Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUELa-Takhounou-Allah-Rasoulimagesimage001.gif


Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUELa-Takhounou-Allah-Rasoulimagesrafed.jpg



دليل الكتاب :

مقدّمة المركز ....................................................  ٧

مقدّمة المؤلّف ..................................................  ٩

الفصل الأول : الخلافة ........................................  ١٣

سبب نزول آية التبليغ ...........................................  ١٧

تواتر حديث الغدير .............................................  ١٩

النص علىٰ الخلافة ..............................................  ٢١

قعود أمير المؤمنين عليه‌السلام ..........................................  ٢٥

الفصل الثاني : خلافة الخلفاء ..................................  ٣١

تناقض النصوص ................................................  ٣٦

الخلفاء الاثنا عشر ...............................................  ٤٠

روايات الاقتداء بالشيخين ........................................  ٤٧

قصة الكتاب ...................................................  ٥١

تعاقب الخلفاء ..................................................  ٥٦

سنوات الخلافة ..................................................  ٥٩


صلاة أبي بكر ..................................................  ٦١

الفصل الثالث : الصحابة .......................................  ٦٧

الصحابة في القرآن ..............................................  ٧١

الصحابة في السنة النبوية .........................................  ٨١

الصحابة وأهل البيت ............................................  ٨٧

سب الصحابة ..................................................  ٩٣

فضائل الصحابة ..............................................  ١٠٠

أسماء الصحابة ................................................  ١٠٨

الفصل الرابع : أُم المؤمنين عائشة ............................  ١١١

حديث الإفك ................................................  ١١٢

الاشكالات علىٰ حديث الافك .................................  ١٢٥

الفصل الخامس : نقص القرآن ................................  ١٣٥

روايات اهل السنة .............................................  ١٤٠

رأي علماء الشيعة في التحريف ..................................  ١٤٩

الفصل السادس : التقيّة ......................................  ١٥٣

الفصل السابع : حرب أمير المؤمنين عليه‌السلام .....................  ١٦٩


أفضليّة أمير المؤمنين عليه‌السلام ......................................  ١٧٥

فمن الكتاب ..................................................  ١٧٦

ومن السنة النبوية ..............................................  ١٧٨

الفصل الثامن : عصمة الأئمة عليهم‌السلام ...........................  ١٨١

ذرية الحسن عليه‌السلام ..............................................  ١٨٥

الفصل التاسع : أحكام المخالفين .............................  ١٨٧

مخالفة أهل السنة ..............................................  ١٩٣

الفصل العاشر : الرجعة .......................................  ١٩٩

الفصل الحادي عشر : الشهادة الثالثة في الأذان ...............  ٢٠٩

الجمع بين الصلاتين ...........................................  ٢١٩

أوقات الصلاة عند الشيعة ......................................  ٢٢٧

مسح الرجلين .................................................  ٢٢٩

من أين جاء الغسل ............................................  ٢٤١

الجمعة والجماعة ...............................................  ٢٤٣

قول آمين ....................................................  ٢٤٨

تحية السلام ...................................................  ٢٤٨

رفع اليدين فوق الرأس ..........................................  ٢٥١


الفصل الثاني عشر : نكاح المتعة .............................  ٢٥٥

الاتفاق علىٰ إباحة المتعة .......................................  ٢٥٧

دعوىٰ النسخ بالسنّة ...........................................  ٢٦٢

عملية التبرير ..................................................  ٢٧٠

النكاح بلا ولي وشهود .........................................  ٢٧٧

وطء الجارية بالإباحة ...........................................  ٢٨١

الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها ..................................  ٢٨٥

الطلاق الثلاث ...............................................  ٢٩٥

إتيان النساء ..................................................  ٢٠٣

الفصل الثالث عشر : القضاء والقدر ..........................  ٣١١

فهرس المصادر ..............................................  ٣٢١


بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحيمِ

مقدّمة المركز :

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة علىٰ خاتم المرسلين محمّد وآله الغرّ الميامين .

من الثوابت المسلّمة في عمليّة البناء الحضاري القويم استنادُ الاُمّة إلىٰ قيمها السليمة ومبادئها الأصيلة ، الأمر الذي يمنحها الإرادة الصلبة والعزم الأكيد في التصدّي لمختلف التحديات والتهديدات التي تروم نخر كيانها وزلزلة وجودها عبر سلسلة من الأفكار المنحرفة والآثار الضالة باستخدام أرقىٰ وسائل التقنيّة الحديثة .

وإن أنصفنا المقام حقّه بعد مزيد من الدقّة والتأمّل نلحظ أن المرجعيّة الدينيّة المباركة كانت ولا زالت هي المنبع الأصيل والملاذ المطمئن لقاصدي الحقيقة ومراتبها الرفيعة ، كيف ؟! وهي التي تعكس تعاليم الدين الحنيف وقيمه المقدّسة المستقاة من مدرسة آل العصمة والطهارة عليهم‌السلام بأبهىٰ صورها وأجلىٰ مصاديقها .

هذا ، وكانت مرجعيّة سماحة آية الله العظمى السيّد علي السيستاني ـ مدّ ظلّه ـ هي السبّاقة دوماً في مضمار الذبّ عن حمىٰ العقيدة ومفاهيمها الرصينة ، فخطت بذلك خطوات مؤثّرة والتزمت


برامج ومشاريع قطفت وستقطف أينع الثمار بحوله تعالىٰ .

و « مركز الأبحاث العقائدية » هو واحد من المشاريع المباركة الذي اُسّس لاجل نصرة مذهب أهل البيت عليهم‌السلام وتعاليمه الرفيعة .

ولهذا المركز قسم خاص يهتم بمعتنقي مذهب أهل البيت عليهم‌السلام على مختلف الجهات ، التي منها ترجمة ما تجود به أقلامهم وأفكارهم من نتاجات وآثار ـ حيث تحكي بوضوح عظمة نعمة الولاء التي مَنَّ الله سبحانه وتعالىٰ بها عليهم ـ إلىٰ مطبوعات توزّع في شتىٰ أرجاء العالم .

وهذا المؤلَّف « لا تخونوا الله والرسول » الذي يصدر ضمن « سلسلة الرحلة إلىٰ الثقلين » مصداق حي وأثر عملي بارز يؤكّد صحّة هذا المدعىٰ .

علىٰ أنّ الجهود مستمرة في تقديم يد العون والدعم قدر المكنة لكلّ معتنقي المذهب الحقّ بشتىٰ الطرق والأساليب ، مضافاً إلىٰ استقراء واستقصاء سيرة الماضين منهم والمعاصرين كي يتسنّىٰ جمعها في كتاب تحت عنوان « التعريف بمعتنقي مذهب أهل البيت » .

سائلينه تبارك وتعالىٰ أن يتقبل هذا القليل بوافر لطفه وعنايته .

مركز الأبحاث العقائدية

فارس الحسّون




بِسْمِ اللهِ الرَّحمٰنِ الرَّحيمِ

مُقَدِّمَةُ المُؤَلِّفِ

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام علىٰ سيّد المرسلين وخاتم النبيين محمّد وعلى آله الطيبين الطاهرين .

إن من الأُمور المزعجة حقاً أن يجد المرء نفسه مضطراً إلىٰ ترديد مقالة سبق له ولغيره أن رددها من قبل ، ولكن لا حيلة له في ترديدها وهو يجد نفسه مضطراً لتفنيد بعض المزاعم التي لا تمت إلىٰ الحقيقة بصلة ، وإبطال بعض الادعاءات التي تصدر بين آونة وأُخرىٰ عن ناعق هنا وآخر هناك ، فان البعض قد دأب علىٰ ترديد هذه المقالات خلفاً عن سلف دون كلل وعلىٰ امتداد عدة قرون ، فيجد المرء نفسه مضطراً للرد علىٰ هذه المقولات السقيمة مرة بعد مرة .


في فترة انشغالي بتأليف كتابي الأول ( الصحوة ) الذي شرعت فيه بطلب من مركز الأبحاث العقائدية ، لفت هذا المركز نظري إلى رسالة للشيخ محمد بن عبد الوهاب عنوانها ( رسالة في الرد علىٰ الرافضة ) يتهجم فيها بشدة علىٰ أتباع مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، والتي قام بتحقيقها الدكتور ناصر سعيد الرشيد .

جاء في أول الكتاب :

فهذا مختصر مفيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب تغمده الله بالرحمة والرضوان في بعض قبائح الرافضة الذين رفضوا سنّة حبيب الرحمن واتبعوا في غالب أُمورهم خطوات الشيطان ، فضلّوا وأضلّوا عن كثير من موجبات الايمان بالله وسعوا في البلاد بالفساد والطغيان يتولّون أهل النيران ويعادون أصحاب الجنان نسأل الله العفو عن الافتتان من قبائحهم (١) .

والرسالة تسير علىٰ نفس النسق ويزيد عليه ما فيها من السباب المقذع الذي يترفع عنه العوام فكيف بمن يدعي مشيخة الاسلام . والرسالة لم تكن غريبة عليّ ، فقد كنت مطلعاً عليها قبل أكثر من عشر سنوات ، وهي فضلاً عن أُسلوبها البذيء تضم مجموعة لا تحصىٰ من الافتراءات التي يتقوّلها الشيخ محمد بن عبد الوهاب

_______________

(١) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ٥ .


علىٰ طائفة كبيرة ربما تنيف علىٰ ربع عدد المسلمين في العالم هذا اليوم . فضلاً عن أن الرسالة تكشف عن جهل فاضح لمؤلّفها بمعتقدات هذه الطائفة ، وكذلك بمصادرها ، حيث ينسب الشيخ أقوالاً وكتباً إلىٰ بعض مؤلفي الشيعة وزعماء الطائفة لا تصح نسبتها إليهم ، ويخلط الأوراق ـ كما يفعل كل حاطب ليل ـ ويكشف الشيخ عن جهله حتىٰ بمصادر أهل السنة أيضاً ، إذ ينسب إلىٰ الشيعة بعض الأقوال التي كثيراً ما تكون موجودة في مصادر أهل السنة أيضاً ، والتي قد يستشهد بها علماء الشيعة ومتكلموهم إلزاماً للخصم بما عنده في باب المحاججة .

وقد استنكفت في بداية الأمر عن الرد علىٰ هذه الرسالة المتهافتة التي لا تستحق أن يوليها المرء أي اهتمام ، لولا أن المركز نبهني إلىٰ أن هذه الرسالة ما تزال متداولة ويعاد طبعها ضمن مؤلفات محمد بن عبد الوهاب ، وأن هناك الكثير من المسلمين ممن ينخدع بها ويصدقها . وتذكرت أنني كنت أيضاً ممن يصدقون بما جاء في هذه الرسالة عند ما كنت منخرطاً في سلك إحدىٰ الجماعات السلفية التي تحمل هذه الأفكار وتتبناها ، وعندها قررت الشروع بالرد علىٰ ما جاء فيها حتىٰ قبل الفراغ من كتاب ( الصحوة ) الذي هو الآن في طريقه إلىٰ الطبع .


ورسالة الشيخ محمد بن عبد الوهاب تتألّف من إثنين وثلاثين مطلباً وخاتمة ، ويغلب علىٰ بعض مطالبها التكرار الممل في بعض الموارد ، لذا ارتأيت أن أجمع بعض المطالب أو بعض فقراتها في مطلب واحد متصدياً لأدلته ، ناقضاً ما فيها من إفتراءات ومزاعم بحول الله وقوته ، ولسوف يلاحظ القارئ الكريم مدىٰ تهافت هذه الرسالة وضعف أدلة الشيخ لقصر باعه في العلم ، ممّا يدفعه إلىٰ تغطية عجزه بسيل من الشتائم التي يطلقها كما هي عادة الضعفاء ، ومن الله نستمد العون والرشاد ونعوذ به من زيغ القلوب وزلّات اللّسان .


الفصل الأول : الخلافة

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب ضمن « مطلب الوصية بالخلافة » :

إن مفيدهم ابن المعلم قال في كتابه ( روضة الواعظين ) : إن الله أنزل جبريل علىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد توجهه إلىٰ المدينة في الطريق في حجة الوداع فقال : يا محمد ، إن الله تعالىٰ يقرئك السلام ويقول لك : انصب علياً للإمامة ، ونبّه أُمتك علىٰ خلافته ؛ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « يا أخي جبريل إن الله بغّض أصحابي لعلي ، إني أخاف منهم أن يجتمعوا علىٰ إضراري ، فاستعفِ لي ربي » ، فصعد جبريل وعرض جوابه علىٰ الله تعالى فأنزله الله تعالىٰ مرة اُخرىٰ وقال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثلما قال أولاً فاستعفىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما في المرة


الاولىٰ ، ثم صعد جبريل فكرر جواب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمره الله بتكرير نزوله معاتباً له مشدّداً عليه بقوله : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) ، فجمع أصحابه وقال : « يا أيها الناس ، إن علياً أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين ، ليس لأحد أن يكون خليفة بعدي سواه ، من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه » انتهىٰ .

فانظر أيها المؤمن إلىٰ حديث هؤلاء الكذبة الذي يدل علىٰ اختلاقه ركاكة ألفاظه وبطلان أغراضه ولا يصح منه إلّا : « من كنت مولاه » ومن اعتقد منهم صحة هذا فقد هلك ، إذ فيه إتهام المعصوم قطعاً من المخالفة بعدم إمتثال أمر ربه ابتداءً وهو نقص ، ونقص الانبياء عليهم الصلاة والسلام كفر ... » (١) .

هناك أمران ينبغي ذكرهما رداً علىٰ مقالة الشيخ :

أولهما : إننا تحققنا من مؤلفات الشيخ المفيد الملقب بابن المعلم ، فلم نجد له كتاباً يحمل عنوان روضة الواعظين ! إذ أن هناك أربعة كتب للشيعة تحمل هذا العنوان ، وهي كالآتي :

_______________

(١) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ٥ ـ ٦ .


١ ـ روضة الواعظين في أحاديث الأئمة الطاهرين ، للسيد هاشم بن إسماعيل الكتكاني البحراني .

٢ ـ روضة الواعظين في شرح الأحاديث الأربعين عن سيد المرسلين ، للمولىٰ مسكين الفراهي .

٣ ـ روضة الواعظين وبصيرة المتعظين ، للشيخ السعيد الشهيد أبي علي محمد بن علي بن أحمد بن علي الحافظ الواعظ الفارسي أبو محمد بن أحمد بن علي الفتّال النيسابوري المعروف بابن الفارسي .

٤ ـ روضة الواعظين بالحق اليقين ، فارسي في المواعظ وأحوال الأئمة مختصراً في سبع وعشرين فصلاً وخاتمة .

فمن هذا يتبين بجلاء أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب يجهل كل شيء عن الشيخ المفيد وعن مؤلّفاته ، وإنه إنما يرجم بالغيب عن غير بصيرة .

أما الأمر الثاني : فلو أننا افترضنا أن هذه الرواية موجودة في كتب الشيعة ، فهل انفرد الشيعة بروايتها ، أم أن أهل السنة يروون ما في معناها في كتبهم وتفاسيرهم أيضاً ؟

ولكي يعرف القارئ الكريم أن جهل الشيخ ابن عبد الوهاب لا يقتصر علىٰ عدم معرفته بمصنفات الشيعة بل يتعداه إلىٰ الجهل


بمصنفات أهل السنة أيضاً ، نورد طائفة مما أخرجه أئمة أهل السنة فيما يتعلق بهذا الأمر :

١ ـ عن الحسن ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : « لما بعثني الله تعالىٰ برسالته ضقت بها ذرعاً ، وعرفت أن من الناس من يكذبني ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يهاب قريشاً واليهود والنصارىٰ ، فأنزل الله تعالىٰ هذه الآية .

٢ ـ عن مجاهد قال : لما نزلت ( بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) قال : يارب إنما أنا واحد كيف أصنع يجتمع علي الناس ؟ فنزلت ( وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) .

٣ ـ عن ابن عباس في قوله : ( وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) يعني إن كتمت آية مما أُنزل إليك لم تبلغ رسالته (١) .

وقال القرطبي : قيل معناه : أظهر التبليغ ، لأنه كان في أول الاسلام يخفيه خوفاً من المشركين ، ثم أمر بإظهاره في هذه الآية ، وأعلمه الله أنه يعصمه من الناس (٢) .

وقال ابن قتيبة : والذي عندي في هذا أن فيه مضمراً يبينه ما

_______________

(١) أُنظر : أسباب نزول القرآن : ٢٠٤ ، فتح القدير ٢ / ٦٠ ، الدر المنثور ٣ / ١١٧ ، روح المعاني ٦ / ١٨٩ ، التفسير الكبير ٢ / ٤٩ ، عمدة القاري شرح صحيح البخاري ١٨ / ٢٠٦ ، تفسير القرآن العظيم لابن كثير ٢ / ٨٠ .

(٢) الجامع لأحكام القرآن ٦ / ٢٤٢ .


بعده ، وهو أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتوقىٰ بعض التوقي ويستخفي ببعض ما يؤمر به علىٰ نحو ما كان عليه قبل الهجرة ، فلما فتح الله عليه مكة ، وأفشىٰ الاسلام ، أمره أن يبلغ ما أُرسل إليه مجاهراً به غير متوق ولا هائب ولا متألّف . وقيل له : إن أنت لم تفعل ذلك علىٰ هذا الوجه لم تكن مبلغاً لرسالات ربك ، ويشهد لهذا قوله بعد : ( وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) أي : يمنعك منهم (١) .

وقال الفخر الرازي : وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أيام إقامته بمكة يجاهر ببعض القرآن ويخفي بعضه إشفاقاً علىٰ نفسه من تسرع المشركين إليه وإلىٰ أصحابه ، فلما أعز الله الاسلام وأيده بالمؤمنين قال له : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) أي لا تُراقبنَّ أحداً ولا تترك شيئاً مما أنزل إليك خوفاً من أن ينالك مكروه (٢) .

يتبيّن مما سبق أن روايات أهل السنة أيضاً تحمل إتهام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمخالفة وعدم امتثال أمر ربه إبتداءً .

سبب نزول الآية :

أما بشأن نزول الآية في ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي

_______________

(١) المسائل والاجوبة في الحديث والتفسير : ٢٢٢ .

(٢) التفسير الكبير ١٢ / ٤٩ .


طالب عليه‌السلام فنورد بعض الروايات التي أخرجها أئمة أهل السنة بهذا الشأن ونعرض عن الباقي لكثرته .

١ ـ أخرج الواحدي والسيوطي وابن عساكر والعيني والشوكاني وابن الصباغ المالكي عن أبي سعيد الخدري ، قال : نزلت هذه الآية ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم غدير خم في علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه (١) .

٢ ـ وقال الفخر الرازي : نزلت الآية في فضل علي بن أبي طالب ، ولما نزلت هذه الآية أخذ بيده وقال : « من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه » فلقيه عمر رضي‌الله‌عنه فقال : هنيئاً لك يا ابن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولىٰ كل مؤمن و مؤمنة ، وهو قول ابن عباس والبراء بن عازب ومحمد بن علي (٢) .

وقال السيوطي والشوكاني : وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : كنا نقرأ علىٰ عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) أن علياً مولىٰ المؤمنين ، ( وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّـهُ

_______________

(١) أسباب نزول القرآن : ٢٠٤ ، الدر المنثور ٣ / ١١٧ ، تاريخ دمشق ٤٢ / ٣٧ ، عمدة القاري ١٨ / ٢٠٦ ، فتح القدير ٢ / ٦٠ ، الفصول المهمة : ٤٢ .

(٢) التفسير الكبير ١٢ / ٥٠ .


يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (١) .

تواتر حديث الغدير

أما إدعاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب أنه لا يصح من حديث الغدير إلّا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « من كنت مولاه » فهذا مما يدعو إلىٰ العجب من قلّة إطلاع الشيخ وقصر باعه في علوم الحديث ، لأن أئمة الحديث وحفّاظه قد صحّحوا من الحديث أكثر مما يدعيه الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، فقد نقل الحافظ ابن كثير الدمشقي عن الحافظ شمس الدين الذهبي قوله : وصدر الحديث متواتر أتيقن أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاله ، وأما « اللهم وال من والاه » فزيادة قوية الاسناد (٢) .

كما اعترف بتواتره الحافظ ابن الجزري بروايته عن أبي ليلىٰ ، قال سمعت علياً رضي‌الله‌عنه بالرحبة ينشد الناس : من سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : « من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه » فقام اثنا عشر بدرياً فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول ذلك . هذا حديث حسن من هذا الوجه ، صحيح من وجوه كثيرة ، متواتر عن أمير المؤمنين علي رضي‌الله‌عنه ، وهو متواتر أيضاً عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رواه

_______________

(١) الدر المنثور ٣ / ١١٧ ، فتح القدير ٢ / ٦٠ .

(٢) البداية والنهاية ٥ / ٢١٤ .


الجم الغفير عن الجم الغفير ، ولا عبرة بمن حاول تضعيفه ممن لا اطلاع له في هذا العلم (١) .

وقال الحافظ ابن حجر الهيتمي المكي : وقول بعضهم إن زيادة « اللهم وال من والاه » إلىٰ آخره موضوعة ، مردود ، فقد ورد ذلك عن طرق صحّح الذهبي كثيراً منها (٢) .

ثم قال : قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم غدير خم : « من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه » الحديث . وقد مرّ في حادي عشر الشُبه ، وأنه رواه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثون صحابياً ، وأن كثيراً من طرقه صحيح أو حسن (٣) .

كما أثبت تواتر حديث الغدير وصحة تكملته عدد كبير من الحفاظ الثقات .

ومن أراد المزيد من التفصيل فعليه بكتاب ( الغدير ) للعلامة الأميني رحمه‌الله وكتاب ( نفحات الازهار ) للسيد علي الميلاني دام ظله ، إذ يجد فيهما أسماء الحفاظ والعلماء الذين أخرجوا الحديث بمختلف طرقه .

_______________

(١) أسنىٰ المطالب : ٤٨ .

(٢) الصواعق المحرقة : ٦٤ .

(٣) الصواعق المحرقة : ١٨٧ ـ ١٨٨ .


النص علىٰ الخلافة

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب :

وليس في قوله « من كنت مولاه » أن النص علىٰ خلافته متصلة ، ولو كان نصاً لادعاها علي رضي‌الله‌عنه ، لأنه أعلم بالمراد ، ودعوىٰ ادعائها باطل ضرورة ، ودعوىٰ علمه يكون نصاً علىٰ خلافته وترك ادعائها تقية أبطل من أن يبطل .

ما أقبح ملّة قوم يرمون إمامهم بالجبن والخور والضعف في الدين مع أنه من أشجع الناس وأقواهم... (١) .

لاشك أن إدعاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب لا يستند علىٰ الواقع ، فالمطلع علىٰ السنة النبوية في كتب أهل السنة نفسها ، يجد من الشواهد الصحيحة ما يدعم قول الامامية بأن حديث الغدير هو استخلاف مباشر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمير المؤمنين بلا فصل .

وقد وردت في مصادر الشيعة روايات صحيحة تثبت الخلافة لأمير المؤمنين عليه‌السلام ولأولاده المعصومين بأسمائهم ، لكنني سأُعرض عن تلك الروايات مكتفياً بالشواهد التي وردت في كتب

_______________

(١) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ٧ .


أهل السنة التي أخرجها حفاظهم ومحدثوهم واعترفوا بصحتها لأن فيها الكفاية :

١ ـ أخرج أبو داود الطيالسي بسند صحيح قال : حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بلج ، عن عمرو بن ميمون ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعلي : « أنت ولي كل مؤمن من بعدي » (١) .

٢ ـ أخرج هذا الحديث ابن عبد البر بنفس السند وقال : هذا إسناد لا مطعن فيه لأحد لصحته وثقة نقلته (٢) .

٣ ـ أخرج ابن أبي شيبة الحديث من طريق آخر قال : حدثنا عفان ، قال : حدثنا جعفر بن سليمان ، قال : حدثني يزيد الرشك ، عن مطرف ، عن عمران بن حصين قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سرية واستعمل عليهم علياً ، فصنع علي شيئاً أنكروه ، فتعاقد أربعة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعلموه ، وكانوا إذا قدموا من سفر بدؤا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسلّموا عليه ونظروا إليه ثم ينصرفون إلىٰ رحالهم . قال : فلما قدمت السرية سلّموا علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقام أحد الأربعة فقال : يا رسول الله ، ألم تر أن علياً صنع كذا وكذا ؟ فأقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يُعرف في وجهه الغضب ـ فقال : « ما تريدون من علي ؟ ما

_______________

(١) مسند الطيالسي : ٣٦٠ رقم الحديث ٢٧٥٢ .

(٢) الاستيعاب ٣ / ١٠٩١ .


تريدون من علي ؟ علي مني وأنا من علي ، وعلي ولي كل مؤمن بعدي » (١) .

٤ ـ أخرجه أحمد بن حنبل بنفس السند وفيه : « دعوا علياً ، دعوا علياً ، إن علياً مني وأنا منه وهو ولي كل مؤمن بعدي » (٢) .

٥ ـ أخرجه الترمذي وقال : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلّا من حديث جعفر بن سليمان (٣) .

٦ ـ وأخرجه النسائي بنفس السند (٤) .

٧ ـ الحافظ أبو يعلىٰ الموصلي (٥) .

٨ ـ الطبري ، كما في كنز العمال (٦) .

٩ ـ ابن حبان ، كما عن الرياض النضرة (٧) .

١٠ ـ الطبراني (٨) .

_______________

(١) المصنف ١٢ / ٨٠ .

(٢) مسند أحمد ٤ / ٤٣٨ ، ٥ / ٣٥٦ .

(٣) جامع الترمذي ٥ / ٦٣٢ .

(٤) الخصائص : ١٠٩ .

(٥) مسند أبي يعلىٰ ١ / ٢٩٣ رقم ٣٥٥ ، وقال محققه : رجاله رجال الصحيح .

(٦) كنز العمال ١٣ / ١٤٢ ( ش وابن جرير وصححه ) .

(٧) الرياض النضرة ٣ / ١٢٩ .

(٨) المعجم الكبير ١٨ / ١٢٨ ـ ١٢٩ ، الأوسط ٥ / ٤٢٥ .


١١ ـ الحاكم (١) .

١٢ ـ أخرج الخطيب البغدادي الحديث بطريق آخر قال : أخبرنا أبو محمد عبدالله بن علي بن عياض بن أبي عقيل القاضي ـ بصور ـ أخبرنا محمد بن أحمد بن جميع الغساني ، أخبرنا أبو عبدالله محمد بن مخلد العطاء ـ ببغداد ـ حدثنا أحمد بن غالب بن الأجلح بن عبد السلام ـ أبو العباس ـ حدثنا محمد بن يحيىٰ بن الضريس ، حدثنا عيسىٰ بن عبدالله بن عمر بن علي بن أبي طالب ، حدثني أبي عبدالله بن عمر ، عن أبيه ، عن جده علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « سألت الله فيك خمساً فأعطاني أربعاً ومنعني واحدة :

سألته فأعطاني فيك : أنك أول من تنشق الأرض عنه يوم القيامة ، وأنت معي معك لواء الحمد ، وأنت تحمله ، وأعطاني أنك ولي المؤمنين من بعدي » (٢) .

١٣ ـ الحافظ ابن عساكر (٣) .

_______________

(١) المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ / ١١٠ .

(٢) تاريخ بغداد ٤ / ٣٣٩ .

(٣) تاريخ دمشق ٤٢ / ١٠٢ .


١٤ ـ الحافظ ابن الاثير (١) .

١٥ ـ المتقي الهندي ، وفيه « علي مني وأنا من علي ، وعلي ولي كل مؤمن بعدي » وقال : ( ش عن عمران بن حصين ، صحيح ) (٢) .

فهذه النصوص الصحيحة وغيرها ـ ممّا لم أذكره ـ تقطع بولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام علىٰ المسلمين كافة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا يقتضي عدم الفصل ، لأنه لم يرد استثناء أحد من الدخول في الولاية قطعاً ، رغم أن البعض حاول أن يدعي أن لفظة بعدي تعني البعدية المطلقة ولا يراد بها البعدية المباشرة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولكن ـ وكما يقول الأستاذ مروان خليفات ـ ماذا نفعل بلفظ ( كل ) في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وهو ولي كل مؤمن بعدي » ؟ أليست هي من ألفاظ العموم ؟ إذاً فعلي ولي كل مؤمن بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإن كان فيهم أبوبكر وعمر وعثمان (٣) .

قعود أمير المؤمنين عليه‌السلام :

أما لماذا قعد أمير المؤمنين عليه‌السلام عن حقه ولم يطالب القوم به ؟

_______________

(١) أُسد الغابة ٣ / ٦٠٤ .

(٢) كنز العمال ١١ / ٦٠٨ .

(٣) وركبت السفينة : ٤٩٥ .


فالواقع يثبت أنه لم يقعد عنه في بداية الأمر ، لأن في امتناعه عن مبايعة أبي بكر مدة ستة أشهر دليلاً علىٰ ذلك ، وقد أثبت ذلك معظم المؤرخين والمحدثين ، ويكفينا في هذا المقام الاستشهاد برواية الصحيحين ـ باعتبارهما أقوىٰ مصادر أهل السنة ـ لاثبات ذلك مما اتفق الشيخان علىٰ إخراجه ، واللفظ للبخاري :

عن عائشة ، أن فاطمة بنت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسلت إلىٰ أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما أفاء عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر ، فقال أبوبكر : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : « لانورث ما تركنا صدقة » ، إنما يأكل آل محمد عليهم‌السلام في هذا المال وإني والله لا أغير شيئاً من صدقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن حالها التي كان عليها في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولاعملن فيها بما عمل به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأبىٰ أبوبكر أن يدفع إلىٰ فاطمة منها شيئاً ، فوجدت فاطمة علىٰ أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلمه حتىٰ توفيت ، وعاشت بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ستة أشهر ، فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلاً ولم يؤذن بها أبا بكر ، وصلىٰ عليها ، وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة ، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته ولم يكن يبايع تلك الأشهر ، فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا ولا يأتنا أحد معك ، كراهية لمحضر عمر ، فقال عمر : لا والله لا تدخل عليهم


وحدك ، فقال أبوبكر : وما عسيتهم أن يفعلوا بي ، والله لآتينهم ، فدخل عليهم أبوبكر ، فتشهد علي فقال : إنا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله ، ولم ننفس عليك خيراً ساقه الله إليك ، ولكنك استبددت علينا بالأمر ، وكنا نرىٰ لقرابتنا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نصيباً ، حتىٰ فاضت عينا أبي بكر ، فلما تكلم أبو بكر قال : والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي ، وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال فلم آل فيها عن الخير ، ولم أترك أمراً رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصنعه فيها إلّا صنعته ، فقال علي لأبي بكر : موعدك العشية للبيعة ، فلما صلىٰ أبوبكر الظهر رقى علىٰ المنبر فتشهد وذكر شأن علي وتخلفه عن البيعة وعذره بالذي اعتذر إليه ، ثم استغفر وتشهد علي فعظم حق أبي بكر وحدث أنه لم يحمله علىٰ الذي صنع نفاسة علىٰ أبي بكر ولا إنكاراً للذي فضله الله به ، ولكنا نرىٰ لنا في هذا الأمر نصيباً ، فاستبد علينا ، فوجدنا في أنفسنا ، فسر بذلك المسلمون وقالوا : أصبت ، وكان المسلمون إلىٰ علي قريباً حين راجع الأمر بالمعروف (١) .

الملاحظ علىٰ هذه الرواية ، أن فيها اعترافاً صريحاً بأن أمير

_______________

(١) صحيح البخاري ٥ / ١٧٧ ـ ١٧٨ باب غزوة خيبر ، صحيح مسلم ٣ / ١٣٨٠ كتاب الجهاد والسير .


المؤمنين عليه‌السلام لم يبايع أبا بكر طيلة ستة أشهر ، وليست قضية ميراث الزهراء عليها‌السلام من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هي السبب في تأخر بيعة أمير المؤمنين لأبي بكر ـ كما يوحي كلام أبي بكر بذلك وكما ادعىٰ البعض ـ إذ أن كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام يؤكد أن السبب هو استبداد أبي بكر بالأمر من مستحقيه الحقيقيين .

أما لماذا بايع أمير المؤمنين في نهاية الأمر ؛ فلأنه نظر إلىٰ مصلحة الاسلام العليا فقدمها علىٰ حقه خوفاً من ذهاب الاسلام كله بحدوث فتنة لا تبقي ولا تذر ، ففضل التضحية بشطر الأمر بدلاً من التضحية بكله ، وقد بين سيدنا الامام شرف الدين قدس‌سره الأمر بشكل جلي حيث قال :

السلف الصالح لم يتسنَّ له أن يقهرهم يومئذ علىٰ التعبد بالنص فرقاً من انقلابهم إذا قاومهم وخشية من سوء عواقب الاختلاف في تلك الحال ، وقد ظهر النفاق بموت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقويت بفقده شوكة المنافقين وعتت نفوس الكافرين وتضعضعت أركان الدين ، وانخلعت قلوب المسلمين وأصبحوا بعده كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية بين ذئاب عادية ووحوش ضارية ، وارتدت طوائف من العرب ، وهمت بالردة أُخرىٰ . . . فأشفق علي عليه‌السلام في ذلك الظرف أن يظهر إرادة القيام بأمر الناس مخافة البائقة وفساد العاجلة ،


والقلوب علىٰ ما وصفنا ، والمنافقون علىٰ ما ذكرنا ، يعضون عليهم الانامل من الغيظ ، وأهل الردة علىٰ ما بينا ، والاُمم الكافرة علىٰ ما قدمنا ، والانصار قد خالفوا المهاجرين وانحازوا عنهم يقولون منا أمير ومنكم أمير ، فدعاه النظر للدين إلىٰ الكف عن طلب الخلافة والتجافي عن الاُمور ، علماً منه أنّ طلبها والحال هذه يستوجب الخطر بالأُمة والتغرير في الدين ، فاختار الكف إيثاراً للاسلام وتقديماً للصالح العام وتفضيلاً للآجلة علىٰ العاجلة . غير أنه قعد في بيته ـ ولم يبايع حتىٰ أخرجوه كرهاً ـ احتفاظاً بحقه واحتجاجاً علىٰ من عدل عنه ، ولو أسرع إلىٰ البيعة ما تمت له حجة ولا سطع له برهان ، لكنه جمع فيما فعل بين حفظ الدين ، والاحتفاظ بحقه من إمرة المؤمنين ، فدل هذا علىٰ أصالة رأيه ورجاحة حلمه وسعة صدره وإيثاره المصلحة العامة ، ومتىٰ سخت نفس امرئ عن هذا الخطب الجليل والأمر الجزيل ، ينزل من الله تعالىٰ بغاية منازل الدين ، وإنما كانت غايته من فعل أربح الحالين له وأعود المقصودين عليه ، بالقرب من الله عزوجل (١) .

أما قول الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأن في ذلك اتهاماً من

_______________

(١) المراجعات : ٤٥٠ ـ ٤٥١ ، المراجعة ٨٤ .


الشيعة لإمامهم بالجبن ـ والعياذ بالله ـ فنقول : لقد كان لأمير المؤمنين عليه‌السلام في هارون عليه‌السلام أسوة حسنة حين قال كما في قوله تعالى ( قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي ) (١) .

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « فنظرت فاذا ليس لي معين إلّا أهل بيتي فضننت بهم عن الموت وأغضيت علىٰ القذىٰ وشربت علىٰ الشجا وصبرت علىٰ أخذ الكظم وعلىٰ أمرّ من طعم العلقم » (٢) .

_______________

(١) سورة الأعراف : ١٥٠ .

(٢) نهج البلاغة ، صبحي الصالح : ٥٦ ، الخطبة ٢٦ .


الفصل الثاني : خلافة الخلفاء

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب :

ومنها إنكارهم صحة خلافة الصديق رضي‌الله‌عنه ، وإنكارها يستلزم تفسيق من بايعه واعتقد خلافته حقاً ، وقد بايعه الصحابة (رضي الله عنهم) حتىٰ أهل البيت كعلي رضي‌الله‌عنه ، وقد اعتقدها حقاً جمهور الاُمة... (١) .

ثم ساق الشيخ عدداً كبيراً من الروايات للتدليل علىٰ صحة خلافة أبي بكر وهي :

١ ـ عن علي رضي‌الله‌عنه قال : دخلنا علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلنا : يا رسول الله ، استخلف علينا ، قال : « إن يعلم

_______________

(١) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ٨ .

الله فيكم خيراً يول عليكم خيركم » ، فقال علي رضي‌الله‌عنه : فعلم الله فينا خيراً فولّىٰ علينا خيرنا أبا بكر رضي‌الله‌عنه .

رواه الدارقطني ، وهذا أقوىٰ حجة علىٰ من يدعي موالاة علي رضي‌الله‌عنه .

٢ ـ وعن جبير بن مطعم قال : أتت امرأة إلىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمرها أن ترجع إليه فقالت : إن جئت ولم أجدك ؟ كأنها تقول الموت ، قال : « إن لم تجديني فأتي أبا بكر » .

رواه البخاري ومسلم .

٣ ـ عن ابن عباس رضي‌الله‌عنه قال : جاءت امرأة إلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسأله شيئاً ، فقال : « تعودين » ، فقالت : يا رسول الله إن عدت فلم أجدك ـ تعرض بالموت ـ فقال : « إن جئت فلم تجديني فأتي أبابكر فانه الخليفة من بعدي » .

رواه ابن عساكر .

٤ ـ وعن ابن عمر رضي‌الله‌عنه قال : سمعت رسول الله يقول : « يكون خلفي اثنا عشر خليفة أبوبكر لا يلبث إلّا قليلاً » .

رواه البغوي بسند حسن .

٥ ـ وعن حذيفة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « اقتدوا باللذين بعدي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما » .


رواه أحمد والترمذي وحسنه ابن ماجة والحاكم وصححه ورواه الطبراني عن أبي الدرداء والحاكم عن ابن مسعود .

٦ ـ وعن حذيفة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « إني لا أدري ما قدر بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وتمكسوا بهدي عمار وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه » .

رواه أحمد وغيره .

٧ ـ وعن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، واهتدوا بهدي عمار ، وتمسكوا بعهد ابن مسعود » .

رواه ابن عدي .

٨ ـ وعنه : بعثني بنوالمصطلق إلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أسأله : إلىٰ من ندفع صدقاتنا بعدك ؟ فقال : « إلى أبي بكر » .

رواه الحاكم وصححه .

٩ ـ وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مرضه الذي مات فيه : « إدعي لي أباك وأخاك حتىٰ أكتب كتاباً ، فاني أخاف أن يتمنىٰ متمن ويقول قائل : أنا أولىٰ ويأبىٰ الله والمؤمنون إلّا أبابكر » .

رواه مسلم وأحمد ، وهذا الحديث يخرج من يأبىٰ


خلافة الصديق عن المؤمنين .

١٠ ـ عن علي رضي‌الله‌عنه قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « سألت الله أن يقدمك ثلاثاً فأبىٰ الله إلّا تقديم أبي بكر » ، وفي رواية زيادة : « ولكني خاتم الأنبياء وأنت خاتم الخلفاء » .

رواه الدارقطني والخطيب وابن عساكر .

١١ ـ وعن سفينة قال : لما بنىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسجد وضع في البناء حجراً وقال لأبي بكر : « ضع حجرك إلىٰ جنب حجري » ، ثم قال لعمر : « ضع حجرك إلىٰ جنب حجر أبي بكر » ، ثم قال : « هؤلاء الخلفاء بعدي » .

رواه ابن حبان ، وقال أبو زرعة : إسناده قوي لا بأس به والحاكم وصححه والبيهقي .

١٢ ـ روي في تفسير قوله تعالىٰ : ( وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ ) ، الاخبار بخلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، قيل يشير إلى خلافة الصديق رضي‌الله‌عنه ، قوله تعالىٰ : ( وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ، لأنه هو الذي جاهد أهل الردة .

١٣ ـ قوله تعالىٰ : ( قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ


سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ) الآية ، لانه هو الذي باشر قتال بني حنيفة الذين كانوا من أشد الناس حين ارتدوا .

وقوله تعالىٰ : ( وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ ) الآية ، وقد مكن الاسلام بأبي بكر وعمر فكانا خليفتين حقّين ، لوجود صدق وعد الله تعالىٰ .

وما صح من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « الخلافة بعدي ثلاثون » ، وفي بعض الروايات : « خلافة رحمة » ، وفي بعضها : « خلافة النبوة » .

١٤ ـ وما صح من أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا بكر في مرض موته بامامة الناس ، وهذا التقديم من أقوىٰ امارات حقيقة خلافة الصديق ، وبه استدل أجلاء الصحابة كعمر وأبي عبيدة وعلي (رضي الله عنهم أجمعين) .

فهذه وما شاكلها تسوّد وجوه الرافضة والفسقة المنكرين خلافة الصديق رضي‌الله‌عنه (١) .

_______________

(١) رسالة في الردّ على الرافضة : ٩ ـ ١٢ .


تناقض النصوص

إن القارئ إذا أمعن النظر في هذه النصوص التي نسبت إلىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زوراً وبهتاناً ، علىٰ أنها النصوص الدامغة ـ علىٰ خلافة الخلفاء الثلاثة الأولين ـ يستطيع أن يلاحظ بكل جلاء أنها تناقض بعضها البعض ، ويكذبها الواقع وسير الحوادث التاريخية في عصر صدر الاسلام ، وآثار الوضع واضحة عليها .

إن من الأمور المتسالم عليها عند جمهور أهل السنة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يوص بالخلافة إلىٰ أحد من بعده ، بل وهم يستندون في ذلك إلىٰ مقولات صدرت عن خلفائهم وبخاصة الشيخين أبي بكر وعمر للاستدلال علىٰ عدم استخلاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحداً من بعده ، فهم ينقلون عن أبي بكر أنه تمنىٰ عند موته لو كان سأل النبي عن ثلاث ، إحداها قوله : ليتني كنت سألته هل للأنصار في هذا الامر نصيب (١) .

وتمنىٰ عمر بن الخطاب ذلك أيضاً بقوله : ثلاث لأن يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينهن لنا أحب إلي من الدنيا وما فيها : الخلافة

_______________

(١) تاريخ الطبري ٣ / ٤٣١ وغيره من المصادر .


والكلالة والربا (١) .

كما روىٰ الشيخان ـ واللفظ للبخاري ـ عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال : قيل لعمر : ألا تستخلف ؟ قال : إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني ـ أبو بكر ـ وإن أترك فقد ترك من هو خير مني ـ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأثنوا عليه ، فقال : راغب راهب وددت أني نجوت منها كفافاً لا لي ولا علي ، لا أتحملها حياً وميتاً (٢) .

