الضيعة فيمر بها ، قال : اذا كان مما قد سكنه أتم الصلاة فيه ، وان كان مما لم يسكنه فليقصر (١).

فاكتفى في اتمامه الصلاة فيه سكونه فيه وقتا ما قبل أن يمر بها ويصل اليها ، فدل على أن كل من سكن دارا له أو ضيعة ستة أشهر وقتا ما ، فاذا وصل في سفره اليه وجب عليه فيه الاتمام من غير اعتبار أمر آخر ، كسكون كل سنة ودوام الاستيطان ونحوه ، فمن ادعاه فعليه البيان.

ثم أنت خبير بأن ما ذكره انما يتصور في من له منزلان يقيم في كل منهما في كل سنة ستة أشهر ، فاذا سافر من أحدهما ووصل في سفره الى الاخر أتم فيه.

وأما من له منازل متعددة ، أو منزل أقام في كل ستة أشهر فصاعدا ، ثم سافر منها سنة أو أكثر ، فاذا رجع من سفره هذا ووصل الى أحدها لزم مما ذكره أن يجب عليه أن يقصر فيه ، اذ لا يصدق عليه أنه أقام فيه في كل سنة ستة أشهر.

وهذا ينافيه قوله عليه‌السلام في صحيحة اسماعيل بن الفضل اذا نزلت قراك وأرضك فأتم الصلاة ، فاذا كنت في غير أرضك فقصر. فان إقامة ستة أشهر في كل

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٣ / ٢١٢ ـ ٢١٣.


قرية من تلك القرى في كل سنة مما لا يتصور.

وأما تأويله بأن المراد بذلك اذا أراد المقام في قراه عشرة أيام ، فبعيد غايته اذ لا يتصور حينئذ لقوله « اذا نزلت قراك » فائدة ، بل يصير لغوا ، فان على مريد اقامة العشرة أن يتم صلاته في موضع الاقامة ، سواء كان من قراه وأرضه أم لا.

وبالجملة للسفر قواطع ، منها : الاقامة في أثنائه ، ومنها : الوصول الى قرية له فيها ملك استوطنه ستة أشهر ، فأخذ أحدهما في الاخر يجعلهما قاطعا واحدا ، فتأمل.

واعلم أن المستفاد من الاخبار هو أن الوطن الذي يتم فيه هو كل موضع له فيه ملك قد استوطنه ستة أشهر من غير فرق فيه بين المنزل وغيره ، فيكون المنزل والقرية والضيعة ونحوها من أفراد الملك المطلق الشامل لها ولغيرها حتى الشجرة والنخلة الواحدة.

فذكر المنزل في بعض الاخبار ودلالته على أنه يتم في قرية أو ضيعة يكون له فيها منزل ، لا ينافي ما دل على أنه يتم فيها ، ولو لم يكن له فيها الا نخلة واحدة لان ذكر الشي‌ء لا ينفي ما عداه ، وليس في الاخبار ما يدل على قصر الحكم على المنزل.

وأما قوله عليه‌السلام بعد أن سئل عن الرجل يسافر فيمر بالمنزل في الطريق أيتم الصلاة أم يقصر؟ : يقصر انما هو المنزل الذي يوطنه. فالقصر فيه بالاضافة الى الاستيطان ، يعني لا يكفي في الاتمام مطلق المنزل ، بل لا بد وأن يكون مما قد استوطنه ستة أشهر فصاعدا ، فالمضارع هنا أيضا واقع موقع الماضي ، بقرينة ما سبق من قوله عليه‌السلام « اذا كان مما قد سكنه أتم فيه الصلاة ».

وعلى هذا فدلالته على اعتبار دوام الاستيطان ، وكونه مما يناط به حكم الاتمام ممنوعة ، بل يبقى حكمه وان قطع استيطانه ، فهذا توجيه يمكن أن يجمع به بين


الاخبار من غير أن يطرح بعضها ، فهو الاولى بالاعتبار ، لان الجمع بينهما مهما أمكن أولى من اطراح بعضها رأسا ، ولهذا عمم العلامة ومن تأخر عنه في الملك ولم يفرقوا فيه بين المنزل وغيره.

واستدلوا عليه بموثقة عمار بن موسى ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الرجل يخرج في سفر ، فيمر في قرية له أو دار فينزل فيها ، قال : يتم الصلاة ، ولو لم يكن له الا نخلة واحدة ، ولا يقصر وليصم اذا حضره الصوم (١).

نعم الاحوط في كل بلد له فيه منزل قطع استيطانه أو لا منزل له فيه ، وان كان له فيه ملك أن ينوي الاقامة عشرة ليخرج بها عن الخلاف ، واذا لم يمكنه نية الاقامة لعلمه بخروجه غدا أو بعد غد ، فالاحوط أن يجمع فيه بين القصر والاتمام في الصلاة. وأما الصوم فيصوم فيه اذا حضره ، ثم يقضيه احتياطا.

فتأمل فيه وفي أصل المسألة ، فانها مما استشكله بعض الاصحاب ، ومن الله الهداية الى الصراط السوي والطريق الصواب.

١٨ ـ مسألة

[ يحول الامام من صلى على يساره الى يمينه ]

قال في المدارك بعد أن نقل ما رواه الشيخ في التهذيب عن الحسين بن يسار أنه سمع من سأل الرضا عليه‌السلام عن رجل صلى الى جانب رجل ، فقام عن يساره وهو لا يعلم كيف يصنع ، ثم علم وهو في الصلاة ، قال : يحوله عن يمينه (٢) وقد

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٣ / ٢١١.

(٢) تهذيب الاحكام ٣ / ٢٦.


اشتمل هذا الحديث على فوائد تظهر بالتأمل (١) انتهى.

أقول : الاولى من تلك الفوائد استحباب وقوف المأموم عن يمين الامام اذا كان واحدا.

الثانية : عدم بطلان صلاة ذلك الواحد بوقوفه على يسار الامام لان المفروض أنه صلى طائفة من الصلاة ، ثم حوله الامام عليه‌السلام عن يمينه ، كما يدل عليه قوله « ثم علم وهو في الصلاة » فيدل على بطلان قول ابن الجنيد بالبطلان.

الثالثة : استحباب أن يحوله الامام من عن يساره الى يمينه اذا علم في أثناء الصلاة أنه اقتدى به وهو على يساره.

الرابعة : أن أمثال هذه الافعال والحركات لا تضر بالصلاة ، ولا تسمى بالفعل الكثير.

الخامسة : عدم اعتبار نية الامام الامامة في صحة الصلاة وتحقق الجماعة ، لانه كان قد دخل في الصلاة بنية الانفراد ، ثم علم في أثنائها وقد ذهبت طائفة من الصلاة أنه امام وان الصلاة صلاة جماعة.

السادسة : تحقق الجماعة باثنين أحدهما الامام. ويفهم من تخصيص الحكم وهو استحباب القيام عن يمين الامام برجل واحد ، أن ما فوق الواحد ليس حكمه كذلك ، بل يستحب لهم أن يقوموا خلفه ، وتدل عليه صريحا صحيحة ابن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام ، قال : الرجلان يؤم أحدهما صاحبه يقوم عن يمينه ، فان كانوا أكثر من ذلك قاموا خلفه (٢). وهو السابعة.

الثامنة : يفهم من تخصيص الحكم بالرجل أن المرأة ليس حكمها كذلك ، بل يستحب لها التأخر عن الامام اذا كان رجلا ، كما هو المفروض في السؤال.

__________________

(١) المدارك ٤ / ٣٣٨ ـ ٣٣٩.

(٢) تهذيب الاحكام ٣ / ٢٦.


وتدل عليه صريحا رواية أبي العباس ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يؤم المرأة؟ قال : نعم تكون خلفه (١).

التاسعة : يستفاد منه أن الامام اذا علم قبل شروعه في الصلاة أن القائم عن يساره يريد الافتداء به ، استحب له اعلامه باستحباب قيامه عن يمينه.

لا يقال : بعض ذلك يستفاد من كلام السائل أو بانضمامه.

لانا نقول : تقرر المسؤول له عليه يدل على كونه حقا حجة شرعا ، موافقا لما عليه المسؤول عنه ، والا وجب عليه اعلامه بما يخالفه ، لئلا يلزم اغراؤه على الجهل فتدبر.

واعلم أن هذا الحديث مجهول السند بعلي بن أحمد بن أشيم الواقع في طريقه ، فلا عبرة بأصله ، فكيف بما يستفاد منه ، ولكن له ولما يستفاد منه مؤيدات من الاخبار ، كما أشير الى نبذة منها ، ولعله قدس‌سره لذلك ذكره ، فتأمل.

١٩ ـ مسألة

[ الصلاة فى المكان المغصوب ]

قال الشيخ في المبسوط : لو صلّى في مكان مغصوب مع الاختيار ، لم تجز الصلاة فيه ، ولا فرق بين أن يكون هو الغاصب ، أو غيره ، ممن أذن له في الصلاة ، لانه اذا كان الاصل مغصوبا لم تجز الصلاة فيه (٢).

أقول : ظاهره يفيد عدم جوازها فيه مطلقا ، أذن له المالك في الصلاة فيه أم لم يأذن ، ودليلهم أيضا يعمه ، لانهم استدلوا على بطلانها فيه بأن الحركات

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٣ / ٢٦٧.

(٢) المبسوط ١ / ٨٤.


والسكنات الواقعة فيه منهي عنها ، فلا تكون مأمورا بها ، ضرورة استحالة كون شي‌ء مأمورا به ومنهيا عنه ، فاستثناؤهم من أذن له في الصلاة يحتاج الى دليل.

وأما قولهم « لو أذن المالك للغاصب أو غيره في الصلاة ارتفع المنع لارتفاع النهي » فممنوع ، لانا لا نسلم ارتفاعه به ، اذ الصلاة في المكان المغصوب انما كانت منهيا عنها لكونه مغصوبا.

كما يشعر به تعليق الحكم على الوصف في قولهم « لا تصح أو لا تجوز الصلاة في المكان المغصوب » أي : لاجل كونه مغصوبا ، ولذلك قال الشيخ : اذا كان الاصل مغصوبا لم تجز الصلاة فيه ، أي : لاجل الغصب ، واذن المالك للصلاة فيه لا يرفع عنه صفة الغصب ما دام مغصوبا ، فيكون النهي باقيا لبقاء علته.

وبالجملة البطلان تابع للنهي لانه مفسد ، والنهي موجود هنا لوجود علته وهي الغصب ، والخصم معترف بوجودها وبقائه كما سيأتي ، فللشيخ أن يقول : مقتضى الدليل بطلان الصلاة فيه لكونه مغصوبا منهيا عنه من غير تعليل النهي بأنه تصرف في ملك الغير بغير اذنه ، حتى اذا أذن له ارتفع به النهي.

فلعل علته خصوصية الغصب ، وهو الاستيلاء على مال الغير بغير حق ، أو أمر آخر لا نعلمه نحن ، فان كثيرا من الحكم والمصالح لا تبلغه عقولنا ، فمن ادعى حصر العلة في عدم جواز التصرف في ملك الغير فعليه البيان.

بل نقول : لو كانت علة النهي عن الصلاة في المكان المغصوب مجرد عدم جواز التصرف في مال الغير بلا اذنه ، كما ظنه الفاضل الاردبيلي رحمه‌الله في شرحه على الارشاد.

حيث قال : واعلم أن سبب بطلان الصلاة في الدار المغصوب مثلا هو النهي عن الصلاة فيها ، المستفاد من عدم جواز التصرف في مال الغير (١).

__________________

(١) مجمع الفائدة ٢ / ١١٠.


لم يكن لذكر الغصب في ذلك مدخل ، فان في صورة عدم الغصب أيضا لا يجوز التصرف فيه بدون اذنه ، فكان من الواجب عليهم أن يقولوا : كل مكان مملوك أو مأذون فيه تجوز الصلاة فيه ، مغصوبا كان أم غير مغصوب ، وكل ما ليس كذلك لا تجوز فيه ذلك كذلك.

فما فائدة ذكر الغصب وتعليق الحكم عليه بخصوصه بعد اشتراطهم الاذن في مكان المصلي ، اذا لم يكن مملوكا له في قولهم تجوز الصلاة في كل مكان مملوك أو ما في حكمه ، كالمأذون فيه صريحا أو فحوى أو بشاهد الحال ، وتبطل في المكان المغصوب مع العلم بالغصب ، فان هذا صريح في أن الغصب اما وحده ، أو هو مع عدم الاذن علة للبطلان ، والا لكان ذكر الغصب وتعليق الحكم عليه بعد الاشتراط المذكور لغوا مستدركا.

واذا ثبت أن الغصب وحده ، أو هو مع عدم الاذن علة لبطلانها ، لا مجرد عدم الاذن ، فما دام يكون مغصوبا تكون الصلاة فيه باطلة ، أذن أم لم يأذن.

فيفهم منه أن اذنه له في الصلاة فيه مما لم يفده اباحة ، اذ لا يرتفع معه النهي لوجود علته ، فلا يرتفع به المنع ، بل بمثل هذا يمكن الحكم ببطلان صلاة المالك فيه أيضا. ولذا اشتهر من السيد الداماد رحمه‌الله أنه كان لا يصح صلاة مالك المكان المغصوب فيه.

هذا وقال صاحب المدارك فيه بعد نقل كلام الشيخ : الظاهر أن مراده بالاذن اذن الغاصب ، كما ذكره العلامة ، وان كان الوهم لا يذهب الى احتمال الجواز مع اذنه ، اذ لا يستقيم ارادة المالك للقطع بجواز الصلاة مع اذنه ، وان بقي الغصب في الجملة.

وقال المصنف في المعتبر : ان مراده بالاذن هنا المالك (١). وهو بعيد جدا ،

__________________

(١) المعتبر ٢ / ١٠٩.


اذ لا وجه للبطلان على هذا التقدير.

ووجهه الشهيد في الذكرى ، بأن المالك لما لم يكن متمكنا من التصرف ، لم تفد اذنه الاباحة ، كما لو باعه فان البيع يكون باطلا ، ولا يجوز للمشتري التصرف فيه (١) ، ولا ريب في بطلان هذا التوجيه ، لمنع الاصل وبطلان القياس (٢) انتهى.

وأنت خبير بأن ما ذكره العلامة ، وتبعه فيه صاحب المدارك ، من أن مراده بالاذن اذن الغاصب ، مما يجعل كلامه لغوا غير مفيد كما اعترفوا به ، وذلك أن قوله « ممن أذن له » أي : الغاصب في الصلاة ، ثم تعليله بأنه اذا كان الاصل مغصوبا لم تجز الصلاة فيه ، يصير حينئذ عديم الفائدة.

ومن ذا الذي يتوهم أن اذن الغاصب يؤثر في الاباحة ، حتى يحتاج في دفعه الى دليل ، وأي حق له في هذا المكان؟ مع فرض أن يده فيه من يد العدوان حتى يحتاج الى اذنه ، وكيف يتصور من مثل الشيخ أمثال هذه الارادات وتحرير هذه الافادات ، وهي ممن له أدنى معارفة في هذا الشأن بعيد غايته.

والظاهر من كلامه رحمه‌الله ما أومأنا اليه ، لان اذن المالك لما كان مظنة التأثير في الاباحة نفاه أولا ، ثم علله بأن أصل المكان لما كان مغصوبا ، لم يؤثر في اباحته اذن المالك ، فلم تجز الصلاة فيه ، أذن له في الصلاة أم لم يأذن ، لان بقاء الغصب مع اذنه ، كما اعترفوا به ، دليل على بقاء حكمه ، وهو النهي عن الصلاة فيه ، ضرورة بقاء المعلول ببقاء علته.

وقد سبق أن البطلان تابع للنهي ، لانه في العبادات مفسد ، ومعه يلزم اجتماع الامر والنهي على شي‌ء واحد ، فيكون مأمورا به ومنهيا عنه ، وقد مر أنه ضروري

__________________

(١) الذكرى ص ١٥٠.

(٢) مدارك الاحكام ٣ / ٢١٨ ـ ٢١٩.


الاستحالة ، فكيف يدعى القطع بجواز الصلاة فيه والحال هذه.

ومنه يظهر أن ما ذكره في المعتبر معتبر ، ولا بعد فيه ، لظهور وجه البطلان على هذا التقدير ، وان ارادة المالك مستقيمة من غير تكلف فيها بخلاف ارادة الغاصب فانها غير مستقيمة ، لا يزيدها التكليف لا تكلفا وتعسفا ، وما أنا من المتكلفين ولا المتعسفين ، والحمد لله رب العالمين ، والصلاة على سيد المرسلين وعترته هداة الدين.

٢٠ ـ مسألة

[ مساواة موضع الجبهة لموضع القدم ]

قال صاحب المدارك بعد نقل قول المصنف « الثالث : أن ينحني للسجود حتى يساوي موضع جبهته موقفه ، الا أن يكون علوا يسيرا بمقدار لبنة لا أزيد » : هذا هو المعروف من مذهب الاصحاب ، وأسنده في المنتهى الى علمائنا مؤذنا بدعوى الاجماع عليه.

وقال المصنف في المعتبر : ولا يجوز أن يكون موضع السجود أعلى من موقف المصلي بما يعتد به مع الاختيار ، وعليه علماؤنا ، لانه يخرج بذلك عن الهيئة المنقولة عن صاحب الشرع ، وقيد الشيخ حد الجواز لبنة ومنع ما زاد (١) هذا كلامه رحمه‌الله ، ومقتضاه أن هذا التقدير مختص بالشيخ.

وربما كان مستنده ما رواه عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال سألته عن السجود على الارض المرتفعة ، فقال : اذا كان موضع جبهتك مرتفعا عن

__________________

(١) المعتبر ٢ / ٢٠٧.


موضع بدنك قدر لبنة ، فلا بأس (١).

وجه الدلالة أنه عليه‌السلام علق نفي البأس على الارتفاع بقدر لبنة ، فيثبت مع انتفاء الشرط ، وهو حجة ، لكن يمكن المناقشة في سند الرواية ، بأن من جملة رجالها النهدي ، وهو مشترك بين جماعة منهم من لم يثبت توثيقه ، مع أن عبد الله بن سنان روى في الصحيح ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن موضع جبهة الساجد أيكون أرفع من مكان مقامه؟ قال : لا ولكن يكون مستويا. ومقتضاها المنع من الارتفاع مطلقا ، وتقييدها بالرواية الاولى مشكل (٢).

أقول : النهدي مشترك بين هيثم بن أبي مسروق ، ومحمد بن أحمد بن خاقان وداود بن محمد. والاول فاضل كما صرح به الكشي في ترجمة عبد الله النهدي أبي مسروق أبيه (٣).

وقال النجاشي : هيثم بن أبي مسروق كوفي قريب الامر ، له كتاب النوادر قال ابن بطة : حدثنا محمد بن علي بن محبوب عنه (٤).

وقد عد بعضهم كل واحد من هذين الوصفين ، وهما الفاضل وقريب الامر من ألفاظ التعديل ، فاذا اجتمعا معا في واحد من اثنين من أئمة الرجال ، يغلب به الظن على تعديله ، خلافا للشهيد الثاني رحمهما‌الله في دراية الحديث ، فانه جعل فيه كلا منهما أعم منه.

ثم قال نعم كل واحد منهما يفيد المدح ، فيلحق حديث المتصف به بالحسن ولعل نظر العلامة الى الاول ، حيث أنه حكم بصحة طريق هو فيه.

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٢ / ٣١٣.

(٢) مدارك الاحكام ٣ / ٤٠٧.

(٣) اختيار معرفة الرجال ٢ / ٦٧٠.

(٤) رجال النجاشي ص ٤٣٧.


والثاني مختلف فيه ، فنقل الكشي عن أبي النضر محمد بن مسعود أنه كوفي فقيه ثقة خير (١) ، وذكر في ترجمة محمد بن ابراهيم الحضيني ما يدل على ظهور اعتبار كلامه وافادته (٢).

وقال ابن الغضائري : انه كوفي ضعيف يروي عن الضعفاء ، ومثله ما قال النجاشي : انه كوفي مضطرب له كتب ، ثم ذكر الاسناد اليه (٣).

والظاهر أن أحدهما تبع الاخر في ذلك ، فلا بعد في ترجيح تعديله على الجرح ، لان أبا النضر أقدم منهما ، وأعلم وأفضل وأبصر بأحوال الرجال ، وله يد طولاء وقدم راسخة في أكثر الفنون ، ولا سيما في الاخبار ، فانه مضطلع بها وقد صنف أكثر من مائتي مصنف ، وكان له مجلس للخاصي ومجلس للعامي ، وهو ثقة صدوق عين من عيون هذه الطائفة. يظهر كل ذلك المناظر فيما نقل في ترجمته من أوصافه الشريفة ، فارجع اليه ثم انظر واذعن بما هو الحق من ذلك.

والثالث ثقة له كتاب يرويه عنه الصفار ويحيى بن زكريا اللؤلؤي.

اذا تمهد هذا فنقول : روى الشيخ في التهذيب عن محمد بن علي بن محبوب عن النهدي ، عن ابن أبي عمير ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن السجود على الارض المرتفعة الحديث (٤).

والسند كما دريت : اما صحيح ، أو حسن ، لان المراد بالنهدي فيه هيثم بن أبي مسروق ، بقرينة رواية ابن محبوب عنه ، فهذه مما يقطع الشركة فيه ، فالقول باشتراكه في السند المذكور انما شاء من عدم الرجوع الى الرجال ، وعدم التدبر

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال ٢ / ٨١٢.

(٢) اختيار معرفة الرجال ٢ / ٨٣٥.

(٣) رجال النجاشي ص ٣٤١.

(٤) تهذيب الاحكام ٢ / ٣١٣.


فيما فيها ، والا فالامر أبين من أن يشتبه على من له أدنى معارفة في هذا الشأن ، والحمد لله ولي الاحسان ، والصلاة على محمد وآله صواحب القرآن.

هذا ومما قررناه يظهر لك أنه لا بد من تقييد احدى صحيحتي ابن سنان بالاخرى منهما ، فان التوفيق بين الصحيحتين أو الصحيحة والحسنة مهما أمكن ، أولى من اطراح احداهما رأسا ، ولا سيما اذا كانت مما تلقاه بالقبول جم غفير من الفحول بل انعقد على مضمونه اجماعهم ، كما يظهر من التأمل فيما نقل عن المنتهى والمعتبر.

والحمد لله عدد المدر والقطر والشجر ، والصلاة على نبيه محمد وآله ما بزغت الشمس والقمر.

٢١ ـ مسألة

[ وجوب ايصال الماء الى البشرة فى الوضوء والغسل ]

قال صاحب المدارك بعد قول المصنف قدس‌سرهما « ومن في يده خاتم أو سير ، فعليه ايصال الماء الى ما تحته ، ولو كان واسعا استحب له تحريكه » : أما وجوب ايصال الماء الى ما تحت الخاتم والسير على وجه يحصل به مسمى الغسل فظاهر لعدم تحقق الامتثال بدونه.

ولما رواه علي بن جعفر في الصحيح عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : سألته عن المرأة عليها السوار والدملج في بعض ذراعها ، لا تدري يجري الماء تحتها أم لا كيف تصنع اذا توضأت أو اغتسلت؟ قال : تحركه حتى يدخل الماء تحته أو تنزعه (١).

__________________

(١) فروع الكافى ٣ / ٤٤ ، ح ٦.


ويعلم من ذلك وجوب ازالة الوسخ الكائن تحت الظفر المانع من وصول الماء الى ما تحته اذا لم يكن في حد الباطن ، واحتمل في المنتهى عدم وجوب ازالته ، لانه ساتر عادة ، فلو وجب ازالته لبينه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولما لم يبينه دل على عدم الوجوب ، وهو ضعيف (١).

أقول : هذا يختلف باختلاف طول الظفر وقصره ، فاذا كان طويلا واجتمع تحته وسخا ما بينه وبين طرف الاصبع ، فهو من الباطن لانه مستور به ، فلا تجب ازالته ، ولانه يستلزم المشقة والعسر ، وخاصة بالاضافة الى بعض المتحرفين ، كالبناء والعملة وأمثالهم من أهل الحرف ، فانهم كلما أزالوا الوسخ الكائن تحت هذا الظفر ، فاذا اشتغلوا بالعمل اجتمع تحت أظفارهم هذه مثله من الوسخ ، ولا يمكن ازالته الا بالخلال ونحوه ، وهذا ضيق وعسر منفيان بالاية والرواية.

وأما اذا كان الظفر قصيرا واجتمع تحته وأطرافه وسخا ، فهو من الظاهر لكونه مرئيا غير مستور بالظفر ، فتجب ازالته اذا كان له جرم مانع من وصول الماء الى ما تحته من أطراف الاصابع ، ومنه ما يجتمع من الاوساخ على منابت الاظفار تحت الجلود المحيطة بها وما يتصل بتلك الجلود الكائنة على الهيئة الهلالية أو النعلية.

ويعلم من هذا التفصيل أن ما أفاد سيدنا محمد ، وما احتمله آية الله العلامة ، كلاهما صحيحان كل في موضعه.

ثم من الظاهر أن النبي وعترته المعصومين عليهم‌السلام قد بينوا وجوب ازالة الموانع من وصول الماء الى محل الوضوء والغسل اذا كان من الظواهر ، ولذلك حكموا بوجوب تحريك الدملج ونحوه ، أو نزعه اذا كان ضيقا مانعا من وصول الماء الى ما تحته.

هذا وأما الثقبة الكائنة على محل الوضوء أو الغسل ، فان كانت واسعة بحيث

__________________

(١) مدارك الاحكام ١ / ٢٣٦ ـ ٢٣٧.


يرى باطنها ، وجب ادخال الماء فيها ، لان باطنها صار بذلك من الظواهر ، وان لم تكن كذلك بأن كانت ضيقة لا يرى باطنها ، فلا يجب ادخال الماء ، اذ لا يعد باطنها من الظواهر.

ولذلك قال بعض المحققين : داخل الاذن والثقب الذي فيها للحلقة اذا كان بحيث لا يرى باطنه ، فهو من البواطن على الاظهر ، وبعد ما حكم به المحقق الشيخ علي رحمه‌الله من وجوب ايصال الماء الى باطنه مطلقا ، وهو كذلك لان داخل الفم والاذن اذا كان من البواطن ، فكون هذا منها أولى ، فتأمل.

٢٢ ـ مسألة

[ اغتسال من وجب عليه القتل ]

قال المحقق في الشرائع : من وجب عليه القتل يؤمر بالاغتسال قبل قتله ، ثم لا يغسل بعد ذلك.

قال صاحب المدارك : المراد أمره بأن يغتسل غسل الاموات ثلاثا مع الخليطين ، وكذا يجب أمره بالحنوط ، كما صرح به الشيخ وأتباعه ، وزاد ابنا بابويه والمفيد تقديم التكفين أيضا.

والمستند في ذلك كله رواية مسمع كردين ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : المرجوم والمرجومة يغسلان ويحنطان ويلبسان الكفن قبل ذلك ، ثم يرجمان ويصلى عليهما ، والمقتص منه بمنزلة ذلك يغسل ويحنط ويلبس الكفن ويصلى عليه (١).

وهي ضعيفة السند جدا ، لكن قال في المعتبر : ان الخمسة وأتباعهم أفتوا

__________________

(١) فروع الكافى ٣ / ٢١٤ ، ح ١.


بذلك ، وانه لا يعلم فيه للاصحاب خلافا (١).

أقول : يستفاد من هذا أن مستندهم في ذلك ليس هو هذه الرواية الضعيفة السند بسهل بن زيد الادمي ، ومحمد بن الحسن بن شمون البغدادي الواقفي الغالي الفاسد المذهب ، لان السيد المرتضى وهو من الخمسة لا يعمل بالاخبار الصحيحة اذا كانت من الاحاد فضلا عن الضعيفة ، فكيف يفتي بذلك كله؟ ويكون مستنده فيه هو هذه الرواية ، بل الظاهر أن مستندهم فيه اجماعهم ، كما هو ظاهر المعتبر (٢).

فالحق أن يقال : ان مستند هذه الاحكام كلها هو الاجماع ، وأما الرواية فانها ضعيفة لا يثبت بها حكم.

فان قلت : لعل مراده أن هذه الرواية وان كانت ضعيفة السند ، الا أن ضعفه منجبر بعمل الاصحاب بها.

قلت : هذا مع بعده عن العبارة لا يدفع ما ذكرناه من عدم عمل بعضهم بها ، فكيف يصح أن تكون سندا لفتواه وهو لا يعمل بها. نعم وافق مضمونها لما عليه اجماعهم ، وهذا لا يدل على أنها كانت سندا لفتياهم حتى ينجبر ضعفها به كما هو المدعى.

وأيضا فان الشيخ أبا جعفر الطوسي ، وهو من الخمسة قال في كتابه المسمى بالعدة : وأما ما يرويه الغلاة ، فان كانوا ممن عرف لهم حال الاستقامة وحال الغلو عمل بما رووه في حال الاستقامة ، وترك ما رووه في حال تخليطهم ، فانه لا يجوز العمل به على حال (٣).

فمن كان هذا كلامه كيف يعمل برواية هذا الغالي الضعيف المتهافت ، ويسند

__________________

(١) مدارك الاحكام ٢ / ٧١ ـ ٧٢.

(٢) المعتبر ١ / ٣٤٧.

(٣) عدة الاصول ص ٣٨١.


هذه الاحكام كلها اليها ، ولا قرينة تدل على أنه رواها حال استقامته.

ولذلك قال ابن الغضائري : محمد بن الحسن بن شمون أصله بصري واقف ثم غلا ، لا يلتفت اليه ولا الى مصنفاته وسائر ما ينسب اليه (١) فيعلم من ذلك كله أن مستندهم في ذلك كله انما هو اجماعهم لا هذه الرواية الضعيفة.

ثم قال صاحب المدارك : وأما عدم وجوب تغسيل من هذا شأنه بعد ذلك فظاهر ، لعدم مشروعية التعدد (٢).

أقول : هذا الدليل لو تم لدل على عدم جواز تغسيله بعد ذلك ، كما هو ظاهر كلام المصنف ، لا عدم وجوبه الدال بمفهومه على مشروعية التعدد بطريق الندب أو الكراهة أو الاباحة ، فان المباح من أقسام المشروع ، ولذا لا يقال لفاعله انه خالف به الشرع ، فهذا الدليل لا يطابق الدعوى فتأمل فيه.

وانما قلنا بعدم تماميته ، لان كل شي‌ء مطلق حتى يرد فيه نهي ، وتعدد تغسيله مما لم يرد فيه فيما علمناه نهي ، فهو على اباحته الاصلية الشاملة للاقسام الثلاثة المذكورة.

نعم الواجب من التغسيل واحد ، وأما أن الزائد عليه حرام غير مشروع ، فنطالبهم عليه بالدليل ، الا أن يقال : انه من أقسام العبادات ، فيكون موقوفا على نص من الشارع ، ولا يكفي فيه مجرد عدم ورود النهي عنه ، فتأمل.

__________________

(١) رجال العلامة ص ٢٥٢.

(٢) المدارك ٢ / ٧٢.


٢٣ ـ مسألة

[ حكم السفر قبل صلاة العيد ]

قال المحقق في الشرائع : اذا طلعت الشمس حرم السفر حتى يصلي صلاة العيدان كان ممن يجب عليه ، وفي خروجه بعد الفجر قبل طلوعها تردد ، والاشبه الجواز (١).

قال صاحب المدارك : منشأ التردد أصالة الجواز السالمة من معارضة الاخلال بالواجب ، وقوله عليه‌السلام في رواية أبي بصير : اذا أردت الشخوص في يوم عيد فانفجر الصبح وأنت في البلد ، فلا تخرج حتى تشهد ذلك العيد (٢).

قال في الذكرى : ولما لم يثبت الوجوب حمل النهي عن السفر على الكراهة (٣). ويشكل بعدم المنافاة بين الامرين حتى يتوجه الحمل ، لكن الراوي وهو أبو بصير مشترك بين الثقة والضعيف ، فلا يصح التعلق بروايته والخروج بها عن مقتضى الاصل (٤).

أقول : قد مر مرارا أن القول باشتراك أبي بصير اشتباه ، بل هو ثقة صحيح يصح التعلق بروايته ، والخروج بها عن مقتضى الاصل ، اذا لم يكن في الطريق مانع من غير جهته.

ولذلك تردد المحقق أولا ثم حمل النهي على الكراهة ، ورجح جانب الجواز

__________________

(١) شرائع الاسلام ١ / ١٠٢.

(٢) تهذيب الاحكام ٣ / ٢٨٦.

(٣) الذكرى ص ٢٣٩.

(٤) مدارك الاحكام ٤ / ١٢٢ ـ ١٢٣.


لعدم تعلق وجوب صلاة العيد بالذمة قبل طلوعها ، فلا يلزم من الخروج الى السفر حينئذ الاخلال بالواجب ، فلا يكون محرما ، بل غايته الكراهة ، وكل مكروه جائز ، ولذلك حكم به ، لا لعدم صحة التعلق بروايته ، فتأمل.

٢٤ ـ مسألة

[ احكام قنوت الجمعة ]

اختلفوا في قنوت الجمعة ، فالمشهور بين الاصحاب أن فيها قنوتين ، في الاولى قبل الركوع ، وفي الثانية بعده ، وهو المعتمد ، لو قلنا بشرعيتها في هذه الازمان.

لصحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : كل القنوت قبل الركوع الا الجمعة ، فان الركعة الاولى القنوت فيها قبل الركوع والاخيرة بعد الركوع (١).

ومثلها صحيحة زرارة بن أعين عن الباقر عليه‌السلام وعلى الامام فيها قنوتان : قنوت في الركعة الاولى قبل الركوع ، وفي الثانية بعد الركوع.

وقال الصدوق رحمه‌الله في الفقيه بعد نقله هذه الرواية تفرد بها حريز عن زرارة ، والذي أستعمله وأفتي به ونص عليه مشايخي رحمهم‌الله هو أن القنوت في جميع الصلوات في الجمعة وغيرها في الركعة الثانية بعد القراءة وقبل الركوع (٢).

وقال المفيد ومن تبعه : ان في الجمعة قنوتا واحدا في الركعة الاولى قبل

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٢ / ٩٠.

(٢) من لا يحضره الفقيه ١ / ٢٦٦.


الركوع ، واختاره صاحب المدارك (١).

واستدل عليه بصحيحة معاوية بن عمار ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : في قنوت الجمعة اذا كان اماما قنت في الركعة الاولى ، وان كان يصلي أربعا ففي الركعة الثانية قبل الركوع (٢).

وصحيحة سليمان بن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : القنوت يوم الجمعة في الركعة الاولى (٣).

وأنت خبير بأنهما لم تدلا على أنه قبل الركوع ، وهو جزء المدعى ، فلم يثبت بتمامه.

وأما قوله عليه‌السلام في صحيحة معاوية بن عمار ما أعرف قنوتنا الا قبل الركوع (٤) ، فهو مخصوص بغير الجمعة ، والمخصص ما سبق من صحيحتي زرارة وأبي بصير.

نعم دلت على هذا المدعى بتمامه صحيحة عمر بن يزيد عنه عليه‌السلام قال : اذا كانوا سبعة يوم الجمعة فليصلوا في جماعة ، وليلبس البرد والعمامة ، الى قوله عليه‌السلام : ويجهر بالقراءة ، ويقنت في الركعة الاولى منهما قبل الركوع (٥).

والظاهر أن هذه الاخبار محمولة على التقية ، كما أومأ اليه صاحب الوافي قدس‌سره في حاشيته على رسالته الجمعة ، بعد نقل صحيحة عمر بن يزيد ، بقوله : لعل سكوته عليه‌السلام عن القنوت الثاني للتقية انتهى.

__________________

(١) مدارك الاحكام ٣ / ٤٤٧.

(٢) فروع الكافى ٣ / ٤٢٧ ، ح ٢.

(٣) تهذيب الاحكام ٣ / ١٦.

(٤) فروع الكافى ٣ / ٣٤٠ ، ح ١٣.

(٥) تهذيب الاحكام ٣ / ٢٤٥ ، ح ٤٦.


وانما اختار صاحب المدارك قدس‌سره ما اختار ، لزعمه اشتراك أبي بصير بين الثقة والضعيف ، فروايته عنده لا تصلح للاعتماد عليها. وأما رواية زرارة ، فقال : انها تصلح مستندا للقول الاول لو كانت متصلة وهذا منه غريب ، فان طريق الصدوق في الفقيه الى زرارة صحيح متصل ، كما يظهر من مشيخته.

حيث قال : وما كان فيه عن زرارة بن أعين ، فقد رويته عن أبي رضي‌الله‌عنه ، عن عبد الله بن جعفر الحميري ، عن محمد بن عيسى بن عبيد ، والحسن بن ظريف وعلي بن اسماعيل ، كلهم عن حماد بن عيسى ، عن حريز بن عبد الله ، عن زرارة ابن أعين (١).

والسند كما ترى صحيح ، فاذا أكد بمثله في الصحة والدلالة على أن القنوت في الاولى قبله وفي الثانية بعده ، يصلح أن يعارض ما يخالفه ، فليحمل على التقية ، كما حمله عليها آخوندنا فيض قدس‌سره.

ومنه يعلم أن ما تفرد حريز بروايته عن زرارة مما لا يقدح في العمل به ، لتأكده بصحيحة أبي بصير ، وباشتهاره بين الاصحاب وعمل أكثرهم ، فتأمل.

٢٥ ـ مسألة

[ وجوب الاتمام فى سفر المعصية ]

قال سيدنا قدس‌سره في المدارك بعد صحيحة عمار بن مروان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سمعته يقول : من سافر قصر وأفطر ، الا أن يكون رجلا سفره الى صيد أو في معصية الله أو رسول لمن يعصي الله عزوجل ، أو طلب عدو ، أو

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٤ / ٤٢٥.


شحناء أو سعاية أو ضرر على قوم مسلمين (١).

ورواية عبيد بن زرارة ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يخرج الى الصيد أيقصر أم يتم؟ قال : يتم لانه ليس بمسير حق (٢).

اطلاق النص وكلام الاصحاب يقتضي عدم الفرق في السفر المحرم بين من كانت غاية سفره معصية ، كقاصد قطع الطريق بسفره ، وكالمرأة والعبد قاصدين بسفرهما النشوز والاباق ، أو كان نفس سفره معصية ، كالفار من الزحف ، والهارب من غريمه مع قدرته على وفاء الحق ، وتارك الجمعة بعد وجوبها عليه ، ونحو ذلك.

قال جدي قدس‌سره في روض الجنان : وادخال هذه الافراد يقتضي المنع من ترخص كل تارك للواجب بسفره ، لاشتراكهما في العلة الموجبة لعدم الترخص اذ الغاية مباحة فانه المفروض ، وانما عرض العصيان بسبب ترك الواجب ، فلا فرق حينئذ بين استلزام سفر التجارة ترك صلاة الجمعة ونحوها ، وبين استلزامه ترك غيرها ، كتعلم العلم الواجب عينا أو كفاية.

بل الامر في هذا الوجوب أقوى ، وهذا يقتضي عدم الترخص الا لاوحدي الناس ، لكن الموجود من النصوص في ذلك لا يدل على ادخال هذا القسم ولا على مطلق العاصي ، وانما دل على السفر الذي غايته المعصية (٣) هذا كلامه رحمه‌الله.

ويشكل بأن رواية عمار بن مروان التي هي الاصل في هذا الباب تتناول مطلق العاصي بسفره ، وكذا التعليل المستفاد من رواية عبيد بن زرارة ، والاجماع

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٢ / ٩٢.

(٢) تهذيب الاحكام ٣ / ٢١٧.

(٣) روض الجنان ص ٣٨٨.


المنقول من جماعة ، لكن لا يخفى أن تارك الواجب كالتعلم ونحوه انما يكون عاصيا بنفس الترك لا بالسفر ، الا اذا كان مضادا للواجب وقلنا باقتضاء الامر بالشي‌ء النهي عن ضده الخاص.

وقد تقدم الكلام في ذلك مرارا ، وأن الظاهر عدم الاقتضاء ، كما اختاره قدس‌سره ، مع أن التضادين التعلم والسفر غير متحقق في أكثر الاوقات. فما ذكره قدس‌سره من ان ادخال هذا القسم يقتضي عدم الترخص الا لاوحدي الناس غير جيد (١).

أقول : سفر تارك الجمعة بعد وجوبها عليه انما كان معصية لاستلزامه ترك الواجب ، وهذه العلة بعينها موجودة في سفر يستلزم ترك تعلم العلم الواجب عينا أو كفاية ، وسيدنا قدس‌سره قال بالاول لدخوله تحت مقتضى كلام الاصحاب واطلاق النص ، فليقل بالثاني لذلك ، والا نطالبه بالفرق.

وأما أن السفر قد يجامعه التعلم فهو كلام آخر ، وانما الكلام في سفر لا يجامعه كما هو ظاهر كلام جده قدس‌سرهما.

ومنه يعلم أن قوله « تارك الواجب يكون عاصيا بنفس الترك لا بالسفر » خارج عن موضع النزاع ، لان النزاع في تارك واجب بسفره ، فيكون عاصيا به ، لا بنفس الترك ، كما اذا ترك الواجب في سفر هو متمكن فيه من فعله ، فان هذا السفر لا يكون سفر معصية ، بل تركه الواجب فيه وهو متمكن من فعله معصية ، كما في الحضر بعينه.

مثلا من سافر سفرا لا يتمكن فيه بسببه من اقامة الصلاة ، فسفره هذا سفر معصية ، وأما اذا تمكن فيه منها وتركها ، فليس هذا بسفر معصية ، وان كان تركها فيه معصية ، وكذا من لم يتمكن بسفره من تعلم العلم الواجب عليه تعلمه ،

__________________

(١) مدارك الاحكام ٤ / ٤٤٦ ـ ٤٤٧.


فسفره هذا محرم عليه ، لاستلزامه الاخلال بالواجب.

وأما من تمكن فيه من تعلمه وتركه ، فسفره ليس بسفر معصية ، وانما تركه التعلم وهو متمكن منه معصية كما في الحضر ، وعليه فقس.

وبالجملة فكل سفر يلزم منه ترك الواجب ، كانفاق من وجب عليه انفاقه ، وصيانة من وجب عليه صيانته ، ومحافظة مال من وجب عليه محافظته وهكذا ، فهو سفر معصية لا يجوز له فيه التقصير ، لقوله عليه‌السلام « لا يفطر الرجل في شهر رمضان الا بسبيل حق » أي : لا يفطر فيه في سفر الا في سفر مباح.

وظاهر أن سفر تارك واجب بسفره ليس بمباح ، فلا يجوز له فيه الافطار ، فهذا ونحوه من الافراد المندرجة تحت مقتضى كلام الاصحاب ، وما الفرق بين هذا وما قالوا من أن الشمس اذا طلعت حرم السفر حتى يصلي صلاة العيد ، ان كان ممن تجب عليه ، فان دليلهم عليه ليس الا استلزامه الاخلال بالواجب ، فكل سفر يخل به فهو حرام يقتضي المنع من الترخص ، لان فاعله في معصية الله تعالى ، وقد دلت صحيحة عمار على أن من هذا شأنه ، فهو لا يقصر ولا يفطر في سفره.

هذا فبعد الاعتراف بتناول الرواية وكذا التعليل والاجماع مطلق العاصي بسفره ، فما ذكره قدس‌سره بقوله « لا يخفى » غير جيد ، وعليه فالاشكال بحاله ، وما ذكراه لا يدفعه. أما الاول ، فلما عرفت من تناول النص مطلق العاصي بسفره وأما الثاني ، فلما ذكرناه وخاصة على القول باقتضاء الامر بالشي‌ء النهي عن ضده الخاص ، فتأمل.

واعلم أن في طريق رواية عمار محمد بن موسى بن المتوكل ، وهم لم ينصوا بتوثيقه ، ولكنه مذكور في أوائل طرق مشيخة الفقيه مقرونا بالرحمة والرضوان وهذا يعطي اعتباره ، ولعله منه استنبط العلامة في الخلاصة توثيقه ، ولذلك حكم


سيدنا محمد قدس‌سره بصحة الرواية ، ولا أقل من كونها معتبرة لو لم تكن صحيحة والله يعلم.

٢٦ ـ مسألة

[ اشتراط كون الكفن مما تجوز الصلاة فيه ]

قال آية الله العلامة في التذكرة : ويشترط أن يكون ـ أي : الكفن ـ مما تجوز الصلاة فيه ، ولا يجوز التكفين في الجلود ، لانها ينتزع عن الشهيد ، مع أنه يدفن بجميع ما عليه ، فلا يناسب تكفين غيره بها ، وهل يجوز التكفين بالصوف والوبر والشعر؟ الاقرب ذلك لجواز الصلاة فيها.

أقول : لا دليل على عدم جواز تكفين غيره بها ووجوب نزعها عنه أو استحبابه لخصوص النص ، ولعله كان لحكمة خفيت علينا ، وأمثاله في أحكام الشريعة المطهرة غير عزيزة ، لا يدل عليه كيف؟ وكل شي‌ء مطلق حتى يرد فيه نهي ولا نهي هنا ، بل هنا ما يدل على جوازه ، لان دليل جواز التكفين بالصوف ونظيريه وهو جواز الصلاة فيها قائم بعينه هنا.

وصورة القياس على ما يستفاد من كلامه رحمه‌الله هكذا : هذا ـ أي : الصوف وما شاكله ـ مما تجوز الصلاة فيه ، وكل ما تجوز الصلاة فيه يجوز التكفين به والجلود منه ، وانما خرجت من هذه الكلية أشياء مخصوصة ، منها نزعها عن الشهيد بدليل من الخارج ، فهو مما أخرجه الدليل وبقي الباقي تحتها ، فمع وجود دليل جواز التكفين فيها وعدم ورود النهي عنه ، وعموم كل شي‌ء مطلق لا يصح الحكم بعدم جوازه فيها لمجرد انتزاعها عن الشهيد للامر بذلك بخصوصه.

ثم ان المستفاد من قوله « ويشترط أن يكون مما يجوز الصلاة فيه » أن كل


كفن للميت لا بد وأن يكون بهذا الوصف من غير عكس كلي ، أي : ليس كل ما تجوز الصلاة فيه يجوز التكفين به ، وعليه بني قوله ولا يجوز التكفين في جلود.

فبين كلاميه هذين وكذا بين نفي الجواز المفيد للحرمة والمناسبة المفيد الكراهة تدافع لا يخفى.

٢٧ ـ مسألة

[ من اعتق جاريته وجعل عتقها مهرها ]

في التهذيب في أوائل باب السراري وملك اليمين عن ابن أبي عمير عن رجل عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الرجل يعتق جاريته ، ويقول لها : عتقك مهرك ثم يطلقها قبل أن يدخل بها ، قال : يرجع نصفها مملوكا ويستسعيها في النصف الاخر (١).

لفظة « في » تعليلية ، كما في قوله « امرأة دخلت النار في هرة » وهي علة للامر بالسعي ، أي : يأمرها بالسعي في فكاك النصف المملوك باعتبار النصف الاخر ، وهو النصف الحر.

لان استسعاء الامة أو العبد انما يتصور اذا أعتق بعضه ورق بعضه ، فهو يسعى في فكاك ما بقي من رقه ، فيعمل ويكسب ويصرف ثمنه الى مولاه.

فلكون هذا النصف الاخر عتقا دخل في الاستسعاء ، فجعله علة له لانه يترتب عليه وجودا وعدما ، فما دام بعضه عتقا يصح منه الاستسعاء ، فاذا صار كله عتقا أو رقا لم يصح.

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٨ / ٢٠٢ ، ح ١٨.


والحاصل أن نصفها بعد الطلاق لما رجع مملوكا كما كان قبل الاعتاق وبقي هذا النصف الاخر حرا كما كان قبل الطلاق ، صار علة للامر بالسعي في فكاك هذا النصف الذي صار مملوكا بعد أن كان معتقا.

ويحتمل أن تكون ظرفية ، فان زمان النصف الاخر ، وهو النصف الحر يصلح أن يكون ظرفا للسعي والكسب ، لان ذلك الزمان لها بعد المهاياة ، فيمكنها أن تصرفه في فكاك رقبتها ، وأما زمان النصف المملوك فهو حق لسيدها يستخدمها فيه فيما شاء.

وقال صاحب البحار عليه رحمة الله الملك الغفار في حاشية علقها على هذا الموضع : لما فهم من الكلام السابق أن نصفها حر عبر ثانيا عن النصف المملوك بالنصف الاخر ، أي : بالنظر الى النصف الحر (١).

أقول : وفيه بحث ، لان المفهوم من الكلام السابق ليس الا أن كلها حر وذلك في كلام الراوي ، أو نصفها رق وذلك في كلام المروي عنه ، ولا يفهم منه أن نصفها حر الا على وجه بعيد ، وهو أن يكون المراد بقوله « يرجع نصفها مملوكا » العتق ، أي : يصير مملوكا لنفسه ، فعبر عن العتق بالملكية مجازا.

وهذا وجه زيفه رحمه‌الله بعد نقله بقوله : ولا يخفى بعده من وجوه ، واذا كان كذلك فمن أي جزء منه يفهم أن نصفها حر حتى يصح التعبير عن النصف المملوك بالنصف الاخر.

ثم أقول : ومن وجوه ذلك البعد أن قوله « يرجع » ينافي هذا المعنى ، لان المفروض أن كلها كانت معتقة قبل الطلاق ، فكيف يرجع أو يصير نصفها معتقا بعده؟ وما معنى الرجوع والصيرورة؟

نعم لما كانت كلها مملوكة لسيدها ثم صارت باعتاقه معتقة ، فبعد الطلاق

__________________

(١) ملاذ الاخيار ١٣ / ٣٩٣.


قبل الدخول يرجع نصفها مملوكا له لا لنفسه ، وحينئذ يظهر لقوله « يرجع » معنى معقول ، وهو قرينة على المراد ، فتأمل.

نمقه عبد ربه الجليل محمد بن الحسين الشهير باسماعيل.

٢٨ ـ مسألة

[ فى الشر والخير ]

شر لا يدوم خير من خير لا يدوم. كذا في الغرر والدرر (١).

الشر لفظ جامع لجميع الامور القبيحة ، كما أن الخير لفظ جامع لجميع الامور الحسنة ، فهما مفهومان كليان تندرج تحتها أفراد كثيرة.

وقيل : الشر والخير يطلقان على المعصية والطاعة ، وعلى أسبابها ودواعيها وعلى المخلوقات الضارة كالسموم والحيات ، والنافعة كالحبوب والثمار ، وعلى البلايا والنعم.

وفي القاموس (٢) : الشر الفقر ، والخير المال.

وقيل : الخير الوجود واطلاقه على غيره انما هو بالعرض ، وهو ينقسم الى خير مطلق كوجود العقل ، والى خير مقيد كوجود كل واحد من الصفات المرضية والشرائع النبوية.

والاول هو الحق ، وهو معنى قول بعض العلماء : الخير ما يرغب فيه الكل ، كالعقل مثلا والعدل والشي‌ء النافع ، والشر ضده. والمال سمي بالخير تارة.

__________________

(١) غرر الحكم ودرر الحكم ص ٤٠٩.

(٢) القاموس ٢ / ٥٧.


وبالشرى أخرى ، نحو « إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ » (١) « أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ » (٢) لانه خير لشخص وشر لاخر ، فمن أنفقه في سبيل الرحمن وأمسكه عن سبيل الشيطان كان له خيرا ، ومن عكس كان له شرا.

واذ قد عرف هذا عرف أنه لو أبقى على اطلاقه ، لزم منه تفضيل القبيح على الحسن ، فانه يفيد مثلا أن اساءة شخص الى آخر مرتين أو مرات ثم امساكه عنه خير من احسانه اليه كذلك ، لصدق شر لا يدوم على الاول وخير لا يدوم على الثاني وله نظائر لا يخفى ، وهذا باطل قطعا ، فلا بد له من مورد ومحل يمكن تطبيقه عليه.

فنقول : الخير والشر باعتبار الدوام وعدمه على قسمين :

شر دائم لا يستعقب خيرا ، كما في الكافر الفقير المبتلى بالاسقام والافات مدة حياة الدنيا. وخير دائم لا يستعقب شرا كما في المؤمن الكامل الغني السالم من البليات مدة حياة الدنيا.

وشر لا يدوم ، كما في فقراء المؤمنين من أنواع الافات والبليات الدنيوية فهو خير من خير لا يدوم ، كما في أغنياء الكافرين من الصحة وأنواع النعمة ، فان ذلك الشر الموصوف باللادوام ، وان لم تكن من حيث ذاته خيرا من الخير الموصوف باللادوام ، الا أنه من حيث وصفه المستعقب للخير الدائم وهو مناط الحكم ، خير منه من حيث وصفه المستعقب للشر الدائم ، فشرور الدنيا للمؤمن خير من خيراتها للكافر. والاول ينتهي الى نعيم مقيم ، والثاني ينجر الى عذاب أليم.

__________________

(١) سورة البقرة : ١٨٠.

(٢) سورة المؤمنون : ٥٦.


احتمال آخر : في تفسير علي بن ابراهيم في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله تعالى « إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً » (١) قال : الشر هو الفقر والفاقة « وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً » قال : الغنى والسعة (٢).

فيمكن أن يكون المراد فقرا لا يدوم خير من غنى لا يدوم ، لان الاول يرتفع بالثاني ، والثاني بالاول ، لانهما على طرفي النقيض ، كما صرح به في القاموس بقوله : الشر نقيض الخير. فغير ممكن ارتفاعهما ولا اجتماعهما ، والحيثية السابقة معتبرة هنا أيضا ، اذا الفقر بما هو فقر وان لم يكن خيرا من الغنى ، الا أنه باعتبار وصفه المؤدي الى الغنى خير منه باعتبار وصفه المؤدي الى الفقر.

احتمال آخر : يمكن أن يراد بالشر والخير هنا المعصية والطاعة ، وذلك أن عدم دوام الشر بهذا المعنى ، وانقطاعه عن فاعله مع قدرته عليه ، يدل على انصراف نفسه عنه وعدم ميله اليه وتركه الاسباب المؤدية اليه ، وهذا كمال مرغوب لانه في معنى التوبة والله يحب التوابين ، وهذا بعينه يجري في عدم دوام الخير ، لكنه نقص غير مرغوب.

احتمال آخر ، وهو أن يكون هذا ترغيبا في المداومة على فعل خير اوثر فعله ، وترهيبا عن تركه والمبالغة فيه ، بأن عدم دوامه يجعله مرجوحا حتى أن الشر خير منه.

يؤيده ما في آخر صحيحة زرارة عن الباقر عليه‌السلام الواردة في التأكيد على المداومة على النوافل ، يستحب اذا عمل الرجل عملا من الخير أن يدوم عليه.

وبالجملة المداومة على الخيرات والاستمرار عليها لتصير ملكة وعادة أمر حسن ممدوح وتركه قبيح مذموم ، وقد مدح الله قوما بمداومتهم على فعل النوافل

__________________

(١) سورة المعارج : ٢٠.

(٢) تفسير القمى ٢ / ٣٨٦.


بقوله « الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ » (١) فعن الباقر عليه‌السلام في تفسيرها قال يقول اذا فرض على نفسه شيئا من النوافل دام عليه (٢).

وفقنا الله للمداومة على الخيرات والمواظبة على الطاعات بنبيه وآله سادات السادات.

٢٩ ـ مسألة

[ الهوان والذل عند الله ]

ورد في بعض الادعية المأثورة عنهم عليهم‌السلام : « اللهم أكرمني بهوان من شئت من خلقك ، ولا تهني بكرامة أحد من أوليائك ».

أقول : وما توفيقي الا بالله ، لو لم يكن في الوجود مهان لم يظهر كون أحد مهانا ، اذ العزيز عزيز اذا كان في الوجود ذليل ، كما أن الذليل ذليل اذا كان في الوجود عزيز ، وذلك أن الاشياء كما قيل : انما تعرف بأضدادها.

بل نقول : معنى الاكرام وهو الفعل المنبئ عن كرامة متعلقه ، انما يظهر عند ظهور معنى الاهانة ، وهو الفعل المنبى‌ء عن هوان متعلقة وبالعكس.

فلما كان اكرامه تعالى أحدا من خلقه وان كان من الفقراء انما يظهر في الوجود العيني هو بهوان غيره ممن شاء من خلقه ، وان كان من الملوك فرب فقير يغلب موقعه في القلوب ويعظمه كل ملك.

ورب ملك لا وقع له في القلوب ويكون ذليلا في الاعين. قال عليه‌السلام : أكرمني في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما. وهو الاظهر بالنصر والظفر والتوفيق بهوان من

__________________

(١) سورة المعارج : ٢٣.

(٢) تفسير القمى ٢ / ٣٨٦.


شئت من خلقك بالادبار والخذلان ، ولا تهني بذلك بكرامة أحد من أوليائك بما سبق.

ويمكن توجيهه بوجه آخر ، وهو أن اهانة اعدائه مثلا اكرام أوليائه ، كما أن اكرام أوليائه اهانة أعدائه ، فان القيام عند مجي‌ء ولي زيد مثلا يصدق عليه أنه بالنسبة الى الولي اكرام ، وبالنسبة الى أعدائه اهانة ، وذلك لما عرفت معنى الاكرام والاهانة والقيام المذكور دال على كرامة وليه ، وهو أن عدوه بالمعنى المذكور فيكون اكراما بالنسبة الى الولي واهانة بالنسبة الى العدو ، وعليه فقس عدم القيام عند مجي‌ء وليه ، فانه بالنسبة اليه اهانة ، وبالنسبة الى العدو اكرام. وهذا مع وضوحه مستفاد بل مصرح به في الشرح الجديد للتجريد والحاشية القديمة.

واذ تقرر هذا فنقول : حاصل المعنى والله أعلم بمقاصد أوليائه : اللهم اجعلني من أوليائك ليكون هو ان من شئت من أعدائك كرامة لي ، ولا تجعلني من أعدائك لتكون كرامة أحد من أوليائك هوانا.

٣٠ ـ مسألة

[ الرجل يتزوج المرأة متعة ، فيحملها من بلد الى بلد ]

في الكافي في باب نوادر عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن معمر بن خلاد ، قال : سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن الرجل يتزوج المرأة متعة ، فيحملها من بلد الى بلد ، فقال : يجوز النكاح الاخر ولا يجوز هذا (١).