فهذه التمنيات وغيرها تدل علىٰ أن أياً من أبي بكر أو عمر لم يدع النص عليه بتاتاً ، فضلاً عن أن الحجج التي احتج بها الشيخان علىٰ الأنصار في السقيفة كانت خالية من ادعاء النص .

أما الروايات التي استشهد بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ ومن سبقه في ذلك ـ فهي تناقض نفسها .

وقد أثبت الكثير من علماء أهل السنة وحفّاظهم بطلان معظمها !

فالرواية الأولىٰ المختلقة علىٰ لسان أمير المؤمنين عليه‌السلام يردها أُمور منها :

_______________

(١) مسند أحمد ١ / ٣٥ ، تفسير الطبري ٦ / ٣٠ ، البداية والنهاية ٣ / ٢٤٧ ، سنن البيهقي ٨ / ١٤٩ .

(٢) صحيح البخاري ٩ / ١٠٠ كتاب الاحكام باب الاستخلاف ، صحيح مسلم ٣ / ١٤٥٤ باب الاستخلاف وتركه .


١ ـ أنّ الرواية المتفق عليها ـ والتي ذكرناها في الفصل السابق ـ أثبتت أن أمير المؤمنين عليه‌السلام قد تأخر عن بيعة أبي بكر ستة أشهر ، لأنه اعتبره مستبداً عليه ، ومعلوم قطعاً أن أمير المؤمنين عليه‌السلام لو كان قد سمع من النبي شيئاً مما ادُّعي عليه في فضل أبي بكر لما تخلف عن بيعته .

٢ ـ أنّ المصادر التي نقلت خطبة أبي بكر ـ بعد الاستخلاف ـ قد اتفقت علىٰ أن أبابكر قال فيها : إني قد وليت عليكم ولست بخيركم... (١) .

وهذا يدل علىٰ أن أبابكر لم يكن يرىٰ لنفسه هذه الأفضلية المزعومة .

٣ ـ ذكرت مصادر أهل السنة وصحاحهم أن عمر بن الخطاب قد أعلن علىٰ المنبر بأن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقىٰ الله شرها (٢) .

ويقيناً لو أن عمر كان قد سمع نصاً أو إشارة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علىٰ أبي بكر لادعاه ، لأنه صاحبه ورفيقه الذي وقف معه بكل حزم ، كما أكدت ذلك المصادر التاريخية .

_______________

(١) الكامل في التاريخ ٢ / ٢٣٢ ، تاريخ الطبري ٣ / ٢١٠ ، التمهيد : ٤٨٧ .

(٢) صحيح البخاري ٨ / ٢١٠ باب رجم الحبلىٰ ، تاريخ الطبري ٣ / ٣٠٥ ، الكامل في التاريخ ٢ / ٣٢٧ ، مسند أحمد ١ / ٥٥ ، تاريخ الاسلام للذهبي ٣ / ٦ ، وقال متفق علىٰ صحته .


قال ابن أبي الحديد المعتزلي : وعمر هو الذي شدّ بيعة أبي بكر ووقم المخالفين فيها ، فكسر سيف الزبير لما جرده ودفع في صدر المقداد ووطئ في السقيفة سعد بن عبادة وقال : اقتلوا سعداً قتل الله سعداً ، وحطّم أنف الحباب بن المنذر الذي قال يوم السقيفة : أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب ، وتوعد من لجأ إلىٰ دار فاطمة عليها‌السلام من الهاشميين وأخرجهم منها ، ولولاه لم يثبت لأبي بكر أمر ولا قامت له قائمة (١) .

أما الروايات التي في مقابل الرواية الصحيحة عن ذؤيب : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما حُضر قالت صفية : يا رسول الله ، لكل امرأة من نسائك أهل تلجأ إليهم ، وإنك أجليت أهلي ، فان حدثَ حدثٌ فالىٰ من ؟ قال : « إلىٰ علي بن أبي طالب » (٢) .

فهذه الرواية الصحيحة تثبت حجتنا بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد وكّل إلىٰ أمير المؤمنين عليه‌السلام رعاية مصالح المسلمين كافة من بعده ـ ومنهم أهل بيت النبي وأزواجه ـ بعد أن نصبه ولياً علىٰ الأمة كافة من بعده كما أثبتنا فيما سبق .

أما الرواية التي وردت علىٰ لسان ابن عمر والتي يحدد النبي

_______________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ١٧٤ .

(٢) مجمع الزوائد ٩ / ١١٢ ـ ١١٣ وقال : رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح .


فيها خلفاءه باثني عشر ، وورد فيها اسم أبي بكر ، فان ذيل الرواية موضوع ، إذ وردت الروايات الصحيحة عن الخلفاء الاثني عشر بدون ذكر اسم أحد في أهم كتب الحديث المعتمدة عند أهل السنة .

والامامية يستدلون بهذا الحديث علىٰ أن الاثني عشر المذكورين هم الأئمة المعصومون من أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليسوا غيرهم كما سوف نثبت ذلك .

وقد حيّر هذا الحديث حفاظ أهل السنة وشرّاحهم ، لأنهم جهدوا في تأويل هذا الحديث لكي ينطبق علىٰ الخلفاء الأربعة وبعض خلفاء بني أُمية وحتىٰ بني العباس ، لكنهم عجزوا عن إثبات ذلك .

وسوف أذكر بعض آراء علماء أهل السنة في هذا الحديث ، ثم أُحاول استخلاص النتيجة بما يوافق استدلال الشيعة بهذا الحديث علىٰ صحة منهجهم .

الخلفاء الاثنا عشر :

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في « مطلب انحصار الخلافة في اثني عشر » :

ومنها دعواهم انحصار الخلافة في اثني عشر ،


فانهم كلهم بالنص والابصار عمن قبله ، وهذه دعوىٰ بلا دليل مشتملة علىٰ كذب ، فبطلانها أظهر من أن يبين ، ويتوسلون بها إلىٰ بطلان خلافة من سواهم ، في ذلك تكذيب لنصوص واردة في خلافة الخلفاء الراشدين وخلافة قريش (١) .

أما ادعاء الشيخ أن دعوىٰ الشيعة بلا دليل ، فسوف نثبت أن دعواهم بدليل ، ولا أدري لماذا لا يكلف الشيخ نفسه سوق بعض الأدلة القوية لاثبات صحة ادعاءاته ويكتفي بالقول أن بطلان ادعاءات الشيعة أظهر من أن يبين ؟!!

أما قولنا ببطلان خلافة الخلفاء الثلاثة ، فسوف نثبت ذلك بالأدلة الدامغة ، وأما النصوص التي يدعيها الشيخ علىٰ صحة خلافة الخلفاء الثلاثة ، فنحن بصدد بطلانها في هذا الفصل .

لقد ورد حديث الاثني عشر خليفة من قريش في معظم مصادر أهل السنة وصحاحهم باختلاف يسير في بعض الألفاظ ، حيث وردت عبارات ( خليفةً ، أميراً ، رجلاً ، قيّماً ) في هذه الروايات ، وسوف أستشهد ببعض هذه الروايات ، ثم أُسجل آراء العلماء والحفاظ في شرح متن هذا الحديث الصحيح :

_______________

(١) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ٢٧ .


١ ـ أخرج البخاري عن جابر بن سمرة قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : « يكون إثنا عشر أميراً » فقال كلمة لم أسمعها ، فقال أبي إنه قال : « كلهم من قريش » (١) .

٢ ـ أخرج مسلم عدة روايات ، أورد منها هاتين الروايتين :

عن جابر بن سمرة ، قال : دخلت مع أبي علىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسمعته يقول : « إن هذا الأمر لا ينقضي حتىٰ يمضي فيهم إثنا عشر خليفة » ، قال : ثم تكلّم بكلام خفي علي ، قال : فقلت لأبي : ما قال ؟ قال : « كلّهم من قريش » .

وعن جابر بن سمرة أيضاً قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : « لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم إثنا عشر رجلاً » ، ثم تكلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكلمة خفيت علي ، فسألت أبي : ماذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؟ فقال : « كلهم من قريش » .

٣ ـ في سنن الترمذي « يكون من بعدي إثنا عشر أميراً » (٢) .

٤ ـ في سنن أبي داود قريب من ذلك أيضاً (٣) .

٥ ـ وأخرج الطبراني عن جابر بن سمرة قال : كنت مع أبي

_______________

(١) صحيح البخاري ٩ / ١٠١ كتاب الأحكام ، باب الاستخلاف .

(٢) سنن الترمذي ٤ / ٥٠١ .

(٣) سنن أبي داود ٤ / ١٠٦ .


عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : « يكون لهذه الاُمة إثنا عشر قيّماً لا يضرهم من خذلهم » (١) .

وقد تحيّر علماء أهل السنة في تفسير هذا الحديث ، فقال ابن كثير : وليسوا بالاثني عشر الذين يدّعون إمامتهم الرافضة...

وبعد أن يورد الروايات التي في هذا الشأن ، يبدأ بالتخبط ، فيذكر رأي البيهقي الذي مفاده أن هذا العدد قد وجد بالصفة المذكورة إلىٰ وقت الوليد بن يزيد بن عبد الملك ، لكنه يعترف بأن الخلفاء إلىٰ زمن الوليد بن يزيد أكثر من اثني عشر علىٰ كل تقدير ، ثم يقوم بمحاولات أُخرىٰ باسقاط البعض منهم أو إضافة آخرين ، ولكن العدد عنده لا يستقيم مطلقاً ، فتارة يبلغون خمسة عشر ، وأُخرىٰ أكثر من ذلك (٢) .

أما ابن بطّال فيروي عن المهلب أنّه لم يلق أحداً يقطع في هذا الحديث بشيء معين .

أما القاضي عياض فيحاول الجمع بين هذا الحديث وحديث « الخلافة ثلاثون سنة » ثم يقول : وقد مضىٰ منهم الخلفاء الأربعة ولابد من تمام العدة قبل قيام الساعة .

_______________

(١) المعجم الكبير ٢ / ١٩٦ .

(٢) البداية والنهاية ٦ / ٢٤٨ ـ ٢٥٠ .


وأما ابن الجوزي فيقول في كشف المشكل : قد أطلت البحث عن معنىٰ هذا الحديث وتطلبت مضانه وسألت عنه فلم أقع علىٰ المقصود به ، لأن ألفاظه مختلفة ، ولا أشك أن التخليط من الرواة .

وقال ابن المنادي : يحتمل في معنىٰ حديث « يكون إثنا عشر خليفة » أن يكون هذا بعد المهدي الذي يخرج في آخر الزمان .

وأما ابن حجر العسقلاني فيورد الآراء المتقدمة دون أن يعطي نتيجة حاسمة في الأمر (١) .

أما السيوطي فيقول : وقد وجد من الاثني عشر : الخلفاء الأربعة ، والحسن ومعاويه وابن الزبير وعمر بن عبد العزيز ، هؤلاء ثمانية ، ويحتمل أن يضم إليهم المهدي العباسي ، لأنه في العباسيين كعمر بن عبد العزيز في الأمويين ، والظاهر العباسي ، أيضاً لما أوتيه من العدل ، ويبقىٰ الاثنان المنتظران ، أحدهما المهدي من أهل البيت (٢) .

لكن الخلافة الاسلامية سقطت وأُلغيت ولمّا يظهر الخليفة الحادي عشر ، فمتىٰ يظهر إذاً ؟!

إن هذا الاضطراب والتخبط كله ناجم عن إعراض أُولئك العلماء

_______________

(١) فتح الباري ١٣ / ١٧٩ ـ ١٨٣ .

(٢) تاريخ الخلفاء : ١٠ .


عن الحقيقة المتمثلة برأي الامامية الذين فهموا النص ووضحه لهم أئمتهم الهداة ، وهو أن المقصودين بالأمر ليسوا إلّا أئمة أهل البيت الاثني عشر عليهم‌السلام .

ولقد فهم الكثير من أهل الكتاب ذلك بعد أن وجدوا في التوراة الصفة التي تنطبق عليهم فاعتنقوا الاسلام علىٰ مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، كما يعترف بذلك ابن كثير الدمشقي حيث يقول : وفي التوراة التي بأيدي أهل الكتاب ما معناه : ( إن الله تعالىٰ بشر إبراهيم باسماعيل وانه ينمّيه ويكثرّه ويجعل من ذريته إثني عشر عظيماً ) (١) .

ثم ينقل ابن كثير رأي ابن تيمية بقوله : قال شيخنا العلامة أبو العباس بن تيمية : وهؤلاء المبشر بهم في حديث جابر بن سمرة ـ وقرر أنهم يكونون مفرقين في الأُمة ـ ولا تقوم الساعة حتىٰ يوجدوا ، وغلط كثير ممن تشرف بالاسلام من اليهود فظنوا أنهم الذين تدعو إليهم فرقة الرافضة فاتبعوهم... (٢) .

ونحن نقول لابن تيمية : كيف عرفت أنهم يكونون مفرقين في الأُمة وليس في الحديث بمختلف رواياته ما يدل علىٰ ذلك ؟ وإن

_______________

(١) العهد القديم ، إصحاح ١٧ : آية ٢٠ .

(٢) البداية والنهاية ٦ / ٢٥٠ .


أُولئك اليهود لم يغلطوا ، ولكن أنت المخطئ ، لانك أسدلت غشاوة التعصب علىٰ بصيرتك ، وإلّا فلماذا لم تبين لنا من هم أُولئك الاثنا عشر إن كنت تدري ؟!!

إن المشكلة التي حيرت العلماء هي لفظة ( خليفة ) التي وردت في بعض الروايات ، فحاولوا أن يطبقوها علىٰ الخلفاء الذين جلسوا علىٰ منصة الخلافة بغير حق ، وحاشا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبشر أُمته بأئمة الجور والضلالة من بني أُمية وبني العباس .

نحن نعتقد أن لفظة خليفة ـ وإن كانت لا تعني بالضرورة من يستلم الحكم بعد النبي كما تدل عليه الآيات القرآنية في استخلاف آدم مثلاً ـ هي السبب في عدم فهم القوم لمعنىٰ الحديث ، إلّا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يترك شيئاً لم يبينه لأُمته ، فقال في إحدىٰ الفاظ حديث الثقلين المتواتر : « إني تارك فيكم الخليفتين من بعدي ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وأنهما لن يتفرقا حتىٰ يردا علي الحوض » (١) .

فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أخبر اُمته بأن الخلفاء من بعده هما : القرآن الكريم ، والأئمة من أهل بيته عليهم‌السلام ، وليس الخلفاء الجبابرة أو

_______________

(١) مسند أحمد ٥ / ١٨١ ـ ١٨٢ ، ١٨٩ ـ ١٩٠ ، كتاب السنة لابن أبي عاصم : ٣٣٧ ، ٦٢٩ ، وقد صححه الألباني في ( ظلال الجنة ) ـ المطبوع مع الكتاب ـ حديث : ٧٥٤ .


بالأحرىٰ الملوك العتاة من بني أُمية وغيرهم ، وبهذا فقط ينتهي الاشكال ولا سبيل إلىٰ غيره .

روايات الاقتداء بالشيخين :

أما الروايات التي أوردها الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، والتي فيها الحث علىٰ الاقتداء باللذين من بعده أبي بكر وعمر ، وهي كثيرة أخرجها غير واحد من المحدثين ، واستند المتكلمون من أهل السنة في كثير من الأحيان إليها في بيان حجية خلافة الشيخين .

لكن متابعة دقيقة لمتون هذه الروايات وأسانيدها ، وطعن كبار العلماء من أهل السنة أنفسهم فيها كافية لاثبات بطلان هذه الروايات .

لقد وردت روايات الاقتداء في بعض السنن والمسانيد ، ولم يخرجها الشيخان ، وحيث أن أصحاب السنن والمسانيد لم يخرجوا هذه الأحاديث إلّا من رواية حذيفة وابن مسعود رضي الله عنهما ، لذا فسوف أكتفي بمناقشة هذه الروايات ، وأعرض عما تبقىٰ اختصاراً للوقت .

أما حديث حذيفة فقد أخرجه :


١ ـ الترمذي ، قال : حدثنا الحسن بن الصباح البزار ، أخبرنا سفيان بن عيينة ، عن زائدة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن ربعي ، عن حذيفة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « إقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر » .

حدثنا أحمد بن منيع وغير واحد ، قالوا : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عبد الملك بن عمير نحوه . وكان سفيان بن عيينة يدلّس في هذا الحديث ، فربما ذكره عن زائدة عن عبد الملك بن عمير ، وربما لم يذكر فيه زائدة .

وروىٰ سفيان الثوري هذا الحديث عن عبد الملك بن عمير ، عن مولىٰ لربعي ، عن ربعي ، عن حذيفة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) .

٢ ـ أحمد بن حنبل ، رواه بنفس الاسناد (٢) .

٣ ـ ابن ماجة ، بنفس الاسناد (٣) .

٤ ـ الحاكم النيسابوري ، بنفس الاسناد (٤) .

هذه هي عمدة هذه الروايات عن الاقتداء بالشيخين ، وفي

_______________

(١) سنن الترمذي ٥ / ٦٠٩ ـ ٦١٠ .

(٢) مسند أحمد ٥ / ٣٨٢ ، ٣٨٥ .

(٣) سنن ابن ماجة ١ / ٣٧ .

(٤) المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ / ٧٥ .


جميع أسانيدها ، عبد الملك بن عمير :

قال أحمد : عبد الملك مضطرب الحديث جداً مع قلة روايته ، ما أرى له خمسمائة حديث ، وقد غلط في كثير منها .

وقال إسحاق بن منصور : ضعفه أحمد جداً .

وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين : مخلّط (١) .

وقال ابن خراش : كان شعبة لا يرضاه ، وذكر الكوسج عن أحمد أنه ضعفه جداً .

وأما ابن الجوزي فذكره ، فحكىٰ الجرح وماذكر التوثيق (٢) .

وفي بعض طرق هذا الحديث : حفص بن عمر الايلي :

قال العقيلي : قال الشيخ : وهذا الحديث عن مسعر ليس يرويه غير أبي إسماعيل ، وإنما هذا الحديث عند مسعر بهذا الاسناد : « اقتدوا باللذين من بعدي أبو بكر وعمر » ، ولحفص بن عمر هذا غير ما ذكرت من الحديث ، وأحاديثه كلها إما منكر المتن أو منكر الاسناد وهو إلىٰ الضعف أقرب (٣) .

وإضافة إلىٰ ذلك فان في بعض أسانيد الحاكم ( يحيىٰ الحماني ) :

_______________

(١) تهذيب التهذيب ٦ / ٣٦٥ .

(٢) ميزان الاعتدال ٢ / ٦٦٠ .

(٣) الضعفاء ٢ / ٧٩٧ .


قال الحافظ الهيثمي : وهو ضعيف (١) .

وأخرج الحاكم النيسابوري الحديث من طريق آخر ، قال :

وقد وجدنا له شاهداً باسناد صحيح عن عبدالله بن مسعود ، حدثنا أبو بكر بن إسحاق ، أنبأ عبدالله بن أحمد بن حنبل ، ثنا إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل ، ثنا أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن أبي الزعراء ، عن عبدالله بن مسعود رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر واهتدوا بهدي عمار وتمسكوا بعهد ابن مسعود » .

قال الذهبي في التلخيص : سنده واهٍ .

ونكتفي بشهادة الذهبي .

وأخرجه بنفس الاسناد الترمذي ، وقال : يحيىٰ بن سلمة يضعّف في الحديث .

كما أخرج الترمذي الحديث عن حذيفة بطريق آخر ، قال : حدثنا سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي ، حدثنا وكيع ، عن سالم بن العلاء المرادي ، عن عمرو بن هرم ، عن ربعي بن خراش ، عن حذيفة رضي‌الله‌عنه ، قال : كنا جلوساً عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : « إني لا أدري ما

_______________

(١) مجمع الزوائد ٩ / ٢٩٥ .


بقائي فيكم ، فاقتدوا باللذين من بعدي » وأشار إلىٰ أبي بكر وعمر (١) .

وفي إسناده سالم بن العلاء المرادي :

قال الذهبي : ضعفه ابن معين والنسائي (٢) .

هذا هو حال أقوىٰ الروايات ، فناهيك بالأخريات ، وتكفينا شهادة ابن حزم إذ قال : ولو أننا نستجيز التدليس ، والامر الذي لو ظفر به خصومنا طاروا به فرحاً أو أبلسوا أسفاً ، لاحتججنا بما روي : اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ، ولكنه لم يصح ، ويعيذنا الله من الاحتجاج بما لا يصح !!! (٣) .

قصة الكتاب :

أما الرواية التي استشهد بها شيخ الوهابية عن عائشة حول الكتاب الذي أراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكتبه لأبي بكر ، ففيه أمران :

الأول : إذا كان يأبىٰ الله والمؤمنون إلّا أبا بكر ، وإن هذا الحديث يخرج من يأبىٰ خلافة أبي بكر عن المؤمنين ، فهذا يعني إخراج جملة من خيرة الصحابة من السابقين الأولين وخيار الأنصار من

_______________

(١) الترمذي ٥ / ٦١٠ .

(٢) ميزان الاعتدال ٢ / ١١٢ .

(٣) الفصل في الملل والأهواء والنحل ٤ / ٨٨ .


دائرة الايمان ، وفي طليعتهم أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهو رابع الخلفاء الراشدين وأفضل الأُمة بعد الخلفاء الثلاثة عند أهل السنة كما هو معلوم ، وقد ثبت ذلك من رواية عائشة المتفق عليها والتي مرت فيما سبق .

كما ويخرج جميع بني هاشم أيضاً من دائرة الايمان ، لان الزهري أكد أن أحداً من بني هاشم لم يبايع أبا بكر إلّا بعد ستة أشهر (١) .

كما امتنع الزبير بن العوام عن مبايعة أبي بكر ، وامتنع عمار بن ياسر وغيره من السابقين الأولين .

وإذا كان هؤلاء قد بايعوا فيما بعد ، فان الصحابي العظيم سعد بن عبادة لم يبايع حتىٰ توفي واعترف ابن تيمية نفسه بذلك حيث قال : ولم يتخلف عن بيعته ـ يعني أبا بكر ـ إلّا سعد بن عبادة (٢) .

الثاني : إن هذه الرواية ليست صحيحة دون شك مهما كان مصدرها ، وضعت في مقابل الرواية الصحيحة التي أخرجها عدد من المحدّثين ، ففي صحيح البخاري عن سعيد بن جبير ، قال : قال ابن عباس : يوم الخميس وما يوم الخميس ؟! اشتد برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

_______________

(١) تاريخ الطبري ٣ / ٢٠٨ ، الكامل في التاريخ ٢ / ٣٣١ .

(٢) منهاج السنة النبوية ٤ / ١٢١ .


وجعه ، فقال : ائتوني اكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً ، فتنازعوا ـ ولا ينبغي عند نبي تنازع ـ فقالوا : ما شأنه يهجر استفهموه ، فذهبوا يردون عليه ، فقال : « دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه » ، وأوصاهم بثلاث ، قال : « أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أُجيزهم » وسكت عن الثالثة أو قال : فنسيتها (١) .

وأخرج البخاري عن إبن عباس قال : لما حُضر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « هلم أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده » فقال عمر : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد غلب عليه الوجع ، وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله ، فاختلف أهل البيت فاختصموا ، منهم من يقول : قربوا يكتب لكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتاباً لن تضلوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر ، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « قوموا » ، قال عبيدالله : فكان ابن عباس يقول : إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم (٢) .

_______________

(١) صحيح البخاري ٦ / ١١ ـ ١٢ باب مرض النبي ووفاته .

(٢) صحيح البخاري ٧ / ١٥٦ باب قول المريض قوموا عني .


وأخرج البخاري ومسلم عن عبيدالله بن عبدالله بن عباس ، قال : لما حُضر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « هلم اكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده » فقال بعضهم : إن رسول الله قد غلبه الوجع وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله ، فاختلف أهل البيت واختصموا ، فمنهم من يقول : قربوا يكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده ، ومنهم من يقول غير ذلك ، فلما أكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « قوموا » . قال عبيدالله : قال ابن عباس : إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم (١) .

قال ابن كثير تعليقاً علىٰ الرواية : وهذا الحديث مما قد توهم به بعض الأغبياء من أهل البدع من الشيعة وغيرهم كل مدع أنه كان يريد أن يكتب في ذلك الكتاب ما يرمون إليه من مقالاتهم... (٢)

لكننا نقول لابن كثير : إن الشيعة يقولون : إن هذا الكتاب لم يكن إلّا وصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخطية لأمير المؤمنين عليه‌السلام بالخلافة ، ولذا امتنع بعض من في البيت ـ وعلىٰ رأسهم عمر بن الخطاب ـ عن الامتثال لأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن علموا مقصد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتىٰ

_______________

(١) نفس المصدر .

(٢) البداية والنهاية ٥ / ٢٢٨ .


اتهموه بأنه يهجر .

ولو أننا نظرنا إلىٰ قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « هلم اكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده » وإلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث الثقلين الصحيح :

عن زيد بن أرقم ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم « إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلىٰ الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يتفرقا حتىٰ يردا علي الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما » (١) .

وفي رواية أحمد بن حنبل ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلىٰ الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتىٰ يردا علي الحوض » (٢) .

يتبيّن لنا أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد وضع شرطاً ينجي أُمته من الضلالة إلىٰ الأبد ، وهو التمسك بعترته أهل بيته بعد كتاب الله عزوجل ، وقد فهم عمر بن الخطاب ذلك ، ففصل بين الكتاب والعترة ، وقال : حسبنا كتاب الله .

ومهما كانت التأويلات التي حاول البعض الاعتذار فيها لعمر بن

_______________

(١) صحيح الترمذي ٢ / ٢٢٠ .

(٢) مسند أحمد ٣ / ١٤ ، ٣ / ١٧ ، ٣ / ٢٦ ، ٣ / ٥٩ .


الخطاب عن موقفه هذا ، فان ذلك لا يغير من الحقيقة شيئاً ، ويستطيع المنصف أن يكتشف أن الشيعة مصيبون في دعواهم بأن مراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أن يكتب كتاباً يوصي فيه بالخلافة لأهل بيته المتمثلين بعميدهم أمير المؤمنين عليه‌السلام ، لكن المسلمين ضيعوا تلك الفرصة الذهبية ، فكان مصيرهم هذا الاختلاف الذي نراه اليوم والذي تعود جذوره إلىٰ مئات السنين ، وكان أولها اختلافهم في السقيفة .

فالكتاب المدّعىٰ لأابي بكر لا حقيقة له ، وإنما وضعته البكرية في مقابل هذا الكتاب الذي أراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعصم به أُمته من الضلالة .

أما الادعاء بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد سأل الله أن يقدم علياً عليه‌السلام فأبىٰ الله إلّا تقديم أبي بكر ، فهو في غاية التهافت ويكذبه الواقع ، فلماذا امتنع أمير المؤمنين عليه‌السلام عن بيعته إذاً ، وإذا كان تقديم أبي بكر أمراً إلهياً فهذا ينافي عدم النص علىٰ أحد وهو ما لا يقول به أهل السنة .

تعاقب الخلفاء :

أما رواية وضع الحجارة عند بناء المسجد ، وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « هؤلاء الخلفاء من بعدي » ، فيرده ما ذكرنا سابقاً من احتجاج أهل


السنة بعدم وجود نص ، وكلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا نص صريح العبارة ، ولعمري لو وجد هذا النص لاحتج به أبو بكر وعمر في السقيفة ، فأين تلك الحجة ، وفي أي مصدر نجدها ؟ فضلاً عن أن في سند الرواية حشرج بن نباتة ، وسوف تأتي ترجمته فيما بعد .

ونذكر بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أغفل ذكر علي بن أبي طالب عليه‌السلام وعثمان أيضاً في بعض هذه الروايات ، فهل يعني ذلك عدم شرعية خلافتهما ؟!

أما الاحتجاج بالآية الكريمة من سورة التحريم والادعاء بأنها تعني الاخبار بخلافة أبي بكر وعمر ، فهو من أسقط الاحتجاجات ، ويتصادم مع كل النصوص السابقة التي تظهر النبي وهو يعلن علىٰ الملأ أسماء خلفائه ، بينما نجد الآيات الكريمة من سورة التحريم مشحونة بالتهديد والوعيد لعائشة وحفصة اللتان أفشتا سر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكيف يتفق ذلك مع الادعاء بالنص علىٰ أبي بكر أو غيره ؟ ولماذا يُسرّ النبي بذلك إلىٰ نسائه فقط ؟ وأي محذور من الجهر به؟ أحقاً يستدعي ذلك كل هذا التهديد في قوله تعالىٰ : ( إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّـهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّـهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ


الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ ) (١) .

وفضلاً عن ذلك فان التفاسير قد وردت بشأن هذه الآية في قصة المغافير المشهورة وليس هذا مجال ذكرها .

أما ادعاء الشيخ أن قوله تعالىٰ : ( وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ... ) الآية ، إشارة إلىٰ خلافة أبي بكر ، لأنه هو الذي جاهد أهل الردة .

فليس صحيحاً ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد تصدىٰ للمرتدين في حياته ، كما أن الآيات عامة ، وهي تخاطب الجميع ومن بينهم الصحابة أنفسهم ، والحكم فيها باق إلىٰ يوم القيامة .

أما استشهاد الشيخ بقوله تعالىٰ : ( قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ... ) الآية ، علىٰ أنها إشارة إلىٰ أبي بكر .

فغير صحيح أيضاً ، قال الآلوسي : والانصاف أن الآية لا تكاد تصح دليلاً علىٰ إمامة الصديق رضي‌الله‌عنه ، إلّا إن صح غير مرفوع في كون المراد بالقوم بني حنيفة ونحوهم ، ودون ذلك خرط القتاد... (٢) .

أما قوله تعالىٰ : ( وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ... ) الآية ، وأن تفسيرها بخلافة أبي بكر وعمر .

فان ذلك من استنتاجات بعض المفسرين دون الاستناد إلىٰ

_______________

(١) سورة التحريم : ٤ .

(٢) روح المعاني ١٣ / ٢٥٩ .


حديث أو أثر صحيح ، لكن أتباع مذهب أهل البيت عليهم‌السلام يفسرونها بالاستناد إلىٰ روايات أئمتهم عليهم‌السلام أنها في المهدي من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

روىٰ العياشي باسناده عن علي بن الحسين عليهما‌السلام أنه قرأ الآية وقال : « هم والله شيعتنا أهل البيت ، يفعل ذلك بهم علىٰ يدي رجل منا وهو مهدي هذه الأُمة ، وهو الذي قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم لطوّل الله ذلك اليوم حتىٰ يلي رجل من عترتي اسمه اسمي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً » . وروي مثل ذلك عن أبي جعفر وأبي عبدالله عليهما‌السلام (١) .

سنوات الخلافة :

قول الشيخ : وما صح من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « الخلافة بعدي ثلاثون سنة » .

نقول : إن هذا الحديث غير صحيح ، لأن في سنده :

١ ـ سعيد بن جهمان :

قال أبو حاتم : لا يحتج به (٢) .

_______________

(١) الميزان في تفسير القرآن ١٨ / ١٥٨ ـ ١٥٩ .

(٢) ميزان الاعتدال ٢ / ١٣١ .


وقال ابن معين : روى عن سفينة أحاديث لا يرويها غيره . وقال البخاري : في حديثه عجائب (١) .

٢ ـ حشرج بن نباته :

قال النسائي : ليس بالقوي .

قال البخاري : لا يتابع في حديثه ـ يعني وضعهم الحجارة في أساس مسجده ـ وقال : هؤلاء الخلفاء من بعدي . قال البخاري في كتاب الضعفاء له : وهذا لم يتابع عليه ، لأن عمر وعلياً قالا : لم يستخلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) .

٣ ـ سويد بن سعيد :

قال ابن حبان في الثقات : يخطئ ويقرب ، وذكره الخطيب في المتفق والمفترق فقال : روىٰ عن علي بن عاصم حديثاً منكراً... (٣) .

وقال الذهبي : لا يكاد يعرف ، روىٰ عن علي بن عاصم خبراً منكراً ، قاله ابن الجوزي (٤) .

_______________

(١) تهذيب التهذيب ٤ / ١٣ .

(٢) ميزان الاعتدال ١ / ٥٥١ ، وانظر تهذيب التهذيب ٢ / ٣٢٥ .

(٣) تهذيب التهذيب ٤ / ٢٤٢ .

(٤) ميزان الاعتدال ٢ / ٢٥١ .


صلاة أبي بكر :

لم يبق من أدلة الشيخ إلّا الاحتجاج بصلاة أبي بكر...

أما ادعاؤه أن الاحتجاج بصلاة أبي بكر قد ورد علىٰ لسان الصحابة ومن بينهم أمير المؤمنين عليه‌السلام .

فلا صحة له ، والأخبار في ذلك موضوعة علىٰ لسانه من قبل المتعصبين المذهبيين ، وإلّا فلماذا امتنع أمير المؤمنين عليه‌السلام عن البيعة ستة أشهر كما ورد في صحاح الأخبار مما تقدم .

أما الربط بين إمامة الصلاة وإمامة الأُمة فلا يصح ، وقد اعترف علماء أهل السنة بذلك ، فقد قال ابن حزم : أما من ادعىٰ أنه إنما قُدّم قياساً علىٰ تقديمه إلىٰ الصلاة فباطل بيقين ، لأنه ليس كل من استحق الامامة في الصلاة يستحق الامامة في الخلافة ، إذ يستحق الامامة في الصلاة أقرأ القوم وإن كان أعجمياً أو عربياً ، ولا يستحق الخلافة إلّا قرشي ، فكيف والقياس كله باطل !! (١) .

ورفض هذا المبدأ أيضاً الشيخ محمد أبو زهرة أيضاً حيث قال : وقال قائلهم : « لقد رضيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لديننا ، أفلا نرضاه لدنيانا » ؟ ولكنه

_______________

(١) الفصل في الملل ٤ / ١٠٩ .


لزوم ما لا يلزم ، لأن سياسة الدنيا غير شؤون العبادة ، فلا تكون الاشارة واضحة ، وفوق ذلك فانه لم يحدث في اجتماع السقيفة الذي تنافس فيه المهاجرون والأنصار في شأن القبيل الذي يكون منه الخليفة أن احتج أحد المحتجين بهذه الحجة ، ويظهر أنهم لم يعتقدوا تلازماً بين إمامة الصلاة وإمرة المسلمين (١) .

كما أن فقه أهل السنة لا يقيم اعتباراً للتفاضل في إمامة الصلاة ، إذ تصح عندهم إمامة الفاسق والفاجر لأهل التقوىٰ والصلاح ، ويستدلون في ذلك بحديث ينسبونه إلىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « صلّوا خلف كل بر وفاجر » ، ويستدلّون علىٰ صحة ذلك بصلاة بعض فضلاء الصحابة خلف الوليد بن عقبة وهو سكران ، والذي سماه القرآن فاسقاً باجماع المفسرين .

ولو كانت إمامة الصلاة تعني إمامة الأُمة ، لكان سالم مولىٰ أبي حذيفة وعمرو بن العاص وعبد الرحمن بن عوف أكثر استحقاقاً لها ، لأنهم أمّوا المسلمين وفيهم أبو بكر ، فقد أخرج البخاري عن عبدالله بن عمر قال : كان سالم مولىٰ أبي حذيفة يؤُم المهاجرين الأولين وأصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مسجد قباء فيهم أبو بكر وعمر وأبو

_______________

(١) تاريخ المذاهب الاسلامية : ٢٣ .


سلمة وزيد وعامر بن ربيعة (١) .

وكان عمرو بن العاص أميراً علىٰ جيش ذات السلاسل ، وكان يؤمهم في الصلاة حتىٰ صلىٰ بهم بعض صلواته وهو جنب ، وفيهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح (٢) .

وأخرج جمع من المحدثين أن عبد الرحمن بن عوف قد صلىٰ إماماً بالمسلمين وكان فيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣) .

بينما نجد أبا بكر يتأخر عن إمامة الصلاة عند حضور رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد أخرج البخاري عن سهل بن سعد الساعدي : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذهب إلىٰ بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم فحانت الصلاة فجاء المؤذن إلىٰ أبي بكر فقال : أتصلي للناس فأُقيم ؟ قال نعم ، فصلىٰ أبو بكر ، فجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والناس في الصلاة ، فتخلّص حتىٰ وقف في الصف ، فصفق الناس ، وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته ، فلما أكثر الناس التصفيق التفت فرأىٰ رسول

_______________

(١) صحيح البخاري ٩ / ٨٨ كتاب الاحكام باب استقضاء الموالي واستعمالهم .

(٢) سيرة ابن هشام ٤ / ٢٧٢ ، البداية والنهاية ٤ / ٢٧٤ ، السيرة النبوية لابن كثير ٣ / ٥١٦ .

(٣) صحيح مسلم ١ / ٢٣٠ باب المسح علىٰ العمامة ، مسند أحمد ٤ / ٢٤٨ و ٢٥٠ و ٢٥١ ، سنن أبي داود ١ / ٣٧ ، سنن ابن ماجة ١ / ٣٩٢ ، سنن النسائي ١ / ٧٧ باب كيف المسح علىٰ العمامة ، البداية والنهاية ٥ / ٢٢ .


الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأشار إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن امكث مكانك ، فرفع أبو بكر رضي‌الله‌عنه يديه فحمد الله علىٰ ما أمره به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك ثم استأخر أبو بكر حتىٰ استوىٰ في الصف ، وتقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصلىٰ ، فلما انصرف قال : « يا أبا بكر ما منعك أن تثبت إذ أمرتك » ؟ فقال أبو بكر : ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم... (١) .

وقد ثبت من جميع طرق حديث إمامة أبي بكر للصلاة ، أنه بعد أن افتتح أبو بكر الصلاة ، خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتهادىٰ بين رجلين ـ علي والعباس أو الفضل بن العباس ـ فصلىٰ بهم إماماً وأزاح أبا بكر عن إمامة الصلاة .

ولا شك أن خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ورجلاه تخطان في الأرض من شدة الوجع ـ كما ذكرت الروايات ، يدل على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أدرك غرض عائشة ـ إذ أرسلت إلىٰ أبيها ليؤم المسلمين ـ فجابهها النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتلك الجملة الخشنة : « إنكن لصويحبات يوسف » ، ثم خرج وهو علىٰ هذه الحالة المؤلمة ليزيل عن أذهان الناس ما قد يعلق بها من تصور أن النبي هو الذي أمره بالصلاة بالمسلمين .

وقد أثبت ابن الجوزي أن أبابكر لم يكن إماماً في تلك الصلاة

_______________

(١) صحيح البخاري ١ / ١٧٠ ـ ١٧٤ باب من دخل ليؤم الناس فجاء الامام فتأخر الأول...


في كتاب صنفه خصيصاً لهذا الغرض ، حين قسمه إلىٰ ثلاثة أبواب : الباب الأول في إثبات خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلىٰ تلك الصلاة وتأخيره أبا بكر عن الامامة ، والباب الثاني : بيّن فيه إجماع الفقهاء كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد علىٰ ذلك ، كما أثبت في الباب الثالث ضعف الروايات التي ذكرت تقدم أبي بكر في تلك الصلاة ، ووصف القائلين بها بالعناد واتباع الهوىٰ (١) .

وقال ابن حجر العسقلاني : تضافرت الروايات عن عائشة بالجزم بما يدل علىٰ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان هو الامام في تلك الصلاة (٢) .

ولو كانت إمامة أبي بكر للصلاة بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتركه علىٰ إمامته وصلىٰ خلفه ، كما صلىٰ خلف عبد الرحمن بن عوف ، كما أن هذا الخبر لم يصح إلّا من طريق عائشة ، لذا لم تقم حجته (٣) .

وفوق هذا وذاك ، فان أصحاب التاريخ والسير قد أثبتوا أن أبا بكر كان أيام مرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مأموراً بالخروج في جيش أُسامة بن زيد ، فلا ينسجم ذلك قطعاً مع الأمر بتقديمه في الصلاة ،

_______________

(١) تاريخ الاسلام الثقافي والسياسي للاستاذ صائب عبد الحميد : ١٩٠ وما بعدها ، عن آفة أصحاب الحديث .

(٢) فتح الباري ٢ / ١٢٣ .

(٣) المعيار والموازنة لابن الاسكافي : ٤١ ـ ٤٢ .


ناهيك عن الاستخلاف (١) .

يتبين بعد كل هذا ، أن جميع الأدلة التي ساقها الشيخ محمد بن عبد الوهاب لاثبات صحة خلافة أبي بكر أدلة واهية لا تقوم بها حجة .

_______________

(١) انظر فتح الباري ٨ / ١٢٤ ، الطبقات الكبرىٰ لابن سعد ٤ / ٦٦ ، تاريخ اليعقوبي ٢ / ٧٧ ، تاريخ الخميس ٢ / ١٥٤ وغيرها من المصادر .


الفصل الثالث : الصحابة

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في « مطلب دعواهم ارتداد الصحابة » :

ومنها أنه روىٰ الكشي منهم ـ وهو عندهم أعرفهم بحال الرجال وأوثقهم في رجاله ـ وغيره عن الامام جعفر الصادق رضي‌الله‌عنه ـ وحاشاه من ذلك ـ أنه قال : « لما مات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ارتد الصحابة كلهم إلّا أربعة : المقداد وحذيفة وسلمان وأبوذر (رضي الله عنهم) ، فقيل له : كيف حال عمار بن ياسر ؟ قال « حاص حيصة ثم رجع » .

هذا العموم المؤكد يقتضي ارتداد علي وأهل البيت ، وهم لا يقولون بذلك ، وهذا هدم لأساس الدين ، لان أساسه القرآن والحديث ، فاذا فرض


ارتداد من أخذ من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلّا النفر الذين لا يبلغ خبرهم التواتر وقع الشك في القرآن والأحاديث ، نعوذ بالله من إعتقاد يوجب هدم الدين .

وقد اتخذ الملاحدة كلام هؤلاء الرافضة حجة لهم فقالوا : كيف يقول الله تعالىٰ : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ للنَّاسِ ) ، وقد ارتدوا بعد وفاة نبيهم إلّا نحو خمسة أو ستة أنفس منهم ، لامتناعهم من تقديم أبي بكر علىٰ علي وهو الموصىٰ به .

فانظر إلىٰ كلام هذا الملحد تجده من كلام الرافضة ، فهؤلاء أشد ضرراً علىٰ الدين من اليهود والنصارىٰ ، وفي هذه الهفوة فساد من وجوه : فانها توجب إبطال الدين والشك فيه ، وتجوّز كتمان ما عورض به القرآن ، وتجوّز تغيير القرآن ، وتخالف قوله تعالىٰ : ( رَضِيَ اللَّـهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ ) وقوله تعالىٰ : ( رَّضِيَ اللَّـهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ) وقوله فيمن آمن قبل الفتح وبعده : ( وَكُلًّا وَعَدَ اللَّـهُ الْحُسْنَىٰ ) وقوله في حق المهاجرين والأنصار : ( أُولَـٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) و : ( أُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) وقوله : ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) وقوله : ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) ، وغير ذلك من الآيات والأحاديث الناصة علىٰ أفضلية الصحابة واستقامتهم على


الدين ، ومن اعتقد ما يخالف كتاب الله وسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد كفر . ما أشنع مذهب قوم يعتقدون إرتداد من اختارهم الله لصحبة رسوله ونصرة دينه... (١)

قبل أن أشرع بالرد علىٰ ما جاء في كلام محمد بن عبد الوهاب المتعلق بهذا المطلب ، أودّ أَن أنوّه إلىٰ أمر مهم جداً ألا وهو : أن الشيعة لا يعتقدون بوجود كتاب صحيح تماماً غير كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وما عداه من كتب فانها تحوي الصحيح وغيره مهما كانت منزلة هذه الكتب أو مصنفيها ، وعلىٰ هذا الأساس فان وجود رواية في أي من كتبهم لا تعني بالضرورة أنهم يقولون بصحتها ، وأمثال هذه الروايات موجودة فعلاً في كثير من كتب الشيعة رغم عدم اعتقادهم بصحتها ، وذلك علىٰ العكس من الإخوة من أهل السنة الذين يضفون علىٰ بعض كتبهم ـ وبخاصة تلك التي يسمونها ( الصحاح ) وعلىٰ رأسها كتابي البخاري ومسلم ـ رداء القدسية ، حتىٰ قالوا عن صحيحي البخاري ومسلم : أنهما أصح الكتب بعد كتاب الله (٢) ، وأنه لو حلف

_______________

(١) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ١٢ ـ ١٣ .

(٢) تدريب الراوي : ٩١ ، علوم الحديث : ١٤ ، الخلاصة في أصول الحديث : ٣٦ ، مقدمة أبي الصلاح : ٩ .


رجل بطلاق امرأته على أن كل ما في الصحيحين هو من أقوال وأفعال وتقرير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يحنث ، وأن من روىٰ له البخاري فقد جاز القنطرة (١)... .

وقد تبين ممّا سبق أن هذا الاعتقاد فيه الكثير من الغلو والشطط ـ بعد ما تبين حال بعض الرواة والروايات التي ذكرناها ـ وسيأتي المزيد مما يثبت أن الصحاح هي كأيّ كتاب آخر فيها الغث والسمين .

وتبعاً لذلك فلو آخذ الشيعة أهل السنة بكل رواية وردت في كتبهم وصحاحهم وادعوا ضلالتهم تبعاً لذلك ، لانفتح علىٰ أهل السنة باب يستحيل غلقه ، ولكن الشيعة لا يفكرون بمثل عقلية الشيخ محمد بن عبد الوهاب وغيره من المتعصبين الذين يضللون المسلمين ويتهمون مخالفيهم بالفسق والكفر وغير ذلك ، وهم إذ يستشهدون ببعض الروايات التي في كتب أهل السنة وصحاحهم ، فهي من باب إقامة الحجة عليهم بما عندهم ، ولتنبيه إخوانهم من أهل السنة إلىٰ المحاولات التي تبذلها بعض الجهات الحاقدة التي تريد أن تفرق شمل المسلمين وتضعف شوكتهم بالقاء البغضاء فيما بينهم .

_______________

(١) مقدمة فتح الباري : ٣٨١ .


وإن من المؤسف حقاً أن نجد بعض البسطاء يتأثرون بهذه المحاولات ، حتىٰ تحول الأمر إلىٰ عداء مستحكم بين المسلمين أثلج صدور أعدائهم الذين وجدوا في بث الفرقة بين المسلمين أفضل وسيلة لمحاربتهم وإضعافهم .

أما فيما يتعلق بالصحابة ـ وهو موضوع في غاية الحساسية ـ فان الشيعة ينظرون إليهم بأُسلوب عقلاني لا يخالف كتاب الله ولا سنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والشواهد التاريخية تثبت صحة نظرية الشيعة فيما يتعلق بالصحابة ، وسوف نحاول أن نبين موقف القرآن الكريم ومن ثم السنة النبوية الشريفة والتاريخ من الصحابة ـ بالاعتماد علىٰ مصادر أهل السنة ـ حتىٰ يتبين لكل ذي بصيرة أن الشيعة لا يقولون في الصحابة ما يخالف الكتاب والسنة والواقع .

الصحابة في القرآن :

لقد استشهد الشيخ ابن عبد الوهاب بجملة من الآيات الكريمة للتدليل علىٰ عدالة الصحابة ، لكنه أغفل أُموراً عديدة :

منها : إنه أَخذ من تفاسير هذه الآيات ما يوافق غرضه وأعرض عن غيرها .

ومنها : لقد وردت في القرآن الكريم آيات عديدة توضح


الموقف من بعض الصحابة ، وربما اشتملت بعض هذه الآيات علىٰ لهجة فيها التهديد والوعيد للبعض منهم ، وفي أُخرىٰ إتهام صريح بمخالفة أمر الله ورسوله ، بل أن بعضها أشار إلىٰ نفاق بعض الصحابة وارتداد البعض الآخر عن دينه .

أما الآيات التي استشهد الشيخ بها ، فسوف أورد بعض ما قيل في تفسيرها :

١ ـ قوله تعالىٰ ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ ) (١) .

قال السيوطي : أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة في الآية قال : نزلت في ابن مسعود وعمار بن ياسر وسالم مولىٰ أبي حذيفة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل .

وأخرج ابن جرير عن قتادة قال : ذكر لنا أن عمر بن الخطاب قرأ هذه الآية : ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ... ) ثم قال : يا أيها الناس ، من سرّه أن يكون من تلكم الاُمة فليؤد شرط الله منها .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله : ( كُنتُمْ... ) يقول : علىٰ هذا الشرط أن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر وتؤمنوا بالله ، يقول : لمن أنتم بين ظهرانيه كقوله : ( وَلَقَدِ

_______________

(١) سورة آل عمران : ١١٠ .


اخْتَرْنَاهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ) .

وأخرج أحمد بسند حسن عن علي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « أُعطيت ما لم يُعط أحد من الأنبياء ، نُصرت بالرعب ، وأُعطيت مفاتيح الأرض ، وسميت أحمد ، وجعل التراب لي طهوراً ، وجُعلت أُمتي خير الأمم » .

وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر : ( كُنتُمْ... ) الآية ، قال : أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) .

٢ ـ قوله تعالىٰ ( رَّضِيَ اللَّـهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ) (٢) .

أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبدالله ، قال : كنا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأقبل عليٌّ ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة » ، ونزلت ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَـٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) .

وأخرج ابن عدي وابن عساكر عن أبي سعيد مرفوعاً : علي خير البرية .

وأخرج ابن عدي عن ابن عباس قال : لما نزلت : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا... ) الآية ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي : « هو أنت وشيعتك يوم

_______________

(١) الدر المنثور ٢ / ٢٩٣ ـ ٢٩٤ .

(٢) سورة البينة : ٨ .


القيامة راضين مرضيين » .

وأخرج ابن مردويه عن علي قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « ألم تسمع قول الله : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا... ) أنت وشيعتك ، وموعدي وموعدكم الحوض إذا جاءت الأُمم للحساب تدعون غراً محجلين » (١) .

أما قوله تعالىٰ ( لَّقَدْ رَضِيَ اللَّـهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ ) فهو مخصوص بالمؤمنين الذين لم يغيِّروا ولم يبدّلوا ، كما سوف يتبين فيما بعد .

وقوله تعالىٰ : ( أُولَـٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) فان هذه العبارة قد وردت في عدد من الآيات ، وبما أن القرآن يفسّر بعضه بعضاً ، فقد قال تعالىٰ : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أُولَـٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) (٢) .

فالمؤمنون الذين تنطبق عليهم هذه الصفات المذكورة في الآية هم الصادقون .

وقال الفخر الرازي في تفسير قوله تعالىٰ : ( أُولَـٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) ، يعني : أنهم لما هجروا لذات الدنيا وتحملوا شدائدها لأجل الدين

_______________

(١) الدر المنثور ٨ / ٥٨٩ .

(٢) الحجرات : ١٥ .


ظهر صدقهم في دينهم (١) .

لكن بعض الصحابة ومنهم بعض المهاجرين الأولين قد تغيروا فيما بعد وأقبلوا علىٰ الدنيا ولذاتها وتعاظمت ثرواتهم حتىٰ كان الذهب الذي خلّفه بعضهم يقطّع بالفؤوس ، كما هو مذكور في أخبارهم لمن راجع كتب التاريخ ، كما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد حذّر من أن هجرة البعض قد لا تكون لله خالصة .

فعن عمر بن الخطاب قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « العمل بالنية ، وإنما لامرىء ما نوىٰ ، فمن كانت هجرته إلىٰ الله ورسوله فهجرته إلىٰ الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن كانت هجرته إلىٰ دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلىٰ ما هاجر إليه » (٢) .

٤ ـ أما قوله تعالىٰ : ( أُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (٣) ، فان المقطع الذي يسبقها في نفس الآية هو قوله تعالىٰ : ( وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) ، كما بينت بعض الآيات الأُخرىٰ صفة المفلحين في قوله تعالىٰ : ( لَـٰكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَـٰئِكَ لَهُمُ

_______________

(١) التفسير الكبير ٢٩ / ٢٨٦ .

(٢) صحيح البخاري ٧ / ٤ كتاب النكاح .

(٣) سورة الحشر : ٩ .


الْخَيْرَاتُ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (١) .

فالمفلحون هنا هم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنون الصادقون الذين جاهدوا معه بأموالهم وأنفسهم ، وليس الذين تخلّفوا عنه طائعين .

والآيات السابقة لهذه الآية تبيّن لنا حال أُولئك ـ مع العلم أنهم كانوا من الصحابة ـ في قوله تعالىٰ : ( وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّـهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ * رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ) (٢) .

وفي تفسيرها قال السيوطي : أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : ( أُولُو الطَّوْلِ ) قال : أهل الغنىٰ .

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : ( رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ ) قال : مع النساء .

وأخرج ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص : أن علي بن أبي طالب خرج مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتىٰ جاء ثنية الوداع يريد تبوك ، وعلي يبكي ويقول : تخلفني مع الخوالف ؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « ألا

_______________

(١) سورة التوبة : ٨٨ .

(٢) سورة التوبة : ٨٦ و ٨٧ .


ترضىٰ أن تكون مني بمنزلة هارون من موسىٰ إلّا النبوة ؟ » (١) .

وهذه الآيات تشكل أكبر رد علىٰ ادعاءات الشيخ محمد بن عبد الوهاب إذ تثبت أن جميع الصحابة ليسوا سواء ، كما سوف يتبين بشكل أكثر وضوحاً فيما بعد .

٥ ـ أما قوله تعالىٰ : ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) (٢) .

فقد أخرج ابن كثير عن أبي زهير الثقفي عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالبناوة يقول : « يوشك أن تعلموا خياركم من شراركم » ، قالوا : بم يا رسول الله ؟ قال : « بالثناء الحسن والثناء السيء ، أنتم شهداء الله في الأرض » (٣) .

فقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « خياركم من شراركم » ، يدل علىٰ وجود الأخيار والأشرار ضمن الصحابة .

هذا فيما يتعلق بالآيات التي استشهد بها الشيخ علىٰ صحة إدعائه ، وقد تبين ما فيها ، ولكن الشيخ فاته أن في القرآن الكريم آيات أُخرىٰ تقلب نظريته رأساً علىٰ عقب ، وإليك جملة منها :

_______________

(١) الدر المنثور ٤ / ٢٥٩ ـ ٢٦٠ .

(٢) سورة البقرة : ١٤٣ .

(٣) تفسير القرآن العظيم ١ / ١٩٧ .


١ ـ قوله تعالىٰ : ( وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّـهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّـهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ) (١) .

أجمع المفسرون علىٰ أن الآيات نزلت في ثعلبة بن حاطب في قصة مشهورة ، وثعلبة هذا صحابي أنصاري بدري أُحدي ، لكنه خان عهد الله ورسوله وما أعطىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مواثيق ، فختم له بالنفاق وطبع علىٰ قلبه إلىٰ يوم القيامة .

قال إبن عبد البر ـ في ترجمة ثعلبة بن حاطب : شهد بدراً وأُحداً ، وهو مانع الصدقة فيما قال قتادة وسعيد بن جبير ، وفيه نزلت ( وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّـهَ... ) الآية (٢) .

٢ ـ قوله تعالىٰ : ( وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّـهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّـهِ عَظِيمًا ) (٣) .

قال السيوطي : أخرج ابن أبي حاتم عن السدي رضي‌الله‌عنه قال : بلغنا أن طلحة بن عبيدالله قال : أيحجبنا محمد عن بنات عمنا ويتزوج نساءنا من بعدنا ؟ لئن حدث به حدث لنتزوجن نساءه من بعده .

_______________

(١) سورة التوبة : ٧٥ ـ ٧٧ .

(٢) الاستيعاب ١ / ٢١٠ .

(٣) سورة الأحزاب : ٥٣ .


وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة رضي‌الله‌عنه قال : قال طلحة بن عبيدالله : لو قبض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تزوجت عائشة رضي الله عنها .

وأخرج ابن سعد عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم في قوله : ( وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّـهِ ) الآية ، قال : نزلت في طلحة بن عبيدالله ، لأنه قال : إذا توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تزوجت عائشة (١) .

فطلحة بن عبيدالله صحابي من السابقين ، وممن شهد المشاهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة ـ كما يزعمون ـ ومع ذلك فقد آذىٰ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت هذه الآيات في توبيخه .

٣ ـ قوله تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّـهِ أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّـهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ) (٢) .

أخرج جمع من المحدّثين والمفسرين في تفسير هذه الآية بأن المخاطب في هذه الآيات هما الصحابيان الشيخان أبو بكر وعمر

_______________

(١) الدر المنثور ٦ / ٦٤٣ .

(٢) سورة الحجرات : ٢ ـ ٣ .


ابن الخطاب ، كما تثبت الرواية الآتية واللفظ للبخاري :

عن أبي مليكة ، قال : كاد الخيّران أن يهلكا : أبو بكر وعمر ، رفعا أصواتهما عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم ، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع ، وأشار الآخر برجل آخر ـ قال نافع لا أحفظ إسمه ـ فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلّا خلافي ، قال : ما أردت خلافك ، فارتفعت أصواتهما في ذلك ، فانزل الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ... ) الآية ، قال إبن الزبير : فما كان عمر يُسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد هذه الآية حتىٰ يستفهمه ، ولم يذكر ذلك عن أبيه ، يعني أبا بكر (١) .

٤ ـ قوله تعالىٰ : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّـهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّـهُ الشَّاكِرِينَ ) (٢) .

أخرج الطبري عن سلمة عن ابن إسحاق... أن هذه الآية أُنزلت علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيمن انهزم عنه بأُحد من الصحابة ، قال : أي أفئن مات أو قتل نبيكم رجعتم عن دينكم كفاراً كما كنتم وتركتم

_______________

(١) صحيح البخاري ٦ / ١٧١ ، سنن الترمذي ٥ / ٣٨٧ ، الدر المنثور ٧ / ٥٤٦ ، سنن النسائي ٨ / ٢٢٦ وغيرهم .

(٢) سورة آل عمران : ١٤٤ .


جهاد عدوكم وكتاب الله وما قد خلّف نبيه من دينه معكم وعندكم ، وقد تبين لكم فيما جاءكم عني أنه ميت ومفارقكم ، ومن ينقلب علىٰ عقبيه ، أي يرجع عن دينه... (١) .

ومعلوم أن معظم الصحابة ـ ومنهم أبوبكر وعمر وعثمان ـ قد فرّوا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم أحد ، ولم يثبت معه إلّا القليل ، وفي مقدمتهم أميرالمؤمنين عليه‌السلام .

وهناك آيات اُخرىٰ كثيرة في هذا الشأن لا مجال لذكرها ، وقد استعرضت عدداً منها في الفصول التي تحدّثت فيها عن الصحابة في كتابي ( الصحوة ) فليراجع .

الصحابة في السنة النبوية :

قول الشيخ :

ومن اعتقد ما يخالف كتاب الله وسنة نبيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد كفر (٢) .

قلت : أما كتاب الله ، فقد بينا أننا لا نعتقد ما يخالفه من خلال الشواهد القرآنية التي أوردناها ، وتبين أن عقيدتنا مطابقة لكتاب

_______________

(١) تفسير الطبري ٤ / ٧٤ .

(٢) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ١٣ .


الله العزيز فيما يتعلق بالصحابة .

وبقي لنا أن نبين عقيدتنا فيهم من خلال السنة النبوية الشريفة ، وما ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حق بعض الصحابة ، معتمدين في ذلك علىٰ أقوىٰ الروايات التي وردت في أقوىٰ مصادر أهل السنة وفي مقدمتها صحاحهم :

لقد أكد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن أصحابه سوف ينقلبون علىٰ أعقابهم ويحدثون في دين الله ما ليس منه في جملة من الأحاديث النبوية الشريفة والتي تكاد تكون متواترة عن جمع من الصحابة ، كما في حديث الحوض ، وكما أخبر بأنهم سوف يتنافسون علىٰ الدنيا ويحرصون علىٰ الامارة وستكون ندامة عليهم وحسرة .

وقد أثبتت الوقائع كل ذلك ، فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يترك شيئاً لم يبينه لأُمته ، ولا خاف عليهم فتنة إلّا وحذرهم منها ، حتىٰ أعذر إليهم لكيلا يكون لأحدهم حجة بعد ذلك ، وفيما يلي سوف نستعرض بعض هذه الأحاديث من أوثق مصادر أهل السنة :

١ ـ في الصحيحين ـ واللفظ لمسلم ـ عن عقبة بن عامر ، قال : صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علىٰ قتلىٰ أُحد ، ثم صعد المنبر كالمودع للأحياء والأموات ، فقال : « إني فرطكم علىٰ الحوض ، وإن عرضه كما بين أيلة إلىٰ الجحفة ، إني لست أخشىٰ عليكم أن تشركوا


بعدي ، ولكني أخشىٰ عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها ، وتقتتلوا ، فتهلكوا ، كما هلك ممن كان قبلكم » (١) .

٢ ـ عن أبي وائل ، قال : قال عبدالله : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « أنا فرطكم علىٰ الحوض ، ليرفعن إلي رجال منكم ، حتىٰ إذا أهويت لأُناولهم ، اختلجوا دوني ، فأقول : أي رب ، أصحابي ، فيقول : لا تدري ما أحدثوا بعدك » (٢) .

٣ ـ عن أبي حازم ، قال : سمعت سهل بن سعد يقول : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : « أنا فرطكم علىٰ الحوض ، من ورده شرب منه ، ومن شرب منه لم يظمأ بعده أبداً ، ليرد علي أقوام أعرفهم ويعرفوني ، ثم يحال بيني وبينهم... » (٣) .

٤ ـ عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : « ليردن علي ناس من أصحابي الحوض حتىٰ إذا عرفتهم اختلجوا دوني ، فأقول : أصحابي ، فيقول : لا تدري ما أحدثوا بعدك » (٤) .

٥ ـ عن أبي هريرة أنه كان يحدّث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : « يرد

_______________

(١) صحيح مسلم ٤ / ١٧٩٦ ، صحيح البخاري ٨ / ١١٢ .

(٢) صحيح البخاري ٨ / ١٤٩ ، صحيح مسلم ٤ / ١٧٩٤ .

(٣) صحيح البخاري ٩ / ٥٨ باب الفتن .

(٤) صحيح البخاري ٨ / ١٤٩ ، صحيح مسلم ٤ / ١٨٠٠ .


علي يوم القيامة رهط من أصحابي فيحلؤن عن الحوض ، فأقول : يا رب أصحابي ، فيقول : إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنهم ارتدوا علىٰ أدبارهم القهقرىٰ » (١) .

لاحظ عبارة ( ارتدوا ) في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٦ ـ عن ابن المسيب أنه كان يحدّث عن أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : « يرد علي الحوض رجالٌ من أصحابي فيحلؤن عنه فأقول : يا رب أصحابي ، فيقول : إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنهم ارتدوا علىٰ أدبارهم القهقرىٰ » (٢) .

٧ ـ عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « بينا أنا قائم ، إذا زمرة ، حتىٰ إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال : هلم ، فقلت : أين ؟ قال : إلىٰ النار والله ، قلت : وما شأنهم ؟ قال : إنهم ارتدوا بعدك علىٰ أدبارهم القهقرىٰ ، ثم إذا زمرة حتىٰ إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم ، فقال هلم ، قلت : أين ؟ قال : إلىٰ النار والله ، قلت : ما شأنهم ؟ قال : إنهم ارتدوا بعدك علىٰ أدبارهم القهقرىٰ ، فلا أراه

_______________

(١) صحيح البخاري ٨ / ١٤٩ ـ ١٥٢ باب الحوض ، ما جاء في باب الرقاق وأن لا عيش إلّا عيش الآخرة .

(٢) صحيح البخاري ٨ / ١٤٩ ـ ١٥٢ باب الحوض ، ما جاء في باب الرقاق وأن لا عيش إلّا عيش الآخرة .


يخلص منهم إلّا مثل همل النعم » (١) .

٨ ـ وعن أُم سلمة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنها قالت : كنت أسمع الناس يذكرون الحوض ، ولم أسمع ذلك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما كان يوماً من ذلك والجارية تمشطني ، فسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : « أيها الناس » ، فقلت للجارية : استأخري عني ، قالت : إنما دعا الرجال ولم يدع النساء ، فقلت : إني من الناس ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « إني لكم فرط علىٰ الحوض ، فاياي لا يأتيني أحدكم فيُذب عني كما يُذب البعير الضال فأقول : فيم هذا ؟ فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول : سحقاً » (٢) .

٩ ـ عن أبي سعيد الخدري عن أبيه قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول علىٰ هذا المنبر : « ما بال رجال يقولون : إن رحم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تنفع قومه ! بلىٰ والله ، إن رحمي موصولة في الدنيا والآخرة ، وإني أيها الناس فرط لكم علىٰ الحوض ، فاذا جئتم قال رجل : يا رسول الله ، أنا فلان بن فلان ، وقال أخوه : أنا فلان بن فلان ، قال لهم : أما

_______________

(١) صحيح البخاري ٨ / ١٤٩ ـ ١٥٢ باب الحوض ، ما جاء في باب الرقاق وأن لا عيش إلّا عيش الآخرة .

(٢) صحيح مسلم ٤ / ١٧٩٠ .


النسب فقد عرفته ، ولكنكم أحدثتم بعدي وارتددتم القهقرىٰ » (١) .

١٠ ـ عن أبي بكرة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : « ليردن علي رجال ممن صحبني ورآني حتىٰ إذا رفعوا إلي ورأيتهم اختلجوا دوني فلأقولن : رب أصحابي ، أصحابي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك » (٢) .

كما عيّرت عائشة أُم المؤمنين مروان بن الحكم بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد لعنه ، فقد روي عن عائشة رضي الله عنها من طرق ذكرها ابن خيثمة أنها قالت لمروان بن الحكم ـ حين قال لاخيها عبد الرحمن بن أبي بكر لما امتنع من البيعة ليزيد بن معاوية بولاية العهد ما قال ـ والقصة مشهورة : أما أنت يا مروان فأشهد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعن أباك وأنت في صلبه... (٣) .

إلى غير ذلك من النصوص التي تثبت أن الصحابة لم يكونوا كلهم عدولاً ولا سواء في الميزان عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هذا مع أن الصحابة أنفسهم لم يكونوا يعتقدون في أنفسهم ما يعتقده القائلون بعدالتهم المطلقة فيهم ، فقد ورد عن بعض الصحابة الاعتراف بأنهم

_______________

(١) مسند أحمد ٣ / ١٨ .

(٢) مسند أحمد ٥ / ٤٨ .

(٣) أسد الغابة ١ / ٥١٤ .


قد أَحدثوا بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فعن العلاء بن المسيب عن أبيه قال : لقيت البراء بن عازب رضي‌الله‌عنه فقلت : طوبىٰ لك ، صحبت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبايعته تحت الشجرة ، فقال : يا ابن أخي ، إنك لا تدري ما أَحدثنا بعده !! (١) .

وعن ابن عباس قال : يقول أحدهم : أبي صحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولنعلٌ خلق خير من أبيه (٢) .

هذه بعض الشهادات التي تبين حال الصحابة ، وأجد ذلك كافياً في إثبات صحة اعتقادنا فيما يتعلق بالصحابة ، وقد ثبت أننا لا نخالف في ذلك كتاب الله ولا سنة نبيه المتواترة ، كما أن نظريتنا تنطبق علىٰ الواقع من سيرة الصحابة وباعترافاتهم .

الصحابة وأهل البيت :

قال الشيخ ابن عبد الوهاب في « مطلب الوصية بالخلافة » ، فيما ينسبه من القول إلىٰ الشيعة :

وأن الله اختار لصحبته من يبغض أجلّ أهل بيته عليهم‌السلام .

_______________

(١) صحيح البخاري ٥ / ١٥٩ ـ ١٦٠ .

(٢) مجمع الزوائد ١ / ١١٣ وقال : رواه البزار ورجاله رجال الصحيح .


نقول : ليس الشيعة وحدهم يعتقدون ذلك ، بل إن كبار المحدثين من أهل السنة والذين أخرجوا الروايات المتعلقة بذلك في أهم مصادر السنة يعترفون بذلك ، وفيها اعترافات صريحة من بعض الصحابة ببغضهم أهل البيت ، وإليك جملة من هذا الروايات :

١ ـ عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحرث : أن العباس بن عبد المطلب دخل علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مغضباً وأنا عنده فقال : « ما أغضبك ؟ » قال : يا رسول الله ما لنا ولقريش إذا تلاقوا بينهم تلاقوا بوجوه مبشرة ، وإذا لقونا بغير ذلك ؟ قال : فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتىٰ احمرّ وجهه ثم قال : « والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الايمان حتىٰ يحبكم لله ولرسوله » ، ثم قال : « أيها الناس ، من آذىٰ عمي فقد آذاني ، فانما عم الرجل صنو أبيه » (١) .

٢ ـ عن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه قال : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آخذ بيدي ونحن نمشي في بعض سكك المدينة إذ أتينا علىٰ حديقة ، فقلت : يا رسول الله ما أحسنها من حديقة ! فقال : « إن لك في الجنة أحسن منها... » فلما خلا لي الطريق اعتنقني ثم أجهش باكياً ، قلت : يا رسول الله ، ما يبكيك ؟ قال : « ضغائن في صدور أقوام لا

_______________

(١) سنن الترمذي ٥ / ٦٥٢ وقال : هذا حديث حسن صحيح ، المستدرك ٣ / ٢٣٣ ، مسند أحمد ٤ / ١٦٥ ، مصابيح السنة ٤ / ١٩١ .


يبدونها لك إلّا من بعدي » قال : قلت : يا رسول الله ، في سلامة من ديني ؟ قال : « في سلامة من دينك » (١) .

٣ ـ عن ابن بريدة عن أبيه ، قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علياً أميراً علىٰ اليمن ، وبعث خالد بن الوليد علىٰ الجبل ، فقال : « إن اجتمعتما فعليّ علىٰ الناس » ، فالتقوا وأصابوا من الغنائم ما لم يصيبوا مثله ، وأخذ عليّ جارية من الخمس ، فدعا خالد بن الوليد بريدة ، فقال : اغتنمها فأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما صنع ، فقدمت المدينة ودخلت المسجد ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في منزله ، وناس من أصحابه علىٰ بابه ، فقالوا : ما الخبر يا بريدة ؟ فقلت : خيراً ، فتح الله علىٰ المسلمين ، فقالوا : ما أقدمك ؟ قال : جارية أخذها علي من الخمس ، فجئت لأُخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فقالوا : فأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنّه يسقط من عين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسمع الكلام ، فخرج مغضباً وقال : « ما بال أقوام ينتقصون علياً ، من ينتقض علياً فقد انتقصني ومن فارق علياً فقد فارقني ، إن علياً مني وأنا منه ، خُلق من طينتي وخُلقت من طينة إبراهيم ، وأنا أفضل من إبراهيم ، ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم » ، وقال : « يا بريدة ، أما علمت أن لعلي أكثر من

_______________

(١) مجمع الزوائد ٩ / ١١٨ .


الجارية التي أخذ ، وإنه وليكم بعدي » ، فقلت : يا رسول الله ، ما بالصحبة إلّا بسطت يدك حتىٰ أُبايعك علىٰ الاسلام جديداً ، قال : فما فارقته حتىٰ بايعته علىٰ الاسلام (١) .

وفي رواية ابن عساكر ، قال بريدة : وكنت من أشد الناس بغضاً لعلي ، وقد علم خالد بن الوليد... ( إلىٰ أن قال ) : فرأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد غضب غضباً لم أره غضب مثله قط إلّا يوم قريظة والنضير ، فنظر إلي فقال : « يا بريدة ، إن علياً وليكم بعدي ، فأحب علياً فانه يفعل ما يؤمر »...

وقال عبدالله بن عطاء : حدثت بذلك أبا حرب بن سويد بن غفلة فقال : كتمك عبدالله بن بريدة بعض الحديث ، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : « أنافقت بعدي يا بريدة ؟! » (٢) .

٤ ـ وعن عمرو بن شأس الاسلمي ـ وكان من أصحاب الحديبية ـ قال : خرجت مع علي عليه‌السلام إلىٰ اليمن فجفاني في سفري ذلك حتىٰ وجدت في نفسي عليه ، فلما قدمت المدينة أظهرت شكايته في المسجد حتىٰ سمع بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدخلت المسجد ذات غداة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس في ناس من أصحابه ، فلما رآني أبدا

_______________

(١) المعجم الاوسط ٦ / ٢٣٢ .

(٢) تاريخ دمشق ٤٢ / ١٩١ .


لي عينيه ـ يقول حدد النظر إلي ـ حتىٰ إذا جلست قال : « يا عمرو والله لقد آذيتني » ، قلت : أعوذ بالله من أذاك يا رسول الله ، قال : « بلىٰ ، من آذىٰ علياً فقد آذاني » (١) .

٥ ـ وعن سعد بن أبي وقاص ، قال : كنت جالساً في المسجد أنا ورجلين معي ، فنلنا من عليّ ، فأقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غضبان يُعرف في وجهه الغضب ، فتعوذت بالله من غضبه ، فقال : « ما لكم ومالي ، من آذىٰ علياً فقد آذاني » (٢) .

٦ ـ عن حيان الأسدي ، سمعت علياً يقول : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « إن الأُمة ستغدر بك بعدي وأنت تعيش علىٰ ملتي وتُقتل علىٰ سنتي ، من أحبك أحبني ومن أبغضك أبغضني ، وإن هذه ستخضب من هذا » يعني لحيته من رأسه (٣) .

٧ ـ عن جابر ، قال : قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلىٰ علي بن أبي طالب يوم الطائف وأطال مناجاته فرأىٰ الكراهية في وجوه رجال ، فقالوا : قد

_______________

(١) مجمع الزوائد ٩ / ١٢٩ وقال : رواه أحمد والطبراني باختصار والبزار أخصر منه ورجال أحمد ثقات .

(٢) المصدر السابق ٩ / ١٢٩ وقال : رواه أبو يعلىٰ والبزار باختصار ورجال أبي يعلىٰ رجال الصحيح غير محمود بن خداش وقنان وهما ثقتان .

(٣) المستدرك ٣ / ١٤٢ وصححه ووافقه الذهبي .


أطال مناجاته منذ اليوم ، فقال : « ما أنا انتجيته ، ولكن الله انتجاه » (١) .

٨ ـ عن زيد بن أرقم قال : كانت لنفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبواب شارعة في المسجد ، فقال يوماً : « سدّوا هذه الأبواب إلّا باب علي » ، فتكلم في ذلك ناس ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحمد الله وأثنىٰ عليه ، ثم قال : « أما بعد فاني أُمرت بسدّ هذه الأبواب غير باب علي ، فقال فيه قائلكم ، والله ما سددت شيئاً ولا فتحته ، ولكن أُمرت بشيء فاتبعته » (٢) .

٩ ـ عن زر : قال علي : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، إنه لعهد النبي الأُمي إلي : أنه لا يحبني إلّا مؤمن ولا يبغضني إلّا منافق (٣) .

من كل هذا يتبين لنا أن عدداً غير قليل من الصحابة كانوا يبغضون أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلىٰ رأسهم أمير المؤمنين عليه‌السلام كما صرحت به هذه الروايات التي أخرجها أئمة المحدثين والحفاظ من أهل السنة ، وليس الشيعة وحدهم يدّعون ذلك ، وليس لنا أن

_______________

(١) تاريخ دمشق ٢ / ٣١٦ ، المعجم الكبير للطبراني ٢ / ١٨٦ .

(٢) المستدرك ٣ / ١٥ .

(٣) صحيح مسلم ١ / ٨٦ كتاب الايمان ، باب : الدليل علىٰ أن حب الانصار وعلي ( رضي الله عنهم ) من الايمان وعلاماته ، وبغضهم من علامات النفاق .


نقول بعد هذا سوىٰ أن أُولئك الصحابة الذين أبغضوا علياً إنما هم في الحقيقة قد ابغضوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقوله : « من أحب علياً فقد أحبني ، ومن ابغض علياً فقد أبغضني » (١) .

سب الصحابة :

وفي : « مطلب السب » قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب :

ومنها إيجابهم سب الصحابة لاسيما الخلفاء الثلاثة نعوذ بالله... ، قال الله تعالى : ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) ... ومن سب من رضي الله عنه فقد حارب الله ورسوله ، وقال : ( لَّقَدْ رَضِيَ اللَّـهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ) ... والقرآن مشحون من مدح الصحابة (رضي الله عنهم) ، فمن سبهم فقد خالف ما أمر الله من إكرامهم ، ومن اعتقد السوء فيهم كلهم أو جمهورهم فقد كذب الله تعالىٰ فيما أخبر من كمالهم وفضائلهم ، ومكذبه كافر ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « النجوم أمنة السماء فاذا ذهبت النجوم أتىٰ السماء ما توعد ، وأنا أمنة لأصحابي فاذا ذهبت أتىٰ أصحابي ما يوعدون ، وأصحابي أمنة

_______________

(١) المستدرك ٣ / ١٣٠ وصححه ووافقه الذهبي ، كما صححه الألباني أيضاً .


لاُمتي فاذا ذهب أصحابي أُتي اُمتي ما يوعدون » ... .

وقد صح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : « لعل الله اطلع علىٰ أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم قد وجبت لكم الجنة أو قد غفرت لكم » وقد صح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : « لا يدخل النار من حضر الحديبية إن شاء الله تعالىٰ » ... وقد روي بأسانيد بعضها حسن عن ابن عباس قال : كنت عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعنده علي رضي‌الله‌عنه فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « يا علي سيكون في أُمتي قوم ينتحلون حب أهل البيت لهم نبز يسمون الرافضة قاتلوهم فانهم مشركون ... (١) .

نقول :

إنّ ماذكره محمد بن عبد الوهاب ليس بحثاً علمياً مبنائياً ، فلابد أولاً من المناقشة في المباني التي تترتب عليها التفريعات ، والمبنى الأساسي الذي يدور حوله هذا البحث هو مسألة عدالة جميع الصحابة الذي أصبح محط أنظار العلماء ، ونحن فيما سبق قد ناقشنا هذه المسألة وبيّنا بطلان القول بعدالة جميع الصحابة ، وعليه فتجري قواعد الجرح والتعديل عليهم وتبحث أحوالاتهم ، ومن ثمّ يميّز الصحيح من السقيم منهم .

_______________

(١) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ١٥ ـ ١٨ .


وأمّا الأحاديث التي استشهد بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، ومنها الحديث المنسوب إلىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : « النجوم أمنة السماء... » .

فنقول : إن هذا الحديث ـ المروي بهذه الصورة ـ يشكل حجة علىٰ الشيخ وعلىٰ القائلين بقوله ، وليس حجة لهم ، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وأنا أمنة لأصحابي ، فاذا ذهبت أتىٰ أصحابي ما يوعدون... » ، فان هذا يثبت ما نذهب إليه من أن الكثير من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد انقلبوا علىٰ أعقابهم ، وهو توضيح لأحاديث ( الحوض ) التي ذكرناها سابقاً .

أما قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وأصحابي أمنة لأُمتي فاذا ذهب أصحابي أتىٰ أُمتي ما يوعدون » ، فذلك يقتضي أن الأمّة قد ضلّت بعد انقراض الصحابة وستبقىٰ كذلك إلىٰ قيام الساعة ، لأننا لا نتوقع عودة الصحابة إلىٰ الحياة مرة أُخرىٰ ، أما إذا كان المقصود بأن الأُمة ستبتلىٰ بالفتن بعد ذهاب الصحابة ، فالأُمة قد ابتليت بهذه الفتن في وجود الصحابة ، وما مقتل عثمان وما جرىٰ من حروب الجمل وصفين وغير ذلك إلّا دليلاً علىٰ ما نقول .

إن هناك تناقضاً في هذا الحديث لا يمكن حلّه ، لأن هذا الحديث قد تعرّض إلىٰ عملية تحريف في صيغته خدمة لأغراض


القائلين بعدالة الصحابة المطلقة ، ولكنهم أوقعوا أنفسهم في هذا التناقض ، ويأبىٰ الله إلا أن يكشف الزيف .

أما كيف يمكن أن يُحل هذا الاشكال ؟ فذلك لا يتم إلا بالرجوع إلىٰ الصيغة الصحيحة لهذا الحديث ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « النجوم أمان لأهل السماء فان طمست النجوم أتىٰ السماء ما يوعدون ، وأنا أمان لأصحابي فاذا قبضت أتىٰ أصحابي ما يوعدون ، وأهل بيتي أمان لأُمتي فاذا ذهب أهل بيتي أتىٰ أُمتي ما يوعدون » (١) .

وبذلك يتبين أن أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم الأمان لأهل الأرض ، وهم الذين أخبر النبي بأنهم الثقل الثاني الذي لا يفارق الثقل الأكبر ( القرآن الكريم ) حتىٰ يردا عليه الحوض معاً .

والشواهد علىٰ ذلك أكثر من أن تحصىٰ ، وقد اعترف بذلك العديد من علماء وحفاظ أهل السنة .

قال ابن حجر الهيتمي المكي : وفي رواية صحيحة : « إني تارك فيكم أمرين لن تضلوا إن اتبعتموهما : كتاب الله وأهل بيتي عترتي » ، وزاد الطبراني : « إني سألت ذلك لهما فلا تقدموهما فتهلكوا ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ، ولا تعلموهم فانهم أعلم منكم »... .

_______________

(١) المستدرك ٣ / ٤٥٧ .


والحاصل أن الحث وقع علىٰ التمسك بالكتاب وأهل البيت ، ويستفاد من مجموع ذلك بقاء الكتاب وأهل البيت إلىٰ قيام الساعة .

ثم اعلم أن لحديث التمسك بالكتاب وأهل البيت طرقاً كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابياً... وفي بعض تلك الطرق أنه قال ذلك بحجة الوداع بعرفة ، وفي أُخرىٰ أنه قاله بالمدينة في مرضه وقد امتلأت الحجرة بأصحابه ، وفي أُخرىٰ أنه قال ذلك بغدير خم ، وفي أُخرىٰ أنه قام خطيباً بعد انصرافه من الطائف... .

ولا تنافي ، إذ لا مانع من أنه كرر عليهم ذلك في تلك المواطن وغيرها ، إهتماماً بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة...

وفي أحاديث الحث علىٰ التمسك بأهل البيت إشارة إلىٰ عدم انقطاع متأهل منهم للتمسك به إلىٰ يوم القيامة كما أن الكتاب العزيز كذلك ، ولهذا كانوا أماناً لأهل الأرض... (١) .

وتكفينا هذه الشهادة من خصم عنيد للشيعة ، فانه بعد أن يعترف بكل ذلك يعود إلىٰ تعصبه فيتحامل علىٰ الشيعة ويكيل لهم الاتهامات الباطلة ، وما ذلك إلا لجهله بحقيقة الشيعة الذين فهموا

_______________

(١) الصواعق المحرقة : ٢٣٠ ـ ٢٣٢ .


جيداً وصية نبيهم الكريم وتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ .

أما الحديث الذي يدعي أن الله قد غفر لأهل بدر مهما عملوا ، فيكذبه الواقع ، لأن بعض البدريين خالفوا أوامر النبي ووصاياه ، وطبع علىٰ قلب البعض منهم بنص القرآن الكريم كما ثبت في قصة ثعلبة بن حاطب .

أما أن أحداً ممن حضر الحديبية لا يدخل النار ، فعلماء أهل السنة ينقضون ذلك ، فقد قال ابن حزم : وعمار رضي‌الله‌عنه قتله أبو العادية يسار بن سبع السلمي ، شهد بيعة الرضوان ، فهو من شهداء الله له بأنه علم ما في قلبه وأنزل السكينة عليه ورضي عنه ، فأبو العادية رضي‌الله‌عنه متأول مجتهد مخطئ فيه باغ عليه مأجور أجراً واحداً !! وليس هذا كقتلة عثمان رضي‌الله‌عنه ، لأنهم لا مجال للإجتهاد في قتله ... !! بل هم فساق محاربون سافكون دماً حراماً عمداً بلا تأويل علىٰ سبيل الظلم والعدوان ، فهم فساق ملعونون (١) .

يقول ابن حزم هذا وينسىٰ أن في جملة قتلة عثمان رجل ممن شهد بيعة الرضوان في الحديبية وهو عبد الرحمن بن عديس البلوي ، وفي ترجمته مايأتي :

_______________

(١) الفصل في الملل والنحل ٤ / ١٦١ .


مصري شهد الحديبية ، عن يزيد بن حبيب قال : كان عبد الرحمن ابن عديس البلوي ممن بايع تحت الشجرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال أبو عمرو : هو كان الأمير علىٰ الجيش القادمين من مصر إلىٰ المدينة الذين حصروا عثمان وقتلوه (١) .

فاذا كان قتلة عثمان كما يصفهم ابن حزم وغيره كابن كثير ، فكيف تكون الشهادة لهم بالجنة ؟!!