أقول : لا مانع من جعل هذه الجملة كقوله « فيحملها من بلد الى بلد » استفهامية والنكاح منصوبا بنزع الخافض كهذا ، أي : أفيجوز أن يحملها من بلد الى بلد؟

__________________

(١) فروع الكافى ٥ / ٤٦٧ ، ح ٧.


فأجاب عنه متعجبا بقوله : أيجوز ذلك في النكاح الاخر ـ أي : الدائم ـ ولا يجوز في هذا ، أي : المنقطع.

والمراد أنه يجوز حملها منه اليه في هذا النكاح بطريق أولى ، لانها مستأجرة بمنزلة الاماء ، كما ورد في أخبار كثيرة ، فتجب عليها بطريق أولى اطاعة زوجها في الخروج من البلد كما تجب على الدائمة.

ومنهم (١) من حمله على أن المعنى أنه لا يجب على المتمتعة اطاعة زوجها في الخروج من البلد ، كما كانت تجب في الدائمة. وهذا أيضا مبني على جعل النكاح كهذا منصوبا بنزع الخافض.

وقيل (٢) : ظاهره أنه لما سأل السائل عن حكم المتعة أجاب عليه‌السلام بعدم جواز أصل المتعة تقية (٣).

وهذا مع أنه خلاف الظاهر اذ لا مطابقة حينئذ بين السؤال والجواب ، ولا حاجة الى الاخبار بجواز النكاح الدائم بل لا فائدة فيه ، اذ كان الظاهر على هذا أن يقول : في الجواب : لا يجوز هذا النكاح.

يرد عليه أنهم صرحوا بأن في أخبار المتعة مع كثرتها وكثرة مخالفينا فيه لم يوجد خبر واحد منها يدل على منعه ، وهذا الخبر على ما حمله عليه صريح في منعه فيكون مخالفا لما فهموه منه ، فتأمل فيه.

قال الشيخ زين الدين في شرح اللمعة : وأما الاخبار بشرعية المتعة من طريق أهل البيت عليهم‌السلام ، فبالغة أو كادت أن تبلغ حد التواتر لكثرتها ، حتى أنه مع كثرة اختلاف أخبارنا الذي أكثره بسبب التقية وكثرة مخالفينا فيه لم يوجد خبر واحد

__________________

(١) المراد به مولانا التقى المتقى قدس‌سره « منه ».

(٢) أراد به صاحب البحار « منه ».

(٣) مرآة العقول ٢٠ / ٢٥٧.


منها يدل على منعه وذلك عجيب (١).

وفيه أن الشيخ في التهذيب والاستبصار روى بطريق عامي عن علي عليه‌السلام خبرا يدل بظاهره على المنع ، قال عليه‌السلام : حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لحوم الحمر الاهلية ونكاح المتعة (٢). ثم حمله على الشذوذ والتقية.

ولعل الشارح الفاضل قدس‌سره حمل الحرمة بقرينة قوله « لحوم الحمر الاهلية » على الكراهة الشديدة ، لانها ليست بحرام بالاتفاق.

نظيره : محاش النساء على أمتي حرام (٣). وليست بحرام ، كما دلت عليه أخبار كثيرة فتكون مكروهة ، وعلى هذا الحمل لا يدل هذا الخبر على منعه ، فيتم ما ادعاه من السلب الكلي ، ولكن القول بكراهة المتعة غير معروف في الامامية ، فتأمل.

كتب هذه المسائل بيمناه الجانية الفانية العبد الجاني محمد بن الحسين بن محمد رضا المشتهر باسماعيل المازندراني عفى الله عن جرائمهم بمحمد وآله وقائمهم عليهم‌السلام.

وتم استنساخ وتصحيح هذه المسائل في (٢٤) رجب المبارك سنة (١٤١١) هـ ق في بلدة قم المقدسة على يد العبد السيد مهدي الرجائي عفي عنه.

__________________

(١) شرح اللمعة ٥ / ٢٨٣ ـ ٢٨٤.

(٢) تهذيب الاحكام ٧ / ٢٥١ ، ح ١٠ ، والاستبصار ٣ / ١٤٢ ، ح ٥.

(٣) تهذيب الاحكام ٧ / ٤١٦ ، ح ٣٦.


سلسلة آثار المحقق الخاجوئى

(٥٧)

رسالة

فى استحباب رفع اليدين حالة الدعاء

للعلّامة المحقّق العارف

محمّد اسماعيل بن الحسين بن محمد رضا المازندرانى الخاجوئي

المتوفى سنة ١١٧٣ ه‍ ق

تحقيق

السّيّد مهدى الرّجائي



بسم الله الرّحمن الرّحيم

قال سيدنا قدس الله نفسه ونور رمسه في المدارك في فصل الصلاة على الميت : ولم يذكر الاصحاب هنا استحباب رفع اليدين في حالة الدعاء للميت ، ولا يبعد استحبابه لاطلاق الامر برفع اليدين في الدعاء المتناول لذلك ولغيره (١).

أقول : هذا حق ، لانه دعاء وكل دعاء يستحب فيه رفع اليدين. أما الاولى ، فظاهرة.

وأما الثانية ، فلما رواه ابن فهد قدس‌سره في عدة الداعي في فصل آداب الدعاء وما يقارن حال الداعي ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه كان يرفع يديه اذا ابتهل ودعا كما يستطعم المسكين (٢).

فان لفظ « كان » يشعر بالدوام والاستمرار ، كما يقال : كان حاتم يكرم لضيف ، وأقل مراتب مواظبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على ذلك الرجحان.

فان قلت : لفظ « كان » لا يفيد الا تقدم الفعل ، وأما التكرار فلا يفيده لغة.

__________________

(١) مدارك الاحكام ٤ / ١٧٩.

(٢) عدة الداعى ص ١٨٢.


قلت : نعم لكنه يفيده عرفا ، اذ لا يقال ذلك عند صدور الفعل مرة ، والعرف مقدم في فهم الحديث على اللغة.

فان قلت : هذا انما فهم من قول الراوي أنه كان يفعل كذا لا من فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قلت : ان الراوي لما كان عارفا باللغة والمعنى ، فاذا وقع في كلامه ما يفيد التكرار عمل به ، كما تقرر في الاصول. هذا.

وقال ابن الاثير في النهاية : وفي حديث الدعاء « والابتهال أن تمد يديك جميعا » وأصله التضرع والمبالغة في السؤال (١).

أقول : هذا الاصل هو المراد هنا ، لا ما فسر به في الحديث ، بل لا يبعد أن يكون المراد بالابتهال هنا الدعاء ، فيكون العطف تفسيريا ، فتأمل.

ثم قال ابن فهد رحمه‌الله : وفيما أوحى الله الى موسى عليه‌السلام : ألق كفيك ذلا بين يدي كفعل العبد المستصرخ الى سيده ، فاذا فعلت ذلك رحمت وأنا أكرم الاكرمين وأقدر القادرين (٢).

وعن الباقر عليه‌السلام أنه قال : ما بسط عبد يده الى الله عزوجل الا استحى الله أن يردها صفرا حتى يجعل فيها من فضله ورحمته ما يشاء ، فاذا دعا أحدكم ربه ، فلا يرد يده حتى يمسح بها على رأسه ووجهه (٣).

وفي دعائهم عليهم‌السلام ولم ترجع يد طالبة صفرا من عطائك وخائبة من بخل هبائك.

وهذه الاخبار كما ترى واضحة الدلالات على استحباب رفع اليدين الى الله

__________________

(١) نهاية ابن الاثير ١ / ١٦٧.

(٢) عدة الداعى ص ١٨٢ ـ ١٨٣.

(٣) من لا يحضره الفقيه ١ / ٣٢٥ ، ح ٩٥٣.


عزوجل وقت الدعاء مطلقا ، لان كلمة « اذا » وان لم تفد العموم والكلية لغة ، الا أنها تفيده شرعا ، كما في قوله تعالى « إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ » (١) « إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ » (٢) « فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً » (٣) وأمثالها.

هذا مع ما أتاك من اطلاق الامر برفع اليدين في حديث موسى على نبينا وآله وعليه‌السلام معللا بأن من فعل ذلك فهو مرحوم ، مجاب في دعوته ، منجاح في طلبته ، لتذلله بين يدي أكرم الاكرمين وأرحم الراحمين وأقدر القادرين.

فان من البين أن هذا من الخطابات العامة التي لا يراد بها مخاطب دون مخاطب ، كما قالوا في نحو قوله تعالى « وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ » (٤).

فان قلت : قد تقرر في الاصول أن الخطابات الخاصة بالرسول ليست بعامة لامته ، لان مثلها وضع لخطاب المفرد ، وهو لا يعم غيره لغة ، وان عم فبدليل منفصل من قياس لهم عليه ، أو نص أو اجماع يوجب التشريك ، وهنا لا يمكن قياس غير موسى عليه‌السلام عليه ، لانه قياس معه فارق « كار نيكان را قياس از خود مگير » وليس هنا نص ولا اجماع ، فكيف يمكنك التعميم؟ وشرع من قبلنا لا حجة علينا.

قلت : خطاب المفرد وان لم يتناول الغير لغة ، الا أنه يتناوله عرفا فيما اذا كان المخاطب قدوة والغير أتباعا وأشياعا ، والعرف مقدم في فهم الحديث على اللغة.

__________________

(١) سورة المائدة : ٦.

(٢) سورة النساء : ٨٦.

(٣) سورة النور : ٦١.

(٤) سورة السجدة ص ١٢.


مع أن الترحم معلل بالتذلل بين يدي الله عزوجل بالقاء الكفين ، وهذا مما لا اختصاص له بموسى عليه‌السلام وبمن معه ، فاذا ألقينا الخصوصية ، ويعبر عنه بتنقيح المناط ، يجري ذلك في غير موسى عليه‌السلام.

ثم نقل أئمتنا عليهم‌السلام هذا في هذه الشريعة دليل على بقاء حكمه في هذه الامة ، فظهر أن رفع اليدين في الدعاء مطلقا مراد الله ومطلوبه ، وهو دليل الرجحان ، فينبغي ، رفعهما فيه مطلقا ، تحصيلا لمراد الله تعالى ومطلوبه المستلزم لحصول مراد الداعي ومطلوبه.

هذا وقال شيخنا البهائي قدس‌سره في الحديقة الثالثة والاربعين من كتابه الموسوم بحدائق الصالحين ، بعد أن روى عن محمد بن يعقوب في كتاب الكافي وعن آية الله العلامة في التذكرة ومنتهى المطلب عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اذا أهل شهر رمضان استقبل القبلة ورفع يديه الحديث.

وعن السيد الجليل رضي الدين علي بن طاوس قدس روحه في كتاب الزوائد والفوائد أنه مروي عن الصادق عليه‌السلام قال : فاذا رأيت هلال شهر رمضان فلا تشر اليه ولكن استقبل القبلة ، وارفع يديك الى الله عزوجل وخاطب الهلال الحديث.

رفع اليدين الى الله عزوجل وقت قراءة الدعاء لا خصوصية له بهلال شهر رمضان ، وان تضمن الخبر أن فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك كان في هلاله ، وكذلك أمر الصادق عليه‌السلام بذلك ، بل لا خصوصية له بدعاء الهلال ، فانه يعم كل دعاء (١) انتهى.

وبالجملة الاخبار الواردة في استحباب رفع اليدين وقت قراءة كل دعاء الا ما أخرجه الدليل ، وليس هذا منه أكثر من أن تحصى في مثل هذا المقام ، وعليه

__________________

(١) الحديقة الهلالية ص ٧٤ ـ ٧٦.


فلا وجه لتخصيص استحبابه بحالة الدعاء للميت ، كما فعله سيدنا قدس‌سره ، بل يستحب في حالة الدعاء للمؤمنين والمؤمنات.

بل وفي حالة الصلاة على النبي وآله ، فانها أيضا دعاء له ولا له عليه وآله السلام ، بل ويستحب في حالة قراءة الشهادتين أيضا ، فان الدعاء قد يطلق على التمجيد والتقديس ، لما فيه من التعرض للطلب.

سئل عطاء عن معنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خير الدعاء دعائي ودعاء الانبياء من قبلي ، وهو لا اله الا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شي‌ء قدير. وليس هذا دعاء وانما هو تقديس وتمجيد ، فقال : هذا أمية بن الصلت يقول في ابن جذعان :

اذا أثنى عليك المرء يوما

كفاه من تعرضه الثناء

فيعلم ابن جذعان ما يراد

منه بالثناء عليه

ولا يعلم رب العالمين

ما يراد منه بالثناء عليه

انتهى. ولعله لما قلناه من أن فيه تعرضا للطلب قدم الثناء على الله والصلاة على رسوله وآله على الدعاء للميت ، أو قدمه عليه ليكون أقرب الى محل الاجابة ، لان من شرائط اجابة الدعاء تقديم المدحة لله والثناء عليه قبل المسألة.

كما ورد في الخبر : اذا طلب أحدكم الحاجة فليثن على ربه وليمدحه ، فان الرجل منكم اذا طلب الحاجة من السلطان هيأ له من الكلام أحسن ما يقدر عليه (١).

وعن علي أمير المؤمنين عليه‌السلام ان المدحة قبل المسألة (٢).

ولما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وسائط بين الله سبحانه وبين عباده في قضاء حوائجهم

__________________

(١) اصول الكافي ٢ / ٤٨٥ ، ح ٦.

(٢) اصول الكافى ٢ / ٤٨٦.


ونجاح مطالبهم ، وهم أبواب معرفته عزوجل ، فلا بد من التوسل بذكرهم في عرض الدعاء عليه وقبوله لديه ، وذلك كما اذا أراد أحد من الرعية اظهار حاجته على السلطان توسل بمن يعظمه ولا يرد قوله.

يدل على تلك الجملة ما رواه سلمان المحمدي ، قال : سمعت محمدا يقول ان الله عزوجل يقول : يا عبادي أو ليس من له اليكم حوائج كبار لا تجودون بها الا أن يتحمل عليكم بأحب الخلق اليكم ، تقضونها كرامة لشفيعهم ، ألا فاعملوا أن أكرم الخلق علي وأفضلهم لدي محمد وأخوه علي ومن بعده الائمة ، الذين هم الوسائل الى الله ، ألا فليدعني من همته حاجة يريد نفعها ، أو دهته داهية يريد كشف ضررها بمحمد وآله الطيبين الطاهرين ، أقضها له بأحسن ما يقضيها من يستشفعون بأعز الخلق عليه (١) الحديث.

وعن سيدنا أمير المؤمنين عليه‌السلام : اذا كانت لك الى الله سبحانه حاجة فابدأ بمسألة الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم سل حاجتك ، فان الله أكرم من أن يسأل حاجتين فيقضي احداهما ويمنع الاخرى (٢).

فهذا وجه ترتيب هذا الدعاء ، وانما أفرد الميت بالدعاء خاصة بعد الدعاء للمؤمنين والمؤمنات وهو منهم ، ليكون من قبيل ذكر الخاص بعد العام لزيادة الاهتمام. ويحتمل أن يكون من باب التصريح بما علم ضمنا ، فتأمل.

ويدل على استحباب رفع اليدين في حالة الدعاء على الميت رواية صفوان ابن مهران الجمال عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : مات رجل من المنافقين ، فخرج الحسين بن علي عليهما‌السلام يمشي ، فلقى مولى له ، فقال له : أين تذهب؟ فقال : أفر من جنازة هذا المنافق أن أصلي عليه ، فقال له الحسين عليه‌السلام : قم الى جنبي فما

__________________

(١) عدة الداعى ص ١٥٠ ـ ١٥١.

(٢) اصول الكافى ٢ / ٤٩٤.


سمعتني أقول فقل مثله.

قال : فرفع يديه فقال : اللهم اخز عبدك في عبادك وبلادك ، اللهم أصله أشد نارك اللهم أذقه حر عذابك ، فانه كان يوالي أعدائك ويعادي أولياءك ، ويبغض أهل بيت نبيك. كذا في الفقيه (١).

واذا استحب رفع اليدين في الدعاء على المنافق ، فاستحبابه في الدعاء للموافق أولى.

واعلم أن صاحب المدارك بعد أن نقل هذه الرواية عن ابن بابويه حكم بصحتها. وفيه نظر ، لان للصدوق الى صفوان بن مهران طريقين ضعيفين ، والثاني منهما أضعف من الاول.

أما الاول فلوجود أحمد بن محمد بن خالد وأبيه فيه ، وهما ضعيفان.

أما أحمد فهو وان وثقه الشيخ والنجاشي وأومأ اليه ابن الغضائري ، ولكن في الكافي في باب النص على الائمة الاثنا عشر عليهم‌السلام في آخر حديث طويل هكذا : وحدثني محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسن الصفار ، عن أحمد بن أبي عبد الله ، عن أبي هاشم مثله سواء.

قال محمد بن يحيى : فقلت لمحمد بن الحسن يا أبا جعفر وددت أن هذا الخبر جاء من غير جهة أحمد بن أبي عبد الله ، قال فقال : لقد حدثني قبل الحيرة بعشر سنين (٢).

وهذا يدل على ذمه وعدم اعتباره في أقواله الا بتاريخ يميزها ، وهو هنا غير معلوم.

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ / ١٦٨ ، ح ٤٩٠.

(٢) اصول الكافى ١ / ٥٢٦ ـ ٥٢٧.


وأما أبوه محمد ، فلقول النجاشي : وكان محمد هذا ضعيفا في الحديث (١).

وأما الطريق الثاني ، فلوجود موسى بن عمير الهذلي فيه ، وهو عامي غير ممدوح ، فظهر أن الطريقين كليهما ضعيفان ، فحكمه بصحة الرواية لا وجه له.

وكأنه لما رأى أنهم وثقوا أحمد بن محمد ووثق ابن الغضائري أباه محمدا بعد أن قال : حديثه يعرف وينكر ويروي عن الضعفاء كثيرا ويعتمد المراسيل ، وكان ذاهلا عما نقلناه عن الكافي ، حكم بصحتها باعتبار الطريق الاول ، لانه لا مانع فيه من غير جهتهما ، فاذا ظن أنهما ثقتان ، كان الطريق واضحا والحديث صحيحا.

__________________

(١) رجال النجاشي ص ٣٣٥.


سلسلة آثار المحقق الخاجوئى

(٥٨)

رسالة

فى بيان علامة البلوغ

للعلّامة المحقّق العارف

محمّد اسماعيل بن الحسين بن محمد رضا المازندرانى الخاجوئي

المتوفى سنة ١١٧٣ ه‍ ق

تحقيق

السّيّد مهدى الرّجائي



بسم الله الرّحمن الرّحيم

لبلوغ الغلام ثلاث علامات على المشهور بين الاصحاب :

الاولى : الاحتلام ، وأرادوا به خروج المني من الذكر بشهوة أو غيرها ، بجماع أو غيره ، في النوم أو اليقظة ، واستدلوا عليها بآيات ، منها : قوله تعالى « وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ » (١).

وروايات الحلم ، منها قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يحتلم » (٢) وقول الرضا عليه‌السلام في صحيحة البزنطي : يؤخذ الغلام بالصلاة وهو ابن سبع سنين ، ولا تغطي المرأة شعرها منه حتى يحتلم (٣).

الثانية : نبات الشعر الخشن على العانة وحول الذكر ، واحترزوا بالخشن عما ينبت قبله من الشعر الضعيف الذي يقال له الرغب ثم يزول ، وبالعانة عن الابط والشارب واللحية ، اذ لم يثبت كون نبات الشعر على هذه المواضع دليلا

__________________

(١) سورة النور : ٥٩.

(٢) عوالي اللئالي ١ / ٢٠٩ ، ح ٤٨.

(٣) من لا يحضره الفقيه ٣ / ٤٣٦.


على البلوغ شرعا.

قيل : لا كلام في كون شعر العانة علامة البلوغ ، انما الكلام في كونه نفسه بلوغا ، أو دليلا على سبقه ، والمشهور الثاني لتعليق الاحكام في الكتاب والسنة على الحلم والاحتلام ، فلو كان الانبات بلوغا بنفسه لم يخص غيره بذلك.

والجواب أن الكتاب والسنة انما دلا على أن البلوغ يتحقق بالحلم والاحتلام ، ولم يدلا على أنه لا يتحقق بغيره ، فاطلاقهما أو عمومهما مقيد أو مخصص بعدم الانبات والسن ، فاذا أنبت بعض أفراد الاطفال قبل الاحتلام ، أو بلغ قبله سنا معتبرا شرعا فهو بالغ ، احتلم أو لم يحتلم.

وبالجملة تخصيص الشي‌ء بالذكر وهو الحلم والاحتلام ، لا يدل على نفي ما عداه ، وهو الانبات والسن ، ولا سيما اذا دل دليل ، غاية الامر أن يكون ما عداه أقليا ويكون هو أغلبيا لو سلم له ذلك.

وأما السلب الكلي بحيث لا يتحقق ما عداه أصلا ولو في ضمن بعض الافراد فلا كيف وقد قال آية الله العلامة في التذكرة : نبات هذا الشعر دليل البلوغ في حق المسلمين والكفار عند علمائنا أجمع ، ومستندهم فيه الاخبار الواردة في طرق الخاصة والعامة ، فلا يضر عدم صحتها.

وعليه فلا حاجة في اثبات كون الاثبات دليلا على البلوغ نفسه الى القول بترتب أحكام البلوغ عليه ، حتى يقال : دليل أعم من المدعى.

وانما يكون الانبات دليلا عليه اذا كان طبيعا لا كسبيا ، وحصوله على التدريج مع عدم حصول البلوغ كذلك ، لا ينافي كونه دليلا عليه ، فانه اذا حصل على التدريج وبلغ حدا يصدق معه قولنا نبت على عانته الشعر الخشن نحكم ببلوغه والا فلا ، فلا يرد أن البلوغ غير مكتسب والانبات قد يكتسب بالدواء ، وحصوله على التدريج والبلوغ لا يكون كذلك.


لا يقال : لما أمكن اكتساب النبات بالدواء ، أمكن أن يتطرق اليه التدليس ، فلا يكون علامة شرعية.

لانا نقول : كثيرا من الامارات الشرعية يمكن أن يتطرق اليه التلبيس ، والمعتبر منها ما يفيد ظنا شرعيا عند الحاكم ، بأن يكون الانبات مثلا في وقت يحتمل البلوغ فيه ، ومثله خروج المني من الذكر أو قبل المرأة ، فانه يعتبر فيه أيضا وقتا يمكن البلوغ فيه.

فلا عبرة بما ينفصل بصفته قبل ذلك وحده في جانب القلة في الانثى تسع سنين. وأما في جانب الذكر ، فلا نص فيه عندنا ، والمنقول عن الشافعي أن حده في الذكر والانثى جميعا تسع سنين ، وله فيه قول آخر ، وهو مضي ستة أشهر من السنة العاشرة ، وفي قول آخر له تمام العاشرة.

ومنه يظهر أن لا تلازم بين هذه العلامات ، فان النبات قد يتفق من غير احتلام ولا سن معتبر شرعا ، وقد يحتلم ولم يكمل السنوات ولم يتحقق له النبات ، وقد تتم السنوات من غير احتلام ولا نبات ، وقد يجامع بعضها بعضا ، وذلك الاختلاف لاختلاف أمزجة الاشخاص والبقاع والاصقاع ، الى غير ذلك من الاسباب المؤدية اليه.

الثالثة : اكمال خمس عشرة سنة قمرية ، واستدلوا عليها بالاصل والاستصحاب وفتوى الاصحاب.

وبضعيفة حمران بعبد العزيز بن عبد الله العبدي عن أبي جعفر عليه‌السلام قال قلت له : متى يجب على الغلام أن يؤخذ بالحدود التامة ويؤخذ له؟ فقال : اذا خرج عنه اليتم وأدرك ، قلت : فلذلك حد يعرف؟ فقال : اذا احتلم أو بلغ خمس عشرة سنة أو أنبتت قبله اقيمت عليه الحدود التامة وأخذ بها وأخذت له.

قلت : فالجارية متى يجب عليها الحدود التامة وأخذت بها وأخذت لها؟


فقال : ان الجارية ليست مثل الغلام ، ان الجارية اذا تزوجت ودخل بها ولها تسع سنين وذهب عنها اليتم ودفع اليها مالها وجاز أمرها في الشراء والبيع ، واقيمت عليها الحدود التامة وأخذت لها ، قال : والغلام لا يجوز أمره في الشراء والبيع ولا يخرج من اليتم حتى يبلغ خمس عشرة سنة أو يشعر أو ينبت قبل ذلك (١).

ومثلها رواية يزيد الكناسي المجهول عنه عليه‌السلام ، فيؤخذ الغلام بذلك ما بينه وبين خمس عشرة سنة (٢).

وفيه أن الاصل والاستصحاب وفتوى الاصحاب انما يصار اليها اذا لم يدل على خلافها دليل.

وأما الحديث الضعيف ، فقد أطبقوا على أنه لا يثبت به حكم من الاحكام.

فان قلت : ضعفه منجبر بالشهرة بين الاصحاب.

قلت : هذا انما يكون لو كانت الشهرة متحققة قبل زمن الشيخ الطوسي وليس كذلك ، فان من قبله كانوا بين مانع من خبر الواحد مطلقا ، وجامع للاخبار من غير التفات منهم الى تصحيح ما يصح منها ورد ما يرد ، فالعمل بمضمون الخبر الضعيف قبل زمنه على وجه يجبر ضعفه غير متحقق.

كيف لا وهو لم يعمل بأمثال هذا الحديث ، فان ظاهره في التهذيب والاستبصار يفيد أن بلوغ الغلام يتحقق بثلاث عشرة سنة.

لانه روى فيهما باسناده عن عمار عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : سألته عن الغلام متى يجب عليه الصلاة؟ قال : اذا أتى عليه ثلاث عشرة سنة ، فان احتلم قبل ذلك فقد وجب عليه الصلاة وجرى عليه القلم ، والجارية مثل ذلك ان أتى

__________________

(١) فروع الكافى ٧ / ١٩٧ ـ ١٩٨ ، ح ١.

(٢) فروع الكافى ٧ / ١٩٨ ، ح ٢.


عليها ثلاث عشرة سنة ، ولو حاضت قبل ذلك وجبت عليها الصلاة وجرى عليها القلم (١).

ثم نقل روايات أخرى دلت على وجوب الصلاة لست وسبع.

ثم قال : والوجه في هذه الاخبار أن نحملها على ضرب من الاستحباب والتأديب والاولة على الوجوب ، لئلا تتناقض الاخبار (٢).

وتدل على الوجوب أيضا رواية عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : اذا بلغ أشده ثلاث عشرة سنة ودخل في الاربع عشرة وجب عليه ما وجب على المحتلمين ، احتلم أم لم يحتلم ، وكتبت عليه السيئات وكتبت له الحسنات ، وجاز له كل شي‌ء ، الا أن يكون ضعيفا (٣).

قال الفاضل الاردبيلي رحمه‌الله في شرحه على الارشاد : هذه رواية صحيحة اذ ليس فيها من لم يصرح بتوثيقه الا الحسن بن علي الوشاء ، والظاهر أنه ثقة عندهم وهو يظهر من الرجال.

وأيضا سمى الخبر الذي هو فيه بالصحة كثيرا ، الا اني رأيت في التهذيب في آخر كتاب الزكاة ، حدثنا الحسن بن علي الوشاء الخزاز ، وهو ابن بنت الياس ، وكان وقف ثم رجع ، فتأمل.

أقول : قوله رحمه‌الله « وهو يظهر من الرجال » اشارة الى ما في كتاب النجاشي : الحسن بن علي بن زياد الوشاء كان من وجوه هذه الطائفة ، روى عن جده الياس ، ثم قال بعد كلام يدل على مدحه أيضا : وكان هذا الشيخ عينا من

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٢ / ٣٨٠ ـ ٣٨١.

(٢) الاستبصار ١ / ٤٠٩.

(٣) من لا يحضره الفقيه ٤ / ٢٢١.


عيون هذه الطائفة (١).

قال الفاضل المذكور في حاشيته المتعلقة بهذا الموضع : الظاهر أن قوله « كان وكان » يدلان على توثيقه ، ولهذا سمى الخبر الذي هو فيه بالصحيح ، الا أنه قال في آخر كتاب خمس التهذيب : الحسن بن علي بن زياد وهو الوشاء وهو ابن بنت الياس ، وكان وقف ثم رجع وقطع.

أقول : قوله رحمه‌الله في الشرح في آخر كتاب الزكاة اشتباه من قلم الناسخ والصواب ما في الحاشية آخر كتاب خمس التهذيب (٢).

وروى الصدوق رحمه‌الله في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام عن أبيه ، عن صالح ابن أبي حماد ، عن الحسن بن علي الوشاء ، قال : كنت قبل أن أقطع على الرضا عليه‌السلام جمعت ما روي عن آبائه عليهم‌السلام وغير ذلك مسائل كثيرة في كتاب ، وأحببت أن أثبت في أمره وأختبره.

فحملت الكتاب في كمي وصرت الى منزله أريد منه خلوة أنا وله الكتاب ، فجلست ناحية متفكرا في الاحتيال للدخول عليه ، فاذا بغلام قد خرج من الدار بيده كتاب ، فنادى أيكم الحسن بن علي الوشاء ، فقمت اليه وقلت : أنا ، قال : فهاك هذا الكتاب ، فأخذته وتنحيت ناحية ، فقرأته فاذا فيه جواب مسألة مسألة ، فعند ذلك قطعت عليه وتركت الوقف (٣).

فصح وثبت أن هذا حديث صحيح صريح في أن سن بلوغ الغلام هو اكمال ثلاث عشرة سنة والدخول في الاربع عشرة.

وفي صحيحة معاوية بن وهب ، قال : سألت ابا عبد الله عليه‌السلام في كم يؤخذ

__________________

(١) رجال النجاشي ص ٣٩ ـ ٤٠.

(٢) تهذيب الاحكام ٤ / ١٥٠.

(٣) عيون أخبار الرضا ٢ / ٢٢٩.


الصبي بالصيام؟ فقال : فيما بين خمس عشرة سنة وأربع عشرة سنة ، فان هو صام قبل ذلك فدعه ، ولقد صام ابني فلان قبل ذلك وتركته (١).

فقول الشهيد الثاني رحمه‌الله في شرح الشرائع : ويعتبر اكمال السنة الخامس عشرة ، فلا يكفي الطعن فيها ، عملا بالاستصحاب وفتوى الاصحاب ، ولنا رواية اخرى ان الاحكام تجري على الصبيان في ثلاث عشرة سنة وأربع عشرة سنة وان لم يحتلم ، وليس فيها تصريح بالبلوغ مع عدم صحة سندها.

محل نظر ، أما السند ، فقد عرفت صحته. وأما التصريح بالبلوغ ، فان ايجاب الصيام واجراء جميع الاحكام لا يتصور بدونه.

ويظهر من كلام شارح الرسالة الجعفرية ، حيث قال : ويتحقق البلوغ في الذكر باكمال خمس عشرة سنة على الاصح ، لا بدخول الخامس عشرة ، كما ذهب اليه المتأخرون أن جميعهم ذهبوا اليه.

وبالجملة لا دليل في الحقيقة على ما هو المشهور من اكمال الخامس عشرة ، فان الاخبار الدالة عليه ضعيفة ولا اجماع هنا ، والاصل والاستصحاب وفتوى بعض الاصحاب بعد ورود النص الصحيح صريح في اكمال ثلاث عشرة سنة ، والدخول في الاربع عشرة لا عبرة بها.

وتتفرع على هذا الخلاف فروع لا تحصى :

منها : أن من استطاع بعد اكمال ثلاث عشرة سنة والدخول في الاربع عشرة وحج في هذا السن ، لا يجب عليه الحج بعد ذلك خلافا للمشهور.

ومنها : أنه اذا مات في هذا السن يجب أن يصلي عليه صلاة البالغين ، ولا يجوز أن يقول في الدعاء : اللهم اجعله لابويه ولنا سلفا وفرطا وأجرا ، لانه مختص

__________________

(١) فروع الكافى ٤ / ١٢٥ ، ح ٢.


بالاطفال ، وهذا ليس منهم.

ومنها : أنه اذا بلغ هذا السن وأونس منه الرشد ، دفع اليه أمواله ، الى غير ذلك كما أشار اليه الامام عليه‌السلام في الحديث السابق ذكره بقوله « وجاز له كل شي‌ء » الا أن يكون ضعيفا ، أي : في عقله.

واعلم أن الذكر والانثى مشتركان في العلامتين الاوليين ، وهما خروج المني من الموضع المعتاد ، ونبات الشعر الخشن على العانة. وأما السن في الانثى ، ففيه أيضا خلاف لاختلاف الروايات ، ففي رواية عمار السابقة أنه ثلاث عشرة سنة وروي أنه يحصل بعشرة سنين. وذهب العامة الى أن بلوغها بالسن لا يحصل الا بخمس عشرة سنة ، وانما اختلفوا فيما زاد.

وفي أكثر الروايات الواردة في طريقنا أنه انما يحصل باكمال تسع سنين ، وهو الاقوى وعليه الفتوى.

ويؤيده ما دل على عدم جواز الدخول بها قبل التسع وجوازه بعده ، مع عدم معارض صحيح.

والقول بأن أصالة عدم التكليف والبلوغ يقتضي استصحاب الحال السابق الى أن يعلم المزيل ، وهو بلوغ خمس عشرة سنة ان لم يحصل قبله أمر آخر ، مجاب بما سبق أن الاصل انما يصار اليه اذا لم يقم على خلافه دليل ، وهنا قد قام.

بل قيل : يفهم من التذكرة أن بلوغها ببلوغ التسع اجماعي عندنا ، فلا عبرة بخلاف المخالفين وشواذ أصحابنا.

وبما قررناه يعلم حال الخنثى ، لانه ان كان انثى فبلوغه بالسن ، هو اكمال التسع والدخول في العاشرة.

وان كان ذكرا ، فباكمال ثلاث عشرة سنة والدخول في الاربع عشر ، وكذا اذا كان مشكلا.


واذا خرج منيه من فرجيه أو حاض من فرج وأمنى من فرج آخر فهو بالغ ، وكذا اذا خرج منيه من فرج الذكر ، أو حيضه من فرج الانثى ، لان الاول يدل على كونه ذكرا بالغا ، كما يدل الثاني على كونه انثى كذلك.

وتم الاستنساخ والتصحيح في (٢٧) رجب المبارك (١٤١١) هـ ق في بلدة قم المقدسة على يد العبد السيد مهدي الرجائي عفي عنه.



سلسلة آثار المحقق الخاجوئى

(٥٩)

رسالة

فى من أدرك الامام فى أثناء الصلاة

للعلّامة المحقّق العارف

محمّد اسماعيل بن الحسين بن محمّد رضا المازندرانى الخاجوئي

المتوفّى سنة ١١٧٣ ه‍ ق

تحقيق

السّيّد مهدى الرّجائي



بسم الله الرّحمن الرّحيم

في الفقيه والتهذيب والاستبصار عن الحسين بن سعيد ، عن ابن أبي عمير ، عن ابن اذينة ، عن زرارة ـ فالسند الصحيح ـ عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : اذا أدرك الرجل بعض الصلاة وفاته بعض خلف امام يحتسب بالصلاة خلفه ، جعل أول ما أدرك أول صلاته ، ان أدرك من الظهر أو العصر أو العشاء الركعتين وفاتته ركعتان قرأ في كل ركعة مما أدرك خلف الامام في نفسه بام الكتاب وسورة ، فان لم يدرك السورة تامة أجزأته ام الكتاب.

فاذا سلم الامام قام فصلى ركعتين لا يقرأ فيهما ، لان الصلاة انما يقرأ فيها في الاولتين في كل ركعة بام الكتاب وسورة ، وفي الاخيرتين لا يقرأ فيهما ، انما هو تسبيح وتكبير وتهليل ودعاء ليس فيهما قراءة.

فان أدرك ركعة قرأ فيها خلف الامام ، فاذا سلم الامام قام فقرأ ام الكتاب وسورة ، ثم قعد فتشهد ثم قام فصلى ركعتين ليس فيهما قراءة (١).

وفي الكافي عن محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن صفوان ، عن

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٣ / ٤٥ ، الاستبصار ١ / ٤٣٦ ، من لا يحضره الفقيه ١ / ٣٩٣.


عبد الرحمن بن الحجاج ـ فالسند صحيح ـ قال : سألت ابا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يدرك الركعة الثانية من الصلاة مع الامام وهي له الاولى ، كيف يصنع اذا جلس الامام؟

قال : يتجافى ولا يتمكن من القعود ، فاذا كانت الثالثة للامام وهي له الثانية ، فليلبث قليلا اذا قام الامام بقدر ما يتشهد ، ثم يلحق الامام.

قال وسألته عن الرجل الذي يدرك الركعتين الاخيرتين من الصلاة كيف يصنع بالقراءة؟ فقال : اقرأ فيهما فانهما لك الاولتان ، ولا تجعل أول صلاتك آخرها (١).

أقول : من أدرك الامام وهو في الركوع ، فقد أدرك ركعة على المشهور ولا قراءة له فيها ، وهو ما كان حاضرا وقت قراءة الامام ، وكذا لو أدركه في أثناء الثالثة أو الرابعة وفي آخر جزء منهما قبيل الركوع ، فقد أدرك ركعة بطريق أولى ولا يمكنه قراءة الفاتحة تامة فضلا عن قراءة السورة ، لوجوب المتابعة.

ومن هنا يعلم أن صحة صلاته غير متوقفة على قراءته فيما يقرأ فيه ، ولا حضوره وقت قراءة الامام ، وذلك أن الامام ضامن للقراءة مطلقا ، أدركه المأموم وقت القراءة أم لم يدركه.

كما يفيده ظاهر موثق سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه سأله رجل عن القراءة خلف الامام ، فقال : ان الامام ضامن للقراءة ، وليس يضمن الامام صلاة الذين خلفه ، انما يضمن القراءة ، كذا في الاستبصار (٢) ، وقريب منه ما في الفقيه (٣).

فصحيحتا زرارة وابن الحجاج المتضمنتان لقراءة المأموم خلف الامام اذا

__________________

(١) فروع الكافى ٣ / ٣٨١ ، ح ١.

(٢) الاستبصار ١ / ٤٤٠ ، ح ٣.

(٣) من لا يحضره الفقيه ١ / ٤٠٦.


أدركه في الاخيرتين : اما محمولتان على الاستحباب ، أو شاذتان غير معمول بهما ، كما سنشير اليه إن شاء الله العزيز.

فان قلت : لم لا يخصص ما دل على عدم وجوب القراءة على المأموم بغير هذه الصورة الدالة عليها الصحيحتان؟

قلت : لان في التخصيص يلزم ارتكاب خلاف الاصل والظاهر ، بخلاف ما اذا حملناهما على الاستحباب ، فانه لا يضر بعموم ما تضمن سقوط القراءة عن المأموم مطلقا.

فاعتراض صاحب المدارك على العلامة لما حمل الامر في الصحيحتين على الندب ، لما ثبت من عدم وجوب القراءة على المأموم ، بأن ما تضمن سقوط القراءة باطلاقه لا ينافي هذين الخبرين المفصلين ، لوجوب حمل الاطلاق عليهما.

مدفوع ، لان تقييد المطلق هو خلاف الاصل ، والظاهر انما يصار اليه اذا دعت داعية اليه ولا داعي هنا ، لامكان حملهما على الندب الغير المنافي لاطلاق غيرهما وعمومه.

ولعل هذا مراد الفاضل الاردبيلي رحمه‌الله في شرحه على الارشاد ، بعد أن أجاب عن الصحيحتين بأنهما تدلان على وجوب السورة أيضا مع عدم القول به ، كما يفهم من الشرح ، وعلى الوجوب في غير الصورة التي نقل الوجوب فيها في ركعة فقط.

بقوله : مع أنه يجب الجمع بينهما وبين ما دل على السقوط عن المأموم فيحمل على الندب ، وان كان يقتضي القاعدة الاصولية تقييد العموم (١) بغير هذه الصورة ، ولكن هذا الجمع أولى ، لضعف دليل الوجوب مع الندرة.

قال : وأيضا قد يكون المقصود في الثانية النفي عن التسبيح في الاولتين

__________________

(١) الاولى تخصيص العموم ، كما أشرنا اليه « منه ».


والقراءة في الاخيرتين ، كما يشعر به قوله « فلا تجعل أول صلاتك آخرها » لان ذلك معناه ، كأنه يقول : ان تقرأ فاقرأ في الاولتين ، لا أن تتركها فيهما ، وتقرأ في الاخيرتين وتقلب صوتك.

وبالجملة الاستحباب في موضع النص غير بعيد ، كما اختاره العلامة في المنتهى ، وتدل عليه رواية أحمد بن النضر عن رجل عن أبي جعفر عليه‌السلام قال قال لي : أي شي‌ء يقول هؤلاء في الرجل اذا فاتته مع الامام ركعتان؟ قال يقولون : يقرأ في الركعتين بالحمد والسورة ، فقال : هذا يقلب صوته فيجعل أولها آخرها فقلت : كيف يصنع؟ قال : يقرأ بفاتحة الكتاب في كل ركعة (١).

قال رحمه‌الله : يمكن أن يريد بكل ركعة انفرد عن الامام ، فيكون قراءتهما مستحبة كما مر (٢).

فان قلت : فما تقول في قول بعض فقهائنا بوجوب قراءة المأموم خلف الامام اذا أدركه في الاخيرتين ، واستدلاله عليه بقوله لئلا تخلو الصلاة عن قراءة ، اذ هو مخير في التسبيح في الاخيرتين.

قلت : فيه نظر من وجوه :

أما أولا ، فلان خلو صلاة المأموم عن قراءته مما لا محذور فيه ولا مانع منه ، بل هو كذلك بالنسبة الى من أدرك أول الصلاة فضلا عن غيره.

وأما قوله عليه‌السلام « لا صلاة الا بفاتحة الكتاب » فانما هو في صلاة الانفراد وبالنظر الى القادر عليها لا في الجماعة ، مع أن قراءة الامام لما كانت قائمة مقام قراءة المأموم صدق أن صلاته أيضا مقرونة بقراءة الفاتحة ، فالحديث على عمومه ، فتأمل.

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٣ / ٤٦ ، ح ٧٢.

(٢) مجمع الفائدة ٣ / ٣٢٧ ـ ٣٢٨.


وروى سليمان بن خالد في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قلت له : أيقرأ الرجل في الاولى والعصر خلف الامام وهو لا يعلم أنه يقرأ؟ فقال : لا ينبغي ان يقرأ يكله الى الامام (١).

وفيه دلالة على مرجوحية قراءة المأموم خلف الامام في الركعتين الاخيرتين من الصلاة ، لان عدم علمه بقراءته انما يتصور فيهما ، لاحتمال أن يكون مسبحا ، لا في الأوليين باعتبار كون الصلاة اخفاتية ، أو بعده منه وعدم سماعه قراءته (٢) لذلك ، كما يوهمه ظاهر السياق.

لان العلم بقراءته فيهما لعدالته المعتبرة فيه المانعة من تركه القراءة الواجبة عليه عمدا ، وخاصة اذا كان امام جماعة ضامنا لقراءة من خلفه ، كاد أن يكون يقينا ، ولذلك نهاه عليه‌السلام عن القراءة وأمره بأن يكله اليه.

وبالجملة السؤال عن قراءة الرجل خلف الامام المرضي ، كما يدل عليه الجواب معللا بأنه لا يعلم أنه يقرأ ، قرينة واضحة على أن المراد به قراءة من أدرك الركعتين وفاتته الركعتان.

وقد أجاب عنه الامام عليه‌السلام بأنه لا ينبغي له القراءة ، فدل على الكراهة ، لكن في هذه الصورة لا في الركعتين الاوليين ، كما ظنه بعض الفضلاء.

كيف وهذا ينافي ما دل على حرمة القراءة في غير الجهرية التي لا تسمع ولو همهمة ، كما في صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم عن الباقر عليه‌السلام أنه قال : كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول : من قرأ خلف امام يأتم به بعث على غير فطرة (٣).

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٣ / ٣٣ ، ح ٣١.

(٢) الا أن يقال : انه أراد به العلم الحاصل من طريق السمع ، أو ضمن علم معنى سمع وفيه بعد « منه ».

(٣) من لا يحضره الفقيه ١ / ٣٩٠ ، ح ١١٥٦.


وانما خصصناه بذلك لصحيحة الحلبي عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : اذا صليت خلف امام تأتم به فلا تقرأ خلفه ، سمعت قراءته أو لم تسمع ، الا أن تكون صلاة يجهر فيها بالقراءة فلم تسمع فاقرء (١).

وفي رواية : ان سمعت الهمهمة فلا تقرء (٢). هذا.

وأما ثانيا ، فلانه لا يثبت بما ذكره وجوب القراءة على المأموم في الاوليين معا ، اذ لو قرأ في احداهما أو في احدى الاخيرتين ، لصدق أن صلاته لا تخلو عن قراءة.

وأما ثالثا ، فلان الاصل عدم الوجوب وبراءة الذمة عنه ، والصحيحتان لا تنفيانه ، لانهما اما محمولتان على الاستحباب ، كما عليه العلامة ، وتبعه فيه أكثر المتأخرين.

ويؤيده شيوع استعمال الاوامر والنواهي في كلامهم عليهم‌السلام في الندب والكراهة ، حتى قيل : انهما حقيقتان فيهما عرفيتان.

ومنه ما سبق من النهي عن القراءة في الاخيرتين ، والامر بالتجافي وعدم التمكن من القعود ، فانهما للكراهة والندب ، وبذلك يضعف الاستدلال بما فيهما من الامر والنهي على الوجوب والتحريم.

فان قلت : المشهور أنه مخير في الاخيرتين بين التسبيح والقراءة ، بل ادعى العلامة في المختلف اجماع علمائنا عليه ، وهذا يفيد أن القراءة فيهما لا كراهة فيها.

قلت : ليس كذلك الامر ، لان التخيير بين الافضل والمفضول جائز كالتخيير بين الجمعة والظهر على القول به ، مع كون الاولى أفضل الواجبين ، فتكون الثانية مكروهة ، بمعنى أنها أقل ثوابا ، كما فيما نحن فيه ، فان التسبيح أفضل من

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ / ٣٩١ ، ح ١١٥٧.

(٢) من لا يحضره الفقيه ١ / ٣٩٢ ، ح ١١٥٨.


القراءة مطلقا ، كما دل عليه كثير من الاخبار ، فتكون القراءة مكروهة بهذا المعنى.

هذا أو متروكتان عملا ، ولذا لم يوجد في كتب جل أصحابنا وجوب قراءة المأموم ولا استحبابها خلف الامام اذا أدركه في الاخيرتين ، ولم يفرقوا في ذلك بين أن يكون الامام مسبحا (١) فيهما أم قاريا.

قال في المدارك بعد قول المصنف « لو أدرك في الرابعة دخل معه ، فاذا سلم الامام قام فصلى ما بقي عليه ، ويقرأ في الثانية بالحمد وسورة ، وفي الاثنتين الاخيرتين بالحمد ، وان شاء سبح » :

لا خلاف في التخيير بين قراءة الفاتحة والتسبيح في الاخيرتين في هذه الصورة ، وانما الخلاف فيما اذا أدرك معه الركعتين الاخيرتين وسبح الامام فيهما ، فقيل : يبقى التخيير بحاله للعموم وقيل تتعين القراءة لئلا تخلو الصلاة من فاتحة الكتاب ، وهو ضعيف (٢) انتهى.

وقد عرفت وستعرف أيضا وجه ضعفه وعدم اعتباره عند الاكثرين ، حتى أن العلامة في المنتهى صرح بأن هذا القول ليس بشي‌ء.

أما رابعا ، فلانه منقوض بصلاة من أدرك أول الصلاة ، فان فرق بينهما بحضوره وقت قراءة الامام دون هذا ، قلنا في كون هذا فارقا بينهما نظر ، لان ما دل على سقوط القراءة عن المأموم ، وكون الامام ضامنا لقراءته عام فتخصيصه بهذا دون ذاك يحتاج الى مخصص وليس ، اذ قد عرفت حال الصحيحتين وعدم صلاحيتهما للتخصيص على تقدير العمل بهما ، وانهما قاصرتان عن افادة الوجوب فتذكر.

ويمكن التوفيق بينهما وبين ما دل على عدم وجوب القراءة على المأموم

__________________

(١) يعلم كونه مسبحا من عادته ، أو تصريحه بترجيح التسبيح على القراءة مطلقا وان كان اماما ، أو بسماع المأموم تسبيحه لقربه منه وكونه في جنبه ونحو ذلك « منه ».

(٢) مدارك الاحكام ٤ / ٣٨٤.


بوجه آخر ، وهو أن صحيحة ابن الحجاج مطلقة ، وصحيحة زرارة مقيدة يكون القراءة في النفس لا في اللفظ ، فاذا حملنا المطلق على المقيد وعملنا به يكون مقتضاه القراءة النفسية دون اللفظية.

قال بعض الفضلاء : المراد بالقراءة في نفسه حديث النفس وتخيل ألفاظ القراءة واجرائها على القلب ، وربما كان مع تحريك اللسان دون التلفظ بها ، وما يستفاد من سائر الاخبار من المنع عن القراءة هو التلفظ بها ، فلا منافاة.

قال : ويمكن حمله على أن يكون الامام مسبحا فيقرأ المأموم لئلا تخلو صلاته عن الفاتحة ، بناء على أنه لا بد في الاخيرتين من التسبيح ، فيكون المنع من القراءة حيث يقرأ الامام. وفيه ما عرفته ، فتأمل.

تم الاستنساخ والتصحيح في (٢٨) رجب المبارك سنة (١٤١١) هـ ق في بلدة قم المقدسة على يد العبد السيد مهدي الرجائي عفي عنه.


سلسلة آثار المحقق الخاجوئى

(٦٠)

الرسالة

الهلالية

للعلّامة المحقّق العارف

محمّد اسماعيل بن الحسين بن محمّد رضا المازندرانى الخاجوئي

المتوفّى سنة ١١٧٣ ه‍ ق

تحقيق

السّيّد مهدى الرّجائي



بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله الذي جعل من علامتي (١) دخول الشهر رؤية الهلال ، وجعل رؤيته في أول ليلة الثلاثين من شهر رمضان امارة من دخول شوال ، ولم يجعله مبهما ليقول قائل ومن العلامة رؤيته يوم الثلاثين منه قبل الزوال ، بل أوضح الامر وبينه حيث جعل ذلك من علامة دخول الشهر في الاستقبال ، وصلى الله على خير خلقه سيدنا محمد وآله ما اختلفت الغدو والآصال.

وبعد : فهل تكون رؤية الهلال في اليوم الثلاثين قبل الزوال امارة شرعية وحجة ظنية على كونه ليلة الماضية؟ فيكون هذا اليوم غرة الشهر ، فتترتب عليه الاحكام الشرعية من مواقيت الحج والعمرة والنذر والاعياد والصوم والصلاة ، الى غير ذلك من العبادات والمعاملات وغيرهما؟ فيه خلاف.

قال سيدنا المرتضى في المسائل الناصرية ، لما ذكر قول الناصر انه اذا رأى الهلال قبل الزوال فهو لليلة الماضية : هذا صحيح ، وهو مذهبنا (٢).

__________________

(١) لدخول الشهر علامتان : رؤية الهلال ومضى الثلاثين ، وأما ما عداهما من العلامات فلا عبرة به شرعا « منه ».

(٢) المسائل الناصرية ص ٢٤٢ ، المسألة : ١٢٦.


واعتبر آية الله العلامة ذلك في الصوم دون الفطر ، وهو فرق ضعيف لا دليل عليه.

وقال ابن الجنيد : رؤية الهلال يوم الثلاثين من شهر رمضان أي وقت كان اذا لم يصح أن الليلة الماضية قد رأى فيها لا توجب الافطار ، فاذا صحت الرؤية فيها انظر أي وقت يصح ذلك عنده من نهار يوم ثلاثين (١).

وقال شيخ الطائفة في الخلاف : اذا رأى قبل الزوال أو بعده فهو لليلة المستقبلة دون الماضية (٢). ومثله قال في التهذيب.

ونحن ننقل الاخبار الواردة في هذه المسألة من الطرفين ، ثم تأخذ في نقدها وقلبها ونقل ما فهموه منها ، وما فيه وما عليه ، وترجيح ما هو راجح عندنا ، فان أصبنا فمن الله ، وان أخطأنا فمن قصورنا في الاجتهاد ، ونسأل الله الهداية ، ونطلب منه السداد ، انه يهدي من يشاء الى طريق الحق وسبيل الرشاد.

فصل

[ أخبار المسألة ]

روى الشيخ في التهذيب والاستبصار عن محمد بن يعقوب ، عن علي بن ابراهيم ، عن أبيه ، عن ابن ابي عمير ، عن حماد بن عثمان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : اذا رأوا الهلال قبل الزوال فهو لليلة الماضية ، واذا رأوه بعد الزوال فهو لليلة المستقبلة (٣).

__________________

(١) المختلف ص ٦٥ ، كتاب الصوم.

(٢) الخلاف ٢ / ١٧١.

(٣) تهذيب الاحكام ٤ / ١٧٦ ، ح ٦٠ ، الاستبصار ٢ / ٧٣ ـ ٧٤ ح ٥.


وعن سعد بن عبد الله ، عن أبي جعفر ، عن أبي طالب عبد الله بن الصلت ، عن الحسن بن علي بن فضال ، عن عبيد بن زرارة ، وعبد الله بن بكير ، قالا قال أبو عبد الله عليه‌السلام : اذا رؤي الهلال قبل الزوال ، فذلك اليوم من شوال ، واذا رؤي بعد الزوال ، فهو من شهر رمضان (١).

وعن علي بن حاتم ، عن محمد بن جعفر ، عن محمد بن أحمد بن يحيى ، عن محمد بن عيسى ، قال : كتبت اليه عليه‌السلام جعلت فداك ربما غم علينا هلال شهر رمضان ، فنرى من الغد الهلال قبل الزوال ، وربما رأيناه بعد الزوال ، فترى أن نفطر قبل الزوال اذا رأيناه أم لا؟ وكيف تأمرني في ذلك؟ فكتب عليه‌السلام : تتم الى الليل ، فانه اذا كان تاما لرؤي قبل الزوال (٢).

قال صاحب الوافي فيه بعد نقل هذه الرواية عن التهذيب : هكذا وجدت هذا الحديث في نسخ التهذيب ، وفي الاستبصار : ربما غم علينا الهلال في شهر رمضان. وهو الصواب لانه على نسخة التهذيب لا يستقيم المعنى الا بتكلف ، الا أنه على نسخة الاستبصار ينافي سائر الاخبار التي وردت في هذا الباب ، لانه على ذلك يكون المراد بالهلال هلال شوال (٣).

وقال بعيد ذلك : والظاهر أن نسخة التهذيب من سهو النساخ (٤).

أقول : وفي نسخة الاستبصار عندي قديمة قوبلت على نسخة كان عليها خط الشيخ المصنف وخط محمد بن ادريس هكذا : ربما غم الهلال شهر رمضان. بدون ذكر « علينا » ولفظه « في » والظاهر أن كلمة « شهر » على هذه النسخة منصوبة.

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٤ / ١٧٦ ، ح ٦١ ، الاستبصار ٢ / ٧٤ ، ح ٦.

(٢) تهذيب الاحكام ٤ / ١٧٧ ، ح ٦٢ ، الاستبصار ٢ / ٧٣ ، ح ١.

(٣) الوافى ١١ / ١٤٨.

(٤) الوافى ١١ / ١٤٩.


مع أنه على هذه النسخة لا ينافي الا الخبرين المذكورين ولا خير فيه ، لان الثاني منهما ضعيف ، كما سيأتي. والاول وان كان صحيحا أو حسنا ، الا أنه وارد في طريق التقية وفي متنه كلام سيأتي ، هذا.

وعنه عن الحسن بن علي ، عن أبيه ، عن الحسن ، عن يوسف بن عقيل ، عن محمد ابن قيس ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : اذا رأيتم الهلال فافطروا وأشهدوا عليه عدولا من المسلمين ، فان لم تروا الهلال الا من وسط النهار أو آخره ، فأتموا الصيام الى الليل ، فان غم عليكم فعدوا ثلاثين فأفطروا (١).

وعن الحسين بن سعيد ، عن النظر بن سويد ، عن القاسم بن سليمان ، عن جراح المدائني ، قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام : من رأى هلال شوال بنهار رمضان فليتم صيامه (٢).

وعنه عن فضالة ، عن أبان بن عثمان ، عن اسحاق بن عمار ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن هلال رمضان يغم علينا في تسع وعشرين من شعبان ، فقال : لا تصمه الا أن تراه ، فان شهد أهل بلد آخر أنهم رأوه فاقضه ، واذا رأيته وسط النهار ، فأتم صومه الى الليل. يعني بقوله عليه‌السلام « أتم صومه الى الليل » على أنه من شعبان دون أن ينوي أنه من رمضان (٣).

وفي التهذيب في آخر باب الزيادات ، عن الصفار ، عن ابراهيم بن هاشم ، عن زكريا بن يحيى الكندي الرقي ، عن داود الرقي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : اذا طلب الهلال في المشرق غدوة فلم ير ، فهو هنا هلال جديد ، رؤي أو لم ير (٤).

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٤ / ١٧٧ ـ ١٧٨ ، ح ٦٣.

(٢) تهذيب الاحكام ٤ / ١٧٨ ، ح ٦٤.

(٣) تهذيب الاحكام ٤ / ١٧٨ ، ح ٦٥.

(٤) تهذيب الاحكام ٤ / ٣٣٣ ، ح ١١٥.


وفي صحيحة منصور بن حازم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : صم لرؤية الهلال وأفطر لرؤيته (١).

وفي صحيحة زيد الشحام عنه عليه‌السلام أنه سئل عن الاهلة ، فقال : هي أهلة الشهور فاذا رأيت الهلال فصم واذا رأيته فافطر (٢).

وفي صحيحة اسحاق بن عمار عنه عليه‌السلام أنه قال : في كتاب علي عليه‌السلام صم لرؤيته وأفطر لرؤيته (٣).

والاخبار بهذا المضمون متواترة أو كادت أن تبلغ حد التواتر.

أقول : ومن البين المعلوم الذي لا يكاد أن يخفى على أحد أن فزع المسلمين في وقت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن بعده الى زماننا هذا في تعرف الهلال الى معاينة الهلال ورؤيته ، انما كان في ليلة تحتمل فيها الرؤية وعدمها وهي ليلة الثلاثين ، لا في يومها قبل الزوال.

فاذا قيل : الصوم للرؤية والفطر للرؤية ، فانما يتبادر منه الى الذهن هذه الرؤية المعروفة عند أهل الدين المعلومة عند كافة المسلمين ، لا ما قد يتفق في يوم الثلاثين.

ويؤيده ما عليه الاصحاب من استحباب الدعاء عند رؤية الهلال ، تأسيا بالنبي والائمة عليهم‌السلام ، اذ لا شك أن ذلك انما كان بالليل ، كما هو المعروف في هذه الاعصار ، لا بالنهار في يوم الثلاثين عند رؤية الهلال قبل الزوال على سمت المشرق فليكن هذا على ذكر منك عسى أن ينفعك إن شاء الله العزيز.

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٤ / ١٥٧ ، ح ٨.

(٢) تهذيب الاحكام ٤ / ١٥٥ ، ح ٢.

(٣) تهذيب الاحكام ٤ / ١٥٨ ، ح ١٣.


فصل

[ تنقيح اسانيد أخبار المسألة ]

المراد بأبي جعفر في سند الرواية الثانية أحمد بن محمد بن عيسى ، كما صرح به ملا ميرزا محمد في الاوسط في الفائدة الثانية ، حيث قال : ذكر الشيخ وغيره في كثير من الاخبار سعد بن عبد الله عن أبي جعفر ، والمراد بأبي جعفر هذا هو أحمد بن محمد بن عيسى انتهى.

وهو وان كان على المشهور ثقة غير مدافع ، الا أن قول أبي عمرو الكشي في ترجمة يونس بن عبد الرحمن ، بعد نقله عن أحمد هذا نبذة من أخبار دالة على ذم يونس ، ذاكر لعل هذه الروايات كانت من أحمد قبل رجوعه ، يدفعه ويدل على ذمه كليا ، وعدم اعتباره في رواياته.

والاقوى عندي التوقف فيه ، فانه نقل عنه أشياء تفيد عدم تثبته في الامور ، بل بعضها تدل على سخافة عقله ، مثل ما نقل عن الفضل بن شاذان ، قال : أحمد ابن عيسى تاب واستغفر في وقيعته في يونس لرؤيا رآها.

فان مستنده في تلك الوقيعة ان كان دليلا شرعيا يفيد العلم أو الظن المتاخم له ، فكيف يسوغ له الرجوع عنه ، والاعتماد على ما رآه في المنام ، ولعله كان من أضغاث الاحلام والعدول عما يقتضيه الدليل الى ما يقتضيه الرؤيا ، مع احتمال كونها كاذبة غير مسوغ في شريعة العقل والنقل. وان لم يكن له عليه مستند شرعي كان ذلك منه بهتانا قادحا في عدالته.

ومثله ما نقل عنه في أحمد بن خالد البرقي من ابعاده عن قم ، ثم اعادته اليها واعتذاره اليه ومشيه بعد وفاته في جنازته حافيا حاسرا ليبرئ نفسه عما


قذفه به. فانه يدل على أنه رماه فيما رماه وهو شاك فيه ، وكان عليه أن يثبت في أمره ، فتركه وقذفه ثم نفيه يقدح فيه.

وفي اصول الكافي في باب النص على أبي الحسن الثالث عليه‌السلام حديث طويل يدل على ذمه من وجهين ، ذكرناهما في الحاشية ، وفي الاوسط لملا ميرزا محمد في الحاشية المعلقة على ترجمة أحمد هذا هكذا : في ارشاد المفيد ما يدل على قدح فيه ، وأوردناه في كتابنا الكبير. وبالجملة المستفاد مما ذكره الكشي في ترجمة يونس ذم أحمد ذاك ، وانه كان يضع الحديث ، فتأمل بعد المراجعة.

ثم ان الحسن بن علي بن فضال الواقع في الطريق فطحي المذهب ، وان رجع عنه في غمرات الموت. ولكن رجوعه هذا لا يجدي نفعا في الاعتماد على حديثه على مذهب من لا يعمل بالموثق بل يرده ، كأكثر أصحابنا ، ومنهم العلامة كما صرح به في كتبه الاصولية.

وقال صاحب المدارك بعد نقله ما رواه الشيخ في التهذيب عن سعد بن عبد الله ، عن أبي جعفر ، عن الحسن بن محبوب ، عن أبي أيوب ابراهيم بن عثمان ، عن أبي عبيدة الحذاء ، قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : أيما ذمي اشترى من مسلم أرضا ، فان عليه الخمس (١).

استضعفه جدي قدس‌سره في فوائد القواعد ، وذكر في الروضة تبعا للعلامة في المختلف أنه من الموثق ، وهو غير جيد ، لانه في أعلى مراتب الصحة ، فالعمل به متعين (٢).

أقول : الظاهر أن جده قدس‌سرهما بعد ما تبع العلامة في الحكم بانه من

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٤ / ١٢٣.

(٢) مدارك الاحكام ٥ / ٣٨٦.


الموثق ، وقف على قدح في أبي جعفر هذا ، كما أومأنا اليه ، فحكم بضعف السند الذي هو من رجاله ، وهو المطابق للامر نفسه.

وأما السيد السند ، فلما لم يقف على قدح فيه وذلك لقصوره في التتبع والتأمل فيما نقلناه ، وكان هو على المشهور غير مدافع ، حكم بكون هذا السند في أعلى مراتب الصحة.

ولا كذلك الامر في نفسه ، ولكنه من مثله هين سهل لين ، لانه تبع في ذلك المشهور ولم يبذل جهده ، وانما الكلام في مثل الفاضل العلامة وطول يده في الرجال والاطلاع على الاحوال أنه كيف حكم بكونه من الموثق؟ ورجاله كلهم اماميون موثقون لا قدح فيهم أصلا الا في أبي جعفر هذا.

فمن وقف عليه فهذا السند عنده ضعيف ، ومن لم يقفه عليه فهو عنده صحيح بل في أعلى مراتب الصحة ، كما أفاده السيد السند ، وأما أنه موثق فمما لا وجه له أصلا ، وهو قدس‌سره أعرف بما قال ، والله أعلم بحقيقة الحال.

وحكي عن ولده فخر المحققين أنه قال : سألت والدي عن أبان بن عثمان ، فقال : الاقرب عندي عدم قبول روايته ، لقوله تعالى « إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ » (١) ولا فسق أعظم من عدم الايمان.

واذا لم تكن رواية ابن عثمان ، وهو ممن أجمعت العصابة على تصديقه وتصحيح ما يصح عنه عنده مقبولة ، فبأن لا تكون رواية ابن فضال هذه مقبولة أولى.

وهذا معنى قوله في مقام رد الحديث الثاني ، فان في طريقه ابن فضال ، وهو ضعيف. ولعله لذلك جعل الشهيد في الدروس (٢). دليل السيد على مذهبه

__________________

(١) سورة الحجرات : ٦.

(٢) الدروس ص ٧٦.


رواية حماد بن عثمان .. يذكر دليلا عليه رواية ابن فضال ، فتأمل.

فقول الفاضل الاردبيلي رحمه‌الله في شرح الارشاد في مقام الرد على العلامة كونه ضعيفا ، غير ظاهر ، بل الظاهر أنه ثقة غير فطحي ، وان قيل انه فطحي (١) كما ترى ، فانه أراد رحمه‌الله بالضعيف مقابل الصحيح ، يعني انه ليس بحديث يعمل به ، كما يعمل بالصحيح لعدم ايمان راويه حال روايته ، ولا فسق أعظم من عدم الايمان فوجب التثبت في خبره كما أمر الله به.

ثم قال العلامة رحمه‌الله : ومع ذلك لا يصلحان ـ أي : الخبران المذكوران ـ لمعارضة الاحاديث الكثيرة الدالة على انحصار الطريق في الرؤية ومضي الثلاثين لا غير.

هذا وأما قول الفاضل الاردبيلي : وهذان الخبران ليسا بصريحين في الافطار والصوم ، اذ قد يكون لليلة المتقدمة ، مع عدم كون التكليف به الا مع العلم به في الليل أو بالشهود وفي النهار ، فتأمل. فان الظاهر من الرؤية هي المتعارفة ، وانما تكون في الليل ، فلا تشمل أخبارها لرؤية النهار ، ولهذا بعد الزوال غير داخل فيها (٢).

ففيه تأمل ، فان قوله عليه‌السلام : اذا رؤي الهلال قبل الزوال ، فذلك اليوم من شوال ، واذا رؤي بعد الزوال فذلك اليوم من شهر رمضان. صريح في الافطار والصوم ، فان ذلك اليوم لما كان من شوال كان يوم عيد ، فوجب فيه الافطار ، وكذا لما كان هذا اليوم من شهر رمضان وجب فيه الصوم.

نعم ما ذكره قدس‌سره صالح لان يجمع به بين الخبر الاول ، والاخبار المتضمنة لانحصار الطريق في الرواية ، أو مضي الثلاثين ، بأن المراد بالرؤية هي المتعارفة ، وانما تكون في ليلة الثلاثين لا في يومه ، فلا منافاة بين رؤيته في

__________________

(١) مجمع الفائدة ٥ / ٢٩٨.

(٢) مجمع الفائدة ٥ / ٣٠١.


ذلك اليوم ، والحكم بانه لليلة الماضية ، وبين عدم التكليف بالعمل به الا مع العلم به في الليل ، أو بالشهود في النهار ، بأنه رؤي في الليلة الماضية.

وبالجملة لا عبرة برؤيته في النهار رأى قبل الزوال أو بعده حكم بكونه لليلة الماضية ، أو لليلة المستقبلة. وانما العبرة برؤيته في الليل ، لانها المتعارفة في وقت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الى يومنا هذا.

ومع قطع النظر عن ذلك نقول : على ما قررناه انحصر ما يدل على اعتبار رؤية الهلال قبل الزوال في حسنة ابن عثمان ، وهي لا تنهض حجة في معارضة الاصل وظاهر الاخبار وقول معظم الاصحاب.

ومع هذا كله ليس ببعيد كونها واردة في طريق التقية ، لان من مذهب أبي يوسف والثوري وأحمد اعتبار رؤية الهلال قبل الزوال ، وجعلهم يوم الرؤية يوم عيد ومن شوال.

فبمقتضى قواعد الاصحاب ، حيث صرحوا بأن أحد الخبرين اذا كان مخالفا لاهل الخلاف ، والاخر موافقا لهم ، يرجع المخالف لاحتمال التقية في الموافق على ما هو المعلوم من أحوال الائمة عليهم‌السلام.

وقد أخذوا ذلك من مقبولة عمر بن حنظلة ، بل صحيحته ، لان الشهيد الثاني وثقه (١) في الدراية ، حيث قال : جعلت فداك وجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والاخر مخالفا لها ، فبأي الخبرين يؤخذ؟ قال : بما يخالف العامة ، فان فيه

__________________

(١) في باب أوقات الصلاة من التهذيب هكذا : محمد بن يعقوب عن على بن ابراهيم عن محمد بن عيسى عن يونس عن يزيد بن خليفة الحارثى ، قال قلت لابى عبد الله عليه‌السلام ان عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : اذا لا يكذب علينا الحديث ، فتأمل في افادته « منه ».


الرشاد (١) (٢).

ورواية علي بن أسباط ، قال قلت للرضا عليه‌السلام يحدث أمر لا أجد بدا من معرفته وليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك ، قال فقال : ائت فقيه البلد فاستفتيه ، فاذا أفتاك بشي‌ء فخذ بخلافه ، فان الحق بخلافه (٣) كذا في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام باسناده اليه ، وجب الاخذ بما يخالفهم.

ومن هنا ترى شيخ الطائفة يقول : اذا تساوت الروايتان في العدالة والعدد عمل بأبعدهما من قول العامة.

فصل

[ تحقيق في رواة الاسانيد ]

صرح النجاشي بتوثيق علي بن حاتم ، بعد أن ذكره بعنوان علي بن أبي سهل (٤).

وقال الشيخ في الفهرست : علي بن حاتم له كتب كثيرة جيدة معتمدة ، نحوا من ثلاثين كتابا على ترتيب الفقه ، ثم عدها الى أن قال : منها كتاب الصوم أخبرنا بكتبه ورواياته أحمد بن عبدون ، عن أبي عبد الله الحسين بن علي بن

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٦ / ٣٠٢.

(٢) في التهذيب [ ٩ / ٢٧١ ] في كتاب الميراث في رواية زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام حديث طويل قال فيه : فأتيته من الغد بعد الظهر ، وكانت ساعتى التى كنت أخلو به فيها بين الظهر والعصر وكنت أكره أن أسأله الا خاليا خشية أن يفتيني من أجل من يحضرني بالتقية « منه ».

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ / ٢٧٥.

(٤) رجال النجاشي ص ٢٦٣.


شيبان القزويني (١).

وقال في أوائل مشيخة التهذيب : اقتصرنا من ايراد الخبر على الابتداء بذكر المصنف الذي أخذنا الخبر من كتابه ، أو صاحب الاصل الذي أخذنا الحديث من أصله (٢).

أقول : وعلى هذا فلا يضرنا ضعف الطريق ، أو جهالته الى صاحب الكتاب والاصل ، لاشتهارهما عند نقله عنهما ، فروايته عن علي بن حاتم بواسطة الحسين ابن علي بن شيبان وجهالته لا تضر.

أما أولا ، فلما ذكرناه ، وأما ثانيا ، فلانه من مشايخ الاجازة ، وأما ثالثا فلان ملا عناية الله قدس‌سره صرح في حاشيته على مجمع الرجال ، بأن الحسين هذا هو ابن أحمد بن شيبان القزويني ، وان الشيخ سها في تبديل أحمد بعلي ، ولا يخفى أمثاله من قلم الشيخ قدس‌سره. ثم قال : وحينئذ لا يخفى أن القزويني معتبر يدخل حديثه في الحسان انتهى.

أقول : اذا كان طريق الشيخ الى الكتاب حسنا ، وقد صرح بأنه كتاب جيد معتمد عليه ، كان الحديث المأخوذ منه أيضا معتبرا معتمدا.

ومن غيره يستفاد أن محمد بن جعفر الواقع في الطريق ، والمراد به الرزاز بقرينة روايته عن محمد بن أحمد بن يحيى ، معتبر معتمد عليه ، لرواية علي بن حاتم الثقة صاحب الكتاب هذا الحديث المعتبر المعتمد عليه ، لكونه مذكورا في هذا الكتاب المعتبر المعتمد عليه عنه ، فتأمل فيه ، فانه طريق أنيق ومسلك دقيق.

فعدم تصريحهم بتوثيقه ، بل وجهالته أيضا لا تضر ، لانه امامي المذهب لم يقدح فيه أحد. وقد روى عن جماعة من المعتبرين ، كمحمد بن يعقوب الكليني ، وأبي غالب الزراري ، وعلي بن حاتم الثقة ، ومن في هذه الطبقة ، وستعرف أن

__________________

(١) الفهرست ص ٩٨.

(٢) مشيخة التهذيب ص ٤.


كل ذلك دليل مدحه ، وحصول الظن بصدقه ، ووجوب العمل بروايته. وللشيخ الى الحسين بن سعيد طرق صحاح.

والقاسم بن سليمان في سند الحديث الخامس امامي ، لم يقدح فيه أحد ، له كتاب يرويه عنه النضر بن سويد. وقد صرح بحسن سند هو من رجاله ملا عناية الله القهپائي في مجمع الرجال.

والظاهر أن الشيخ أخذ الحديث المذكور : اما من كتابه ، أو من كتاب جراح المدائني ، وهو أيضا امامي المذهب ، من أصحاب الباقر والصادق عليهما‌السلام ، لم يقدح فيه أحد ، وله كتاب يرويه عنه جماعة منهم النضر بن سويد ، وقد صرح بحسن سند هو من رجاله الفاضل المذكور في الكتاب المسطور.

ولعل الوجه فيه ما أفاده رحمه‌الله في بعض حواشيه على هذا الكتاب بقوله : ومن المدح كون الرجل راويا عن أحد منهم عليهم‌السلام ، ومذكورا في جملة أصحابه ، ومنه كونه صاحب أصل أو كتاب ، ولذلك ترى أئمة الرجال يذكرون الرجل ويعدون له كذا وكذا كتبا ، فلو لم يكن كون الرجل صاحب أصل أو كتاب ، مع عدم التصريح بدم فيه مدحا كليا معتبرا عندهم ، لكان ذكر ما ذكروا في محل العبث. قال : وكذا من المدح أن يكون الرجل راويا عن معتبر ، أو يروي عن المعتبر.

أقول : كل ذلك قد جمع في جراح المدائني ، وبعضه في القاسم بن سليمان فهما ممدوحان مدحا كليا معتبرا عندهم.

وقال ملا مراد التفرشي في تعليقاته على مشيخة التهذيب : وظني أن من تحقق كونه من أهل المعرفة ، ولم يقدح فيه أحد ، وأكثر العلماء الرواية عنه ، يظن صدقه في الرواية ظنا غالبا ، وانه لا يكذب على الائمة عليهم‌السلام ، وهذا القدر كاف


في وجوب العمل بروايته ، ولا يحتاج الى أن يظن عدالته ، بل يكفي أن لا يظن فسقه ، لاستلزامه ظن وجوب التثبت في خبره ، الى آخر ما أفاده هناك.

والاظهر أن الشيخ أخذ هذا الحديث من كتاب الحسين بن سعيد ، بقرينة ما سبق من قوله : واقتصرنا من ايراد الخبر على الابتداء بذكر المصنف الذي أخذنا الخبر من كتابه. وكتب ابن سعيد كتب حسنة معمول عليها ، كما صرح به النجاشي في كتابه ، واذا كان هذا الكتاب كتاب حسن معمول عليه ، كان الحديث المأخوذ منه كذلك.

فظهر أن هذا حديث حسن لا ضعيف ، كما ظن صاحب الذخيرة قدس‌سره ، حيث قال فيها : والعجب أن الشيخ وجماعة استدلوا على القول بعدم اعتبار رؤية الهلال يوم الثلاثين قبل الزوال ، بصحيحة محمد بن قيس المذكورة ، وبرواية محمد بن عيسى ، وبما رواه الشيخ عن جراح المدائني ، واستدل الشيخ بموثقة اسحاق بن عمار المذكورة.

وأنت خبير بأن الاولى تدل على خلاف مقصودهم ، وكذا الثانية والرابعة وأما الثالثة ، فضعيفة لا تصلح لمقاومة ما ذكرنا من الاخبار.

وأما القول بأن المراد بالنهار المذكور فيها ما بعد الزوال بقرينة سائر الاخبار فان المطلق يحمل على المقيد ، كما قال به صاحب الوافي ، ومثله صاحب الذخيرة حيث قال فيها : نسبته الى ما ذكرناه من الاخبار نسبة العام الى الخاص فتخصص بها ، وهو محمول على الغالب من تحقق الرؤية بعد الزوال.

ففيه أن هذه الاخبار غير صالحة لتقييده وتخصيصه ، غير خبري حماد وابن بكير. وقد عرفت أن الثاني منهما ضعيف ، والاول وان كان حسنا لكنه معارض ومع ذلك وارد في طريق التقية ، ومضمونه مخالف لما هو الواقع ، الى غير ذلك من أسباب القدح فيه الاتية.


فليس هنا بعد تعمق النظر وتدقيقه وملاحظة الاطراف خبر صالح لتقييده وتخصيصه ، لان روايتي محمد بن قيس ومحمد بن عيسى وكذا موثقة اسحاق كلها مؤكدة لما دل عليه بعمومه على ما سنقرره إن شاء الله العزيز.

وأما رواية داود الرقي ، فبين ضعيفة ومجهولة ، ومع ذلك لها احتمالات كثيرة ، ومن المشهور بين الطلبة قولهم « اذا جاء الاحتمال سقط الاستدلال » فكيف يصلح لتخصيص حديث حسن أو تقييده.

على أن تخصيصه بما بعد الزوال يجعله قليل الفائدة بل عديمها ، اذ قل من يتوهم أن رؤية هلال شوال بعد الزوال يوجب الافطار ، أو لصحيحة حتى يحتاج في دفعه الى افادة ابتدائه بقوله : من رأى هلال شوال بنهار في رمضان فليتم صيامه ، فتأمل.

واعلم أن أبان بن عثمان الاحمر ممن أجمعت العصابة على تصديقه وتصحيح ما يصح عنه ، وهذا يكفي في اعتباره اذا روى عن معتبر رواته وتفيد أكثر من التوثيق.

لا يقال : قوله تعالى « إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ » (١) يوجب عدم اعتبار أمثاله ، فانه لا فسق أعظم من عدم الايمان.

لانا نقول : الفسق هو الخروج عن طاعة الله مع اعتقاده الفاسق كذلك ، ومثل هذا ليس كذلك ، فان هذا الاعتقاد عند معتقده هو الطاعة لا غير والاولى أن الاجماع خصصه.

قال الشيخ البهائي في مشرق الشمسين : ان متأخري أصحابنا ربما يسلكون طريقة القدماء في بعض الاحيان ، ويصفون بعض الاحاديث الذي في سنده من يعتقدون أنه ناووسي بالصحة ، نظرا الى اندراجه في من أجمعوا على تصحيح

__________________

(١) سورة الحجرات : ٦.


ما يصح عنهم وعلى هذا جرى العلامة في الخلاصة ، حيث قال : ان طريق الصدوق الى أبي مريم الانصاري صحيح ، وان كان في طريقه أبان بن عثمان ، مستندا الى اجماع العصابة على تصحيح ما يصح عنه (١).

أقول : هذا وان كان حقا ، الا أنه ينافي ما حكي عن ولده فخر المحققين ، وقد سبق هذا.

وأما اسحاق بن عمار الواقع في الطريق ، فالمراد به ابن حيان الكوفي الصيرفي الموثق الامامي الراوي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، لا ابن موسى الساباطي الفطحي الغير الراوي ، وان احتمل في أول النظر ، كما وقع للعلامة في الخلاصة ولابن داود في كتابه.

وأما داود بن كثير الرقي ، فمختلف فيه ، وثقه بعضهم ، وضعفه آخرون ، وقال العلامة في الخلاصة : والاقوى عندي قبول روايته ، لقول الشيخ الطوسي والكشي أيضا (٢).

وفيه أن الجرح مقدم على التعديل ، فكيف اذا كان الجارح جماعة من الفضلاء ، على أن زكريا بن يحيى الكندي الرقي الراوي عن داود هذا مجهول فالسند بين ضعيف ومجهول.

فصل

[ اضطراب كلام الاصحاب فى المسألة ]

كلامهم في هذه المسألة مشوش جدا ، فان الظاهر من كلام شيخ الطائفة

__________________

(١) مشرق الشمسين ص ٢٧٠.

(٢) رجال العلامة ص ٦٨.


في التهذيب أن الوارد من الاخبار الدالة على اعتبار رؤية الهلال قبل الزوال منحصر في روايتي حماد بن عثمان وعبد الله بن بكير ، وهما لكونهما غير معلومين ـ أي غير صحيحتين ـ لا تنهضان حجة في معارضة الاخبار المتواترة.

وقريب منه كلام الفاضل التستري في الدلالة على انحصار الدليل في الخبرين المذكورين كما سيأتي ، ولهما شركاء في ذلك من المتأخرين.

والمنقول عن المرتضى وهو لا يقول بحجية خبر الواحد ، معللا بأنه لا يفيد علما ولا عملا ، أنه قال في بعض مسائله : اذا رؤي الهلال قبل الزوال فهو لليلة الماضية. وهذا يفيد أن الاخبار الواردة بهذا المضمون متواترة عنده ، وهما متناقضان.

والشهيد في الدروس (١) جعل دليله على مذهبه هذا رواية حماد ، وقال : وهي حسنة لكنها معارضة.

وهذا منه غريب ، اذ المشهور أنه لا يعمل بخبر الواحد وان كان صحيحا ، فكيف يعمل في مثل هذه المسألة بحسنة حماد؟ مع معارضتها بالاصل والاستصحاب وروايات متواترة على ظن الشيخ.

فان قلت : لعل مضمون هذه الحسنة كان متواترا عند السيد في زمانه ، أو محفوفا بقرائن تفيد علما به أو ظنا متاخما له ، وعليه نزل ما ادعاه هو ومن تبعه من تواتر الاخبار الدالة على النص وغيره ، اذ لا شبهة في أن كلا منها آحاد ، الا أن القدر المشترك بينها كان متواترا عندهم في زمانهم ، وهذا عذر واضح في العمل بها.

قلت : هذا غاية ما يمكن أن يقال من جانبهم ، وان كان لا يجدينا نفعا ، لعدم تحقق مثل هذا العذر لنا ، ولما تبين من كثرة وقوع الخطأ في الاجتهاد ، وان مبنى

__________________

(١) الدروس ص ٧٦.


الامر على الظن لا على القطع ، فالموافقة لهم على ما قالوه لا يسوغ.

ولا يبعد أن يكون الى هذا أشار العلامة في المختلف بقوله « ادعى السيد » يعنى ان اجتهاده هذا في تحصيل الظن بتواتره وان كان حجة عليه الا أنه لا يجدينا نفعا ، فتأمل.

ويظهر من بعضهم أن حجته عليه الاجماع ، حيث قال : ادعى السيد أن عليا عليه‌السلام وابن مسعود وابن عمر وأنس قالوا به ولا مخالف لهم (١).

وهذا عجيب ، اذ المشهور أن معظم الاصحاب قالوا بعدم اعتبار رؤية الهلال قبل الزوال ، واستدلوا عليه بالاصل والاستصحاب ، والخبرين المؤيدين بظاهر الاخبار المتضمنة لانحصار الطريق في الرواية ، أو مضي الثلاثين.

الا أن يقول : مراده أنه لا مخالف لهم من الصحابة ، فيكون دليله عليه الاجماع لا الاخبار المتواترة. وهذا مع عدم ثبوته ليس بدليل يعارض ما سبق ، فتأمل.

ولو كان مراده أن هذا خبر مروي عن علي عليه‌السلام متواتر ، فحينئذ لا وجه لضم قول غيره اليه ، ولا لدعوى عدم المخالف لهم في ذلك. وكيف يمكن القول بتواتره ولا عين له في كتب الاصحاب اصولا وفروعا ، ولا قال به أحد ممن سبقه ، ولا أحد ممن لحقه ، ولا أحد ممن عاصره ، ولذلك اشتهر بينهم خلافه ، حتى قال في المنتهى : لا نعرف قائله ونسبه الى الشذوذ ، ولعله لذلك قال في المختلف : ادعى السيد ، تمريضا له وايماء لطيفا الى أنه محض ادعاء لا دليل عليه.

هذا مع قلة الاخبار المتواترة في طريقنا في شروح الشرائع ، حتى قال أبو الصلاح : من سئل عن ابراز مثال لذلك أعياه طلبه ، وعلى تقدير تسليم حصول ظنه بذلك لا يجدينا نفعا لما سبق ، فالموافقة له على ادعائه هذا كما فعل بعضهم ظنا منه أن ادعاء هذا يدل على ثبوت ذلك عنده بالقطع ، حيث لا يعمل

__________________

(١) المختلف ص ٦٥. كتاب الصوم.


بأخبار الاحاد ، والظنون تقليد ، لا يسوغ.

وهذا عبارته بعد اختياره : قول من قال باعتبار رؤية الهلال يوم الثلاثين قبل الزوال ، ويدل عليه أيضا ادعاء السيد أن هذا قول عليه‌السلام ، فانه يدل على ثبوت ذلك عند السيد بالقطع ، حيث لا يعمل بأخبار الاحاد والظنون ، الى هذا كلامه. وفيه ما عرفته.

فصل

[ ما يستفاد من خبرى ابنى عثمان وبكير ]

قال الشيخ في التهذيب بعد نقل روايتي حماد بن عثمان وعبد الله بن بكير السابقتين : هذان الخبران مما لا يصح الاعتراض بهما على ظاهر القرآن والاخبار المتواترة ، لانهما غير معلومين ، وما يكون هذا حكمه لا يجب المصير اليه ، مع أنهما لو صحتا لجاز أن يكون المراد بهما اذا شهد برؤيته قبل الزوال شاهدان من خارج البلد ، يجب الحكم عليه بأن ذلك اليوم من شوال.

وليس لاحد أن يقول : ان هذا لو كان مرادا لما كان لرؤيته قبل الزوال فائدة ، لانه متى شهد الشاهدان وجب العمل بقولهما ، لان ذلك انما يجب اذا كانوا في البلد ولم يروا الهلال.

والمراد بهذين الخبرين ألا يكون في البلد علة ، لكن أخطئوا رؤية الهلال ، ثم رأوه من الغد قبل الزوال ، واقترن الى رؤيتهم شهادة الشهود ووجب العمل به (١) الى هذا كلامه رفع مقامه.

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٤ / ١٧٧.


وأورد عليه الفاضل التستري في حاشيته على هذا الموضع بقوله ربما يقال ليس في ظاهر القرآن والاخبار دلالة على عدم اعتبار رؤية الهلال قبل الزوال ، وجعله علامة لليلة الماضية ، كما نبه عليه من عاصره قدس‌سره الشريف.

أقول : ظاهر مكاتبة محمد بن عيسى مطلقا ، وخاصة على نسخة الاستبصار ، وأخبار الرؤية وغيرهما يدل على عدم الاعتبار ، ولا يخفى على ذوي الابصار ، ولذلك حكم الاصحاب بأن حسنة حماد تدل على مذهب السيد ولكنها معارضة ، فتأمل فانه دقيق حتى خفي على مثل الفاضل المذكور ومن عاصره.

ثم قال : وان كان في العمل بمضمون هذين الخبرين والافطار في اليوم الذي دخل في صيامه بنية الوجوب لا يخلو من تأمل وجرأة ، لمكان الاستصحاب المؤيد بقوله تعالى « أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ » (١) وعدم ثبوت حجية الخبر الواحد ، كما نبه عليه أيضا المعاصر المتقدم ذكره الشريف.

أقول : في كلامه قدس‌سره ايماء لطيف الى عدم دلالة غير هذين الخبرين على اعتبار رؤية الهلال قبل الزوال ، كما ظنه صاحب الذخيرة ، وجعله جبرا وقهرا دليلا عليه ، أو اشارة خفية اليه.

ولا يخفى أن الاستدلال بمثل هذا على مثل ذلك خارج عن قانون الاستدلال لان مداره من السلف الى الخلف على الظاهر المتبادر ، لا على الاحتمالات البعيدة الغير المنساقة الى الاذهان.

هذا واعلم أن العاملين بخبر الواحد الصحيح اختلفوا في العمل بالحسن والموثق (٢) فمنهم من عمل بهما ، ومنهم من ردهما وهم الاكثرون ، حيث

__________________

(١) سورة البقرة : ١٨٧.

(٢) في الدراية الشهيدية : اختلفوا في العمل بالحسن ، فمنهم من عمل به مطلقا كالصحيح ، ومنهم من رده مطلقا وهم الاكثرون ، وفصل آخرون فقبلوا الحسن اذا كان العمل بمضمونه مشتهرا.

وكذا اختلفوا في العمل بالموثق نحو اختلافهم فى الحسن ، فقبله قوم مطلقا ، ورده آخرون ، وفصل ثالث « منه ».


اشترطوا في قبول الرواية الايمان والعدالة ، كما قطع به العلامة في كتبه الاصولية وغيره.

وعلى هذا فهذان الخبران غير معمول بهما عند الاكثرين ، وان سلمنا كون سند الثاني موثقا ، بل نقول : ان العمل بخبر الواحد العدل في مثل ذلك لا يخلو من اشكال ، الا أن تكون هناك قرائن تفيد العلم أو الظن بصدق الخبر.

ولذلك قال المحقق في المعتبر : الوجه الذي لاجله عمل برواية الثقة قبول الاصحاب وانضمام القرائن ، لانه لو لا ذلك لمنع العقل من العمل بخبر الثقة ، اذ لا قطع بقوله.

أقول : وهذا المعنى غير موجود هنا ، لان معظم الاصحاب كما عرفته لم يعملوا بالحسن والموثق ، وخاصة بهذا الحسن والموثق.

ولذلك قال صاحب المدارك بعد نقل قول المصنف قدس‌سرهما « ولا برؤيته يوم الثلاثين قبل الزوال » : هذا قول معظم الاصحاب (١).

وعجبي أنه كيف تردد في ذلك تبعا للمصنف في النافع (٢) والمعتبر (٣) بمجرد تينك الروايتين ، والقرائن هنا تفيد العلم بخلاف مضمونهما ، كالاصل ، وعدم الخروج عن اليقين ، وتلك الاخبار الدالة على انحصار الطريق في الرواية أو مضي الثلاثين ، والشهرة بين الاصحاب.

__________________

(١) مدارك الاحكام ٦ / ١٧٩.

(٢) المختصر النافع ص ٦٩.

(٣) المعتبر ٢ / ٦٨٩.


حتى قال في المنتهى : وهو مذهب أكثر علمائنا الا ما شذ منهم لا نعرفه ، فبالحقيقة لا قائل بمضمونهما من الاصحاب الى السيد.

فقول صاحب الذخيرة : والعجب أن صاحب المدارك تردد في المسألة بعد ترجيح القول الاول ، وهو القول بعدم اعتبار رؤية الهلال يوم الثلاثين قبل الزوال ، زعما منه التعارض بين الخبرين ، وبين الاخبار الثلاثة المذكورة.

عجب اذ التعارض بينهما وبينها ، بل بينهما وبين الاخبار الدالة على انحصار الطريق في الرؤية ومضي الثلاثين واضح لا ينبغي لعاقل أن يتشكك فيه ، الا أنهما لا يصلحان للتعارض ، كما أشار اليه العلامة ، وقد سبق نقله عنه بقوله في مقام رد الخبر الثاني ، فان في طريقه ابن فضال ، وهو ضعيف ، ومع ذلك لا يصلحان لمعارضة الاحاديث الكثيرة الدالة على انحصار الطريق في الرؤية ومضي الثلاثين لا غير ، الى هذا كلامه.

أقول : وكيف يصلحان لمعارضتها مع ما عرفته ، ومضمونهما لا يخلو من غرابة ، فان من الغريب وأزيد منه أن يستهل جم غفير وجمع كثير مائة ألف أو يزيدون ولم يروا الهلال من غير علة ، فاذا غدوا ورأوه قبل الزوال لزمهم أن يقولوا : هذا لليلة الماضية ، وهم قد تيقنوا في تلك الليلة بعدمه ، ثم أصبحوا صائمين جازمين بوجوب صوم ذلك اليوم ، فيلزمهم القول بوجود ما جزموا بعدمه في ذلك الوقت.

وهذا سوفسطائي من القول لا يعتمد عليه ، بل ولا يلتفت اليه ، لانه يستلزم أن يكون بحضرة جماعة كثيرين جم غفير ولا يروه مع تحقق جميع شرائط الرؤية ، وكيف يصح القول بأن هؤلاء الجماعة مع كثرتهم أخطؤوا رؤية الهلال مع عدم المانع؟ وهذا مما يرتفع منه الامان ، ولا يقبله عقل الانسان.

فمع قطع النظر والاغماض عن ظاهر القرآن والاخبار والاستصحاب وعدم


ثبوت حجية الخبر الواحد لا يصح العمل بمضمون هذين الخبرين ، لاستلزامه القول بوجود ما حكم الحسن بخلافه وهو حسبي.

لا يقال : عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود ، فلعله كان هناك هلال ولم يروه.

لانا نقول : قد علم جوابه ، وهو أنه سوفسطائي من القول ، لاستلزامه أن تكون بحضرتنا جبال شاهقة ورياض رائعة ولا نراها.

فان قلت : لعل هذا مخصوص بما اذا كان هناك مانع من رؤيته ، وان كان لفظ الحديث أعم.

قلت : كلامنا فيما اذا لم يكن هناك مانع من رؤيته ، ولم ير مع استهلال هؤلاء الرجال وجدهم وجهدهم في طلبه ، فاذا غدوا ورأوه قبل الزوال ، فان ذلك قد يتفق في الصورة المذكورة ، فهل يلزمهم أن يقولوا هذا لليلة الماضية وذلك اليوم من شوال أم لا؟ فالاول يلزمه ما سبق ، والثاني نقض لهذه القاعدة ، فتأمل فان المذكور في مكاتبة محمد بن عيسى أن الشهر الماضي ان كان ثلاثين يوما رؤي هلال الشهر المستقبل قبل الزوال في اليوم الثلاثين ، فهذا صريح في أن رؤيته قبل لا تدل على كونه لليلة الماضية ، بل تدل على أنه لليلة المستقبلة ، وهذا معنى قولهم : ان حسنة حماد تدل على مذهب السيد لكنها معارضة ، فاذا تعارضا وتساقطا بقيت سائر الادلة سالمة عن المعارض ، وبه يثبت المطلوب ، فتأمل.

فان قلت : لا منافاة بين عدم رؤية الهلال بعد الاستهلال في ليلة الثلاثين ، وبين كونه لليلة الماضية وهي ليلة الثلاثين اذا رؤي قبل الزوال في يوم الثلاثين لان هذا انما هو بحسب اعتبار الشرع ، فما اعتبره فهو المعتبر ، وما جعله علامة فهو علامة ، وان لم يطابق الواقع.


قلت : انه لا يقول بما هو خلاف الواقع ، فكيف يجعل ما ليس بموجود في الواقع موجودا فيه ، ويرتب عليه الاحكام ، ويحكم بتحريم اتمام ذلك الصيام.

ثم ان مضمون هذا الخبرين مع وجود معارض أقوى لا يفيد الا شكا لو سلم ذلك لهم في كون هذا اليوم الذي رؤي فيه الهلال قبل الزوال عيدا الا علما والاظنا.

وانما يجب افطار ما يعلم أو يظن أنه عيد لا ما يشك في أنه هو ، كيف؟ والاغلب في الشهر أن يكون تماما ، كما تشهد به التجربة.

على أن الاصل بقاء الشهر الداخل وعدم حدوث الشهر المستقبل ، اذ الاصل في الحوادث العدم الى أن يثبت خلافه ، ولم يثبت بذلك.

ثم أنت قبل رؤيتك الهلال قبل الزوال كنت على يقين من كون هذا اليوم من الشهر ، وقد سبق أن غاية ما يفيده هذان الخبران مع وجود المعارض هو الشك في كون هذا اليوم يوم عيد ، وقد ورد في أخبار مستفيضة أن اليقين لا يرفع بالشك ، فخذ الحائط لدينك لتكون في الصوم على يقينك ، والله الموفق والمعين.

فصل

[ تحقيق حول كلام الشيخ فى المسألة ]

أراد الشيخ بقوله « والاخبار المتواترة » الاخبار المتضمنة لانحصار الطريق في الرؤية ومضي الثلاثين ، فان من البين أن المراد بقوله عليه‌السلام « صم للرؤية » هو الرؤية الحاصلة في ليلة الثلاثين من شعبان ، لا في يوم الثلاثين منه قبل الزوال لان ذلك لا تسمى بالرؤية في العرف.


فان من استهل منهم في تلك الليلة ولم ير الهلال ، ثم أصبح مفطرا ، فاذا قيل له : لم لم تصم ذلك اليوم؟ يقول : لاني كنت مأمورا بالرؤية ولم أر الهلال ولذلك لم أصم ، وكان جوابه هذا موجها ، ولا يرد عليه شي‌ء.

وعليه فقس قوله عليه‌السلام « وأفطر للرؤية » فان المراد به هو الرؤية الحاصلة في ليلة الثلاثين من شهر رمضان ، لا في يوم الثلاثين منه قبل الزوال ، لان من استهل منهم في تلك الليلة ولم ير الهلال ، ثم أصبح صائما ، فاذا قيل له : لم لم تفطر؟ يقول : لاني لم أر الهلال ولم يمض علي الثلاثون ، وكان جوابه هذا صوابا.

فاذا أتم صوم ذلك اليوم الى الليل الحاقا لذلك الشهر بالاغلب من كونه تماما ، ولمكان الاستصحاب المؤيد بقوله تعالى « ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ » والاصل وعدم الخروج عن اليقين ، وظاهر هذه الاخبار ، وقول معظم الاصحاب لا يلزمه شي‌ء.

ويشيد ما قلناه أن عادتهم انما جرت بالاستهلال في ليلة الثلاثين من شعبان وشهر رمضان ، لا في يوم الثلاثين منهما ، ولذلك حكم العلامة باستحباب الرؤية في ليلتي الثلاثين منهما على الاعيان ، وبوجوبه على الكفاية.

واستدل على الوجوب بأن الصوم واجب في أول شهر رمضان ، وكذا الافطار في العيد ، فيجب التوصل الى معرفة وقتهما ، لان ما لا يتم الواجب الا به فهو واجب.

فالقول بأن قوله « اذا رأيت الهلال فصم ، واذا رأيته فافطر » شامل لما قبل الزوال ، خلاف الظاهر المتبادر من العرف العام ، فلا يصار اليه ، ولا يحمل الحديث عليه ، فكيف يستدل به عليه ، كما أشار اليه صاحب الذخيرة قدس‌سره.

حيث قال : واستدل على القول باعتبار رؤية الهلال قبل الزوال بقوله عليه‌السلام « اذا رأيت الهلال فصم واذا رأيته فافطر » وفي معناه أخبار كثيرة تكاد تبلغ حد


التواتر ، وهذا أيضا يصلح للتأييد انتهى.

ومما قررناه ظهر أن ما أفاده الفاضل التستري بقوله : ليس في ظاهر القرآن والاخبار دلالة على اعتبار الرؤية قبل الزوال ، وجعله علامة لليلة الماضية ، محل تأمل.

ومثله قول صاحب الوافي : وليس في القرآن والاخبار المتواترة ، الا أن الاعتبار في تحقق دخول الشهر ، انما هو بالرؤية أو مضي ثلاثين. وأما أن الرؤية المعتبرة فيه متى يتحقق وكيف يتحقق ، فانما يتبين بمثل هذه الاخبار ليس الا (١).

أقول : قد مر مرارا من أوائل الرسالة الى هنا أن الرؤية المعتبرة في دخول الشهر هي الرؤية المتعارفة ، وانما تكون بالليل ، فلا تشمل أخبار الرؤية لرؤية النهار ، ولذلك لا يدخل فيها رؤيته بعد الزوال.

بل نقول : أكثر الناس في أكثر البلاد لا يفهمون من رؤية الهلال الا المتعارفة التي تكون بالليل ، الا من وقع منهم في بلدة قرعت فيها سمعه أمثال هذه الاخبار والاقوال ، ومع ذلك فالمفهوم من قول المعصوم الصوم للرؤية انما هو هذه الرؤية المتعارفة المخصوصة ليس الا.

فصل

[ تحقيق حول رواية محمد بن قيس ]

رواية محمد بن قيس المتقدمة صحيحة ، وان طعن في سندها العلامة باشتراك

__________________

(١) الوافى ١١ / ١٥٠.


محمد هذا بين جماعة منهم الضعيف ، الا أن رواية يوسف بن عقيل عنه قرينة واضحة على كون المراد به البجلي الثقة ، وهي تدل على عدم اعتبار رؤية الهلال قبل الزوال ، ولذلك استدل بها عليه صاحب المعتبر والمدارك وغيرهما.

بيان ذلك : أن وسط الشي‌ء محركة ما بين طرفيه ، كما في القاموس (١) ، فوسط النهار ما بين أوله وآخره الحقيقيتين ، لان طرف كل شي‌ء منتهاه ، كما في القاموس (٢) أيضا ، وعلى هذا فأول النهار وآخره غير منقسمين ، ووسطه مستوعب لجميع أجزاء النهار ، هذا معناه في اللغة.

فأما في العرف ، فأوله كوسطه في المقدار ، كما أن وسطه كاخره في ذلك ، حتى اذا كان النهار اثنا عشر ساعة مثلا انقسم أثلاثا ، فأوله أرفع ساعات من طلوع (٣) الفجر ، ووسطه مثله بعدها ، وكذلك الاخر. ولذلك يقال : جائني زيد أول النهار أو آخره أو وسطه.

والظاهر أن هذا هو المراد بالوسط وطرفيه في الحديث ، لان من المقرر عندهم أن اللفظ الصادر عنهم عليهم‌السلام ان كانت له حقيقة شرعية حمل عليها ، والا فحمل على الحقيقة العرفية ان كانت له في العرف حقيقة ، والا فحمل على الحقيقة اللغوية ، فالعرف مقدم على اللغة ، لان مدار أكثر الافادة والاستفادة عليه.

ومنه قول الباقر عليه‌السلام في حديث صحيح فسر فيه الصلاة الوسطى بصلاة الظهر وهي أول صلاة صلاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤).

وهي وسط صلاتين بالنهار صلاة الغداة وصلاة العصر ، فاطلق الوسط على

__________________

(١) القاموس ٢ / ٣٩١.

(٢) القاموس ٣ / ١٦٧.

(٣) اشارة الى أن المراد بالنهار هو الشرعى لا النجومى « منه ».

(٤) معانى الاخبار ص ٣٣١ ، ح ١.


زمان صلاة الغداة وصلاة العصر ، فشمل ما قبل الزوال الى صلاة الغداة وما بعده الى صلاة العصر ، وهو قريب من اطلاقه العرفي.

ومما قررناه ظهر أن حمل لفظة الوسط في الحديث على المعنى الأول ، كما حمله عليه صاحب الذخيرة ، حيث قال : ولفظة الوسط يحتمل أن يكون المراد منها ما بين الحدين بعيد ، وأبعد منه أن يكون المراد منها منتصف ما بين الحدين وهو الزوال كما ظنه أيضا ، وهذا لفظه :

ويدل على اعتبار رؤية الهلال قبل الزوال قول الصادق عليه‌السلام في صحيحة محمد بن قيس السابقة ، فان لم تروا الهلال الا من وسط النهار أو آخره فأتموا الصيام الى الليل.

وجه الدلالة أن لفظة « الوسط » يحتمل أن يكون المراد منها بين الحدين. ويحتمل أن يكون المراد منها منتصف ما بين الحدين ، أعني الزوال ، لكن قوله « أو آخره » شاهد على الثاني ، فيكون الخبر بمفهومه دالا على قول السيد انتهى.

وذلك لان هذا من متعارفات أهل النجوم ، فكيف يصح حمل الخبر عليه ، وجعله بمفهومه دالا على مذهب السيد ، على أن قوله عليه‌السلام « أو آخره فأتموا الصيام الى الليل » قرينة واضحة على أن المراد بوسط النهار ليس ما هو متوسط بين طرفيه ، ولا ما هو منتصف ما بين الطرفين ، اذ لا مقدار له يعتد به ، والمفهوم من وسط النهار المقابل الاخر زمان ممتد متصل بذلك الطرف الاخر ، وعلى ما حمله عليه يكون المراد بوسط النهار خط الزوال ، وبآخره ما بعد خط الزوال الى وقت الغروب ، ولا يخفى بعده.

على أن خط الزوال ، وهو خط نصف النهار الذي عبر عنه بمنتصف ما بين الحدين ، لا يعرف حقيقة الا بالدائرة الهندية ، فكيف يكون عليه مدار العمل


ويكلف به عامة الناس ويقال لهم : اذا رأيتم الهلال وسط النهار وهو خط الزوال فأتموا الصيام الى الليل ، وان رأيتموه قبله ولو بآن أو دقيقة من الزمان فافطروا ، وهم لا يقدرون على أن يخرجوا من عهدة هذا التكليف بأوسع من هذا ، وخاصة اذا كانوا في بلد لم يكن فيه من يرسم لهم الدائرة الهندية ، ويعلمهم كيفية معرفة خط الزوال ومنتصف ما بين الحدين.

ومن المعلوم أن ليس المراد بالوسط هنا ما بينهما المستوعب لاجزاء الزمان الواقع بينهما ، اذ لم يبق حينئذ بقوله « أو آخره » معنى يصح أن يجعل ظرفا لا تمام الصيام الى الليل.

على أن الوسط بهذا المعنى يستلزم المطلوب ، لانه اذا وجب على من رآه قبل الزوال أن يتم صومه الى الليل. فحينئذ لا محل للنزاع أصلا ، فتأمل ليظهر لك أن المراد بالوسط غير ما ذكره من المعنيين ، وليس الا ما تعارفه الناس.

ثم لا يذهب عليك أن الحكم المذكور في الخبرين اللذين صارا باعثين لتأويله هذه الاخبار مرتب على رؤيته قبل الزوال وبعده ، وهو قدس‌سره رتبه على رؤيته في نفس الزوال ، وذهب عليه أنه يخالف ما دلا عليه.

والظاهر أن الوجه فيه ما أشرنا اليه من أن ترتب الحكم على رؤيته وسط النهار المراد منه منتصف ما بين الحدين مما لا يصح تكليف عامة الناس به ، لتعذره أو تعسره.

ولعله لذلك قال صاحب الوافي في موثقة ابن عمار قوله عليه‌السلام « واذا رأيته وسط النهار » يعني به قبل الزوال. وفي صحيحة ابن قيس « الا من وسط النهار أو آخره » يعني به بعد الزوال (١).

__________________

(١) الوافى ١١ / ١٢١ ـ ١٢٢.


ولم يحمله في واحد منهما على منتصف ما بين الحدين. وهذا أيضا وان كان مجرد اشتباه منه ، الا أنه ليس بهذا البعد ، وستأتي بقية الكلام من بعد هذا المقام بعون الله الملك العلام.

فان قلت : يفهم من وجوب اتمام الصيام الى الليل اذا رؤي الهلال من وسط النهار وجوب اتمامه اليه اذا رؤي من آخر النهار ، فأي حاجة الى ذكره؟

قلت : في كون المفهوم حجة خلاف ، فلعله عليه‌السلام لم يعتبره ، ولذلك لم يكتف بالاول ، أو هو من باب التصريح بما علم ضمنا ، فالقول بأن هذا الخبر دل بمنطوقه على وجوب الاتمام عند رؤية الهلال بعد الزوال ، وبمفهومه على وجوب الافطار عند رؤيته قبل الزوال محل نظر.

وخاصة اذا كان القائل انما أراد به الاستدلال على اثبات هذا المطلب ، اذ لو كان المفهوم معتبرا عنده لاكتفى بقوله « فان لم تروا الهلال الا من وسط النهار فأنموا الصيام الى الليل » ولم يذكر قوله « أو آخره » لان ذكر الوسط على هذا كما دل على وجوب الافطار قبل الزوال دل على وجوب الاتمام بعده.

فعدم الاكتفاء به عن الثاني حتى صرح بقوله « أو آخره » والاكتفاء به عن الاول تعسف ، وهذا لو سلم له أن المراد بوسط النهار منتصف ما بين الحدين ، وقد عرفت أنه خلاف الظاهر ، فلا يصار اليه الا بدليل.

ولعله عليه‌السلام انما لم يذكر الثلث الاول من النهار (١) ، لان الهلال في ذلك الثلث بعيد عن الناظر فلا يرى ، لان بعد المرأى وخاصة اذا كان صغيرا مانع من الرؤية ، أو لانه في ذلك الثلث لم يبعد بعد بحركته الخاصة عن النير الاعظم بقدر يمكن أن يرى ، أو لانه في ذلك الثلث لما كان قريبا من الافق ، كان البخار

__________________

(١) اذا الكواكب اذا كانت قريبة من الافق بعدت عنا وهى على سمت الرأس بأزيد من نصف قطر الارض ، كما لا يخفى على من له أدنى تخيل « منه ».


والدخان والغبار ونحوها مانعا من رؤيته (١).

فوضح أن تردد (٢) المحقق في النافع والمعتبر ، حيث قال بعد نقل روايتي حماد وابن بكير : فقوة هاتين الروايتين أوجبت التردد بين العمل بهما وبين العمل برواية العدلين ، لانها تدل على خلاف ما تدل عليه الروايتين.

في محله بناء على عمله بالحسن والموثق ، لو سلم له كون الرواية موثقة ، وأن رواية ابن قيس كالصريحة بعدم اعتبار الرؤية قبل الزوال ، والا لما وجب عليهم اتمام الصيام الى الليل وكان حراما ، لان ذلك اليوم على فرض اعتبار الرؤية قبل الزوال لما كان من شوال كان يوم عيد ، فكان الصوم فيه حراما والفطر فيه واجبا. ومثلها موثقة اسحاق بن عمار.

فقول الفاضل التستري في الحاشية المعلقة على قوله ، يعنى بقوله عليه‌السلام « أتم صومه الى الليل على أن من شعبان دون أن ينوي أنه من رمضان » : الظاهر أن هذا من كلام الراوي ، حيث ذكر هذه الاحاديث أولا ، ثم ذكر ما يدل على اعتبار الرؤية قبل الزوال في الجمع.

محل تأمل ، اذ لو كانت الرؤية قبل الزوال معتبرة ، لكان ذلك الهلال لليلة الماضية ، وكان ذلك اليوم من شهر رمضان ، فكان الواجب عليه له أن ينوي أنه من رمضان لا أنه من شعبان.

__________________

(١) لان تلك الاجزاء البخارية والدخانية والغبارية ان كانت كثيفة تحجبه عن الابصار ، وان كانت لطيفة ، فقبل الضوء أكثر من قبوله ، فاذا انفعل الحس من ضوء أقوى يمنعه من الاحساس به « منه ».

(٢) فيه تعريض على صاحب الذخيرة قدس‌سره حيث قال فيها : وتردد فيه المحقق في النافع ، وفي المعتبر استدل به ، حيث قال بعد نقل الروايتين الاتيين : فقوة هاتين الروايتين أوجبت التردد بين العمل بهما وبين العمل برواية العدلين ، ظنا منه أن رواية العدلين تدل على خلاف ما تدل عليه الروايتين ، وليس بشى‌ء انتهى « منه ».


فهذا الكلام من الراوي يدل على اعتبار الرؤية قبل الزوال ، لا على اعتبارها كما ظنه ، والا لما وجب عليه اتمام الصيام الى الليل على أنه من شعبان ، بل على أنه من رمضان ، وكانه حملت وسط النهار على ما حمله عليه صاحب الذخيرة بل الظاهر أنه أخذه منه ، لانه متأخر منه زمانا ، وقد عرفت ما في هذا الحمل ، فتأمل.

ثم أقول : قوله عليه‌السلام « لا تصمه » أي : لا تصم يوم الثلاثين المفهوم بحسب المقام ، الا أن ترى الهلال في ليلته ، فان لم تره فيها ولم تصمه لذلك ، فان شهد أهل بلد آخر قريب من بلدك أنهم رأوه فيها ، فاقض ذلك اليوم لذلك وجوبا ، واذا رأيت الهلال في وسط نهار تلك الليلة ، فان كنت صائما فيه فأتم صومه الى الليل ، وان لم تكن صائما فلا شي‌ء عليك.

هذا غاية ما يستفاد من هذا الحديث ، ولا دلالة فيه على أحد المذهبين ، الا أن يجعل الامر فيه للوجوب ، ويحمل الوسط على ما قبل الزوال كما فعله بعضهم دون ثبوته خرط القتاد.

وقال صاحب الوافي في ذيل بيان موثقة اسحاق بن عمار قوله عليه‌السلام « واذا رأيته وسط النهار » : يعني به قبل الزوال ، لانه اذا رآه بعد الزوال كان اليوم من الشهر الماضي ، كما يدل عليه صحيحة محمد بن قيس وغيرها من الاخبار ويشهد له الاعتبار ، وانما عبر عما قبل الزوال بالجزء الاخير لانه الفرد الا خفى المستلزم حكمه لاثبات الحكم في سائر الافراد بالطريق الاولى ، ومعنى اتمام صومه الى الليل أنه ان كان لم يفطر بعد نوى الصوم من شهر رمضان واعتد به ، وان كان قد أفطر أمسك بقية اليوم ثم قضاه (١).

أقول : ظاهره يفيد أنه لم يعتبر بيان الراوي على ما نقله الشيخ في التهذيب

__________________

(١) الوافى ١١ / ١٢١.


والاستبصار ، حيث قال في آخر الموثقة : يعنى بقوله عليه‌السلام « أتم صومه الى الليل » على أنه من شعبان دون أن ينوي أنه من رمضان (١).

وذلك أنه لما زعم أنه من كلام الشيخ ذكره ليأول به قوله عليه‌السلام « واذا رأيته وسط النهار » على ما قبل الزوال ، واعتبر رؤية الهلال قبله ، فكان ذلك اليوم عنده من شهر رمضان ، فكان صومه واجبا.

والحق أنه من كلام الراوي ، كما فهمه الفاضل التستري ، وذلك أن من دأب الشيخ في هذا الكتاب أنه كلما أراد أن يبين حديثا ، أو يأوله ، أو يوفق بينه وبين غيره يصدر كلامه هذا بقوله قال محمد بن الحسن ، وهو ظاهر لمن أنس بطريقته رحمه‌الله في هذا الكتاب ، ويؤيده أنه نقل هذه الزيادة في الاستبصار قبل أن يأخذ في الجمع بين الاخبار.

هذا ، وأما الراوي فانه أيضا حمل وسط النهار على ما قبل الزوال ، الا أنه لم يعتبر رؤية الهلال قبل الزوال ، فكان ذلك اليوم عنده من شعبان ، ولذلك صرح باتمامه الى الليل بنية أنه من شعبان ، دون أن ينوي أنه من رمضان ، وهو الحق الذي لا مرية فيه.

ثم قال صاحب الوافي في بيان حديث محمد بن قيس : قوله عليه‌السلام « الا من وسط النهار أو آخره » يعني به بعد الزوال ، كما يشعر به ايراد لفظة « من » هاهنا وحذفه من الحديث السابق ، فلا منافاة بينهما (٢).

أقول : لفظة « من » هنا لا تفيد غير أن الرؤية واقعة في بعض أجزاء وسط النهار ، وأما أنها تفيد أن تلك الرؤية واقعة بعد الزوال ، فلا دلالة لها عليها بشي‌ء من الدلالات ، هذا اذا كانت تبعيضية.

__________________

(١) الوافى ١١ / ١٤٩.

(٢) الوافى ١١ / ١٢٢.


وأما اذا كانت ابتدائية ، فنفيد أن اتمام الصيام الى الليل لازم ، وان كانت الرؤية من ابتداء وسط النهار ، وانما نخبر عما قبل الزوال بالجزء الاول من وسط النهار ، لانه الفرد الاخفى المستلزم حكمه اثبات الحكم في سائر الافراد.