وفضلاً عن ذلك ، فان الأحاديث الصحيحة قد جاءت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإخبار بأن قاتل عمار بن ياسر وسالبه في النار ، وأبو العادية قاتل عمار وهو من أهل الحديبية فهو في النار رغم كل إدعاءات ابن حزم وغيره ، مما يثبت عدم صحة الحديث الذي يدعي بأن أحداً ممن بايع تحت الشجرة لا يدخل النار .

أما الحديث المزعوم عن الرافضة ، فنقول فيه : إن هذا الحديث هو من جملة الاحاديث المكذوبة التي اختلقتها السياسة الجائرة لتتخذها ذريعة للفتك بالمعارضين لأنظمة الحكم التي كان يقودها الطغاة من بني أُمية وبني العباس ، ومسألة الوضع في الحديث من باب الخصومة السياسية والمذهبية مسألة معروفة عند الباحثين

_______________

(١) الاستيعاب ٢ / ٨٤٠ ، أُسد الغابة ٣ / ٣٧٠ .


المحققين في حوادث القرن الأول الهجري وما بعده .

وإذا كان المقصود بالروافض الذين رفضوا خلافة الشيخين ، فقد كان ينبغي علىٰ الصحابة المخلصين الملتزمين بأوامر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبادروا إلىٰ قتل كل من أمير المؤمنين عليه‌السلام وجميع بني هاشم وعدداً من كبار الصحابة كسعد بن عبادة والزبير بن العوام وعمار بن ياسر وغيرهم ، لأنهم امتنعوا عن بيعة أبي بكر لفترة ما ، أما سعد بن عبادة فقد امتنع عن البيعة حتىٰ توفي كما هو ثابت في مصادر التاريخ والحديث .

فضائل الصحابة

وقال محمد بن عبد الوهاب أيضاً :

وقد تواتر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يدل علىٰ كمال الصحابة (رضي الله عنهم) خصوصاً الخلفاء الراشدين ، فان ما ذكر في مدح كل واحد مشهور بل متواتر ، لأن نقلة ذلك أقوام يستحيل تواطؤهم علىٰ الكذب ويفيد مجموع أخبارهم العلم اليقيني بكمال الصحابة وفضل الخلفاء... (١) .

_______________

(١) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ١٨ .


ينبغي أولاً أن نشير إلىٰ أن هناك فرقاً بين القول بسب الصحابة ، وبين تفصيل أحوالهم وبيان اتجاهاتهم وولاءاتهم المختلفة ، فالخلط بين المفهومين مغالطة كبيرة .

وعلىٰ هذا الأساس ـ وكما قد تبين من بعض المباحث المتقدمة ـ نقول : إن الشيعة لا يسبون الصحابة بهذا المفهوم الذي يذكره الشيخ ويدعيه ، وإنما يقولون : أن صفة العدالة المطلقة منتفية عنهم جميعاً ، فبعضهم عدول وبعضهم غير ذلك ، والقول بارتداد بعضهم ليس كلاماً اخترعته الشيعة ، بل هو مما أخبر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصدقه الوحي كما مر .

وبهذا يتبين أن القرآن الكريم والسنة النبوية المتواترة تؤيد قول الشيعة في الصحابة .

أما هذا التناقض الذي يلمسه المرء بين عبارات الثناء من جهة وعبارات التوبيخ وتهمة الارتداد والإحداث لبعض الصحابة ، فناشئ عن أمرين :

١ ـ إن النصوص التي ذكرت الصحابة بعبارات التبجيل ليست مطلقة بحيث تشمل كل من يحمل إسم صحابي ، بل فيها إشارات واضحة بأن هذه العبارات موجهة لفئات معينة من الصحابة ، لذا نجد أن بعض الكلمات أو العبارات التي ترد في نفس الآية أو في


غيرها من الآيات تستهدف توضيح الأمر وبيان من هم المقصودون بعبارات الثناء .

ومن النصوص القرآنية التي طالما استشهد بها القائلون بعدالة الصحابة المطلقة :

قوله تعالىٰ ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّـهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّـهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) (١) .

فان العبارة الاخيرة تشترط المغفرة والأجر العظيم للذين آمنوا وعملوا الصالحات من المؤمنين فقط وليس كلهم ، وقد أوقع ذلك بعض المفسرين في الحرج ، لأن ذلك يناقض الإدعاء بعدالة الصحابة أجمعين ، فحاولوا صرف العبارة عن معناها الحقيقي ، فتردد البعض في القطع بتفسير مدلولها ، كما يتضح من قول الرازي في بيان مدلول لفظة ( منهم ) حيث قال : بأنها لبيان الجنس لا للتبعيض ويحتمل أن يقال هو للتبعيض (٢) .

_______________

(١) سورة الفتح : ٢٩ .

(٢) التفسير الكبير ٢٨ / ١٠٩ .


وقوله تعالىٰ ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّـهَ يَدُ اللَّـهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ) (١) .

ففي هذه الآية إشارة واضحة إلىٰ إمكان أن ينكث بعض الذين بايعوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيعتهم ، وقد حدث ذلك فعلاً بشهادة كتب التاريخ والسيرة والحديث .

٢ ـ إن الروايات التي جاء فيها مدح الكثير من الصحابة ـ والتي كانت سبباً في انخداع المسلمين ـ هي ليست إلّا روايات مختلقة كانت تستهدف طمس فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام وأهل البيت عامة .

روىٰ أبو الحسن المدائني في كتاب الاحداث قال : كتب معاوية نسخة واحدة إلىٰ عماله بعد عام الجماعة : أن برئت الذمة ممن روىٰ شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته ، فقامت الخطباء في كل كورة وعلىٰ كل منبر يلعنون علياً ويبرؤون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته ، وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة ، لكثرة من بها من شيعة علي عليه‌السلام ، فاستعمل عليهم زياد بن سمية ، وضم إليه البصرة ، فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف ، لأنه كان منهم أيام علي عليه‌السلام ، فقتلهم تحت كل حجر ومدر وأخافهم وقطع الأيدي

_______________

(١) سورة الفتح : ١٠ .


والأرجل وسمل العيون وصلبهم علىٰ جذوع النخل وطردهم وشردهم عن العراق ، فلم يبق بها معروف فيهم .

وكتب معاوية إلىٰ عماله في جميع الآفاق : إلّا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة ، وكتب إليهم : أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه ، فأدنوا مجالسهم وقربوهم وأكرموهم ، واكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته .

ففعلوا ذلك حتىٰ أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصِلات والكساء والحباء والقطائع ، ويفيضه في العرب منهم والموالي ، فكثر ذلك في كل مصر وتنافسوا في المنازل والدنيا ، فليس يجيء أحد مردود من الناس عاملاً من عمال معاوية فيروي في عثمان فضيلة أو منقبة إلّا كتب اسمه وقربه وشفّعه ، فلبثوا بذلك حيناً .

ثم كتب إلىٰ عماله : أن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر وفي كل وجه وناحية ، فاذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلىٰ الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين ، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلّا وتأتوني بمناقض له في الصحابة ، فإن هذا أحب إليّ وأقرّ لعيني وأدحض لحجة أبي تراب


وشيعته وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضله .

فقرئت كتبه علىٰ الناس ، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها ، وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرىٰ ، حتىٰ أشادوا بذكر ذلك علىٰ المنابر ، وأُلقي إلىٰ معلمي الكتاتيب فعلّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع ، حتىٰ رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن ، وحتىٰ علموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم ، فلبثوا بذلك ما شاء الله...

فظهر حديث كثير موضوع وبهتان منتشر ومضىٰ علىٰ ذلك الفقهاء والقضاة والولاة ، وكان أعظم الناس في ذلك بليّة القرّاء المراؤون ، والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك ، فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ويقربوا مجالسهم ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل ، حتىٰ انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلىٰ أيدي الديّانين الذين لا يستحلّون الكذب والبهتان فقبلوها ورووها وهم يظنون أنها حق .

ولو علموا أنها باطلة لما رووها ولا تدينوا بها...

وقد روىٰ ابن عرفة المعروف بنفطويه ـ وهو من أكابر المحدّثين وأعلامهم ـ في تاريخه ما يناسب هذا الخبر وقال : إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أُمية


تقرباً إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أُنوف بني هاشم (١) .

فمعظم الفضائل التي جاءت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الصحابة ومدحهم هي في الحقيقة نصوص موضوعة نسبت إليه زوراً وبهتاناً ولا تمت إلىٰ الحقيقة بصلة ، وكان ذلك بوحي من معاوية الذي سخر أجهزته الاعلامية في خدمة هذا الغرض .

إن نظرة متفحصة لهذه الروايات المتكاثرة في فضائل الصحابة تكشف للباحث آثار الوضع عليها ، وقد وضعت روايات كثيرة في مقابل الروايات الصحيحة التي جاءت في فضائل أهل البيت وهي أكثر من أن تحصىٰ ، كرواية « أبوبكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة » والتي لا يجد الباحث عناءً في معرفة أنها قد وضعت في مقابل الحديث الصحيح « الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة » مثلاً .

وقد مرّ فيما سبق الاشارة إلىٰ بعض هذه الروايات التي وضعت في مقابل الروايات الصحيحة في فضل أمير المؤمنين عليه‌السلام ، كقصة المرأة التي جاءت إلىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأوصاها بأن تأتي أبا بكر إذا توفي النبي ... .

_______________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١١ / ٤٤ ـ ٤٦ .


واستعراض هذه الروايات يحتاج إلىٰ الكثير من الوقت ، فنتركها إلىٰ فطنة القارئ وإرادته في البحث عن الحقيقة بعقل متفتح .

إن المتناقضات التي يلمسها الباحث في فضائل الصحابة ـ وبخاصة الخلفاء الثلاثة الأوائل ـ كافية لأن تكشف عن زيفها ، ومن الأمثلة علىٰ ذلك أنهم يروون أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد قال : « لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبابكر خليلاً... » ، وتجدهم في المقابل يروون قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « إن لكل نبي خليلاً من أُمته وإن خليلي عثمان بن عفان » !! (١) .

إن هذه الروايات المكذوبة ما هي إلا إفرازات الواقع الذي أراد معاوية تثبيته في أذهان الناس ، فانه أطلق العنان أولاً للرواية في فضائل عثمان فتسابق الوضاعون في إختلاقها ، حتىٰ إذا وجد أنها قد طغت كالسيل أمر بالرواية في فضائل الخليفتين السابقين له ، ولكن الوضاعين ـ رغم جهودهم غير المشكورة ـ لم يستطيعوا أن يخرجوا من المأزق الذي وضعوا فيه رغم إغراقهم في رواية الفضائل المكذوبة لبعض الصحابة .

وعلىٰ أي حال فنحن لا نريد الاطالة في هذا الموضوع ، إلّا أننا

_______________

(١) تاريخ مدينة دمشق ٣٩ / ١٢٠ .


نشير إلىٰ أن هذه الروايات علىٰ كثرتها لم تستطع طمس الحقائق وقلبها كلية رغم أنها حققت نجاحاً كبيراً في هذا الشأن ، لكن الباحث المنصف يستطيع التوصل إلىٰ الحقيقة إذا ما تناول الأمر بشكل موضوعي وطرح رداء التعصب والتقليد الأعمىٰ .

أسماء الصحابة :

قال الشيخ في « مطلب استهانتهم بأسماء الصحابة » :

وقد تواتر عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يدل علىٰ وجوب تعظيمهم وإكرامهم ، وقد أرشد الله تعالىٰ إلىٰ ذلك في مواضع من كتابه ، ويلزم من إهانة هؤلاء إياهم استخفافهم لذلك عندهم ، ومن اعتقد ما يوجب إهانتهم فقد كذب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخبر من وجوب إكرامهم وتعظيمهم ، ومن كذبه فيما ثبت عنه قطعاً فقد كفر .

ومن عجب أنهم يتجنبون التسمية بأسماء الأصحاب ويسمّون بأسماء الكلاب ، فما أبعدهم عن الصواب وأشبههم بأهل الضلال والعقاب (١) .

وهذا المطلب كما ذكرنا له صلة بمسألة أصل عدالة الصحابة جميعاً ، لتكون مناقشاتنا مبتنية علىٰ المباني والأسس الصحيحة ،

_______________

(١) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ٢٦ ـ ٢٧ .


لا كما فعله محمد بن عبد الوهاب وما شاكله من إيراد المطالب وسردها من دون البحث في المباني ، ولمّا أثبتنا فيما سبق بطلان القول بعدالة جميع الصحابة ، وأن قواعد الجرح والتعديل تجري عليهم ، فالشيعة وكل عاقل يبحثون في أحوالات الصحابة ، فمن ثبت علىٰ الايمان ولم يكن منافقاً ولم يغير ولم يبدّل ، فالشيعة وكل عاقل يحترمونه ويعطونه المقام العالي ويقتدون به ويسمّون اولادهم بأسمائهم .



الفصل الرابع : أُمّ المؤمنين عائشة

قال الشيخ في « مطلب سبهم عائشة رضي الله عنها المبرأة » :

ومنها : نسبتهم الصديقة الطيبة المبرأة عما يقولون فيها إلىٰ الفاحشة ، وقد شاع في هذه الأزمنة بينهم ذلك كما نقل عنهم . قال تعالىٰ : ( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ... ) (١) .

وقد روىٰ عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد والبخاري وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان عن عائشة رضي الله عنها أنها المبرأة المرادة من هذه الآيات .

_______________

(١) سورة النور : ١١ .


وروىٰ سعيد بن منصور وأحمد والبخاري وابن المنذر وابن مردويه عن أُم رومان رضي الله عنها ما يدل أن عائشة رضي الله عنها هي المبرأة المقصودة بهذه الآيات... (١) .

وفي مطلب « مشابهتهم اليهود » قال الشيخ :

ومن قبائحهم تشابههم باليهود ، ولهم بهم مشابهات ، منها : أنهم يضاهون اليهود الذين رموا مريم الطاهرة بالفاحشة بقذف زوجة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عائشة المبرأة بالبهتان وسلبوا بسبب ذلك الايمان... (٢) .

حديث الإفك :

إن قضية الافك تحتاج إلىٰ شيء من التفصيل ، لأن الشيخ محمد بن عبدالوهاب ـ كعادته ـ يخلط الأوراق بهدف إثارة الضجيج للتعمية علىٰ الحقائق وصرف الأُمور إلىٰ غير وجهها لينفذ بذلك إلىٰ غرضه الحقيقي ألا وهو إلصاق التهم بالشيعة جزافاً .

فقوله : ( وقد شاع في هذه الأزمنة بينهم ذلك كما نقل عنهم )

_______________

(١) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ٢٢ ـ ٢٣ .

(٢) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ٤٣ .


يحمل مغالطة كبيرة ، فهل أن الشيعة يتهمون أُم المؤمنين عائشة حقاً بهذه التهم الشنيعة ؟ ومن الذي نقل عنهم ؟ أما كان ينبغي للشيخ أن يذكر لنا مصدر هذا الخبر حتىٰ يتحقق القارئ الكريم من صحة دعواه هذه ؟ وكيف يسيغ الشيخ لنفسه أن يتهم أُمّةً مسلمة بقول مفترىٰ عليهم من حاقد قد أعمىٰ التعصب بصيرته ؟ أو ليس قد أمر الله تعالىٰ المسلمين أن يتثبتوا من صحة ما ينقل إليهم قبل أن يتهموا قوماً مؤمنين في قوله تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) (١) ؟ .

بعد هذه المقدمة نقول :

١ ـ إن إتهام الشيعة بنسبة الفاحشة إلىٰ زوج النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي محض افتراء لم يقل به أحد من الشيعة لا من السابقين ولا من اللاحقين ، بل إن الشيعة أكثر تنزيهاً وتقديساً للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكلّ الأنبياء عليهم‌السلام من جميع الطوائف المنضوية تحت إسم الاسلام ، فعلماء الشيعة قد صنّفوا كتباً لإثبات قدسية ساحة الأنبياء وبراءة عرضهم من كلّ ما يشين ، وردّوا علىٰ كلّ من ادعىٰ بجواز مثل هذه الأُمور المشينة علىٰ الأنبياء ، والتي نجد البعض منها في روايات

_______________

(١) سورة الحجرات : ٦ .


أهل السنة وبكل أسف .

وقد عبَّر السيد المرتضىٰ رحمه‌الله عن هذه الحقيقة فقال في معرض ردّه علىٰ المفسرين الذين نسبوا الخيانة الزوجية إلىٰ زوجة نوح عليه‌السلام مدّعين أن ابنه كان من سفاح ، فقال :

والوجه الثالث : أنه لم يكن ابنه علىٰ الحقيقة وإنما ولد علىٰ فراشه فقال عليه‌السلام : إن ابني ، علىٰ ظاهر الأمر ؛ فأعلمه الله تعالىٰ أن الأمر بخلاف الظاهر ونبهه علىٰ خيانة امرأته ، وليس في ذلك تكذيب خبره ، لأنه إنما أخبر عن ظنه وعما يقتضيه... وقد روي هذا الوجه عن الحسن ومجاهد وابن جريج .

قال المرتضىٰ : ولأن الأنبياء عليهم‌السلام يجب أن ينزهوا عن هذه الحال ، لأنها تعيير وتشيين ونقص في القَدْر ، وقد جنّبهم الله تعالىٰ ما دون ذلك تعظيماً لهم وتوقيراً ونفياً لكلّ ما ينفرّ عن القبول منهم (١) .

فهذا الكلام أكبر رد علىٰ من ينسب إلىٰ الشيعة الكلام بما يخل بالأدب تجاه الأنبياء عليهم‌السلام ، وذلك علىٰ العكس مما نجد في كتب وصحاح أهل السنة التي تنسب إلىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيره من الأنبياء أُموراً مشينة كالتبول من وقوف ، وخروج النبي إلىٰ المسجد وعلىٰ

_______________

(١) تنزيه الأنبياء : ١٨ .


ثوبه آثار المني ، أو أنه كان يطوف علىٰ نسائه في الساعة من الليل أو النهار في غسل واحد ، وأنه كان يسابق نساءه في الصحراء علىٰ مرأىٰ من الجيش ، أو أنه كان يحضر حفلات العرس ويتناول النبيذ من أيدي النساء وهو جالس علىٰ فراشهن ، ويسمح لجواري الحبشة بالرقص في مسجده ، وما إلىٰ ذلك من الترهات التي يطير لها أعداء الاسلام فرحاً لما فيها من مطاعن شنيعة علىٰ شخص النبي الكريم (١) .

٢ ـ أما قول الشيخ بأن أُم المؤمنين عائشة هي المرادة من الآيات ، وأن هذا مشهور متواتر بين الشيعة ، فان هذا ما تدّعيه مصادر أهل السنة قاطبة ، وهي تكاد تكون مجمعة علىٰ ذلك فعلاً ، لكن لنا في كلّ ذلك نظر ، ونحن لا نلقي الكلام جزافاً بدون الاستناد إلىٰ الدليل ، ولأجل أن تتبين الحقيقة بشكل واضح ، فسوف نستعرض أهم روايتين وردتا في أقوىٰ مصادر أهل السنة فيما يتعلّق بحديث الافك ثم نناقشها مناقشة علمية علىٰ ضوء الأدلة والشواهد ، مع الاشارة إلىٰ أقوال بعض العلماء والشراح الذين وقعوا في حيرة وارتباك واضحين وهم يحاولون تصحيح حديث

_______________

(١) أُنظر صحيح البخاري ١ / ٦٦ ، ٦٧ ، ٧٦ ، ٧٨ ، ٧٩ ، ٧ / ٢٥ ، ٤٩ ، ٥٠ .


الافك لمجرد وروده في صحيحي البخاري ومسلم ، وسوف يتبين لنا مدىٰ الاشكالات التي يطرحها هذا الحديث ، ولنبدأ بذكر الرواية الرئيسية المتفق عليها ، واللفظ فيها للبخاري :

قالت عائشة : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إِذا أراد سفراً أقرع بين أزواجه فأيهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معه ، قالت عائشة : فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيه سهمي ، فخرجت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ما أُنزل الحجاب ، فكنت أُحمل في هودجي وأُنزل فيه ، فسرنا حتىٰ إذا فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزوته تلك وقَفَلَ دنونا من المدينة قافلين ، آذن ليلة بالرحيل ، فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتىٰ جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأني أقبلت إلىٰ رحلي فلمست صدري فاذا عقدٌ لي من جزع ظفار قد انقطع ، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه .

قالت : وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلوني ، فاحتملوا هودجي فرحلوه علىٰ بعيري الذي كنت أركب عليه وهم يحسبون أني فيه .

وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يهبلن ولم يغشهن اللحم ، إنما يأكلن العلقة من الطعام ، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه ، وكنت جارية حديثة السن ، فبعثوا الجمل فساروا .

ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش ، فجئت منازلهم وليس بها


منهم داع ولا مجيب ، فتيممت منزلي الذي كنت فيه وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي .

فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت ، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش ، فأصبح عند منزلي فرأىٰ سواد إنسان نائم فعرفني حين رآني ، وكان رآني قبل الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي ، ووالله ما تكلّمنا بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ، وهوىٰ حتى أناخ راحلته فوطئ علىٰ يدها فقمت إليها فركبتها ، فانطلق يقود بي الراحلة حتىٰ أتينا الجيش موغرين في نحر الظهيرة وهم نزول ، قالت : فهلك من هلك ، وكان الذي تولىٰ كبر الافك عبدالله بن أُبي بن سلول .

قال عروة : أُخبرت أنه كان يُشاع ويتحدث به عنده فيقره ويستمعه ويستوشيه .

قال عروة أيضاً : لم يُسم من أهل الافك أيضاً إلّا حسان بن ثابت ومسطح بن أَثاثة وحمنه بنت جحش في ناس آخرين لا علم لي بهم ، غير أنهم عصبة كما قال الله تعالى ، وإن كبر ذلك يقال عبدالله بن أبي سلول .

قال عروة : كانت عائشة تكره أن يسب عندها حسان وتقول إنه


الذي قال :

فإن أبي ووالده وعرضي

لعرض محمد منكم وقاء

قالت عائشة : فقدمنا المدينة ، فاشتكيت حين قدمت شهراً والناس يفيضون في قول أصحاب الافك لا أشعر بشيء من ذلك ، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللطف الذي كنت أرىٰ منه حين أشتكي ، إنما يدخل علي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيسلم ثم يقول : « كيف تَيكُم » ثم ينصرف ، فذلك يريني ولا أشعر بالشر ، حتى خرجت حين نقهت ، فخرجت مع أُم مسطح قبل المناصع ، وكان مُتبرّزنا وكنا لا نخرج إلّا ليلاً إلىٰ ليل وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا .

قالت : فانطلقت أنا وأُم مسطح وهي ابنة أبي رُهم بن المطلب بن عبد مناف وأُمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق وابنها مسطح بن أُثاثة بن عبد المطلب ، فأقبلت أنا وأُم مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا ، فعثرت أُم مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح ، فقلت لها : بئس ما قلت ، اتسبين رجلاً شهد بدراً ؟ فقالت : أي هنتاه ولم تسمعي ما قال ؟ قالت : وقلت : ما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الافك ، قالت : فازددت مرضاً علىٰ مرضي ، فلمّا رجعت إلىٰ بيتي دخلّ علي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسلم ثم قال : « كيف تيكم »


فقلت له : أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ قالت : وأُريد أن أستيقن الخبر من قبلهما ، قالت : فأذن لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقلت لأُمي : يا أُمتاه ماذا يتحدث الناس ؟ قالت : يا بنية هوني عليك فوالله لقلّما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها لها ضرائر إلّا كثّرن عليها ، قالت : فقلت سبحان الله أوقد تحدث الناس بهذا ؟ قالت : فبكيت تلك الليلة حتىٰ أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، ثم أصبحت أبكي .

قالت : ودعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه وأُسامة بن زيد ـ حين استلبث الوحي ـ يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله .

قالت : فأما أُسامة فأشار علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه ، فقال أُسامة : أهلك ، ولا نعلم إلّا خيراً ، وأما علي فقال : يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير ، وسل الجارية تصدقك .

قالت : فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بريرة فقال : « أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك » ؟ قالت له بريرة : والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمراً قط أغمصه ، غير أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله .

قالت : فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أُبي وهو علىٰ المنبر فقال : « يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل


قد بلغني أذاه في أهلي ، والله ما علمت علىٰ أهلي إلّا خيراً ، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً وما يدخل علىٰ أهلي إلّا معي » .

قالت : فقام سعد بن معاذ أخو بني الأشهل فقال : أنا يا رسول الله أعذرك ، فإن كان من الأوس ضربت عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك .

قالت : فقام رجل من الخزرج وكانت أُم حسان بنت عمه من فخذه وهو سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج .

قالت : وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحمية فقال لسعد : كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر علىٰ قتله ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل .

فقام أُسيد بن حضير وهو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنه فانك منافق تجادل عن المنافقين .

قالت : فثار الحيّان الأوس والخزرج حتىٰ هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائم علىٰ المنبر .

قالت : فلم يزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخفضهم حتىٰ سكتوا وسكت .

قالت : فبكيت يومي ذلك كله لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم .

قالت : وأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويوماً لا يرقأ لي


دمع ولا أكتحل بنوم حتىٰ إني لأظن أن البكاء فالق كبدي .

فبينا أبواي جالسان عندي وأنا أبكي ، فاستأذنت علي إمرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي .

قالت : فبينا نحن علىٰ ذلك دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علينا فسلم ثم جلس .

قالت : ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها ، وقد لبث شهراً لا يوحىٰ إليه في شأني بشيء .

قالت : فتشهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين جلس ثم قال : « أما بعد ، يا عائشة إنه بلغني عنك كذا وكذا ، فان كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه ، فان العبد إذا اعترف ثم تاب ، تاب الله عليه » .

قالت : فلما قضىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقالته قلص دمعي حتىٰ ما أحس منه قطرة ، فقلت لأبي : أجب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عني فيما قال .

فقال أبي : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقلت لأمي : أجيبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عني فيما قاله ، قالت أُمّي : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ من القرآن كثيراً : إني والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتىٰ استقر في أنفسكم وصدقتم به فلئن قلت لكم أني بريئة لا تصدقوني


ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني ، فوالله لا أجد لي ولكم مثلاً إلّا أبا يوسف حين قال : ( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّـهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ ) .

ثم تحولت فاضطجعت علىٰ فراشي والله يعلم أني حينئذ بريئة وأن الله مبرئي ببراءتي ، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحياً يتلىٰ ، لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بأمر ، ولكن كنت أرجو أن يرىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها .

فوالله مارام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتىٰ أُنزل عليه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء ، حتىٰ أنه ليتحدر منه من العرق مثل الجمان وهو في يوم شاتٍ من ثقل القول الذي أُنزل عليه .

قالت : فسري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يضحك ، فكانت أول كلمة تكلم بها أن قال : « يا عائشه ، أما الله فقد برأك » .

قالت : فقالت لي أُمي : قومي إليه ، فقلت : والله لا أقوم إليه فاني لا أحمد إلّا الله عزوجل .

قالت : وأنزل الله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ ... ) العشر الآيات ، ثم أنزل الله هذا في براءتي .


قال أبو بكر الصديق ـ وكان ينفق علىٰ مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره : والله لا أنفق علىٰ مسطح شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة ما قال ، فأنزل الله : ( وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ ) إلىٰ قوله ( غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ، قال أبو بكر الصديق : بلىٰ والله إني لأحب أن يغفر الله لي ، فرجع إلىٰ مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال : والله لا أنزعها منه أبداً .

قالت عائشة : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري فقال لزينب : « ما ذا علمت أو رأيت » ؟ فقالت : يا رسول الله ، أحمي سمعي وبصري ، والله ما علمت إلّا خيراً .

قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعصمها الله بالورع .

قالت : وطفقت أُختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك .

قال ابن شهاب : فهذا الذي بلغني من حديث هؤلاء الرهط ، ثم قال عروة : قالت عائشة : والله إن الرجل الذي قيل له ما قيل ، ليقول : سبحان الله ، فوالذي نفسي بيده ما كشفت من كنف أُنثىٰ قط .

قالت : ثم قتل بعد ذلك في سبيل الله (١) .

وأخرج البخاري عن مسروق بن الاجدع قال : حدثتني أُم

_______________

(١) صحيح البخاري ٥ / ١٤٨ ـ ١٥٤ باب حديث الافك ، صحيح مسلم ٤ / ٢١٢٩ ـ ٢١٣٧ كتاب التوبة ، باب حديث الافك وقبول توبة القاذف .


رومان وهي أم عائشة رضي الله عنها قالت : بينا أنا قاعدة أنا وعائشة إذ ولجت امرأة من الأنصار فقالت : فعل الله بفلان وفعل ، فقالت أُم رومان : وماذاك ؟ قالت : ابني فيمن حدث الحديث ، قالت : وماذاك ؟ قالت كذا وكذا ، قالت عائشة : سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؟ قالت : نعم ، قالت : وأبو بكر ؟ قالت : نعم ، فخرت مغشياً عليها ، فما أفاقت إلّا وعليها حمىٰ بنافض فطرحت عليها ثيابها فغطيتها ، فجاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : « ما شأن هذه » ؟ قلت : يا رسول الله أخذتها الحمىٰ بنافض ، قال : « فلعلّ في حديث تحدث عنه » ؟ قالت : نعم ، فقعدت عائشة فقالت : لئن حلفت لا تصدقوني ، ولئن قلت لا تعذروني ، مثلي ومثلكم كيعقوب وبنيه والله المستعان علىٰ ما تصفون ، قالت : وانصرف ولم يقل شيئاً ، فأنزل الله عذرها ، قالت : بحمد الله لا بحمد أحد ولا بحمدك (١) .

وأخرج البخاري عن مسروق أيضاً قال : دخلنا علىٰ عائشة رضي الله عنها وعندها حسان بن ثابت ينشدها شعراً يشبب بأبيات له وقال :

حصان رزان ما تزن بريبة

وتصبح غرثىٰ من لحوم الغوافل

_______________

(١) صحيح البخاري ٥ / ١٥٤ .


فقالت له عائشة : لكنك لست كذلك ، قال مسروق : فقلت لها : لم تأذني له أن يدخل عليك وقد قال الله تعالىٰ ( وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ؟ فقالت : وأي عذاب أشد من العمىٰ ؟ قالت له إنه كان ينافح أو يهاجي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) .

وأخرج البخاري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها : والذي تولىٰ كبره ، قالت : عبدالله بن أُبي بن سلول (٢) .

هذه هي أهم الروايات التي ذكرت حديث الافك في الصحيحين ، وسنكتفي بها ونعرض عن باقي الروايات التي في المصادر الأُخرىٰ ، وسوف يتبين للقارئ الكريم أن هذه الروايات تطرح إشكالات معضلة ربما تنسف نظرية جمهور أهل السنة بنسبة القضية إلىٰ أُم المؤمنين عائشة .

الاشكالات علىٰ حديث الافك :

١ ـ قول عائشة : بعد ما أُنزل الحجاب

من المعلوم أن قضية الافك التي ترويها عائشة قد وقعت في غزوة المريسيع والتي كانت إما في السنة الخامسة أو السادسة من

_______________

(١) صحيح البخاري ٥ / ١٥٥ ، ٦ / ١٣٣ .

(٢) صحيح البخاري ٦ / ١٢٧ .


الهجرة ، أما آيات فرض الحجاب ـ التي هي في سورة النور ـ التي نزلت كلها دفعة واحدة ففي السنة الثامنة من الهجرة ، والمؤرخون وأصحاب السير يكادون يجمعون علىٰ ذلك .

٢ ـ قول عائشة : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل زينب... .

وقد صحت الروايات بأن فرض الحجاب نزل يوم زواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من زينب ، ونزل في قضيتها ، وكان ذلك بعد المريسيع وبعد خيبر التي وقعت في العام السابع من الهجرة النبوية الشريفة .

فعن ابن شهاب قال : أخبرني أنس بن مالك أنه كان ابن عشر سنين مقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة فخدمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشراً حياته ، وكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أُنزل ، وقد كان أبي بن كعب يسألني عنه ، وكان أول ما نزل في مبتنىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزينب بنت جحش : أصبح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها عروساً فدعا القوم فأصابوا من الطعام ، ثم خرجوا وبقي منهم رهط عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأطالوا المكث ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخرج وخرجت معه كي يخرجوا ، فمشىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومشيت معه حتىٰ جاء عتبة حجرة عائشة ، ثم ظن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم خرجوا فرجع ورجعت معه ، حتىٰ دخل علىٰ زينب فإذا هم جلوس لم يتفرقوا ، فرجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورجعت معه حتىٰ بلغ عتبة حجرة عائشة ، فظن أن قد خرجوا


فرجع ورجعت معه فاذا هم قد خرجوا ، فأنزل الحجاب ، فضرب بيني وبينه ستراً (١) .

٣ ـ قول عائشة : وكانت النساء خفافاً لم يهبلن ... .

لا يعقل أبداً أن لا يشعر حاملو الهودج بعدم وجودها فيه مهما كانت خفيفة الوزن ، خصوصاً وأنه قد ذكر بأن الذي كان يحمل هودجها رجلان فقط أحدهما أبو موهبة ، وفي بعض الروايات أبو مويهبة وحده (٢) .

٤ ـ قول عائشة : وكان الذي تولىٰ كبر الافك عبد الله بن أُبي .

هذا يناقض ما ورد في رواية مسروق من إتهام حسان بن ثابت بأنه هو الذي تولىٰ كبره ، وقول عائشة : وأي عذاب أشدّ من العمىٰ ، يدلّ علىٰ أن الآية قد نزلت في حسّان .

٥ ـ قول أُم رومان لعائشة : هوني عليك فوالله لقلّما كانت إمرأة قط وضيئة عند رجل يحبها لها ضرائر إلّا كثّرن عليها .

_______________

(١) صحيح البخاري ٨ / ٦٦ باب آية الحجاب ، وفيه روايات أُخرىٰ بنفس المعنىٰ عن أبي مجلز وعن أبي قلابة وعبد العزيز بن صهيب كلهم عن أنس ، وفي صحيح مسلم ٢ / ١٠٤٨ عن أبي قلابة عن أنس بنفس المعنىٰ .

(٢) السيرة الحلبية ٢ / ٢٩٢ ، فتح الباري ٨ / ٣٤٧ ، إرشاد الساري ٤ / ٣٩١ ، البداية والنهاية ٥ / ٣٢٤ .


يدل علىٰ إتهام أُم رومان أزواج النبي الأُخريات بأنهن قد اشتركن في حديث الافك ، أو ربما افتعلنه ، فيكن المتهمات فيه أولاً وآخراً .

٦ ـ قول عائشة : ودعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علي بن أبي طالب وأُسامة بن زيد ـ حين استلبث الوحي ـ يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله... .

إذا علمنا أن أُسامة بن زيد كان في السابعة عشرة من عمره حين أمّره النبي علىٰ الجيش قبل وفاته بأيام قليلة في العام الحادي عشر من الهجرة ، فيكون عمر أُسامة في السنة السادسة من الهجرة ـ عام المريسيع ـ علىٰ أبعد التقديرات ، لا يزيد علىٰ إثنتي عشرة سنة ، وهذا السن لا يؤهله لأن يكون مستشاراً في قضية بالغة الحساسية ، وذلك يناقض قول ابن حجر بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يستشير في الأمور العامة ذوي الأسنان من أكابر الصحابة (١) .

فكيف يتركهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه القضية الخطيرة ويستشير طفلاً لا خبرة عنده في هذه الأمور ؟ ولماذا لم يستشر عمر بن الخطاب صاحب الموافقات الذي ينزل القرآن بموافقته دائماً كما يقال ؟!!

_______________

(١) فتح الباري ٨ / ٣٧٨ .


٧ ـ قول عائشة : فدعا بريرة... .

لقد وردت الروايات من مصادر أهل السنة الموثوقة بأن عائشة قد اشترت بريرة بعد فتح مكة ، لأنه لما خيّر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بريرة فاختارت نفسها ، كان زوجها يبكي ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعباس : « يا عباس ألا تعجب من حب مغيث بريرة... » (١) .

٨ ـ ورد في حديث الافك قيام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علىٰ المنبر .

بينما تدل الروايات الصحيحة أن المنبر لم يكن قد اتخذ بعد في عام غزوة المريسيع ، كما تذكر الروايات أن الذي أشار علىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باتخاذ المنبر هو تميم الداري ، وقد أحس الشراح بتلك الغلطة وحاولوا أن يجدوا لها مخرجاً .

فقد قال ابن حجر العسقلاني ، وجزم به ابن سعد : بأن ذلك كان في السنة السابعة ، وفيه نظر ، لذكر العباس وتميم فيه ، وكان قدوم العباس بعد الفتح في آخر سنة ثمان وقدوم تميم سنة تسع ، وجزم ابن النجار بأن عمله كان سنة ثمان ، وفيه نظر أيضاً لما ورد في حديث الافك في الصحيحين عن عائشة قالت : فثار الحيّان الأوس والخزرج حتىٰ كادوا يقتتلوا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علىٰ المنبر فنزل فخفضهم حتىٰ سكتوا ، فإن حمل التجوز في ذكر المنبر وإلّا فهو

_______________

(١) صحيح البخاري ٧ / ٦٢ ، إرشاد الساري ٤ / ٣٩٤ ، ٧ / ٢٦١ ، فتح الباري ٨ / ٣٧٩ .


أصح مضىٰ ، وحكىٰ بعض أهل السير أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يخطب علىٰ منبر من طين قبل أن يتخذ المنبر الذي من خشب ، ويعكّر عليه أن في الأحاديث الصحيحة أنه كان يستند إلىٰ الجذع إذا خطب... (١) .

٩ ـ ورد في الرواية ذكر الصحابي سعد بن معاذ .

والمعلوم أن سعد بن معاذ قد قُتل في معركة الاحزاب ( الخندق ) ، وهي قبل المريسيع ، إذ ذهب أكثر المؤرخين والمحدثين إلىٰ أن غزوة الخندق كانت سنة أربع ، ومنهم البخاري الذي روىٰ في باب غزوة الخندق قال : قال موسىٰ بن عقبة : كانت في شوال سنة أربع (٢) .

وقال القاضي عياض : في ذكر سعد بن معاذ في هذا الحديث إشكال لم يتكلم الناس عليه ، ونبهنا عليه بعض شيوخنا ، وذلك أن الافك كان في المريسيع وكانت سنة ست فيما ذكر ابن إسحاق ، وسعد بن معاذ مات في الرمية التي رُميها بالخندق ، فدعا الله فأبقاه حتىٰ حكم في بني قريظة ، ثم انفجر جرحه فمات منها ، وكان ذلك سنة أربع عند الجميع ، إلّا ما زعم الواقدي أن ذلك كان سنة خمس (٣) .

_______________

(١) فتح الباري ٢ / ٣١٨ .

(٢) صحيح البخاري ٥ / ١٣٧ باب غزوة الخندق .

(٣) فتح الباري ٨ / ٣٨١ .


١٠ ـ ومن الأمور الملفتة للنظر في حديث الافك ، المحاوة الكلامية العنيفة التي دارت بين سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ، وقول عائشة عن سعد بن عبادة : وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً... ، وقول أُسيد بن حضير لسعد بن عبادة : فانك منافق تجادل عن المنافقين .

وهذا يتنافىٰ مع القول بعدالة الصحابة المطلقة أولاً ، وثانياً فان سعد بن عبادة صحابي عظيم وهو زعيم الأنصار ، وهو الذي كان بادر إلىٰ عقد إجتماع السقيفة علىٰ أمل أن ينال الخلافة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن مجيء المهاجرين الثلاثة ـ أبي بكر وعمر وأبي عبيدة ـ إلىٰ السقيفة أفشل مخططه ، فانصرفت الخلافة إلىٰ أبي بكر ، وأيده عليها من الانصار أُسيد بن حضير الذي حرض قومه علىٰ بيعة أبي بكر ، كما هو معروف ، بينما خرج سعد بن عبادة مغاضباً ولم يبايع أبا بكر ، ولا كان يجمع معهم في صلاة أو حج حتىٰ خرج إلىٰ الشام وقُتل هناك ، وقيل أن الجن قتلته ، وهي خرافة لا يصدقها عاقل ، فلتراجع (١) .

ومن هذا تبين لنا أن يد السياسة قد تلاعبت في الأمر ، وأن

_______________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٢١٨ ـ ٢٢٢ ، تاريخ الاسلام ٣ / ١٤٨ ، الامامة والسياسة ١ / ٢٧ ـ ٢٨ ، الطبقات الكبرى ٣ / ٦١٦ ـ ٦١٧ ، الاستيعاب ٢ / ٥٥٩ ، الاصابة ٢ / ٣٠ ، أسد الغابة ٢ / ٢٠٥ .


حديث الافك هو إحدىٰ إفرازات السياسة وانعكاس لآثارها ، فعائشة تصف سعداً بأنه كان رجلاً صالحاً قبل ذلك ، لكن هذا الصحابي العظيم صار رجلاً غير صالح لأنه امتنع عن بيعة أبي بكر ، فكان لابد أن يقحم اسمه في حديث الافك بما يسيء إلىٰ سمعته .

١١ ـ قول عائشة : فتشهّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين جلس ثم قال : « أما بعد يا عائشة ، إنه بلغني منك كذا وكذا فان كنت بريئة فسيبرئك الله... إلخ » .

نقول أولاً ، إن كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحمل في طيّاته إتهاماً لعائشة ، وهذا عجيب جداً ، إذ كيف يتفق موقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع الآيات الكريمة التي تعيب علىٰ المؤمنين سوء ظنهم ؟! وذلك في قوله تعالى ( لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَـٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ ) الآية ، فكيف فات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك ولم يظن خيراً ؟!!

والعجيب أن يذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رواية ابن عساكر عن أشرس مرفوعاً قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « ما بغت إمرأة نبي قط » ، وعن مجاهد : « لا ينبغي لامرأة كانت تحت نبي أن تفجر » .

فاذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعرف كل ذلك ، فما باله يساوره القلق فيذهب ليستشير الصبيان فيما يجب علمه ، ثم يغضب من عائشة ولا تجد منه ذلك اللطف الذي كانت تعهده منه قبل ذلك حتىٰ قالت


له عائشة ولأبويها أيضاً : لقد سمعتم هذا الحديث حتىٰ استقر في أنفسكم وصدقتم به ، فلئن قلت لكم إني بريئة لا تصدقوني... ، وفي هذا إشارة صريحة إلىٰ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبا بكر وأم رومان كانوا متيقنين من صحة ما يقال عن عائشة !!!