ويحتمل أن تكون بمعنى « في » فانها في الظروف كثيرا ما يقع بمعناها نحو « وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ » (١) وعلى هذا فهذا الحديث موافق للحديث السابق ، فان الظاهر أن لفظة « الوسط » فيه منصوبة بتقدير « في » أي : اذا رأيته في وسط النهار.

فصل

[ تحقيق حول كلام صاحب الذخيرة ]

خالف صاحب الذخيرة جميع علمائنا في مكاتبة محمد بن عيسى السابقة ، وجعلها مؤيدة لقول السيد بتأويلات بعيدة ليس شي‌ء منها مراد الكاتب والمكتوب اليه عليه‌السلام.

حيث قال : وجه التأييد : ان المسؤول عنه هلال شهر رمضان لا هلال شوال ومعنى التعليل أن الرؤية قبل الزوال انما يكون اذا كان الهلال تاما ، وتمامية الهلال أن يكون بحيث يصلح للرؤية في الليل السابق.

أو المراد أن شهر رمضان ، أو الشهر الذي نحن فيه اذا كان تاما ، يعني : اذا تم وانقضى رأى الهلال الجديد قبل الزوال ، وحمل هلال شهر رمضان على شوال بعيد جدا مع تنافره عن اسلوب العبارة أيضا.

__________________

(١) سورة فصلت : ٥.


على أن المذكور في العبارة الافطار قبل الزوال ، وتقييد الافطار بكونه قبل الزوال لا يستقيم على تقدير الحمل على هلال شوال بخلاف هلال رمضان ، فان الافطار بعد الزوال في الصيام المستحب مما نهي عنه.

ولو حمل هلال شهر رمضان على شوال ، وجعل معنى التعليل أن الشهر اذا كان تاما بالغا الى الثلاثين رؤي الهلال قبل الزوال لم ينطبق على مجاري العادات الاكثرية والشواهد النجومية ، بخلاف ما ذكرنا من معنى التعليل.

أقول : قد عرفت أن المسؤول عنه على نسخة الاستبصار وهي الصواب هلال شوال لا هلال رمضان ، فلا تأييد فيه ، ولا حاجة في توفيقه الى مثل هذه التكلفات الركيكة التي ارتكبها.

ولذلك قال صاحب الوافي بعد تصويب نسخة الاستبصار انه على نسخة التهذيب لا يستقيم المعنى الا بتكلف. ثم قال : والظاهر أن ما في نسخة التهذيب من سهو النساخ (١).

فظهر أن هذه المكاتبة المعتبرة واضحة الدلالة على مذهب المشهور المنصور وانه لا تأييد فيها لقول السيد.

ثم الظاهر أن السائل على نسخة التهذيب أيضا أراد هلال شوال ، ولكنه أضافه الى شهر رمضان باعتبار القرب ، والاضافة مما يكفيه أدنى ملابسة ، كما في كوكب الخرقاء ، وعليه فمآل النسختين واحد. وكذا الظاهر أنه بلغه (٢) أو زعم أن رؤية الهلال قبل الزوال دليل كونه لليلة الماضية.

فسأله عليه‌السلام عن ذلك واستعلم رأيه فيه ، فقال : فترى اذا رأينا الهلال قبل الزوال

__________________

(١) الوافى ١١ / ١٤٨ ـ ١٤٩.

(٢) لان بعض العامة كانوا يعتبرون رؤية الهلال قبل الزوال « منه ».


أن نفطر في ذلك اليوم ونجعله عيدا ، فقبل الزوال ظرف للرؤية لا للافطار.

فأجاب عليه‌السلام بوجوب اتمام الصيام الى الليل ، وعلله بأن رؤية الهلال قبل الزوال ربما يكون اذا كان الشهر تماما بالغا الى حد الثلاثين ، فرؤية الهلال قبل الزوال يستلزم كون الشهر تماما من غير عكس كلي ، فربما يكون تماما ولم ير قبل الزوال.

وقال صاحب الوافي : قوله عليه‌السلام « ان كان تاما قبل الزوال » معناه ان كان الشهر الماضي ثلاثين يوما رؤي هلال الشهر المستقبل قبل الزوال في اليوم الثلاثين (١).

أقول : ولعل مراده ما ذكرناه ، والا فالكلية خلاف الواقع.

وبالجملة اذا كان الهلال في ليلة الثلاثين تحت الشعاع وغرب بعيد غروب الشمس ، يمكن أن يبعد منها مدة نصف الدورة أو أكثر منه بقدر يمكن أن يرى قبل الزوال في اليوم الثلاثين ، وهذا لا يدل على كونه لليلة الماضية ، لانه في تلك الليلة لم يكن قابلا للرؤية لكونه تحت الشعاع قريبا من الشمس. ولا يخفى أن ما ذكرناه يستفاد من كلامه عليه‌السلام ولا تنافيه مجاري العادات الاكثرية والشواهد النجومية.

وأما ما ذكره قدس‌سره من معنى التعليل ، فمما لا يمكن استفادته منه ، وانما استفاده هو منه لميله الى ذلك المذهب وقيامه يصرف الاخبار اليه وحملها عليه ، ولو لا ذلك لما فهمه منه ، لانه مما لا يفهم منه الا بضرب من الرمل.

ولذلك لم يستفد منه ذلك أحد غيره بخلاف ما ذكرناه ، ولذلك ذهب اليه العلماء الاعلام والفقهاء العظام ، فمخالفتهم وتأويل التعليل بما يجعله كالعليل لا يناسب حال الكرام.

__________________

(١) الوافى ١١ / ١٤٨.


مع أن ما ذكره ينافيه ما في نسخة الاستبصار ، بخلاف ما ذكرناه ، فانه جامع بين النسختين ، فهو أولى بالقبول ، لان قبول ما في التهذيب ورد ما في الاستبصار رأسا ليس بأولى من العكس ، بل الاولى بالقبول ما في نسخة الاستبصار ، لما سبق من أنه على نسخة التهذيب لا يستقيم المعنى الا بتكلف ، كما أفاد صاحب الوافي وبالغ فيه حتى حكم بكون ما فيها من سهو النساخ.

والظاهر أنه قدس‌سره وقت كتابته هذا الموضع من الشرح كان ذاهلا عما فيه ، وكان نظره وقتئذ مقصورا على ما في التهذيب ، ولا مشعرا بما فيه ردا أو قبولا ، وهو ظاهر.

ثم انه قدس‌سره ظن أن الصدوق يقول باعتبار رؤية الهلال قبل الزوال ، حيث نقل عنه أنه قال : واذا رأى هلال شوال بالنهار قبل الزوال فذلك اليوم من شوال ، واذا رأى بعد الزوال فذلك اليوم من رمضان ، قال : وهذا يؤيد السابق وان كان من كلام الصدوق على احتمال.

وفيه أنه ذكر في باب الصوم للرؤية والفطر للرؤية رواية محمد بن قيس السابقة ولم يأولها أصلا ، وقد عرفت أنها تدل على المذهب المشهور المنصور ، ثم نقل بالمعنى في باب ما يجب على الناس اذا صح عندهم بالرؤية يوم الفطر بعد ما أصبحوا صائمين ، ما رواه الشيخ عن ابن بكر وقد سبق آنفا.

ولا يخفى أن بمجرد ذلك لا يظهر ميله الى أحد المذهبين ، الا أن يصرح به ، بل لا يبعد أن يقال : ان ذكره رواية محمد هذا في الباب المذكور يشعر بميله الى المشهور ، فتأمل.


فصل

[ الاختلاف فى زمان دخول الشهر ]

زمان دخول الشهر يختلف باختلاف الاعتبار ، فمن اعتبر أن اليوم بليلته من غروب الشمس الى غروبها كأهل الشرع. وكأنه لان الظلمة أصل والنور طار ، فزمان دخوله عنده من حين غروبها باستتار القرص ، أو ذهاب الحمرة المشرقية ، على اختلاف الروايتين.

ومن اعتبر أنه من طلوعها الى طلوعها كالروم والفرس ، ولعله لان النور وجودي والظلمة عدمية ، فزمان دخوله عنده من حين طلوعها.

ومن قال : انه من زوالها الى زوالها كالمنجمين وأهل الحساب ، لاختلاف المطالع والمغارب بحسب اختلاف المساكن بالنسبة الى الافاق دون انصاف النهار ، فانها في جميع المساكن افق من آفاق خط الاستواء ، ولا خلاف فيما بينهما ، فزمان دخوله عنده من حين زوالها.

فعلى ما عليه أهل الشرع هذا اليوم لهذه الليلة الماضية على عكس ما عليه الروم والفرس ، فان هذا اليوم على مذهبهم لهذه الليلة المستقبلة ، كما زعمه المغيرية.

وأما على مذهب المنجمين وأهل الحساب ، فصدر النهار. أعني النصف الاول منه لهذه الليلة الماضية ، والنصف الاخر منه لهذه الليلة المستقبلة.

وما رواه الكليني عن عمر بن يزيد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قلت له : ان المغيرية يزعمون أن هذا اليوم لهذه الليلة المستقبلة ، فقال : كذبوا هذا اليوم لليلة الماضية ، ان أهل بطن نخلة لما رأوا الهلال قالوا : قد دخل الشهر الحرام (١).

__________________

(١) روضة الكافى ٨ / ٣٣٢ ، ح ٥١٧.


محمول على الاعتبار الاول ، فان أهل بطن نخلة وهو موضع بين مكة وطائف لما غربت الشمس ورأوا الهلال وكانوا قد تبعوا في ذلك الشرع (١) ، قالوا : قد دخل الشهر الحرام ، فاليوم الذي يأتي بعد هذه الليلة يوم لهذه الليلة الماضية.

ومنه يظهر كذب المغيرية وعدم تأييد هذا الخبر الاعتبار ، لاعتبار رؤية الهلال قبل الزوال ، كما ظنه صاحب الذخيرة قدس‌سره ، وهو منه غريب ، فانه تأيد بهذا الخبر ولا تأييد فيه ، ولم يتأيد بخبر داود الرقي ، وفيه تأييد على احتمال.

قال الفاضل الخوانساري آقا حسين قدس‌سره على ما نقل عنه في حاشيته على رواية داود « اذا طلب الهلال في المشرق غدوة فلم ير ، فهو هنا هلال جديد رأى أو لم ير » : هذا الحديث بظاهره يدل على أن تحت الشعاع انما يكون في ليلة واحدة ، وهو خلاف الواقع ، فلا بد من تأويله.

والحق فيه أن مراده عليه‌السلام أنه اذا طلب الهلال في المشرق غدوة يوم الثلاثين من شهر رمضان فلم ير ، فهو هلال الليلة الواحدة ، والشهر حينئذ ثلاثين يوما أعم من أن يرى في مسائه أو لم ير ، وأما اذا رأى فهو لليلتين ، والشهر حينئذ ناقص عن الثلاثين ، كما مر حديث في هذا المعنى انتهى.

وقال صاحب الوافي فيه : يعني اذا طلب الهلال أول اليوم في جانب المشرق حيث يكون موضع طلبه فلم ير فهو هاهنا ، أي : في جانب المغرب هلال جديد واليوم من الشهر الماضي ، سواء رؤي في جانب المغرب أو لم ير ، وقد مضى

__________________

(١) أى قالوا بخلاف الشرع ، والا فمجرد مخالفة اصطلاح ومتابعة اصطلاح آخر ليس بكذب بالمعنى المصطلح ، وهو مخالفة الخبر الواقع ، اذ لا مشاحة فى الاصطلاح ، الا أن يقال : ما اعتبره الشرع فهو الواقع ، فخلافه خلاف الواقع ، ويلزم منه كذب المنجمين وأهل الحساب ، كما يلزم منه كذب الروم والفرس فتأمل « منه ».


خبر محمد بن قيس واسحاق بن عمار في هذا المعنى أيضا (١) انتهى.

أقول : وقد مضى ما فيه أيضا ، هذا اذا كان المراد بالهلال المذكور في الحديث غرة القمر ، ويحتمل أن يكون المراد به ما يرى قبل المحاق والدخول تحت الشعاع في اليوم السابع والعشرين ، بل هذا هو الاظهر ، كما يشعر به تقييد الهلال في الثاني بالجديد وتركه في الاول ، فان لنا في كل شهر هلالين مسائي وهو في المغرب ، وهذا جديد بالنسبة الينا في غرة القمر ، وغدوي وهو في المشرق ، وهذا قديم بالنسبة الينا في سبع وعشرين.

قال صاحب القاموس : الهلال غرة القمر أو ليلتين أو الى ثلاث أو الى سبع ، وليلتان من آخر الشهر ست وعشرين وسبع وعشرين ، وفي غير ذلك قمر (٢) انتهى.

وحينئذ فدلالة هذه الرواية بحسب المفهوم على كون الهلال الذي رؤي في المشرق لليلة الماضية ممنوعة.

وانما قيد بقوله « فلم ير » ليشير به الى ما أشار اليه أهل التنجيم من أنه اذا لم ير قبل زوال ذلك اليوم ، فهو ممكن الرؤية في ليلة الثلاثين والشهر ناقص ، وان رؤي فيه لم يمكن رؤيته في تلك الليلة والشهر تام.

ومما قررناه يظهر أن ما أفاده الفاضل الخوانساري محل نظر ، ولا نسلم أن ما ذكره هو الحق ، وهو مراده عليه‌السلام لاحتمال أن يكون مراده أنه اذا طلب الهلال في المشرق غدوة يوم السابع والعشرين فلم ير ، فهو هنا أي في ليلة الثلاثين هلال جديد.

ولو قال يحتمل أن يكون هذا مراده لكان أولى ، لا حينئذ كان موجها والموجه

__________________

(١) الوافى ١١ / ١٤٩.

(٢) القاموس ٤ / ٧٠.


يكفيه الاحتمال.

وقال السيد السند ميرزا رفيعا على ما نقل عنه : معناه انه اذا طلب الهلال ، أي بدو المحاق في المشرق ، أي : في جهة المشرق قبل الزوال من اليوم السابع والعشرين فلم ير فهو هاهنا أي : في الليلة التي تحتمل الرؤية فيها وهي ليلة الثلاثين هلال جديد ، سواء رؤي لعدم المانع في الجو أو لم ير بتحقيقه فيه.

وحينئذ مؤدى الحديث هو ما أشار اليه أهل التنجيم من أنه اذا لم يمكن رؤية الهلال قبل زوال ذلك اليوم ، فهو ممكن الرؤية في ليلة الثلاثين والشهر ناقص ، وان أمكن رؤيته في ذلك اليوم لم يمكن رؤيته في تلك الليلة والشهر تام البتة انتهى.

وفيه أن المعروف المتبادر من الهلال غرة القمر لا ما يرى قبل المحاق في آخر الشهر ، وأيضا فان هنا وهاهنا اسمان وضعا ليشار بهما الى المكان القريب لا الى الزمان القريب. قال ابن مالك في منظومته :

وبهنا وهاهنا أشر الى

دان المكان وبه الكاف صلا

فلفظ الحديث لا تساعد هذا التوجيه. الا أن يقال : انه من باب استعارة اسم المكان للزمان ، كما قيل في قوله تعالى « فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ » (١) أي : وقت رؤيتهم البأس.

وفيه بعد. مع أنه مبني على الحساب النجومي في ضبط سير القمر واجتماعه مع الشمس ، ولا يجوز التعويل على قول المنجم ولا الاجتهاد فيه.

وقال الفاضل السبزواري قدس‌سره على ما نقل عنه : اذا فرض الطالب في

__________________

(١) سورة غافر : ٨٥.


المشرق (١) وطلب الهلال غدوة ، أي : غدوتنا أي أول يومنا وقبل الزوال بالنسبة الينا ، وان كان بالنسبة الى الطالب المفروض أواخر يومه ، لفرضه في المشرق الذي بينه وبين هذا البلد ربع دورة مثلا ولم ير هناك.

فهو هنا هلال جديد بمعنى أنه قد يكون هلالا جديدا ، لامكان خروج الشعاع بعد غروبه بالنسبة الى أفق الطالب وصيرورته ، قابلا للرؤية قبل الغروب بالنسبة الى هذا الافق ، وحينئذ في الرواية اشارة الى اختلاف الافق الشرقي والغربي في الحكم انتهى.

ولا يخفى أنه بهذا التوجيه لا يدل على اعتبار رؤية الهلال قبل الزوال ولا يؤيده ، ولذلك لم يذكره فيما تأيد به عليه.

أقول : لهذا الخبر وجه آخر اذا طلب الهلال أي غرة القمر في المشرق ، أي : في مشرقنا (٢) وهو مغرب الطالب ، بأن يفرض حيث يكون بينه وبين مشرقنا هذا قريب من ربع الدورة غدوة ، أي : في أول يومنا وهو مساء الطالب.

وذلك في زمان يغلب على ظنه في تلك البقعة بالنسبة الى ذلك الافق خروجه من تحت الشعاع فلم ير ، لعدم خروجه عند بالنسبة اليه ، فهو هنا أي في مغربنا وهو مشرق الطالب هلال جديد لخروجه من الشعاع مدة نصف الدور رأى لعدم المانع أو لم ير.

__________________

(١) لعله جعل فى المشرق ظرفا للطلب بأن يكون الطلب واقعا فيه « منه ».

(٢) ما ذكرناه لا اختصاص له بمشرق ولا مغرب ، بل يصح تعميمه على أن قال : اذا طلب الهلال فى المشرق ، أى : فى مشرق أى بلد كان ، وهو مغرب أهل بلد الطالب ، وهم الذين في محاذاة أهل ذلك البلد تحت الارض ، فلم ير لما ذكرناه ، فهو هنا أى فى مغرب أهل ذلك البلد. وهو مشرق أهل بلد الطالب ، هلال جديد لما ذكرناه « منه ».


وجه آخر : اذا طلب الهلال في يوم الثلاثين في المشرق ، أي : في مشرق الطالب غدوة ، أي : في أول نهاره ، فلم ير لكونه في أول النهار تحت الافق فهو هنا ، أي : في جانب المشرق هلال جديد لا بالنسبة اليه ، بل بالنسبة الى الذين تحت أقدامه ، فان مشرقه مغربهم ومغربه مشرقهم ، وغدوه مساؤهم ومساءه غدوهم ، فاذا لم ير الهلال في المشرق في غدوه هذا ، وذلك لكونه تحت افق مشرقه وهو بعينه افق مغربهم ، فيكون فوق افق المغرب ، فاذا بزغت الشمس وظهرت فوق افق المشرق وهو تحته ، كان خارجا عن الشعاع ، فهو هنا هلال جديد بالنسبة اليهم رأى لما مر أو لم ير لذلك.

وظني أن ما ذكرناه أقل مئونة مما ذكروه ، ولا يرد عليه ما يرد عليه.

نعم لا بد من تخصيصه بماله مشرق ومغرب يكون لزمان قطع ما بينهما قد يتصور فيه خروج الشعاع ، فلا يكون فيما يقرب عرض التسعين ، والغرض هو الاشارة الى تخالف الافاق في تقدم طلوع الاهلة وتأخرها ، بناء على ما ثبت من كروية الارض وانه يجوز أن يكون افق غربي بالنسبة الى بلد شرقنا بالاضافة الى آخر وبالعكس ، والذين أنكروا كرويتها فقد أنكروا تحقق تلك الاختلافات.

والحق أن ضعفه سندا يغني عن تجشم مثل تلك التوجيهات.

وبالجملة ليس على اعتبار رؤية الهلال قبل الزوال فيما علمناه خبر صحيح صريح فيه سوى صحيحة حماد على ما تقرر عندنا ، وحسنته على المشهور.

ولكنها مع قطع النظر والاغماض عن ورودها في التقية واستلزامها ما هو خلاف الواقع لا تنهض حجة في معارضة الاصل والاستصحاب وما هو مشهور بين الاصحاب وتلك الاخبار وما في معناها الدال على انحصار الطريق في الرؤية أو مضي الثلاثين.

وعلى تقدير التعارض والتساقط لا يثبت به المطلوب ، لان على هذا التقدير لا


دليل لنا يدل على كون هذا اليوم من شوال ، بل غايته التردد والاحتمال لو سلم لهم ذلك ، وبذلك لا يثبت دعواهم ، لان الافطار انما يجب مع العلم بالعيد أو الظن به ، لا مع الشك فيه ، كما فصلناه سالفا فتذكر.

فصل

[ تحقيق حول كلام الفاضل التنكابنى فى المسألة ]

اني بعد ما فرغت من تسويد هذه الرسالة الهلالية ، وأنا العبد الضعيف النحيف المذنب الجاني الفاني محمد بن الحسين بن محمد رضا بن علاء الدين محمد المشتهر باسماعيل المازندراني.

بلغني أن للفاضل التنكابني المشتهر بملا محمد الملقب بالسراب (١) طوبى له وحسن مآب ، رسالة في هذا الباب ، ألفها للرد على الفاضل السبزواري صاحب الذخيرة قدس‌سره ، القائل باعتبار رؤية الهلال قبل الزوال.

فبعد ما حصلتها ونظرت فيها ، ألفيتها مؤيدة لما حررته في هذا الباب مؤكدة لما قررته في بعض مواضع الكتاب ، فشكرت له ذلك وصرت به مسرورا ، ولقد كان سعيه هذا جزاه الله الخير مشكورا.

فنقلت رسالته هذه بعباراته الشافية الكافية وكلماته الموجزة الوافية ، وان كان مورثا لتطويل المقال وتكثير الجدال ، وفي بعض المواضع موجبا لتكرير القيل وتجديد القال ، لانها تتضمن نكت زوائد وغرر فرائد ، سمح بها في هذه الرسالة الشريفة ذهنه الثاقب وفكره الصائب.

قال قدس‌سره بعد نقل صحيحة محمد بن قيس السابقة : واستدل صاحب

__________________

(١) له ترجمة مبسوطة في الروضات ٧ / ١٠٦ ، فراجع.


الذخيرة بها على اعتبار رؤية الهلال قبل الزوال بقوله : وجه الدلالة أن لفظة الوسط يحتمل أن يكون المراد منها منتصف ما بين الحدين ، لكن قوله « أو آخره » شاهد على الثاني ، فيكون الخبر بمفهومه دالا على قول السيد انتهى كلامه رفع الله تعالى مقامه المتعلق بهذه الرواية.

أقول : الظاهر أن مراده رحمه‌الله من الحدين هو الانان المحيطان بالنهار ، كما هو المتبادر من لفظة الحد بحسب العرف ، ومراده رحمه‌الله من الوسط في الاحتمال الاول كل النهار الذي بين الحدين المذكورين. وظاهر أن الوسط في الاحتمال الثاني هو الان الذي ينقسم به النهار الى قسمين متساويين.

أقول : قد عرفت أن وسط الشي‌ء محركة ما بين طرفيه ، وطرف كل شي‌ء منتهاه ، فوسط النهار مستوعب لجميع أجزائه الاخران المحيطان به غير المنقسمين ، وهما المراد بالحدين وما بينهما وهو الوسط. هذا معناه بحسب اللغة كما سبقت اليه الاشارة ، ومراده بالوسط على الاحتمال الثاني ما ينطبق على خط الزوال ، وهو خط نصف النهار الذي عبر عنه بمنتصف ما بين الحدين ، كما أشار اليه بقوله أعني الزوال.

ثم قال الفاضل التنكابني متصلا بما نقلناه عنه : ووجه شهادة « أو آخره » على الثاني أن الوسط بالمعنى الاول يستوعب كل النهار ، فلا يبقى غير الوسط من النهار شي‌ء حتى يقال « ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ » فيجب حمل الوسط على المعنى الثاني الذي هو الان ، فحينئذ المراد بآخره هو الزمان الذي بعد الان المذكور ، فظهر وجوب الاتمام عند رؤية الهلال بعد الزوال بالمنطوق ووجوب الافطار عند رؤيته قبل الزوال بالمفهوم.

وفيه نظر ، أما أولا ، فلانه اذا أريد الان من الوسط ، فالظاهر من الاخر حينئذ هو الان الذي ينتهي به النهار ، فلا يصح حينئذ « ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ » فارادة


الان من الوسط وكل الزمان الذي بعده من الاخر ، يخرج الكلام عن الانتظام.

أقول : هذا حق وقد أشرنا اليه سالفا بقولنا والمفهوم من وسط النهار المقابل لاخره زمان ممتد متصل بذلك الاجزاء (١).

ثم قال رحمه‌الله : وأما ثانيا ، فلان تفصيله عليه‌السلام بقوله « فان لم تروا الهلال الا من وسط النهار أو آخره » لا وجه له حينئذ ، لان العلم بكون الرؤية في الان المذكور لا يحصل لاحد من الماهرين في النجوم ، وان بالغ في تحصيل هذا العلم ، فكيف لغيرهم الا بتعليم الله تعالى ، فكيف يصح جعله علامة للمخاطبين بضميمة

__________________

(١) فان قلت : يمكن أن يكون المراد من الوسط هو قدر من الزمان الذى بعد نصف النهار مجازا ، والداعى على ارتكاب هذا المجاز هو ظاهر التفصيل الذى يدل على مخالفة الاول ، الغير المذكور بحسب الحكم للمذكورين ، واطلاق الوسط على قدر من الزمان الذي بعد نصف النهار ، يظهر من كلامهم عليهم‌السلام فى وجه تسمية الظهر بالصلاة الوسطى.

قلت : نسبة الوسط المجازى اذا جعل الوسط الحقيقى هو الان الى طرفيه نسبة واحدة ، فلا وجه لتخصيصه بالبعد ، وما زعمته من اطلاق الوسط على زمان هو بعد نصف النهار سهو.

بل الوسط المذكور في بيان الصلاة الوسطى ، اما المعنى المجازى من الوسط بمعنى الان الذى هو طرفاه ، واما المعنى العرفى الذى هو الزمان الذى بين الاول والاخر ، سواء أريد من الوسط المعنى المجازى والحقيقى يكون قدر من الزمان الذى قبل نصف النهار داخلا فى الوسط.

وكون الوسط شاملا لبعض الزمان الذي قبل نصف النهار لا يستلزم كون ذلك البعض ظرف الظهر ، كما لا يستلزم نسبة وقوع أمر الى اليوم مثلا كون كل جزء منه ظرفا له ، وليس كذلك أمر رؤية الهلال فى وسط النهار المذكورة في الرواية.

فان قوله عليه‌السلام « فان لم تروا الهلال الا من وسط النهار أو آخره فأتموا الصيام الى الليل » يدل على كون حكم الرؤية في أى جزء من أجزاء الوسط هو وجوب الاتمام الى الليل ، كما لا يخفى للمتدبر « منه ».


أمر آخر؟.

أقول : هذا أيضا حق ، وقد أشرنا اليه بقولنا : على أن خط الزوال لا يعرف الا بالدائرة الهندية ، فكيف يكون عليه مدار العمل؟ ويكلف به عامة الناس الى آخره.

وأما ثالثا ، فلان الاحتمال لا ينحصر في الامرين المذكورين ، لاحتمال أن يراد من الاخر قدر من النهار الذي يقرب من الحدين المذكورين ، فالاول الغير المذكور هو قدر يقرب من الحد الاخر ، فالوسط هو الزمان الذي بين الزمانين ، واطلاق الاول والاخر على ما ذكرته ليس بعيدا.

بل شمول القول بأنه جاء فلان أول اليوم أو آخره أو وسطه من غير أن يريدوا منها أو من بعضها الان ، بل عدم ارادة الان ، معلوم لكل من تتبع ، وكون ارادة المعاني المذكورة من الالفاظ المذكورة طارئة خلاف الاصل ، وحينئذ « ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ » محمول على ظاهره بلا تكلف ، وتدل الرواية المذكورة على المشهور ، فظهر أن « فأتموا » شاهد على المشهور.

أقول : هذا قريب مما أشرنا اليه بقولنا « فأما في العرف فأوله كوسطه في المقدار ، كما أن وسطه كآخره في ذلك » الى قولنا « فالعرف مقدم على اللغة ».

ثم قال : فان قلت : لو لم يكن بين الرؤية قبل الزوال وبعده فرق في الحكم ، لامره عليه‌السلام بالاتمام على تقدير الرؤية في النهار بلا تفصيل فالتفصيل يدل على الفرق ، وان كانت الدلالة بعنوان المفهوم وهي كافية لكونها حجة كما بين في الاصول.

قلت : حجية المفهوم يتوقف على عدم منفعة للقيد غير مخالفة المسكوت في الحكم للمذكور ، وما نحن فيه ليس كذلك ، لان العقل يجوز أن لا تكون منفعة التفصيل وعدم الاكتفاء باطلاق النهار هي مخالفة حكم رؤية الهلال أول


النهار كحكمها في الوسط والاخر ، بل تكون اشارة الى عدم امكان رؤيته في أول النهار ، لكون الهلال في أوله تحت الافق.

فالزمان الذي يمكن رؤيته هو وسط النهار أو آخره ، فذكر الوسط والاخر ليس لبيان مخالفة حكم الرؤية في الاول لحكمها في أحدهما ، بل لبيان حكم ما يمكن الرؤية فيه ، وذكر القيد لمحض بيان الواقع ، والارشاد الى الامر الممكن غير بعيد في كلامهم عليهم‌السلام ، ومع احتمال ما ذكرته في منفعة التقييد لا يصح التمسك بالمفهوم كما لا يخفى.

أقول : قد سبق منا في ذلك كلام غن ، وهو أن ظاهر هذا الحديث يفيد أن المفهوم غير معتبر عنده عليه‌السلام ، والا لاكتفى بقوله « فان لم تروا الهلال الا من وسط النهار فأتموا الصيام الى الليل » ولم يذكر قوله « أو آخره لان ذكر الوسط على هذا كما دل على وجوب الافطار قبل الزوال دل على وجوب الاتمام بعده ، وخاصة في آخر النهار بطريق أولى : فعدم الاكتفاء به عن الثاني حتى صرح بقوله « أو آخره » والاكتفاء به عن الاول تعسف ، فهذا دليل على عدم حجية المفهوم ، كما هو محل الخلاف في الاصول من غير حاجة الى ذكر نكتة فائدة التقييد ، فتأمل.

ثم قال رحمه‌الله فان قلت : حمل الاول على زمان كون الهلال تحت الافق يوجب اختلاف مقدار الاول مع مقدار كل واحد من الوسط والاخر ، أو مع مقدار أحدهما ، وهو بعيد.

قلت : لا ضرورة في حمل أول النهار على زمان كون الهلال تحت الافق ليرد عليه هذا بل يجوز حمله على ما يساوي الوسط والاخر في المقدار ، ويقال : انما لم يذكر الثلث الاول من النهار ، لان الهلال في ذلك الثلث لم يبعد بسعد بحركته الخاصة عن الشمس بقدر يمكن أن يرى.


والظاهر أنه على تقدير رؤيته قبل الزوال ، فانما يرى بعد مضى هذا الثلث أو في أو اخره ، كما تشهد له التجربة ، وخاصة اذا اعتبر مبدأ النهار من طلوع الفجر ، كما هو المقرر في الشرع ، وعلى هذا فلا حاجة الى قوله رحمه‌الله.

أقول : حمل طاب ثراه الوسط على الان ، والاخر على الزمان الذي بعده مع أنه لا نسبة بينهما أصلا ، فلا وجه لموجه كلامه أن يذكر هذا الكلام ، وان ذكر بعنوان الاعتراض على الاستدلال بهذه الرواية على المشهور.

اجيب بأن اعتبار المطابقة في الاقسام الثلاثة غير ظاهر بل ممتنع لتعذر علم المخاطبين بالاقسام حينئذ ، فلعل المراد بالاول الغير المذكور هو قدر من النهار الذي لا يرى الهلال فيه البتة والوسط والاخر ما بقي منه الى الليل والتميز بينهما انما هو بحسب العرف ، فان اشتبه أواخر الوسط بأوائل الاخر ، فلا مضرة فيه لانفاقهما في الحكم. أقول : وبما ذكرناه هناك غني عن أمثال ذلك بعد التأمل.

ثم قال : وأما رابعا ، فلان تفسير الوسط بالان الذي هو وسط للنهار المعروف بين المنجمين هو تفسير لوسط النهار بقبل الزوال ، لان الزوال هو زيادة الظل بعد نقصانه ، فالوسط بمعنى الان مبدأ خارج للزوال ، فارادة منتصف ما بين الحدين من الوسط مع امتناعها دالة على المذهب الاول لا الثاني.

فظهر قوة دلالة الرواية على المشهور بحسب المنطوق ، وان سلم كون النهار ما بين طلوع الشمس الى غروبها ، كما اختاره رحمه‌الله وان حمل على المعنى المشهور بين أهل الشرع ، فالدلالة على المشهور أظهر.

وقال طاب ثراه بعد كلامه المنقول : ويؤيده ما رواه الشيخ عن محمد بن عيسى ، قال : كتبت اليه جعلت فداك ربما غم علينا هلال شهر رمضان ، فنرى من الغد الهلال قبل الزوال ، وربما رأيناه بعد الزوال ، فترى أن نفطر قبل الزوال


اذا رأيناه أم لا؟ فكتب عليه‌السلام : تتم الى الليل فانه ان كان تاما لرؤي قبل الزوال (١).

وجه التأييد أن المسؤول عنه هلال رمضان لا هلال شوال ، ومعنى التعليل أن الرؤية قبل الزوال انما تكون اذا كان الهلال تاما ، وتمامية الهلال أن يكون بحيث يصلح للرؤية في الليل السابق ، أو المراد أن شهر رمضان ، اذ الشهر الذي نحن فيه اذا كان تاما بمعنى اذا تم وانقضى رؤي الهلال الجديد قبل الزوال ، أو حمل هلال شهر رمضان على شوال بعيد جدا ، مع تنافره عن أسلوب العبارة أيضا.

على أن المذكور في العبارة الافطار قبل الزوال ، وتقييد الافطار بكونه قبل الزوال لا يستقيم على تقدير الحمل على هلال شوال ، بخلاف هلال رمضان ، فان الافطار بعد الزوال في الصيام المستحب مما نهي عنه ، ولو حمل هلال شهر رمضان على شوال وجعل معنى التعليل أن الشهر اذا كان بالغا الى الثلاثين رؤي الهلال قبل الزوال لم ينطبق على مجاري العادات الاكثرية والشواهد النجومية انتهى كلامه طاب ثراه.

اعلم أن الشيخ روى هذه الرواية عن علي بن حاتم ، عن محمد بن جعفر ، عن محمد بن أحمد بن يحيى ، عن محمد بن عيسى ، والشيخ يروي عن علي بن حاتم بواسطة الحسين بن علي بن شيبان ، وجهالته لا تضر لكونه من مشايخ الاجازة ووصف في الفهرست كتب علي بن حاتم بكونها جيدة معتمدة ، فالكتاب الذي أخذ الحديث منه ظهر على الشيخ كون هذا الكتاب منه.

ومحمد بن جعفر هاهنا هو الرزاز بقرينة روايته عن محمد بن أحمد بن يحيى وجهالته أيضا لا تضر ، لانه لم ينقل منه كتاب ، والظاهر أنه لم يكن في زمان رواية ما في الصدور ، وضبط السامع ما سمعه ، واثباته في الكتب متعارفة ، فالظاهر أنه راوي كتاب محمد بن أحمد بن يحيى وكتبه معروفة ، فجهالة هذا الراوي

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٤ / ١٧٧ ، ح ٦٢.


لا تضر بالسند ، فالرواية معتبرة.

أقول : كيف لم تكن في زمانه رواية ما في الصدور وضبط ما سمع ، وهو في طبقة علي بن ابراهيم ومحمد بن يحيى العطار ومن في هذه الطبقة ، وروى عنه محمد بن يعقوب الكليني ، وأبو غالب الزراري ، وعلي بن حاتم ومن في هذه الطبقة ، وهو نفسه روى عن محمد بن الحسن ، وعن أيوب بن نوح ومن في هذه الطبقة ، ولم يقل أحد أنه روى عنهما كتابهما ، فكانت روايته عنهما عن ظهر القلب ، فالوجه في بيان هذا السند حسنا أو معتبرا ما قدمناه.

واعلم أن بعض متأخرين أصحابنا قال بعد تقسيمه الخبر الى الصحيح والمعتبر والقوي والحسن والموثق والممدوح والضعيف والمجهول ، وتعريفه الصحيح بكون رجاله في جميع الطبقات غير مشايخ الاجازة اماميا مصرحا بالتوثيق.

والمراد بالمعتبر أن يكون حكم رجاله حكم رجال الصحيح ، وان لم يصرح بالتوثيق ، مثل رواية ابراهيم بن هاشم ما ذكره الفاضل ، وهو من مهرة الفن ، فالمعتبر فوق الحسن والموثق والقوي والممدوح ودون الصحيح ، وعلى ما ذكره الفاضل التنكابني فالمعتبر دونها كلها وفوق الضعيف والمجهول.

والظاهر أن مراد المتأخرين بالمعتبر هو هذا ، وان كان من حيث المفهوم أعم منها ، نعم على مذهب من لم يعمل بغير الصحيح وان اشتهر واعتضد بغيره ، فليس غيره بمعتبر عنده ، فتأمل ، فان صاحب المفاتيح قد سمى فيها خبري حماد وابن بكير بالمعتبرين وقابلهما بالصحيح ، وقد عرفت أن الاول حسن كالصحيح ، والثاني موثق كالصحيح عندهم ، فيظهر منه أن مرادهم بالمعتبر غير الصحيح من الحسن والموثق. ولا يبعد أن يقال : هو ما اعتبره الاصحاب وان كان ضعيفا منجبرا ضعفه بالشهرة هذا.

ثم قال رحمه‌الله متصلا بما سبق : اذا عرفت هذا فاعلم أن حمل التام على أحد


المعنيين المذكورين حمل اللفظ على معنى ، لانسباق ذهن أكثر الناس اليه ، لو لم نقل بعدم انسباق ذهن أحد اليه.

أقول : هذا حق ، وقد أشرنا اليه بقولنا : وأما ما ذكره قدس‌سره من معنى التعليل ، فمما لا يمكن استفادته منه ، وانما استفاد هو منه لميله الى ذلك المذهب وقيامه يصرف الاخبار اليه وحملها عليه ، ولو لا ذلك لما فهمه منه ، لانه مما لا يفهم منه الا بضرب من الرمل ، ولذلك لم يستفد منه ذلك أحد غيره الى آخره.

ثم قال رحمه‌الله : وارجاع الضمير الى الشهر المفهوم بحسب المقام ممكن ، وأرجع رحمه‌الله هذا الضمير الى الشهر في قوله « أو المراد أن شهر رمضان » الى آخره. أقول : قد عرفت ما ذكرناه سابقا ، وما نقلناه عن صاحب الوافي ، حيث قال : قوله عليه‌السلام « ان كان تاما رؤي قبل الزوال » معناه ان كان الشهر الماضي ثلاثين يوما فتذكر.

ثم قال رحمه‌الله : والحصر المذكور في معنى التعليل غير مستفاد من الرواية ، لان غاية ما يمكن أن يقال : ان الظاهر من قوله عليه‌السلام « ان كان تاما » هو الكلية ، أي : كل ما كان الهلال صالحا للرؤية في الليل السابق رؤي قبل الزوال ، وهو لا يستلزم كون كل هلال رؤي قبل الزوال تاما بهذا المعنى ، لعدم انعكاس الموجبة الكلية كنفسها ، والحصر المذكور لازم للعكس لا للاصل لانه يمكن أن يكون كل الهلال الصالح للرؤية في الليل السابق ، وبعض الغير الصالح لها فيه صالحا للرؤية قبل الزوال ومرئيا فيه ، وحينئذ يصدق الاصل ، ولا يلزمه الحصر المذكور الذي هو منشأ ظن تأييد هذه الرواية لمذهب السيد رحمه‌الله.

أقول : قد سبق منا في ذلك كلام ، وهو قولنا « فرؤية الهلال قبل الزوال يستلزم كون الشهر تماما من غير عكس كلي ، فربما كان تاما ولم ير قبل الزوال » الى قولنا « لانه في تلك الليلة لم يكن قابلا للرؤية لكونه تحت الشعاع قريبا من


الشمس » فتذكر.

ثم قال رحمه‌الله : وظاهر قول محمد في المكاتبة « فترى أن نفطر » هو كون المراد بهلال رمضان هو هلال شوال ، لظهوره في أن كونه صائما الى الرؤية مسلم ، فالسؤال انما هو في جواز الافطار بعدها ، وهذا انما يناسب هلال شوال لا هلال رمضان.

ويؤيد هذا قوله عليه‌السلام « الى الليل » لان ظاهر الاتمام هو معلومية كونه صائما ، فحينئذ معنى السؤال أنه هل ترى أن نفطر الصوم الذي أردته في الليل السابق ، كما هي مقتضى القانون الشرعي.

ومعنى الجواب أنك تتم الصوم الذي كنت مريدا له في الليل الى الليل ، لان رؤية الهلال قبل الزوال لا تدل على كون هذا اليوم من الشهر الجديد ، لان الشهر اذا كان ثلاثين قد يكون خروج الشعاع في وقت والهلال على وضع يكون قبل الزوال صالحا للرؤية البتة.

أقول : هذا ما أشرنا اليه بقولنا « وبالجملة اذا كان الهلال في ليلة الثلاثين تحت الشعاع وغروب بعيد غروب الشمس ، يمكن أن يبعد منها مدة نصف الدورة ، بل أكثر منه بقدر يمكن أن نرى قبل الزوال في اليوم الثلاثين ، وهذا لا يدل على كون لليلة الماضية ، لانه في تلك الليلة لم يكن قابلا للرؤية ، لكونه تحت الشعاع قريبا من الشمس ».

ثم قال رحمه‌الله : وارادة شهر شوال من لفظ شهر رمضان جائزة بتحقق الملابسة المصححة للاضافة ، والقرينتان المذكورتان يجعلان اللفظ ظاهرا في شوال ، ولا منافرة لما ذكرته من اسلوب العبارة.

وقوله رحمه‌الله وتقييد الافطار بكونه قبل الزوال صريح في جعله قبل الزوال ظرفا لقول السائل نفطر. ويمكن أن يكون ظرفا لقوله رأيناه ، وقدم للاشارة الى


أن المقصود من السؤال هو هذا ، لعلمه بحكم الرؤية بعد الزوال.

وان جعل ظرف « نفطر » كما اختاره رحمه‌الله يحتاج الى أن يقال : ان مراده بقوله اذا رأيناه أنه اذا رأيناه قبل الزوال مع عدم كونه مذكورا ها هنا بالقرينة ، وهي ظهور أن الرؤية بعد الزوال لا تصير سببا لجواز الافطار قبل الزوال الذي هو قبل الرؤية.

وأما اذا جعلناه ظرفا لقوله « اذا رأيناه » فيكون المعنى اذا رأيناه قبل الزوال الذي هو المقصود بالسؤال هل يجوز لنا أن نفطر أم لا؟ ولا يتعلق غرض أحد حينئذ بالاستفسار عن كون وقت الافطار قبل الزوال ، حتى يقال : انه لا يستقيم الا في الصوم المستحب ، لانه اذا جاز الافطار برؤية الهلال قبل الزوال يجوز الافطار بعد الرؤية أي وقت شاء ، سواء كانت قبله أو بعده.

وعلى تقدير تسليم كون قبل الزوال ظرف « نفطر » نقول : مراد السائل من تقييد الافطار بقبل الزوال هو الاشارة الى أن سؤاله انما هو عن الافطار بعد الرؤية التى تحققت قبل الزوال ، يكون الافطار أيضا قبل الزوال غالبا ، فالمقصود من السؤال عن الافطار قبل الزوال السؤال عن ايجاب الرؤية قبل الزوال للافطار بذكر لازمها الاكثري على تقدير الايجاب.

أقول : على نسخة الاستبصار لا شبهة في أن قوله « قبل الزوال » ظرف لقوله « اذا رأيناه » فليكن على نسخة التهذيب كذلك ، صير مآل النسختين واحدا ، ولا ينافيه تقديمه عليه ، لان الظرف مما يكفيه رائحة من الفعل.

ومنه يظهر أن المراد بهلال رمضان على نسخة التهذيب هو هلال شوال ، اضافه اليه لما مر آنفا وسالفا. وعلى هذا فلا بعد فيه ولا منافرة ، ولا حاجة في توجيهه الى هذا التطويل والى ذلك القال والقيل.

ثم قال قدس‌سره : ولا يبعد أن يكون سؤال ايجاب الرؤية قبل الزوال الافطار


ناشيا من كونه مذهب بعض العامة الذي في زمانه عليه‌السلام ، فأجاب عليه‌السلام بعدم الايجاب كما أومأت اليه.

فظهر ضعف قوله « وتقييد الافطار بكونه » الى قوله « ولو حمل هلال شهر رمضان » الى آخر ما نقل من كلامه ، انما يصح اذا حمل الكلام على الكلية الجزئية ، كما أو مأت اليها بقولي « اذا كان الشهر ثلاثين قد يكون » الى آخره ولا حاجة الى الكلية التي حمل الكلام عليها ، وزعم من عدم صحتها عدم جواز ارادة شهر شوال من لفظ شهر رمضان.

وصاحب المدارك رحمه‌الله جعل هذه الرواية من الروايات الدالة على المذهب المشهور ، ولم يلتفت الى اضافة الهلال الى رمضان.

أقول : كل من ذهب الى هذا المذهب جعلها من الروايات الدالة عليه ، ولم يلتفت الى اضافته اليه ، ولعله لظهور أن المراد به هلال شوال ، وانما أضافه اليه باعتبار القرب ، ويؤيده ما في الاستبصار « ربما غم علينا الهلال في شهر رمضان » فانه صريح في أن المراد به هلال شوال من غير حاجة فيه الى تكليف أصلا.

ثم قال الفاضل التنكابني : وقال طاب ثراه : ويؤيده ما رواه وجوبهما في هذا اليوم ، وهو في غاية البعد ان قلنا بالاحتمال ، للاحتياج الى حمل المطلق الذي تبادر منه الافراد الشائعة على الافراد النادرة التي لا ينساق الى الاذهان بلا قرينة ، وحملها على وجوب الصوم والفطر في يوم الرؤية اذا كانت قبل الزوال وفي اليوم الذي بعده اذا كانت بعد الزوال بزعم معلومية هذا التفصيل لشيوعه في هذا الزمان ، أو لخصوص الراوي ، مثل الاحتمال الاول في كونه في غاية البعد الذي لا ينساق الى الاذهان مع مزيد.

وهو أنه يحتاج الى حمل قوله « فصم » على عموم المجاز ، لانه عند رؤية الهلال بعد الزوال وفي الليل وقبل الزوال على هذا القول اذا لم يأكل


يجب الصوم الحقيقي ، وعند رؤيته قبل زوال المسبوق بالاكل يجب الامساك لا الصوم الحقيقي.

وأما على تقدير الحمل على الرؤية الشائعة التي هي الرؤية بعد الزوال على الرؤية مطلقا ، وحمل الصوم والفطر على الصوم والفطر الشائعين الذين يكونان في اليوم اللاحق ، فلا يشتمل على تكليف أصلا وما ذكره الى آخره ، من أن وقت النية تستمر للمعذور الى الزوال ، فهو كذلك ، لكن ما يدل عليه انما يدل فيما ثبت كونه يوم صوم ، فان ثبت كون هذا اليوم يوم صوم بدليل آخر ، يمكن القول بجواز النية حين رؤية الهلال ، لظهور كونه يوم صوم حينئذ ، فكان نية المكلف وجوب الصوم قبل هذا متعذرة ، فيندرج حينئذ في عموم ما يدل على جواز النية حينئذ.

وأما اثبات كون هذا اليوم يوم صوم بدليل يدل على جواز النية الى هذا الوقت فيما علم ، ما رواه الشيخ عن اسحاق بن عمار في الموثق ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن هلال رمضان يغم علينا في تسع وعشرين من شعبان ، فقال : لا تصمه الا أن تراه ، فان شهد أهل بلد آخر أنهم رأوه فاقضه ، واذا رأيته وسط النهار فأتم صومه الى الليل (١).

ولم يذكر طاب ثراه وجه التأييد ، فان كان وجهه هو حمل الامر بالاتمام على ظاهر الذي هو الواجب ، فهو ضعيف ، لقوله رحمه‌الله بشيوع الاوامر في كلام الائمة عليهم‌السلام في الاستحباب بحيث لا يتبادر منها الوجوب عند خلوها عن القرينة ، فكيف يكون هذا الامر ظاهرا في الوجوب.

أقول : هذا ليس مجرد بحث الزامي بل الامر كذلك في الواقع ، فهو كما يرد على صاحب الذخيرة يرد على صاحب الوافي أيضا ، فانه أيضا حمل هذا

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٤ / ١٧٨ ، ح ٦٥.


الامر على الوجوب ، بعد أن حمل الوسط على ما قبل الزوال ، حيث قال : ومعنى اتمام صومه الى الليل أنه ان كان لم يفطر بعد أن نوى الصوم من شهر رمضان واعتد به ، وان كان قد أفطر أمسك بقية اليوم ثم قضاه.

ثم قال رحمه‌الله متصلا بما سبق : ومع قطع النظر عن عدم قوله بظهور هذه الاوامر في الوجوب نقول : ليس الوسط ظاهرا في قبل الزوال فقط ، ولا هو مساوي الاحتمال لعدم الاختصاص ، وان لم يكن نافعا له حينئذ ، لبعد اختصاصه بزمان هو قدر نصف ما بين طلوع الصبح الى طلوع الشمس الذي يكون آخر هذا النصف نصف النهار النجومي ، لو قلنا باحتمال الاختصاص.

فاطلاق الامر بالاتمام عند رؤية الهلال في وسط النهار قرينة ارادة أحد الامرين اللذين هما الرجحان المطلق الذي لا يمكن الاستدلال به على الوجوب ، كما هو ظاهر جعله رحمه‌الله هذه الرواية مؤيدة لما اختاره ، والاستحباب كما حمل الشيخ رحمه‌الله أو الراوي الامر بالاتمام عليه.

أقول : هذا منه رحمه‌الله اشارة الى أن قوله بعد نقل موثقة ابن عمار ، يعني بقوله عليه‌السلام « أتم صومه الى الليل » على أنه من شعبان دون أن ينوي أنه من رمضان ، يحتمل أن يكون من كلام الشيخ ، ويحتمل أن يكون من كلام الراوي وقد سبق أن الفاضل التستري جعله من كلام الراوي وظن صاحب الوافي أنه من كلام الشيخ ذكره ليأول به قوله عليه‌السلام « واذا رأيته وسط النهار فأتم صومه الى الليل ».

وقلنا هناك أن الحق ما فهمه التستري ، لان من دأب الشيخ رحمه‌الله في التهذيب أنه اذا أراد بيان أمر يصدره بقوله قال محمد بن الحسن ، مع أنه نقل هذه الزيادة في الاستبصار قبل أن يشرع في الجمع بين الاخبار ، وهذا قرينة أنه ليس من كلامه ، بل هو من كلام الراوي ، مع أن الخلاف فيه قليل الجدوى ، للاتفاق


على أنه ليس من تتمة الحديث ، ولا من كلام من يكون كلامه حجة.

ثم قال رحمه‌الله : ولو نزلنا عن عدم قوله بظهور هذه الاوامر في الوجوب ، وعن دلالة القرينة المذكورة على عدم ارادة الوجوب ، هاهنا تقول : المراد بالوسط في هذه الرواية : اما ما بين الحدين ، أو منتصف ما بين الحدين.

فعلى الاول لا يمكن حمل الامر بالاتمام على الوجوب ، لاندارج بعد الزوال في الوسط بهذا المعنى.

وعلى الثاني يلزم عليه أن يكون الوسط بعد الزوال ، لانه طاب ثراه حمل قوله عليه‌السلام في رواية محمد بن قيس السابقة « فان لم تروا الهلال الا من وسط النهار أو آخره فأتموا الصيام الى الليل » على وجوب الاتمام على التقديرين في هلال شوال ، والحال أنه قال بوجوب الافطار عند رؤية الهلال قبل الزوال ، فيلزمه أن يكون الوسط هناك بعد الزوال ، وكلامه هناك يدل على انحصار معنى الوسط في الاحتمالين المذكورين.

فالاحتمال الثاني متعين عند بطلان الاحتمال الاول ، وهو كان موجبا لاحتمال الصيام عند رؤية هلال شوال فيه ، فكيف يوجب هاهنا الاتمام عند رؤية هلال رمضان فيه.

وحمل الوسط في احدى الروايتين على بعد الزوال في الاخرى على قبله ، حمل للفظ في كل رواية على ما يوافق مطلوبه بلا بينة ودليل كما ظهر لك.

أقول : قد عرفت فيما نقلناه سابقا عن صاحب الوافي أنه حمل الوسط المذكور في موثقة اسحاق بن عمار في قوله عليه‌السلام « واذا رأيته وسط النهار » على ما قبل الزوال ، وحمل المذكور في صحيحة محمد بن قيس في قوله عليه‌السلام « الا من وسط النهار أو آخره » على ما بعد الزوال ، وقد عرفت أنه مجرد اجتهاد ودعوى بلا دليل ، وان ما جعله مشعرا بذلك من ايراد لفظة « من » هاهنا وحذفه


من الحديث السابق لا يشعر به أصلا ، لانها اما ابتدائية ، أو تبعيضية ، أو تكون بمعنى « في » ولا اشعار بشي‌ء منها بذلك كما عرفت.

ثم قال : وما ذكرته انما هو على تقدير تسليم ما ذكره رحمه‌الله ، والا قد عرفت عند تكلمني فيما ذكره رحمه‌الله في صحيحة محمد بن قيس امتناع ارادة هذا الاحتمال ، فالاحتمال الذي ذكره رحمه‌الله أو ما هو مثله هو المتعين.

فيجب حمل الامر بالاتمام : اما على الرجحان المطلق ، أو على الاستحباب فظهر أنه لا تأييد لهذه الرواية لما جعلها رحمه‌الله مؤيدة له بوجه من الوجوه.

ولعل المراد من قوله عليه‌السلام « فأتم صومه » أتمه ان كنت صمت هذا اليوم ، فيكون الاتمام محمولا على ظاهره ، ويحتمل أن يكون المراد باتمام الصوم هو الامساك الراجح المطلق الذي لا يدل على الوجوب ، أو الامساك المستحب ، فقوله عليه‌السلام « فأتم صومه » مصروف عن ظاهره ، اما بتقدير ان صمت ، واما بحمل أتم صومه على الامساك الذي ليس صوما فظهر بما ذكرته أن قوله عليه‌السلام « تتم » في مكاتبة محمد بن عيسى مؤيد لما جعلته مؤيدا له ، لكونه محمولا على ظاهره.

وقال قدس الله نفسه : ويؤيده أيضا ما رواه الكليني عن عمر بن يزيد ، قال قلت لابي عبد الله عليه‌السلام : ان المغيرية يزعمون أن هذا اليوم لهذه الليلة المستقبلة ، فقال : كذبوا هذا اليوم لهذه الليلة الماضية ، ان أهل بطن نخلة لما رأوا الهلال قالوا : قد دخل الشهر الحرام (١).

أقول : لعل مراده رحمه‌الله أن تصويبه عليه‌السلام أهل بطن نخلة في حكمهم بدخول الشهر بمحض الرؤية ، كما يدل عليه السياق ، انما يناسب كون الرؤية قبل الزوال لظهور عدم صحة الحكم بدخول الشهر بمحض الرؤية برؤية الهلال بعد الزوال.

وفيه أن قوله عليه‌السلام « ان أهل بطن نخلة » حينئذ لا يدل على كذب المغيرية ،

__________________

(١) روضة الكافى ٨ / ٣٣٢.


لجواز صدق الحكم بدخول الشهر برؤية الهلال قبل الزوال ، مع كون ليلة هذا اليوم هي الليلة المستقبلة.

أقول : قد عرفت أن اليوم بليلته عند الروم والفرس من طلوع الشمس الى طلوعها ، فزمان دخول الشهر عندهم من حين طلوعها ، وحينئذ يصدق الحكم بدخول الشهر برؤية الهلال قبل الزوال مع كون ليلة هذا اليوم هي الليلة المستقبلة كما زعمته المغيرية. وعلى هذا فقوله عليه‌السلام « ان أهل بطن نخلة » يدل على صدق المغيرية لا على كذبهم ، فالظاهر حمل الرؤية على ما عليه أهل الشرع من أن اليوم بليلته من غروب الشمس الى غروبها ، فزمان دخول الشهر عندهم من حين غروبها ، فاليوم الذي يأتي بعد هذه الليلة يوم لهذه الليلة الماضية ، ومنه يظهر كذب المغيرية ، وعدم تأييد هذا الخبر لاعتبار رؤية الهلال قبل الزوال.

فالظاهر حمل الرؤية على رؤية الهلال في الليل ، أو قرب دخوله كما يكون في الاكثر كذلك ، فعلى الاول انطباقه على المطلوب الذي هو تكذيب المغيرية ظاهر. وعلى الثاني قول أهل بطن نخلة بدخول الشهر بمحض الرؤية انما هو بعنوان المجاز الذي مصححه قريب دخول الليل ، فينطبق حينئذ أيضا على المطلوب وان نوقش هذا فليحمل على الاول ، لان هذا متعلق بواقعة خاصة ، فيجب حمله على ما يناسب ويصح.

أقول : قد عرفت وجه هذا الخبر في صدر الفصل التاسع من رسالتنا هذه ، وعدم تأييده لاعتبار رؤية الهلال قبل الزوال فلا نعيده.

ثم قال رحمه‌الله : وقال طاب ثراه : والعجب أن الشيخ وجماعة استدلوا على القول الاول بصحيحة محمد بن قيس المذكورة ، وبرواية محمد بن عيسى وبما رواه الشيخ عن جراح المدائني ، قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام : من رأى هلال شوال نهارا في رمضان فليتم صيامه. واستدل الشيخ بموثقة اسحاق بن عمار


المذكورة.

وأنت خبير بأن الاولى تدل على خلاف مقصودهم ، وكذا الثانية والرابعة وأما الثالثة ، فضعيفة لا تصلح لمقاومة ما ذكرناه من الاخبار ، ولو سلم من ذلك كان نسبتها اليه نسبة العام الى الخاص فيتخصص به ، وهي محمولة على الغالب من تحقق الرؤية بعد الزوال ، على أن المذكور في الرواية من رأى هلال شوال في رمضان. ولقائل أن لا يسلم أن الرؤية قبل الزوال في رمضان. والعجب أن صاحب المدارك تردد في المسألة زعما منه التعارض بين الخبرين والاخبار الثلاثة المذكورة انتهى كلامه رحمه‌الله.