وفضلاً عن هذا ، فان إدعاء عائشة أنها كانت جارية صغيرة السن فعجيب أيضاً ، إذ أن الحادثة كانت في السنة السادسة من الهجرة وعمر عائشة ينبغي أن لا يقل عن خمسة عشر عاماً علىٰ أقل تقدير ، والمرأة المتزوجة منذ سنوات لا يقال لها جارية صغيرة .

كما أن قولها أنها كانت لا تقرأ من القرآن كثيراً فأعجب وأغرب بعد مضي أكثر من خمس سنوات لها في بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو مهبط الوحي ، وكأن النبي كان مقصّراً في تعليم ـ نسائه القرآن !!!

ولا ندري كيف أصبحت عائشة بعد ذلك مرجعاً دينياً مهماً تفتي وترد علىٰ الصحابة وتخطئهم ؟! بل كيف يُدّعىٰ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرنا بأن نأخذ شطر ديننا منها !!!

١٢ ـ قول عائشة : وكان أبو بكر ينفق علىٰ مسطح بن أثاثة... .

لقد وردت الروايات بأن مسطح بن أثاثة كان من أصحاب الافك ، وأن أبا بكر كان ينفق عليه قبل الحادثة هذه لقرابته من أبي


بكر وفقره ، وأن أبابكر امتنع عن التصدق عليه حتىٰ أنزل الله : ( وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ ) الآية ، فعاد إلىٰ النفقة علىٰ مسطح .

لكن الشواهد الصحيحة من التاريخ والسيرة والأثر تنافي أن يكون أبو بكر قد أنفق علىٰ أحد بعد الهجرة علىٰ الأقل ، وليس هناك ما يثبت أن أبا بكر كان في سعة من العيش بحيث يسمح له وضعه بالانفاق علىٰ غيره ، لأن عائشة ابنته وهي زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكرت أنها والنبي كانا يتضوران جوعاً ويعانيان من ضيق العيش ، ومع ذلك فان أبا بكر لم ينفق عليها شيئاً ولا أرسل لها ما يقيم أودها كما كان يفعل غيره كسعد بن عبادة الذي كانت جفنته تدور مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيوت أزواجه (١) .

إن قضية إنفاق أبي بكر علىٰ مسطح ماهي إلّا فضيلة أُخرى مفتعلة وضعتها أيدي الكذابين ليتقرّبوا إلىٰ السلطة الحاكمة ، كما اختلقت حديث الإفك المعروف كلّه .

ومَن أراد المزيد من التفصيل فعليه بكتاب حديث الإفك للسيد جعفر مرتضى العاملي ، الذي أوفى فيه علىٰ الغاية .

_______________

(١) الطبقات الكبرىٰ ٣ / ٦١٤ ، الاصابة ٢ / ٣٠ ، أُسد الغابة ٢ / ٢٠٤ .


الفصل الخامس : نقص القرآن

قال في « مطلب دعواهم نقص القرآن » :

ومنها ما ذكروه في كتبهم الحديثية والكلامية : أن عثمان رضي‌الله‌عنه نقص من القرآن ، فانه كان في سورة « الم نشرح » بعد قوله تعالىٰ : ( وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) وعلياً صهرك ، فأسقطها بحسد اشتراك الصهرية ، قالوا : وكانت سورة الأحزاب مقدار سورة الأنعام فأسقط عثمان منها ما كان في فضل ذوي القربىٰ ، قيل : أظهروا في هذه الأزمنة سورتين يزعمون أنهما من القرآن الذي أخفاه عثمان كل سورة مقدار جزء وألحقوهما بآخر المصحف سموا إحداهما سورة النورين وأُخرىٰ سورة الولاء ، يلزم من هذا تكفير الصحابة حتىٰ علي ، حيث رضوا بذلك ، فهي كالتي


قبلها في المفاسد وتكذيب قوله تعالىٰ ( لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) (١) ، وقوله : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (٢) ، ومن اعتقد عدم صحة حفظه من الاسقاط واعتقد ما ليس منه أنه منه فقد كفر ، ويلزم من هذا رفع الوثوق بالقرآن كله وهو يؤدي إلىٰ هدم الدين ويلزمهم عدم الاستدلال به والتعبد بتلاوته لاحتمال التبدل ، ما أخبث قول قوم يهدم دينهم ، روىٰ البخاري أنه قال ابن عباس ومحمد بن الحنفية : ما ترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلّا ما بين الدفتين (٣) .

من المؤسف جداً أن يضطر المرء إلىٰ الخوض في موضوع لا يجدي الكلام فيه شيئاً ولا يأتي بخير علىٰ أحد سوىٰ أعداء الاسلام والمسلمين الذين يبحثون عن أية ثغرة ينفذون منها للطعن علىٰ الاسلام والمسلمين ، وليس ثمة ثغرة ينفذون منها أفضل عندهم من موضوع تحريف القرآن ، لأن القرآن الكريم هو الجامع لشمل المسلمين حتىٰ قيام الساعة ، فالمسلمون مهما اختلفوا في

_______________

(١) سورة فصلت : ٤٢ .

(٢) سورة الحجر : ٩ .

(٣) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ١٤ ـ ١٥ .


شيء من العقائد أو الأحكام فيما يتعلّق بالأصول أو الفروع ، أو في السنة النبوية ، فهم لا يمكن أن يختلفوا في كتاب الله العزيز .

ولكن من المؤسف حقاً أن تتخذ بعض الجهات هذا القرآن العظيم وسيلة للطعن والتشنيع علىٰ إخوانهم المسلمين وباسم الاسلام ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ، ولا يلتفتون إلىٰ أنهم يضعون في أيدي أعداء المسلمين أمضىٰ الأسلحة وأقواها لضرب الاسلام .

قلنا : إن إتهام المسلمين بعضهم لبعض بتحريف القرآن لا يخدم إلّا أعداء الاسلام ، وهذا السبب وحده كافٍ للاعراض عن هذا الموضوع لو كان الأمر يتعلّق بمقولة قالها شيخ الوهابية منذ ما يقرب من قرنين من الزمان وانتهت بانتهائه .

لكن من المؤسف إننا نجد أن هذا الاتجاه لم يقتصر علىٰ ذلك الوقت ، بل هو مستمر إلىٰ يومنا هذا ، فتجد الكتّاب والمؤلّفين السائرين في هذا الركب لا يفتؤون يطلقون هذه الصيحات المتحشرجة ، ويفرغون كل ما في صدورهم من حقد وضغينة علىٰ مذهب أهل البيت وأتباعهم .

وقد بزّ المدعو إحسان إلهي ظهير من سبقه في هذا المضمار ، فراح يطلق الصيحات المحمومة ويبحث في بطون الكتب عن أية


رواية ضعيفة أو موضوعة أو قابلة للتأويل في كتب الشيعة توحي بأن في القرآن تحريفاً أو زيادة أو نقصاً ، لينسب إلىٰ الشيعة القول بتحريف القرآن .

وكأَن هذا القول هو أحد معتقدات الشيعة التي يتعبدون بها ويعتقدون صحتها ، دون الالتفات إلىٰ ما يقول به جمهور الامامية وصفوة أئمتهم الأعلام في نفي هذه التهمة الشنيعة عن كتاب الله العزيز .

فهذا القرآن الموجود بين الدفتين ، والذي يتعبد به أهل السنة في مختلف أقطارهم ، هو نفس الكتاب الموجود في أيدي الشيعة ـ علىٰ اختلاف أقطارهم ـ لا يزيد عنه حرفاً ولا ينقص ، وبمختلف الطبعات ، سواء منها ما طبع قديماً أو حديثاً ، وسواء منها ما طبع في بلاد الشيعة أو ما طبع منها في البلاد التي أغلب أهلها علىٰ مذهب أهل السنة .

أما إذا كانت الحجة التي يتذرع بها أُولئك المتعصبون هي وجود مثل هذه الروايات في بعض كتب الشيعة ، فنقول :

إن مثل هذه الروايات موجودة وبأعداد مضاعفة عما في كتب الشيعة في كتب أهل السنة ، بل وفي أوثق كتبهم والتي عندهم الصحاح كما يسمونها وفي مقدمتها البخاري ومسلم ، ومع ذلك فان


الشيعة لا يتهمون إخوانهم من أهل السنة بالقول بتحريف القرآن لمجرد وجود هذه الروايات في كتبهم وصحاحهم ، لسبب بسيط وهو ـ كما قلنا سابقاً ـ أنّ الشيعة لا يؤمنون بوجود كتاب صحيح تماماً غير كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وما عداه فلا يمكن أن يكون صحيحاً تماماً .

فهذا كتاب ( الكافي ) مثلاً ، وهو من أهم المصادر الحديثية لدىٰ الشيعة ، ويحوي أكثر من ( ١٦ ) ألف رواية وبالتحديد ( ١٦١٩٩ ) حديثاً ، فانهم لا يصححون منها سوىٰ ( ٥٠٧٢ ) حديثاً ، ويضعفون ( ٩٤٨٠ ) حديثاً ويحسّنون ( ١٤٤ ) حديثاً ، والباقي عندهم من الأحاديث يسمون بعضه موثّقاً ، والآخر قوياً (١) .

ولو أننا نظرنا إلىٰ روايات التحريف في كتب الشيعة لوجدناها في الأعم الأغلب قابلة الحمل علىٰ التأويل ، وغير القابلة الحمل علىٰ التأويل أكثرها من النوع الضعيف الذي لا يعتمده جمهور الشيعة ولا يبنون عليه حكماً ، وإن أكثر روايات التحريف مسندة إلىٰ رجال من أمثال :

أحمد بن محمد السياري ، الذي يقول فيه الشيخ النجاشي :

_______________

(١) دراسات في الحديث والمحدثين ؛ هاشم معروف الحسني ١٣٦ ـ ١٣٧ .


ضعيف الحديث فاسد المذهب (١) .

أو يونس بن ظبيان ، الذي يقول فيه النجاشي : ضعيف جداً لا يلتفت إلىٰ ما رواه كل كتبه تخليط ، ويقول عنه ابن الغضائري : ابن ظبيان كوفي غالٍ كذاب وضَاع للحديث (٢) .

أو منخل بن جميل الكوفي ، الذي قال فيه علماء الشيعة : ضعيف فاسد الرواية ، وإنه من الغلاة المنحرفين (٣) .

وغير أولئك من نصّ علماء الجرح والتعديل علىٰ تضعيفهم والطعن فيهم ونسبتهم إلىٰ الكذب والغلو .

روايات أهل السنة :

أما فيما يتعلق بالروايات الموجودة في كتب أهل السنة وصحاحهم حول تحريف القرآن ، فهي كثيرة جداً لا يسعنا الاحاطة بها في هذا المبحث ، ولكننا سنذكر طرفاً منها علىٰ وجه الاختصار ، وإن كان يؤسفنا ذلك ، مع التنبيه إلىٰ أننا نحن الشيعة لا نعتقد بصحة هذه الروايات ، لأننا لا نعتقد بصحة كل ما جاء في صحاح أهل

_______________

(١) رجال النجاشي ١ / ٢١١ ـ ٢١٢ .

(٢) رجال النجاشي ٢ / ٤٢٣ .

(٣) دراسات في الحديث والمحدثين ١٩٨ ، رجال النجاشي ٢ / ٣٧٢ .


السنة ، ونحن محقون في هذا الاعتقاد ، وإلا لاستلزم الأمر منا القول بوقوع التحريف في القرآن ، وهذا ما لا نقول به ولا نعتقد أن أحداً من المسلمين بكافة مذاهبهم وطوائفهم يرضىٰ بالقول به .

وإن غرضنا من إيراد هذه الشواهد ليس إلّا إقامة الحجة علىٰ المتعصبين الذين يفترون علىٰ الشيعة ويتخذون وجود هذه الروايات الضعيفة في كتب الشيعة دليلاً علىٰ قولهم بالتحريف ، وإنا لله وإنا إليه راجعون :

١ ـ عن علقمة : دخلت في نفر من أصحاب عبد الله الشام ، فسمع بنا أبو الدرداء ، فأتانا فقال : أفيكم من يقرأ ؟ فقلنا : نعم ، قال : فأيكم أقرأ ؟ فأشاروا إلي ، فقال : إقرأ ، فقرأت : والليل إذا يغشىٰ والنهار إذا تجلىٰ والذكر والانثىٰ ؛ فقال : أنت سمعتها من فيّ صاحبك ؟ قلت : نعم ، قال : وأنا سمعتها من فيّ النبي وهؤلاء يأبون علينا (١) .

وفي رواية مسلم والترمذي : أنا والله هكذا سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرؤها وهؤلاء يريدونني أن أقرأها : وما خلق ، فلا أُتابعهم (٢) .

٢ ـ عن عمر بن الخطاب : إن الله بعث محمداً بالحق ، وأنزل عليه

_______________

(١) صحيح البخاري ٦ / ٢١٠ .

(٢) صحيح مسلم ١ / ٥٦٥ ، صحيح الترمذي ٥ / ١٩١ ، وقال : هذا حديث حسن صحيح .


الكتاب ، فكان مما أنزل الله آية الرجم ، فقرأناها وعقلناها ووعيناها ، رجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورجمنا بعده ، فأخشىٰ إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله ، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ، ثم إنا كنا نقرأ ـ فيما نقرأ من كتاب الله ـ أن لا ترغبوا عن آبائكم... .

فالرجم في كتاب الله حق علىٰ من زنىٰ إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت عليه البينة .

وعن سعيد بن المسيب ـ وهو من أكابر التابعين ـ عن عمر قوله : إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم أن يقول قائل : لا نجد حدّين في كتاب الله ، فقد رجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورجمنا ، والذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس : زاد عمر في كتاب الله لكتبتها : الشيخ والشيخة فارجموهما البتة ، فانا قد قرأناها (١) .

٣ ـ عن أنس بن مالك رضي‌الله‌عنه ، قال : دعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم علىٰ الذين قتلوا ـ يعني أصحابه ببئر معونة ـ ثلاثين صباحاً حين يدعو علىٰ رعل

_______________

(١) صحيح البخاري ٨ / ٢٠٨ كتاب المحاربين من أهل الردة ـ باب رجم الحبلىٰ من الزنا إذا أحصنت ، صحيح مسلم ٣ / ١٣١٧ ، مسند أحمد ١ / ٤٠ و ٥٥ ، الموطأ ٢ / ٨٢٤ : ١٠ ، مسند أحمد ١ / ٣٦ و ٤٣ ، الاتقان في علوم القرآن ١ / ٢٠٦ و ٢ / ٤٢ و ٣ / ٨٣ وقال : إن الله بعث محمداً .


ولحيان وعصيّة عصت الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال أنس : فأنزل الله تعالىٰ لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الذين قتلوا أصحاب بئر معونة قرآناً قرأناه حتىٰ نسخ بعد : بلغوا قومنا فقد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه (١) .

٤ ـ عن البراء بن عازب ، قال : نزلت هذه الآية : حافِظوا علىٰ الصَّلواتِ وَصَلاةِ العَصْرِ ، فقرأناها ماشاء الله ، ثم نسخها الله ، فنزلت : ( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ ) ، فقال رجل كان جالساً عند شقيق له : هي إذاً صلاة العصر ؟ فقال البراء : قد أخبرتك كيف نزلت وكيف نسخها الله ، والله أعلم (٢) .

٥ ـ عن أبي يونس مولىٰ عائشة أُم المؤمنين عن عائشة : أنها أمرته أن يكتب لها مصحفاً ، فلما بلغت ( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ ) قال : فأملت علي : حافِظوا علىٰ الصَّلواتِ وَالصَّلاةِ الوسطىٰ وَصَلاةِ العَصْرِ ، قالت : سمعتها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣) .

٦ ـ عن أنس قال : ما وجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علىٰ سرية ما وجد عليهم ، كانوا يسمّون القراء ، قال سفيان : نزل فيهم : بلغوا عنا أنا قد

_______________

(١) صحيح البخاري ٥ / ١٣٦ ـ ١٣٧ باب غزوة الرجيع ورعل وذكوان وبئر معونة و ٤ / ٢٢ و٢٦ باب فضل الجهاد والسير ، مسند أحمد ٣ / ١٠٩ .

(٢) صحيح مسلم ١ / ٤٣٧ ـ ٤٣٨ .

(٣) الموطأ ١ / ١٣٨ : ٢٥ ، صحيح مسلم ١ / ٤٣٧ ـ ٤٣٨ ، فتح الباري ٨ / ١٥٨ .


رضينا ورضي عنا ، قيل لسفيان : فيمن نزلت ؟ قال : في أهل بئر معونة (١) .

٧ ـ عن زر عن أبي بن كعب رضي‌الله‌عنه قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن ، فقرأ : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ومن نعتها لو أن ابن آدم سأل وادياً من مال فأعطيته سأل ثانياً وإن أعطيته سأل ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ويتوب الله علىٰ من تاب وإن الدين عند الله الحنيفية غير اليهودية ولا النصرانية ومن يعمل خيراً فلن يكفره (٢) .

٨ ـ عن عائشة قالت : نزلت آية الرجم ورضاعة الكبير عشراً ، ولقد كانت في صحيفة تحت سريري ، فلما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتشاغلنا بموته ، دخل داجن فأكلها .

كان فيما أنزل الله من القرآن ثم سقط : لا يحرم إلّا عشر رضعات أو خمس معلومات (٣) .

٩ ـ عن أبي موسىٰ الأشعري أنه قال لقراء أهل البصرة : إنا كنا

_______________

(١) مسند أحمد ٣ / ١١١ ، ٢٥٥ .

(٢) المستدرك ٢ / ٢٢٤ وقال الحاكم : هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي ، كنز العمال ٢ / ٥٦٧ .

(٣) سنن ابن ماجه ١ / ٦٢٥ .


نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة ، فنسيتها غير أني حفظت منها : لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغىٰ وادياً ثالثاً ولا يملأ جوفه إلّا التراب ، وكنا نقرأ سورة نشبهها باحدىٰ المسبّحات أولها : سبح لله ما في السماوات ، فانسيتها غير أني حفظت منها : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة (١) .

١٠ ـ عن زر بن حبيش قال : قال أبي بن كعب : يا زر ، كأيّن تقرأ سورة الأحزاب ؟ قلت : ثلاث وسبعون آية ، قال : إن كانت لتضاهي سورة البقرة أو هي أطول من سورة البقرة ، وإن كنا لنقرأ منها آية الرجم ، وفي لفظ : وإن في آخرها : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم ، فرُفع فيما رُفع [ عب ط ص عم وابن منيع ن وابن جرير وابن المنذر وابن الانباري في المصاحف ، قط في الافراد ، ك وابن مردويه ص ] (٢) .

١١ ـ قرأ أبي بن كعب : ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً إلّا مَن تاب فان الله كان غفوراً رحيما ، فذُكر لعمر فأتاه فسأله عنها ، فقال : أخذتها من فيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس لك عمل إلا الصفق

_______________

(١) صحيح مسلم ٧٢٦ ، ١٠٥٠ .

(٢) كنز العمال ٢ / ٥٦٧ .


بالاسواق . [ ع ابن مردويه ] (١) .

١٢ ـ عن أبي إدريس الخولاني قال : كان أُبي يقرأ : إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية ولو حميتم كما حما لفسد المسجد الحرام فأنزل الله سكينته علىٰ رسوله ، فبلغ ذلك عمر فاشتدّ عليه ، فبعث إليه فدخل عليه ، فدعا ناساً من أصحابه فيهم زيد بن ثابت فقال : من يقرأ منكم سورة الفتح ؟ فقرأ زيد علىٰ قراءتنا اليوم ، فغلّظ له عمر ، فقال أُبيّ : لأتكلّم ، قال : تكلم ، فقال : لقد علمت أني كنت أدخل علىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقرؤني وأنت بالباب ، فإن أحببت أن أُقرئ الناس علىٰ ما أقرأني أقرأت وإلّا لم أُقرئ حرفاً ما حييتُ ، قال : بل أقرئ الناس [ ن وابن أبي داود في المصاحف ك وروىٰ ابن خزيمة بعضه ] (٢) .

١٣ ـ عن بجالة قال : مرّ عمر بن الخطاب بغلام وهو يقرأ في المصحف : النبي أولىٰ بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أُمهاتهم وهو أبٌ لهم ، فقال : يا غلام حكّها ، قال : هذا مصحف أُبَيّ ، فذهب إليه فسأله ، فقال : إنه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصفق بالأسواق (٣) .

_______________

(١) المصدر السابق ٢ / ٥٦٨ .

(٢) كنز العمال ٢ / ٥٦٨ ـ ٥٩٤ .

(٣) المصدر السابق ٢ / ٥٦٩ .


١٤ ـ عن المسور بن مخرمة قال : قال عمر لعبد الرحمن بن عوف : ألم نجد فيما أُنزل علينا : أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة ؟ فانا لم نجدها ، قال : أُسقط فيما أُسقط من القرآن (١) .

١٥ ـ عن عائشة أنها قالت : كانت سورة الأحزاب تُقرأ في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مائتي آية ، فلما كتب عثمان المصاحف لم يقدر منها إلّا علىٰ ما هو الآن (٢) .

١٦ ـ قال السيوطي : أَخرج إبن أبي شيبة والطبراني في الأوسط وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه عن حذيفة ، قال : التي تسمّون سورة التوبة هي سورة العذاب ، والله ما تركت أحداً إلّا نالت منه ، ولا تقرؤون مما كنا نقرأ إلّا ربعها .

وأخرج أبو الشيخ عن حذيفة رضي‌الله‌عنه قال : ما تقرؤون ثلثها ، يعني سورة التوبة (٣) .

١٧ ـ عن ابن مسعود قال : أقرأني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إني أنا الرزاق ذو القوة المتين (٤) .

_______________

(١) المصدر السابق : ٥٦٧ .

(٢) الاتقان في علوم القرآن ٣ / ٨٢ ، الدر المنثور ٥ / ١٨٠ .

(٣) الدر المنثور ٤ / ١٢٠ ـ ١٢١ .

(٤) مسند أحمد ١ / ٣٩٤ ، صحيح الترمذي ٥ / ١٩١ عن عبد الرحمن بن يزيد ، وقال : هذا حديث حسن صحيح .


هذا بعض ما ورد في كتب أهل السنة وصحاحهم من روايات تنسب النقص والتحريف إلىٰ القرآن الكريم ، وهي كثيرة جداً كما اعترف بذلك الآلوسي (١) .

والملاحظ أن المحدثين والحفاظ من أهل السنة يصححون هذه الأحاديث ـ كما مر في أقوال الحاكم والترمذي والذهبي ـ كما أن وجود هذه الروايات في صحيحي البخاري ومسلم يقتضي صحتها عند أهل السنة ، لأنهم يقولون بأن كل ما في الصحيحين ينبغي أن يكون صحيحاً ، بل لقد صرّح بعض علماء أهل السنة بذلك ، كما يتبين من كلام الرافعي : فذهب جماعة من أهل الكلام... إلىٰ جواز أن يكون قد سقط عنهم من القرآن شيء (٢) .

كما نسب بعض العلماء إلىٰ بعض الصحابة القول بأن في القرآن لحناً .

قال ابن جزي : ( والمقيمين ) منصوب علىٰ المدح باضمار فعل ، وهو جائز كثيراً في الكلام ، وقالت عائشة : هو من لحن كتّاب المصحف (٣) .

_______________

(١) روح المعاني ١ / ٢٥ .

(٢) إعجاز القرآن : ٤١ .

(٣) التسهيل بعلوم التنزيل ١ / ١٦٤ ، ٣ / ١٥ .


وقال الآلوسي : أُسقط زمن الصديق ما لم يتواتر وما نسخت تلاوته... (١) .

وإضافة لهذا وذاك فاننا لو راجعنا صحاح أهل السنة في كيفية جمع القرآن ، لوجدنا أن رواياتهم تثبت أن القرآن قد جُمع بطريق الآحاد وليس بطريق التواتر ، حتىٰ أن بعض الآيات قد أُخذت عن شخص واحد فقط هو خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ، ولا أريد الافاضة في هذا الموضوع ، فمن أراد التحقق فليراجع روايات جمع القرآن في الصحاح .

خلاصة القول : إننا لو حاسبنا أهل السنة علىٰ هذه الروايات التي في كتبهم وصحاحهم لاستوجب ذلك إتهامهم بالقول بعدم صحة حفظ القرآن ، وفي هذا تكفير لهم ، وهي التهمة التي يحاول شيخ الوهابية أن يلصقها بأتباع مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، وصدق القائل : رمتني بدائها وانسلت .

رأي علماء الشيعة في التحريف :

بعد أن تبين لنا بطلان التهمة التي يُرمىٰ بها الشيعة بالقول

_______________

(١) روح المعاني ١ / ٢٥ .


بتحريف القرآن ، أجد من المناسب هنا أن أنقل بعض كلمات علمائهم الأعلام حول هذا الموضوع ، حتىٰ يتبين الحق الصراح لكل ذي بصر وبصيرة :

١ ـ الفضل بن شاذان ، المتوفىٰ سنة ( ٢٦٠ هـ ) :

نجده في كتابه الايضاح ينص علىٰ بعض أهل السنة القول بتحريف القرآن ، مما يدلل علىٰ عدم إعتقاده بصحة القول بالتحريف (١) .

٢ ـ الشيخ الصدوق ، محمد بن علي بن بابويه القمي ، المتوفىٰ ( ٣٨١ هـ ) :

يقول : اعتقادنا أن القرآن الذي أنزله الله تعالىٰ علىٰ نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو ما بين الدفتين ، وهو ما في أيدي الناس ، ليس بأكثر من ذلك... ومن نسب إلينا أنا نقول أكثر من ذلك فهو كاذب (٢) .

٣ ـ الشيخ المفيد ، محمد بن محمد بن النعمان ابن المعلم ( ٣٣٦ ـ ٤١٣ هـ ) :

قال : وقد قال جماعة من أهل الامامة : انه لم ينقص من كلمة ولا من آية ولا من سورة ، ولكن حذف ما كان مثبتاً في مصحف

_______________

(١) الايضاح ١١٢ ـ ١١٤ ، ذكر ما ذهب من القرآن .

(٢) الاعتقادات : ٨٤ ضمن مصنفات الشيخ المفيد .


أمير المؤمنين عليه‌السلام من تأويله وتفسير معانيه علىٰ حقيقة تنزيله ، وذلك كان ثابتاً منزلاً وإن لم يكن من جملة كلام الله تعالىٰ الذي هو القرآن المعجز... وأما الزيادة فيه فمقطوع علىٰ فسادها من وجه ويجوز صحتها من وجه : فالوجه الذي أقطع علىٰ فساده أن يمكن لأحد من الخلق زيادة مقدار سورة فيه علىٰ حدّ يلتبس به عند أحد من الفصحاء ، وأما الوجه المجوّز فهو أن يزاد فيه الكلمة والكلمتان والحرف والحرفان وما أشبه ذلك مما لا يبلغ حدّ الاعجاز ويكون ملتبساً عند أكثر الفصحاء بكلم القرآن ، غير أنه لابدّ متىٰ وقع ذلك من أن يدلّ الله عليه ، ويوضح لعباده عن الحق فيه ، ولست أقطع علىٰ كون ذلك ، بل أميل إلىٰ عدمه وسلامة القرآن عنه (١) .

_______________

(١) أوائل المقالات : ٨١ ـ ٨٢ .

وللمزيد راجع كتاب « التحقيق في نفي التحريف » للسيد علي الميلاني .



الفصل السادس : التقيّة

قال الشيخ محمد بن عبدالوهاب في « مطلب التقية » :

ومنها ايجابهم التقيّة ، ورووا عن الصادق رضي‌الله‌عنه : « التقيّة ديني ودين آبائي » حاشاه عن ذلك ، وفسر بعضهم قوله تعالىٰ ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ ) أكثركم تقية وأشدكم خوفاً من الناس... (١) .

وفي : « مطلب تركهم الجمعة والجماعة » قال :

ومنها أن اليهود ضربت عليهم الذلة والمسكنة أينما كانوا ، وكذلك هؤلاء ضربت عليهم الذلة حتىٰ أحيوا التقية من شدة خوفهم وذلهم... (٢) .

_______________

(١) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ٢٠ .

(٢) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ٤٥ .


نقول : إنَّ من المحزن حقاً أن يصبح موضوع التقية سُلَّماً للتشنيع علىٰ الشيعة وقذفهم بما لا يليق ونعتهم بأشنع الأوصاف حتىٰ شبههم الشيخ باليهود ، وكأن التقية بدعة قد ابتدعتها الشيعة لأغراض لا تمت إلىٰ الدين بصلة .

إن التقية ليست من بدع الشيعة ، وليس التزامهم بها بمثل تلك الصورة المشوهة التي يحاول البعض أن يلصقوها بالشيعة ، فالتقية شيء ثابت في الشريعة الاسلامية ، نزل بها القرآن الكريم وأقرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والتزم بها المسلمون منذ عهد الصحابة وحتىٰ يومنا هذا ، وبيّن الفقهاء أحكامها ، بل إن الذين يشنعون علىٰ الشيعة قد يكونون أكثر التزاماً منهم بالتقية لو أنهم تعرضوا لمثل ما تعرض له الشيعة من محن علىٰ مرّ العصور .

قال الامام الباقر عليه‌السلام لبعض أصحابه : « يا فلان ، مالقينا من ظلم قريش إيانا وتظاهرهم علينا ، ومالقي شيعتنا ومحبونا من الناس ! إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبض وقد أخبر أنّا أولىٰ الناس بالناس ؛ فتمالأت علينا قريش حتىٰ أخرجت الأمر عن معدنه واحتجت علىٰ الأنصار بحقنا وحجتنا ، ثم تداولتها قريش ، واحداً بعد واحد ، حتىٰ رجعت إلينا ، فنكثت بيعتنا ونصبت الحرب لنا ، ولم يزل صاحب الأمر في صعود كؤود حتىٰ قُتل ، فبويع الحسن ابنه وعوهد ثم غُدر به وأُسلم


ووثب عليه أهل العراق حتى طعن بخنجر في جنبه ونهبت عسكره وعولجت خلاخيل أمهات أولاده ، فوادع معاوية وحقن دمه ودماء أهل بيته وهم قليل حق قليل . ثم بايع الحسين عليه‌السلام من أهل العراق عشرون ألفاً ثم غدروا به وخرجوا عليه وبيعته في أعناقهم وقتلوه ، ثم لم نزل ـ أهل البيت ـ نُستذل ونُستضام ونُقصىٰ ونمتهن ونُحرم ونُقتل ونُخاف ولا نأمن علىٰ دمائنا ودماء أوليائنا . ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعاً يتقربون به إلىٰ أوليائهم وقضاة السوء وعمال السوء في كل بلدة ، فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة ، ورووا عنا ما لم نقله وما لم نفعله ليبغّضونا إلىٰ الناس ، وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن عليه‌السلام ، فقُتلت شيعتنا بكل بلدة وقطعت الأيدي والأرجل علىٰ الظنة ، وكان من يذكر بحبنا والانقطاع إلينا سُجن أو نُهب ماله أو هُدمت داره ، ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد إلىٰ زمان عبيدالله بن زياد قاتل الحسين عليه‌السلام ، ثم جاء الحجاج فقتلهم كل قتلة ، وأخذهم بكل ظنة وتهمة ، حتىٰ أن الرجل ليقال له : زنديق أو كافر أحب إليه من أن يقال شيعة علي ، وحتىٰ صار الرجل الذي يُذكر بالخير ـ ولعله يكون ورعاً صدوقاً ـ يحدّث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة ، ولم يخلق الله تعالىٰ شيئاً منها


ولا وقعت وهو يحسب أنها حق لكثرة من قد رواها ممن لم يعرف بكذب ولا بقلّة ورع » (١) .

هكذا كان حال الشيعة في زمن بني أُمية ـ كما وصفه الامام الباقر عليه‌السلام ـ ثم جاء دور العباسيين الذي كانوا أشد وطأة علىٰ أهل البيت وشيعتهم من أسلافهم الأمويين ، وكتب التاريخ ممتلئة بتلك الحوادث المفجعة ، ومن أراد التفصيل فعليه بكتاب مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني .

ثم جاء العثمانيون ليكملوا المسيرة الظالمة ، إذ كان السلطان سليم ـ كما يحدثنا السيد أسد حيدر ـ شديد التعصب علىٰ أهل الشيعة ، ولاسيما أنه كان في تلك الأيام قد انتشرت بين رعاياه تعاليم شيعية تنافي مذهب أهل السنة ، وكان قد تمسك بها جماعة من الأهالي ، فأمر السلطان سليم بقتل كل من يدخل في هذه الشيعة ، فقتلوا نحو أربعين ألف رجل ، وأخرج فتوىٰ شيخ الاسلام بأنه يؤجر علىٰ قتل الشيعة وإشهار الحرب ضدهم (٢) .

كما ذكر الشيخ المظفر رحمه‌الله بعض فضائع العثمانيين تجاه الشيعة ،

_______________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١١ / ٤٣ ـ ٤٤ .

(٢) الامام الصادق والمذاهب الاربعة ١ / ٢٤٤ عن مصباح الساري ونزهة القاري : ١٢٣ ـ ١٢٤ .


ومنها ما حدث في مدينة حلب ، حيث أفتىٰ الشيخ نوح الحنفي في كفر الشيعة واستباحة دمائهم وأموالهم ، تابوا أو لم يتوبوا !! فزحفوا علىٰ شيعة حلب وأبادوا منهم أربعين ألفاً أو يزيدون ، وانتهبت أموالهم وأخرج الباقون منهم من ديارهم... (١) .

أما المذابح التي ارتكبت بحق الشيعة ، وما أريق من دمائهم وما انتهب من أموالهم ، وما تعرض له مشاهدهم المقدسة من تخريب علىٰ أيدي الوهابيين بفتوىٰ شيخهم محمد بن عبد الوهاب ، فحدّث ولا حرج ، إستكمالاً للمخطط الذي بدأه معاوية في تصفية آثار النبوة والقضاء علىٰ سنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خلال تصفية أتباعه المتمسكين بسنته كما سوف يتبين في بعض الفصول القادمة .

وأكتفي بهذا القدر من الشواهد التاريخية حتىٰ يعرف القارئ الكريم الظروف التي أحاطت بالشيعة مما جعلهم يلجؤون إلىٰ التقية .

ويبقىٰ السؤال : هل خالف الشيعة شريعة الاسلام في الالتزام بالتقية ؟

لقد حدّد الشيخ محمد بن عبد الوهاب مفهوم التقية عند الشيعة

_______________

(١) تاريخ الشيعة : ١٤٧ ، التقية في فقه أهل البيت ٥١ / ١ .


بقوله ـ في نفس المطلب الذي نحن بصدده ـ :

والمفهوم من كلامهم أن معنىٰ التقية عندهم كتمان الحق أو ترك اللازم أو ارتكاب المنهي خوفاً من الناس... (١) .

فلنستعرض الآن مفهوم التقية عند أهل السنة من خلال أقوال بعض علمائهم ، حتىٰ يتبين لنا إن كانوا يخالفون مفهومها عند الشيعة : في شيء :

١ ـ قال أحمد مصطفىٰ المراغي في تفسيره لقوله تعالىٰ : ( لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّـهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) (٢) ، قال :

أي إنّ ترك موالاة المؤمنين للكافرين حتم لازم في كل حال ، إلّا في حال الخوف من شيء تتقونه منهم ، فلكم حينئذ أن تتقوهم بقدر ما يتقىٰ ذلك الشيء ، إذ القاعدة الشرعية أن ردّ المفاسد مقدّم علىٰ جلب المصالح ، وإذا جاز موالاتهم لاتقاء الضرر فأولىٰ أن تجوز لمنفعة المسلمين ، وإذاً فلا مانع من أن تحالف دولة إسلامية دولة غير مسلمة لفائدة تعود إلىٰ الأولىٰ ، إما بدفع ضرر أو جلب منفعة ،

_______________

(١) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ٢١ .

(٢) سورة آل عمران : ٢٨ .


وليس لها أن تواليها في شيء يضر بالمسلمين ، ولا تختص هذه الموالاة بحال الضعف ، بل هي جائزة في كل وقت ، وقد استنبط العلماء من هذه الآية جواز التقية : بأن يقول الانسان أو يفعل ما يخالف الحق لأجل توقي الضرر من الأعداء يعود إلىٰ النفس أو العرض أو المال ، فمن نطق بكلمة الكفر مكرهاً وقاية لنفسه من الهلاك وقلبه مطمئن بالايمان لا يكون كافراً ، بل يُعذر ، كما فعل عمار بن ياسر حين أكرهته قريش علىٰ الكفر ، فوافقها مكرهاً وقلبه مليء بالايمان ، وفيه نزلت الآية ( مَن كَفَرَ بِاللَّـهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّـهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (١) .

٢ ـ وقال ابن العربي المالكي :

وقد اختلف الناس في التهديد ، هل هو إكراه أم لا ؟ والصحيح إنه إكراه ، فان القادر الظالم إذا قال لرجل : إن لم تفعل كذا وإلّا قتلتك أو ضربتك أو أخذت مالك أو سجنتك ، ولم يكن له من يحميه إلّا الله ، فله أن يقدم علىٰ الفعل ويسقط عنه الاثم في الجملة ، إلّا في القتل ، فلا خلاف بين الأُمة أنه إذا أُكره عليه بالقتل لا يحل له أن يفدي

_______________

(١) تفسير المراغي ٣ / ١٣٦ ـ ١٣٧ ، والآية في سورة النحل : ١٠٦ .


نفسه بقتل غيره ويلزمه أن يصبر علىٰ البلاء الذي ينزل به... واختلف في الزنا ، والصحيح أنه يجوز له الاقدام عليه ولا حدّ عليه... وأما الكفر بالله فذلك جائز له بغير خلاف علىٰ شرط أن يلفظ بلسانه وقلبه منشرح بالايمان... (١) .

٣ ـ قال القرطبي :

لما سمح الله عزوجل بالكفر به وهو أصل الشريعة عند الاكراه ولم يؤاخذ به ، حمل العلماء عليه فروع الشريعة كلها ، فاذا وقع الاكراه عليها لم يؤاخذ به ولم يترتب عليه حكم ، وبه جاء الأثر المشهور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « رُفع عن أُمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه »... روىٰ ابن القاسم عن مالك أن من أُكره علىٰ شرب الخمر وترك الصلاة أو الافطار في رمضان أن الاثم عنه مرفوع... (٢) .

٤ ـ وقال أبو حيان :

صحة التقية من كل غالب يكره بجور منه ، فيدخل في ذلك الكفار وجورة الرؤساء والسلابة وأهل الجاه في الحواضر ، كما تصح التقية عنده في حالة الخوف علىٰ الجوارح والضرب بالسوط

_______________

(١) أحكام القرآن ٣ / ١١٧٧ ـ ١١٧٨ .

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١٠ / ١٨١ .


والوعيد وعداوة أهل الجاه الجورة ، وأنها تكون بالكفر فما دونه من بيع وهبة ونحو ذلك (١) .

٥ ـ فخر الدين الرازي ، قال :

التقية جائزة لصون النفس ، وهل هي جائزة لصون المال ؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « حرمة مال المسلم كحرمة دمه » ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « من قُتل دون ماله فهو شهيد » ، ولأن الحاجة إلىٰ المال شديدة ، والماء إذا بيع بالغبن سقط فرض الوضوء وجاز الاقتصار علىٰ التيمم دفعاً لذلك القدر من نقصان المال ، فكيف لا يجوز ههنا والله أعلم . قال مجاهد : هذا الحكم كان ثابتاً في أول الاسلام لأجل ضعف المؤمنين ، فأما بعد قوة دولة الاسلام فلا . روىٰ عوف عن الحسن أنه قال : التقية جائزة للمؤمنين إلىٰ يوم القيامة ، وهذا القول أولىٰ ، لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الامكان (٢) .

٦ ـ وقال الجصاص :

قال أصحابنا فيمن أُكره بالقتل وتلف بعض الأعضاء علىٰ شرب الخمر وأكل الميتة لم يسعه أن لا يأكل ولا يشرب ، وإن لم يفعل

_______________

(١) البحر المحيط ٢ / ٤٢٤ .

(٢) التفسير الكبير ٨ / ١٤ .


حتىٰ قُتل كان آثماً ، لأن الله تعالىٰ قد أباح ذلك في حال الضرورة عند الخوف علىٰ النفس فقال ( إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ) (١) .

٧ ـ وقال ابن الجوزي :

الاكراه علىٰ كلمة الكفر يبيح النطق بها ، وفي الاكراه المبيح لذلك عن أحمد روايتان : إحداهما أنه يخاف علىٰ نفسه أو علىٰ بعض أعضائه التلف إن لم يفعل ما أُمر به . والثانية أن التخويف لا يكون إكراهاً حتىٰ ينال العذاب ، وإذ ثبت جواز التقية ، فالأفضل ألا يفعل ، نص عليه أحمد في أسير خُيّر بين القتل وشرب الخمر فقال : إن صبر علىٰ القتل فله الشرف ، وإن لم يصبر فله الرخصة ، فظاهر هذا الجواز (٢) .

٨ ـ الآلوسي حيث قال :

وفي هذه الآية دليل علىٰ مشروعية التقية ، وعرّفوها لمحافظة النفس أو العرض أو المال من شر الأعداء (٣) .

٩ ـ الشافعي ، قال في حكم المكره علىٰ الردة :

لو شهد عليه شاهدان أنهما سمعاه يرتد وقالا : ارتد مكرهاً أو

_______________

(١) أحكام القرآن ٣ / ١٩٣ .

(٢) زاد المسير ٤ / ٤٩٦ .

(٣) روح المعاني ٣ / ١٢١ .


ارتد محدوداً أو ارتد محبوساً ، لم يغنم ماله ، وورثه ورثته من المسلمين (١) .

١٠ ـ الغزالي ، قال ـ في بيان ما رخص فيه من الكذب ـ :

الكلام وسيلة إلىٰ المقاصد ، فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعاً فالكذب فيه حرام ، وإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح إن كان محصل ذلك القصد مباحاً ، وواجب إن كان المقصود واجباً ، كما أن عصمة دم المسلمين واجبة ، فمهما كان في الصدق سفك دم امرئ مسلم قد اختفىٰ من ظالم فالكذب فيه واجب (٢) .

١١ ـ وقال السرخسي :

والتقية أن يقي نفسه من العقوبة بما يظهره وإن كان يضمر خلافه ، وقد كان بعض الناس يأبىٰ ذلك ويقول إنه من النفاق ، والصحيح أن ذلك جائز ، لقوله تعالىٰ : ( إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) ، وإجراء كلمة الشرك علىٰ اللسان مكرهاً مع طمأنينة القلب بالايمان من باب التقية (٣) .

_______________

(١) الأُم ٦ / ١٦٢ .