قد عرفت بما ذكرته دلالة صحيحة محمد بن قيس ، ورواية محمد بن عيسى على المشهور ، ودلالة رواية جراح عليه غنية عن البيان ، وموثقة اسحاق وان لم تدل على المشهور ، كما زعمه الشيخ رحمه‌الله ، لكن لا تدل على القول الثاني ولا تؤيده أيضا.

فظهر ضعف قوله رحمه‌الله « وأنت خبير » الى قوله « وأما الثالثة فضعيفة لا تصلح » ظاهر بناء على ظنه الخبرين (١) الاولين على المشهور والخبرين الدالين على مذهب السيد.

والخبرين الغير الدالين هما رواية عمر بن يزيد ، وموثقة اسحاق بن عمار دالة على مذهب السيد ، فكيف تعارض الاخبار الستة المشتملة على الصحيحة والحسنة والموثقة ، خبر واحد مجهول ، باشتماله على القاسم بن سليمان وجراح.

وأما على ما أوضحته من دلالة الصحيحة ومحمد بن عيسى المعتبرة على

__________________

(١) المراد بهما صحيحة محمد بن قيس ورواية محمد بن عيسى ، وهذا يدل على أنهم قد يسمون الصحيح بالمعتبر ، الا أن يقال : تسميته به هنا من باب التغليب ، فتأمل « منه ».


المشهور وتأيدهما برواية جراح ، فليس التعجب في عدم حكم صاحب المدارك بقول السيد ، بل تعجبي من توقفه مع قوله بدلالة الاخبار الثلاثة على المشهور كما هي واقعة ، مع ظهور تأيدها بالشهرة والاستصحاب.

أقول : وان تعجب فعجب قولهم ان روايتي جراح وابن عيسى ضعيفتا السند ، لكنهما مؤيدتان بالاصل والاستصحاب والشهرة بين الاصحاب ، ومعتضدتان بصحيحة ابن قيس روايتي عمار وابن بكير ، احداهما حسنة كالصحيحة ، والاخرى موثقة كالصحيحة.

فهذا الذي أورث توقفهم في المسألة ، كما أشار اليه صاحب المدارك بقوله : والمسألة قوية الاشكال ، فان الروايتين المتضمنتين لاعتبار ذلك معتبرتا الاسناد ، بل الاولى لا تقصر عن مرتبة الصحيح ، لان دخولها في مرتبة الحسن بابراهيم بن هاشم ، ومن ثم تردد المحقق في النافع والمعتبر ، وهو في محله.

وقد عرفت أن روايتي جراح وابن عيسى حسنتان ، وان رواية ابن بكير ضعيفة بأبي جعفر لا موثقة بابن فضال ، فلم يبق لهم في المسألة خبر الا رواية حماد ، وهي وان كانت حسنة أو صحيحة ، لكنها لا تنهض حجة في معارضة الاصل والاستصحاب والشهرة بين الاصحاب وتلك الاخبار ، وخاصة صحيحة ابن قيس وما في معناها من أخبار الرؤية ، وعدم الخروج عن اليقين ، والاغلب من كون الشهر تماما ، الى غير ذلك مما سبقت اليه الاشارة ، مع احتمال كونها محمولة على التقية كما أومأنا اليه ، فالتوقف في غير محله.

ثم قال قدس‌سره بعد كلام : وكان رحمه‌الله ـ يعني صاحب الذخيرة ـ يأول رواية اسماعيل بن الحر المجهول به عن أبي عبد الله عليه‌السلام : اذا غاب الهلال قبل الشفق فهو لليلته ، واذا غاب بعد الشفق فهو لليلتين. بأنه يمكن أن يكون المراد بكونه لليلتين أنه كذلك في الاغلب ، لا لكونه كذلك دائما الذي يعتبر في العلامة.


فعلى ما ذكره ليس هذا الكلام في قوله عليه‌السلام لبيان اختلاف حكم الغروب قبل الشفق وبعده في الصوم والفطر وغيرهما ، بل لبيان كون الامر في الغالب كذلك ، وان لم يظهر للناظر الى الهلال كون هذا الهلال الذي غاب بعد الشفق لليلتين أم لا.

وهذا التأويل أو غيره لازم في هذه الرواية ، لمعارضتها رواية واضحة الدلالة معتبرة السند ، الدالة على أن الهلال الذي غاب بعد الشفق بزمان طويل لليلته لو فرض عدم تقوية التجربة هذه الرواية.

وهذا التأويل الذي ذكره رحمه‌الله في رواية اسماعيل بن الحر بعينه جار في الحسنة التي استدل بها على مذهب السيد رحمه‌الله بلا تفاوت ، ولا يبعد ورود الموثقة على وفق بعض العامة الذي كان في زمانه عليه‌السلام.

أقول : نفي البعد عن ورود الموثقة على التقية وتخصيصها بها ليس له وجه على الظاهر ، فان الحسنة مثلها في ذلك ، كما أو مأت اليه ، على أنك قد عرفت أنها ليست بموثقة ، بل هي ضعيفة السند كما أوضحته.

قال رحمه‌الله : وبالجملة قوة المذهب المشهور بحسب الدليل واضحة لمن تدبر ما ذكرته حق التدبر ، ويرد على قوله « نسبتها اليه » الى قوله « فيتخصص بما ذكره » انما يصح لو كانت الاخبار التي ظن دلالتها على مذهب السيد دالة عليه وقد عرفت حالها وحمل رواية الجراح على الغالب حمل اللفظ على الافادة القليلة الحاجة أو عديمها ، وترك الافادة العظيمة الحاجة بلا ضرورة داعية اليه.

أقول : قد سبق منا في ذلك كلام في أوسط الفصل الثالث ، فتذكر.

ثم قال رحمه‌الله : وعلى العلاوة التي ذكرها أنه سواء حمل رمضان على ما هو رمضان بحسب نفس الامر ، أو على ما هو معلوم للمخاطب كونه رمضان يكون الامر بالاتمام بل كل الكلام خاليا عن الفائدة ، فينبغي أن يحمل رمضان


على ما هو رمضان بحسب الظاهر ، مع قطع النظر عن رؤية الهلال ، حتى يحتاج الى بيان حكمه عند الرؤية ، ويكون الامر بالاتمام افادة نافعة ، وحينئذ لا يناسب التخصيص ببعد الزوال.

أقول : حاصل هذا الحديث هو أن هلال شوال قد يرى في اليوم الثلاثين من رمضان قبل الزوال ، فمن رآه فليتم صيامه ، ولا يتوهم أن هذا اليوم من العيد وهو من الشهر الجديد ، كما توهمه بعض العامة كأبي يوسف والثوري وأحمد في اعتبارهم رؤية الهلال قبل الزوال ، وجعلهم يوم الرؤية من الشهر الجديد ، فيكون في رمضان هذا اليوم من العيد ، فالغرض المسوق له الحديث هو الرد على هؤلاء العامة الذين كانوا في عهده عليه‌السلام.

وبهذا التقرير ظهر أن هذا الحديث دليل على المذهب المشهور ، كما استدل به عليه الشيخ وجماعة ، وان المنع المذكور في قوله القائل ان لا يسلم الرؤية قبل الزوال رؤية في رمضان ساقط ، فتأمل.

ثم قال قدس‌سره : ونقل صاحب المدارك من جملة الحجة على القول الثاني قوله عليه‌السلام « اذا رأيت الهلال فصم ، واذا رأيته فافطر » فان ذلك شامل لما قبل الزوال ، وقد تقدم أن وقت النية يستمر للمعذور الى الزوال ، فيجب الصوم لرؤية الهلال وبقاء الوقت انتهى كلامه.

وفيه أنه لا يمكن حمل الرؤية على عمومها ، لظهور خروج رؤية الهلال بعد الزوال عن وجوب الصوم والفطر ، فيحتاج الى التخصيص برؤية الهلال قبل الزوال ، ان حمل قوله « فصم » وقوله « فافطر » على وجوبهما في هذا اليوم ، وهو في غاية البعد ان قلنا بالاحتمال ، للاحتياج الى حمل المطلق الذي يتبادر منه الافراد الشائعة على الافراد النادرة التي لا ينساق الى الاذهان بلا قرينة.

وحملها على وجوب الصوم والفطر في يوم الرؤية اذا كانت قبل الزوال


في اليوم الذي بعده ، اذا كانت بعد الزوال ، بزعم معلومية هذا التفصيل لشيوعه في هذا الزمان ، أو لخصوص الراوي ، مثل الاحتمال الاول في كونه في غاية البعد الذي لا ينساق الى الاذهان مع مزيد ، وهو أنه يحتاج الى حمل قوله « فصم » على عموم المجاز ، لانه عند رؤية الهلال بعد الزوال وفي الليل وقبل الزوال على هذا القول اذا لم يأكل يجب الصوم الحقيقي ، وعند رؤيته قبل الزوال المسبوق بالاكل يجب الامساك لا الصوم الحقيقي.

وأما على تقدير الحمل على الرؤية الشائعة التي هي الرؤية بعد الزوال على الرؤية مطلقا ، وحمل الصوم والفطر على الصوم والفطر الشائعين اللذين يكونان في اليوم اللاحق ، فلا يشتمل على تكلف أصلا.

وما ذكره رحمه‌الله من أن وقت النية يستمر للمعذور الى الزوال فهو كذلك ، لكن ما يدل عليه انما يدل فيما ثبت كونه يوم صوم ، فان ثبت كون هذا اليوم يوم صوم بدليل آخر ، يمكن القول بجواز النية حين رؤية الهلال ، لظهور كونه يوم صوم حينئذ ، فكان نية المكلف وجوب الصوم قبل هذا متعذرة ، فيندرج حينئذ في عموم ما يدل على جواز النية حينئذ.

وأما اثبات كون هذا اليوم يوم صوم بدليل يدل على جواز النية الى هذا الوقت فيما علم كونه يوم صوم ، فلا وجه له.

وبالجملة ذكر أمثال هذين الاحتمالين في الاخبار ان صح ، فانما يصح بعنوان الاحتمال في رواية تعارض الدليل القوي التام ، لو لم يذكر واما ذكرها للاستدلال على أمر خارج عن القانون ، ونقل الاستدلال بعموم الاخبار على عدم اعتبار الرؤية قبل الزوال عن الحر العاملي في سنة كانت هذه المسألة دائرة في الالسنة ، حتى نقل أنه يقول : ان هنا ثمانون حديثا على عدم الاعتبار ، ولم ينقل عنه وجه الدلالة.


ويمكن تقريبه بأن الامر بالصيام في مثل قوله عليه‌السلام « اذا رأيت الهلال فصم واذا رأيته فافطر » اما محمول على رؤيته قبل الزوال بخصوصه ، أو بعده بخصوصه ، أو الاعم ، والتقييد خلاف الاصل ، فالظاهر الاطلاق ، وظاهر أن الامر بالصيام والافطار عند رؤية الهلال بعد الزوال هو الامر بها في اليوم الاتي.

فينبغي أن يحمل وجوب أحدهما عند رؤيته قبل الزوال أيضا بكونه في اليوم الاتي ، لئلا يصير كلامهم عليهم‌السلام بعيدا عن الافادة كالالغاز ، فيكون الاستدلال على عدم الاعتبار ، هذا التقريب له وجه لا يبعد ذكره وان كان ضعيفا في نفسه ، لاحتمال ارادة الافراد الشائعة من الرؤية ، وهي رؤيته بعد الزوال ويكون غيرها مسكوتا عنه.

أقول : لا يبعد أن يكون محمولا على الرؤية المعتبرة في دخول الشهر شرعا ، وقد عرفت أن زمان دخوله من حين الغروب ، فيكون المراد بتلك الرؤية هو الرؤية المتعارفة التي تكون بالليل ، فلا تشمل أخبارها الرؤية النهار ، كما صرح بذلك الفاضل الاردبيلي في شرح الارشاد.

ويؤيده ما سبق أن فزع المسلمين من وقت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن بعده الى زماننا هذا في تعرف دخول الشهر الى معاينة الهلال ورؤيته انما كان في ليلة يحتمل فيها الرؤية ، وهي ليلة الثلاثين لا في نهارها قبل الزوال.

فاذا قيل : اذا رأيت الهلال فصم واذا رأيته فافطر ، فانما يتبادر منه الى الاذهان هذه الرؤية المعروفة عند أهل الدين المعلومة عند كافة المسلمين ، أي : اذا رأيت الهلال في ليلة الثلاثين من شعبان فصم في نهارها ، واذا رأيته في ليلة الثلاثين من رمضان فافطر في نهارها.

هذا هو الرؤية المتعارفة المتبادرة المفهومة من أمثال هذا الحديث ، وهي ثمانون حديثا على ما سبق عن الحر العاملي رحمه‌الله ، واليها أشار الشيخ الطوسي رحمه‌الله فيما سبق نقله عنه بقوله : هذان الخبران لا يصح الاعتراض بهما على ظاهر


القرآن والاخبار المتواترة.

ولا شك أن الظاهر منهما هو هذا كما افاده رحمه‌الله ، لا ما قد يتفق في نهار الثلاثين قبل الزوال أو بعده ، الا أن يراد ببعد الزوال هذا الفرد بخصوصه ، بناء على أن اطلاق المطلق ينصرف الى الفرد الشائع المتبادر ، كالوجود حيث اطلق فان المتبادر منه الخارجي لشيوعه فيه ، كما صرحوا به.

ولذلك قال قدس‌سره متصلا بما سبق : والداعي الى التقييد ببعد الزوال هو الشيوع والتبادر ، وحينئذ لا بعد في هذا التقييد ، بل الحق أنه اذا كان التقييد في أمر متبادر بقرينة ، وان كانت هي شيوع مطلق في مقيد ، فحمله على العموم والاطلاق خلاف الظاهر ، الا حمله على المقيد ، فظهر بما ذكرته ضعف الاستدلال بعموم الاخبار على الاعتبار وعدمه ، وان كان الاستدلال على الاعتبار أضعف.

أقول : قد سبق منا ما فيه كفاية ، فلا نعيده فارجع اليه ، والى الله المرجع والمآل ، والحمد لله على كل حال ، وصلى الله على رسوله وآله خير آل.

وتم استنساخ وتصحيح هذه الرسالة في (١٠) شعبان المعظم سنة (١٤١١) هـ ق في بلدة قم المقدسة على يد العبد السيد مهدي الرجائي عفي عنه.



سلسلة آثار المحقق الخاجوئى

(٦١)

الرسالة

الذهبية

للعلّامة المحقّق العارف

محمّد اسماعيل بن الحسين بن محمّد رضا المازندرانى الخاجوئي

المتوفّى سنة ١١٧٣ ه‍ ق

تحقيق

السّيّد مهدى الرّجائي



بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله الذي جعل لباس الذهب زينة لنا في الدار الآخرة ، وحرم علينا في هذه الحياة الدنيا ، لحكمة (١) هي علينا ساترة (٢) ، وذلك على لسان نبيه وآله عليهم منا صلوات وافرة.

وبعد : فقد سألني بعض اخواني في الدين ، ورفقائي في الطريق اليقين ، وفقه لما يحب ويرضى ، عن جواز لبس الذهب واللباس المذهب والصلاة فيه وعدمه ، فأجبته بما حضرني وقت السؤال.

فالتمس مني الإشارة الى مأخذ الحكم ومدركه ، وما عليه أصحابنا في المقامين :

__________________

(١) يمكن أن يقال : ان الحكمة في تحريمه أمران : داخلى وخارجى ، لانه يورث الفخر والخيلاء وكسر قلوب الفقراء ، وتلتذ به النفس ، فتغتر بزخارف الدنيا وحطامها ، فتغفل باشتغالها بتحصيله وجمعه وترتيبه عن المبدإ والمعاد ، فتحسر يوم يناد المناد والأظهر أنه تعبد وامتحن الله به العباد « منه ».

(٢) الساترة هنا بمعنى المستورة ، كما فى قولهم المقدمة الفائتة فانها بمعنى المفوتة « منه ».


فبادرت اليه امتثالا لامره ، لكونه أهلا له أعانه الله للدارين ، قائلا ما قاله بعض الشعراء :

يشمر بالامر غير مقدور

لاجل الأمر والمأمور معذور

فألفت هذه الرسالة الموسومة بـ « الذهبية » أهديتها لتلك الحضرة العلية ، فان وافق المسؤول فهو المأمول ، والا فهو باصلاح الفساد أولى وترويج الكساد أحرى.

فأقول ، وأنا العبد الآنس بمولاه الجليل محمد بن الحسين بن محمد رضا المشتهر باسماعيل ، وقاه الله من الخطأ والزلل كائنا ما كان منهما في القول والعمل :

لا خلاف في حرمة لبس الذهب على ما صرح به بعض (١) المتأخرين جزاهم الله من الدين وأهل الدين ، وهل تقبل الصلاة فيه؟ خلاف.

وأكثر كتب متأخري أصحابنا في ابواب لباس المصلي خلو عن التعرض لذكره نفيا واثباتا ، ولا القدماء منهم ، فكان دأبهم في بيان الأحكام الشرعية في كل باب من أبوابها الاقتصار على ايراد الأخبار تدل على حكم مذكور فيه.

فظاهرهم حيث أوردوا تلك الأخبار في أبوابها ، مع ضمانهم في صدر كتبهم صحة ما اشتملت عليه ، وانه حجة بينهم وبين ربهم ، يفيد بطلان الصلاة فيه ، فهو الأجود والأظهر بظاهر الأخبار المستفيضة.

ولذلك اعتبر صاحب الرسالة الجعفرية (٢) في لباس المصلي إذا كان رجلا أو خنثى أن لا يكون ذهبا ، ولو كان خاتما ولا مموها به ، لصدق اسم الذهب عليه

__________________

(١) المراد بهذا البعض مولانا المجلسى قدس‌سره في شرحه على الفقيه « منه »

(٢) عبارته فى رسالته هكذا : ويعتبر في الساتر أن لا يكون ذهبا للرجل والخنثى ولو خاتما مموها « منه ».


لأن المراد به أن يجعل على ظاهره شيئا من الذهب ، بأن يطلي الثوب أو الخاتم به.

واستدل الشارح عليه بما رواه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : حرام لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي واحل لاناثهم (١) وقد اشار الى هذا الحديث في الذكرى في مواضع منها ، منها قوله : هل ضبة الذهب كالفضة؟ يمكن ذلك كاصل للاناء والمنع لقوله عليه‌السلام في الذهب والحرير : هذان محرمان على ذكور أمتي (٢). ويحتمل المغايرة ولا يضر بل ينفع كما لا يخفى.

أقول : وهذا على اطلاقه يعم حالة الصلاة وغيرها ، والمكلف وغيره ، والثوب والخاتم وغيرهما ، لأن اللباس بمعنى ما يلبس ، كما صرح به في القاموس (٣) ، فيعم ما ذكرنا ، فكما يقال لبس الثوب يقال لبس الخاتم.

والذكر يعم الرجل والصبي ، فيكون النهي متوجها الى وليه لا اليه. وبهذا وهو قوله عليه‌السلام « حرام على ذكورامتي » استدل بعض أصحابنا على تحريم تمكين الولي الصبي من لبس الحرير.

أقول : وهذا مشترك بينه وبين الذهب ، ولكنه مخصص بما رواه في الكافي في الصحيح عن أبي الصباح ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الذهب يحلى به الصبيان ، فقال : كان علي بن الحسين عليهما‌السلام يحلى ولده ونساءه بالذهب والفضة (٤) وبما فيه أيضا في الصحيح عن داود بن سرحان ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الذهب يحلى به الصبيان ، فقال : انه كان أبي ليحلي ولده ونساءه بالذهب

__________________

(١) كنز العمال ١٥ / ٣١٩ ، ح ٤١٢١٠.

(٢) الذكرى ص ١٨.

(٣) القاموس ٢ / ٢٤٨.

(٤) فروع الكافي ٦ / ٤٧٥ ، ح ١.


والفضة فلا بأس به (١).

ولذلك قال في الدروس : يجوز تحلية الصبيان والنساء بالذهب ، نعم في جواز تمكين الولي الصبي في لبس الحرير خلاف ، كما أومأنا اليه ، والأقوى جوازه ، ولنا رسالة حريرية (٢) فصلنا فيه القول في أحكام الحرير ، فيطلب من هناك.

ثم أنت خبير بأن مفهوم هذه الأخبار الصحيحة وما شاكلها ، كصحيحة محمد ابن مسلم ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن حلية النساء بالذهب والفضة ، فقال : لا بأس به (٣).

وما في السرائر عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يحلي أهله بالذهب ، قال : نعم النساء والجواري ، فأما الغلمان فلا.

يدل على عدم جواز تحلي الرجال بالذهب مطلقا ، لأن سؤالهم عن خصوص جواز تحلية الصبيان والنسوان بالذهب يدل على أن تحريم تحلي الرجال به كان فيهم أمر شائعا ذائعا مشهورا معروفا ، فأغنيا عن السؤال عنه والتخصيص في مقام الجواب بأنهم عليهم‌السلام كانوا يحلون الولدان والنسوان به يدل عليه ، فبهذه الأخبار الصحيحة أيضا يمكن أن يستدل على ما نحن بصدده أيضا ، فتأمل.

فانها دلت بمفهومها على تحريم ما يصاغ من الذهب على الرجال ، لأن الحلي اسم لكل ما يتزين به من مصاغ الذهب والفضة ، كما صرح به ابن الأثير في النهاية (٤) وسيأتي ، فيلزم منه تحريم خاتم الذهب ونحوه من السوار والخلخال

__________________

(١) فروع الكافي ٦ / ٤٧٥ ، ح ٢.

(٢) طبعت تحت رقم (٢٣) من سلسلة آثار المؤلف.

(٣) فروع الكافي ٦ / ٤٧٥ ، ح ٣.

(٤) نهاية ابن الأثير ١ / ٤٣٥.


وما يصاغ للسلاطين من اكليل وما يسمونه بالفارسية حقبه ، ومثل التكمة كل ذلك على الرجال.

ويدل على هذا التعميم ما رواه البيضاوي في أوائل التفسير المشهور عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث قال : روى أنه عليه‌السلام أخذ حريرا وذهبا بيده ، فقال : هذان حرامان على ذكور امتي حل لاناثها (١).

ومما قدمناه يظهر ضعف ما أفاده صاحب البحار قدس‌سره في بعض حواشيه على فروع الكافي المعلق على ما رواه عن محمد بن اسماعيل عن الفضل بن شاذان ، عن صفوان بن يحيى ، عن منصور بن حازم ـ فالسند معتبر كالصحيح ـ عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن التعويذ يعلق على الحائض ، فقال : نعم إذا كان في جلد أو فضة أو قصبة حديد (٢). بقوله : ويظهر منه عدم حرمة استعمال مثل هذه الظروف من الفضة التي لا تسمى آنية ولا ظرفا عرفا (٣).

وذلك لأن هذا داخل في الحلي المسوغ لتحلية النسوان والصبيان به كما مر فعدم تحريم الاستعمال مثل ذلك من الذهب والفضة عليلين مما لا كلام فيه ، وانما الكلام في تحريم استعماله على الرجال المكلفين من امته صلى‌الله‌عليه‌وآله.

هذا ومما حررناه فلا يرد أن هذه الأشياء ليست بساترة للعورة ، فلا تبطل الصلاة فيها ، لأن تحريم لبسها على الرجال بخصوصها مستفاد أو مصرح به في الأخبار ، ولا يخفى ، ولعلهم لذلك منعوا جواز لبسه في الصلاة وغيرها ، كما سبقت اليه الإشارة.

واعلم أنه لا دليل لهم على تحريم لبس الذهب وكذا التحرير على الخنثى

__________________

(١) كنز العمال ١٥ / ٣١٨.

(٢) فروع الكافي ٣ / ١٠٦ ، ح ٤.

(٣) مرآة العقول ١٣ / ٢٥١.


سوى الاحتياط ، وهو ليس من الأدلة الشرعية ، الا أنهم أخذوا به لما فيه من براءة الذمة يقينا بعد شغلها كذلك ، وهو طريق أنيق حسن مستقيم مسلوك للاخيار الأبرار ينبغي سلوكه ، ولا سيما في هذه الأزمان المفقودة فيه المجتهد ظاهر.

لأن الذمة لما كانت مشغولة بالعبادة يقينا ، وكان تحصيل اليقين ببراءتها عن هذه الشغل موقوفا على ذلك الاحتياط ، فلا بعد في القول بوجوبه. الا أن يقال : تحصيل اليقين بالبراءة غير واجب ، بل يكفي مجرد إذن بها ، وفيه شي‌ء تأمل.

فان قلت : حكمهم هذا منقوض بما رواه أخطب خوارزم في الفصل السابع عشر في بيان ما أنزل الله من الآيات في شأن سيدنا أمير المؤمنين صلوات الله عليه بقوله :

أخبرنا الإمام الى قوله فقال لهم النبي انما وليكم الله ورسوله الى قوله وهم راكعون ، ثم ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خرج الى المسجد والناس بين قائم وراكع ، فبصر بسائل فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : هل أعطاك أحد شيئا؟ فقال : نعم خاتما من الذهب ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : من أعطاك؟ فقال : ذلك القائم وأومى بيده الى علي عليه‌السلام فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : على أي حال أعطاك؟ فقال : أعطاني وهو راكع ، فكبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم قرأ « وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ » (١).

قلت : قال الفاضل الأردبيلي رحمه‌الله في حاشيته على آيات أحكامه متعلقة بهذا الحديث : لعل الذهب زيادته غلطا من الراوي ، أو من الناسخ ، أو من السائل ، ولهذا ما وجد في غيره ، بل الموجود الفضة في مجمع البيان في هذه الرواية. ويحتمل أن يكون عنده عليه‌السلام غير لابس له ، أو صار ذهبا لما أعطاه السائل.

أقول : ويحتمل أن يكون وقوع هذه الواقعة قبل تحريم لبس الذهب ، فانه

__________________

(١) المناقب للخوارزمي ص ١٨٦.


كان حلالا في أوائل الإسلام ، وكان يجوز التختم بالذهب.

كما يدل عليه في الكافي عن ابن القداح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تختم في يساره بخاتم من ذهب ، ثم خرج على الناس ، فطفق الناس ينظرون اليه ، فوضع يده اليمنى على خنصره اليسرى حتى رجع الى البيت فرمى به فما لبسه (١).

وعلى هذا فلا حاجة الى هذه الاحتمالات البعيدة ، ولا سيما احتمال كونه عنده عليه‌السلام غير لابس له ، فانه نقل أنه عليه‌السلام حين سأله سائل وهو راكع في صلاته فأومى اليه بخنصره اليمنى ، فأخذ السائل الخاتم من خنصره.

ويؤيد كونه من الذهب أنه كان من غنائم دار الحرب ، قتل علي عليه‌السلام واحد من أبطال المشركين ونزع الخاتم من اصبعه ، وجاء به الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأعطاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

كما روي عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : ان الخاتم الذي تصدق به أمير المؤمنين عليه‌السلام وزن حلقته أربعة مثاقيل فضة ، ووزن فضته خمسة مثاقيل ، وهي ياقوتة حمراء قيمة خراج الشام ، وخراج الشام ستمائة حمل فضة وأربعة أحمال من الذهب.

دولتوق بن الحران قتله أمير المؤمنين عليه‌السلام وأخذ الخاتم من اصبعه ، وأتى به الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من جملة الغنائم ، فأعطاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فجعله في اصبعه صلوات الله عليه.

ولعله رحمه‌الله فهم من قوله « وزن حلقته أربعة مثاقيل فضة » أن حلقته كانت فضة ، ولا دلالة له عليه كما لا دلالة في قوله « ووزن فضته خمسة مثاقيل » عليه ، بل المراد أن حلقته بهذا الوزن وهذا المقدار ولا أنها كانت فضة أو ذهبا ، فلا دلالة عليه.

__________________

(١) فروع الكافي ٦ / ٤٧٦ ، ح ٩.


على أنا نقول : كما يحتمل أن يكون الذهب زيادة غلطا من أحد الثلاثة ، يحتمل أن تكون الفضة كذلك ، تأمل.

هذا وفي الكافي بسند مجهول عن جراح المدائني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : لا تجعل في يدك خاتما من ذهب (١).

وانما حكمنا بكونه مجهول السند تبعا للمشهور ، والا فهو حسن سنده عند التحقيق ، وهو في الكافي هكذا : أحمد بن محمد ، عن الحسين بن سعيد ، عن النضر ابن سويد ، عن القاسم بن سليمان ، عن جراح المدائني.

وذلك ان ابن سليمان هذا والمدائني ذاك إماميان لا قدح فيهما ، ولكل كتاب يرويه عنه جماعة ، منهم النضر بن سويد.

وقد قال بعض مهرة الفن : ان من المدح كون الرجل صاحب كتاب في الأمور الدينية وما قرب منها.

ثم قال بعد كلام : فإذا كان الرجل الإمامي اجتهد وبلغ مجهوده في الأمور المتطاولة والأزمان المتكاثرة ليلا ونهارا في تصنيف ما ذكرناه أو تأليفه ، فلا ريب أنه ممدوح في الشرع وعند أهله ، ولا يخفى على أحد كما في زماننا أيضا.

فلذلك نرى أئمة الرجال يذكرون الرجال ويعدون لهم كذا وكذا كتبا ، حتى يذكرون كتاب المشيخة ويتطرقون اليه بطرق متعددة وغير متعددة ، ويدققون ويفتشون أن هذا الكتاب له أو لرواية ، فلو لم يكن كون الرجل صاحب الكتاب مع عدم التصريح بذم فيه مدحا كليا معتبرا شرعا لكان ذكره في الرجال في محل العبث.

ثم قال : فظهر أن الرجل إذا صنف كتابا أو ألفه أو كان راويا عن معتبر ، أو يروي عنه المعتبر ، فان ذلك دليل للاعتبار والمدح.

__________________

(١) فروع الكافي ٦ / ٤٦٩ ، ح ٧.


هذا وروى الشيخ باسناده عن موسى بن أكيل النميري عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الحديد انه حلية أهل النار ، والذهب حلية أهل الجنة ، وجعل الله الذهب في الدنيا زينة النساء ، فحرم على الرجال لبسه والصلاة فيه (١).

وهذا مع كونه ناصا بحرمة الصلاة فيه ، صريح في حرمة لبسه ، ثوبا كان أو خاتما أو غيرهما مما يلبس ، فكلما يصدق عليه أنه لباس الذهب حرم على الرجال لبسه والصلاة فيه.

وبهذا الحديث استدل صاحب الذكرى فيه على تحريم الصلاة للرجال في الذهب ، حيث قال في فصل الساتر : تجوز الصلاة في كلما يستر العورة عدا أمور ، وعدها الى أن قال : ورابعها الذهب والصلاة فيه حرام على الرجال لقول الصادق عليه‌السلام : جعل الله الذهب حلية أهل الجنة ، فحرم على الرجال لبسه والصلاة فيه ، رواه موسى بن أكيل النميري عنه ، وفعل المنهي عنه مفسدة للعبادة (٢) الى هنا كلامه طاب منامه.

وفي حذفه وإيصاله وتغييره بين الحديث بما هو مخل بل مفسد تأمل.

وقال الفاضل المجلسي قدس‌سره في شرحه على الفقيه بعد الإشارة الى الخلاف في بطلان الصلاة في الذهب ، وخبر موسى بن أكيل النميري يدل على النهي ، والأحوط البطلان (٣).

وفي نهاية ابن الأثير : وفيه « جاء رجل وعليه خاتم من حديد ، فقال : ما لي أرى عليك حلية أهل النار » الحلي اسم لكل ما يتزين به من مصاغ الذهب والفضة ، والجمع حلي بالضم والكسر ، وجمع الحلية حلى ، مثل لحية ولحا ،

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٢ / ٢٢٧.

(٢) الذكرى ص ١٤٢ ـ ١٤٦.

(٣) روضة المتقين ٢ / ١٣٨.


وربما ضم : وتطلق الحلية على الصفة أيضا. وانما جعلها حلية أهل النار ، لأن الحديد زي بعض الكفار وهم أهل النار. وقيل : انما كره لاجل نتنه وزهو كته ، وقال في خاتم الشبه : ربح الأصنام ، لأن الأصنام كانت تتخذ من الشبه (١) انتهى كلامه.

ثم قال عليه‌السلام : وجعل الله الحديد في الدنيا زينة الجن والشياطين ، فحرم على الرجل المسلم أن يلبسه في الصلاة ، الا أن يكون في قتال عدو فلا بأس به.

قال قلت : فالرجل في السفر يكون معه السكين في خفه لا يستغني عنه ، أو في سراويله مشدود ، أو المفتاح يخشى ان وضعه ضاع ، أو يكون في وسط المنطقة من حديد.

قال : لا بأس بالسكين والمنطقة للمسافر أو في وقت الضرورة ، وكذلك المفتاح إذا خاف الضيعة والنسيان ، ولا بأس بالسيف وكل آلة السلاح في الحرب ، وفي غير ذلك لا تجوز الصلاة في شي‌ء من الحديد ، فانه نجس مسوخ (٢).

والظاهر أن هذا محمول على الكراهة ، والمراد بالنجاسة هنا الاستخباث وكراهة استصحابه في الصلاة كما ذكره في المعتبر لانه ليس بنجس باجماع الطوائف ، وكيف يكون نجسا وقد قال الله تعالى في معرض الامتنان « وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ » (٣) ولا منة في انزال النجس.

ولذلك قال بعض متأخري أصحابنا بعد شرح قوله عليه‌السلام « ما طهر الله يدا

__________________

(١) نهاية ابن الأثير ١ / ٤٣٥.

(٢) التهذيب ٢ / ٢٢٧.

(٣) سورة الحديد : ٢٥.


فيها حلقة حديد » (١) بأن الظاهر أنه جملة دعائية للكراهة المؤكدة ويمكن أن تكون خبرية ، ويكون المراد بعدم الطهارة المعنوية ، ولعل قوله بنجاسة الحديد لظاهر الأخبار الضعيفة ، والحق أنه مع النجاسة لا يمكن الانتفاع منه مع أنه من الله تعالى على العباد بكثرة منافعه في سورة الحديد. نعم يكره الصلاة فيه إذا كان ظاهرا (٢).

وفي الذكرى عن صحيح مسلم عن علي عليه‌السلام ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ينهى عن لبس القسي والمعصفر وعن التختم بالذهب وعن قراءة القرآن في الركوع ثم قال قلت : القسي بفتح القاف وتشديد السين المهملة منسوب الى القس موضع ، وهي من ثياب مصر فيها حرير (٣).

وفي الفقيه بسنده المتصل الى أبي الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعلي عليه‌السلام : اني أحب لك ما أحب لنفسي ، وأكره لك ما أكره لنفسي ، فلا تتختم بخاتم الذهب فانه زينتك في الآخرة (٤). أي : الذهب لا خصوص الخاتم منه زينتك في الآخرة.

ويؤيده ما سيأتي من موثقة روح بن عبد الرحيم حيث قال : لا تختم بالذهب فانه زينتك في الآخرة (٥) وقوله تعالى في بيان حال المؤمنين في الجنة « يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ » (٦).

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ / ٢٥٣.

(٢) روضة المتقين ٢ / ١٣٨.

(٣) الذكرى ص ١٤٧.

(٤) من لا يحضرة الفقيه ١ / ٢٥٣.

(٥) فروع الكافي ٦ / ٤٦٨ ، ح ٥.

(٦) سورة الكهف : ٣١.


روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : لو أن أدنى أهل الجنة حلية ادلت حلية بحليته أهل الدنيا جميعا لكان ما يحليه الله به في الآخرة أفضل من حلية أهل الدنيا جميعا. كذا ورد في طرق العامة عن أبي هريرة. وفي متن الحديث تشويش لا يخفى.

أو الخاتم باعتبار كونه ذهبا وتحققه في ضمن هذا النوع ، فيرجع الى الأول لا الخاتم منفردا من غير قيد ، فانه كما يكون زينة في الآخرة ، كذلك يكون في الدنيا ، فهذا التعليل يفيد أن التزين بالذهب مطلقا حرام في الدنيا على الرجال ، لانه من زينة الآخرة.

ولا تتوهمن من ظاهر اختصاص الحكم به عليه‌السلام ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حكمي على الواحد حكمي على الجماعة (١).

وقوله في تتمة الخبر : ولا تلبس القرمز فانه من أردية ابليس ، ولا تركب بميثرة (٢) حمراء فانها من مراكب ابليس ، ولا تلبس الحرير فيحرق الله جلدك يوم تلقاه (٣) ، فان تحريم لبس الحرير وكراهة القرمز وغيره لا اختصاص له به عليه‌السلام.

واعلم أن الكراهة المذكورة في الحديث بالمعنى الأعم من الحرمة والكراهة بأن يكون في التختم بخاتم الذهب ولباس الحرير على الحرمة ، وفي البواقي على الكراهة ، فان استعمالها في هذا المعنى شائع في كلامهم ، وسيأتي غير مرة

__________________

(١) عوالى اللالى ٢ / ٩٨.

(٢) قيل : هي تعمل من حرير أو ديباج كالفراش الصغير ، وتحشى بقطن أو صوف أو ريش يجعلها الراكب تحته على الرحال فوق الجمال ، وهل يدخل فيه مباثر النيروج؟ الظاهر الدخول لعموم اللفظ « منه ».

(٣) من لا يحضره الفقيه ١ / ٢٥٣.


وفي الأخبار كما لا يخفى على أولي الأبصار.

تنبيه :

لما كان الحرير لملابسته مما تلتذ به القوة اللامسة المنتسبة في الظاهر جلد البدن ، كان هو المدرك للعذاب والآلام وأولى باللذات ، وإذا قيل « كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ » (١) خص الاحراق به ، فتأمل فيه.

فصل

[ حكم الصلاة فى الذهب ]

دليل القائل بصحة الصلاة في الذهب هو الأصل ، فانه دليل متين يجب التمسك به ، الى أن يرد على خلافه دليل أقوى من نص صحيح صريح أو اجماع ونحوهما ، واطلاق الصلاة لا يقيد الا بدليل وليس ، فان هذه الأخبار وما شاكلها غير نقية السند.

لان رواية موسى بن أكيل النميري مرسلة على ما رواه الشيخ ، ونقله الفاضل المجلسي قدس‌سره في شرحه على الفقيه (٢).

وكذا في الكافي ، لان السند فيه هكذا : محمد بن يحيى ، عن بعض أصحابنا عن علي بن عقبة ، عن موسى بن أكيل النميري ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يكون في السفر ومعه السكين في خفة الحديث (٣).

__________________

(١) سورة النساء : ٥٦.

(٢) روضة المتقين ٢ / ١٣٨.

(٣) فروع الكافي ٣ / ٤٠٠ ، ح ١٣.


ولم يذكر فيه ما هو مناط الاستدلال ، أعني من الحديث الى قوله سألته عن الرجل ، والمراسيل مطلقا وان كان من ابن ابي عمير مما لا تركن النفس عليه ولا تميل ميلا ما اليه ، كما ذكرناه في بعض رسائلنا ، وفصل القول فيه الشهيد الثاني في دراية الحديث.

ورواية أبي الجارود الهمداني زياد بن المنذر ضعيفة السند به ، لانه زيدي المذهب مذموم مقدوح فيه ، الا أن الشيخ ابن الغضائري قال : وأصحابنا يكرهون ما رواه محمد بن سنان عنه ، ويعتمدون ما رواه محمد بن بكر الارجني (١).

أقول : وفي طريق الصدوق اليه في الفقيه محمد بن سنان ، كما هو المذكور في مشيخته هكذا : وما كان فيه عن زياد بن المنذر أبي الجارود ، فقد رويته عن محمد بن علي ما جيلويه رضي‌الله‌عنه ، عن عمه محمد بن أبي القاسم ، عن محمد ابن علي القرشي الكوفي ، عن محمد بن سنان ، عن أبي الجارود زياد بن المنذر الكوفي (٢) انتهى السند.

والحق عندي أن محمد بن سنان ثقة في نفسه ، كما فصلناه في بعض رسائلنا ولكن أبي الجارود كان ضعيفا ، كما نص عليه الشيخ في الفهرست ، وهو الظاهر من الكشي ، حيث قال : وكان أبو الجارود مكفوفا أعمى أعمى القلب ، ثم ذكر في ذمه أخبارا تضمن بعضها كونه كذابا كافرا (٣).

وقد نص بضعف السند المذكور مولانا عناية الله القهبائي في أواخر كتابه الكبير المسمى بمجمع الرجال بعد نقله عن مشيخة الفقيه مع اصراره في غير هذا الموضع صحة محمد هذا وجلالة قدره وكونه ثقة وجيها عند الجواد وأبيه عليهما‌السلام

__________________

(١) رجال العلامة ص ٢٢٣.

(٢) من لا يحضره الفقيه ٤ / ٤٤٦.

(٣) اختيار معرفة الرجال ٢ / ٤٩٥.


وأما الشيخ الجليل النجاشي ، فلم ينص في أبي الجارود هذا بمدح ولا قدح.

أقول : ولكن رواية الصدوق هذا الحديث في كتاب من لا يحضره الفقيه يدل على أنه كان معمولا به عنده ، لانه قد ضمن في صدر الكتاب صحة ما اشتمل عليه وأنه حجة بينه وبين ربه.

ومثله ثقة الاسلام صاحب الكافي ، مع أنه مذكور فيه بسند موثق هكذا : محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن فضال ، عن غالب بن عثمان ، عن روح بن عبد الرحيم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لامير المؤمنين عليه‌السلام : لا تختم بالذهب فانه زينتك في الآخرة (١).

فان قلت : غالب بن عثمان مشترك بين المنقري الواقفي الثقة والهمداني الزيدي الشاعر المهمل ، وكلاهما يرويان عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام. فهذا السند أيضا صحيح أو ضعيف للاشتراك المذكور من غير قرينة معينة.

قلت : بل هنا قرينتان معينتان ، الأولى : أن الحسن بن علي بن فضال انما يروي عن المنقري دون الهمداني ، والثانية : أن المنقري يروي عن روح بن عبد الرحيم لا الهمداني ، فكل من الراوي والمروي عنه قرينة معينة ، كما يظهر للناظر في اصول الأصحاب ، فظهر أن هذا السند موثق.

والظاهر من متنه كما أشرنا اليه تحريم الزينة بالذهب للرجال مطلقا من غير فرق في ذلك بين الساتر وغيره حتى التكمة والزرة ، لصدق اسم الذهب عليه فلو لبس قباء مزرورة بالذهب وصلى فيها بطلت صلاته.

هذا وأما ما رواه شارح الجعفرية ، فهو وان كان مذكورا في الكتب الفقهية تصريحا وتلويحا كالمدارك وغيره ، الا أنا لم نقف الى الان على سنده ، فهو غير معلوم الصحة ، مع أنه يمكن حمل هذه الأخبار على ضرب من الكراهة ، بل

__________________

(١) فروع الكافي ٦ / ٤٦٨ ، ح ٥.


ظاهر بغضها صريحة في ذلك.

فان قلت : قد استعملت الكراهة في بعض الأخبار موضع الحرمة ، ولذلك حمل صاحب المدارك الجليل تبعا لشيخه النبيل مولانا ، أحمد الأردبيلي قدس‌سرهما في شرحه على الارشاد كراهة لبس الحرير الواردة في بعض الأخبار ، كخبر جرا؟؟؟ ح المدائني عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه كان يكره أن يلبس القميص المكفوف بالديباج ويكره لباس الحرير ، على الحرمة ، فليحمل الكراهة المذكورة في الحديث النبوي عليها ، كما مرت اليه الاشارة بقرينة غيره من الأخبار المذكورة الدالة على تحريم لبس الذهب.

قلت : كذلك قد استعملت الحرمة في بعض الأخبار موضع الكراهة الشديدة كقوله « محاش النساء على امتي حرام (١) » وقوله في حديث الحديد « فحرم على الرجل المسلم أن يلبسه في الصلاة (٢) » فان المراد بالحرام هنا ليس ماندم فاعله ويعاقب عليه ، كما هو المعروف بين الأصوليين ، بل المراد به الكراهة.

وقال العالم الرباني مولانا أحمد في شرح الارشاد : بالغ ابن الجنيد وحرم في ظاهر كلامه الصلاة في ثوب علمه حرير ، بل قد حرم الدبج أيضا. ثم قال : الا أن يكون المراد الكراهة ، فانهم كثيرا يعبرون عنها بالتحريم (٣).

ومما ذكرناه يعلم أن حمل كراهة لبس الحرير الواردة في الأخبار على الحرمة كما فعله صاحب المدارك ، مع أن الكراهة لا تستلزم الحرمة بخلاف العكس ، ليس بأولى من حمل الحرمة المذكورة فيها ، كقوله « حرام » على الكراهة ، بل

__________________

(١) عوالى اللالى ٢ / ١٣٤.

(٢) تهذيب الأحكام ٢ / ٢٢٧.

(٣) مجمع الفائدة ٢ / ٨٦.


هذا أولى لما عرفته والأصل ، ولنا معه في الرسالة الحريرية مباحثات لطيفة تطلب من هناك.

فليحمل الحرمة المذكورة في الأخبار المذكورة في لباس الذهب على الكراهة ، ولا ترجيح هنا لاحد الحملين على آخر ، الا من جهة قول بعضهم بعدم خلافهم في حرمة لبس الذهب ، ولولاه لكان القول باباحة لبسه مطلقا نظرا الى التوفيق بين الأخبار أقوى ، لتأيده بالاباحة الأصلية السالمة عن المعارضات النقلية حيث لا ترجيح لاحد الحملين على الاخر فتبقى الاباحة على أصلها.

أقول : وهنا ترجيح آخر ، وهو أنه ليس في رواية روح بن عبد الرحيم الثقة ما رواه أبو الجارود في صدر الرواية من لفظة المحبة والكراهة ، لتكون قرينة على كراهة التختم بالذهب ، مع أنه منقوض بقوله ولا تلبس الحرير فان حرمته لا نزاع فيها ، فكما لا ينافيها لفظة الكراهة ، فكذلك لا ينافي تحريم الذهب. فما يقال في الاعتذار عن هذا يمكن أن يقال في الاعتذار عن ذاك.

فان قلت : قد تقرر عندهم ان الحديث المزيد على غيره من الاحاديث المروية في معناه مقبول ، حيث لا يقع منافيا لما رواه غيره من الثقات وهنا كذلك.

قلت : ان المزيد انما يقبل إذا وقعت ارادة من السبقة (١) لا مطلقا ، وهنا ليس كذلك لما عرفته من ضعف أبي الجارود وكذبه بل كفره نعوذ بالله.

على أنا نقول : لما كانت حرمة اللبس فيهم اتفاقية على القول المذكور ، فيمكن أن يقال : ان لبسه في جميع الاوقات ومنه وقت الصلاة منهي ، والنهي في العبادة مفسد إذا تعلق بعينها أو جزءها أو شرطها ، وستر العورة (٢) من شرط

__________________

(١) كذا ، ولا مفهوم للكلمة.

(٢) هذا على تقدير تمامه يدل على بطلان الصلاة في الذهب إذا كان سائرا ، وأما فى غير الصلاة فلا دلالة له عليه « منه ».


صحة الصلاة ، فالاحوط البطلان في غير حال الضرورة ، فخذ الحائط لدينك لتكون في الصلاة التي هي معراج المؤمن على يقينك.

وقد أطبق جميع أهل الاسلام على أنه طريق منج ، وقد وردت عليها تنبيهات بل تصريحات عن الصادقين صلوات الله عليهم أجمعين ، كقولهم : ليس بناكب عن الصراط من سلك طريق الاحتياط. والحاجة اليه في زماننا هذا أشد وأكثر لفقد المجتهد ظاهرا ، فمن أخذ به نجا ومن تركه هلك ، والله الموفق والمعين.

فصل

[ تحقيق حول كلام الأصحاب فى المسألة ]

ويستفاد مما أفاده الشارح الفاضل الأردبيلي في شرح الارشاد أن هنا مذهبا ثالثا ، وهو عدم بطلان الصلاة في خاتم الذهب ، لعدم النهي الصريح عن الصلاة فيه وبطلانها في غيره من اللباس الذهبي ، لوجود النهي الصريح فيه ، وهو كما قال أمر غريب عجيب.

وهذه عبارته بعد كلام لا حاجة بنا الى نقله في مسألتنا هذه : وكذا الفرق بين النهي الصريح وغيره ليس بجيد ، لانه إذا وجد النهي فالدليل جار ، ففرق المحقق بين خاتم الذهب ومال الغير وبين الحرير الذي ليس بساتر بالبطلان فيه دونهما ، لوجود النهي الصريح عن الصلاة في الحرير دونهما ، وارتضاه الشارح مما يتعجب منه.

أقول : النهي في قوله « فلا تختم بخاتم ذهب » يعم الاوقات كلها ، ومنها وقت الصلاة ، فالنهي عن الصلاة فيه يكون صريحا ، وكذا قوله « جعل الله الذهب في


الدنيا زينة النساء فحرم على الرجال لبسه والصلاة فيه » (١) يعم الخاتم وغيره ، فيكون النهي عن الصلاة فيه أيضا صريحا.

بل لا يبعد أن يقال : ان النهي في قوله « حرم لباس الحرير والذهب على ذكور امتي » نهي صريح عن الصلاة في خاتم الذهب ، الا أن يقال : ان المراد بالنهي الصريح هنا ما أشار اليه الفاضل الأردبيلي رحمه‌الله في حاشيته على هذا الموضع من شرحه بقوله : الا أن يقال : يفهم البطلان من صريح النهي ، بأن يقال لا تصلوا فيه ، فان المتبادر منه عدم الرضا بالصلاة فيه دون النهي العالم ، وفيه تأمل ، انتهى كلامه رفع في عليين مقامه.

وقال الشهيد في الذكرى : الصلاة في الذهب حرام على الرجال ، فلوموه ثوبا وصلى فيه بطلت ، بل لو لبس خاتما وصلى فيه بطلت صلاته ، قاله الفاضل. وقوى في المعتبر عدم الابطال بلبس خاتم من ذهب ، ولوموه الخاتم بالذهب فالظاهر تحريمه ، لصدق اسم الذهب عليه. نعم لو تقادم عهده حتى اندرس وزال مسماه جاز.

ثم قال : ومثله الاعلام على الثياب من الذهب أو المموه به في المنع من لبسه والصلاة فيه ، ثم نقل عن أبي الصلاح أنه قال : تكره الصلاة في الثوب المذهب والملحم بالحرير والذهب (٢).

واعلم أن كلام المحقق في الشرائع صريح في صحة الصلاة في لباس الذهب مطلقا ، ساترا كان أم غيره ، لانه قال فيه : المقدمة الرابعة في لباس المصلي ثم عد ما لا تجوز الصلاة فيه منه ، ساكتا عن لباس الذهب مطلقا.

ثم قال : السابعة : كل ما عدا ما ذكرناه تصح الصلاة فيه ، بشرط أن يكون

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٢ / ٢٢٧.

(٢) الذكرى ص ١٤٦.


مملوكا أو مأذونا فيه (١).

قد عرفت أن مما عدا ما ذكره لباس الذهب ، فتصح الصلاة فيه مطلقا عن رأيه هذا. وعلى هذا فلا وجه لتخصيصه في المعتبر (٢) عدم الابطال بلبس خاتم من ذهب ، والظاهر أنه من باب تحديد الرد حينئذ وتغييره.

أقول : ويمكن أن يستدل من قبله ومن يحذو حذوه بأن لباس الذهب من الزينة ، وكل زينة يجوز التزين بها في الصلاة وغيرها الا ما أخرجه الدليل ، وليس هذا منه. أما الأولى ، فظاهرة وأما الثانية ، فلعموم « مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ » (٣) وأما الثالثة ، فلعدم دليل هنا يصلح لإخراجه الا دعوى بعضهم عدم الخلاف في حرمة لبس الذهب ، وهو غير ثابت عنده.

وأما تخصيص ما هو قطعي المتن وظني الدلالة بما هو ظني المتن وقطعي الدلالة على القول بجواز تخصيصه به ، فانما يصح بعد ثبوت ظنية متنة؟؟؟ وقطعية دلالته.

وهذا كلاهما في حيز المنع. أما الأولى ، فلعدم صحة هذه الأخبار الغير البالغة حد التواتر ، فلا يحصل بها الظن بصدور النهي عن المعصوم ، فلا يصح تخصيص الآية بها. وأما الثانية ، فلما سبق من مساواة الحملين والإباحة الأصلية فتأمل.

فان قلت : لعله يقول ان النهي في شرط العبادة انما يفسدها إذا كان ذلك الشرط عبادة مستقلة ، واما إذا لم يكن كذلك فلا ، مثلا ازالة النجاسة شرط لصحة الصلاة ولا يضره نهيها بماء مغصوب في مكان مغصوب وبآلة مغصوبة وبفعل غاسل قهرا

__________________

(١) الشرائع ١ / ٦٨ ـ ٦٩.

(٢) المعتبر ٢ / ٨٧.

(٣) سورة الاعراف : ٣٢.


بخلاف الغسل ، فانه يبطل لكونه عبادة مستقلة.

قلت : ستر العورة باللباس ليس كازالة النجاسة ، بل هو كالغسل لوجوب سترها في الصلاة وغيرها ، لقوله تعالى « يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ » (١) فانه يدل على قبح الكشف ، وان الستر مراد الله.

وكيف لا يكون سترها باللباس كذلك ، وهم مطبقون على بطلان الصلاة في اللباس الحرير والمغصوب ، معللين بأن النهي هنا راجع الى شرط الصلاة فيفسدها وحينئذ فلا فرق في الساترين بين كونه ذهبا وحريرا ومغصوبا ، فان النهي راجع الى شرط العبادة ، فالفرق المذكور هنا غير مؤثر.

والاظهر أن يقال : ان دعوى الاتفاق على حرمة لبسه غير ثابت ، كيف وقد سبق النقل عن أبي الصلاح أنه قال بكراهة (٢) الصلاة في الثوب المذهب. والعقل والنقل متفقان على أن الأصل في الاشياء الإباحة ، وغيرها يحتاج الى الدليل ، فان الأصل صحة الصلاة في مطلق اللباس حتى يخرجه الدليل بخصوصه وعدم هذا التكليف وهو كف النفس ومنعها عن لباس المذهب وهو من الزينة حكم بصحة الصلاة فيه مطلقا ، ساترا كان أم لا فتدبر.

وأعلم أنهم اختلفوا في العمل بالحسن ، فمنهم من عمل به مطلقا ، ومنهم من رده مطلقا وهم أكثرون ، حيث شرطوا في قبول الرواية الإيمان والعدالة ، كما قطع به العلامة في كتبه الأصولية ، وفصل آخرون كالمحقق في المعتبر والشهيد في الذكرى فقبلوه ، وربما ترقوا الى الضعيف أيضا إذا كان العمل بمضمونه مشتهرا بين الأصحاب ، حتى قدموه على الصحيح ، حيث لا يكون العمل بمضمونه مشتهرا.

__________________

(١) سورة الاعراف : ٢٦.

(٢) يمكن أن يكون مراده بالكراهة هنا هو الحرمة كما قالوا في نظائره « منه ».


وكذا اختلفوا في العمل بالموثق نحو اختلافهم في الحسن ، فقبله قوم مطلقا ورده آخرون ، وفصل ثالث ، كذا في دراية الحديث للشهيد الثاني.

ومقتضاه أن يكون العلامة مصححا للصلاة إذا وقعت في خاتم ذهب ، والمحقق مبطلا لها على عكس ما سبق نقله عنهما ، ولعله لذلك لم يقدح في سند الحديث بل رواه ، الا أن النهي فيه غير صريح في بطلان الصلاة.

وفيه ما فيه ، والظاهر أنه لا يقول بحسن رواية المدائني بل يقول : انها مجهولة السند ، كما في المشهور. وفيه أيضا ما عرفته.

وأما الفاضل العلامة ، فلما رأى الأخبار الواردة في تلك المسألة مستفيضة مؤيدة بمفهوم الأخبار الصحيحة ، وقد عمل بمضمونها أكثر السلف والخلف ، حكم بتحريم لبسه وبطلان الصلاة فيه مطلقا ، ولو كان خاتما مموها به ، فمدار عمله بها على استفاضتها ، وعمل أكثر الأصحاب بها ، مع قطع النظر عن كونها حسنة أو موثقة أو ضعيفة ، مع أن العمل بها مما يقتضيه سلوك طريق الاحتياط المبرئ للذمة يقينا لو شغلها كذلك.

فصل

[ حكم حمل الذهب فى الصلاة ]

إذا حمل الذهب أو القرآن المذهب ونحوه في صلاته ، فالظاهر أنه غير محرم ولا مبطل ، لأنه ليس بلباس ولا زينة ، والنهي متعلق بهما ، فمن صلى ومعه خاتم ذهب غير لابس به صحت صلاته ، لأن المنهي عنه هو التختم به في الصلاة وغيرها لا استصحابه فيهما ، كما نبه عليه الفاضل الأردبيلي رحمه‌الله في كلامه المنقول عنه سابقا.


ويدل عليه عموم ما رواه الصدوق رحمه‌الله في الفقيه بسندين أحدهما أضعف من الاخر ، عن صفوان الجمال ، قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ان معي أهلي وإني أريد الحج فأشد نفقتي في حقوي ، قال : نعم فان أبي عليه‌السلام كان يقول : من قوة المسافر حفظ نفقته (١).

قال الفاضل المجلسي قدس‌سره في شرحه على الفقيه : ترك استفصاله يدل على جواز الصلاة معها ولو كان دنانير ، مع أنه لم يرد نهي فيه. وليس بتزين للذهب حتى يكون حراما ، والظاهر من النهي على تقدير صحته هو التزين. وربما يقال بالجواز لأنه موضع الضرورة (٢).

أقول : لا وجه لحمله على الضرورة بعد إقامة الدليل على جوازه في غيرها أيضا حيث لم يكن زينة ولا منهيا عنه ، مع ورود كل شي‌ء مطلق حتى يرد فيه نهي.

وفي صحيحة علي بن أسباط عن عمه يعقوب بن سالم ، قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام تكون معى الدراهم فيها تماثيل وأنا محرم ، فأجعلها في همياني وأشده في وسطي ، قال : لا بأس أو ليس هي نفقتك وعليها اعتمادك بعد الله عزوجل (٣).

وقال آخوندنا فيض قدس‌سره في كلام له فارسي في جواب من استفتاه عن جواز استصحاب الذهب والقرآن المذهب والاحراز والعضائد وغيرها من الاشياء المذهبة حال الصلاة ما حاصله :

ان المنهي عنه انما هو اللباس المذهب للرجال مطلقا في الصلاة وغيرها ، وأما حمل الذهب معه والاشياء المذهبة ، فلا بأس به في الصلاة وغيرها ، والخاتم

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٢ / ٢٨٠.

(٢) روضة المتقين ٤ / ٢٢٩.

(٣) من لا يحضره الفقيه ٢ / ٢٨٠.


من جملة اللباس.

وأما ما ورد من حديث ذم تحلية المصاحف في ضمن اشتراط الساعة ، فهو على تقدير صحته غير صريح في تحريم تذهيب القرآن المجيد بخصوصه ، مع أن الأحاديث المعتبرة في الكافي والتهذيب تدل على جواز تذهيبه ، والعلم عند الله وأهله.

ويظهر منه أنه يذهب الى تحريم اللباس المذهب على الرجال مطلقا ، ساترا كان أم غيره ، ولهذا عد الخاتم من اللباس المحرم لبسه في الصلاة وغيرها ، كسائر الالبسة الذهبية المنهي عنها مطلقا.

وانما خص تحريمه بالرجال ، لأن الخناثى لا نص فيهم على الخصوص ، وانما أدخلهم الأصحاب في هذا الباب من باب الأخذ بالاحتياط ، كما مرت إليه الإشارة.

ثم الظاهر من كلامه كغيره عدم الفرق في الذهب الجائز استصحابه في الصلاة بين المسكوك منه وغيره ، وهو الظاهر من عموم رواية صفوان وترك استفصاله عليه‌السلام ، مع أنه لم يرد في واحد منهما نهي.

فإذا نضم إليه قولهم عليهم‌السلام « كل شي‌ء مطلق حتى يرد فيه نهي » أفاد جواز ذلك مطلقا ، لأن شيئا منهما ليس بتزين بالذهب ، ظاهرا كان أم مستورا ، فتخصيصها بما لو كان دنانير وهي المسكوك من الذهب غير جيد.

وقوله « فأشد نفقتي في حقوي » لا ينافيه ، اذ لا مانع من أن يكون في هميانه المشدود في حقوه مع دنانير قطع الذهب غير المسكوكة المراد بها بيعها وقت الحاجة وانفاقها.

فان مدار الاستدلال على عموم المقال وترك الاستفصال ، وهما كما يعمان الدنانير والدراهم ، يشملان القطاع الغير المسكوكة ، بل مطلق المصاغ من الذهب والفضة


كالخاتم والسوار والخلخال ونحوها المراد بهما التجارة والانفاق. هذا كله على القول بعدم صحة الصلاة في الذهب.

وأما على القول بصحتها فيه كما عليه المحقق في الشرائع ، والشهيد في اللمعة وأمثالهما ، فلا اشكال في أمثال ذلك أصلا ، وكذا على قول صاحب المعتبر ومن شايعه في عدم بطلان الصلاة بلبس خاتم ذهب ، بل عدم بطلانها هنا أقوى فتأمل.

واعلم أن حديث اشراط الساعة حديث طويل مذكور في تفسير علي بن ابراهيم ، قال : حدثني أبي عن سليمان بن مسلم الخشاب ، عن عبد الله بن جريح المكي ، عن عطاء بن أبي رياح ، عن عبد الله بن عباس ، فهذا سنده وهو كما أشار إليه قدس‌سره غير صحيح.

قال : حججنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حجة الوداع ، فأخذ بحلقة باب الكعبة ، ثم أقبل علينا بوجهه ، فقال : ألا أخبركم بأشراط الساعة؟ فكان أدنى الناس منه يومئذ سلمان رحمه‌الله عليه ، فقال : بلى يا رسول الله.

فقال : ان من اشراط القيامة اضاعة الصلوات ، واتباع الشهوات ، والميل مع الاهواء ، وتعظيم أصحاب المال ، وبيع الدين بالدنيا.

وساق الكلام عليه وآله السلام الى أن قال : يا سلمان ان عندها تزخرف المساجد ، كما تزخرف البيع والكنائس ، وتحلى المصاحف ، وتطول المنارات وتكثر الصفوف بقلوب متباغضة وألسن مختلفة.

قال سلمان : وان هذا لكائن يا رسول الله؟

قال : اي والذي نفسي بيده يا سلمان ، وعندها تحلى ذكور امتي بالذهب ، ويلبسون الحرير والديباج الحديث وطوله (١).

__________________

(١) تفسير القمى ٢ / ٣٠٥.


وظاهره يفيد تحريم تحليلة المصاحف ، لا بخصوص الذهب ، بل به وبغيره من الفضة وغيرها كما يفيد تحريم تحلي الرجال بالذهب ولباس الحرير والديباج

تنبيه :

قوله في الحديث السابق ذكره « حرم لباس الحرير والذهب على ذكور امتي » يفيد أن تحريمه مختص بهذه الامة ، ولم يكن حراما على الامم السالفة.

ويؤيده ما في الكافي بسند ضعيف عن العباس بن هلال الشامي مولى أبي الحسن عليه‌السلام قال قلت له : جعلت فداك ما أعجب الى الناس من يأكل الجشب ويلبس الخشن ويتخشع.

فقال : أما علمت أن يوسف عليه‌السلام نبي ابن نبي كان يلبس أقبية الديباج مزرورة بالذهب ، ويجلس في مجالس آل فرعون يحكم ، فلم يحتج الناس الى لباسه وانما احتاجوا الى قسطه ، وانما يحتاج الى الامام في أن إذا قال صدق ، وإذا وعد أنجز ، وإذا حكم عدل ، ان الله لم يحرم طعاما ولا شرابا من حلال دائما ، وانما حرم الحرام قل أو كثر ، وقد قال جل وعز « مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ » (١).

فصل

[ حكم تحلية الدواب بالذهب والفضة ]

هذا ما ورد في لباس الانسان وأما ما ورد في آلات الدواب والحيوان.

__________________

(١) فروع الكافي ٦ / ٤٥٣ ـ ٤٥٤.


فمنه ما في الكافي في الصحيح (١) عن علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن عليه‌السلام قال : سألته عن السرج واللجام فيه الفضة أيركب به؟ فقال : ان كان مموها لا يقدر على نزعه فلا بأس ، والا فلا يركب به (٢).

وهذا بظاهره يعم المالك إذا اشتراه كذلك ، أو فعل حراما وصنع ذلك ، فبعد ذلك يدخل تحت الحكم فتأمل ولا فرق بين القليل والكثير ، وما يحصل منه شي‌ء ما يعرض على النار وغيره ، الا أن يقال : عدم القدرة على نزعه دليل قلته ورقة قوامه بأن يكون مطلا بماء الفضة ، كما يدل عليه قوله « مموها » لأن الميه عبارة عن طلاء السيف وغيره بماء الذهب ، كما في القاموس (٣).

وقال العلامة في التذكرة في بحث الأواني : المموهة ان كان يحصل منه شي‌ء بالعرض على النار حرم والا فاشكال.

وفي الكافي في ضعيفة مسمع بن عبد الملك عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : كانت برة ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من فضة (٤).

والمراد بالبرة حلقة يجعل في لحم الانف ، ولكن ضعفه يمنع من العمل بمضمونه ، الا أن يقال : الأصل إباحة أمثال ذلك حتى يرد فيه نهي ولم يرد ، فيكون ورود هذا ونحوه مؤكد للإباحة الأصلية ، هذا ما ورد في السرج واللجام اللذين فيهما الفضة.

وأما ما فيه الذهب ، فلم أقف فيه على نهي ، والأصل قولهم عليهم‌السلام « كل شي‌ء مطلق حتى يرد فيه نهي » يقتضي الإباحة وجواز الركوب به.

__________________

(١) السند هكذا : محمد بن يحيى عن العمركى بن على عن على بن جعفر « منه ».

(٢) فروع الكافي ٦ / ٥٤١ ، ح ٣.

(٣) القاموس ٤ / ٢٩٣.

(٤) فروع الكافي ٦ / ٥٤٢.


ويستفاد منه أن تعليلهم تحريم اتخاذ الأواني من الذهب والفضة وسيأتي بالفخر والخيلاء وكسر قلوب الفقراء وما فيه من السرف وتعطيل المال عليل ، فان اتخاذ سرج الذهب ولجامه في ايراث ذلك كله أشد وأكثر منه في الفضة بمراتب ، فكان ينبغي أن يكون الامر على خلاف ذلك ، والظاهر أنه تعبد.

اللهم الا أن يقال : تحريم السرج واللجام المتلبسين بالذهب بطريق أولى أو يقال : ان ذلك اللباس بمنزلة الظرف والانية لذلك الشي‌ء الذي هو فيه ، كما يرشد إليه مضمون صحيحة ابن بزيع ، فيكون استعمالهما لذلك محرما ، فتأمل.

فصل

[ حكم تحلية السيوف والمصاحف وغيرهما بالذهب والفضة ]

يجوز تحلية السيوف والمصاحف بالذهب والفضة ، لأصالة الجواز والاباحة وضعيفة داود بن سرحان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ليس بتحلية المصاحف والسيوف بالذهب والفضة بأس (١).

وصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ليس بتحلية السيف بأس بالذهب والفضة (٢).

وضعيفة النوفلي عن السكوني عنه عليه‌السلام قال : كان نعل سيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقائمته فضة ، وكان بين ذلك حلق من فضة ، ولبست درع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فكنت أسحبها وفيها ثلاث حلقات فضة من بين يديها وثنتان من خلفها (٣).

__________________

(١) فروع الكافي ٦ / ٤٧٥ ، ح ٧.

(٢) فروع الكافي ٦ / ٤٧٥ ، ح ٥.

(٣) فروع الكافي ٦ / ٤٧٥ ، ح ٤.


وضعيفة حاتم بن اسماعيل عنه أيضا : ان حلية سيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت فضة كلها قائمه وقباعه (١).

وقال في الذكرى بعد ذكر تحلية السيوف والمصاحف بالذهب : ويرجح الجواز. وفي التذكرة : ويحرم ان انفصل منه شي‌ء بالنار (٢).

وفي رواية محمد بن الوراق أنه عرض على الصادق عليه‌السلام قرآنا معشرا بالذهب وفي آخره سورة مكتوبة بالذهب ، فلم يعب سوى كتابة القرآن بالذهب وقال : لا يعجبني أن يكتب القرآن الا بالسواد كما كتب أول مرة (٣).

وفي الدروس لا بأس بقبيعة السيف ونعله من الفضة وضبه وحلقة القصعة ، وتحلية المرأة بها. وروى جواز تحلية السيف والمصحف بالذهب والفضة ، والاقرب تحريم المكحلة منهما وظرف الغالية ، أما المبل فلا (٤).

أقول : وفي الكافي في رواية ضعيفة عن الفضيل بن يسار ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن السرير فيه الذهب أيصلح امساكه في البيت؟ فقال : ان كان ذهبا فلا ، وان كان ماء الذهب فلا بأس (٥).

وهذه تدل على أن السرير إذا كان وتده أو شي‌ء منه ذهبا لا يجوز امساكه ، بل يجب كسره وافناؤه ، ولعله للاسراف وتعطيل المال.

وفي صحيحة محمد بن اسماعيل بن بزيع عن الرضا عليه‌السلام ان العباسي (٦) حين عذر عمل له قضيب ملبس من فضة من نحو ما يعمل للصبيان تكون فضة نحوا

__________________

(١) فروع الكافي ٦ / ٤٧٥ ، ح ٦.

(٢) الذكرى ص ١٨.

(٣) اصول الكافي ٢ / ٦٢٩ ، ح ٨.

(٤) الدروس ص ١٨.

(٥) فروع الكافي ٦ / ٤٧٦ ، ح ١٠.

(٦) فى الكافي : العباس.


من عشرة دراهم ، فأمر به أبو الحسن عليه‌السلام فكسر (١).

المراد بالعباسي هشام بن ابراهيم البغدادي ويقال له المشرقي أيضا ، وليس هو من ولد العباس ، بل هو من الشيعة ، وانما سمي عباسيا لأنه لما طلبه هارون كتب كتب الزيدية وكتب اثبات إمامة العباس ، ثم دس الى من يغمز به واختفى واطلع هارون على كتبه ، فقال : هذا عباسي فآمنه وخلى سبيله ، وهو من أصحاب الرضا عليه‌السلام ويروي عنه ، وأدرك زمن الكاظم عليه‌السلام أيضا.

وفي عيون أخبار الرضا عليه‌السلام في حديث طويل عن محمد بن اسماعيل بن بزيع ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : وسألته عن آنية الذهب والفضة فكرهها ، فقلت له : قد روى بعض أصحابنا أنه كانت لأبي الحسن موسى عليه‌السلام مرآت ملبسة فضة ، فقال : لا بحمد الله انما كانت لها حلقة فضة وهي عندي الآن ، وقال : إن العباس يعني أخاه حين عذر عمل له عود ملبس فضة من نحو ما يعمل للصبيان تكون فضته نحو عشرة دراهم ، فأمر به أبو الحسن عليه‌السلام فكسر (٢).

أقول : والصحيح هذا والعباسي اشتباه من النساخ ، ولكنه مذكور في الكافي وغيره.

هذا والاعذار الختان ، يقال : عذرته وأعذرته فهو معذور ومعذر ، ومنه الحديث « ولد رسول الله معذورا مسرورا » (٣) أي : مختونا مقطوع السرة.

والقضب القطع. وفي مقتل الحسين عليه‌السلام « فجعل ابن زياد يقرع فمه بالقضيب » أراد بالقضيب السيف اللطيف الدقيق وقيل : أراد به العود ، كذا

__________________

(١) فروع الكافي ٦ / ٢٦٧ ، ح ٢.

(٢) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٩.

(٣) نهاية ابن الاثير ٣ / ١٩٦.


في نهاية ابن الاثير (١).

وهذا الاخير هو المشهور بين أصحابنا والمراد به هنا لا الأول.

وهذا الحديث يفيد تحريم اتخاذه وصنعته واستعماله ، وانه غير مضمون على الكاسر أرشه ، اذ لا حرمة ولا قدر له ولا أجر لعمله ، لأنه لو كان له قدر ولعمله أجر يوجب كسره أرشا ، أو كان مما يحل استعماله لما أمر بكسره واضاعته ، لأنه اتلاف واسراف ، والمعصوم بري‌ء من الامر بما يوجب الاتلاف والاسراف.

والظاهر أنه كان من باب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بالنسبة الى من عمل ذلك ، أو بالنظر الى الولي لا بالنسبة الى الصبي المختون فانه غير مكلف.

وانما كان ذلك منكرا والامر بكسره معروفا لما فيه من الخيلاء وكسر قلوب الفقراء وتعطيل المال ، وارادة العلو في الارض ، وطلب الرئاسة المهلكة ، وميل قلوب الناس اليه وتعظيمهم لديه ، فكل ما هذا شأنه ومنه ما تعارف في أبناء هذه الازمان من عملهم للغليان ما يسمونه كرنائيا من الذهب والفضة فهو حرام اتخاذه واستعماله ، وربما شبكه بعضهم ظنا منه أنه يخرجه من ان يصدق عليه اسم الاناء ، وهذا منه خيال فاسد ، وظن كاسد لا وجه له ، بل هذا يزيده زينة وميلا للقلوب.

مع أن الظاهر من هذا الخبر أن تحريم ذلك غير منوط بصدق اسم الاناء عليه ، لأن من الظاهر أن القضيب لا يطلق عليه الاناء لا لغة ولا عرفا ولا شرعا ، ومع ذلك أمر عليه‌السلام بكسره الدال على غاية قباحته وشناعته ، حتى كأنه مما لا يجوز ابقاؤه بل يجب افناؤه ، كآلات اللهو واللعب وأمثالها.

ويشير اليه قول صاحب الذكرى : يصح بيع هذه الانية ـ أي : آنية الذهب

__________________

(١) نهاية ابن الاثير ٤ / ٧٦.


أو الفضة ـ وعلى المشتري سبكها (١).

فقول صاحب المدارك : وفي جواز اتخاذ المكحلة وظرف الغالية من ذلك تردد ، منشأه الشك في اطلاق اسم الاناء حقيقة ، وكذا الكلام في تحلية المشاهد والمساجد بالقناديل من الذهب والفضة (٢). محل تأمل ، على أن ما ذكره يصدق عليه اسم الاناء حقيقة ، لأن المراد به ظرف الشي‌ء وما يستقر هو فيه ، كما صرح به أهل اللغة.

قال صاحب كنز اللغة : اناء چيزى كه در او چيزى كنند ، مثل كوزه وكاسه وامثال آن. والظرف يقال لمطلق الوعاء ، كما في القاموس (٣).

فظرف الغالية وكذا المكحلة يدخل تحت قوله « وامثال آن » ويكون اناء من غير تردد ، ولأنه ظرف للكحل والغالية ، فيدخل في التعريف (٤). وكذا الكلام في القناديل.

ولذلك قال الشهيد في الذكرى : الاقرب تحريم المكحلة منهما وظرف

__________________

(١) الذكرى ص ١٨.

(٢) المدارك ٢ / ٣٨١ ـ ٣٨٢.

(٣) القاموس ٣ / ١٧٠.

(٤) فان قلت : ظاهر حسنة ابن سنان قال قلت لابى عبد الله عليه‌السلام الرجل يكون لى عليه الدراهم فيعطيني المكحلة ، فقال : الفضة بالفضة ، وما كان من كحل فهو دين عليه حتى يرده عليك يوم القيمة. يفيد اباحة مكحلة فضة ، لأنه عليه‌السلام لم يمنعه من أخذها عوضا عن دراهمه ، بل أجازه وقرره عليه.

قلت لا كلام فى جواز المعاملة بآنية الذهب والفضة واشترائها كما سبق آنفا فى كلام الشهيد ، ولا نسلم أن مفاده ما ذكرت ، بل غاية ما دل عليه جواز تعويض الدراهم المأخوذة بها ، وهذا لا يستلزم جواز استعمالها ، فلعله أخذها ارادة أن يجعلها مسبوكا أو مسكوكا ، ومع قيام الاحتمال يسقط الاستدلال « منه ».


الغالية ، وان كانتا ظرفا بقدر الضبة (١) ، لصدق الاناء عليه (٢).

والمراد بالضبة ما به يصلح موضع الكسر من قصعة حديدة ونحوها ، وهذه بخصوصها مستثناة في الحديث ، قال الصادق عليه‌السلام حين سئل في القدح ضبة : لا بأس (٣).

ومن الظاهر أن المراد مجرد الصلاحية ، وامكان أن يكون ظرف لشي‌ء ، لا ما هو ظرف له بالفعل ، والالزم أن لا تكون الكوزة المقلوبة إناء.

وعلى هذا فالكرنائيات كلها داخلة تحت تعريف الاناء ، صالحة لأن تكون ظروفا لبعض الاشياء ، كالكوزة المقلوبة والقصعة المنكوسة ، وكيف لا يصدق على مثل ما ذكره إناء حقيقة.

وصحيحة ابن بزيع صريحة في اطلاق الاناء حقيقة على المرآة ، حيث قال : سألت الرضا عليه‌السلام عن آنية الذهب والفضة فكرهها ، فقلت : روى بعض أصحابنا أنه كان لابي الحسن عليه‌السلام مرآة ملبسة فضة ، فقال : لا والله انما كانت لها حلقة من فضة هي عندي (٤).

ويفهم منه تحريم استعمال مرآة ملبسة من فضة وهو طاهر ، وجواز اتخاذ حلقة من فضة للقصعة ونحوها. وهذه بخصوصها منصوصة. روي أن حلقة قصعة النبي وقبيعة سيفه كانتا فضة (٥). والمراد بقبيعة السيف ما على ظرف مقبضه.

__________________

(١) الضبة بفتح الضاد المعجمة وتشديد الباء الموحدة ، تطلق فى الأصل على حديدة عريضة تستمر في الباب ، والمراد بها هنا صفحة رقيقة من الفضة مستمرة فى القدح من الخشب ونحوها ، اما لمحض الزينة أو لجبر كسره « منه ».

(٢) الذكرى ص ١٨.

(٣) تهذيب الأحكام ٩ / ٩١.

(٤) فروع الكافي ٦ / ٢٦٧.

(٥) فروع الكافي ٦ / ٤٧٥.


واعلم أنه قال في الرسالة الجعفرية وشرحها : تجوز تحلية المرآة وتزئينها بالفضة ، لأن الكاظم عليه‌السلام كانت له مرآة كذلك. ومثله ما في الذكرى.

ولم أجد له مأخذا ، بل ظاهر صحيحة ابن بزيع ينافره ، فتأمل ، فإذا صدق اسم الاناء على المرآة ، حيث جعلها مادة النقض لكراهة استعمال آنية الذهب والفضة وهذا انما يصح إذا صدق عليها الاناء حقيقة ، والا فلا يتحقق النقض.

ويؤكده تقرير الامام عليه‌السلام له عليه ، حيث سلم كونها من الاواني ، ومادة النقض على تقدير كونها ملبسة فضة ، لكنه نفى ذلك عنها وأكده بالقسم ، وهذا يدل على غاية جده في نفيه عن والده الماجد عليه‌السلام ولعله كان لشدة قباحته وحرمته فصدقه على ما ذكره أولى.

على أنك قد عرفت أن ما حرم استعماله من ذلك غير مقصور على الاناء فقصر الحكم عليه ، كما يستفاد من قول صاحب المدارك : الاقرب عدم تحريم اتخاذ غير الاواني من الذهب والفضة ، إذا كان فيه غرض صحيح ، كالميل ، والصفائح في قائم السيف ، وربط الاسنان بالذهب واتخاذ الانف (١). محل تأمل.

وأي فرق بين القضيب الملبس من الفضة ، وبين الميل والصفائح المتخذين منها ، حتى يكون في أحدهما غرض صحيح يصح اتخاذه واستعماله دون الاخر فان كلا منهما في ايراث الخيلاء وكسر قلوب الفقراء وتعطيل المال مثل الاخر ، وكما يتصور في أحدهما غرض ما صحيح ، كذلك يتصور مثله في الاخر.

بل نقول : مقتضى الاحتياط عدم جواز اتخاذ الخلال من الذهب والفضة ، وعدم جواز استعماله ، هذا ولعل غرضه عليه‌السلام من التعرض لبيان مقدار الفضة وقلته وبيان قصر القضيب وحقارة مقداره ، حيث قال : من نحو ما يعمل للصبيان. هو الاشارة الى تحريم اتخاذ مثل ذلك واستعماله ، وان كانت الفضة المعمولة فيه

__________________

(١) المدارك ٢ / ٣٨١.


قليلة ، فانه تعطيل للمال وصرف له في غير مصرفه ، فما ظنك بما إذا كانت كثيرة كما في زخرفة السقوف والبيوت والعمارات.

وبالجملة المستفاد من صحيحة ابن بزيع تحريم استعمال ما ذكر سابقا وآنفا وتحريم اتخاذه ، اذ المراد بالكراهة المذكورة في الحديث هو التحريم ، كما صرح به أصحابنا ، منهم الفاضل الأردبيلي رحمه‌الله ، وقد سبق.

وقال العلامة في المختلف بعد نقل قول الشيخ في الخلاف « يكره استعمال أواني الذهب والفضة » : الظاهر أن مراده بالكراهة التحريم (١) وله نظائر.

وقوله سألته عن آنية الذهب والفضة ، أي : عن اتخاذها أو استعمالها على حذف المضاف ، اذ لا معنى لتحريم الاعيان والنهي عنها ، فلا بد من صرفه الى ما هو المطلوب منها ، وهو الاستعمال مطلقا أعم من أن يكون في الاكل والشرب أو غيرهما ، كما يفيد عموم الخبر واجماعهم أيضا.

واعلم أن صحيحة ابن بزيع في الكافي في باب الاكل والشرب في آنية الذهب والفضة هكذا : عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن محمد بن اسماعيل ابن بزيع ، قال : سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن آنية الذهب والفضة ، فكرههما فقلت : قد روى بعض أصحابنا أنه كان لابي الحسن عليه‌السلام مرآة ملبسة فضة ، فقال : لا ، والحمد لله انما كانت له حلقة من فضة وهي عندي ، ثم قال : ان العباسي حين عذر عمل له قضيب الحديث (٢).

وليس فيه كما ترى لفظ القسم المفيد للمبالغة في الانكار ، أعني قوله « لا والله » وانما هو مذكور فيما نقلناه من المدارك. فلعل نظر الشيخ البهائي كان عليه.

حيث قال : ويمكن أن يستنبط من مبالغته عليه‌السلام في الانكار لتلك الرواية كراهة

__________________

(١) المختلف ص ٦٣.

(٢) فروع الكافي ٦ / ٢٦٧ ، ح ٢.


لبس الالات كالمرآة ونحوها بالفضة ، وربما يظهر من ذلك تحريمه ، ولعل وجهه أن ذلك اللباس بمنزلة الظرف والانية لذلك الشي‌ء ، وإذا كان هذا حكم التلبيس بالفضة فبالذهب بطريق أولى (١).

وفيه أن الاولوية ممنوعة اذ التلبيس بالذهب مما لا نص في تحريمه ، كما أشار اليه في ضمن قياسه بطريق أولى ، والأصل الامام والعباس ، وان كان بطريق أولى باطل ، والا لوجب القول بتحريم اتخاذ السرج واللجام المموهين بالذهب لما عرفت من تحريم اتخاذها إذا كانا مموهين بالفضة.

فيقال : إذا كان هذا حكم التمويه بالفضة ، فبالذهب بطريق أولى ، والمشهور خلافه لعدم ورود النهي عنه وأصالة الاباحة ، وقولهم كل شي‌ء مطلق حتى يرد فيه نهى ، ولم يرد هنا كما لم يرد هناك. ولعله قدس‌سره يلزم ذلك هنا كما التزمه هناك ، وفيه ما فيه.

والظاهر أن الغرض من نقل قصة العباس في آخر الحديث هو المبالغة في رد تلك الرواية بأنه عليه‌السلام كيف يتخذ مرآة ملبسة فضة وهو يأمر بكسر قضيب ملبس من فضة عمل لصبي معذور ، فتأمل.

فصل

[ حكم اوانى الذهب والفضة ]

المشهور بين أصحابنا تحريم اتخاذ الانية من الذهب والفضة ، وتحريم استعمالها أكلا وشربا وبخورا واكتحالا وطهارة ، لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي يشرب

__________________

(١) حبل المتين ص ١٢٨.


في آنية الذهب والفضة انما يجرجر في جوفه نار جهنم (١). أي : يحدر أو يردد وهو محمول على أنه سبب لدخول النار ، لامتناع ارادة الحقيقة.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله آنية الذهب والفضة متاع الذين لا يوقنون. ومثله عن الكاظم عليه‌السلام (٢).

وفيه ايماء الى تحريم اتخاذها مطلقا ، ولما فيه من السرف وتعطيل الانفاق ولتزيين المجالس أولى بالتحريم ، لعظم الخيلاء به وكسر قلوب الفقراء. وفي المساجد والمشاهد نظر ، لفحوى النهي وشعار التعظيم ، كذا في الذكرى.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ، ولا تأكلوا في صحافها ، فانها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة. قال في الذكرى : وهو يدل بالايماء على تحريم استعمالها مطلقا ، كالبخور والاكتحال والطهارة ، وذكر الاكل والشرب للاهتمام (٣).

وقول الباقر عليه‌السلام : لا تأكل في آنية ذهب ولا فضة (٤).

وقول الصادق عليه‌السلام في رواية بريد العجلي : أنه كره الشرب في الفضة ، وفي القدح المفضض ، وكره أن يدهن من مدهن مفضض والمشطة كذلك ، فان لم يجد بدا من الشرب في القدح المفضض عدل بفهمه عن موضع الفضة (٥).

وحمل الكراهة على المعنى الاعم منها ومن الحرمة بأن يكون الشرب في الفضة حراما ، وفي البواقي على الكراهة.

__________________

(١) عوالي اللئالي ٢ / ٢١٠ ، ح ١٣٨.

(٢) فروع الكافي ٦ / ٢٦٨ ، ح ٧ ، والفقيه ٣ / ٢٢٢.

(٣) الذكرى ص ١٨.

(٤) من لا يحضره الفقيه ٣ / ٢٢٢.

(٥) من لا يحضره الفقيه ٣ / ٢٢٢.


قالوا : وإذا كان اتخاذها حراما لم يستحق صانعها الاجرة ، لأنه كعامل الصنم ولا يضمن كاسرها الارش ، وليس تحريمها مقصورا على استعمالها ، بل اتخاذها ولو كان لغير الاستعمال بل لمجرد القنية وأن يكون رأس مال له حرام منهي عنه سواء في ذلك الرجل والمرأة والخنثى ، لأن اباحة التحلي لهن للنص لا تستلزم اباحة ذلك ، لأن النهي في الخبر يعم النساء أيضا.

وكما يحرم الاكل والشرب فيها اجماعا ، يحرم استعمالها في الوضوء والغسل والتدهين والتطييب بماء الورد من قارورة الذهب والتجمير بمجمرة الفضة ، للخبرين المذكورين.

ولا يحرم المأكول والمشروب ، وان كان الاستعمال محرما ، لتعلق النهي به لا بالمستعمل فيه. وكذا لو توضأ أو اغتسل منها أو فيها ، فان طهارته صحيحة ، لان أخذ الماء ليس جزءا للطهارة ، والشروع فيها ليس الا بعد انقضاء الاخذ والاستعمال ويكره المفضض ولا يحرم استعماله. وقول الصادق عليه‌السلام : لا بأس بأن يشرب الرجل في القدح المفضض (١).

وقيل : يحرم لورود النهي بذلك في خبر آخر ، وحمل على الكراهة جمعا.

قيل : ويلوح من كلام الأصحاب تحريم المذهب ، ويجب عزل الفم عن موضع الفضة ، فلا يجوز الاكل والشرب من ذلك الموضع ، لقول الصادق عليه‌السلام : فاعزل فمك عن موضع الفضة (٢). وفي الذكرى : لا كراهة في الشرب من كوز فيها خاتم فضة واناء فيه دراهم لعدم الاسم (٣).

ومما لا ينبغي لعاقل أن يشك في تحريم اتخاذه واستعماله وكونه ظرفا

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٩ / ٩١.

(٢) التهذيب ٩ / ٩١.

(٣) الذكرى ص ١٨.


حقيقة ما يقال له في العرف وقت الساعة ، فان ظرفه وعامة آلاته وأدواته مصنوعة في هذه الازمان من الذهب والفضة على هيئة القصعة الصغيرة ، مزينة بأنواع من الزينة.

وقد شاع وذاع اتخاذه واستعماله في الناس عربا وعجما في بلاد الكفر والايمان ، وهو في الأصل من صنائع أهل الشرك والكفر ، كالافرش الارمس وغيرهم ثم سرى منهم الى غيرهم في بلاد الاسلام ، فاتخذوه واستعملوه من غير مبالاة ، وذلك لكونهم عن تحريم اتخاذه واستعماله وكونه ظرفا وإناء من الغافلين. ولذلك اتخذه واستعمله كثير من أهل العلم والدين والصلاح منهم ، وهم يستحلون اتخاذ ظروف الذهب والفضة واستعمالها.

وإذا كان ظروف الغالية وان كان مموها بضبة حراما اتخاذه واستعماله ، كما صرحوا به معللين بأنه يصدق عليه اسم الاناء ، فكون هذا ظرفا وإناء حراما اتخاذه واستعماله أولى.

وقد سبق أن ما كان اتخاذه حرام لم يستحق صانعه عليه الاجرة ، بل هي عليه حرام ، لأنه كعامل الصنم ، ولا يضمن كاسره الارش.

وليس تحريمه مقصورا على استعماله ، بل اتخاذه ولو كان لغير الاستعمال بل لمجرد القنية وأن يكون رأس ماله حرام منهي عنه ، سواء في ذلك الرجل والمرأة والخنثى. وكذا اعطاء الاجرة للصانع ، والامر بصنعتها حرام ، لأنه اعانة على الاثم ، وهي حرام منهي عنها في الكتاب والسنة.

ولو اتخذ انسان ظروفه (١) وآلاته من حديد وغيره ، ثم موهها بالذهب والفضة حرم أيضا استعماله ، فلو كان أصل ذهبه وفضته مغشوشا بغيره بأن لا يكون فتاتا ، فبطريق أولى.

__________________

(١) أى : ظروف وقت الساعة « منه ».


وقد سبق عن الفاضل أنه قال في التذكرة : لو اتخذ إناء من حديد وغيره مموها بالذهب والفضة ، فان كان يحصل منه شي‌ء بالعرض على النار حرم استعماله والا فاشكال.

أزال الله عني وعنك الاشكال ، وأصلح لي ولك البال ، وأحسن الي واليك في الحال والمآل ، بنبيه محمد وآله خير آل ، صلى‌الله‌عليه‌وآله ما بقي الغدو والآصال.

تم استنساخ وتصحيح هذه الرسالة في (١٣) شعبان المكرم سنة (١٤١١) هـ ق في بلدة قم المقدسة على يد العبد الفقير السيد مهدي الرجائي عفي عنه.


سلسلة آثار المحقق الخاجوئى

(٦٢)

الفصول الأربعة

فى من دخل عليه الوقت وهو مسافر

فحضر وبالعكس والوقت باق

للعلّامة المحقّق العارف

محمّد اسماعيل بن الحسين بن محمّد رضا المازندرانى الخاجوئي

المتوفّى سنة ١١٧٣ ه‍ ق

تحقيق

السّيّد مهدى الرّجائي



بسم الله الرّحمن الرّحيم

بعد حمد الله الملهم للصواب ، والصلاة على رسوله وآله الأئمة الأطياب.

أقول : وأنا العبد المفتاق الى رحمة ربه الجليل محمد بن الحسين بن محمد رضا المشتهر باسماعيل ، هذه رسالة محتوية على فصول أربعة سميتها بها.

وكان الباعث على تحريرها أن بعض السادة الأجل ، وفقه الله للعلم والعمل سألني عن هذه المسألة وما فيها من الأقوال ، فلما عددتها عليه التمس مني الإشارة الى ما هو الراجح منها.

هذا مع أن المسألة كانت في نفسها عامة البلوى ، مبسوطة الجدوى ، فصار ذلك سببا موجبا لاسعاف حاجته واجابة مسألته ، ومن الله التوفيق ، وهو نعم المعين ونعم الرفيق.

الفصل الأول

[ الأقوال فى المسألة ]

اختلف أصحابنا في من دخل عليه الوقت وهو مسافر فحضر ، أو حاضر


فسافر والوقت باق ، على أقوال : الأول الإتمام مطلقا. الثاني : التقصير مطلقا.

الثالث : الإتمام في صورة الخروج الى السفر ، والتقصير في صورة الدخول منه ، بناء على اعتبار وقت الوجوب.

الرابع : التقصير في الخروج الى السفر ، والإتمام في صورة الدخول منه اعتبارا بحال الأداء.

الخامس : التخيير بين الإتمام والتقصير.

السادس : التفصيل ، وهو الإتمام مع سعة الوقت دخولا وخروجا ، والتقصير مع ضيقه كذلك.

وثالث الأقوال هو الراجح عندنا ، لصحيحة محمد بن مسلم ، قال : سألت ابا عبد الله عليه‌السلام عن رجل يدخل من سفره وقد دخل وقت الصلاة وهو في الطريق ، فقال : يصلي ركعتين ، وان خرج الى سفر وقد دخل وقت الصلاة فليصل أربعا (١).

وهو مذهب ابن بابويه ، وابن أبي عقيل ، ومختار آية الله العلامة في المختلف (٢) استدل عليه مع ذلك (٣) بوجوه ضعيفة كما قيل (٤) ، ولم يبين وجه ضعفها لننظر فيه ولا حاجة بنا اليها.

يكفينا في اثبات هذا المطلب الصحيحة المتقدمة ، فان حاصلها أنه سأله عن رجل يدخل على أهله من سفره وقد دخل عليه وقت الصلاة ، وهو في طريق سفره ولم يصلها الى أن دخل أهله ، فأجاب عنه بقوله : تصليها ركعتين صلاة المسافر ،

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٣ / ٢٢٢ ، ح ٦٦.

(٢) المختلف ص ١٦٣.

(٣) أي : مع الحديث المذكور « منه ».

(٤) المراد به صاحب المدارك قدس‌سره « منه ».


اذ الوقت دخل وهو مسافر.

ثم قال عليه‌السلام ابتداء منه : وان خرج من أهله الى سفره ودخل عليه وقت الصلاة في حضره ، فليصلها أربعا في سفره ، لان الوقت قد دخل عليه وهو حاضر ، وليس فيها اجمال ولا احتمال ، وانما فيها ايجاز واختصار ، اذ الاكتفاء في المحاورات بالمقام ، ودلالة سوق الكلام غير عزيز.

وقد قيل : وهو مشهور وفي الألسنة والأفواه مذكور ، خير الكلام ما قل ودل.

فمنع صراحتها (١) في أن الأربع تفعل في السفر والركعتين في الحضر ، لاحتمال أن يكون المراد الإتيان بالركعتين في السفر قبل الدخول ، والإتيان بالاربع قبل الخروج ، كما فعله السيد السند في المدارك (٢).

خارج عن طريق الفهم والإنصاف ، وداخل في مسلك اللجاج والاعتساف وكيف يصح عن مثل محمد هذا مثل هذا السؤال. فان من المعلوم لمثله أن المسافر في طريق سفره قبل الدخول كلما دخل عليه وقت الصلاة يصليها ركعتين صلاة المسافر الى حين الدخول ، ثم أي موضع لافادته عليه‌السلام بأن من لم يخرج من أهله الى سفره ، فاذا دخل عليه وقت الصلاة فليصل أربعا.

الفصل الثانى

[ تنقيح أخبار المسألة والمناقشة فيها ]

استدلوا على اثبات القول الرابع بصحيحة اسماعيل بن جابر ، قال : قلت

__________________

(١) فيه اشارة الى الترجيح من حيث المتن ، وأما من حيث السند فهى صحيحة الفضلاء كما سيأتي « منه ».

(٢) المدارك ٤ / ٤٧٨.


لابي عبد الله عليه‌السلام : يدخل علي وقت الصلاة وأنا في السفر ، فلا أصلي حتى أدخل أهلي ، فقال : صل وأتم ، قلت : فيدخل علي وقت الصلاة وأنا في أهلي اريد السفر ، فلا أصلي حتى أخرج ، فقال : صل وقصر ، فان لم تفعل فقد خالفت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

وهذا كما ترى ينفي التخيير بين القصر والإتمام ، لان من خير بينهما لو قصر في الأولى (٢) وأتم في الثانية (٣) ، وهو المراد بقوله « فان لم تفعل » لم يكن مخالفا لرسول الله ، كما لا يخفى.

والرواية صريحة في المخالفة ، فلا يمكن الجمع بينها وبين الرواية الأولى بذلك ، أي : بالتخيير ، كما فعله السيد (٤) السند في المدارك ذاهلا عما ذكرناه.

والشيخ في كتابي الأخبار والصدوق في الفقيه جمعا بينهما بوجوب الإتمام مع السعة والتقصير مع الضيق ، وهو القول بالتفصيل. ويرد عليهما مثل ما ورد على السيد.

وبالجملة رواية ابن جابر لا يمكن التوفيق بينها وبين سائر الأقوال والروايات الدالة على التخيير والتفصيل واعتبار وقت الوجوب ، لان كل ذلك مخالف لما دل عليه من اعتبار وقت الأداء ، والمخالف له مخالف لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما هو صريح الخبر.

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٣ / ٢٢٢ ـ ٢٢٣ ، ح ٦٧.

(٢) أي : في صورة الإتمام « منه ».

(٣) أي : في صورة القصر « منه ».

(٤) لان من كان حاضرا فدخل عليه الوقت ثم سافر والوقت موسع فصلى وأتم فقد خالف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكذلك من كان مسافرا فدخل عليه الوقت فحضر والوقت مضيق فصلى وقصر ، فقد خالف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومنه يعلم أن القول بالإتمام والتقصير المطلقين يخالفه أيضا « منه ».


فمقتضى العمل به اعتبار وقت الأداء لا التخيير والتفصيل ولا الإتمام والتخيير المطلقين.

وقيل (١) : يمكن التوفيق بينهما بأن يراد بـ « يدخل » في حديث محمد مشرف على الدخول ، فيكون الحال أي قوله « وهو في الطريق » معمولا ليدخل ودخل بالتنازع ، وكذا يكون المراد بالخروج الى سفره اشرافه على الخروج.

أقول : هذا مع أنه مجاز من الكلام يقال له المجاز بالمشارفة ، والأصل هو الحقيقة ، يجعل الحديث قليل الفائدة ، اذ حاصله على هذا التوفيق أنه سأله عن رجل قرب أن يدخل من سفره على أهله ، وهو لم يدخل عليهم بعد ، بل هو في الطريق ، وقد دخل عليه وقتئذ وقت الصلاة ، قال : يصلي ركعتين ، أي : في الطريق صلاة مسافر ، لانه مسافر بعد لم يدخل على أهله. ومثله الكلام في الشق الثاني.

بل هو أقل منه فائدة ، اذ حاصله أنه عليه‌السلام قال : من قرب أن يخرج من أهله الى سفره وهو لم يخرج منهم بعد ، بل هو فيهم ودخل عليه وقت الصلاة فليصل أربعا.

وهو كما ترى ليس فيه كثير فائدة ان لم نقل بعدمها ، لان محصله أن المسافر ما دام مسافرا يقصر ، والحاضر ما دام حاضرا يتم.

وبالجملة حاصله ما ذكره صاحب المدارك في تأويل حديث محمد ، وقد سبق الكلام فيه ، بل هو مأخوذ منه وبيان له ، فتأمل ، هذا.

واعلم أن هذه الجملة الحالية ، أي : قوله « وهو في الطريق » غير موجودة في رواية علي بن إبراهيم الاتية ، فان روايته هكذا : عن محمد بن مسلم قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل يدخل مكة من سفر وقد دخل وقت الصلاة ،

__________________

(١) المراد بهذا القائل ملا مراد التفرشى فى حواشيه على الفقيه « منه ».


قال : يصلي ركعتين ، وان خرج الى سفر وقد دخل وقت الصلاة فليصل أربعا (١).

ولا يخفى أن الرواية صريحة في وجوب الإتيان بالركعتين بعد دخول مكة بناء على أن الصلاة تعلقت بذمته وقت الوجوب ، وكذا صريحة في وجوب الإتيان بالاربع بعد الخروج منها ، والمانع منها مكابر مقتضى فهمه.

واستدل عليه أيضا بصحيحة العيص بن القاسم ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يدخل عليه وقت الصلاة في السفر ، ثم يدخل بيته قبل أن يصليها قال : يصليها أربعا (٢).

وهذه الرواية كما ترى انما تدل على القول الرابع في صورة القدوم من السفر في أثناء الوقت لا في صورة الخروج الى السفر.

أقول : ان العمل بصحيحة ابن مسلم في الموضعين ، وهي على المشهور صحيحة الفضلاء ، لان الشيخ رواها عن سعد بن عبد الله ، عن أبي جعفر (٣) ، عن علي ابن الحديد ، والحسين بن سعيد ، عن حماد بن عيسى ، عن حريز بن عبد الله ، عن أبي جعفر ، عن محمد بن مسلم (٤).

أولى من العمل بصحيحة ابن جابر ، لانه أضبط منه وأوثق وأورع وأعلم ، والأعلم أبعد من احتمال الغلط وأنسب بنقل الحديث على وجهه ، فكان أولى.

وقال النجاشي : محمد بن مسلم وجه أصحابنا بالكوفة فقيه ورع ، وكان من أوثق الناس (٥).

__________________

(١) فروع الكافي ٣ / ٤٣٤ ، ح ٤.

(٢) تهذيب الأحكام ٣ / ١٦٢ ، ح ١٣.

(٣) المراد بأبي جعفر أولا أحمد بن محمد بن عيسى القمى ، وثانيا محمد بن علي بن النعمان الأحول مؤمن الطاق ، نعم طريق الصدوق الى ابن مسلم هذا ضعيف « منه ».

(٤) تهذيب الأحكام ٣ / ٢٢٢.

(٥) رجال النجاشى ص ٣٢٣ ـ ٣٢٤.


وقال الكشي : إنه ممن أجمعت العصابة على تصديقهم وانقادوا لهم بالفقه ، وقالوا : انهم أفقه الأولين (١). ولذلك قدم الأصحاب ما رواه ابن مسلم هذا على من ليس له حاله وجلاله.

ومنه يظهر أن قول المحقق في المعتبر بعد نقل رواية ابن جابر. وهذه الرواية أشهر وأظهر في العمل (٢) وكانه لذلك اختار القول بمقتضاها في الشرائع ليس بظاهر ولا معتبر.

بل الأظهر أن العمل برواية ابن مسلم أولى من العمل برواية ابن القاسم أيضا بعين ما ذكرناه وتعدد الطريق لا يعارضه ، اذ الضابط والعالم وان تعدد لا يكون كالاضبط والأعلم ، وعلى تقدير التعارض والتساقط يبقى عليه ما كان فرضه وقت الوجوب من القصر والإتمام.

وبالجملة الجمع بين صحيحتي محمد بن مسلم وابن جابر متعذر ، فلا بد حينئذ في ترجيح العمل باحداهما من مرجح ، وهو معنا كما ذكرناه.

نعم يمكن الجمع بين صحيحتي محمد والعيص بحمل الإتمام في صحيحة العيص على الاستحباب مع التخيير ، كما تدل عليه صحيحة منصور بن حازم وستأتي.

واعلم أن الشيخ روى حديث محمد بن مسلم في التهذيب بسندين : أحدهما ما سبق وهو مذكور في أبواب الزيادات (٣). وفي طريقه كما سبق أبو جعفر أحمد بن محمد بن عيسى ، وهو وان كان على المشهور غير مدافع ، إلا أني في روايته متوقف ، لما قررناه في بعض رسائلنا.

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال ٢ / ٥٠٧.

(٢) المعتبر ٢ / ٤٨٠.

(٣) تهذيب الأحكام ٣ / ٢٢٢ ، ح ٦٦.


وثانيهما ما رواه في باب فرض صلاة السفر عن علي بن ابراهيم ، عن أبيه عن حماد بن عيسى ، عن حريز ، عن محمد بن مسلم قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل يدخل من سفره الحديث (١).

وهذا السند وان كان على المشهور حسنا الا أنه عندنا صحيح ، كما فصلناه في بعض رسائلنا ، وعلى هذا السند اعتمادنا لا على الأول ، وان كان هو أيضا صحيحا على المشهور.

ويؤيدها (٢) موثقة زرارة (٣) بموسى بن بكر ، وقد ذكرنا توثيقه في مقدمة بعض رسائلنا مفصلا عن أبي جعفر عليه‌السلام ، فانها كما ستأتي صريحة باعتبار وقت الوجوب دون اعتبار حال الأداء.

ومثلها حسنة (٤) بشير النبال ، قال : خرجت مع أبي عبد الله عليه‌السلام حتى أتينا الشجرة ، فقال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : يا نبال ، فقلت : لبيك ، قال : انه لم يجب على أحد من أهل هذا العسكر أن يصلي أربعا غيري وغيرك ، وذلك أنه دخل وقت الصلاة قبل أن نخرج (٥).

واعلم أن بشير النبال ممن تحقق كونه من أهل المعرفة ، ولم يقدح فيه أحد وأكثر العلماء الرواية عنه ، فيظن صدقه في الرواية ظنا غالبا ، وأنه لا يكذب على الأئمة عليهم‌السلام. وهذا القدر كاف في وجوب العمل بروايته ، ولا يحتاج الى أن يظن عدالته ، بل يكفي أن لا يظن فسقه.

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٢ / ١٣ ، ح ٢.

(٢) أى : صحيحة ابن مسلم « منه ».

(٣) تهذيب الأحكام ٢ / ١٢ ، ح ٤.

(٤) في التهذيب هكذا : أحمد بن محمد عن ابن فضال عن داود بن فرقد عن بشير النبال ، فالسند بين الحسن والموثق « منه ».

(٥) تهذيب الأحكام ٣ / ٢٢٤ ، ح ٧٢.


فتوقف العلامة في روايته ، حيث قال في الخلاصة : روى الكشي حديثا في طريقه محمد بن سنان ، وصالح بن أبي حماد ، وليس صريحا في تعديله ، فأنا في روايته متوقف (١) في غير موقفه.

ثم لا يذهب عليك أن هذا الخبر الذي نحن فيه ، فيه دلالة على اعتبار الرجل عند الإمام عليه‌السلام ، واختصاصه به ، وأنه كان من ثقاته المعتبرين عنده ، وقد خرج معه وحده وهو في خدمته من المدينة الى مسجد الشجرة ، ثم شرفه بمثل هذا الخطاب ، وعلمه بمثل هذا التعليم ، فلا يبعد أن يعد حديثه لو لم يكن في الطريق قادح من غير جهته من الصحاح.

وقد صرح بحسن سند هو من رجاله الفاضل القهپائي ملا عناية الله رحمه‌الله في مجمع الرجال ، حيث قال في مشيخة الفقيه بعد نقل قوله : وما كان فيه عن بشير النبال ، فقد رويته عن محمد بن علي ماجيلويه رضي‌الله‌عنه ، عن محمد بن يحيى العطار ، عن ابراهيم بن هاشم ، عن محمد بن سنان ، عن بشير النبال انتهى ، السند حسن (٢) الى هنا كلامه رفع مقامه.

فطريق الصدوق اليه (٣) صحيح على ما تقرر عندنا في ابراهيم بن هاشم ومحمد بن سنان ، فان محمدا هذا وان كان ضعيفا على المشهور الا أن الفاضل المذكور في حواشيه على الكتاب المسطور قد بسط الكلام في توثيقه وتعديله بما لا مزيد عليه.

وقال الفاضل المجلسي رحمه‌الله في شرحه على الفقيه : روى الكليني والشيخ في الحسن عن بشير النبال ، ونقل الحديث كما سبق. ثم قال : وظاهره

__________________

(١) رجال العلامة ص ٢٥.

(٢) مجمع الرجال ٧ / ٢٢٩.

(٣) أى : بشير « منه ».


أن الاعتبار بحال الوجوب (١).

وبالجملة لا وجه للتوقف في روايته الا على مذهب من لا يعمل بالحسن ، وان اشتهر واعتضد بغيره كما فيما نحن فيه ، وهو رحمه‌الله منهم ، كما صرح به في كتبه الأصولية ، ويشعر به كلامه المنقول عنه آنفا ، حيث قال : وليس صريحا في تعديله ، فأنا في روايته متوقف ، فتأمل.

ويؤيدها أيضا ما رواه الشيخ في الإستبصار في باب نوافل الصلاة في السفر بالنهار في الموثق ، عن عمار بن موسى ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سئل عن الرجل اذا زالت الشمس وهو في منزله ، ثم يخرج في سفر ، قال : يبدأ بالزوال فيصليها ، ثم يصلي للاولى بتقصير ركعتين ، لانه خرج من منزله قبل أن تحضر الأولى.

وسئل فان خرج بعد ما حضرت الأولى ، فقال : يصلي الأولى أربع ركعات ، ثم يصلي بعد النوافل ثمان ركعات ، لانه خرج من منزله بعد ما حضرت الأولى فاذا حضرت العصر صلى العصر بتقصير وهي ركعتان ، لانه خرج في السفر قبل أن يحضر العصر (٢).

وهذا كما ترى صريح في اعتبار وقت الوجوب.

فان قلت : فما تقول في صحيحة اخرى لابن مسلم رواها الشيخ عن الحسين ابن سعيد ، عن صفوان ، عن العلاء عنه ، قال قلت لابي عبد الله عليه‌السلام الرجل يريد السفر ، فيخرج حتى تزول الشمس ، فقال : اذا خرجت فصل ركعتين (٣) فانها تدل على اعتبار وقت الأداء ، والأولى على اعتبار وقت الوجوب.

__________________

(١) روضة المتقين ٢ / ٦٣٠.

(٢) الإستبصار ١ / ٢٢٢ ، ح ٦.

(٣) تهذيب الأحكام ٣ / ٢٢٤ ـ ٢٢٥.


قلت : ليس الأمر كذلك ، بل كلتاهما تدلان على اعتبار وقت الوجوب ، فان الثانية محمولة على التقصير في العصر ، لما رواه الحسن بن علي الوشاء عن الرضا عليه‌السلام قال : اذا زالت الشمس وأنت في المصر تريد السفر فأتم ، فاذا خرجت بعد الزوال قصر العصر (١).

وانما كان كذلك لان وقت العصر انما يدخل بعد مضي وقت الظهر ، والتقدير أنه خرج بعد الزوال بلا فصل.

وعلى هذا فيجب عليه أن يتم الظهر ويقصر العصر ، لكن يشترط في الأول أن يدرك قبل بلوغه محل الترخص قدر الصلاة تماما على حالته التي كان عليها ذلك الوقت وقدر فعل شرائطها المفقودة عنه.

ومنه يعلم جواب آخر ، وهو أنه عليه‌السلام انما أمره بقصر الظهر والعصر معا بقوله « اذا خرجت » أي حين تزول الشمس فصل ركعتين ، لانه كان يعلم من حاله أنه اذا خرج حين زوال الشمس لا يدرك قبل بلوغه محل الترخص قدر الصلاة تماما وقدر شرائطها المفقودة عنه نظرا الى حاله.

ولذلك غير اسلوب الجواب (٢) عن اسلوب السؤال ، حيث أنه سأله عن حال رجل ما يريد السفر وهو أجابه بحاله بخصوصه ، حيث قال : اذا خرجت فصل ركعتين. ولم يقل اذا خرج فليصل ركعتين ، فتأمل.

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٣ / ٢٢٤ ، ح ٧١.

(٢) لما كان سند الرواية المذكورة ضعيفا ، لان الشيخ رواها عن الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن الحسن بن على الوشاء ، أجابه بجواب آخر « منه ».


الفصل الثالث

[ المناقشة فى مستند قول المشهور ]

وأما ما تمسك به السيد السند صاحب المدارك في المقام الأول من عموم ما دل على وجوب التقصير في السفر ، وفي المقام الثاني من عموم ما دل على وجوب الإتمام في الحضر.

فجوابه أن التقصير في السفر انما يجب اذا وجبت الصلاة وهو في السفر. وأما اذا وجبت وهو في الحضر ، فلا ، بل هو أول المسألة ، بل يلزم منه وجوب التقصير في الفائتة الحضرية اذا قضاها في السفر.

ومنه يعلم الجواب عن الثاني ، فان الإتمام في الحضر انما يجب اذا وجبت وهو في الحضر ، لا اذا وجبت وهو في السفر ، والا لزم منه وجوب الإتمام في الفائتة السفرية اذا قضاها في الحضر.

فاستبان أن القول باعتبار وقت الوجوب أقوى من الأقوال الثلاثة الباقية ، وهي القول باعتبار حال الأداء ، والقول بالتخيير والتفصيل وهو وجوب الإتمام في سعة الوقت والتقصير في ضيقه.

نعم القول بالتخيير كما تدل عليه صحيحة منصور بن حازم ، وان ضعفها من حيث السند السيد السند صاحب المدارك ، ولا وجه له سوى ما سنشير اليه.

فان الشيخ رواها عن محمد بن أحمد بن يحيى ، عن محمد بن عبد الحميد ، عن سيف بن عميرة ، عن منصور بن حازم. وهذا كما ترى سند ليس فيه من يقدح فيه ، وهو صحيح على المشهور.

نعم في شرح الإرشاد للشهيد رحمه‌الله في نكاح الأمة بإذن المولى : وربما


ضعف بعضهم سيفا.

والعجب منه في هذا كثيرا ، فانه ثقة مجمع عليه الشيخان ، أي : الطوسي والنجاشي ، لكن في كتاب الشيخ ابن شهر آشوب أن سيف بن عميرة من أصحاب الكاظم عليه‌السلام واقفي ، وكأن المراد من البعض اياه.

قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : اذا كان في سفر فدخل عليه وقت الصلاة قبل أن يدخل أهله ، فسار حتى يدخل أهله ، فان شاء قصر وان شاء أتم ، والإتمام أحب الي (١).

جامع بين أكثر الأخبار ، فتأمل. ويستفاد من هذه الصحيحة استحباب الإتمام مع التخيير ، وبه يوفق بين الأخبار ، فتدبر.

الفصل الرابع

[ القضاء بحال وجوبها لا فواتها ]

ويتفرع على هذه المسألة مسألة اخرى ، وهي ما أشار اليه صاحب الشرائع فيه بقوله : الاعتبار في القضاء بحال فوات الصلاة لا بحال وجوبها ، فاذا فاتت قصرا قضيت كذلك. وقيل : الاعتبار في القضاء بحال الوجوب. والأول أشبه (٢).

قال صاحب المدارك : المراد أنه اذا اختلف فرض المكلف في أول الوقت وآخره ، بأن كان حاضرا في أول الوقت فسافر ، أو مسافرا فحضر وفاتته الصلاة والحال هذه ، فهل يكون الاعتبار في قضائها بحال الوجوب وهو أول الوقت ، أو بحال الفوات وهو آخره؟

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٣ / ٢٢٣ ـ ٢٢٤.

(٢) شرائع الإسلام ١ / ١٣٦.


الأصح الثاني ، لقوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة : يقضي ما فاته كما فاته (١). ولا يتحقق الفوات الا عند خروج الوقت.

وقال ابن الجنيد والمرتضى : يقضي على حسب حالها عند دخول أول وقتها ، وربما كان مستندهم في ذلك ما رواه الشيخ عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه سئل عن رجل دخل وقت الصلاة وهو في السفر ، فأخر الصلاة حتى قدم وهو يريد أن يصليها اذا قدم الى أهله ، فنسي حين قدم الى أهله أن يصليها حتى ذهب وقتها ، قال : يصليها ركعتين صلاة المسافر ، لان الوقت دخل وهو مسافر ، كان ينبغي أن يصليها عند ذلك (٢). وفي الطريق موسى بن بكر وهو واقفي.