(٢) إحياء علوم الدين ٣ / ١٣٧ .

(٣) المبسوط ٢٤ / ٤٥ .


١٢ ـ وقال ابن حزم في كتاب الاكراه :

الاكراه ينقسم قسمين : إكراه علىٰ الكلام ، وإكراه علىٰ فعل ، فالاكراه علىٰ الكلام لا يجب به شيء وإن قاله المكره كالكفر والقذف والنكاح والانكاح والرجعة والطلاق والبيع والابتياع والنذر والأيمان والعتق والهبة... فصح أن كل من أُكره علىٰ قول ولم ينوه مختاراً له فانه لا يلزمه (١) .

هذا ما قاله بعض المفسرين والفقهاء والعلماء من أهل السنة ـ علىٰ اختلاف مذاهبهم ـ حول مفهوم التقية في حالة الخوف وترك بعض الواجبات وإتيان بعض المحرمات دفعاً للضرر ، وهذا هو نفس مفهوم التقية عند الشيعة ، فلماذا يشنّع علىٰ الشيعة وحدهم في ذلك ؟!

أما سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل وكل الأنبياء عليهم‌السلام ، والصحابة والتابعين وغيرهم من عظماء المسلمين ، فتشهد بجواز التقية ، لأنهم قد مارسوها بأنفسهم في بعض الحالات الاضطرارية ، والأمثلة علىٰ ذلك أكثر من أن يحاط بها ، ولكنني سأكتفي بأمثلة قليلة مما نجد في مصادر أهل السنة من ذلك :

_______________

(١) المحلىٰ ٨ / ٣٢٩ .


١ ـ أخرج البخاري عن عائشة : أنه استأذن علىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل فقال : « إئذنوا له فبئس ابن العشيرة أو بئس أخو العشيرة » ، فلما دخل ألان له الكلام ، فقلت له : يا رسول الله ، قلت ما قلت ثم ألنت له في القول ، فقال : « أي عائشة إن شرّ الناس منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه » (١) .

٢ ـ وأخرج أيضاً عن عبدالله بن أبي مليكة : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أُهديت له أقبية من ديباج مزررة بالذهب ، فقسمها في أُناس من أصحابه وعزل منها واحداً لمخرمة ، فلما جاء قال : « خبأتُ هذا لك » قال أيوب بثوبه أنه يريه إياه ، وكان في خلقه شيء... (٢) .

فتصرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تجاه هذين الشخصين إتقاء لشرهما لا يمكن أن يحمل إلّا علىٰ باب التقية .

٣ ـ عن أبي هريرة قال : حفظت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعاءين ، فأما أحدهما فبثثته ، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم (٣) .

قال ابن حجر العسقلاني في شرحه لهذا الحديث : وحمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه علىٰ الأحاديث التي فيها تبيين أسامي

_______________

(١) صحيح البخاري ٨ / ٣٨ .

(٢) المصدر السابق ، باب المداراة مع الناس .

(٣) صحيح البخاري ١ / ٤١ ، كتاب العلم ، باب حفظ العلم .


أُمراء السوء وأحوالهم وزمنهم ، وقد كان أبو هريرة يكني عن بعضه ولا يصرح به خوفاً علىٰ نفسه منهم ، كقوله : أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان . يشير إلىٰ خلافة يزيد بن معاوية ، لأنها كانت سنة ستين من الهجرة (١) .

٤ ـ وقال البخاري أيضاً : ويذكر عن أبي الدرداء : إنا لنكشّر في وجوه أقوام ، وإن قلوبنا لتلعنهم (٢) .

٥ ـ وروىٰ البخاري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « قال إبراهيم لامرأته هذه أُختي ، وذلك في الله » (٣) .

٦ ـ وقال الهيثمي : عن ابن عمر قال : سمعت الحجاج يخطب ، فذكر كلاماً أنكرته ، فأردت أن أُغيّر فذكرت قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه » قال : قلت يا رسول الله ، كيف يذل نفسه ؟ قال : « يتعرض من البلاء لما لا يطيق » (٤) .

٧ ـ قال السرخسي : ذكر عن مسروق رحمه الله قال : بعث

_______________

(١) فتح الباري ١ / ١٧٥ .

(٢) صحيح البخاري ٨ / ٣٧ ـ ٣٨ كتاب الأدب ، باب المداراة مع الناس .

(٣) صحيح البخاري ٩ / ٢٨ .

(٤) مجمع الزوائد ٧ / ٢٧٤ وقال : رواه البزار والطبراني في الأوسط والكبير باختصار ، وإسناد الطبراني في الكبير جيد ورجاله رجال الصحيح غير زكريا بن يحيىٰ بن أيوب الضرير ، ذكر الخطيب : روىٰ عن جماعة وروىٰ عنه جماعة ولم يتكلم فيه أحد .


معاوية بتماثيل من صفر تباع بأرض الهند ، فمر بها علىٰ مسروق رحمه الله ، قال : والله لو أني أعلم أنه يقتلني لغرّقتها ، ولكني أخاف أن يعذبني فيفتنني ، والله لا أدري أي الرجلين معاوية : رجل قد زُين له سوء عمله ، أو رجل قد يئس من الآخرة فهو يتمتع في الدنيا... ومسروق من علماء التابعين ، وكان يزاحم الصحابة رضي الله عنهم في الفتوىٰ... وتبين أنه لا بأس باستعمال التقية وأنه يرخص له في ترك بعض ما هو فرض عند خوف التلف علىٰ نفسه (١) .

هذه أدلة قليلة إرتأيت الاكتفاء بها لاثبات أن التقية أمر مشروع في الاسلام ، أقره الكتاب العزيز ، والتزم به الأنبياء عليهم‌السلام ، وأفتىٰ بجوازها ـ بل بوجوبها أحياناً ـ الفقهاء ، ولقد أدرك الصحابة أيضاً مشروعية التقية ومارسوها ، كما فعل كل من أبي هريرة وابن عمر وغيرهما ، وأما قضية التابعي مسروق مع معاوية فهي تغني عن كل بيان ، حيث خشي مسروق أن يعذبه معاوية فيفتنه عن دينه .

ونحن نسأل بدورنا إذا كان هذا موقف معاوية مع تابعي كبير ليس متهماً بالتشيع ، فما بالك بخصومه من شيعة أهل البيت عليهم‌السلام ،

_______________

(١) المبسوط ٢٤ / ٤٥ ، ٤٧ .


وكيف لا يتمسكون بالتقية وهو يعذبهم ويريد فتنتهم عن دينهم ، حتىٰ جعلها سنة لمن جاء بعده ؟!

وإذا كان شيخ الوهابية ينعىٰ علىٰ الشيعة تمسكهم بالتقية بعد كل ما ظهر لنا ، فما باله وأتباعه قد خالفوا عقيدتهم في هدم المشاهد المقدسة ، ولماذا تركوا قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعمر قائمة ولم يلحقوها بالارض كما فعلوا بغيرها ؟؟ أليس ذلك تقية منهم ؟!!


الفصل السابع : حرب أمير المؤمنين عليه‌السلام

قال الشيخ في « مطلب تكفير من حارب علياً » :

ومنها تكفير من حارب علياً رضي‌الله‌عنه ، مرادهم بذلك عائشة وطلحة والزبير وأصحابهم ومعاوية وأصحابه ، وقد تواتر منه ما يدل علىٰ إيمان هؤلاء وكون بعضهم مبشراً بالجنة ، وفي تكفيرهم تكذيب لذلك ، فان لم يصيروا كفرة بهذا التكذيب فلا شك انهم يصيرون فسقة ، وذلك يكفي في خسارتهم في تجارتهم (١) .

إن الشيعة حين يكفرون من حارب أمير المؤمنين عليه‌السلام فانما

_______________

(١) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ٢٦ .


يقولون ذلك تصديقاً لله ورسوله ، إذ حكم الله ورسوله بكفر من حارب علياً ، ويشهد علىٰ ذلك مجموعة من الأحاديث الشريفة التي أخرجها الأئمة الحفاظ والمحدثون من أهل السنة .

فمن ذلك : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام : « من فارقني فقد فارق الله ومن فارقك فقد فارقني » (١) .

وعن أبي هريرة قال : نظر النبي إلىٰ علي والحسن والحسين وفاطمة فقال : « أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم » (٢) .

وعن زيد بن أرقم أن النبي قال لفاطمة وعلي وحسن وحسين : « أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم » (٣) .

وعن أبي سعيد الخدري رضي‌الله‌عنه قال : لما دخل علي رضي‌الله‌عنه بفاطمة رضي الله عنها جاء النبي أربعين صباحاً إلىٰ بابها يقول : « السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته ، الصلاة يرحمكم الله ، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ، أنا حرب لمن

_______________

(١) المستدرك ٣ / ١٢٣ ، تاريخ دمشق ٤٢ / ٣٠٧ .

(٢) مسند أحمد ٢ / ٤٤٢ ، المستدرك ٣ / ١٤٩ ، المعجم الكبير ٣ / ٣٠ ، مجمع الزوائد ٩ / ١٦٩ .

(٣) سنن الترمذي ٥ / ٦٩٩ ، سنن ابن ماجة ١ / ٥٢ ، كنز العمال ١٣ / ٦٤٠ .


حاربتم ، أنا سلم لمن سالمتم » (١) .

فقد أثبت النبي بهذه الأحاديث الشريفة وأمثالها مما أخرجه الأئمة الأعلام من أهل السنة في كتبهم أن من حارب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام أو أحداً من أهل بيته أو فارقهم فقد صار محارباً لرسول الله ، ومن حارب النبي فقد صار محارباً لله تعالىٰ كما هو معلوم بديهة ، ومن حارب الله ورسوله فقد كفر ، بدلالة قوله تعالىٰ : ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّـهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (٢) ، وقوله تعالىٰ : ( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (٣) .

وقد خرجت عائشة أُم المؤمنين وطلحة والزبير ومن معهم علىٰ جماعة المسلمين وإمامهم الشرعي ، فوقعوا تحت حكم المفارقين للجماعة المفرقين لشمل المسلمين ، الذين وصفهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عدد من الأحاديث الشريفة ، نذكر منها :

١ ـ عن أُسامة بن شريك قال : قال رسول الله : « من فرّق بين

_______________

(١) تفسير الطبري ٢٢ / ٥ ، تاريخ بغداد ١٠ / ٧٨ ، الدر المنثور ٦ / ٦٠٦ .

(٢) سورة التوبة : ٦١ .

(٣) سورة المائدة : ٣٣ .


أُمتي وهم جميع فاضربوا رأسه كائناً من كان » (١) .

٢ ـ عن زياد بن علاقة أنه سمع عرفجة ، سمع النبي يقول : « إنها ستكون هناة وهناة ، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأُمة وهم جميع فاضربوا رأسه بالسيف كائناً من كان » (٢) .

٣ ـ عن أبي هريرة ، عن النبي أنه قال : « من خرج من الطاعة ، وفارق الجماعة ، فمات ، مات ميتة جاهلية . ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبية أو يدعو إلىٰ عصبية فقُتل ، فقتلة جاهلية ، ومن خرج علىٰ أُمتي يضرب برّها وفاجرها ولا يتحاش من مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده فليس مني ولست منه » (٣) .

٤ ـ عن ابن عباس يرويه قال : قال رسول الله : « من رأىٰ من أميره شيئاً يكرهه فليصبر ، فانه من فارق الجماعة شبراً فمات فميتة جاهلية » (٤) .

_______________

(١) سنن النسائي ٢ / ١٦٦ ، كتاب السنة لابن أبي عاصم : ٥١٢ ، وصححه الألباني .

(٢) مسند الطيالسي : ١٢٢٤ ، صحيح مسلم ٣ / ١٤٧٩ ، سنن النسائي ٢ / ١٦٦ ، مسند أحمد ٥ / ٢٣ ـ ٢٤ ، كتاب السنة : ٥١٢ وصححه الألباني .

(٣) صحيح مسلم ٣ / ١٤٧٦ ـ ١٤٧٨ كتاب الامارة ، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال وتحريم الخروج علىٰ الطاعة ومفارقة الجماعة .

(٤) المصدر السابق .


٥ ـ عن ابن عمر : سمعت رسول الله يقول : « من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية » (١) .

فهؤلاء المذكورون قد خرجوا علىٰ جماعة المسلمين وإمامهم بحجج واهية رغم تحذير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكونهم من الصحابة لا يكفي لنجاتهم ، لما أخبر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن هلاك جم غفير من أصحابه كما سبق وذكرنا في حديث الحوض الذي تقدم في فصل الصحابة .

وأما معاوية وأصحابه ، فيكفي أن نذكر قول النبي في عمار بن ياسر رضي‌الله‌عنه : « يا ويح عمار تقتله الفئة الباغية ، يدعوهم إلىٰ الجنة ويدعونه إلىٰ النار » (٢) .

فقد أثبت النبي في هذا الحديث المتفق عليه أن قاتلي عمار من أهل النار ، لأن أهل الجنة لا يدعون إلىٰ النار ، ومعلوم أن معاوية وفئته الباغية هم قتلة عمار رضي‌الله‌عنه .

أما إدعاء البعض باجتهاد هؤلاء ، فعذر لا تقوم به حجة ، وقد بسطت القول في هذا الموضوع في كتابي الصحوة ، فليراجع .

_______________

(١) المصدر السابق .

(٢) صحيح البخاري ١ / ١٢٢ باب بناء المسجد ، صحيح مسلم ٤ / ٢٢٣٦ ، مسند أحمد ٣ / ٩١ ، المستدرك ٣ / ٣٨٧ ، سنن البيهقي ٨ / ١٨٩ .


وأما القول بأن بعض هؤلاء مبشر بالجنة ، فذلك يناقض الأحاديث الصحيحة التي وردت في بيان مآلهم ، إذ أن الأحاديث الواردة في فضل هؤلاء موضوعة ، اختلقتها أجهزة معاوية الدعائية لتضليل المسلمين ، وقد حققت في ذلك نجاحاً كبيراً .

وبالنسبة لأُم المؤمنين عائشة ، فان كونها زوجة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يكفي لنجاتها ، والأحاديث الواردة في تبشيرها برفقة النبي في الجنة موضوعة أيضاً ، وهي تصادم كتاب الله ، وقد أثبت الكتاب العزيز أن زوجتي نوح ولوط عليهما‌السلام كانتا من الهالكين ولم ينجهما أنهما زوجتا نبيين ، وذلك في قوله تعالىٰ في سورة التحريم التي تضمنت الآيات المشحونة بالتهديد والوعيد لكل من عائشة وحفصة اللتين تظاهرتا علىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال عز من قائل : ( ضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّـهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) (١) .

وقد حذّر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عائشة من مغبة الخروج في حديث الحوأب المشهور ، فقامت عليها الحجة ، ولكنها رغم ذلك ركبت رأسها وهتكت الحجاب الذي فرضه الله تعالىٰ عليها ، وأشعلت نار

_______________

(١) سورة التحريم : ١٠ .


الحرب بين المسلمين حتىٰ أُريقت بسببها دماء الآلاف منهم في حرب الجمل .

افضلية أمير المؤمنين عليه‌السلام :

قال الشيخ ابن عبد الوهاب في « مطلب فضل الإمام علي » :

ومنها أنه قال إبن المطهر الحلي : اجتمعت الامامية علىٰ أن علياً بعد نبينا أفضل من الأنبياء غير أُولي العزم وفي تفضيله عليهم خلاف ، قال : وأنا من المتوقفين في ذلك وكذلك الأئمة من آله . وقال الطوسي في تجريده : وعلي أفضل الصحابة لكثرة جهاده . إلىٰ أن قال : وظهور المعجزات عنه واختصاصه بالقرابة والأخوة ووجوب المحبة والنصرة ومساواة الانبياء . وقال الشارح : ويؤيده قوله : « من أراد أن ينظر إلىٰ آدم في علمه وإلىٰ نوح في تقواه وإلىٰ إبراهيم في حلمه وإلىٰ موسى في هيبته وإلىٰ عيسىٰ في عبادته ، فلينظر إلىٰ علي بن أبي طالب » . فانه أوجب مساواته الأنبياء في صفاتهم . انتهى . وفي صحة هذا نظر ، وبعد فرض صحته لا يوجب المساواة ، لان المشاركة في بعض الأوصاف لا تقتضي المساواة كما هو بديهي ، ومن اعتقد في غير الأنبياء


كونه أفضل منهم ومساوياً لهم فقد كفر ، وقد نقل علىٰ ذلك الاجماع غير واحد من العلماء ، فأي خير في قوم اعتقادهم يوجب كفرهم (١) .

لا أدري ما الذي يستوجب الكفر في اعتقاد أفضلية أمير المؤمنين ، والحديث الذي استشهد به الشيخ موجود في كتب أهل السنة ودلالته واضحة ، كما أن الاجماع الذي يدعيه الشيخ ابن عبد الوهاب لا يستند علىٰ دليل نقلي ثابت ، بل علىٰ العكس ، فان أفضلية أمير المؤمنين عليه‌السلام علىٰ جميع البشر عدا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثابتة في القرآن والسنة النبوية المطهرة .

فمن الكتاب :

أخرج الامام مسلم عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال : أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال : ما منعك أن تسب أبا التراب ؟ فقال : أما ما ذكرت ثلاثاً قالهن له رسول الله فلن أسبه ، لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم ، سمعت رسول الله يقول له وقد خلفه في بعض مغازيه ، فقال له علي : يا رسول الله

_______________

(١) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ٢٨ ـ ٢٩ .


خلفتني مع النساء والصبيان ؟ فقال له رسول الله : « أما ترضىٰ أن تكون مني بمنزلة هارون من موسىٰ إلّا أنه لا نبوة بعدي » ، وسمعته يقول يوم خيبر : « لأُعطي الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله » ، قال : فتطاولنا فقال : « ادعوا لي علياً » ، فأتي به أرمد ، فبصق في عينيه ودفع الراية إليه ، ففتح الله عليه ، ولما نزلت هذه الآية : ( فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ ) دعا رسول الله علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال : « اللهم هؤلاء أهلي » (١) .

قال العلامة الحلي قدس‌سره : واتفق المفسرون كافة علىٰ أن الأبناء إشارة إلىٰ الحسن والحسين عليهما‌السلام ، والنساء إشارة إلىٰ فاطمة عليها‌السلام ، والانفس إشارة إلىٰ علي عليه‌السلام ، ولا يمكن أن يقال أن نفسيهما واحدة فلم يبق المراد من ذلك إلّا المساوي ، ولا شك في أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل الناس ، فمساويه كذلك أيضاً (٢) .

ومن السنة النبوية

١ ـ عن عمار بن ياسر رضي‌الله‌عنه قال : كنت أنا وعلي رفيقين في غزوة

_______________

(١) صحيح مسلم ٤ / ١٨٧١ كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، سنن الترمذي ٥ / ٦٣٨ .

(٢) كشف المراد في شرح الاعتقاد : ٣٨٥ .


ذي العشيرة ، فلما نزلها رسول الله وأقام بها رأينا ناساً من بني مدلج يعملون في عين لهم في نخل ، فقال لي علي : يا أبا اليقظان هل لك أن تأتي هؤلاء فننظر كيف يعملون ؟ فجئناهم فنظرنا إلىٰ عملهم ساعة ثم غشينا النوم ، فانطلقت أنا وعلي فاضطجعنا في صور من النخل في دقعاء من التراب فنمنا ، فوالله ما أيقظنا إلّا رسول الله يحركنا برجله وقد تتربنا من تلك الدقعاء ، فقال رسول الله : « يا أبا تراب » لما يرىٰ عليه من التراب ، فقال رسول الله : « ألا أُحدثكما بأشقىٰ الناس رجلين ؟ » قلنا : بلىٰ يا رسول الله ، قال : « أُحيمر ثمود الذي عقر الناقة ، والذي يضربك يا علي علىٰ هذه ـ يعني قرنه ـ حتىٰ تبتل هذه من الدم ـ يعني لحيته ـ » (١) .

فإذا أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن قاتل أمير المؤمنين عليه‌السلام هو أشقىٰ الآخرين ، فهذا يعني أن له منزلة عظيمة عند الله تعالىٰ لا تضاهيها حتىٰ منزلة بعض الأنبياء الذين قُتلوا كيحيىٰ بن زكريا عليهما‌السلام وغيره من أنبياء بني إسرائيل ، إذ لم يخبرنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن قتلة هؤلاء الأنبياء هم من أشقىٰ الناس ، مما يدل علىٰ أفضلية أمير المؤمنين عليه‌السلام حتىٰ

_______________

(١) المستدرك ٣ / ١٤١ وقال هذا حديث صحيح علىٰ شرط مسلم ووافقه الذهبي ، مسند أحمد ٤ / ٢٦٣ ، سيرة ابن هشام ٢ / ٢٤٩ ، الطبقات الكبرىٰ ٢ / ١٠ ، وغيرها من الصادر .


علىٰ أُولئك الأنبياء عليهم‌السلام .

٢ ـ كما جاء في الحديث الشريف أن عيسىٰ عليه‌السلام ـ وهو من الأنبياء من أُولي العزم ـ يصلي خلف الإمام المهدي عليه‌السلام ، وهو الإمام الثاني عشر من المعصومين عند الشيعة الامامية ، وبما أن أهل السنّة يستدلّون بصلاة أبي بكر في مرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله علىٰ أفضليته ، فنحن نعتقد أن الامام المهدي عليه‌السلام ينبغي أن يكون أفضل من عيسىٰ عليه‌السلام الذي يأتمّ بصلاته .



الفصل الثامن : عصمة الأئمّة عليهم‌السلام

قال الشيخ في « مطلب العصمة » :

ومنها اشتراطهم كون الامام معصوماً وايجابهم علىٰ الله عدم إخلاء الزمان من إمام معصوم وحصر الامام المعصومين في إثني عشر ، وبطلان هذا وتناقضه واشتماله علىٰ سوء الأدب مع الله أظهر من أن يذكر ، وأبطلوا بهذا القول الباطل الجماعة في الصلاة . . . (١) .

لا أدري ما وجه البطلان في وجوب العصمة في الامام الذي تؤيده الأدلة العقلية والنقلية .

وإذا كان وجوب العصمة يستلزم مشاركة الأنبياء في وصف

_______________

(١) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ٣٤ .


العصمة ـ كما يقول الشيخ عبد الوهاب في « مطلب العصمة » أيضاً (١) ـ فنحن نقول بذلك فعلاً ، فالأئمة يشاركون الانبياء عليهم‌السلام في الرسالة كلها عدا النبوة ، وقد أثبت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الحقيقة بقوله لعلي عليه‌السلام في الحديث المتفق عليه بين جميع الطوائف الاسلامية : « أما ترضىٰ أن تكون مني بمنزلة هارون من موسىٰ إلّا أنه لا نبوة بعدي » (٢) .

فالنبي قد أثبت لأمير المؤمنين عليه‌السلام جميع المراتب التي لهارون ـ وهو نبي ـ ولم يستثنِ منها إلّا النبوة ، ومعلوم أن العصمة إحدىٰ هذه المراتب ، فطالما أنّ هارون نبي معصوم ، فعلي بن أبي طالب عليه‌السلام إمام معصوم ، وهكذا الأمر في أولاده المعصومين عليهم‌السلام .

أما اشتراط الامامية العصمة في الامام ، فان الادلة العقلية والنقلية تثبت ذلك .

يقول المحقق الطوسي رحمه‌الله : وامتناع التسلسل يوجب عصمته ، ولأنه حافظ للشرع ، ولوجوب الإنكار عليه لو أقدم علىٰ المعصية ، فيضاد أمر الطاعة ويفوت الغرض من نصبه ، ولانحطاط رتبته عن

_______________

(١) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ٢٧ .

(٢) صحيح مسلم ٤ / ١٨٧٠ ، صحيح البخاري ٥ / ٢٤ ، مسند أحمد ١ / ٣٣٠ ـ ٣٣١ ، ١ / ١٧٠ ، ١٧٣ ، ١٧٤ ، ١٧٥ ، ١٧٧ ، ١٧٩ ، ١٨٤ ، ١٨٥ ، ٣ / ٣٢ ، ٣٣٨ ، ٨ / ٣٦٩ ، ٤٣٨ ، وغيرها .


أقل العوام (١) .

وهذا حق ، لأن الناس من الرعية ليسوا بمعصومين ، فيحتاجون إلىٰ المعصوم لتسديدهم ، فاذا لم يكن الامام معصوماً فسوف يحتاج إلىٰ من يسدده ، والآخر يحتاج إلىٰ من يسدده ، فيحدث التسلسل الذي لا نهاية له .

ولأن الامام حافظ للشرع بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلابد وأن يكون معصوماً ، لأن الكتاب والسنة لم يحيطا بكل الدقائق والتفاصيل ، والدليل علىٰ ذلك هو هذه الخلافات ـ ليس بين المذاهب المختلفة فحسب ، بل وبين أبناء المذهب الواحد أيضاً ـ فالإمام المعصوم هو الذي يستطيع أن يتكفل تبيين أُمور الشريعة ، لأنه العالم بكتاب الله الحافظ لسنة نبيه الصحيحة .

ولقد أثبت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عصمة أهل البيت عليهم‌السلام عند ما قرنهم بكتاب الله وجعلهم أعداله الذين لا يفترقون عنه حتى يردوا عليه الحوض جميعاً ، كما هو واضح في حديث الثقلين .

وكتاب الله العزيز قد أثبت العصمة للأئمة عليهم‌السلام في قوله تعالىٰ :

_______________

(١) تجريد الاعتقاد : ٢٢٢ .


( أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) (١) .

قال الشيخ المظفر رحمه‌الله : فانه تعالىٰ أوجب طاعة أُولي الأمر علىٰ الاطلاق كطاعته وطاعة الرسول ، وهو لا يتم إلا بعصمة أُولي الأمر ، فان غير المعصوم قد يأمر بمعصية وتحرم طاعته فيها ، فلو وجبت أيضاً اجتمع الضدان : وجوب طاعته وحرمتها ، ولا يصح حمل الآية علىٰ إيجاب الطاعة له في خصوص الطاعات ، إذ مع منافاته لإطلاقها لا يجامع ظاهرها من إفادة تعظيم الرسول وأُولي الأمر بمساواتهم في وجوب الطاعة ، إذ يصبح تعظيم العاصي ولاسيما المنغمس بأنواع الفواحش ، علىٰ أن وجوب الطاعة في الطاعات ليس من خواص الرسول وأُولي الأمر ، بل تجب طاعة كل آمر بالمعروف ، فلابد أن يكون المراد بالآية بيان عصمة الرسول وأُولي الأمر ، وأنهم لا يأمرون ولا ينهون إلّا بحق (٢) .

أما كون الامامة واجبة علىٰ الله تعالىٰ ، فيثبته قوله تعالىٰ لابراهيم عليه‌السلام : ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (٣) .

_______________

(١) سورة النساء : ٥٩ .

(٢) دلائل الصدق ٢ / ١٧ .

(٣) سورة البقرة : ١٢٤ .


فالله سبحانه وتعالىٰ قد اختار إبراهيم عليه‌السلام إماماً ، وعند ما طلب إبراهيم جعلها في ذريته أخبره الله تعالىٰ أن الامامة عهد من الله سبحانه وتعالى متعلق بمشيئته سبحانه في اختيار الأصلح لهذا المنصب ، وليس لأحد غيره سبحانه أن يتولّىٰ نصب الامام .

فبهذا وغيره يبطل إدعاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأن إيجاب الامامة علىٰ الله سبحانه والقول بضرورة عصمة الامام ، هو من إدعاءات الشيعة ولم يرد به نص أو سنة أو دليل عقلي ... .

فالنص الالهي والسنة النبوية المطهرة والعقل كلها تثبت صحة نظرية الشيعة في الامام وعصمة الامام .

وسيأتي الحديث عن الجمعة والجماعة في مباحث لاحقة .

ذرية الحسن عليه‌السلام

قال الشيخ في « مطلب نفي ذرية الحسن » :

ومنها قولهم : إن الحسن بن علي لم يعقب وأن عقبه انقرض وأنه لم يبق من نسله الذكور أحد ، وهذا القول شائع فيهم وهم مجمعون عليه ولا يحتاج إلىٰ إثباته ، كذا قيل ، ومنهم من يدّعي أن


الجاج (١) مثلهم كلهم ، وتوصلوا بذلك إلىٰ أن يحصروا الامامة في أولاد الحسين... (٢) .

إن هذا المطلب أتفه من أن يحتاج إلىٰ إبطاله ، وقول الشيخ : كذا قيل ، يدل علىٰ أنه ينقل من مصادر غير موثوقة ، إذ ليس بين الشيعة كلهم من يقول بمثل المقالة التي يدعيها الشيخ ، ولا وجدت رواية واحدة في أي كتاب من كتبهم تشير إلىٰ ذلك .

والسادة الحسنيون يعدون بالأُلوف ، بل أن بعض مراجع الشيعة العظام كالسيد محسن الحكيم رحمه‌الله هو من نسل الامام الحسن عليه‌السلام ، ولا حاجة للافاضة في هذا الموضوع سوىٰ الاشارة إلىٰ أن ديدن الشيخ محمد بن عبد الوهاب هو الافتراء والكذب ، وقد صرّح بعض مَن ناظرناه في هذه المسألة بخطأ محمد بن عبد الوهاب في هذا الإدعاء ، فقلنا له : إن إنساناً ينسب إلىٰ فرقة قولاً ويدعي عليه أنه شائع فيهم وهم مجمعون عليه !! مع أنه لم يقل به واحد منهم ، بل لم يسمعوا به ، هكذا شخص كيف يلقب بشيخ الإسلام ؟!! .

_______________

(١) لم يتضح لي المقصود من هذه الكلمة .

(٢) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ٢٩ .


الفصل التاسع : أحكام المخالفين

قال الشيخ في « مطلب خلافهم في خروج غيرهم من النار » :

ومنها أنه قال الحلي في شرح التجريد : اختلف الأئمة في غير الاثني عشرية من الفرق الاسلامية هل يخرجون من النار ويدخلون الجنة أم يخلدون فيها بأجمعهم ؟ قال : والاكثرون علىٰ الثاني ، وقال شرذمة بالأول ، وقال ابن نوبخت : يخرجون من النار ولا يدخلون الجنة بل هم بالاعراف ، انتهى . وهذا مبني علىٰ أن مذهبهم اعتقادهم أهل الجنة كفاراً أو فساقاً مع اعتقادهم أن الفاسق لا يخرج من النار أبداً ، وهذا يستلزم تكذيب ما صح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من إخراج عصاة الموحدين من النار ، وما روي في فضل السواد


الاعظم الذين هم أهل السنة ، وقد صح أن الصحابة وأخيار التابعين مذهب أهل السنة مذهبهم ، وقولهم هذا يشبه قول أهل الكتاب حيث قالوا : لن يدخل الجنة إلّا من كان هوداً أو نصارىٰ . وكذلك هؤلاء يقولون بأفواههم : لن يدخل الجنة إلا من كان رافضياً ، أُنظر كيف يفترون علىٰ الله الكذب ، بل أفعالهم تقتضي حرمانهم عنها (١) .

أقول : إن الشيخ لم يكن أميناً في نقل عبارة العلامة الحلي قدس‌سره ، وهذه للأسف هي إحدىٰ الوسائل الملتوية التي يلجأ إليها خصوم الشيعة عند ما يعجزهم الدليل في قرع الحجة بالحجة ، فيلجؤون إما إلىٰ تزييف النصوص الواردة عن الشيعة أو بترها والتصرف فيها بحيث تعطي معنىٰ معاكساً للمقصود منها .

وعبارة العلامة الحلي قدس‌سره لم ترد بهذا الشكل الذي يستهدف الشيخ من ورائه إثارة الضغائن وتأليب المسلمين بعضهم علىٰ بعض وإيقاع الفتنة بينهم ، إذ أن عبارة الشيخ توحي بأن الشيعة يكفّرون غيرهم من المسلمين ، وهذا إفتراء عظيم وبهتان يبرأ الشيعة منه ، وسوف أُورد بعض الأمثلة التي تكذب هذا الادعاء بعد نقل عبارة

_______________

(١) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ٣٠ .


العلامة الحلي قدس‌سره كاملة حتىٰ يتبين وجه الزيف فيما ينقل الشيخ عنه .

قال العلامة الحلي قدس‌سره ـ في شرحه علىٰ تجريد الاعتقاد للمحقق الطوسي قدس‌سره ـ في أحكام المخالفين :

قال : محاربو علي عليه‌السلام كفرة ، ومخالفوه فسقه :

المحارب لعلي عليه‌السلام كافر لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « ياعلي ، حربك حربي » ، ولا شك في كفر من حارب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأما مخالفوه في الإمامة ، فقد اختلف قول علمائنا ، فمنهم من حكم بكفرهم لأنهم دفعوا ما علم ثبوته من الدين ضرورة وهو النص الجلي الدال علىٰ إمامته مع تواتره ، وذهب آخرون إلىٰ أنهم فسقة ، وهو الأقوىٰ ، ثم اختلف هؤلاء علىٰ أقول ثلاثة :

أحدها : أنّهم مخلدون في النار لعدم استحقاقهم الجنة .

الثاني : قال بعضهم : إنهم يخرجون من النار إلىٰ الجنة .

الثالث : ما ارتضاه ابن نوبخت وجماعة من علمائنا أنهم يخرجون من النار لعدم الكفر الموجب للخلود ولا يدخلون الجنة لعدم الايمان المقتضي لاستحقاق الثواب (١) .

أما قول الشيخ : هذا مبني علىٰ أن مذهبهم اعتقادهم أهل الجنة

_______________

(١) كشف المراد ٣٩٨ .


كفاراً ... مع اعتقادهم أن الفاسق لا يخرج من النار ... إلخ .

فهذا أيضاً من الافك الذي يبرأ الشيعة منه ، فلننظر مثلاً إلىٰ ما يقوله المحقق الطوسي رحمه‌الله في انقطاع عذاب صاحب الكبائر :

أ ـ والكافر مخلّد ، وعذاب صاحب الكبيرة منقطع ... لاستحقاقه الثواب بايمانه ، ولقبحه عند العقلاء ، والسمعيات متأولة ، ودوام العقاب مختص بالكافر .

ب ـ الشفاعة : والاجماع علىٰ الشفاعة ، فقيل : لزيادة المنافع ، ويبطل منا في حقه ، ونفي المطاع لا يستلزم نفي المجاب ، وباقي السمعيات متأولة بالكفار .

وقيل : في إسقاط المضار ، والحق صدق الشفاعة فيهما ، وثبوت الثاني له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقوله : « إدّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمتي » (١) .

أما إدعاء الشيخ أن قول الشيعة يشبه قول النصارىٰ واليهود ، فالحقيقة أن رأي الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباع مدرسته هو الذي يشبه ذلك ، لأنهم يعتبرون أنفسهم الموحدين دون غيرهم ، ويعتبرون باقي المسلمين ـ سنة وشيعة ـ من المشركين ، ويستطيع كل باحث في آثار الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، وكل من يخالطهم

_______________

(١) تجريد الاعتقاد : ٣٠٤ ـ ٣٠٥ .


أن يلاحظ ذلك عياناً .

أما الشيعة ، فان ما جاء في روايات أئمتهم المعصومين عليهم‌السلام يثبت أن الشيعة لا يكفّرون أحداً من أهل القبلة ، وإليك بعض الأمثلة :

١ ـ عن شريك المفضل قال : سمعت أبا عبدالله عليه‌السلام يقول : « الاسلام يحقن به الدم وتؤدىٰ به الأمانة وتستحل به الفروج ، والثواب علىٰ الايمان » (١) .

٢ ـ عن سفيان بن السمط قال : سأل رجل أبا عبدالله عليه‌السلام عن الاسلام والايمان ، ما الفرق بينهما ... فقال : « الاسلام هو الظاهر الذي عليه الناس : شهادة أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصيام شهر رمضان ، فهذا الاسلام ... » الحديث (٢) .

٣ ـ وعن حمران بن أعين ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سمعته يقول : « الايمان ما استقر في القلب وأفضىٰ به إلىٰ الله عزوجل وصدقه العمل بالطاعة لله والتسليم لأمره ، والاسلام ماظهر من قول أو فعل ، وهو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلها ، وبه حقنت الدماء

_______________

(١) أصول الكافي ٢ / ٢٠ .

(٢) المصدر السابق .


وعليه جرت المواريث وجاز النكاح ، واجتمعوا علىٰ الصلاة والصوم والحج ، فخرجوا بذلك من الكفر وأُضيفوا إلىٰ الايمان ... » الحديث (١) .

كما أن إدعاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن مذهب الصحابة هو مذهب أهل السنة ، فغير صحيح ، وسنثبت ذلك في المطلب الآتي .

مخالفة أهل السنة :

قال الشيخ في « مطلب مخالفتهم أهل السنة » :

ومنها أنهم جعلوا مخالفة أهل السنة والجماعة الذين هم علىٰ ما عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه أصلاً للنجاة ، فصاروا كلّما فعل أهل السنة تركوه ، وإن تركوا شيئاً فعلوه ، فخرجوا بذلك عن الدين رأساً ، فان الشيطان سوّل لهم ، وأملىٰ لهم وادعوا بأن هذه المخالفة علامة أنهم الفرقة الناجية ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « الفرقة الناجية هي السواد الأعظم وما أنا عليه وأصحابي » ، فلينظر إلىٰ الفرق ومعتقداتهم وأعمالهم ، فما وافقت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه هي الفرقة الناجية ، وأهل السنة هم المتبعون لآثاره صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآثار

_______________

(١) المصدر السابق ٢ / ٢٢ باب أن الاسلام يحقن به الدم وتؤدىٰ به الأمانة .


أصحابه كما لا يخفىٰ علىٰ منصف ينظر بعين الحق ، فهم أحق أن يكونوا الفرقة الناجية وآثار النجاة ظاهرة فيهم لاستقامتهم علىٰ الدين من غير تحريف وظهور مذهبهم وشوكتهم في غالب البلاد ووجود العلماء المحققين والمحدثين والأولياء والصالحين فيهم ، وقد نزع الولاية عن الرافضه فما سمع فيهم ولي قط (١) .

أقول : إن إدعاء الشيخ بالمخالفة لا أساس له من الصحة ، لكن الحقيقة المؤسفة هي أن أهل السنة هم الذين خالفوا سنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أكثر من مورد واتبعوا سنن الذين أحدثوا في الدين ـ كما أخبر النبي بذلك ـ وأهل السنة يعترفون صراحة بمخالفة السنة النبوية بدعوىٰ أنهم يخالفون الشيعة أوالروافض كما يسمونهم ، وإليك طائفة من هذه الاعترافات :

١ ـ قال ابن تيمية : ذهب من ذهب من الفقهاء إلىٰ ترك بعض المستحبات إذا صارت شعاراً لهم ـ يعني الشيعة ـ فانه وإن لم يكن الترك واجباً لذلك ، لكن في إظهار ذلك مشابهة لهم فلا يتميز السني من الرافضي ، ومصلحة التميّز عنهم لأجل هجرانهم ومخالفتهم أعظم

_______________

(١) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ٣٠ .


من مصلحة هذا المستحب (١) .

فابن تيمية يعترف بأن أهل السنة هم الذين يخالفون السنة النبوية ويتركون المستحبات بدعوىٰ مخالفة الشيعة والتميّز عنهم .

٢ ـ قال البيهقي : عن سفيان التمار أنه حدّثه أنه رأىٰ قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسنَّماً ، رواه البخاري في الصحيح عن محمد بن مقاتل عن عبدالله بن المبارك ، ومتىٰ صحت رؤية القاسم بن محمد قبورهم مبطوحة ببطحاء العرصة فذلك يدل علىٰ التسطيح ، وصحت رؤية سفيان التمار قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسنَّماً ، فكأنه غُيّر عما كان عليه في القديم ، فقد سقط جداره في زمن الوليد بن عبدالملك وقيل في زمن عمر بن عبدالعزيز ثم أُصلح ، وحديث القاسم بن محمد في هذا الباب أصح وأولىٰ أن يكون محفوظاً ، إلّا أن من أهل العلم من أصحابنا استحب التسنيم في هذا الزمان لكونه جائزاً بالاجماع ، وأن التسطيح صار شعاراً لأهل البدع فلا يكون سبباً لإطالة الالسنة فيه ورميه بما هو منزّه عنه من مذاهب أهل البدع (٢) .

٣ ـ وقال الشعراني : والسنة في القبر التسطيح ، وهو أولىٰ علىٰ

_______________

(١) منهاج السنة النبوية ٢ / ١٤٧ .

(٢) السنن الكبرىٰ ٤ / ٣ ـ ٤ .


الراجح من مذهب الشافعي ، وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد : التسنيم أولىٰ ، لأن التسطيح صار شعاراً للشيعة (١) .

فأهل السنة يعترفون أن السنة في القبور هي التسطيح ، ولكنهم عدلوا إلىٰ التسنيم إتباعاً لبني أُمية الذين غيروا قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي كان مسطحاً فجعلوه مسنّماً !!

وأهل السنة يعترفون بمخالفتهم للسنة النبوية في ذلك ، لكنهم يبررون ذلك بمخالفة الشيعة ، لأن الشيعة يسطّحون قبورهم تبعاً للسنة النبوية !!

٤ ـ قال الزمخشري : عن عائشة رضي الله عنها : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتختم في يمينه ، وقُبض صلى‌الله‌عليه‌وسلم والخاتم في يمينه ، وذكر السلامي : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتختم في يمينه والخلفاء بعده ، فنقله معاوية إلىٰ اليسار ، فأخذ المروانية بذلك ... (٢) .

هذا مع العلم أن الشيعة ما زالوا محافظين علىٰ السنة النبوية بلبس الخاتم في اليمين .

٥ ـ قال الزرقاني : وروىٰ ابن أبي شيبة وأبو داود الطيالسي

_______________

(١) رحمة الأُمة بهامش الميزان ١ / ١٠١ ـ ١٠٢ .

(٢) ربيع الأبرار ٤ / ٢٤ .


والبيهقي عن علي ، قال : « عمّمني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعمامة سدل طرفها علىٰ منكبي » .

لم يبن أهو الأيمن أو الأيسر ... فلعله كان يرخيها من الجانب الأيمن ثم يردها إلىٰ الجانب الأيسر كما يفعله بعضهم ، إلّا أنه صار شعار الإمامية فينبغي تجنبه لترك التشبه بهم (١) .