وأجاب عنها في المعتبر باحتمال أن يكون دخل مع ضيق الوقت عن أداء الصلاة أربعا ، فيقضي على وفق امكان الأداء (٣).

أقول : على قول من اعتبر وقت الوجوب دون الأداء لا يختلف فرض المكلف في أول الوقت وآخره ، بل فرضه في الوقتين واحد ، فان كان فرضه في أول الوقت هو الإتمام بأن كان حاضرا ، كان فرضه في آخره كذلك وان صار مسافرا.

وكذا ان كان فرضه في أول الوقت هو التقصير بأن كان مسافرا ، كان فرضه في آخره كذلك وان صار حاضرا ، فهو اذا يقضي ما فاته كما فاته ، ان قصرا فقصرا وان كان تماما فتماما.

فهو لا يختلف عليه الحال في قضائها بعد فواتها ، بل هو تابع في ذلك لاول وقتها وهو وقت الوجوب ، كما أشار اليه ابن الجنيد والمرتضى ، وهو رحمه‌الله لما لم يكن عاملا بأخبار الاحاد ، قائلا بأنها لا توجب علما ولا عملا.

__________________

(١) فروع الكافي ٣ / ٤٣٥ ، ح ٧.

(٢) تهذيب الأحكام ٣ / ١٦٢.

(٣) مدارك الأحكام ٤ / ٤٨٣ ـ ٤٨٥.


فلو كان مستنده في ذلك ما رواه الشيخ فهو يفيد أن مضمونه كان متواترا عنده وهو صريح في اعتبار وقت الوجوب ، كما أشرنا اليه ، فيكون دليلا واضحا على ما اخترناه.

ولا يقدح فيه كون موسى وهو في الطريق واقفي ، لانه ثقة كما أو مأنا اليه ، وعلى تقدير ضعفه فضعفه منجبر بعملهم.

وأما جواب صاحب المعتبر ، فغير معتبر. أما أولا ، فلانه مبني على القول بالتفصيل ، وهو خلاف مذهبه.

وأما ثانيا ، فلانه ينافيه التعليل بقوله « لان الوقت دخل وهو مسافر » لانه صريح في أن الاعتبار في القضاء بحال وجوبها لا بحال فواتها ، فتأويله بحال الفوات بضيق الوقت عن أداء الصلاة أربعا غير مسوغ.

تتمة مهمة

هل يجب على مجتهد اجتهد في هذه المسألة ، ولم يرجح واحدا من المذاهب المذكورة ، لتعارض أدلتها عنده ، وذلك لما قد عرفت أن الأخبار السليمة الأسناد متنافية صريحا (١) على ما بيناه.

ولا يمكن الجمع بينها بالتخيير ، كما ذكرناه سابقا ، لان مستند كل من الأقوال الأربعة رواية صحيحة ، حتى مستند القول بالتفصيل. وله معنيان :

أحدهما : خوف خروج الوقت بالدخول والإتمام ، كما هو الظاهر مما رواه الشيخ في الصحيح عن الحسين بن سعيد ، عن صفوان بن يحيى ، وفضالة بن أيوب ، عن العلاء بن رزين ، عن محمد بن مسلم ، عن أحدهما عليهما‌السلام في الرجل

__________________

(١) فيه رد على صاحب المدارك ومن تبعه « منه ».


يقدم من الغيبة ، فيدخل عليه وقت الصلاة ، فقال : ان كان لا يخاف أن يخرج الوقت فليدخل فليتم ، وان كان يخاف أن يخرج الوقت قبل أن يدخل فليصل وليقصر (١). والعمل بمضمونه لا يخلو من قوة.

وثانيهما : خوف خروج الوقت باتمام الصلاة ، كما ذكره الشيخ والصدوق في التأويل ، وهو الظاهر.

مما رواه الشيخ عن سعد ، عن محمد بن الحسين ، عن جعفر بن بشير ، عن حماد بن عثمان ، عن اسحاق بن عمار ، قال : سمعت أبا الحسن عليه‌السلام يقول في الرجل يقدم من سفره في وقت الصلاة ، فقال : ان كان لا يخاف الفوت فليتم ، وان كان يخاف خروج الوقت فليقصر (٢).

وانما حكمنا بصحته ، والمشهور أنه موثق لوجود اسحاق بن عمار في الطريق حتى أن السيد السند في المدارك قد حكم بضعف سند هذه الرواية في الموضعين لذلك تبعا لاخرين ، زعما منهم أن المراد به اسحاق بن عمار بن موسى الساباطي الفطحي ، لان الأمر ليس كذلك.

بل المراد به اسحاق بن عمار بن حيان الصيرفي الإمامي الثقة ، والدليل عليه أن الساباطي لم يرو عن أحد من الأئمة عليهم‌السلام ، فهذا قرينة واضحة على أن المراد به الصيرفي الإمامي الثقة ، وقد فصل الكلام فيهما (٣) الفاضل القهپائي رحمه‌الله في حواشيه على كتابه المسمى بمجمع الرجال بما لا مزيد عليه ، فليرجع اليه.

نعم مستند الصدوق حيث قال في تأويل حديث محمد : يعني به اذا كان لا يخاف فوات خروج الوقت أتم ، وان خاف خروج الوقت قصر ، ثم صدقه

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٣ / ١٦٤ ، ح ١٥.

(٢) تهذيب الأحكام ٣ / ٢٢٣.

(٣) أى : فى اسحاقين « منه ».


بما في كتاب الحكم بن مسكين ، قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام في الرجل يقدم من سفر في وقت صلاة فقال : ان كان لا يخاف خروج الوقت فليتم ، وان كان يخاف خروج الوقت فليقصر (١).

ليس بمصرح بتوثيقه ، اذا الحكم هذا لا قدح فيه ولا مدح ، غير أنه روى عن أبي عبد الله عليه‌السلام وله أصل وكتاب ، وهذا القدر لا يفيد توثيقه ، وان أفاد اعتباره ، وخصوصا اذا انضم اليه ما ذكره الصدوق في صدر الكتاب من أنه لا يذكر فيه الا ما اعتقده أنه حجة فيما بينه وبين الله.

أن يصلي (٢) في الصورتين (٣) صلانين : صلاة مسافر ، وصلاة حاضر ركعتين وأربعا معا؟ الظاهر نعم ، لانه تيقن بشغل ذمته بأحد الصلاتين ، ولا يعلم أيهما هي وأمكنه تحصيل العلم ببراءتهما مما هي مشغولة به في الواقع بفعلهما معا ، ولا يمكن ذلك بدونه ، فيجب تحصيلا لذلك.

ولا ريب في وجوب تحصيل العلم ببراءة الذمة من الواجب بعد العلم شغلها به حيث أمكن ، بأن لا يمنع منه مانع عقلا ولا شرعا ، وحينئذ يكون وجوب الزائدة على الواحدة من باب وجوب المقدمة.

وهذا كما اذا فات المكلف واحدة من الخمس ولم يدر أيتها هي ، فانه يجب عليه الخمس ، أو الثلاث ، تحصيلا لبراءة ذمته من الواجب ، الى غير ذلك من النظائر.

وكونها نظيرا لما نحن فيه ظاهر ، اذا الواجب انما هو احدى الصلوات ولا يعلم عينها. وانما وجبت الزائدة من باب وجوب المقدمة.

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ / ٤٤٤.

(٢) فاعل يجب « منه ».

(٣) أى : فى صورتى دخول المنزل من السفر ، والخروج منه اليه « منه ».


هذا ما عندنا في هذه المسألة ، فان وافق المسئول فهو المأمول ، والا فهو باصلاح الفساد أولى وبترويج الكساد أحرى ، فاني كتبته أيام مصيبة ولو كنت أرجوه خلفا فصار بالموت فرطا وسلفا ، والحمد لله على كل حال ، وصلى الله على محمد وآله خير آل.

وكتبه بيمناه الجانية الفانية العبد الجاني الفاني محمد بن الحسين بن محمد رضا بن علاء الدين محمد المشتهر باسماعيل المازندراني.

تم استنساخ وتصحيح هذه الرسالة في (١٤) شعبان المعظم سنة (١٤١١) هـ ق في بلدة قم المقدسة على يد العبد السيد مهدي الرجائي عفي عنه.


سلسلة آثار المحقق الخاجوئى

(٦٣)

رسالة

فى حكم من زنا بامرأة ثم تزوج بابنتها

للعلّامة المحقّق العارف

محمّد اسماعيل بن الحسين بن محمّد رضا المازندرانى الخاجوئي

المتوفّى سنة ١١٧٣ ه‍ ق

تحقيق

السّيّد مهدى الرّجائي



بسم الله الرّحمن الرّحيم

أما بعد الحمد والصلاة ، فان الباعث لنا على تحرير هذه المسألة أن بعض الاذكياء من أصحابي وفقه الله لما يحب ويرضى ذكر أن بعض قضاة زماننا هذا وهو في عدم علمه بما يقضي ويحكم كغيره من قضاة هذا الزمان ثالث ثلاثة ورد فيهم ما ورد ، قد عقد لرجل زنا بامرأة ابنتها.

وقال : ان الفاضل السبزواري قدس‌سره في الكفاية قد بذل جهده في اثبات صحة مثل هذا العقد ، فقال : بأن ابنتها له حلال ، غاية الامر كراهة مثل هذه الزوجة لمثل هذا الزوج.

ثم التمس مني أن أكتب له في هذه المسألة ما هو أرجح عندي وأقوى بحسب الدليل ، وأقرب الى طريق الاحتياط الذي هو من الطرق المنجية يقينا ، وهو طريق الابرار الاخيار الذين يخافون الله.

فأجبت مسألته وأسعفت حاجته ، فان وافق المسئول فهو المأمول ، والا فهو لستر العوراء أولى ، وبسد الخلل أحرى.

فأقول وأنا العبد الضعيف النحيف الفاني الجاني محمد بن الحسين بن محمد رضا المشتهر باسماعيل المازندراني : اختلف أصحابنا بعد اتفاقهم على


أن الزنا اللاحق بالعقد الصحيح لا ينشر حرمة المصاهرة ، في أن الزنا السابق عليه هل ينشر كالعقد الصحيح بمعنى تحريم ما حرم الصحيح من الام والبنت على الاب والابن ونحو ذلك؟

فالاكثرون منهم على التحريم ، ولعله أقوى دليلا وأقرب احتياطا ، ونحن نفصل هذه المسألة في فصلين وخاتمة.

الفصل الاول

فى الاخبار الدالة على التحريم

روى الشيخ في كتابي الاخبار عن محمد بن الحسن الصفار ، عن أحمد بن محمد ، عن أبيه محمد بن عيسى بن عبد الله الاشعري ، عن محمد بن أبي عمير ، عن أبي بصير ، قال : سألته عن الرجل يفجر بالمرأة أتحل لابنه؟ أو يفجر بها الابن أتحل لابيه؟ قال : ان كان الاب أو الابن مسها وأخذ منهما فلا تحل (١).

وهذا حديث صحيح على المشهور ، صريح في أن الزنا السابق على العقد ينشر حرمة المصاهرة كالصحيح ، دال على نفي الحل ، قرينة واضحة على أن المراد بالاخبار الدالة على النهي هو التحريم لا الكراهة.

وحمل نفي الحل عليها ، كما فعله الفاضل السبزواري قدس‌سره في الكفاية بنهج لا يخلو من تكلف بل تعنف ، لا يخفى ، وطريق التوفيق بين الاخبار غير منحصر فيه.

ومثله ما رواه عن موسى بن القاسم عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٧ / ٢٨٢ ، ح ٣٠.


جعفر عليهما‌السلام قال : سألته عن الرجل زنا بامرأة هل تحل لابنه أن يتزوجها؟ قال : لا (١) وما رواه عن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الرجل تكون له الجارية ، فيقع عليها ابن ابنه قبل أن يطأها الجد ، أو الرجل يزني بالمرأة هل تحل لابنه أن يتزوجها؟ قال : لا انما ذلك اذا تزوجها فوطأها ثم زنا بها ابنه لم يضره ، لان الحرام لا يفسد الحلال ، وكذلك الجارية (٢).

وهذه كلها تدل على نفي الحل ، غير قابلة للتأويل.

وقال العلامة في المختلف : والظاهر أن أبا بصير أسند ذلك الى الامام ، لان عدالته تقتضي ذلك ، وقد حسن فيه رواية علي بن جعفر عن أخيه ، ووثق رواية عمار عن الصادق عليه‌السلام (٣).

قال السيد السند الداماد قدس‌سره في رسالته الرضاعية : كلامه في مضمرة أبي بصير الصحيحة على وجهه ، واستحسانه رواية علي بن جعفر أيضا على استقامته ، اذ في طريقها بنان بن محمد ، ولولاه لكان الطريق صحيحا ، وهو أخو أحمد بن محمد بن عيسى ، اسمه عبد الله ولقبه بنان ، وأدنى مرتبته أن يكون ممدوحا. فاما استيثاق خبر عمار وفي الطريق سهل بن زياد ، فمنظور فيه (٤).

هذا ، وروى عن محمد بن يعقوب ، عن أبي علي الاشعري ، عن محمد بن عبد الجبار ومحمد بن اسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، جميعا عن صفوان بن يحيى ، عن عيص بن القاسم ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل باشر امرأة وقبل ، غير أنه لم يفض اليها ، ثم تزوج ابنتها ، فقال : اذا لم يكن أفضى الى الام

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٧ / ٢٨٢ ، ح ٣١.

(٢) تهذيب الاحكام ٧ / ٢٨٢ ـ ٢٨٣ ، ح ٣٢.

(٣) المختلف ص ٧٥ ، كتاب النكاح.

(٤) الرسالة الرضاعية ص ٤١.


فلا بأس ، وان كان أفضى اليها فلا يتزوج ابنتها (١). وهذا سند صحيح ومتن صريح.

ومثله ما رواه عنه ، عن أبي علي الاشعري ، عن محمد بن عبد الجبار ، عن صفوان ، عن منصور بن حازم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل كان بينه وبين امرأة فجور هل يتزوج ابنتها؟ قال : ان كان قبلة أو شبهها فليتزوج ابنتها ، وان كان جماع فلا يتزوج ابنتها وليتزوجها هي (٢).

وهذا أيضا حديث صحيح صريح في النهي عن التزويج بابنتها بعد الجماع بها حراما ، وفي اطلاق الفجور على مثل القبلة واللمسة ونحوهما فليكن في ذكر منك ينفعك في المباحث الاتية إن شاء الله العزيز.

فان أكثر الاخبار التي استدلوا بها على عدم التحريم انما ورد بلفظ الفجور كمجهولة هشام بن المثنى (٣) ، ومضمرة صفوان (٤) ، ومرسلة زرارة (٥) ، وصحيحة سعيد (٦) والباقي من الاخبار المستدل بها عليه بين ضعيف ومجهول ، فليس لهم في الحقيقة خبر صحيح صريح في عدم التحريم. هذا.

وروى عن الحسين بن سعيد ، عن صفوان ، عن العلاء بن رزين ، عن محمد بن مسلم ، فالسند صحيح ، عن أحدهما عليهما‌السلام أنه سئل عن الرجل يفجر بالمرأة أيتزوج ابنتها؟ قال : لا ولكن ان كانت عنده امرأة ثم فجر بأمها أو أختها لم تحرم عليه التي عنده (٧).

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٧ / ٣٣٠ ، ح ١٤.

(٢) تهذيب الاحكام ٧ / ٣٣٠ ، ح ١٥.

(٣) تهذيب الاحكام ٧ / ٣٢٨ ، ح ٨.

(٤) تهذيب الاحكام ٧ / ٤٧١ ، ح ٩٧.

(٥) تهذيب الاحكام ٧ / ٣٢٩ ، ح ١٣.

(٦) تهذيب الاحكام ٧ / ٣٢٩ ، ح ١٢.

(٧) تهذيب الاحكام ٧ / ٣٢٩ ، ح ١٠.


ومثله ما رواه عنه عن محمد بن الفضل ، عن أبي الصباح الكناني ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : اذا فجر الرجل بالمرأة لم تحل له ابنتها أبدا ، وان كان قد تزوج ابنتها قبل ذلك ولم يدخل فقد بطل تزويجه ، وان هو تزوج ابنتها ودخل بها ، ثم فجر بامها بعد ما دخل بابنتها ، فليس يفسد فجوره بأمها نكاح ابنتها اذا هو دخل بها.

وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا يفسد الحرام الحلال اذا كان هكذا (١).

وقد صح سند هذا الحديث السيد السند الداماد قدس‌سره في رسالته الرضاعية ، وقال في الحاشية : قد استفدنا من الصدوق رحمه‌الله في الفقيه أن محمد بن الفضيل الذي هو يروي عن أبي الصباح الكناني انما هو صاحب الرضا عليه‌السلام الخصيص به ، وهو محمد بن القاسم بن الفضيل بن يسار الهندي.

أقول : قال النجاشي : محمد بن القاسم بن الفضيل بن يسار النهدي ثقة هو وأبوه وعمه العلاء وجده الفضيل ، روى عن الرضا عليه‌السلام له كتاب ثم أسنده اليه (٢).

ثم قال : وسيذكر في طريق مشيخة الفقيه اليه.

أقول : وذكر الصدوق رحمه‌الله في هذا الطريق أنه صاحب الرضا عليه‌السلام (٣) تدل على توثيقه ولا يخفى.

في الفهرست أن أبا الصباح الكناني اسمه ابراهيم بن نعيم العبدي له كتاب ثم ذكر سنده اليه ـ الى أن قال : عن محمد بن الفضيل عن أبي الصباح (٤). فانكشف الحال والحمد لله العلي المتعال. هذا.

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٧ / ٣٢٩ ، ح ١١.

(٢) رجال النجاشي ص ٣٦٢.

(٣) من لا يحضره الفقيه ٤ / ٤٩١.

(٤) الفهرست ص ١٨٥.


وأيضا فان أم المزني بها وابنتها من الرضاعة محرمة بذلك ، فمن النسب أولى.

ويدل على الاولى ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن يعقوب ، عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن علي بن الحكم ، عن العلاء بن رزين ، عن محمد بن مسلم ، عن أحدهما عليهما‌السلام ، قال : سألته عن رجل زنا بامرأة أيتزوج بأمها من الرضاعة أو ابنتها؟ قال : لا (١).

وعنه عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن محبوب ، عن العلاء بن رزين ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام في رجل فجر بامرأة أيتزوج أمها من الرضاعة أو ابنتها؟ قال : لا (٢).

وعلى الثانية أن النسب أصل في التحريم بالرضاع ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (٣). وقوله : الرضاع لحمة كلحمة النسب. واذا ثبت الحكم في الفرع ثبت في الاصل بطريق أولى.

وفي الكافي عن ابن محبوب ، عن هشام بن سالم ، عن يزيد الكناسي ، قال ان رجلا من أصحابنا تزوج امرأة ، فقال لي : أحب أن تسأل أبا عبد الله عليه‌السلام وتقول له : ان رجلا من أصحابنا تزوج امرأة قد زعم أنه كان يلاعب أمها ويقبلها من غير أن يكون أفضى اليها.

قال : فسألت أبا عبد الله عليه‌السلام فقال لي : كذب مره فليفارقها ، قال : فرجعت من سفري ، فأخبرت الرجل بما قال أبو عبد الله عليه‌السلام ، فو الله ما دفع ذلك عن نفسه وخلى سبيلها (٤).

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٧ / ٣٣١ ، ح ١٨.

(٢) تهذيب الاحكام ٧ / ٣٣١ ، ح ١٩.

(٣) تهذيب الاحكام ٧ / ٣٢٦ ، ح ٥٠.

(٤) فروع الكافى ٥ / ٤١٦ ـ ٤١٧ ، ح ٩.


أقول : لو كان المراد بالاخبار الدالة على النهي هو الكراهة وكان نفي الحل بمفارقتها بدون الطلاق كما هو ظاهر السياق وخصوص قوله « وخلى سبيلها ».

ولعل غرض هذا الرجل من اخفاء الامر على ما كان عليه في نفس الامر اختباره عليه‌السلام هل هو عالم بما في الصدور ومخفيات الامور ، ولذلك لما أخبر عليه‌السلام بما هو عليه الامر في الواقع لم يستنكف عنه ولم يدفعه عن نفسه وخلى سبيلها ، ولا جل ذلك أيضا أخبر عليه‌السلام بما هو عليه الامر في نفسه.

فلا يرد في مقام القدح في الحديث أن دأبه عليه‌السلام ما كان تكذيب المؤمن وتفصيحه فكيف قال : انه كذب بل فعل ما فعل فمره بمفارقتها. هذا.

وقال السيد السند الداماد قدس الله لطيفه في رسالته الرضاعية : وهذا أيضا طريقه صحيح ، على ما هو المستبين في أمر يزيد الكناسي ، فلا محيص عن المصير الى العمل بما يقتضيه (١).

أقول : يزيد أبو خالد الكناسي من أصحاب الباقر والصادق عليهما‌السلام.

وقال العلامة في الايضاح هكذا : عن محمد بن معد الموسوي عن الدارقطني انه بالباء الموحدة ، وانه شيخ من شيوخ الشيعة ، روى عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام. والشيخ الطوسي ذكره في رجالهما في باب الياء المثناة ، والله أعلم.

هذا ما علمنا من أمر يزيد الكناسي ، والسيد السند قال في الرسالة المذكورة : انه صحيح عند الماهرين ، حسن عند القاصرين ، وهو أعلم بما قال ، والله أعلم بحقيقة الحال.

__________________

(١) الرسالة الرضاعية ص ٣٩.


الفصل الثانى

[ تنقيح الاقوال والاخبار فى المسألة ]

ذهب المفيد والمرتضى وتبعهما ابن ادريس الى عدم التحريم ، واستدل عليه بعموم قوله تعالى « وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ » (١) وهو مخصوص باخبار التحريم.

وقال السيد السند الداماد قدس‌سره في رسالته الرضاعية : وأجيب بأن ما نحن في منعه داخل في المنصوص على تحريمه من قبل (٢). ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد سئل عن الرجل يزني بالمرأة ثم يريد أن يتزوج بابنتها : لا يحرم الحرام الحلال وانما يحرم ما كان بنكاح (٣).

وهذه الرواية مع كونها عامية يمكن حملها على زنا لا يبلغ حد الوطي ، كالقبلة واللمسة والتفخيذ وما شاكلها ، على ما سيأتي الاشارة الى أمثالها.

وبما رواه الشيخ في الاستبصار عن الحسين بن سعيد عن القاسم بن محمد ، عن هاشم بن المثنى ، قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام جالسا ، فدخل عليه رجل فسأله عن الرجل يأتي المرأة حراما أيتزوجها؟ قال : نعم وأمها وابنتها (٤).

وهذا الحديث ضعيف بالقاسم بن محمد الجوهري ، مع أن الاتيان أعم من الجماع.

__________________

(١) سورة النساء : ٢٤.

(٢) الرسالة الرضاعية ص ٣٧.

(٣) عوالي اللئالي ٢ / ٢٧٢ و ٣ / ٣٣٠ و ٤٦٥.

(٤) الاستبصار ٣ / ١٦٥ ، ح ١.


وفيه عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن أبي عمير ، عن هشام بن المثنى ، قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام فقال له : رجل فجر بامرأة أتحل له ابنتها؟ قال : نعم ، ان الحرام لا يفسد الحلال (١).

وقد عرفت في صحيحة منصور أن الفجور أعم من الجماع ، ومع قطع النظر عن ذلك ، فان هشام بن المثنى مشترك بين الكوفي الثقة والرازي المهمل ، وكلاهما من أصحاب سيدنا الصادق عليه‌السلام ، ولا قرينة على التعيين ، فالحديث مجهول.

ولذلك قال الشهيد الثاني رحمه‌الله في شرح الشرائع : وهشام مجهول الحال.

والفاضل السبزواري قدس‌سره في الكفاية لما رجح مذهب التحليل ورام أن يدل عليه ، قال : وفي الصحيح عن ابن أبي عمير عن هشام بن المثنى.

والعجب منه في ذلك كثيرا ، فان شرح الشرائع كان في نظره وقت تحرير هذا الموضع ، وهو قد رأى ما فيه وما في كتب الرجال من الاشتراك والاتحاد في الطبقة والصحابة ، مع انتفاء القرينة المعينة ، ومع ذلك حكم بصحة الخبر ، وهو تابع لا خس الرجلين عند انتفاء القرينة المعينة.

فان قلت : لعل نظره وقتئذ كان على ما في الرسالة الرضاعية للسيد السند الداماد ، حيث قال : ولصحيحة محمد بن أبي عمير عن هاشم بن المثنى.

ثم كتب في الحاشية : كذا في نسخ الاستبصار وفي كثير من نسخ التهذيب وهو الصواب ، فان ابن أبي عمير يروي عن هاشم بن المثنى الحناط الكوفي ، وعلى هذا فالطريق نقي صحيح من غير ارتياب.

وفي بعض نسخ التهذيب هشام بدل هاشم ، وهو هشام بن المثنى الرازي من أصحاب الصادق عليه‌السلام ولم يوثقه أحد من أئمة الرجال ، وكأنه لذلك أمسك العلامة

__________________

(١) الاستبصار ٣ / ١٦٥ ، ح ٢.


في المختلف وشيخنا الشهيد في شرح الارشاد عن استصحاح الرواية.

لكن رواية ابن أبي عمير عنه يجعل الطريق صحيا ، اذ روايته عنه مع عدم غميزة فيه من أحد أصلا ليس بأدون من الارسال الذي معه الطريق صحي ، للاجماع المنقول على تصحيح ما يصح عن ابن ابي عمير وأضرابه (١).

أقول : وفي نسخة من الاستبصار عندي قديمة قد قوبلت مع نسخة كان عليها خط المصنف ، وفي أواخرها خط ابن ادريس في الرواية الاولى هكذا : عن القاسم بن محمد عن هاشم بن المثنى ، وفي الرواية الثانية عن محمد بن ابي عمير عن هشام بن المثنى كما نقلناه آنفا.

وكذلك نقل الفاضل السبزواري قدس‌سره في الكفاية على ما في نسخة عندنا وانما كلامنا معه.

ومما نقلناه ظهر أن كلية ما ادعاه السيد السند بقوله : كذا في نسخ الاستبصار ممنوعة ، ورواية ابن ابي عمير عن هاشم لا يمتنع من روايته عن هشام ذاك ، وهما في طبقة واحدة مع اشتراكهما في صحابة الصادق عليه‌السلام.

واعلم أن الكوفي مذكور في كتب الرجال بثلاثة عنوانات :

أحدها : هاشم بن المثنى كوفي ثقة روى عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، ذكره النجاشي (٢).

وثانيها : هشام الحناط الكوفي ، ذكره الكشي.

وثالثها : هشام بن المثنى الحناط الكوفي ، وذكره بعده بلا فصل « ق » (٣) هشام بن المثنى الرازي ، فظهر اشتراكهما في الطبقة والصحابة من غير مائز بينها في هذا الحديث.

__________________

(١) الرسالة الرضاعية ص ٣٧.

(٢) رجال النجاشي ص ٤٣٥.

(٣) رجال الشيخ الطوسى ص ٣٣١.


وأما ما ادعاه السيد من أن محمد بن ابي عمير ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه ، وهو من جملة أعاظم الاجلاء الذي يعظم شأنه عن أن يروي عن غير الثقة.

ففيه أن العدل كما يروي عن العدل ، كذلك يروي عن غيره ، وهذا أمر غير مخفي على متبع الاخبار العارف بأحوال الرجال ، ومع فرض اقتصاره على الرواية عن العدل ، فهو انما يروي عمن يعتقد عدالته ، وذلك غير كاف لجواز أن يكون له جارح لا يعلمه ، وبدون تعيينه لا يندفع الاحتمال.

وأما قول الشيخ في كتاب العدة : محمد بن ابي عمير وأحمد بن ابي نصر لا يرويان الا عن الثقات ، على ما حكاه عنه بعض المتأخرين.

فغير مسلم ، لتخلفه على ما نراه عيانا في كثير من الروايات المروية عنهما ، ولا يخفى على من له أدنى تتبع.

وكيف يصح القول بأن محمد بن ابي عمير لا يروي الا عن الثقات ، وهو قد روى عن كثير من الضعفاء والمجاهيل ، كدرست بن ابي منصور ، وخلاد السندي ، واسماعيل بن عبد الله الاعمش الكوفي ، وبريه العبادي ، وحمدان بن المهلب القمي ، وحكم بن أيمن الخياط ، وبرد الاسكاف ، ومحمد بن الحداد الكوفي ، وفضيل بن غزوان الضبي أيضا في باب وقت الافطار وغيرهم.

وقد أرسل في كثير من الاخبار ، ورواها منقطعة الاسانيد ، لعدم تذكره من روى عنه.

والقول بأنه وان لم يتذكرهم بأعيانهم وأسمائهم ، الا أنه عرفهم ثقات معتمدين عليهم فروى عنهم ، مجرد دعوى أو حسن ظن به ، كما هو ظاهر صاحب الذخيرة قدس‌سره.

حيث قال فيه في تصحيح مرسلة ابن ابي نصر : وهو من جملة أعاظم الاجلاء


الذي يعظم شأنه عن أن يروي عن غير الثقة.

ومثله ما قال فيه في تصحيح مرسلة ابن ابي عمير : وارسال هذه الرواية غير قادح في صحة التعويل عليها ، بعين التقريب الذي ذكر في رواية ابن ابي نصر.

وظاهر أن مجرد حسن الظن بأنهما لا يرسلان ولا يرويان عن غير الثقة دون تصريحهما بذلك ، وخاصة اذا ظهر خلافه ، غير كاف شرعا في الاعتماد على مراسيلهما ولا على مسانيدهما ، بل مع تصريحهما بذلك أيضا لا يسوغ الاعتماد ، فانه يرجع الى شهادتهما بعدالة الراوي المجهول.

ونحن قد فصلنا الكلام في هذا المقام في رسالة لنا في تحقيق حد يحصل فيه اليأس للمرأة.

نرجع الى ما كنا فيه فنقول : واستدلوا عليه أيضا بصحيحة سعيد بن يسار قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل فجر بامرأة أيتزوج بابنتها؟ قال : نعم يا سعيد ان الحرام لا يفسد الحلال (١).

ولصحيحة صفوان قال : سأله المرزبان عن رجل يفجر بأمرأة وهي جارية قوم آخرين ، ثم اشترى ابنتها أيحل له ذلك؟ قال : لا يحرم الحرام الحلال (٢).

وهذا كما ترى مضمر غير مسند الى المعصوم ويجوز أن يكون غيره ، نعم يمكن توجيهه بمثل ما وجه العلامة مضمرة أبي بصير ، بأن الظاهر أن صفوان أسند ذلك الى الامام عليه‌السلام ، لان عدالته تقتضي ذلك.

أقول : والجواب عنهما قد سبق في صحيحة منصور بن حازم من اطلاق الفجور على مثل القبلة واللمسة وشبههما فتذكر.

فهما وان كانتا صحيحتين سندا لكنهما ضعيفتان دلالة لكون الفجور أعم من

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٧ / ٣٢٩ ، ح ١٢.

(٢) تهذيب الاحكام ٧ / ٤٧١ ، ح ٩٧.


الجماع ، ودلالة العام بما هو عام على الخاص بخصوصه من غير قرينة ضعيفة لو سلم تلك الدلالة ، فتأمل. هذا.

وبما رواه الشيخ عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن حماد بن عثمان عن مرازم ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام وسئل عن امرأة أمرت ابنها أن يقع على جارية لابيه فوقع ، فقال : أثمت وأثم ابنها ، وقد سألني بعض هؤلاء عن هذه المسألة ، فقلت له : أمسكها ، فان الحلال لا يفسد الحرام (١).

أقول : هذا حديث ضعيف ، اذ لا طريق للشيخ في كتابيه التهذيب والإستبصار الى أحمد بن محمد بن أبي نصر ، كما يظهر لمن نظر في مشيخته ، وانما أخذه من الكافي وفيه هكذا : عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن أحمد بن محمد ابن أبي نصر (٢) ، الى آخر ما نقلناه سندا ومتنا.

والفاضل السبزواري في الكفاية لما لم يراجع الى مشيخة الشيخ ، وزعم أن طريقه الى أحمد هذا صحيح ، ولم يلاحظ ما في الكافي ، قال : وصحيحة مرازم.

والعجب منه في ذلك كثيرا ، فانها ضعيفة في غاية الضعف ، لما هو المستبين من أمر ابن زياد.

ومع قطع النظر عن ذلك فهو معارض بما في الكافي عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن علي بن الحكم ، عن عبد الله بن يحيى الكاهلي ، فالسند على المشهور صحيح ، أو حسن كالصحيح على ما هو المستبين من أمر عبد الله هذا.

قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام وأنا عنده عن رجل اشترى جارية ولم يمسها ،

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٧ / ٢٨٣ ، ح ٣٣.

(٢) فروع الكافي ٥ / ٤١٩ ، ح ٨.


فأمرت امرأته ابنه وهو ابن عشر سنين أن يقع عليها فما ترى فيه؟ فقال : أثم الغلام وأثمت أمه ، ولا أرى للاب اذا قربها الابن أن يقع عليها (١).

ومع ذلك كله فهو مطلق يمكن حمله على أن ابنها انما وقع على الجارية بعد أن وطأها أبوه بالملك ، ولذلك لم تحرم عليه ، وبذلك يوفق بينه وبين صحيحة أبي بصير وحسنة علي بن جعفر وضعيفة عمار ونحوها.

وأعلم أن الشيخ الفاضل النجاشي رحمه‌الله قال في كتابه : كان عبد الله بن يحيى الكاهلي وجها عند أبي الحسن عليه‌السلام ، ووصى به علي بن يقطين ، فقال : اضمن لي الكاهلي وعياله أضمن لك الجنة (٢) كذا نقله الكشي بسند نقي (٣).

ومما ذكر في ترجمة علي بن يقطين يظهر اعتباره عند أبي الحسن عليه‌السلام وعند المؤمنين كلهم خصوصا علي بن يقطين.

وقال العلامة في الخلاصة : لم أجد ما ينافي مدحه رحمه‌الله (٤) ، وفي الفهرست (٥) والنجاشي له كتاب يرويه جماعة.

أقول : اذا كان الرجل عارفا اماميا فاضلا ممدوحا معتبرا عند الامام والمؤمنين كلهم ، ولم يقدح فيه أحد من علماء الرجال ، فالظاهر بل الأزيد منه أنه لا يكذب على الامام ولا يضع الحديث عليه ، فان من المعلوم أنه عليه‌السلام لا يوصي باعانة الفاسق ، وخاصة باعانة من يكذب عليه أو على أحد من آبائه عليهم‌السلام.

فبعد امعان النظر يظهر حسن حاله ، وكمال قدره وجلالته ، وهذا القدر

__________________

(١) فروع الكافي ٥ / ٤١٨ ـ ٤١٩ ، ح ٤.

(٢) رجال النجاشى ص ٢٢١ ـ ٢٢٢.

(٣) اختيار معرفة الرجال ٢ / ٧٠٤ برقم ٧٤٩.

(٤) رجال العلامة ص ١٠٩.

(٥) الفهرست ص ١٠٢.


كاف في وجوب العمل بحديثه ، ولا يحتاج الى تصريحهم بتوثيقه.

بل هذا الذي ذكروه فيه يتضمن توثيقه ، فحديثه اذا لم يكن في الطريق مانع من غير جهة بين صحيح وحسن كالصحيح كما ذكرناه.

واذا كان وقوع ابن عشر سنين حراما ناشرا لحرمة المصاهرة ، فبأن يكون وقوع غيره من البالغين ناشرا أولى ، فطريق التوفيق بين ضعيفة مرازم وصحيحة عبد الله ما ذكرناه من أنها مطلقة وهذه مقيدة ، والمقيد حاكم على المطلق. هذا.

واستدلوا عليه أيضا بما رواه أيضا عن أحمد بن محمد ، عن معاوية بن حكيم ، عن علي بن الحسن بن رباط ، عمن رواه ، عن زرارة ، قال قلت لابي جعفر عليه‌السلام : رجل فجر بامرأة هل يجوز له أن يتزوج بابنتها؟ قال : ما حرم حرام حلالا قط (١).

وهذا كما ترى مرسل ، وقد عرفت أن المراسيل مطلقا وان كانت عن ابن أبي عمير لا عبرة بها ، ولا يجوز العمل بمقتضاها.

وبما رواه عن أحمد ، عن الحسين ، عن صفوان ، عن حنان بن سدير ، قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام اذ سأله سعيد عن رجل تزوج امرأة سفاحا هل تحل له ابنتها؟ قال : نعم ، ان الحرام لا يحرم الحلال (٢).

أقول : حنان بن سدير واقفي لم ينص أحد منهم بتوثيقه الا الشيخ في الفهرست (٣) ومع ذلك حل البنت لا ينافي كونها زوجة قبل الفعل ، أي : هو محمول على السفاح اللاحق لا ما يعمه والسابق ، كما قاله الشيخ في كتابي الاخبار.

وبالجملة ليس للقائلين بأن الزنا المتقدم على العقد لا ينشر حرمة المصاهرة

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٧ / ٣٢٩ ، ح ١٣.

(٢) تهذيب الاحكام ٧ / ٣٢٨ ، ح ٩.

(٣) الفهرست ص ٦٤.


خبر صحيح على ما علمناه الا صحيحة سعيد ومضمرة صفوان ، وهما لا تقاوما تلك الاخبار الصحيحة المستفيضة ، بل نقول : لا خبر لهم صحيح صريح.

قال صاحب المفاتيح : الزنا ان كان طاريا لم ينشر الحرمة ، وان كان سابقا نشر ، كالوطي الصحيح عند الاكثر ، للصحاح المستفيضة ، خلافا للمفيد والسيد ولهما أخبار ضعيفة أولها الاصحاب للتوفيق (١).

وظاهره يفيد أن الاخبار الدالة على عدم نشر الحرمة بالزنا السابق على العقد كلها ضعيفة ، على خلاف ما ظنه صاحب الكفاية ، حيث زعم أن جلها بل كلها صحيحة ، والحق أنهما على طرفي افراط وتفريط.

أما الثاني ، فظاهر لما قررناه.

وأما الاول ، فلان رواية سعيد صحيحة ، لان عثمان بن عيسى الواقع في الطريق وان كان واقفيا الا أن علي بن النعمان الواقع في مرتبته امامي ثقة صحيح والسند في الإستبصار هكذا : الحسين بن سعيد ، عن عثمان بن عيسى وعلي بن النعمان ، عن سعيد بن يسار (٢).

وطريق الشيخ الى الحسين هذا صحيح.

نعم الفجور المذكور في روايته أعم من الوطي والجماع ، لشموله القبلة واللمسة ونحوهما ، كما هو صريح صحيح منصور بن حازم.

فلا يصح الاستدلال بها ، لعدم دلالة العام على خصوص الخاص ، والاحتمال كاف في مقام المنع ، وخصوصا ان أراد التوفيق بين الاخبار فانه موجه ، والموجه يكفيه الاحتمال.

ولعل صاحب المفاتيح لمثل هذا لم يعدها ولا مضمرة صفوان من أخبارهما

__________________

(١) مفاتيح الشرائع ص ٢٤١ ـ ٢٤٢.

(٢) الإستبصار ٣ / ١٦٦ ، ح ٦.


وحكم لضعفها كليا ، لان الكلام في أخبار يمكن أن يستدل بها على عدم نشر الحرمة ، وهما ليسا كذلك.

فعند النظر الدقيق كما هو مقتضى التحقيق ، وتنحصر أخبارهما في الضعيفة اما سندا ، واما دلالة ، وان كان في جليل النظر لهما أخبار صحيحة ، كما ظنه صاحب الكفاية ، وقد وضح الصبح الذي العينين.

فان أكثر هذه الاخبار على تقدير صحتها ليس بصريح في عدم نشر الحرمة بالزنا السابق على العقد ، لو روده بلفظ الفجور ، وفي صريح الخبر الصحيح أنه أعم من الجماع ، فكيف يستدل به عليه؟

والباقي من الاخبار على تقدير دلالته عليه بين ضعيف ومرسل ومجهول ، واطباق عامة العلماء على أن الاخبار الضعيفة لا تثبت بها حكم وخاصة مثل هذا الحكم الوارد على خلافه صحاح صراح مستفيضة عمل بمضمونها أكثر العلم.

وانما عمدة دليلهم على ما يظهر من الكفاية ما ورد من أن الحرام لا يحرم الحلال وما في معناه.

وهو بعمومه وان شمل ما هو محل النزاع أيضا الا أنه مخصوص بأخبار التحريم فتحريم ابنتها بعد الافضاء اليها حراما ، وقد كانت قبله حلالا ، وعموم الخبر يقتضي بقائها على ما كانت عليه مما أخرجه الدليل.

قال الفاضل التفرشي قدس‌سره في حواشيه على الفقيه في الحاشية المعلقة على قوله عليه‌السلام « ان الحرام لا يفسد الحلال » : هذه قاعدة شرعية لا يصار الى خلافها الا لامر يمنع المقتضي عن مقتضاه ، كما في سائر القواعد الشرعية ، مثل حرمة الميتة والدم ولحم الخنزير وغير ذلك ، فانها قد تحل عند المخمصة.

فلا يرد عليه ما مر من أن الرجل والمرأة اذا زنا أو زنت بعد العقد قبل الدخول يفرق بينهما ، فحرم بالحرام ما كان مباحا لهما من توابع الزوجية.


أقول : وما نحن بصدده من هذا القبيل ، فان أخبار التحريم قد منعت المقتضي عن مقتضاه ، فحرم بالحرام ما كان مباحا لهما من صحة العقد وما يتفرع عليه من توابع الزوجية ، فهو مما أخرجه الدليل عن هذه القاعدة الشرعية ، ولذا صرنا الى خلافها وقلنا بحرمة ابنتها عليه بعد أن زنا بها وقد كانت مباحة له.

وقد سبق في صحيحة أبي الصباح الكناني أن قوله « لا يفسد الحرام الحلال » معناه أن من فجر بامرأة بعد ما دخل بابنتها فليس يفسد فجوره بامها نكاح ابنتها اذا هو دخل بها ، وبذلك وفق الشيخ بين الاخبار كما سبق.

ومما ذكرناه يظهر حال ما استدل به الفاضل السبزواري في الكفاية من عموم قول الصادق عليه‌السلام في حسنة الحلبي أنه لا يحرم الحرام الحلال.

وفي رواية زرارة أن الحرام لا يفسد الحلال ولا يحرم.

وفي صحيحة عبد الله بن سنان : الحرام لا يفسد الحلال.

وقول أبي جعفر عليه‌السلام في صحيحة زرارة : ما حرم حرام حلالا قط. ولفظة الصحيحة لعلها من طغيان القلم ، فانها مرسلة.

وروى حنان بن سدير : الحرام لا يفسد الحلال.

وروى هشام بن المثنى نحوه (١) ، الى غير ذلك مما ذكره في الكتاب المستطاب ، مع أن جلها بين ضعيف ومرسل ، فلا يزيد ذكرها الا تكثير السواد كما لا يخفى على من أمعن النظر وأجاد ، والله الموفق والمعين ومنه السداد والرشاد.

__________________

(١) تقدم مصادر جميع هذه الروايات.


الخاتمة

الاخبار الصحاح الصراح في نشر حرمة المصاهرة بالزنا المتقدم على العقد ما ذكرناه تسعة :

الاولى : صحيحة أبي بصير.

الثانية : صحيحة العيص.

الثالثة : صحيحة منصور بن حازم.

الرابعة : صحيحة محمد بن مسلم.

الخامسة : صحيحة أبي الصباح الكناني.

السادسة والسابعة : صحيحتي محمد بن مسلم أيضا.

الثامنة : صحيحة يزيد الكناسي.

التاسعة : صحيحة عبد الله الكاهلي (١).

فاذا انضمت اليها حسنة علي بن جعفر ، وضعيفة عمار الساباطي وغيرها مما ذكرناه في تضاعيف البحث ، وما سنذكره في هذه الخاتمة من الاخبار المؤيدة المرجحة ، مع عمل أكثر الاصحاب بها ، كادت أن تفيد علما أو ظنا متآخما له ، أولا أقل منه بنشر الحرمة.

فالمنكر : اما معاند ، أو غفل ، أو تغافل عما ذكرناه ، والا فمقتضى الانصاف والتجنب عن طريق الاعتساف هو الاقرار بما دلت عليه تلك الاخبار ، لكثرتها وصحتها وصراحتها وترجيحها على تقدير تسليم التعارض بأنها دالة على الحظر وأخبار عدم التحريم دالة على الاباحة.

والاول مقدم على الثاني عند التعارض مطلقا ، لانه دافع للضرر ، وهو أولى

__________________

(١) تقدم جميع هذه الروايات في تضاعيف الرسالة سندا ومتنا فراجع.


من الجالب للنفع ، لان دفع الضرر واجب عقلا ونقلا ، بخلاف جلب النفع.

وأيضا فان ترك المباح لا يعاقب عليه ، وأما فعل الحرام ففيه عقاب.

وبتقرير آخر : احتمال كون تلك الابنة المزني بأمها سابقا على العقد عليها حراما على الزاني ، قائم في هذا الزمان ، فعقده عليها بعد أن زنا بامها مردد بين كونه مباحا ورد به الحديث في الجملة ، وبين كونه حراما وتشريعا وادخالا لما ليس من الدين فيه.

ولا ريب في أن ترك المباح ، وخاصة اذا كان مكروها ، كما اعترف به صاحب الكفاية ، أولى من الوقوع في الحرمة والبدعة ، فان تاركها متيقن للسلامة ، وفاعلها متعرض للندامة.

وأيضا فان القول بالتحريم والعمل بما دل عليه من الاخبار أقرب من النجاة وأبعد من الهلاكة ، قال سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حلال بين ، وحرام بين ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجى من المحرمات ، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم (١).

أقول : من زنا بامرأة ثم عقد على ابنتها ، فلا شبهة في أن هذه الابنة ليست له بحلال بين ، بعد ورود تلك الاخبار وتصريح أولئك الاخبار بتحريمها عليه ، فهي عليه : اما حرام بين ، أو شبهة بين ذلك ، فاذا أخذ بها هلك من حيث لا يعلم.

وأيضا فان العمل بصحيحة محمد بن مسلم ومن شاكله أولى من العمل بصحيحة سعيد ومن شابهه ، فانه أضبط منهم وأوثق وأورع وأعلم ، والاعلم أبعد من احتمال الغلط ، وأنسب من نقل الحديث على وجهه ، فكان أولى ، ولذلك قدم الاصحاب ما رواه محمد هذا على من ليس له حاله وجلاله.

ومن هذا السبب أيضا رجح المحقق في الشرائع القول بالتحريم ، قائلا

__________________

(١) عوالي اللئالي ١ / ٨٩ ، ح ٢٤.


بأن الرواية الدالة عليه أوضح طريقا وأصرح متنا ، ووافقه على ذلك الفاضل الشارح المحقق شيخنا الشهيد الثاني زين الدين طاب ثراه.

واعلم أن القول بأن الزنا السابق على العقد لا ينشر حرمة المصاهرة ، مع ما عرفت من حاله على خلاف الاحتياط المطلوب في أمر الفروج شرعا.

وقد أجمع العلماء بأجمعهم على أنه طريق منج ، ووافق العقل على ذلك ، وقد ورد الامر به عن النبي وأهل بيته عليهم‌السلام ، مثل قولهم : دع ما يريبك الى ما لا يريبك (١).

والعقد المسبوق بالزنا لو سلم لهم أنه ليس باطلا وان المعقودة ليست حراما وجب التفريق بينهما ، فلا أقل من أن يكون محل ريب ، فوجب تركه والاجتناب عنه واختيار ما لا ريب فيه على ما دل عليه هذا الحديث الشريف.

والحاصل أن بعد ورود تلك الاخبار الكثيرة الصحيحة المستفيضة وعمل أكثر الاصحاب بها ، لقولهم بأن الزنا السابق على العقد ينشر حرمة المصاهرة مع ضعف دليل طرف المقابل لو لم يحصل الظن القوي المتآخم للعلم بالحرمة فلا أقل من أن يصير ذلك محل ريبة ، ونحن قد امرنا بترك ما يريب واختيار ما لا يريب ، كما شهد به صريح الخبر.

وهذا على تقدير التنزل والاستظهار ، والا فقد عرفت أن لا دليل لهم في الحقيقة يعتمد عليه ، أو تركن النفس شيئا قليلا اليه ، الا مضمرة صفوان ، وصحيحة سعيد ، وهما مع كونهما أعم من المدعى وقابلتين للتأويل الجامع بينهما وبين تلك الاخبار غير صالحتين للمقاومة.

هذا ومثله قولهم عليهم‌السلام : ليس بناكب على الصراط من سلك طريق الاحتياط والاحتياج اليه في زماننا هذا أكثر ، لفقد المجتهد ظاهرا ، فخذ الحائط لدينك

__________________

(١) عوالي اللئالي ١ / ٣٩٤ و ٣ / ٣٣٠.


لتكون فيه على يقينك.

والله الموفق والمعين ، والحمد لله رب العالمين ، والصلاة على رسوله وآله المعصومين.

وتم استنساخ وتصحيح هذه الرسالة في (١٧) شعبان المعظم سنة (١٤١١) هـ ق في بلدة قم المقدسة على يد العبد السيد مهدي الرجائي عفي عنه.


سلسلة آثار المحقق الخاجوئى

(٦٤)

رسالة

فى شرائط المفتى

للعلّامة المحقّق العارف

محمّد اسماعيل بن الحسين بن محمّد رضا المازندرانى الخاجوئي

المتوفّى سنة ١١٧٣ ه‍ ق

تحقيق

السّيّد مهدى الرّجائي



بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله العلي الاعلى ، الذي خلق فسوى ، والذي أعطى كل شي‌ء خلقه ثم هدى ، والصلاة والسلام على خير خلقه سيدنا محمد المصطفى ، الذي أتانا بالملة الحنيفية السهلة السمحة البيضاء.

وعلى آله وأولاده الذين هم بدور الدجى ، ونجوم أهل الارض والسماوات العلى ، ولا سيما على أمير المؤمنين وسيد الوصيين وخليفته بلا فصل على كافة الخلق أجمعين علي المرتضى.

أما بعد : فلما ناظرتني أيها المولى المؤدب الاديب الاريب اللبيب الحسيب النسيب النجيب الحبيب الطبيب البارع البريع والفارق الفريق وأنت شيخي.

في أن المجتهد ليس له ما يستدل على وجوب اتباعه لظنه ، لا من جهة النقل لعدم ورود ما يدل عليها منها على ما أفدت ، ولا من حيث العقل ، والا يلزمه الدور على ما أوردت.

أقدمني ذلك بعد ما أحجمني على أن أكتب في هذا الباب وغيره مما أفدت أو أوردت في محفل مناظرتك من السنة والكتاب.

مع ما أنا فيه من تفرق البال وتشتت الحال على سبيل الاستعجال ، متوكلا


على كل حال.

ما يوقفك على أن الامر على خلاف ما أفدت ، ويعلمك أن الحال ليست بذلك المنوال والله أعلم.

وان كان هذا على الظاهر موهم ضربا من سوء الادب ونوعا من احتمال النصب الا أنا في ذلك تبعنا قوله تعالى « وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ (١) » فان الحق أحق أن يتبع « أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ » (٢).

على أنه قد صدر منك في ذلك ما قد صدر ، فان خالجتك في ذلك بعد ما بينت من البيان على وجه الاختصار خليجة ما قصورها مصورة حسناء أو شوهاء حتى نتكلم عليها ، وننبئك بسليمتها وصحيحتها من عليلتها وسقيمتها وحسنتها من قبيحتها ولا ينبؤك مثل خبير.

فنقول بعد حمد الله تعالى على النعم والصلاة والسلام على رسوله المكرم المعظم ، وعلى أوصيائه الذين هم خير أوصياء الامم :

المستدل على الاحكام الشرعية الفرعية بالادلة التفصيلية على النهج المقرر من العقلية والنقلية يسمى مجتهدا ، أو باعتبار الاعلام والاخبار للغير يسمى مفتيا ومن حيث الحكم والالزام له يسمى قاضيا. ولا يشترطون العدالة في الاجتهاد بل في الفتوى والقضاء.

ويعتبرون الذكورية والحرية في القاضي دونهما ، كذا قالوا في الفرق بين المجتهد والمفتي والقاضي ، فعليه كل قاض مجتهد ، ولا ينعكس.

اذا انتقش هذا على صحيفة الخاطر فنقول : قال الصادق عليه‌السلام : كل من نظر

__________________

(١) سورة الاحزاب : ٥٣.

(٢) سورة يونس : ٣٥.


الى حلالنا وحرامنا وعرف أحكاما فاتخذوه قاضيا فاني جعلته عليكم قاضيا (١).

وقد سبق الكلام منا في أن كل قاض مجتهد ، فالقاضي عندنا مجتهد.

وصورة القياس هكذا : هذا ناظر في الحلال والحرام الشرعيين ، وكل ناظر كذلك فهو قاض. أما الاولى ، فعلى ما هو المفروض ، وأما الثانية ، فعلى ما نطق به الحديث السابق ذكره.

ولنجعل النتيجة صغرى القياس ، هي ما نحن فيه على هذا النمط هذا قاض ، وكل قاض مجتهد.

أما الاولى ، فعلى قياس أختها السابقة.

وأما الثانية ، فعلى ما سفر بيانها أيضا.

وقد دل الحديث المسفور على وجوب متابعة القاضي في أقواله المأمورة بها فيلزم منه على ما بيناه وشرحناه وجوب متابعة المجتهد في أقواله أيضا كذلك ، اذا كان بصيرا عدلا اماميا.

ولا يجب علينا متابعته في أقواله الا من حيث أنه يجب عليه ما يجب من اتباعه لظنه ، لان المعنى من ظنه ما يفهمه من الكتاب والسنة وغيرهما من الاخبار والآثار والبراءة الاصلية والاستصحاب وغيرها ، ويرجحه على غيره بطريق من طرق الترجيح المذكورة في فن الاصول ، اذا الظن يلزمه الترجيح على ما هو مشهور وفي كتب القوم مسطور.

فهذا الحديث كما ترى بحمد الله جل ذكره وأضرابه وهي لكثيرة ، وسيجي‌ء نبذ منها في هذا الباب ، صريحة الدلالات على أن المجتهد يجب عليه اتباع ظنه ، وهو المطلوب.

وبوجه آخر : النظر عبارة عن ترتيب أمور معلومة المبادي الى أمر مجهول

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٦ / ٣٠٢.


فعليه كل من نظر الى الحلال والحرام الشرعية ، واستنبط منه حكما من أحكامهم عليهم‌السلام ، بعد أن يكون متصفا بشرائطه التي هي مسطورة في مقرها من الاصول وجب عليه وحتم اتباع ما استنبط منه من الحكم.

فهذا الحديث بهذا الوجه أيضا صريح في أن المجتهد حتم عليه اتباع ظنه ، والا فما معنى وجوب متابعة غيره له في حكم من الاحكام وقول من الاقوال على ما سبقت اليه الاشارة الاجمالية.

هذا وأما ما أفدت وأوردت من أن بعض الاحكام مما لا نص فيه ، وان مدارك بعض منها عقلية كالبراءة وغيرها ، وجعلت هذا نقضا على ما نحن فيه.

فخارج عما نحن بصدده ، لان كلامنا الان في أن المجتهد بعد أن حصل له الظن ، سواء كان طريق حصوله من الكتاب أو السنة أو غيرهما.

فبأي طريق يجب عليه اتباع ظنه بالاجتهاد ، فيلزم منه الدور على ما أفدت وأوردت وسيجي‌ء بيانه أم بالنص ، والمفروض أنه منتف هاهنا على ما فوهت ولفظت أيضا ، فهذا الكلام في هذا المقام بحمد الله الملك العلام كما ترى لا ينوط ولا يرتبط بما قلته أصلا لا لفظا ولا معنى.

وأما ما أفدت من أنه اذا توقف ظن وجوب اتباعه لظنه على اجتهاده يلزم منه الدور.

فمدفوع أيضا ، لان حصول مرتبة الاجتهاد وملكة الاستنباط والوصول اليهما في نفس الامر ، لا يتوقف على ظن وجوب اتباعه لظنه فيه حتى يلزم منه ما ذكرت.

لانه يمكن أن يحصل له تلك المرتبة والدرجة في نفس الامر ، ولا يخطر بباله وجوب اتباعه لظنه أصلا بل الامر كذلك ، لانه بعد ما حصلت له درجة الاجتهاد وراجع وجدانه واجتهد فيه يظهر له أنه حرام عليه اتباع ظن غيره وتقليده على ما قالوا في شرائط التقليد.


بل يجب عليه حينئذ اتباع ظنه واعتقاد ما يفهمه من متون الاحاديث وظهورها بل من بطونها وغيرها من الاحكام الشرعية الفرعية المستدل عليها ، بعد أن كان راجحا عنده ، قضاء لحق الظن على ما مرت الاشارة اليه.

أو التوقف على تقدير تساوي الامارات الدالة على المقصود من الطرفين.

أو الرد بعد أن كان مرجوحا في مقابلة الراجح ، الى غير ذلك مما هو مذكور في مقره من الاصول والزبر الاستدلالية والصحف الاحتجاجية.

فمن أين يجي‌ء الدور وأنى لك أن تتصور هاهنا توقف كل من الطرفين على الاخر من جهة واحدة؟ حتى يسرك توهم الدور ، فنعوذ بالله ونأمرك أيضا بالاستعاذة من سوء الفهم وقلة التدبر.

قال بعض المحققين في بعض فوائده بعد ذكر شرائط الافتاء وما يعتبر في المفتي فاذا اجتمعت هذه الاوصاف في شخص وجب عليه في كل مسألة فقهية فرعية يحتاج اليها أو يسأل عنها ، استفراغ الوسع في تحصيل حكمها بالدليل التفصيلي.

ولا يجوز له تقليد غيره في افتاء غيره ، ولا لنفسه مع سعة وقت الفعل التي تدخل فيها المسألة ، بحيث يمكنه فيه استنباطها بحيث لا ينافي الفعل ، ومع ضيقه يجوز تقليد مجتهد حي ، وفي الميت وجهان ، ومنهم من منع مطلقا انتهى.