فهذه الأمثلة القليلة تثبت أن أهل السنة هم الذين يخالفون الشيعة رغم أن الشيعة متمسكون بالسنة النبوية المطهرة ، ولا أدري ما ذنب الشيعة حتىٰ يستحقوا المخالفة والمقاطعة كما تبين من أقوال علماء أهل السنة وعلىٰ رأسهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب وقدوته ابن تيمية الحراني ، فهل ينتظر هؤلاء من الشيعة أن يتخلوا عن السنة النبوية ـ وهم أتباع أهل البيت المطهرين الذين أمر النبي باتباعهم ـ ؟ وهل أن لفظة أهل السنة تليق بمخالفي السنة أم بأتباعها ؟!

وإذا كانت سمة الفرقة الناجية ـ كما يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ هي موافقتهم سنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه الذين تمسكوا بها ، فقد أثبت الشيخ بذلك القول أن الشيعة هم تلك الفرقة وليس غيرهم .

أما إدعاء الشيخ بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد عيّن الفرقة الناجية بالسواد

_______________

(١) شرح المواهب ٥ / ١٣ .


الأعظم ، فليس صحيحاً ، لأن ذلك يخالف القرآن الذي جاءت آياته بذم الاكثرية دائماً ، ومنها قوله تعالىٰ : ( وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ ) (١) .

وحديث السواد الاعظم أخرجه عدد من الحفاظ ، من بينهم ابن ماجة في سننه (٢) ، قال محققه : في المجمع : في إسناده أبو خلف الاعمىٰ ، وإسمه حازم ابن عطاء ، وهو ضعيف ، وقد جاء الحديث بطرق في كلها نظر ، قاله شيخنا العراقي في تخريج أحاديث البيضاوي ، وقد سأل رجل إسحاق بن راهويه : يا أبا يعقوب ، من السواد الاعظم ؟ قال : محمد بن أسلم وأصحابه ومن تبعه ، ثم قال إسحاق : لم أسمع عالماً منذ خمسين سنة كان أشد تمسكاً بأثر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من محمد بن أسلم (٣) .

وقال إسحاق بن راهويه أيضاً : لو سألت الجهال عن السواد الأعظم قالوا : جماعة الناس ، ولا يعلمون أن الجماعة عالِمٌ متمسك بأثر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمن كان معه وتبعه فهو الجماعة ومن خالفه فيه ترك الجماعة (٤) .

_______________

(١) سورة الانعام : ١١٦ .

(٢) سنن إبن ماجه ٢ / ١٣٠٣ باب السواد الاعظم .

(٣) سير أعلام النبلاء ١٢ / ١٩٦ ـ ١٩٧ .

(٤) حلية الاولياء ٩ / ٢٣٨ .



الفصل العاشر : الرجعة

قال الشيخ في « مطلب الرجعة » :

ومنها أنه ما قال أضلهم محمد بن بابويه القمي في عقائده في مبحث الايمان بالرجعة : فانهم عليهم الصلاة قالوا : « من لم يؤمن برجعتنا فليس منا » ، وإليه ذهب جميع علمائهم ، قالوا : إن النبي وعلياً رضي‌الله‌عنه والأئمة الاثني عشر يحيون في آخر الزمان ويحشرون بعد خروج المهدي وبعد قتله الدجال ، ويحيا كل من الخلفاء الثلاثة وقتلة الأئمة ، فيقتل النبي الخلفاء حدّاً والقتلة قصاصاً ويصلبون الظالمين ويبتدئون بصلب أبي بكر وعمر علىٰ شجرة ، فمن قائل يقول : إن تلك تكون رطبة فتجف تلك الشجرة بعد أن صلبا عليها فيضل بذلك خلق


كثير من أهل الحق ويقولون ظلمناهم ، ومن قائل يقول : الشجرة تكون يابسة فتخضر بعد الصلب ويهتدي به جم غفير من محبيهما . قيل ذكروا في كتبهم أن تلك الشجرة نخلة وأنها تطول حتىٰ يراها أهل المشرق والمغرب وأن الدنيا تبقىٰ بعد ذلك خمسين ألف سنة ، وقيل : مائة وعشرين ألف سنة لكل إمام من الاثني عشر ، اثني عشر الف سنة ، وقال بعضهم : إلّا المهدي فان له ثمانين ألف سنة ثم يرجع آدم ثم شيث ثم إدريس ثم نوح ثم بقية الأنبياء إلىٰ أن ينتهي إلىٰ المهدي ، وأن الدنيا غير فانية وأن الآخرة غير آتية ، كذا نقل عنه والله أعلم ... (١) .

قلت : يكفينا في إدانة الشيخ بنقله هذه الأساطير قوله : قيل ذكروا في كتبهم ، أو كذا نقل عنه ... ، مما يدل علىٰ عدم تثبت الشيخ في نقل ما يستشهد به ، وأنه إنما يرجم بالغيب معتمداً علىٰ نقل تخرصات قوم لا يتصفون بالأمانة والصدق .

ومقتضىٰ هذه الرواية أن الشيعة لا يؤمنون بالقيامة ، وهذا من أقبح الافتراءات عليهم ، كيف ذلك وهم أتباع أهل البيت الذين

_______________

(١) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ٣١ ـ ٣٢ .


أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ، وهم الثقل الثاني الذي أمر النبي بالتمسك به بعد القرآن العزيز ، وإن وصف هذه الطائفة المؤمنة بمثل هذه الأوصاف البذيئة يتنافىٰ مع قوله سبحانه وتعالىٰ : ( وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (١) .

ولو أن الشيخ وأمثاله قرأوا آراء علماء الشيعة حول الرجعة لأدركوا بأنهم لا يلقون الكلام علىٰ عواهنه ـ كما يفعل هو وأمثاله ـ بل هم يستندون إلىٰ الكتاب والسنة اللذان أكدا علىٰ قضية الرجعة ، كما سوف يتبين من الأمثلة الآتية .

أ ـ في القرآن الكريم أمثلة وشواهد علىٰ أن رجعة الأموات قد حدثت في الأُمم السابقة لحكمة اقتضتها العناية الالهية ، ولتكون عبرة لأُولي الألباب حتىٰ قيام الساعة علىٰ قدرة الله سبحانه وتعالىٰ ، ورداً علىٰ الجاهلين الذين ينكرون إمكانية حدوث ذلك .

فمن الشواهد القرآنية علىٰ الرجعة في الأُمم السابقة .

١ ـ قوله تعالىٰ : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ

_______________

(١) سورة الحجرات : ١١ .


الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّـهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ) (١) .

٢ ـ قوله تعالىٰ : (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّـهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (٢) .

٣ ـ قوله تعالىٰ حكاية عن عيسىٰ عليه‌السلام : ( وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّـهِ ) (٣) .

٤ ـ قوله تعالىٰ حكاية عن عزير عليه‌السلام : ( فَأَمَاتَهُ اللَّـهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ) (٤) .

٥ ـ قوله تعالىٰ : ( وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي ) (٥) .

٦ ـ قوله تعالىٰ ( فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّـهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (٦) .

ب ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتىٰ لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه » (٧) .

_______________

(١) سورة البقرة : ٢٤٣ .

(٢) سورة البقرة : ٥٥ ـ ٥٦ .

(٣) سورة آل عمران : ٤٩ .

(٤) سورة البقرة : ٢٥٩ .

(٥) سورة المائدة : ١١٠ .

(٦) سورة البقرة : ٧٣ .

(٧) مسند أحمد ٣ / ٨٤ ، ٨٩ ، ٢ / ٢٧ ، ٤٥٠ ، صحيح البخاري ٩ / ١٢٦ كتاب الاعتصام


والسنن هنا تشمل القوانين الطبيعية التي أجراها الله سبحانه وتعالىٰ علىٰ الأُمم السابقة ومن بينها رجعة الاموات ، فما المانع من إجراء هذه السنة علىٰ أُمتنا أيضاً كما حدث لمن قبلهم ؟

هذا فيما يتعلق بما جرىٰ في الأُمم السابقة ، إلا أن في القرآن الكريم أدلة أُخرىٰ علىٰ إمكانية هذه الرجعة مرة أُخرىٰ قبل قيام الساعة في عدد من الآيات الشريفة ، منها قوله تعالىٰ : ( وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (١) .

وقد اختلفت أقوال المفسرين من الطائفتين في مدلول هذه الآية ، فذهب أكثر مفسري أهل السنة إلىٰ أنها إخبار عن يوم القيامة وبيان إجمالي لحال المكذبين عند قيام الساعة بعد بيان بعض مباديها .

قال الآلوسي : إنها من الأًمور الواقعة بعد قيام القيامة وإن المراد بهذا الحشر للعذاب بعد الحشر الكلي الشامل لجميع الخلق ، أي هو حشر بعد حشر (٢) .

_______________

بالكتاب والسنة ، باب قول النبي لتتبعن سنن من كان قبلكم ، صحيح مسلم ٤ / ٢٠٥٤ كتاب العلم ، سنن إبن ماجة : كتاب الفتن .

(١) سورة النمل : ٨٣ ـ ٨٤ .

(٢) روح المعاني ٢٠ / ٢٦ .


لكن المفسرين من أهل السنة ينطلقون من نظرتهم المذهبيه الخاصة التي لا تعترف بامكانية الرجعة ، لذا نجد تفسيرهم للاية لا يستوعب مدلولها بشكل كامل ، كما أن هناك آيات أُخرىٰ تؤيد تفسير الشيعة في دلالة الآية وآيات أُخرىٰ علىٰ الرجعة ، وسوف أقتطف آراء بعض المفسرين والعلماء الشيعة لمدلول الآيات القرآنية علىٰ الرجعة حتىٰ يمكن مقارنة آراء الفريقين حول الرجعة :

١ ـ قال ابن شهر آشوب : لا خلاف أن الله يحيي الجملة يوم القيامة ، فالفوج إنما يكون في غير القيامة (١) .

٢ ـ قال السيد الطباطبائي : لو كان الحشر المراد ، الحشر إلىٰ العذاب ، لزم ذكر هذه الغاية دفعاً للابهام ، كما في قوله تعالىٰ ( وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّـهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّىٰ إِذَا مَا جَاءُوهَا ) مع أنه لم يذكر فيما بعد هذه الآية إلّا العتاب والحكم الفصل دون العذاب .

والآية كما ترى مطلقة لم يشر فيها إلىٰ شيء يلوح إلىٰ هذا الحشر الخاص المذكور ، ويزيدها إطلاقاً قوله بعدها : ( حَتَّىٰ إِذَا مَا جَاءُوهَا ) فلم يقل : حتىٰ إذا جاؤوا العذاب أو النار أو غيرها .

ويؤيد ذلك أيضاً وقوع الآية والآيتين بعدها بعد نبأ دابة الأرض ،

_______________

(١) متشابه القرآن ٢ / ٩٧ .


وهي من أشراط الساعة ، وقبل قوله : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) إلىٰ آخر الآيات الواصفة لوقائع يوم القيامة ، ولا معنىٰ لتقديم ذكر واقعة من وقائع يوم القيامة علىٰ ذكر مشروعه ووقوع عامة ما يقع فيه ، فان الترتيب الوقوعي يقتضي ذكر حشر فوج من كلّ أُمة لو كان من وقائع يوم القيامة بعد ذكر نفخ الصور وإتيانهم إليه داخرين .

وقد تنبه لهذا الاشكال بعض من حمل الآية علىٰ الحشر يوم القيامة فقال : لعل تقديم ذكر هذه الواقعة علىٰ نفخ الصور ووقوع الواقعة للإيذان بأن كلاً مما تضمنه هذا وذاك من الأحوال طامة كبرىٰ وداهية دهياء حقيقة بالتذكير علىٰ حيالها ، ولو روعي الترتيب الوقوعي لربما توهم أن الكل داهية واحدة .

وأنت خبير بأنه وجه مختلف غير مقنع ، ولو كان كما ذكر لكان دفع توهم كون الحشر المذكور في الآية في غير يوم القيامة بوضع الآية بعد آية نفخ الصور مع ذكر ما يرتفع به الابهام المذكور أولىٰ بالرعاية من دفع هذا التوهم الذي توهمه .

فقد بان أن الآية ظاهرة في كون هذا الحشر المذكور فيها قبل يوم القيامة (١) .

_______________

(١) الميزان في تفسير القرآن ١٥ / ٣٩٧ .


٣ ـ قوله تعالىٰ (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ) (١) .

قال الشيخ المفيد قدس‌سره : قال سبحانه مخبراً عمن يحشر من الظالمين أنه يقول يوم الحشر الأكبر : ( رَبَّنَا أَمَتَّنَا ... ) الآية ، وللعامة في هذه الآية تأويل مردود ، وهو أن قالوا : إن المعني بقوله : ( رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ ... ) أنه خلقهم أمواتاً بعد الحياة ، وهذا باطل لا يجري علىٰ لسان العرب ، لأن الفعل لا يدخل إلّا علىٰ ما كان بغير الصفة التي انطوىٰ اللفظ علىٰ معناها ، ومن خلقه الله مواتاً لا يقال إنه أماته ، وإنما يدخل ذلك فيمن طرأ عليه الموت بعد الحياة ، كذلك لا يقال أحيا الله ميتاً إلّا أن يكون قبل إحيائه ميتاً ، وهذا بيّن لمن تأمله .

وقد زعم بعضهم أن المراد بقوله : ( رَبَّنَا ... ) الموتة التي تكون بعد حياتهم في القبور للمساءلة ، فتكون الأولىٰ قبل الاقبار والثانية بعده .

وهذا أيضاً باطل من وجه آخر ، وهو أن الحياة للمسألة ليست للتكليف فيندم الانسان علىٰ ما فاته في حياته ، وندم القوم علىٰ ما فاتهم في حياتهم المرّتين يدل علىٰ أنه لم يرد حياة المساءلة ، لكنه

_______________

(١) سورة غافر : ١١ .


أراد حياة الرجعة التي تكون لتكليفهم والندم علىٰ تفريطهم ذلك فيندمون يوم العرض علىٰ ما فاتهم من ذلك (١) .

٤ ـ قوله تعالىٰ ( وَأَقْسَمُوا بِاللَّـهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّـهُ مَن يَمُوتُ ) إلىٰ قوله تعالىٰ : ( لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ ) (٢) .

روىٰ جمع من علماء الشيعة أنها نزلت في الرجعة ، ولا يخفىٰ أنها لا تستقيم في إنكار البعث ، لأنهم ما كانوا يقسمون بالله ، بل كانوا يقسمون باللات والعزىٰ ، ولأن التبيّن إنما يكون في الدنيا لا في الآخرة (٣) .

٥ ـ قوله تعالىٰ : ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّـهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (٤) .

قال ابن شهر آشوب : هذه الآية تدل علىٰ أن بين رجعة الآخرة والموت حياة أُخرىٰ ، ولا ينكر ذلك لأنه قد جرىٰ مثله في الزمن

_______________

(١) المسائل السروية : ٣٣ .

(٢) سورة النحل : ٣٨ ـ ٣٩ .

(٣) تفسير القمي ١ / ٣٨٥ ، تفسير العياشي ٢ / ٢٥٩ ، الاعتقادات : ٦٣ .

(٤) سورة البقرة : ٢٨ .


الأول ... (١) .

وقال الحر العاملي : وجه الاستدلال بهذه الآية أنه أَثبت الإحياء مرتين ، ثم قال بعدها ( ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ، والمراد به القيامة قطعاً ، والعطف ـ خصوصاً بثم ـ ظاهر في المغايرة ، فالإحياء الثاني إما في الرجعة أو نظير لها ، وبالجملة ففيها دلالة علىٰ وقوع الإحياء قبل القيامة (٢) .

_______________

(١) متشابه القرآن ٢ / ٩٧ .

(٢) الايقاظ من الهجعة ٨ / ٨٤ .


الفصل الحادي عشر : الشهادة الثالثة في الأذان

قال الشيخ في « مطلب زيادتهم في الأذان » :

ومنها : زيادتهم في هذه الأزمنة في الأذان والاقامة وفي التشهد بعد الشهادتين أن علياً ولي الله ، وهذه بدعة مخالفة للدين لم يرد بها كتاب ولا سنة ولم يكن عليها إجماع ولا فيها قياس صحيح ومخالفة لأهل مذهبهم ، فردّها لا يحتاج إليه (١) .

أقول : ينبغي أولاً معرفة مشروعية الزيادة أو النقصان في الأذان أو عدمه ، ومن ثم التحقق من آراء الفريقين لمعرفة أيهما الذي قد زاد في الأذان ومدىٰ مشروعية هذه الزيادة .

بدءاً نقول : إن الشيعة تعتبر ألفاظ الأذان مسألة توقيفية من الله سبحانه وتعالىٰ ، وأن جبريل عليه‌السلام هو الذي علّم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأذان

_______________

(١) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ٣٢ ـ ٣٣ .


والاقامة ، وأنّ أي زيادة أو نقصان فيهما غير جائزة .

أما أهل السنة ، فيدّعون أن الأذان ليس توقيفياً ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أراد أن يتخذ البوق أو النار أو الناقوس ، ثم أخبره أحد الصحابة برؤياه في الأذان فأقرّه النبي :

أخرج جمع من المحدثين من أهل السنة ، واللفظ لأبي داود قال : حدثني أبو عبدالله بن زيد ، قال : لما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالناقوس يعمل ليضرب به للناس لجمع الصلاة ، طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوساً في يده ، فقلت : يا عبدالله ، أتبيع الناقوس ؟ قال : وما تصنع به ؟ فقلت : ندعو به إلىٰ الصلاة ، قال : أفلا أدلك علىٰ ما هو خير من ذلك ؟ فقلت له : بلىٰ ، قال : تقول : الله أكبر ، الله اكبر ... فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته بما رأيت ، فقال : « إنها لرؤيا حق إن شاء الله ، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به فانه أندىٰ صوتاً منك » ، فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به ، قال : فسمع ذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج يجر رداءه ويقول : والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما رأىٰ ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « فلله الحمد » ... (١) .

وأخرج أبو داود ، عن أبي عمير بن أنس ، عن عمومة له من

_______________

(١) سنن أبي داود ١ / ١٣٥ باب كيف الأذان .


الأنصار ، قال : اهتم النبي للصلاة كيف يجمع الناس لها ، فقيل له : انصب راية عند حضور الصلاة فاذا رأوها آذن بعضهم بعضاً ، فلم يعجبه ذلك ، قال : فذكر له القنع ـ يعني الشبور ـ وقال زياد : شبور اليهود ، فلم يعجبه ذلك ، وقال : « هو من أمر اليهود » ، قال : فذكر له الناقوس ، فقال : « هو من أمر النصارىٰ » ، فانصرف عبدالله بن زيد وهو مهتم لهم رسول الله ، فأُري الأذان في منامه ، قال : فغدا علىٰ رسول الله فأخبره ، فقال له : يا رسول الله ، إني لبين نائم ويقظان إذ أتاني آت فأراني الأذان ، قال : وكان عمر بن الخطاب قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين يوماً ، قال : ثم أخبر النبي فقال له : « ما منعك أن تخبرني » ؟ فقال : سبقني عبدالله بن زيد فاستحييت ... (١) .

وأخرج عن عبدالله بن عمر أنه قال : كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون ، فيتحينون الصلاة ، وليس ينادي به أحد ، فتكلموا يوماً في ذلك ، فقال بعضهم : اتخذوا ناقوساً مثل ناقوس النصارىٰ ، وقال بعضهم : قرناً مثل قرن اليهود ، فقال عمر : أو لا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة ؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا بلال ، قم فناد بالصلاة » (٢) .

_______________

(١) المصدر السابق : باب بدء الأذان .

(٢) صحيح البخاري ١ / ١٥٧ باب بدء الأذان ، صحيح مسلم ١ / ٢٨٥ باب بدء الأذان .


كما أخرج البخاري عن أنس بن مالك قال : لما كثر الناس قال ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه ، فذكروا أن يوروا ناراً أو يضربوا ناقوساً ، فأمر بلال أن يشفع الأذان وأن يوتر الاقامة (١) .

هذه أهم روايات بدء الأذان وصفته عند أهل السنة ، وفي المصادر الاُخرىٰ ما يشبهها أيضاً (٢) .

قال العلامة الحلي قدس‌سره : ـ بعد إيراد رواية محمد بن عبدالله بن زيد عن بدء الأذان ـ : وهذا الحديث مدفوع من وجوه :

أ ـ اختلاف الرواية فيه ، فان بعضهم روىٰ أن عبدالله بن زيد لما أمره النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتعليم بلال قال : إئذن لي حتىٰ أؤذن مرة فأكون أول مؤذن في الاسلام ، فاذن له فأذن .

ب ـ شهادة المرء لنفسه غير مسموعة ، وهذا منصب جليل فلا يسمع قوله عن نفسه فيه .

ج ـ كيف يصح أن يأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالناقوس مع أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نسخ شريعة عيسىٰ .

د ـ كيف أمر بالناقوس ثم رجع عنه ؟! إن كان الأمر به مصلحة

_______________

(١) صحيح البخاري ١ / ١٥٧ ـ ١٥٨ .

(٢) انظر سنن ابن ماجه ١ / ٢٣٢ كتاب الاذان باب بدء الاذان ، سنن الترمذي ١ / ٣٥٨ ، سنن النسائي ٢ / ٢٠ ، وغيرها .


استحال نسخه قبل فعله ، وإلا استحال أمره به .

هـ ـ إن كان أمره بالناقوس بالوحي لم يكن له تغييره إلّا بوحي مثله ، فان كان الأذان بوحي فهو المطلوب وإلّا لزم الخطأ ، وإن لم يكن الأمر بالناقوس بالوحي كان منافياً لقوله تعالىٰ : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ ) (١) .

و ـ كيف يصح استناد هذه العبادة الشريفة العامة البلوىٰ المؤبدة الموضوعة علامة علىٰ أشرف العبادات وأهمها إلىٰ منام من يجوز عليه الغلط ! والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يلق عليه ، ولا علىٰ أجلاء الصحابة ؟

ز ـ أهل البيت عليهم‌السلام أعرف بمواقع الوحي والتنزيل ، وقد نصوا علىٰ أنه بوحي .

قال الباقر عليه‌السلام : « لما أُسري برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبلغ البيت المعمور حضرت الصلاة فأذّن جبريل عليه‌السلام وأقام ، فتقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فصف الملائكة والنبيون خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » .

ومثل هذا الذي تعبّد به الملائكة وغيرهم يستحيل إستناده إلىٰ الاجتهاد الذي تجوزونه علىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) .

_______________

(١) سورة النجم : ٣ .

(٢) تذكرة الفقهاء ٣ / ٣٨ ـ ٣٩ .


وإنطلاقاً من هاتين النظرتين المختلفتين ، فان أهل السنة يجيزون التصرف في الاذان ـ وقد حدث ذلك فعلاً ـ أما الشيعة فينفون إمكانية التصرف في الأذان بالزيادة والنقصان ، لأنه توقيفي كما قلنا .

وتبعاً لذلك فقد خضع الأذان عند أهل السنة للاجتهاد والرأي ، فزادوا فيه التثويب وهو قول المؤذن : ( الصلاة خير من النوم ) في أذان صلاة الفجر ، وأسقطوا منه : ( حي علىٰ خير العمل ) ، كما تعترف بذلك رواياتهم ، حتىٰ أنهم يعترفون بأن بعض الصحابة والتابعين كانوا يقولون عند الأذان ( حي علىٰ خير العمل ) بعد الحيعلتين ، وكانوا يخرجون من المسجد إذا سمعوا التثويب ويعتبرونه بدعة :

روىٰ الترمذي عن مجاهد قال : دخلت مع عبدالله بن عمر مسجداً وقد أذَّن فيه ، ونحن نريد أن نصلي فيه ، فثوّب المؤذن ، فخرج عبدالله بن عمر من المسجد وقال : أخرج بنا من عند هذا المبتدع ، ولم يصل فيه ، قال : وإنما كره عبدالله التثويب الذي أحدثه الناس بعد .

وقد حاول البعض إلصاق بدعة التثويب بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لتبرير هذه البدعة ، كماهي العادة عندهم دائماً :

روىٰ الترمذي قال : حدثنا أحمد بن منيع ، حدثنا أبو أحمد


الزبيري ، حدثنا أبو إسرائيل ، عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلىٰ ، عن بلال قال : قال لي رسول الله : « لا تثوبن في شيء من الصلوات إلّا في صلاة الفجر » ، قال : وفي الباب عن أبي محذورة ، قال أبو عيسىٰ ( الترمذي ) : حديث بلال لا نعرفه إلّا من حديث أبي إسرائيل الملائي ، وأبو إسرائيل لم يسمع هذا الحديث من الحكم بن عتيبة ، قال : إنما رواه عن الحسن بن عمارة عن الحكم بن عتيبة ، وأبو إسرائيل إسمه إسماعيل ابن أبي إسحاق ، وليس هو بذاك القوي عند أهل الحديث (١) .

وقال أبو بكر بن العربي : وهو حديث معلول ، وقد شاهدتُ فنّاً من التثويب بمدينة السلام ، وهو أن يأتي المؤذن إلىٰ دار الخليفة فيقول : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ، حي علىٰ الصلاة ( مرتين ) حي علىٰ الفلاح ( مرتين ) ، ورأيت الناس في مساجدهم في بلاد ، إذا قامت الصلاة يخرج إلىٰ باب المسجد من ينادي : الصلاة رحمكم الله ، وهذا كله تثويب مبتدع (٢) .

أما فيما يتعلق بحذف أجزاء من الأذان ، فان الخليفة الثاني عمر

_______________

(١) سنن الترمذي ١ / ٣٨١ ، وأخرجه ابن ماجة ١ / ٢٣٧ ، والبيهقي ١ / ٤٢٤ ، قال البيهقي : وهذا أيضاً مرسل ، فان عبد الرحمن بن أبي ليلىٰ لم يلق بلالاً . فالحديث ضعيف .

(٢) عارضة الأحوذي ١ / ٣١٢ ـ ٣١٤ .


ابن الخطاب قد أمر بحذف : ( حي علىٰ خير العمل ) بعد الحيعلتين ، وقد اعترف القوشجي بذلك ، ولكنه اعتبره اجتهاداً من الخليفة ، فقال : ومنها أنه منع المتعتين ، فانه صعد المنبر وقال : أيها الناس ثلاث كن علىٰ عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا أنهىٰ عنهن وأحرمهن وأعاقب عليهن ، وهي : متعة النساء ومتعة الحج وحي علىٰ خير العمل ... قال القوشجي تعليقاً علىٰ ذلك : إن ذلك ليس مما يوجب قدحاً فيه ، فان مخالفة المجتهد لغيره في المسائل الاجتهادية ليس ببدع ... (١) .

فالقوشجي يعتبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجتهداً كسائر المجتهدين ، هذا هو للأسف مذهب أهل السنة الذي يجوّز علىٰ النبي الخطأ والنسيان والاجتهاد وحتىٰ ارتكاب الذنوب ، وبالتالي فان مخالفة أي مجتهد له ليس ببدعة ، بل هو إجتهاد في مقابل إجتهاد النبي ليس إلّا .

لكن الشيعة الذين يقولون بعصمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المطلقة لا يجوّزون ذلك عليه ، ولا يجوّزون مخالفته بأي حال من الأحوال ، فعصمة النبي المطلقة قد نطق الكتاب بها في قوله تعالىٰ : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) (٢) ، ولا يجوّزون مخالفته ، لقوله تعالىٰ : ( مَا آتَاكُمُ

_______________

(١) شرح تجريد الاعتقاد : ٣٧٤ .

(٢) سورة النجم : ٣ ـ ٤ .


الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (١) .

وقد أحس أهل السنة بفداحة الأمر ، فحاولوا أن يخرجوا من هذه الورطة بنسبة هذا التصرف في الأذان ـ كما في غيره ـ إلىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لصرف التهمة عن عمر بن الخطاب :

أخرج البيهقي قال : أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن الحارث الفقيه ، ثنا أبو محمد بن حيان أبو الشيخ الاصفهاني ، ثنا محمد بن عبدالله بن رسته ، ثنا يعقوب بن حميد بن كاسب ، ثنا عبد الرحمن بن سعد المؤذن ، عن عبدالله بن محمد بن عمار ، وعمار وعمر ابني حفص بن عمر بن سعد ، عن آبائهم ، عن أجدادهم ، عن بلال : أنه كان ينادي بالصبح فيقول : حي علىٰ خير العمل ، فأمره النبي أن يجعل في مكانها : الصلاة خير من النوم وترك حي علىٰ خير العمل .

قال الشيخ : وهذه اللفظة لم تثبت عن النبي فيما علّم بلالاً وأبا محذورة ، ونحن نكره الزيادة فيه وبالله التوفيق (٢) .

أما بعض الصحابة والتابعين فقد استمرّوا علىٰ الحيعلة الثالثة ، فقد أخرج البيهقي أن ابن عمر كان يكبر في النداء ثلاثاً وشهد ثلاثاً وكان أحياناً إذا قال : حي علىٰ الفلاح ، قال علىٰ أثرها : حي علىٰ

_______________

(١) سورة الحشر : ٧ .

(٢) السنن الكبرىٰ ١ / ٤٢٥ .


خير العمل (١) .

وأخرج عن جعفر بن محمد ، عن أبيه : أن علي بن الحسين كان يقول في أذانه إذا قال حي علىٰ الفلاح ، قال : حي علىٰ خير العمل ، ويقول : هو الأذان الأول (٢) .

وقال السهيلي : ونقل عن ابن عمر وعن علي بن الحسين رضي الله عنهم أنهما كانا يقولان في أذانيهما بعد حي علىٰ الفلاح : حي علىٰ خير العمل (٣) .

هذا هو ما أحدثه أهل السنة في الأذان ، وجعلوه جزءاً منه ، أما الشيعة فيعتبرون الأذان توقيفياً ـ كما قلنا ـ والنداء الثالث ليس عندهم من أجزاء الأذان ، بل أن إعتباره جزءاً من الأذان يبطله عندهم .

وإنّما يأتون به من باب الاستحباب ، وذلك لورود الروايات الكثيرة في مصادر الفريقين من المقارنة بين اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واسم الامام علي عليه‌السلام ، ويكون كاستحباب الصلاة علىٰ النبي بعد الشهادة بالرسالة .

فلماذا يعاب علىٰ الشيعة ذلك ويتسامح مع غيرهم في ما هو أكبر ؟!

_______________

(١) السنن الكبرىٰ ١ / ٢٢٤ .

(٢) المصدر السابق .

(٣) السيرة الحلبية ٢ / ٩٨ .


الجمع بين الصلاتين :

قال الشيخ في « مطلب الجمع بين الصلاتين » :

ومنها تجويزهم الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير عذر ، وقد روىٰ الترمذي قال : قال رسول الله : « من جمع بين صلاتين بغير عذر فقد أتىٰ باباً من الكبائر » ، وقد ورد أن من أشراط الساعة تأخير الصلاة عن أوقاتها ، وما روي عن ابن عباس رضي‌الله‌عنه من الجمع بين العصرين والعشاءين فمؤول بتأخير الأولىٰ إلىٰ آخر وقتها وأداء الاُخرىٰ في أول وقتها والله اعلم .

قيل : إن سبب جمعهم بين الظهرين والمغربين طول الدهر مع إختيار التأخير فيهما هو : أنهم ينتظرون القائم المختفي في السرداب ليقتدوا به فيؤخرون الظهر إلىٰ العصر إلىٰ قريب غروب الشمس ، فاذا يئسوا من الامام واصفرّت الشمس وصارت بين قرني الشيطان نقروا عند ذلك كنقر الديك فصلوا الصلاتين من غير خشوع ولا طمأنينة فرادىٰ من غير جماعة ... » (١) .

_______________

(١) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ٣٣ .


هذه أُسطورة أُخرىٰ من أساطير الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي لا تنتهي أساطيره ، وكأنه يتحدّث عن أقوام بائدة ، أو عن سكان كوكب آخر يتعذر الوصول إليهم .

ولنا أن نسأل الشيخ : إذا كان الشيعة يربون علىٰ عشرات الملايين ، وهم منتشرون في كافة بقاع الأرض ، فكيف يتاح لهم الوقوف علىٰ ذلك السرداب والاجتماع عنده وقت الصلاة كل يوم ؟ كيف يستطيع الشيعي الهندي مثلاً أن يجيء لينتظر علىٰ باب السرداب كل يوم وهو يبعد عنه آلاف الأميال ؟ أم أن ذلك مختص بأهل مدينة سامراء التي يوجد فيها السرداب ، وهل أن هؤلاء هم الشيعة كلهم ؟!!

علىٰ أي حال لا أرىٰ حاجة للاسهاب في الكلام عن هذه الخرافة التي لا يقبلها إلّا عقل مريض .

أما فيما يتعلق بموضوع الجمع بين الصلاتين ، فلو كان الشيخ علىٰ شيء ولو يسير من العلم لما خاض هذه المخاضة وفضح نفسه بعد أن وردت به الآثار الصحاح ، وركن إليه العلماء من أهل السنة واعترفوا بمشروعيته ، رغم أن معاندة الحق والتعصب المذهبي قد يدفع البعض إلىٰ محاولة إيجاد تأويلات غير مقنعة لا تنهض أمام الحقائق الدامغة .


وسوف استعرض جملة من الروايات التي وردت في كتب أهل السنة وصحاحهم مع الاشارة إلىٰ بعض تعليقات الشراح والعلماء عليها :

عن ابن عباس قال : صلىٰ رسول الله الظهر والعصر جميعاً ، والمغرب والعشاء جميعاً ، في غير خوف ولا سفر (١) .

وعن عبدالله بن شقيق قال : خطبنا ابن عباس يوماً بعد العصر حتىٰ غربت الشمس وبدت النجوم ، وجعل الناس يقولون : الصلاة ، الصلاة ، قال : فجاء رجل من بني تميم لا يفتر ولا ينثني فقال : الصلاة الصلاة ، فقال ابن عباس : أتعلمني بالسنّة ؟ لا أُم لك ! ثم قال : رأيت رسول الله جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء . قال عبدالله بن شقيق : فحاك في صدري من ذلك شيء فأتيت أبا هريرة فسألته فصدّق مقالته (٢) .

_______________

(١) صحيح مسلم ١ / ٤٨٩ ، ٤٩٠ ، وفي حديث وكيع قال : قلت لابن عباس : لم فعل ذلك ؟ قال : كي لا يحرج أُمته ، وفي حديث أبي معاوية قيل لابن عباس : ما أراد إلىٰ ذلك ؟ قال : أراد أن لا يحرج أُمته ، وعن جابر بن يزيد عن ابن عباس : أن رسول الله صلىٰ بالمدينة سبعاً وثمانياً ، الظهر والعصر والمغرب والعشاء .

(٢) صحيح مسلم ١ / ٤٩١ ، ٤٩٢ باب الجمع بين الصلاتين في الحضر ، سنن النسائي ٢ / ٢٩٠ باب الجمع بين الصلاتين في الحضر ، سنن أبي داود ٢ / ٦ ، مصنف عبد الرزاق ٢ / ٥٥٦ ، المعجم الكبير ١٠ / ٢٦٩ ، المعجم الأوسط ٣ / ١٧٦ ، الصغير ٢ / ٩٤ .


قال النووي : وأما حديث ابن عباس ، فلم يجمعوا علىٰ ترك العمل به ، بل لهم أقوال : منهم من تأوّله علىٰ أنه جمع بعذر المطر ، هذا مشهور عن جماعة من المتقدمين ، وهو ضعيف بالرواية الاُخرىٰ : من غير خوف ولا مطر . ومنهم من تأوّله علىٰ أنه كان في غيم فصلىٰ الظهر ثم انكشف الغيم وبان أن وقت العصر دخل فصلّاها ، وهذا أيضاً باطل ، لأنه وإن كان فيه أدنىٰ إحتمال في الظهر والعصر ، لا إحتمال فيه في المغرب والعشاء . ومنهم من تأوّله علىٰ تأخير الأولىٰ إلىٰ آخر وقتها فصلّاها فيه فلما فرغ منها دخلت الثانية فصلّاها فصارت صلاته صورة جمع ، وهذا أيضاً ضعيف أو باطل ، لأنه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل ، وفعل ابن عباس الذي ذكرناه حين خطب واستدلاله بالحديث لتصويب فعله وتصديق أبي هريرة له وعدم إنكاره صريح في ردّ التأويل . ومنهم من قال : هو محمول علىٰ الجمع بعذر المرض أو نحوه فما في معناه من الاعذار ، هذا قول أحمد بن حنبل والقاضي حسين من أصحابنا واختاره الخطابي والمتولي والروياني من أصحابنا ، وهو المختار في تأويله لظاهر الحديث ، ولفعل ابن عباس وموافقة أبي هريرة ، ولأن المشقة


فيه أشد من المطر (١) .

ولكن الوجه الذي اختاره النووي ومن سبقه غير صحيح ، لأن فعل ابن عباس لا يوحي بالمرض ، إذ كيف يتسنىٰ لمريض أن يخطب منذ العصر وحتىٰ ظهور النجوم ، فاذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد جمع بسبب المرض فما عذر ابن عباس في الجمع ، ولا أدري ما وجه موافقة أبي هريرة في الدلالة علىٰ المرض ؟!

وقد رد القسطلاني هذا العذر بقوله :

وحمله بعضهم علىٰ الجمع للمرض وقوّاه النووي رحمه الله تعالىٰ بأن المشقة فيه أشد من المطر ... وتعقب بأنه مخالف لظاهر الحديث ، وتقييده به ترجيح بلا مرجح وتخصيص بلا مخصّص ، وقد أخذ آخرون بظاهر الحديث فجوزوا الجمع في الحضر للحاجة لمن لا يتخذه عادة وبه قال أشهب والقفال الشاشي وحكاه الخطابي عن جماعة من أصحاب الحديث ، وتأوله آخرون علىٰ الجمع الصوري بأن يكون آخر الظهر إلىٰ آخر وقتها وعجّل العصر في أول وقتها ، وضعّف لمخالفته الظاهر (٢) .

_______________

(١) شرح صحيح مسلم ٥ / ٢١٨ .

(٢) إرشاد الساري ١ / ٤٩١ .


أما الترمذي ، فقد أورد هذه الروايات في جامعه وادعىٰ في كتاب العلل أن هذا الحديث غير معمول به ، ولكن المباركفوري قال في مقدمة شرحه لصحيح الترمذي :

اعلم بارك الله بك أن الترمذي قال في كتاب العلل الذي في آخر جامعه : جميع ما في هذا الكتاب ـ يعني جامعه من الحديث ـ هو معمول به ، وبه أخذ بعض أهل العلم ما خلا حديثين : حديث ابن عباس رضي‌الله‌عنه أن النبي جمع بين الظهر والعصر بالمدينة والمغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر ولا سفر ، وحديث النبي أنه قال : « من شرب الخمرة فاجلدوه ، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه » ، قال : وقد بينا علّة الحديثين جميعاً في الكتاب ، انتهى .

قلت : وقد تعصب الملّا معين في كتابه دراسات اللبيب علىٰ كلام الترمذي هذا ، وقد أثبت أن هذين الحديثين كليهما معمول بهما ، والحق مع الملا معين عندي والله تعالىٰ أعلم (١) .

أما استشهاد الشيخ برواية « من جمع بين صلاتين بغير عذر فقد أتىٰ باباً من الكبائر » فيدل علىٰ جهله المطبق بعلوم الحديث ، أو معاندته للحق ليس إلّا ، لأن الترمذي بعد أن أخرج هذا الحديث

_______________

(١) مقدمة تحفة الاحوذي : ٣٦٧ .


قال : أما حديث حنش عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي قال : « من جمع ... » الحديث ، وحنش هذا هو أبو علي الرجبي وهو حسين بن قيس ، وهو ضعيف عند أهل الحديث (١) .

وقال ابن حجر في ترجمة حنش : قال البخاري : أحاديثه منكرة ولا يكتب حديثه ، وقال العقيلي : في حديثه « من جمع بين صلاتين ... » لا يتابع عليه ولا يعرف إلّا به ولا أصل له ، وقد صح أن النبي جمع بين الظهر والعصر ... (٢) .

أما إدعاء الشيخ أن الشيعة يؤخرون الصلاة ، فالحقيقة هي عكس ذلك ، ويشهد علىٰ ذلك :

ما أخرجه أئمة أهل السنة في صحاحهم ، فقد أخرج المحدثون ـ واللفظ للبخاري ـ عن أنس بن مالك قال : ما أعرف شيئاً مما كان علىٰ عهد النبى ، قيل : الصلاة ! قال : أليس ضيعتم ما ضيعتم فيها ؟

وعن عثمان بن أبي رود أخي عبد العزيز ، قال : سمعت الزهري يقول : دخلت علىٰ أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي ، فقلت : ما يبكيك ؟ فقال : لا أعرف شيئاً مما أدركت إلّا هذه الصلاة ، وهذه

_______________

(١) جامع الترمذي ١ / ٣٥٦ .

(٢) تهذيب التهذيب ١ / ٥٣٨ .


الصلاة قد ضُيّعت (١) !

وعن عثمان بن سعد قال : سمعت أنس بن مالك يقول : ما أعرف شيئاً مما عهدت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اليوم ، فقال أبو رافع : يا أبا حمزة الصلاة ، فقال : أوليس قد علمت ما صنع الحجاج في الصلاة (٢) .

فهذه الشهادات من صحابي عاش طويلاً حتىٰ أدرك ما أحدث الأمويون وولاتهم في الصلاة من التضييع والتأخير تثبت صحة عمل الشيعة في الجمع بين الصلاتين في أول وقتها ، وبخاصة صلاة العصر ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يبكر بصلاة العصر ، لكن أهل السنة اختاروا تأخيرها إقتداء ببني أُمية ، ويدل علىٰ ذلك الرواية المتفق عليها الآتية :

عن أبي بكر بن عثمان بن سهل بن حنيف قال : سمعت أبا أُمامة يقول : صلّينا مع عمر بن عبد العزيز الظهر ثم خرجنا حتىٰ دخلنا علىٰ أنس بن مالك فوجدناه يصلي العصر ، فقلت : يا عم ما هذه الصلاة التي صليت ؟ قال : العصر ، وهذه صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي كنا نصلي معه (٣) .

_______________

(١) صحيح البخاري ١ / ١٤١ باب تضييع الصلاة ، الترمذي ٤ / ٦٣٢ .

(٢) مسند أحمد ٣ / ٢٠٨ و ٣ / ١٠٢ و ١٨٥ .

(٣) صحيح البخاري ١ / ١٤٤ ـ ١٤٥ ، صحيح مسلم ١ / ٤٣٤ باب استحباب التبكير بالعصر .