فهذا القول صريح الدلالة على ما قلناه والحمد لله ، فكيف يمكنك انكار ذلك والحال هذه.

مع ما روى زرارة وأبو بصير في الصحيح عن الباقر والصادق عليهما‌السلام أنهما قالا : علينا أن نلقي اليكم الاصول وعليكم أن تفرعوا (١). وهذه ظاهر الدلالة ناصة بالباب.

__________________

(١) بحار الانوار ٢ / ٢٤٥ ، ح ٥٣ و ٥٤ عن مستطرفات السرائر ص ٥٧ ـ ٥٨ ، وعوالي اللئالي ٤ / ٦٣ ـ ٦٤.


أما سمعت الخبر المستفيض الشائع الذائع بين الامة من أن النبي عليه وآله الصلاة والسلام لما بعث معاذا قاضيا الى اليمن قال له بما تحكم؟ قال : بكتاب الله.

ثم قال : فان لم تجد فيه ، قال : فبسنة رسول الله ، قال : فان لم تجد فيها ، قال : باجتهادي. وهذا الخبر كسابقه نص بالباب.

ويدل عليه أيضا ما رواه سالم بن مكرم الجمال ، وهو قول أبي عبد الله عليه‌السلام اياكم أن يحاكم بعضكم بعضا الى أهل الجور ، ولكن انظروا الى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم قاضيا ، فاني جعلته عليكم قاضيا فتحاكموا اليه (١) (٢).

ووجه الاستدلال منه على هذا المطلب على نمط ما سبق منا في الحديث الاول.

وكذلك يدل على ما نحن فيه قوله تعالى « فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ » (٣).

وجه الدلالة أن الناس على ما يقتضيه ظاهر هذه الآية صنفان : عالم وجاهل ، والجاهل كما ترى قد أمر أن يسأل أهل العلم ، فلو لا أنه يجب عليهم أن يجيبوه

__________________

(١) يستفاد من حديث الجمال أحكام خمسة : الاول التجزى في الاجتهاد لمكان قوله عليه‌السلام « شيئا » وهو نكرة. الثاني : اشتراط الذكورية في القاضى للفظه « الرجل » الثالث : كونه اماميا لقوله عليه‌السلام « منكم » الرابع : كونه مجتهدا لقوله عليه‌السلام « يعلم شيئا » اذا المقلد لا يسمى عالما بالاحكام الخامس : كونه نائبا للامام عليه‌السلام لقوله عليه‌السلام « جعلته عليكم قاضيا » « منه ».

(٢) تهذيب الاحكام ٦ / ٣٠٣.

(٣) سورة النحل : ٤٣ ، والانبياء : ٧.


بما يظنون أنه حق لديهم لخرجت هذه الآية.

أقول هذا وأستغفر الله عن أن يكون لها معنى محصلا.

وأيضا يدل على ذلك قوله عزوجل « فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ » (١) الاية.

وجه الدلالة من هذه الآية على قياس سابقتها ظاهر ، اذ المتفقهة اذا وجب عليهم الانذار ، وجب عليهم أن يتبعوا ظنونهم ، لانهم لا ينذرون قومهم الا بما ظنوا أنه حق عندهم ووجب عليهم أن يعلموهم به.

ومما يؤيده ما نحن فيه بل يدل عليه صريحا قوله تعالى « وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا » (٢) فان الذي جاهد في الله تعالى وهو تعالى هداه سبيله يجب عليه متابعتها ، والا فما فائدة المجاهدة وما ثمرة الامتنان.

ولا ريب في أن من تلك السبل سبيل معرفة المسائل الفقهية الدينية ، بل هي أول المبادي للسبل الواصلة الى الله تعالى ، كما لا يخفى. وان كانت الطرق الواصلة الى حضرة الخالق بقدر أنفاس الخلائق.

وهلا نظرت الى أن المجتهد لو لم يجب عليه اتباع ظنه للزم تعطل الاحكام واندراس شريعة سيد الانام عليه وآله الصلاة والسلام ، واللازم باطل بالاتفاق ، فالملزوم مثله.

بيان الملازمة : ان المقلد قصر وعزل عقله عن التصرف في الاحكام الحادثة المتجددة في الايام على ما اتفقت عليه عقول كافة الناس من أولي الاحلام.

فلو لم يجب على المجتهد استنباط الاحكام واتباع ما يستنبطه منها وايصاله الى الانام ، للزم منه ما قلناه من الكلام في ذلك المقام ، وهو ظاهر بشرط الانصاف

__________________

(١) سورة التوبة : ١٢٢.

(٢) سورة العنكبوت : ٦٩.


والتروي والاهتمام.

ولذلك قال بعض المحققين : وجود المفتي من ضروريات الدين وتمام شرائط التكليف ، فلا يجوز خلو الزمان عنه ، ويؤيد ما قاله ما ورد في الخبر من أن الارض لا تخلو من عالم.

هكذا يخطر بالبال والله أعلم بحقيقة الحال.

وأما ما أفدت من أن مقبولة عمر بن حنظلة مختصة بالحكومات والمعاملات ولا تجري في العبادات والعقودات. وقلت الاول من سنخ الانشاء ووظيفة للحاكم والقاضي ، والثاني من مقولة الخبر ووظيفة للمجتهد والمفتي.

فهذا الحديث بهذا الوجه على ما أفدت في مجلس مناظرتك دليل للاخباري وليس بدليل للمجتهد والمفتي ، فليس الامر على ما أفدت ، لان لفظ الحكم المذكور في هذا الحديث ليس بمعنى القضاء والابرام فقط المعتبرين من جانب الحاكم والقاضي ، حتى يلزم منه اختصاصه بالحكومات فحسب.

بل بالمعنى الاعم منهما الشامل لهما وللاعلام والاخبار المأخوذين من طرف المجتهد والمفتي أيضا ، كما يدل عليه قوله عليه‌السلام فيما بعد في هذا الحديث « ينظر فيما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة أخذ به ».

فان ذلك صريح في أن الحكم المذكور في هذا الحديث ليس محمولا على المعنى الذي فهمت وأفدت ، اذ حكم الكتاب والسنة ليس بمنحصر فيه ، كما لا يخفى على من له أدنى فطانة وأخذ فطانته بيده اليمنى.

ويدل على ما قلناه مضافا الى ذلك قوله تعالى « وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ » (١) فان ما أنزل الله ليس منحصرا في الحكم بمعنى القضاء والالزام.

__________________

(١) سورة المائدة : ٤٤.


وقول الصادق عليه‌السلام في الحديث السابق « من نظر الى حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا » الحديث شاهد صدق عليه لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

ويا ليت شعري أي جزء من أجزاء مقبولة عمر بن حنظلة يدل على ما يريد منها الاخباري على ما أفدت وجعلتها دليلا له لا عليه ، أقوله عليه‌السلام « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت الى ما حكم به الاخر ».

أم قوله عليه‌السلام « ينظر الى ما كان روايتهما عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه أصحابك فيؤخذ به ـ الى قوله عليه‌السلام ـ فان المجمع عليه لا ريب فيه ».

ولعلك تقول : قوله عليه‌السلام في آخر الحديث « اذا كان كذلك فارجه حتى تلقى امامك ، فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات » يدل على مراده وليس الامر كذلك.

فان هذا الجزء من هذا الحديث يدل على وجوب التوقف عند تعذر الجمع بين الاحاديث بأحد من الوجوه المذكورة في هذا الحديث الشريف ، وينفي التخيير على ما يزعمه الاخباري.

ومن هنا ترى أن الفقهاء والمحدثين كثيرا ما يتوقفون في كثير من المسائل الفقهية الفرعية ويترددون فيها ، لتعذر الجمع بينها ، لتعادلها وتعارضها ، وعدم امكان اطراحها والقائها رأسا.

فهذا الحديث بحمد الله دليل عليه لا له ، كما أفدت وأصررت عليه ، فاختر لنفسك أيهما شئت بعد أن تكون عازلا لحكم الوهم وجانبا عنه.

وأما ما أفدت في حديث البراءة الاصلية وان مدارك بعض الاحكام عقلية ،


وقلت : ان بعض أحكام المسائل مما لم يرد فيها نص عند الاصحاب ، وهم اذا وجدوا مسائل قد ورد فيها النص يعدوا حكم المسألة المنصوص عليها الى المسألة التي لا نص عليها بطريق الاولوية والمشافهة ، وقلت : هذا قياس وهم لا يقولون به.

وما أقحمت من أنهم يقولون ان الامر بالشي‌ء نهي عن ضده وبالعكس وما أشبه ذلك مما قد ذكرت في مجلس المناظرة.

فجوابه : أنهم يقولون انه قد استفاض عن الائمة عليهم‌السلام وأجمع علماء الاسلام أن الاصل في الاشياء كلها الطهارة حتى يعلم نجاستها.

وقد رووا في ذلك عن علي عليه‌السلام أنه قال : ما أبالي أبول أصابني أم ماء اذا لم أعلم ذلك ، لان البول ماء والاصل فيه الطهارة حتى يعلم أنه شرب وصار بولا ، والاخبار في ذلك كثير (١) وما ذكرناه في هذا المقام لتقرير أصل المرام ففيه كفاية إن شاء الله تعالى.

ثم قالوا : ومما يشبه أصل الطهارة أصل براءة الذمة ، وفرعوا عليه ما لا يتناهي من المسائل ، بل أكثر مدار فروع الفقه عليه.

كما يقولون : الاصل براءة الذمة من وجوب تطهير الشي‌ء ، والاصل براءة الذمة من وجوب اعادة الصلاة ان شك في صحتها ونحو ذلك.

ومما يجري مجرى الاصل عندهم الاستصحاب وحقيقته يرجع الى أن الاصل بقاء الشي‌ء على ما كان عليه ، كما يقولون : ان هذا الشي‌ء كان نجسا ، والاصل

__________________

(١) منه ما رواه محمد بن يعقوب الكلينى رحمة الله عليه باسناده في فروعه فى أول باب طهارة الماء عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : الماء كله طاهر حتى يعلم أنه قذر وقد روى هذا الخبر بعينه عنه عليه‌السلام بسند آخر في ذلك الباب أيضا ، فارجع اليه « منه ».


بقاء نجاسته الى أن يعلم طهره ، فاذا طهرناه فالاصل بقاء الطهارة حتى يعلم عروض النجاسة.

نعم اختلف الاصوليون في أن الاصل في الاشياء الحل أو الحرمة ، وأكثر العلماء على أن الاصل الحل ، والدليل بحمد الله قائم عليه.

وأما أصل الطهارة وبراءة الذمة ، فلم يخالف فيه أحد ، وهذا هو الذي يعبرون عنه بالدليل العقلي (١).

والحاصل أنهم يقولون : اذا حكمنا بنجاسة شي‌ء أو تحريمه من غير دليل شرعي ، وقعنا في الاثم ، والحق معهم لان ذلك بدعة وادخال في الدين ما ليس منه ، وقد نهى الله ورسوله والائمة المعصومون عليهم‌السلام عن ذلك.

وقالوا : اذا تعارض الاصل والظاهر ، قدم الاصل الا في مواضع يسيرة ، لان الاصل دليل عقلي وحجة بالاجماع ، والظاهر كثيرا ما يخرج الامر بخلافه وليس بحجة.

وكذلك قالوا : الاصل في أفعال المسلمين الصحة ، وهذه قاعدة ورد بها النص عن الائمة عليهم‌السلام وأجمع عليها العلماء الاعلام ، وعليها مدار تفاريع الاحكام منها : أنه لو أخبر أحد من المسلمين عن شي‌ء كان نجسا أنه طهره ، قبل قوله لان الاصل في أقواله الصحة ، لان القول فعل لساني ، وقد مر أن الاصل في أفعال المسلمين الصحة.

وهذا الكلام بظاهره على ما قيل يشمل ما اذا كان الشي‌ء ملكا للمخبر ، أو ملكا للمستخبر ، وهو غير بعيد كما ذكرنا وجهه في رسالتنا المسماة بالتعليقات.

__________________

(١) وقد ذكرناه مفصلا في تعليقاتنا وحواشينا على الايات الاحكامية المنسوبة الى الحضرة المولى أحمد الأردبيلي المجاور بالمشهد المقدس الغروى « منه ».


سأل سيدنا مهنا المدني مولانا العلامة الحلي رحمه‌الله عليهما عن مسائل ، منها : ما يقول سيد الامام العلامة في الغسالين الذين يغسلون في الاسواق ثياب الناس وما يعرف قطعا لمن يغسلون ، ولكنهم يغسلون الثياب الطاهرة والنجسة ، ومن جملتها الثياب التي يبعثها الانسان اليهم وهم يغسلون في اجامة واحدة ، ويأتون بالثياب نظيفة مصقولة ، هل يجوز الحكم بطهارة الثياب وجواز الصلاة فيها أم لا يحكم بذلك؟ أفتنا يرحمك الله. وهل يرجع الانسان الى قولهم اذا أخبروا بأنهم طهروا الثياب أم لا؟

قال العلامة في الجواب : يحكم بطهارتها ، لاصالة طهارة المسلم ، وأصالة صحة أخباره بها ، وأصالة طهارة الثوب انتهى (١).

وسأل الشيخ أحمد رحمه‌الله مولانا الشيخ زين الدين نور الله مرقده عن مسائل ، منها مسألة : لو أعطى ثوبه لفاسق ليطهر ، فهل يفتقر الى سؤاله أم لا؟

قال في الجواب : نعم يفتقر الى السؤال ويقبل قوله في تطهيره (٢).

وعلى الاصل الذي ذكرناه سابقا نحكم بطهارة كل ما في أيدي المسلمين وان لم نسألهم ، لان الاصل الطهارة (٣).

فقد روي عن الحسن بن الجهم أنه قال قلت لابي الحسن الرضا عليه‌السلام أعترض السوق فأشتري خفا لا أدري أذكي هو أم لا؟ قال : صل فيه ، قلت : النعل ، قال : مثل ذلك ، قلت : اني أضيق من هذا ، قال : أترغب عنا؟ كان أبو الحسن عليه‌السلام يفعله (٤).

__________________

(١) أجوبة المسائل المهنائية ص ٣٦.

(٢) جواب مسائل الشيخ أحمد العاملى ص ٢٣٣ ، المطبوع بتحقيقنا.

(٣) وقد بسطنا هذه المسألة في رسالتنا الموسومة بالتعليقات ، فان أردت الاطلاع عليها فارجع اليها « منه ».

(٤) تهذيب الاحكام ٢ / ٢٣٤ ، ح ١٢٩.


فقوله عليه‌السلام « أترغب عنا » استفهام انكاري وتوبيخ ، أي : ان كنت لا تقبل قولنا ولا تقتدي بنا ، فقد خرجت عن طريقتنا وملتنا.

وهذا تمام الانكار على الحسن بن الجهم ، وهو من أكابر أصحاب الرضا عليه‌السلام على ما قيل ، فكيف حال الواحد منا اذا لم يؤخذ قولهم بالقبول واختار لنفسه شرعا آخر ، نعوذ بالله من ذلك.

ومما ذكرناه ونقلناه يظهر لك أن ما رويت في مجلس مناظرتك عن شيخك العلامة رحمه‌الله أنه كان يدغدغ في ذلك مما لا أصل له أصلا ، بل هو مخالف للنص والاجماع كما قد عرفت آنفا.

فان كنتم في ذلك مقلدين لشيخكم العلامة ، فلا تقليد بقول الميت ، على ما هو الحق من مذهب أصحابنا الامامية رضوان الله عليهم ، وقد بين ذلك في موضعه وذكرنا نبذا من أدلته في رسالتنا المسماة بالتعليقات.

وان كنتم مجتهدين فيه ، نطالبكم البينة ونقول : هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين ، ولا ريب في أنه ليس لكم في ذلك جواب ، الا أن تقولوا انا وجدنا آباءنا على أمة وانا على آثارهم مقتدون ، ولعلكم تقولون في ذلك مقالة الاخباريين.

فالامر على ذلك عليكم أشكل ، لان تلك المسألة التي رويتموها ونقلتموها عن شيخكم المرحوم ليس منها بخصوصها بل بعمومها في الاخبار عين ولا أثر.

وان كنتم أنتم أنفسكم تدعون أن لها مأخذا ، فأتوا به ان كنتم تعلمون.

وبالجملة أدلة الاحكام عند الاصحاب منحصرة في كتاب الله العليم ، وسنة رسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله المتواترة المنقولة عنه ، أو عن أحد من الائمة المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وبالاحاد مع سلامة السند ، والاجماع على تقدير ثبوته ، ودليل العقل كالبراءة الاصلية والاستصحاب والاحتياط.

ولما اشترك الكتاب والسنة والخبر في كونها دالة بمنطوقها تارة وبمفهومها


أخرى ، انقسمت الادلة السمعية الى هذين القسمين.

والمفهوم ضربان : مفهوم موافقة ، ومفهوم مخالفة ، وكانت هذه الادلة كافية في استنباط الاحكام ، ودل العقل والنقل على امتناع العمل بالقياس على ما بين في الاصول ، وقد ذكرنا نبذا من كل منهما في كتابنا المذكور.

ويعنون بالقياس اثبات حكم في صورة لثبوته في صورة أخرى ، ويعتمد على أربعة أركان : الاصل ، والفرع ، والحكم الذي يدعى ثبوته في الفرع لثبوته في الاصل ، والعلة الجامعة بينهما.

ثم قالوا : ان القياس ان كان منصوص العلة وجب العمل به ، ولا يكون ذلك قياسا في الحقيقة ، بل اثبات الحكم في الفرع بالنص.

كما في قوله عليه‌السلام لما سئل عن بيع الرطب بالتمر أنقص اذا جف؟ قالوا : نعم ، قال : فلا آذن (١).

دل على أن المقتضي للمنع هو اليبوسة الموجبة للنص ، فيعم الحكم الرطب باليابس وغير ذلك من النظائر ، وقد بسطنا الكلام فيه في رسالتنا السابقة ذكرها.

فالاحكام التي ليست بمنصوصة عندهم بالخصوصية قد يثبت فيها الحكم : اما بطريق المفهوم الموافقة ، وهو الابلغ في الدلالة ، كما في قوله تعالى « فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ » (٢) فانه يدل على عدم الضرب بطريق أولى.

وقيل : هذا يكون مقطوعا ، وقد ذكرنا وجهه في الكتاب المسفور.

أو بطريق المخالفة كما في قوله عليه‌السلام « في سائمة الغنم الزكاة » (٣) دل بمفهوم

__________________

(١) راجع وسائل الشيعة ١٢ / ٤٤٥.

(٢) سورة الاسراء : ٢٣.

(٣) عوالي اللئالي ١ / ٣٩٩ ، برقم : ٥٠.


الخطاب على انتفاء الزكاة عن المعلوفة ، وفي كونه دليلا خلاف ، وقد ذكرناه في الكتاب.

أو بطريق القياس المنصوص العلة ، كما في مثال الرطب ، وليس شي‌ء من هذه الانواع بقياس ، فلا يتوهم أنهم يعدون الحكم من صورة الى أخرى الا على أحد من هذه الانواع ، فلا ينسب اليهم العمل بالقياس ، لان ذلك بهتان عظيم.

وأما ما أفدت في مجلس مناظرتك تعريضا علي من أني لست بعارف مفهوم الاجتهاد.

فأقول : هو لغة احتمال النصب والمشقة. وفي الشرع يطلق على ملكة وقوة يقتدر بها صاحبها على استنباط الاحكام الشرعية الفرعية من الادلة التفصيلية.

والمراد بالاستنباط هو الاستدلال ، ومرجعه هنا الى أمرين : فهم المدلولات ومعرفة الرواة.

ومناط الاول على شيئين : قوة مدركة وهي فطرية ، والثاني العلم بالعلامة بين الدال والمدلول ، كالوضع في الدلالة النقلية ، وكالرواية في الدلالة العقلية.

فكل مكلف مجتهد بالمعنى الاول ، اذ كلهم ذو بصيرة وصاحب قوة فكرية فكل من نظر الى الايات والاحاديث بقصد الفهم وفهم منها أحكاما شرعية غير منصوصة ولا ضرورية ولا اجماعية فهو مجتهد.

فظهر أن المكلف قسمان : عالم قادر على فهم الاحكام ، وعاجز عنه كالعوام والذين صرفوا أعمارهم في سائر العلوم الدينية الشرعية.

والضابط في القدر المعتبر منها على ما صرح به الاصحاب ما يتمكن به من فهم بعض الاحكام على ما هو الحق من التجزية في الاجتهاد ، وحصول هذه المرتبة بعون الله تعالى في غاية السهولة ، ولذا ترى أن بعض العلماء كالحلبيين حكموا


بوجوب العيني على كافة المكلفين.

وأما العلوم التي ذكروها وعدوها من شرائط الاجتهاد فهي تسعة : الميزان ، والكلام ، وأصول الفقه ، ومتن اللغة ، والصرف ، والنحو ، وعلم الرجال ، والحديث والتفسير. وان كان الافتياق اليها مقولا بالتشكيك.

واني بفضل الله وحسن توفيقه لحصلت من كل منها طرفا صالحا ، وان لم أكن بالغا في كل منها غايته ، على أني ما ادعيت الوصول الى درجة الاجتهاد قط فضلا عن الافتاء ، فاني قد رأيت في بعض الكتب كالاصول وغيرها أن المفضل قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام : أنهاك عن خصلتين فيهما هلاك الرجال : أن تدين الله بالباطل وتفتي الناس بما لا تعلم (١).

وعن عبد الرحمن بن الحجاج قال قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : اياك وخصلتين ففيهما هلك من هلك ، اياك أن تفتي الناس برأيك ، أو تدين بما لا تعلم (٢).

وعن أبي عبيدة الحذاء عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : من أفتى الناس بغير علم ولا هدى ، لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، ولحقه وزر من عمل بفتياه (٣).

وعن أبي جعفر عليه‌السلام قال : ما علمتم فقولوا وما لم تعلموا فقولوا الله أعلم ، ان الرجل لينتزع الآية من القرآن يخر فيها أبعد ما بين السماء والارض (٤).

الى غير ذلك من الاخبار التي ذكرها محمد بن يعقوب في أصوله في باب النهي عن القول بغير علم.

وعن ابن شبرمة الفقيه العامي قال : ما ذكرت حديثا سمعته عن جعفر بن

__________________

(١) اصول الكافى ١ / ٤٢ ، ح ١.

(٢) أصول الكافى ١ / ٤٢ ، ح ٢.

(٣) اصول الكافى ١ / ٤٢ ، ح ٣.

(٤) اصول الكافى ١ / ٤٢ ، ح ٤.


محمد عليهما‌السلام الا كاد أن يتصدع قلبي ، قال : حدثني أبي عن جدي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قال ابن شبرمة : وأقسم بالله ما كذب أبوه على جده ، ولا جده على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من عمل بالمقاييس فقد هلك وأهلك ، ومن أفتى الناس وهو لا يعلم الناسخ من المنسوخ والمحكم من المتشابه فقد هلك وأهلك (١).

وعن بعض التابعين قال : أدركت عشرين ومائة من الانصار من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا الى هذا حتى ترجع الى الاول.

وعنه قال : لقد أدركت في هذا المسجد عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما أحد منهم يتحدث حديثا الا ودان أخاه كفاه الفتيا.

وقال بعض الاكابر لبعض المفتين : أراك تفتي الناس؟ فاذا جاءك الرجل يسألك فلا تكره أن تخرجه مما وقع فيه ، ولتكن همتك أن تتخلص مما يسألك عنه (٢) وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أجرأكم على الفتوى أجرأكم على النار (٣).

وغير ذلك من الاخبار والاثار الواردة في ذلك الباب وهي كثيرة ، وفيما ذكرناه لكفاية إن شاء الله تعالى ، لان في استقصائها تطويل الخطاب وتفصيل الكتاب.

وهو خارج عما نحن فيه وكفى في ذلك قوله عز من قائل « وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ » (٤) الاية.

__________________

(١) بحار الانوار ٢ / ١١٨ ـ ١١٩ عن المجاسن.

(٢) ولا يخفى أن الامر في عصرنا هذا على العكس من ذلك ، فيا نفساه ويا دنياه « منه ».

(٣) بحار الانوار ٢ / ١٢٠ ، ح ٣٤ وص ١٢٣ ، ح ٤٨.

(٤) سورة النحل : ١١٦.


فيا أيها المولى الاعظم والحبر الملي الافخم والنحرير الراشد الرشيد الافضل الاعلم كيف رأيتنا والحال هذه أننتصب أنفسنا للفتيا من غير أن تستجمع لنا شرائطها أم نقول عيادا بالله على الله ورسوله والائمة الهدى صلوات الله وسلامه عليهم ما بقيت الارض والسماء بلا فتور ولا انقضاء قولا بغير الحق بغيا لزخارف الدنيا ازدخر ، أو مريدا وطلبا لثواب العقبى ، أي ذلك يمكنك أن تتصور هاهنا؟

هيهات هيهات ليس الامر على ما يتوهم من ظاهر حالنا ، فان النفس وان كان أمارة بالسوء ، الا أن الرجاء واثق بالله أن يرحمنا.

فنسأل الله الهداية والعصمة والاصابة في القول والعمل ، ونستعيذ به من الخطأ والنسيان والسهو والزلل انه قريب مجيب ، ومن تمسك بحبل توفيقه ولاذ الى كنف حمايته ولجأ الى ظل وقايته ، فهو لما يريد يصيب.

ثم ان المملوك القاصر عن لوازم خدمة المولى العاجز عن أداء حقه الواجب عليه ، كما قال سيدنا المرتضى عليه‌السلام : من علمني حرفا فقد صيرني عبدا (١).

بعد ذلك كله يقبل سدته السنية ، ويستشفى من برة قدمه العلية ، ويقول : والله لقد كتبت هذه الكراسة منذ يوم ناظرتني تلك الحضرة المولوية العالمية العاملية الزاهدية الناسكية ، وكنت مترددا في ارسالها اليها تردد من يقدم رجلا ويؤخر أخرى.

وما يعوقني عن ذلك الا ما قد خلج في قلبي وذكر في طبعي من خشية أن يخطر على خاطر تلك الحضرة العالية خطرة توجب كلالها أو تورث ملالها ، وكان ذلك علي أثقل من الاحد ، كما شاهد عليه الله الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.

وذلك لان منذ يوم أذن الله للملوك بالاسعاد ، وسهل طريقه بالوصول الى

__________________

(١) نحوه عوالي اللئالى ٤ / ٧١.


هذه البلاد وأوصلني بفضله الى خدمة تلك الحضرة الاستاد ، كان جميع هممه منحصرة في معرفة طرق استرضائه ، راجيا من الله أن يوفقه عليها بحسن بلاء على أية حالة كانت في السراء والضراء أو الشدة والرخاء.

وكان الواجب في ذلك أن المملوك مدة من الزمان وبرهة من الاوان كان ملازما لتلك الحضرة السلطان ، ملازمة دائمة مستمرة غير منقطعة.

وكان والله قد يصل الى العبد من افاضاته العالية وافاداته الشافية ما لا يقدر على تحريره القلم ، بل لا يستطيع على تقريره جارحة اللسان.

فكيف يسعه الرقم وقد عاقت عن اتمام وظائف خدمة المولى عوائق الحدثان ومصادمات الدهر الخوان ، اذ كان صادا للمرء عن بلوغ ارادته ، وحائلا بينه وبين طلبته.

ثم لما تأملت في ذلك ، وراجعت فيه وجداني ، وتذكرت سوابق نعمها السابقة علي تذكر جيران بذي سلم ، وجدتها مبراة من كل شين ، ومحلاة بكل زين.

فقلت : سبحان الله ما أسوء ظني بتلك الحضرة العلية ، مع تنزهها عن تلك الخطرات الدنية الردية.

فوجهت الى تلك الحضرة هذه الكراسة من بعد ما نازعت نفسي وألزمتها بما قد سلف وان كانت متشوشة بعد حتى ما يصدر عن ذلك المصدر الصالح الخلف سائلا من صدقات مولانا الدقيق النظر الى ما فيها بعين الدقة والتحقيق من دون المسامحة والاغضاء والتضييق.

طالبا عن لطفه العميم وكرمه الجسيم أن يشرفها بالجواب ، فأفوز أنا بالعلم ومولانا بالثواب ، وليكن ذلك بخط يده العالية وعبارته الشافية ، ليكون ذلك حجة علي أو كالسند ، والله معكم أينما كنتم وهو أينما كنت معي سيهديني واياكم بكرمه الى الصراط المستقيم السوي.


وجاء في آخر الرسالة هكذا : وقد فرغت من هذه الرسالة بيمناه الجاني العبد الذنيب الكئيب الذليل ابن محمد باقر الاصفهاني محمد حسين عفى الله عما سلف من جرائمهم أجمعين بمحمد وآله سادات الانبياء والمرسلين من آدم أبيهم الى أبيهم جدهم خاتم النبيين والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.

وقد وقع الفراغ من تسويدها في أواسط الشهر ذي القعدة الحرام سنة سبعة وأربعين ومائتين فوق الالف من الهجرة النبوية المصطفوية عليه وآله من الصلاة أفضلها ومن التحيات أكملها تمت بعون الله تعالى.

وتم استنساخ وتصحيح هذه الرسالة في (٧) ذي الحجة سنة (١٤١٠) هـ ق في مشهد مولانا الرضا عليه‌السلام على يد العبد السيد مهدي الرجائي عفي عنه.


سلسلة آثار المحقق الخاجوئى

(٦٥)

رسالة

فى منجزات المريض

للعلّامة المحقّق العارف

محمّد اسماعيل بن الحسين بن محمّد رضا المازندرانى الخاجوئي

المتوفّى سنة ١١٧٣ ه‍ ق

تحقيق

السّيّد مهدى الرّجائي



بسم الله الرّحمن الرّحيم

بعد الحمد والصلاة يقول العبد الجاني الفاني محمد بن الحسين المشتهر باسماعيل المازندراني : اختلف أصحابنا في منجزات المريض اذا كانت تبرعا ومات في ذلك المرض.

فقيل : انها كالمؤخرات من الثلث ، فاذن لا فرق بينهما.

وقيل : انها من أصل المال وهو الاقوى.

أما أولا ، فلا صالة بقاء الملك في يد مالكه ، وجواز تصرفه فيه الى أن يمنع منه مانع ، ويقوم عليه دليل من العقل أو النقل.

وأما ثانيا ، فلاستصحاب حال الصحة ، فانه في تلك الحال كان جائز التصرف فيه كيف شاء ، والاصل بقاء ما كان على ما كان.

وأما ثالثا ، فلما رواه الشيخ في التهذيب عن علي بن ابراهيم عن عثمان بن سعيد عن أبي شعيب المحاملي عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

فالسند صحيح لان عثمان بن سعيد وان كان مشتركا بين الاشتر الكوفي المهمل والعمروي الزيات السمان أبي عمرو الثقة ، الا أن المراد به ها هنا هو الثاني.

اذ الاول لم يدركه علي هذا ، لانه كان من أصحاب الصادق عليه‌السلام بخلاف


الثاني ، فانه من أصحاب الهادي والعسكري عليهما‌السلام وكان وكيلا من جهة الصاحب عليه‌السلام ، فرواية علي هذا عنه غير بعيدة ، لانه على ما ذكروه كان أيضا من أصحاب الهادي والعسكري عليهما‌السلام.

وأما أبو شعيب الكناسي الكوفي المحاملي صالح بن خالد الثقة ، فمن أصحاب الكاظم عليه‌السلام على ما ذكروه يظهر من هذا السند أنه أدرك صحبة الصادق عليه‌السلام أيضا.

وروى عنه قال قال : الانسان أحق بماله ما دامت الروح في بدنه (١).

والمال اسم جنس أضيف ، فيفيد العموم ، فهذا الحديث الصحيح الصريح في صحة تصرفات المريض في جميع ماله ما دام حيا ، فله أن يهب ويقف ويعتق ويصنع بماله ما شاء الى أن يأتيه الموت ، فلو لم يكن على هذه المسألة دليل سواه لكفى ، اذ لا معارض فيما علمناه يصح أن يقاومه ، وله مؤيدات كثيرة.

مثل ما في التهذيب أيضا في الموثق عن الحسن بن محمد بن سماعة ، عن ابن أبي عمير ، عن مرازم ، عن عمار الساباطي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : الميت أحق بماله ما دام فيه الروح يبين به ، فان قال بعدي فليس له الا الثلث (٢).

فهذا الحديث الموثق يفرق بين المنجزات والمؤخرات. ويدل على أن جميع تصرفات المريض في ماله ما دام حيا صحيحة وان فوت بها المال على الوارث بغير عوض ، كالمحاباة في المعاوضات والهبة والوقف والعتق ونحوها ، وهو المراد بالمنجزات. وانما يعتبر فيه الثلث اذا كان بطريق الوصية ، بأن يقول : افعلوا بعد موتي كذا وكذا ، وهو المراد بالمؤخرات.

وفي الفقيه عن عبد الله بن جبلة عن سماعة عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٩ / ١٨٧ ، ح ٤.

(٢) تهذيب الاحكام ٩ / ١٨٨ ، ح ٩.


قال قلت له : الرجل يكون له الولد يسعه أن يجعل ماله لقرابته؟ قال : هو ماله يصنع به ما شاء الى أن يأتيه الموت (١).

وطريق الصدوق الى ابن جبلة صحيح ، الا أنه واقف موثق كسماعة ، فالسند بهما موثق.

وفي الفقيه أيضا في باب أن الانسان أحق بماله ما دام فيه شي‌ء من الروح : عن صفوان عن مرازم في الرجل يعطي الشي‌ء من ماله في مرضه ، قال : اذا أبان به فهو جائز ، وان أوصى به فمن الثلث (٢).

وطريق الصدوق الى صفوان بن يحيى حسن أو صحيح ، لكنه ذكر هذا الحديث في هذا الموضع مسندا وفي آخر مرسلا.

وفي التهذيب عن محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن عبد الله بن المبارك ، عن عبد الله بن جبلة ، عن سماعة ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

فالسند بين حسن وموثق ، لان عبد الله بن المبارك لم يقدح فيه أحد ، وهو من أصحاب الرضا والهادي عليهما‌السلام ، وكان اسمه عبد الجبار بن المبارك ، فلما أعتقه الهادي عليه‌السلام غير اسمه وقال : عبد الله بن المبارك ، وله كتاب يرويه عنه البرقي.

وقد صرح بعض الافاضل المتأخرين من أرباب الرجال بأن من المدح أن يكون الرجل الامامي من أصحاب واحد أو اثنين أو أكثر من الائمة عليهم‌السلام ، وأن يكون له كتاب يرويه عنه بعض أصحابنا ، وهما مجتمعان في عبد الله هذا.

فيحصل به الظن بحسن حاله ، فان من الظاهر بل الاظهر منه أن الرجل الامامي الصحابي صاحب كتاب ورواية لا يكذب على الامام عليه‌السلام ولا يضع

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٤ / ٢٠٢ ، ح ٥٤٦٦.

(٢) من لا يحضره الفقيه ٤ / ٢٠٢ ، ح ٥٤٦٧.


عليه حديثا ، فيعتبر حديثه ، وخاصة اذا كان على طبقه حديث صحيح وموثقات متعاضدة.

قال أبو بصير قلت له : الرجل يكون له الولد يسعه أن يجعل ماله لقرابته؟

فقال : هو ماله يصنع به ما شاء الى أن يأتيه الموت ، ان لصاحب المال أن يعمل بماله ما شاء ما دام حيا ، ان شاء وهبه ، وان شاء تصدق به ، وان شاء تركه الى أن يأتيه الموت ، فان أوصى به فليس له الا الثلث ، الا أن الفضل في أن لا يضيع من يعوله ولا يضر بورثته (١).

وعن علي بن الحسن بن فضال ، عن يعقوب بن يزيد ، عن ابن أبي عمير ، عن مرازم ، عن عمار الساباطي ـ كذا والسند موثق ـ عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الرجل يجعل بعض ماله لرجل في مرضه ، فقال : اذا أبانه جاز (٢).

وظاهر أن بعض ماله يعم الثلث والثلثين ، وأقل منهما والاكثر وترك الاستفصال دليل عموم المقال ، فاذا جعل المريض أزيد من ثلث ماله لرجل وأبانه له ، جاز ذلك وصح وفيه المطلوب.

تنبيه

مما نقلناه ظهر أن هنا ، أي : على القول الثاني حديث صحيح وثلاثة موثقات وآخر بين حسن وموثق ، وآخر بين صحيح ومرسل.

فقول شيخنا الشهيد الثاني في شرح الشرائع ، والروايات الدالة على هذا القول كلها مشتركة في ضعف السند ، وليس فيها سوى واحدة من الموثق ، وأراد به موثقة عمار الساباطي التي يرويها الحسن بن محمد بن سماعة ، غريب.

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٩ / ١٨٨ ، ح ٩.

(٢) تهذيب الاحكام ٩ / ١٩٠ ، ح ١٧.


نعم هنا روايات أخر سوى ما نقلناه ضعيفة السند واضحة الدلالات ، يمكن تأييد هذه الاخبار بها.

منها : ما رواه في الفقيه وكذا في التهذيب عن ثعلبة بن ميمون ، عن أبي الحسن الساباطي ، عن عمار بن موسى أنه سمع أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : صاحب المال أحق بماله ما دام فيه شي‌ء من الروح ، يضعه حيث يشاء (١).

وأبو الحسن هذا مجهول لا عين له ولا أثر في كتب الرجال.

فصل

[ مستند القول الاول ]

وأما القول الاول ، فاستدل عليه العلامة في المختلف بعد اختياره له برواية علي بن عقبة عن الصادق عليه‌السلام في رجل حضره الموت ، فاعتق مملوكا ليس له غيره ، فأبى الورثة أن يجيزوا ذلك ، كيف القضاء فيه؟ قال : ما يعتق منه الا ثلثه ، وسائر ذلك الورثة أحق بذلك ولهم ما بقي (٢).

وأورد عليه : أما أولا ، فبأنها واردة في العتق ، فتعدي الحكم منه الى غيره قياس لا نقول به.

وأما ثانيا ، فبأنها محمولة على الوصية ، لان حضور الموت قرينة منعه من مباشرة العتق ، ويجوز نسبة العتق اليه ، لكونه سببه القوي بواسطة الوصية.

ومنه يعلم الجواب عن الاستدلال برواية الحسن بن الجهم ، قال : سمعت أبا الحسن عليه‌السلام يقول في رجل أعتق مملوكا ، وقد حضره الموت وأشهد له بذلك

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٤ / ٢٠١ ، والتهذيب ٩ / ١٨٦ ، ح ١.

(٢) تهذيب الاحكام ٩ / ١٩٤ ، ح ١٣.


وقيمته ستمائة درهم وعليه دين ثلاثمائة درهم ولم يترك شيئا غيره ، قال : يعتق منه سدسه ، لانه انما له منه ثلاثمائة درهم وله السدس من الجميع (١).

ورواية زرارة عن الصادق عليه‌السلام قال : اذا ترك الدين ، ومثله أعتق المملوك واستسعى.

ورواية حفص بن البختري عنه عليه‌السلام اذا ملك المملوك سدسه واستسعى وأجيز.

فانها كلها واردة في العتق ، ومع ذلك يمكن حملها على الوصية ، جمعا بينها وبين ما دل على خلافها ، فانها واضحة الدلالة ناصة بالباب ، والله أعلم بالصواب.

وأما رواية أبي ولاد قال : سألت الصادق عليه‌السلام عن الرجل يكون لامرأته عليه الدين ، فتبرأه منه في مرضها ، قال : بل تهبه له فتجوز هبتها ، ويحتسب ذلك من ثلثها ان كانت تركت شيئا (٢).

فضعيفة السند مقلوبة الحكم ، لان ابراء ما في الذمة صحيح اجماعا دون هبته ، والحكم فيها بالعكس.

وأما رواية علي بن أبي نصر عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ان أعتق رجل عند موته خادما ثم أوصى وصية أخرى ألغيت الوصية واعتقت الجارية من ثلثه ، الا أن يفضل من ثلثه ما يبلغ الوصية (٣).

هكذا في المختلف في نسخة قديمة عليها آثار المقابلة والقراءة والتصحيح ولكن رواه في التهذيب هكذا : محمد بن علي بن محبوب ، عن الحسين بن سعيد

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٩ / ٢١٨ ، ح ٥.

(٢) تهذيب الاحكام ٩ / ١٩٥ ، ح ١٥.

(٣) تهذيب الاحكام ٩ / ١٩٧ ، ح ١٨.


عن القاسم بن محمد ، عن علي ، عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام (١).

ففيها أولا : أن علي بن أبي نصر الكوفي وزير المهدي مهمل ، لا مدح فيه ولا قدح ، فروايته مجهولة.

وأما السند المذكور في التهذيب ، فضعيف بالقاسم بن محمد الجوهري ، وعلي بن أبي حمزة البطائني قائد أبي بصير الذي لعن على لسان سيدنا الرضا عليه‌السلام.

وثانيا : أنها كما تحتمل المنجزة تحتمل الوصية ، لان « عند » من ظروف المكان المقتضية للمصاحبة ، فدلالتها على الوصية أقوى ، بل قوله « وصية اخرى » صريح في ذلك ، لدلالته على أن العتق من الوصية الاولى.

وبهذا التقرير يظهر حال ما استدل به عليه من صحيحة علي بن يقطين ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام ما للرجل من ماله عند موته؟ قال : الثلث والثلث كثير (٢).

وأما استدلاله بصحيحة شعيب بن يعقوب ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يموت ماله من ماله؟ فقال : له ثلث ماله (٣).

فغريب ، لان دلالتها على المؤخرات أولى منها على المنجزات ، لقوله « الرجل يموت ماله من ماله؟ » فكيف يستدل بها على المنجزات.

وأما دليله الاعتباري ، وهو قوله : ولان امضاء الوصية من الثلث مع القول بخروج العطايا المنجزة من الاصل مما لا يجتمعان ، والمقدم حق ، فالتالي باطل أما صدق المقدم ، فبالاجماع والاخبار المتواترة الدالة عليه.

__________________

(١) التهذيب ٩ / ١٩٧.

(٢) تهذيب الاحكام ٩ / ٢٤٣ ، ح ٣٣.

(٣) تهذيب الاحكام ٩ / ١٩١ ، ح ٢.


وأما بيان عدم الاجتماع ، فلان المقتضي لحصر الوصية في الثلث انما هو النظر في حق الورثة وللابقاء عليهم ، وفي الاحاديث دلالة على التنبيه على هذه العلة وهي موجودة في المنجزات ، فيتساويان في الحكم.

ولانه لو لا ذلك لالتجأ كل من يريد الزيادة في الوصية على الثلث الى العطايا المنجزة ، فتختل حكمة حصر الوصية في الثلث ، فيكون وضعه عبثا ، تعالى الشارع عنه.

فمجاب بأن بناء الاحكام على مثله غير جائز ، اذ العلة ضعيفة ، لانها غير منصوصة وان كانت مظنونة من حكمة الحكم المنصوص ، مع أنها منقوضة بالصحيح خصوصا المشارف بأحد الاسباب الموجبة للحظر مع عدم المرض.

ولا بعد في أن يكون الحكمة في ذلك سهولة اخراج المال بعد الموت على النفس حيث يصير للغير ، وهذه الحكمة ليست حاصلة في الحي وان كان مريضا لان البرء ممكن والمال في الجملة حاصل ، فيكون كتصرف الصحيح في ماله لا في مال غيره.

وكون مال المريض في معرض ملك الورثة في الحال بخلاف الصحيح مطلقا ، ممنوع ، فرب مريض عاش أكثر من الصحيح ، وربما كان في حال المرامات التي يغلب معها ظن التلف أبلغ من المريض.

ومن هذا يظهر ضعف الاعتبار الاخر ، فان الخوف من البرء يمنع الزيادة ، بخلاف ما بعد الموت ، بل هذا حاصل بالوجدان ، فلا اختلال.

ترجيح : عموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الناس مسلطون على أموالهم (١). اذ لا اختصاص له بشخص دون شخص ووقت دون وقت ، فيشتمل المريض وقت مرضه أي مرض كان ، فله التسلط على ماله والتصرف فيه كيف شاء.

__________________

(١) عوالي اللئالي ١ / ٢٢٢.


وانما خرج منه ما بعد الموت من التصرف لما مر ، ولانه ليس تصرفا ، ولا تسلطا على ماله ، بل على مال غيره.

وكونه مالكا وأصالة جواز تصرفه في ملكه واستصحاب ما كان حال الصحة مع عدم دليل يعتد به يدل على خلافه ، بل مع دليل يدل على وفاقه من الصحيح والحسن والموثقات ، مع وضوح دلالتها.

وكونها خاصة ، وغيرها عامة ، غير واضحة الدلالة ، مع تقدم الخاص على العام ، دلائل صحة القول الثاني ورجحانه على الاول.

ترجيح من وجه آخر وجيه : وهو أن القول الثاني وما ورد فيه من الاخبار مخالف لما عليه العامة ، والقول الاول وما ورد فيه من الاخبار موافق لهم ، لانهم رووا في صحاحهم أن رجلا من الانصار أعتق ستة أعبد له في مرضه لا مال له غيرهم فاستدعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وجزاهم ثلاثة أجزاء ، قرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة.

فبمقتضى قواعد الاصحاب حيث صرحوا بأن أحد الخبرين اذا كان مخالفا لاهل الخلاف ، والاخر موافقا لهم ، يرجح المخالف ، لاحتمال التقية في الموافق على ما هو المعلوم من أحوال الائمة عليهم‌السلام.

وقد أخذوا ذلك من مقبولة عمر بن حنظلة ، حيث قال : جعلت فداك وجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والاخر مخالفا لها ، فبأى الخبرين يؤخذ؟ قال : بما يخالف العامة فان فيه الرشاد (١).

ورواية علي بن أسباط قال قلت للرضا عليه‌السلام : يحدث أمرا لا أجد بدا من معرفته ، وليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك ، قال فقال : ايت فقيه البلد فاستفته ، فاذا أفتاك بشي‌ء فخذ بخلافه ، فان الحق بخلافه (٢) ، كذا في

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٦ / ٣٠٢.

(٢) عيون أخبار الرضا ١ / ٢٧٥.


عيون الاخبار باسناده اليه.

وجب الاخبار بما يخالفهم ، ومن هنا ترى شيخ الطائفة يقول : اذا تساوت الروايتان في العدالة والعدد عمل بأبعدهما من قول العامة.

ومما قررناه ظهر أن هذه الاخبار على قواعدهم : اما مردودة لوهنها سندا ومتنا ، كما أومأ اليه الشهيد الثاني في شرح الشرائع بقوله :

وأجود ما في هذا الباب متنا وسندا الرواية العامية ، وعليها اقتصر ابن الجنيد في كتابه الاحمدي ، أو محمولة على التقية لموافقتها من خالفهم.

أقول : عمل محمد بن أحمد بن الجنيد أبي على الاسكافي في هذه المسألة بالاخبار العامية ، ليس بأعجب من عمله بالقياس كما صرحوا به.

قال الشيخ في الفهرست : انه كان جيد التصانيف حسنة ، الا أنه كان يرى القول بالقياس ، فترك لذلك كتبه ، ولم يعول عليها (١).

وقال النجاشي : سمعت شيوخنا الثقات يقولون عنه انه كان يقول بالقياس (٢)

فمن كان عاملا بها وقائلا به ، فلا يعبا به ولا بقوله ، بل يعمل بما تقتضيه قواعد الاصحاب ، والله أعلم بالصواب.

تم استنساخ وتصحيح هذه الرسالة في (١٩) شعبان المبارك سنة (١٤١١) هـ ق في بلدة قم المقدسة على يد العبد السيد مهدي الرجائي عفي عنه.

__________________

(١) الفهرست ص ١٣٤.

(٢) رجال النجاشي ص ٣٨٨.


فهرس الکتاب

رسالة في الطلاق................................................................ ٧

تعريف الطلاق وما يتحقق به الطلاق............................................ ٩

حكم الطلاق الرجعي........................................................ ١٣

مسائل في طلاق الرجعة...................................................... ١٥

ما لو ارتدت المرأة بعد الطلاق الرجعي......................................... ١٦

الاخلاص في الفتوى......................................................... ١٨

النفقة في الدين.............................................................. ٢١

رسالة في شرح حديث لسان القاضي بين جمرتين من نار........................... ٢٣

كلام صاحب البحار حول الحديث............................................ ٢٥

الاحتمالات في معنى الحديث.................................................. ٢٧

أسلم الوجوه في معنى الحديث................................................. ٢٨


رسالة في ارث الزوجة......................................................... ٣١

جواز تخصيص العام القطعي المتن.............................................. ٣٣

تخصيص الكتاب بخبر الواحد................................................. ٣٨

تحقيق حول آية الميراث....................................................... ٣٩

ميراث الزوجة مع الولد وبدونه............................................... ٤٤

تنقيح أخبار المسألة.......................................................... ٤٧

مالا ترث المرأة من زوجها.................................................... ٥٣

خاتمة الرسالة............................................................... ٥٤

رسالة في الحبوة............................................................... ٥٧

تعريف الحبوة............................................................... ٥٩

أدلة المسألة................................................................. ٦٠

تحقيق حول محمد بن إسماعيل................................................. ٦١

تنقيح أخبار المسألة.......................................................... ٦٩

جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد............................................ ٧١

مقدار ما يحيى به............................................................. ٧٣

ما يدخل في حقيقة الثوب.................................................... ٧٤

تملك الولد الأكبر الحبوة من دون شرط شيء................................... ٧٦

رسالة في حرمة تزويج المؤمنة بالمخالف.......................................... ٨١

سبب تأليف الرسالة......................................................... ٨٣


تنقيح المسألة................................................................ ٨٤

تحقيق حول خبر الكافي في المسألة.............................................. ٨٨

تحقيق حول النبوية الواردة في المسألة........................................... ٩٠

تحقيق حول أخبار المسألة..................................................... ٩٢

المناقشة في استدلال من اكتفى بالاسلام مطلقا.................................. ٩٥

التجنب عن النصاب والشكاك................................................ ٩٨

تحقيق حول المستضعف في الاخبار........................................... ١٠١

فيما ورد في الآثار من تزويج بنات الأنبياء والأوصياء.......................... ١٠٦

اعتبار الايمان في جانب الزوج............................................... ١٠٩

في ذكر أهل الخلاف....................................................... ١١١

أقسام الشيعة.............................................................. ١١٣

رسالة في استحباب كتابة الشهادتين على الكفن................................ ١١٧

تحقيق حول خبر كشف الغمة في وفاة إسماعيل بن الصادق عليه السلام.......... ١١٩

عدم ثبوت مستند الكتابة على الكفن........................................ ١٢٣

ما ورد من الاخبار في الكتابة على الكفن..................................... ١٢٦

رسالة في حكم التنفل قبل صلاة العيد وبعدها................................. ١٢٧

ما يدل على الكراهة في المسألة.............................................. ١٢٩

التعارض في أخبار المسألة................................................... ١٣٣


رسالة في بيان عدد الأكفان................................................... ١٣٧

كلام صاحب المدارك في عدد الأكفان....................................... ١٣٩

تحقيق لطيف حول النبوي ان الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها................ ١٤٤

رسالة في جواز التداوي بالخمر عند الضرورة.................................. ١٤٩

اختلاف الأقوال في المسألة.................................................. ١٥١

ما يدل على المنع مطلقا..................................................... ١٥٢

ما يدل على جواز التداوي.................................................. ١٥٧

الجواب عن أخبار المنع...................................................... ١٦٤

ما يحصل به الضرورة المبيحة................................................ ١٦٦

حكم من دلس الأمر على المريض............................................ ١٦٨

رسالة في حكم الحدث الأصغر المتخلل في غسل الجنابة......................... ١٦٩

تنقيح المسألة.............................................................. ١٧٢

تحقيق حول القول باتمام الغسل.............................................. ١٧٦

المذهب المختار في المسألة................................................... ١٧٩

مذهب السيد المرتضى في المسألة............................................ ١٨٢

تحقيق حول استدلال العلامة في المسألة....................................... ١٨٤

حاصل الأبحاث السابقة..................................................... ١٨٩

تحقيق حول كلام الشيخ البهائي في المسألة.................................... ١٩٢


ما يقتضيه الاحتياط في المسألة............................................... ١٩٤

رسالة في المسائل الفقهية المتفرقة.............................................. ١٩٩

وجوب قطع يد السارق وفي هذه المسألة منقبة لفاطمة عليها السلام............. ٢٠١

سقوط الزكاة عن الكافر بالاسلام........................................... ٢٠٤

حكم الزكاة في غلات اليتيم................................................ ٢٠٧

أقل ما يجزئ في استنجاء البول.............................................. ٢١٢

ما لو مسح العضو وعليه بلل................................................ ٢١٥

حرمة شرب الفقاع ونجاسته................................................ ٢١٧

عدم وجوب اعلام الفقير بأن المدفوع إليه زكاة............................... ٢٢١

وجوب الاعتكاف بمضي يومين............................................. ٢٢٥

القصد في المشي حال الطواف............................................... ٢٢٧

أفضلية الطواف للمجاور من الصلاة......................................... ٢٣١

حكم التحالف في حال الاحرام.............................................. ٢٣٤

الطواف في ثوب متنجس بالدم.............................................. ٢٣٦

كفارة تقبيل امرأته في الطواف.............................................. ٢٣٨

موضع المقام............................................................... ٢٤٠

حكم حج المخالف لو استبصر.............................................. ٢٤٣

لو أفتى بالإدماء فعلى المفتي شاة.............................................. ٢٤٧

القصر والاتمام............................................................. ٢٤٩

يحول الإمام من صلى على يساره إلى يمينه..................................... ٢٥٢

مساواة موضع الجبهة لموضع القدم............................................ ٢٥٨


وجوب ايصال الماء إلى البشرة في الوضوء والغسل.............................. ٢٦١

اغتسال من وجب عليه القتل................................................ ٢٦٣

أحكام قنوت الجمعة....................................................... ٢٦٧

وجوب الاتمام في سفر المعصية............................................... ٢٦٩

اشتراط كون الكفن مما تجوز الصلاة فيه...................................... ٢٧٣

مسألة في الشر والخير...................................................... ٢٧٦

رسالة في استحباب رفع اليدين حالة الدعاء................................... ٢٨٣

ما يدل على الاستحباب.................................................... ٢٨٨

رسالة في بيان علامة البلوغ................................................... ٢٩٣

علامات البلوغ وما يتحقق به البلوغ......................................... ٢٩٥

تحقيق حول البلوغ بالسن................................................... ٢٩٧

رسالة في من أدرك الإمام في أثناء الصلاة...................................... ٣٠٥

اخبار المسألة وتنقيحها...................................................... ٣٠٧

الرسالة الهلالية.............................................................. ٣١٥

أخبار المسألة.............................................................. ٣١٨

تنقيح أسانيد أخبار المسألة.................................................. ٣٢٢

تحقيق في رواة الأسانيد..................................................... ٣٢٧

اضطراب كلام الأصحاب في المسألة......................................... ٣٣٢

ما يستفاد من خبري ابني عثمان وبكير....................................... ٣٣٥

تحقيق حول كلام الشيخ في المسألة........................................... ٣٤٠

تحقيق حول رواية محمد بن قيس............................................. ٣٤٢


تحقيق حول كلام صاحب الذخيرة........................................... ٣٥٠

الاختلاف في زمان دخول الشهر............................................ ٣٥٤

تحقيق حول كلام الفاضل التنكابني في المسألة.................................. ٣٦٠

الرسالة الذهبية.............................................................. ٣٨٥

تنقيح المسألة.............................................................. ٣٨٨

الاخبار الدالة على الحرمة................................................... ٣٩٧

حكم الصلاة في الذهب.................................................... ٣٩٩

تحقيق حول كلام الأصحاب في المسألة....................................... ٤٠٤

حكم حمل الذهب في الصلاة................................................ ٤٠٨

حكم تحلية الدواب بالذهب والفضة......................................... ٤١٢

حكم تحلية السيوف والمصاحف وغيرهما بالذهب والفضة...................... ٤١٤

حكم أواني الذهب والفضة................................................. ٤٢٢

الفصول الأربعة في من دخل عليه الوقت وهو مسافر فحضر وبالعكس والوقت باق ٤٢٧

الأقوال في المسألة.......................................................... ٤٢٩

تنقيح أخبار المسألة والمناقشة فيها............................................ ٤٣١

المناقشة في مستند قول المشهور.............................................. ٤٤٠

القضاء بحال وجوبها لافواتها................................................. ٤٤١

حكم المجتهد في المسألة..................................................... ٤٤٣

رسالة في حكم من زنا بامرأة ثم تزوج بابنتها.................................. ٤٤٧

الاخبار الدالة على التحريم.................................................. ٤٥٠


تنقيح الأقوال والاخبار في المسألة............................................ ٤٥٦

مراسيل ابن أبي عمير....................................................... ٤٥٩

المناقشة في أخبار المسألة.................................................... ٤٦٣

الاخبار الدالة على نشر الحرمة.............................................. ٤٦٧

رسالة في شرائط المفتى....................................................... ٤٧١

وجوب اتباع المجتهد لظنه................................................... ٤٧٥

حرمة التقليد للمجتهد...................................................... ٤٧٧

الاستدلال بالآيات على المرام................................................ ٤٧٨

ما يستفاد من مقبولة عمر بن حنظلة......................................... ٤٨١

الأصول العملية............................................................ ٤٨٣

حصر أدلة الاحكام........................................................ ٤٨٥

تعريف الاجتهاد والمراد من المجتهد........................................... ٤٨٧

المفتي على خطر عظيم...................................................... ٤٨٨

خاتمة الرسالة.............................................................. ٤٩٢

رسالة في منجزات المريض.................................................... ٤٩٣

تنقيح المسألة.............................................................. ٤٩٦

ما يدل على القول الثاني.................................................... ٤٩٨

مستند القول الأول......................................................... ٤٩٩

المناقشة في مستند القول الأول............................................... ٥٠١

تراجيح للقول الثاني........................................................ ٥٠٢

خاتمة الرسالة................................................................ ٥٠٤

فهرس الكتاب.............................................................. ٥٠٥

الرسائل الفقهيّة - ٢

المؤلف:
الصفحات: 512