أوقات الصلاة عند الشيعة :

أما عن رأي الشيعة في الصلاة وأوقاتها ، ومسألة الجمع والتفريق بينها ، فسوف أكتفي بذكر أراء علمائهم بهذا الشأن :

قال الشيخ المفيد قدس‌سره : ولكلّ صلاة من الفرائض الخمس وقتان : أول وآخر ؛ فالأول لمن لا عذر له ، والثاني لأصحاب الاعذار ، ولا ينبغي لأحد أن يؤخر الصلاة عن أول وقتها وهو ذاكر لها غير ممنوع عنها ، فإن أخّرها ثم اخترم الوقت قبل أن يؤديها كان مضيّعاً لها ، فان بقي حتىٰ يؤديها في آخر الوقت أو فيمابين الأول والآخر منه عفي عن ذنبه في تأخيرها إن شاء الله .

ولا يجوز لاحد أن يصلي شيئاً من الفرائض قبل وقتها ، ولا يجوز له تأخيرها عن وقتها (١) .

وقال الشهيد قدس‌سره : وبالجملة كما علم من مذهب الامامية جواز الجمع بين الصلاتين مطلقاً ، عُلم منه إستحباب التفريق بينهما بشهادة النصوص والمصنفات بذلك (٢) .

_______________

(١) المقنعة : ٩٤ باب أوقات الصلوات وعلامة كل وقت منها .

(٢) ذكرىٰ الشيعة : ١١٩ .


يستحب التفريق بين الصلاتين المشتركتين في الوقت كالظهرين والعشاءين (١) .

وبعض علماء أهل السنة ومفسريهم متفقون مع الشيعة في أوقات الصلوات ، فمما قاله الفخر الرازي في تفسير قوله تعالىٰ : ( أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ) (٢) .

قال : فان فسرنا الغسق بظهور أول الظلمة ـ وحكاه عن ابن عباس وعطاء والنضر بن شميل ـ كان الغسق عبارة عن أول المغرب ، وعلى هذا التقدير يكون المذكور في الآية ثلاثة أوقات : وقت الزوال ، ووقت أول المغرب ، ووقت الفجر ، وهذا يقتضي أن يكون الزوال وقتاً للظهر والعصر ، فيكون هذا الوقت مشتركاً بين هاتين الصلاتين ، فهذا يقتضي جواز الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء مطلقاً ، إلا أنه دل الدليل علىٰ أن الجمع في الحضر من غير عذر لا يجوز ، فوجب أن يكون الجمع جائزاً لعذر السفر وعند المطر وغيره !! (٣) .

نلاحظ أن الرازي بعد ما ينطق بالحق ، يعود فيخالف العقل والنقل

_______________

(١) العروة الوثقىٰ : كتاب الصلاة ، فصل أوقات اليومية ونوافلها ( مسأله ٧ ) .

(٢) سورة الاسراء : ٧٨ .

(٣) التفسير الكبير ٢١ / ٢٦ ـ ٢٧ .


تعصباً لمذهبه ومخالفة للشيعة ليس إلّا ، رغم أنه لا يذكر الدليل الذي دل علىٰ عدم جواز الجمع في الحضر من غير عذر ، وإدعاؤه جواز الجمع لعذر السفر والمطر وغيره ، يرده الأحاديث الصحيحة التي أوردناها ، واعتراف غيره من العلماء ببطلان هذه الحجة ، فلا حول ولا قوة إلّا بالله .

مسح الرجلين :

قال الشيخ في « مطلب مسح الرجلين » :

ومنها إيجابهم المسح علىٰ الرجلين ومنعهم غسلها والمسح علىٰ الخفين ، وقد صح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي قال الله فيه : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) برواية علي رضي‌الله‌عنه غسلهما والأمر به وكذا عنه برواية عثمان وابن عباس وزيد بن عاصم ومعاوية بن مرة والمقداد بن معديكرب وأنس وعائشة وأبي هريرة وعبدالله بن عمر وعمرو بن عنبسة وغيرهم ، وقد صح عنه « ويل للأعقاب من النار » ، فمجموع ما ورد عنه في غسلهما فعلاً وقولاً يفيد العلم الضروري اليقيني ، ومن أنكر ذلك فقد أنكر المتواتر ، وحال منكره معلوم أقل مراتبه أن يكون فاسقاً ، بل تكون صلاته باطلة ، فيبعث يوم


القيامة بلا طهارة شرعية ... (١) .

هذه واحدة من المسائل الفقهية التي اختلف فيها المسلمون أيضاً ، فجمهور أهل السنة يدعي وجوب غسل القدمين ـ مع خلاف بينهم ـ ويستندون في ذلك إلىٰ بعض الأدلة ، بينما يقول الشيعة بوجوب المسح ـ بلا خلاف بينهم ـ وعدم جواز الغسل ، ويستندون في ذلك أيضاً إلىٰ بعض الأدلة التي تؤيد وجهة نظرهم .

أما إدعاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأن الروايات قد جاءت عن أُولئك الصحابة بغسل القدمين فهو إدعاء غير صحيح ، لأن الروايات قد جاءت عن كثير من الصحابة والتابعين والفقهاء بالمسح علىٰ القدمين أيضاً ، وهي مسألة خلافية في الفروع ولا ينبغي التشنيع فيها ، لأنها مسألة اجتهادية ، والاجتهاد في الفروع والخلاف بين أئمة أهل السنة أنفسهم معروف .

إن من الملاحظ أن أهل السنة مختلفون في هذا الباب رغم المحاولات التي يبذلونها لتصحيح وجهة نظرهم ـ تأييداً للمذهب ـ إلّا أن الملاحظ أنهم كثيراً ما يترددون في القطع ، فيذهب البعض منهم إلىٰ جواز المسح ، بينما يقول آخرون بوجوب أو استحباب

_______________

(١) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ٤٠ .


الجمع بين الغسل والمسح ، وحيرتهم في هذا الباب تضعف حجتهم أمام الشيعة .

وسوف أتناول أقوال بعض العلماء والشراح من أهل السنة وإستدلالاتهم في تفسير آية الوضوء أولاً ومحاولتهم الجمع بين القراءتين ( النصب والخفض ) ، وكذلك محاولتهم الجمع بين الروايات المتعارضة مع ذكر بعض آرائهم والتعليق عليها ، متوخياً الاختصار جهد الامكان وبالله التوفيق :

قال ابن حجر العسقلاني : تمسك من اكتفىٰ بالمسح بقوله تعالىٰ ( وَأَرْجُلَكُمْ ) عطفاً علىٰ ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ ) ، فذهب إلىٰ ظاهرها جماعة من الصحابة والتابعين ، فحكي عن ابن عباس في رواية ضعيفة ، والثابت عنه خلافه ، وعن عكرمة والشعبي وقتادة ـ وهو قول الشيعة ـ وعن الحسن البصري : الواجب الغسل أو المسح ، وعن بعض أهل الظاهر : يجب الجمع بينهما ، وحجة الجمهور الأحاديث الصحيحة المذكورة وغيرها من فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فانه بيان المراد ، وأجابوا عن الآية بأجوبة منها : أنه قريء وأرجلكم بالنصب عطفاً علىٰ أيديكم ، وقيل معطوف علىٰ محل برؤوسكم ، كقوله : ( يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ) بالنصب ، وقيل : المسح في الآية محمول لمشروعية المسح علىٰ الخفين ، فحملوا قراءة الجر علىٰ مسح الخفين ، وقراءة


النصب علىٰ غسل الرجلين ، وقرر ذلك أبو بكر بن العربي تقريراً حسناً فقال ما ملخصه : بين القراءتين تعارض ظاهر ، والحكم فيما ظاهره التعارض أنه إن أمكن العمل بها وجب ، وإلّا عُمل بالقدر الممكن ، ولا يتأتىٰ الجمع بين الغسل والمسح في عضو واحد ، في حالة واحدة لأنه يؤدي إلىٰ تكرار المسح ، لأن الغسل يتضمن المسح والأمر المطلق لا يقتضي التكرار ، فبقي أن يعمل بها في حالين توفيقاً بين القراءتين وعملاً بالقدر الممكن ، وقيل إنما عطفت علىٰ الرؤوس الممسوحة لأنها مظنة لكثرة صب الماء عليها ، فلمنع الاسراف عطفت ، وليس المراد أنها تمسح حقيقةً ، ويدل علىٰ ذلك المراد قوله : ( إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) ، لأن المسح رخصة فلا يقيد بالغاية ، ولأن المسح يطلق علىٰ الغسل الخفيف ... (١) .

نلاحظ أن ابن حجر يعترف بأن القول بالمسح هو مذهب عدد كبير من الصحابة والتابعين ، لكن إدعاؤه أن المشهور عن ابن عباس خلاف المسح فهو خلاف للواقع ، لأن المشهور عن ابن عباس هو القول بالمسح ، كما أننا نلاحظ أن ابن حجر يتهرب من الاستدلال بالآية إلىٰ الركون إلىٰ الروايات التي تؤيد وجهة نظره ، مع أن القرآن

_______________

(١) فتح الباري ١ / ٢١٥ .


الكريم هو الأصل ، والسنة لا ينبغي أن تعارضه ، وادعاء أن الآية تعني المسح علىٰ الخفين لا دليل عليه .

أما إدعاء ابن العربي ـ فيما ينقل عنه ابن حجر ـ أن المسح رخصة ، فلا حجة له في ذلك .

ونقل القرطبي عن النحاس قوله : ومن أحسن ما قيل فيه أن المسح والغسل واجبان جميعاً ، فالمسح واجب علىٰ قراءة من قرأ بالخفض ، والغسل واجب علىٰ قراءة من قرأ بالنصب ، والقراءتان بمنزلة آيتين ... (١) .

إن هذا يفترض وجود فقهين في الباب أحدهما يوجب الغسل والآخر يوجب المسح تبعاً للقراءة التي يتبناها قارئ القرآن ، وهذا أمر غير صحيح ، وإن صح فالشيعة محقون بتمسكهم بالمسح ، لأن قراءة الخفض تبيح لهم ذلك .

وقال الطبري : اختلفت قراءة القراء في قوله ( وَأَرْجُلَكُمْ ) ، فنصبها بعضهم توجيهاً منه ذلك إلىٰ أن الفرض فيهما الغسل وإنكاراً منه المسح عليهما ، مع تظاهر الأخبار عن رسول الله بعموم مسحهما بالماء ، وخفضها بعضهم توجيهاً منه ذلك إلىٰ أن الفرض فيهما

_______________

(١) الجامع لاحكام القرآن ٦ / ٩٢ .


المسح ... وكانت القراءتان كلتاهما حسناً وصواباً ، فأَعجب القراءتين إِليَّ أن أقرأها قراءة من قرأ ذلك خفضاً لما وصفت من جمع المسح المعنيين الذين وصفت ، ولأنه بعد قوله : ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ ) فالعطف به علىٰ الرؤوس مع قربه منه أولىٰ من العطف به علىٰ الأيدي ، وقد حيل بينه وبينها بقوله : ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ ) (١) .

الملاحظ علىٰ كلام الطبري هو ترجيح المسح في كلتا القراءتين ( النصب والخفض ) مع اعترافه بتظاهر الاخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعموم المسح .

وقال النووي : وأما الجواب عن احتجاجهم بقوله تعالىٰ ( وَأَرْجُلَكُمْ ) ، فقد قرئت بالنصب والجر ، فالنصب صريح في الغسل ، ويكون معطوفه علىٰ الوجه واليدين ، وأما الجر فأجاب أصحابنا وغيرهم عنه بأجوبة أشهرها : أن الجر علىٰ مجاورة الرؤوس ، مع أن الأرجل منصوبة ، هذا مشهور في لغة العرب ، وفيه أشعار كثيرة مشهورة ، وفيه من منثور كلامهم كثير ، من ذلك قولهم : هذا جحر ضب خرب ، بجر خرب علىٰ جواب ضب وهو مرفوع صفة لجحر (٢) .

_______________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٧٢ .

(٢) المجموع شرح المهذب ١ / ٤٨٠ .


لكن إستدلال النووي ليس في محله ، وتكفي شهادة أحد علماء السنة الفطاحل ومفسريهم الكبار في إبطال دعوىٰ النووي ، وهو قول الفخر الرازي :

حجة من قال المسح مبني علىٰ القراءتين المشهورتين في قوله ( وَأَرْجُلَكُمْ ) ، فقرأ ابن كثير وحمزة وأبو عمرو وعاصم في رواية أبى بكر عنه بالجر ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه بالنصب ، فنقول : أما القراءة بالجر فهي تقتضي كون الأرجل معطوفة علىٰ الرؤوس ، فكما وجب المسح في الرأس فكذلك في الأرجل !

فان قيل : لم لا يجوز أن يقال هذا كسر علىٰ الجوار كما في قوله : جحر ضب خرب ، وقوله : كبير أناس في بجاد مزمل ، قلنا : هذا باطل من وجوه :

الأول : أن الكسر علىٰ الجوار معدود في اللحن الذي قد يحتمل لأجل الضرورة في الشعر ، وكلام الله يجب تنزيهه عنه .

وثانيهما : أن الكسر إنما يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس كما في قوله : جحر ضب خرب ، فان من المعلوم بالضرورة أن الخرب لا يكون نعتاً للضب بل للجحر ، وفي هذه الآية الأمن من الالتباس غير حاصل .

وثالثها : أن الكسر بالجوار إنما يكون بدون حرف عطف ، وأما


مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب ، وأما القراءة بالنصب فقالوا أيضاً : أنها توجب المسح ، وذلك لأن قوله : ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ ) فرؤوسكم في النصب ولكنها مجرورة بالباء ، فاذا عطفت الأرجل علىٰ الرؤوس جاز في الأرجل النصب عطفاً علىٰ محل الرؤوس ، والجر عطفاً علىٰ الظاهر ، وهذا مذهب مشهور للنحاة ... (١) .

نلاحظ أن جميع محاولات علماء السنة تطويع النص القرآني وإخضاعه لقياسات لغوية مبنية علىٰ أقوال قالها أعرابي بوال علىٰ عقبيه لم تنجح ، واضطروا في النهاية إلىٰ الاعتراف بأن الآية سواء قرئت بالخفض أو بالنصب فهي تدل علىٰ المسح .

أمام هذه الحقيقة الساطعة لم يجد القوم مهرباً إلّا التمسك ببعض الروايات التي ظنوا أنها تنقذ الموقف ، وسوف نستعرض أهم الروايات التي يتمسك بها أهل السنة ، ونحاول مناقشتها ، محتجين عليهم بأقوال علمائهم أحياناً في تفنيد دعاواهم .

لا شك أن أقوىٰ الروايات التي يستشهد بها أهل السنة علىٰ وجوب غسل القدمين هي الروايات التي جاءت في صحاح أهل السنة ـ وبخاصة صحيحي البخاري ومسلم ـ عن عبدالله بن عمرو ،

_______________

(١) التفسير الكبير ١١ / ١٦١ .


وسأورد هذه الرواية كما أخرجها كل منهما .

١ ـ عن عبدالله بن عمرو ، قال : تخلف النبي عنا في سفرة سافرناها فأدركنا وقد أرهقنا العصر ، فجعلنا نتوضأ ونمسح علىٰ أرجلنا ، فنادىٰ بأعلىٰ صوته : « ويل للأعقاب من النار ، مرتين أو ثلاثاً » (١) .

وقد أخرج البيهقي الرواية أيضاً ، وقال علاء الدين المارديني في شرحه لها :

إستدل علىٰ ذلك بعدة أحاديث ، أولها : « ويل للأعقاب من النار » ، قلت : في الاستدلال بها نظر ، فان من يرىٰ مسحهما يفرض في جميعها ، وظاهر الآية يدل علىٰ ذلك ، وهو قوله تعالىٰ : ( وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) فالوعيد لهما ترتب علىٰ ترك تعميم المسح ، وتدل علىٰ ذلك رواية مسلم ، فانتهىٰ إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسها ماء ، فتبين بذلك أن العقب محل التطهير فلا يكتفىٰ بما دونه ، فليس الوعيد علىٰ المسح ، بل علىٰ ترك التعميم ... وهذا الكلام علىٰ أمر أبي هريرة وعائشة باسباغ الوضوء ، وكذا حديث عبدالله بن الحارث وعمرو

_______________

(١) صحيح البخاري ١ / ٥٢ باب غسل الرجلين ولا يمسح علىٰ القدمين ، صحيح مسلم ١ / ٢١٤ باب وجوب غسل الرجلين بكمالها .


وأنس رضي الله عنهما (١) .

أقول : إذا كان أولئك الصحابة قد مسحوا علىٰ أرجلهم ، فممن تعلموا ذلك ؟ هل كانوا مخطئين في فهم آية الوضوء لقصورهم في العربية ، أم أنهم لم يكونوا قد شاهدوا وضوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رغم صحبتهم له ومرافقته في أسفاره وغزواته ؟ وإذا كان أُولئك الصحابة بتلك الدرجة من الجهل أو قلة الاهتمام بالسنة النبوية الفعلية فكيف يجوز لنا تقليدهم وأخذ أحكام ديننا منهم ؟!!

إن من الغريب أن يصل التعصب المذهبي ببعض الحفاظ والمحدثين إلىٰ حد إخفاء الحقائق أو محاولة التعمية عليها عن طريق إيراد روايات ضعيفة مستدلين بها ـ تأييداً للمذهب ـ دون الاشارة إلىٰ ضعف رواتها ، رغم أنهم يفعلون ذلك في موارد أُخرىٰ .

وإليك بعض النماذج مما أخرجه البيهقي من تلك الروايات مع ذكر تعليق المارديني عليها :

١ ـ عن عبدالله ـ يعني ابن مسعود ـ أنه كان يقرأ ( وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) قال : رجع الأمر إلىٰ الغسل .

قال المارديني : في سنده قيس بن الربيع ، فسكت عنه البيهقي ،

_______________

(١) الجوهر النقي بذيل السنن الكبرىٰ ٨ / ٦٩ .


وقال في باب ( من زرع أرض غيره بغير إذنه ) : إنه ضعيف عند أهل العلم بالحديث .

٢ ـ عمر بن قيس عن عطاء ، أنه كان يقرأها ( وَأَرْجُلَكُمْ ) نصباً .

قال المارديني : عمر بن قيس هو المكي ، سكت عنه أيضاً ، وقال في باب ( من بنىٰ أو غرس بغير أرضه ) : ضعيف لا يحتج به .

٣ ـ عن علي ، أنه قال : اغسلوا القدمين إلىٰ الكعبين كما أُمرتم ، وروينا في الحديث الصحيح عن عمرو بن عنبسة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الوضوء : ثم يغسل قدميه إلىٰ الكعبين كما أمره الله تعالىٰ ، وفي ذلك دلالة علىٰ أن الله تعالىٰ أمر بغسلها .

قال المارديني : عن علي : اغسلوا القدمين ، من رواية الحارث ، فسكت عنه ، وحكىٰ في باب ( أصل القسامة ) عن الشعبي : إنه كان كذاباً !!!

٤ ـ عن ابن عباس قال : ما أجد في الكتاب إلّا غسلتين ومسحتين ، ثم قال : إن صح يحتمل أنه كان يرىٰ القراءة بالخفض وأنها تقتضي المسح ، ثم لما بلغه أنه عليه‌السلام توعد علىٰ ترك غسلهما أو ترك شيء منهما ذهب إلىٰ وجوب غسلهما (١) .

نقول : إذا كان ابن عباس وهو حبر الأُمة وترجمان القرآن قد

_______________

(١) السنن الكبرىٰ مع الجوهر النقي ١ / ٧٠ ـ ٧١ .


أعياه فهم الآية ، ولم يعرف طيلة هذا الوقت كيف يكون وضوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهنيئاً للمسلمين !!!

أما الدارقطني فيورد رواية في باب ( وجوب غسل القدمين والعقبين ) يقول فيها : عن رفاعة بن رافع قال : كان رفاعة ومالك بن رافع أخوين من أهل بدر ، قال بينما نحن جلوس عند رسول الله ، أو رسول الله جالس ونحن حوله ، إذ دخل عليه رجل فاستقبل القبلة وصلىٰ ، فلما قضىٰ الصلاة جاء فسلم علىٰ رسول الله وعلىٰ القوم ، فقال له رسول الله : « وعليك ، ارجع فصلِّ فانك لم تصلِّ » ، فجعل الرجل يصلي ونحن نرمق صلاته لا ندري ما يعيب فيها ، فلما صلىٰ جاء فسلم علىٰ النبي وعلىٰ القوم فقال له النبي : « وعليك ، ارجع فصل فانك لم تصل » ، قال همام : فلا أدري أمره بذلك مرتين أو ثلاثاً ، فقال الرجل : ما ألوتُ فلا أدري ما عبت علي من صلاتي ، فقال رسول الله : « إنها لا تتم صلاة أحدكم حتىٰ يسبغ الوضوء كما أمره الله ، فيغسل وجهه ويديه إلىٰ المرفقين ، ويمسح برأسه ورجليه إلىٰ الكعبين ، ثم يكبر الله ويثني عليه ... » فوصف الصلاة هكذا أربع ركعات حتىٰ فرغ ثم قال : « لا تتم صلاة أحدكم حتىٰ يفعل ذلك » (١) !

_______________

(١) سنن الدارقطني ١ / ٩٥ ـ ٩٦ .


قلت : فالعجب كل العجب من الدارقطني ، كيف يستدل بهذه الرواية علىٰ وجوب غسل الرجلين والنص الصريح فيها قوله : « ويمسح برأسه ورجليه ... » ؟!! أليس ذلك دليلاً دامغاً علىٰ وجوب المسح ، وأن النبي قد أكد أنه لا تتم صلاة أحد حتىٰ يفعل ذلك ؟

من أين جاء الغسل :

عند ما نستعرض الروايات التي تقول بغسل القدمين ، نلاحظ أنها في معظمها تنتهي أسانيدها إلىٰ بعض الصحابة والتابعين المعروفين بولائهم لبني أُمية ، مما يؤكد أن بدعة غسل الرجلين هي من إختراع بني أُمية وولاتهم الذين كانوا يشجعونها ويحملون الناس عليها في محاولة لمحق السنة النبوية الشريفة وتغيير أحكام القرآن ، وإليك بعض الأدلة علىٰ ذلك :

١ ـ عن موسىٰ بن أنس قال : خطب الحجاج بن يوسف الناس فقال : اغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم ، فاغسلوا ظاهرهما وباطنهما وعراقيبهما فان ذلك أقرب إلىٰ جنتكم ؛ فقال أنس : صدق الله وكذب الحجاج ، فامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلىٰ الكعبين (١) .

_______________

(١) المصنف ١ / ١٨ .


وأورد البيهقي الرواية وزاد عليها : قرأها جرّاً ، فانما أنكر أنس بن مالك القراءة دون الغسل ... (١) .

أقول : من المعلوم أن الحجاج بن يوسف الثقفي هو أحد ولاة بني أُمية الطغاة ، ومن أكبر مروّجي سياساتهم ، وتصرفه يدل علىٰ محاولته علىٰ حمل الناس علىٰ غسل الرجلين مخالفة للكتاب والسنة ، وقد حاول البعض توجيه الرواية بأن أنس بن مالك قد اعترض علىٰ قراءة الحجاج بالنصب لأن أنساً كان يقرأها بالخفض ولم يكن اعتراضه علىٰ الغسل ، وفساد هذا الرأي ظاهر تماماً ، فضلاً عن أن القراءة بالخفض ـ التي كان يراها أنس ـ إنما تدل علىٰ المسح أيضاً .

وأعجب من ذلك هو إدعاء البعض أنَّ أنس بن مالك وغيره من الصحابة مثل أمير المؤمنين عليه‌السلام وابن عباس رضي‌الله‌عنه كانوا يمسحون ثم رجعوا عنه إلىٰ الغسل ! فاذا كان هؤلاء الصحابه الثلاثة بالذات ـ وهم أكثر الصحابة لصوقاً بالنبي ـ لا يعرفون وضوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وظلوا فترة طويلة يمسحون ، فمن الذي يعرف وضوء النبي إذاً ؟! وإذا كان أنس قد اعترض علىٰ الحجاج فهذا يعني أنه قد فعل ذلك في أواخر عمره ، فمتىٰ رجع عن القول بالمسح إذاً ؟!

_______________

(١) السنن الكبرى ١ / ٧١ .


ومعلوم قطعاً أن المغيرة بن شعبة هو أيضاً أحد ولاة بني أُمية الطغاة ، وهو أول من امتثل لأمر معاوية بسب أمير المؤمنين عليه‌السلام علىٰ المنبر ، مع قول النبي : « من سب علياً فقد سبني » (١) .

وبذلك يتبين أن غسل القدمين ما هو إلا بدعة أُموية في مقابل السنة النبوية الصحيحة ، وكم لها من مثيلات مذكورة في كتب أهل السنة ، كبدعة ترك معاوية للتلبية بغضاً لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، وترك الجهر بالبسملة وغيرها من الأُمور التي يستطيع الباحث أن يجدها في أُمهات كتب أهل السنة .

فعلى هذا نجد إن جميع روايات الغسل قد وضعت في مقابل الروايات التي تؤكد علىٰ المسح دون شك .

الجمعة والجماعة :

قال الشيخ في « مطلب تركهم الجمعة والجماعة » :

ومنها : ترك الجمعة والجماعة ، وكذلك اليهود فانهم لا يصلون إلّا فرادىٰ ، ومنها تركهم قول آمين وراء الامام في الصلاة فانهم لا يقولون آمين يزعمون

_______________

(١) المستدرك علىٰ الصحيحين وصححه ووافقه الذهبي ، وفي رواية « من سب علياً فقد سبني ومن سبني فقد سب الله تعالى » .


أن الصلاة تبطل به ، ومنها تركهم تحية السلام فيما بينهم وإذا سلموا فعلوا بعكس السنة ، ومنها خروجهم من الصلاة بالفعل وتركهم السلام في الصلاة فانهم يخرجون من الصلاة من غير سلام بل يرفعون أيديهم ويضربون بها علىٰ ركبهم كأذناب الخيل الشُّمس ، ومنها شدة عدوانهم للمسلمين ... حتىٰ أنهم يعدونهم أنجاساً ... (١) .

هذه الادعاءات الباطلة تكذبها الوقائع ومصنفات علماء الشيعة في هذا الباب ، أما أن الشيعة يتركون بعض الأُمور المتعارف عليها عند أهل السنة فلعلّة سوف نبينها في هذه المباحث إن شاء الله ، ولنبدأ بمسألة الجمعة والجماعة .

قال العلامة الحلي قدس‌سره : الجماعة مشروعة في الصلوات المفروضة اليومية بغير خلاف بين العلماء كافة ، وهي من جملة شعائر الاسلام وعلاماته ، والأصل فيه قوله تعالىٰ (وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ) (٢) وداوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علىٰ إقامتها حضراً وسفراً ، وكذا أئمته وخلفاؤه ، ولم يزل المسلمون يواظبون عليها بلا خلاف .

_______________

(١) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ٤٤ .

(٢) سورة النساء : ١٠٢ .


وفي الجماعة فضل كثير ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة » وفي رواية « بخمس وعشرين » .

ومن طريق الخاصة : قول الصادق عليه‌السلام : « الصلاة في جماعة تفضل علىٰ صلاة الفذ بأربع وعشرين درجة تكون خمساً وعشرين صلاة » .

وقال عليه‌السلام : « إن أُناساً كانوا علىٰ عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبطأوا عن الصلاة في المسجد ، فقال رسول الله : « ليوشك قوم يَدَعون الصلاة في المسجد أن نأمر بحطب فيوضع علىٰ أبوابهم فتوقد عليهم فتحرق عليهم بيوتهم » ... ولا ينبغي لأحد ترك الجماعة وإن صلاها بنسائه أو عبيده أو إمائه أو أولاده إذا لم يحضر المسجد (١) .

وفيما يتعلق بصلاة الجمعة قال السيد محمد بن علي الموسوي : أجمع العلماء كافة علىٰ وجوب صلاة الجمعة ، والأصل فيه : الكتاب والسنة ، قال الله تعالىٰ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّـهِ ) (٢) .

_______________

(١) تذكرة الفقهاء ٤ / ٢٢٧ في فضل الجماعة .

(٢) سورة الجمعة : ٩ .


أجمع المفسرون علىٰ أن المراد بالذكر هنا الخطبة وصلاة الجمعة ، تسمية للشيء باسم أشرف أجزائه ، والأمر للوجوب كما قرر في الأُصول ، وهو هنا للتكرار باتفاق العلماء ، والتعليق بالنداء مبني علىٰ الغالب ، وفي الآية مع الأمر الدال علىٰ الوجوب ضروب من التأكيد وأنواع الحث بما لا يقتضي تفصيله المقام ، ولا يخفىٰ علىٰ من تأمله من أُولي الافهام .

وأما الأخبار فمستفيضة جداً ، بل تكاد تكون متواترة ، فمن ذلك صحيحة أبي بصير ومحمد بن مسلم ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام ، قال : « إن الله عزوجل فرض في كل سبعة أيام خمساً وثلاثين صلاة ، منها صلاة واجبة علىٰ كل مسلم أن يشهدها إلّا خمسة : المريض ، والمملوك ، والمسافر ، والمرأة ، والصبي ... » (١) .

هذا ما يقوله علماء الشيعة عن صلاة الجمعة والجماعة ، وأود الاشارة إلىٰ إدعاء الشيخ ابن عبد الوهاب بأن الشيعة يعادون أهل السنة ويتنجسون منهم ، هذا الإدعاء الباطل الذي يستهدف تشويه صورة الشيعة أمام المسلمين ، ويكفي في رد هذا الادعاء الباطل أن استشهد بما أورده السيد محمد بن علي الموسوي بهذا الشأن ، قال :

_______________

(١) مدارك الاحكام ٤ / ٥ ـ ٦ .


فائدة : يستحب حضور جماعة أهل الخلاف استحباباً مؤكداً ، فروىٰ ابن بابويه في الصحيح عن زيد الشحام عن أبي عبدالله عليه‌السلام أنه قال له : « يا زيد خالقوا الناس باخلاقهم صلّوا في مساجدهم وعودوا مرضاهم واشهدوا جنائزهم ، وإن استطعتم أن تكونوا الأئمة والمؤذنين فافعلوا ، فانكم إذا فعلتم ذلك قالوا : هؤلاء الجعفرية ، رحم الله جعفراً ما كان أحسن ما يؤدب أصحابه ، وإذا تركتم ذلك قالوا : هؤلاء الجعفرية ، فعل الله بجعفر ، ما كان أسوأ ما يؤدب أصحابه » .

وفي الصحيح عن حماد بن عثمان ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام أنه قال : « من صلىٰ معهم في الصف الأول كان كمن صلىٰ مع رسول الله في الصف الأول » .

فالشيعة الذين هم تلامذة أهل البيت عليهم‌السلام أولىٰ بأن يتمسكوا بوصية إمامهم فيحضرون الصلوات مع إخوانهم وإن كانوا مخالفين لهم حفاظاً علىٰ وحدة الصف الاسلامي وكيداً لأعداء الاسلام والمسلمين كأمثال الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي يريد الفتنة وتفريق المسلمين وإلقاء العداوة والبغضاء بينهم .


قول آمين :

أمّا في هذا المورد فرأينا يخالف رأي إخواننا أهل السنة ، إذ أن الشيعة يعتبرون قول آمين مبطلاً للصلاة .

قال الشيخ علي بن الحسين الكركي قدس‌سره : وكذا تبطل لو قال آمين آخر الحمد علىٰ المشهور ، لرواية الحلبي عن الصادق عليه‌السلام أنه سأله : أقول آمين إذا فرغت من فاتحة الكتاب ؟ قال : « لا » ، ولقول النبي : « إن هذه الصلاة لا يصح فيها شيء من كلام الآدميين » ، وآمين من كلام الآدميين ، إذ ليست بقرآن ولا ذكر ولا دعاء ، وإنما هي إسم للدعاء ، أعني : استجب ، والاسم مغاير لمسماه الوضعي ، وعلىٰ هذا فلا فرق في البطلان بين أن يقولها في آخر الحمد أو غير ذلك كالقنوت وغيره من حالات الصلاة ، ولا بين أن يقولها سراً أو جهراً (١) .

تحية السلام :

أما إدعاء الشيخ أن الشيعة يتركون تحية السلام فيما بينهم ، فمن

_______________

(١) جامع المقاصد ٢ / ٢٤٨ ـ ٢٤٩ كتاب الصلاة باب القراءة .


أسقط الافتراءات ، ولا أدري كيف يكون السلام بعكس السنة ! إذ لم يوضح الشيخ هذا النوع المبتكر من السلام .

وعلىٰ أي حال فان الشيعة ليسوا من سكان الكواكب الأُخرىٰ ، ولا هم من الأُمم البائدة حتىٰ يتعذر الوصول إليهم ، فهم موجودون في كل مكان ويمكن معرفة عدم صحة إدعاءات الشيخ من ملاحظة سلامهم علىٰ إخوانهم المسلمين وتحيتهم بتحية الاسلام .

أما خروجهم من الصلاة وتركهم السلام ، فهو أيضاً من المفتريات الداحضة كما تشهد علىٰ ذلك مصنفات الشيعة في الفقه والحديث ، فمن ذلك :

١ ـ عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إفتتاح الصلاة الوضوء ، وتحريمها التكبير ، وتحليلها التسليم » .

٢ ـ عن علي بن أسباط ، عنهم عليهم‌السلام قال : قال : ـ فيما وعظ الله به عيسىٰ عليه‌السلام ـ « يا عيسىٰ ، أنا ربك ورب آبائك » ـ وذكر الحديث بطوله إلىٰ أن قال : ـ « ثم أُوصيك يابن مريم البكر البتول بسيّد المرسلين وحبيبي ، فهو أحمد » ـ إلىٰ أن قال : ـ « يُسمّي عند الطعام ، ويفشي السلام ، ويصلي والناس نيام ، له كل يوم خمس صلوات متواليات ، ينادي إلىٰ الصلاة كنداء الجيش بالشعار ، ويفتتح بالتكبير ، ويختتم بالسلام » .


٣ ـ عن الفضل بن شاذان ، عن الرضا عليه‌السلام في كتابه إلىٰ المأمون ، قال : « تحليل الصلاة التسليم » (١) .

أما الفقهاء من الفريقين ـ السنة والشيعة ـ فقد اختلفوا في أن التسليم هل هو واجب أو مستحب ، تبعاً لدلالة الأدلة المتوفرة لديهم .

وقد نقل العلامة الحلي قدس‌سره بعض هذه الاختلافات في باب التسليم بقوله :

اختلف علماؤنا في وجوبه ، فقال المرتضىٰ وجماعة من علمائنا به ، وبه قال الشافعي والثوري ، لقوله عليه‌السلام : « مفتاح الصلاة الوضوء ، وتحريمها التكبير ، وتحليلها التسليم » ، ولانه ذكر في أحد طرفي الصلاة فكان واجباً كالتكبير .

وقال الشيخان ومن تبعهما : بالاستحباب ، وبه قال أبو حنيفة ، وهو الأقوىٰ عندي عملاً بالاصل ، ولأن الحدث المتخلل بين الصلاة علىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبينه غير مبطل للصلاة لقول الباقر عليه‌السلام وقد سئل عن رجل يصلي ثم يجلس فيحدث قبل أن يسلم ، قال : « تمت صلاته » ، ولأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يعلمه المسيء في صلاته ، ولأن التسليمة الثانية

_______________

(١) وسائل الشيعة ٦ / ٤١٨ أبواب التسليم .


ليست واجبة فكذا الأُولىٰ ، ونمنع الحديث والحصر ، ونمنع كونه طرفاً ، بل الصلاة علىٰ النبي وآله عليهم السلام .

إذا ثبت هذا ، فقال أبو حنيفة : الخروج من الصلاة واجب ، وإذا خرج بما ينافي الصلاة عن عمل أو حدث أو غير ذلك كطلوع الشمس أو وجدان المتيمم الماء أجزأه (١) .

رفع اليدين فوق الرأس :

أما قول الشيخ بأن الشيعة يرفعون أيديهم ويضربون بها ـ بعد الفراغ من الصلاة ـ فلأن الشيخ جاهل بالسنة النبوية ، لأن في كتب أهل السنة وصحاحهم ما يثبت أن ذلك سنة نبوية شريفة ، والشيعة يرفعون أيديهم ، ثم يكبرون الله ثلاثاً ـ بعد التسليم والخروج من الصلاة ـ عملاً بهذه السنة الشريفة ، وكما علمهم أئمتهم المطهرون ، وفي ذلك جملة من الأخبار ، أذكر منها هذه الرواية :

عن المفضل بن عمر قال : قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام : لأي علة يكبّر المصلي بعد التسليم ثلاثاً ، يرفع بها يديه ؟ فقال : « لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما فتح مكة صلىٰ بأصحابه الظهر عند الحجر الأسود ، فلما سلّم رفع

_______________

(١) تذكرة الفقهاء ٣ / ٢٤٢ ـ ٢٤٣ .


يديه وكبر ثلاثاً وقال : لا إله إلا الله وحده وحده أنجز وعده ونصر عبده وأعزّ جنده وغلب الأحزاب وحده فله الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو علىٰ كل شيء قدير » ثم أقبل علىٰ أصحابه فقال : « لا تدعوا هذا التكبير وهذا القول في دبر كل صلاة مكتوبة ، فان من فعل ذلك بعد التسليم وقال هذا كان قد أدىٰ ما يجب عليه من شكر الله تعالىٰ علىٰ تقوية الاسلام وجنده » (١) .

ولو أن الشيخ كان علىٰ شيء من العلم لأدرك أن كتب أهل السنة وصحاحهم تشتمل علىٰ ذلك أيضاً ، فمنها :

١ ـ عن ابن عباس ، قال : كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتكبير .

٢ ـ أبا معبد أن ابن عباس أخبره أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان علىٰ عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنه قال : قال ابن عباس : كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته (٢) .

فاذا كان التكبير بعد التسليم سنة يستحب الاتيان بها ، وقد أكد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليها ، فما ذنب الشيعة إذا تمسكوا بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

_______________

(١) وسائل الشيعة ٦ / ٤٥٢ ـ ٤٥٣ .

(٢) صحيح مسلم ١ / ٤١٠ كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب الذكر بعد الصلاة .


وتركه الآخرون رغبة عنه ؟ أفينبغي أن يتخلىٰ الشيعة عن السنة النبوية الشريفة إِرضاءً للشيخ وغيره من أعداء السنة النبوية حتىٰ يكفوا ألسنتهم عنهم ؟!



الفصل الثاني عشر : نكاح المتعة

قال الشيخ في « مطلب المتعة » :

ومنها إباحتهم نكاح المتعة بل يجعلونها خيراً من سبعين نكاحاً دائماً ، وقد جوّز لهم شيخهم الغالي علي بن العالي أن يتمتع إثنا عشر نفساً في ليلة واحدة بأمرأة واحدة وإذا جاءت بولد منهم أقرعوا فمن خرجت قرعته كان الولد له ، قلت : هذا مثل أنكحة الجاهلية التي أبطلها الشرع كما في الصحيح ، وعن علي رضي‌الله‌عنه أنه قال : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهىٰ عن نكاح المتعة ، رواه البخاري ومسلم وغيرهما ، وعن سلمة بن الأكوع رضي‌الله‌عنه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أباح نكاح المتعة ثم حرمها رواه الشيخان ، وروىٰ مسلم في صحيحه عن سبرة نحو ذلك ، وعن ابن عمر : نهانا عنها يعني المتعة


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رواه الطبراني باسناد قوي ، وقد نقل عن ابن عباس رجوعه عنها ، وروىٰ الطبراني عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه : هدم المتعة النكاح والطلاق والعدة والميراث ، وإسناده حسن ، وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنه قال : كانت المتعة في أول الاسلام حتىٰ نزلت هذه الآية : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ ) وتصديقها من القرآن ( إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ) وما سوىٰ هذا فهو حرام ، رواه الطبراني والبيهقي ، والحاصل أن المتعة كانت حلالاً ثم نسخت وحرمت تحريماً مؤبداً ، فمن فعلها فقد فتح علىٰ نفسه باب الزنا (١) .

إن موضوع نكاح المتعة قد أصبح هو الآخر من الأُمور التي يُشنع بها علىٰ الشيعة دائماً ، رغم أن هذا الموضوع من الأُمور الخلافية الفقهية بين الطائفتين ، لكن من المؤسف حقاً أن يستغل خصوم الشيعة هذه المسألة لتشويه صورة الشيعة ـ أتباع الثقلين ـ أمام المسلمين متهمين إياهم باباحة الزنا بالقول بحلية المتعة ، ولو أنصف هؤلاء الخصوم ـ وأنّىٰ لهم أن ينصفوا ـ ونظروا إلىٰ المسألة بموضوعية وتجرد بعيداً عن النظرة المتعصبة الضيّقة لأدركوا أن الشيعة يستندون إلىٰ أدلّة قاطعة في قولهم بحلّيّة المتعة ، وأنّهم لا

_______________

(١) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ٣٤ ـ ٣٥ .


يخالفون الكتاب ولا السنة النبوية الشريفة مطلقاً .

وسوف أُناقش أدلّة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، وأترك الحكم للقارئ المنصف .

الاتفاق علىٰ إباحة المتعة :

بدءاً نقول : إنّ الطرفين متفقان علىٰ أن المتعة كانت مباحة ـ كما اعترف الشيخ محمد بن عبد الوهاب نفسه بذلك ـ ولكنهم اختلفوا في أنه هل نسخت أم لا ؟ فذهب أهل السنة إلىٰ القول بنسخها ، وتمسك الشيعة بعدم النسخ .

لقد اعترف أكثر المفسرين والعلماء أن المتعة قد أُبيحت بقوله تعالىٰ : ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) (١) .

حيث روىٰ معظم المفسرين حلّيتها بهذه الآية عن جمع من الصحابة والتابعين : كابن عباس وأبي بن كعب والحكم وسعيد بن جبير ومجاهد وقتاده وشعبة وأُبي بن ثابت والسدي والحسن وغيرهم (٢) .

_______________

(١) سورة النساء : ٢٤ .

(٢) أُنظر : تفسير الطبري ٥ / ٩ ـ ١٠ ، تفسير القرطبي ٥ / ١٣٠ ، تفسير الرازي ١٠ / ٥٢ ،


إلّا أنّ أهل السنة بعد ما أذعنوا إلىٰ إباحتها إدعوا نسخها ، نذكر مثلاً قول الفخر الرازي :

إنا لا ننكر أن المتعة كانت مباحة ، إنما الذي نقوله أنها صارت منسوخة ، وعلىٰ هذا التقدير فلو كانت هذه الآية دالة علىٰ أنها مشروعة لم يكن ذلك قادحاً في غرضنا ، وهذا الجواب أيضاً عن تمسكهم بقراءة ابن عباس ، فان تلك القراءة ( فما استمتعتم به منهن إلىٰ أجل مسمىٰ فاتوهن أُجورهن ) الآية ، بتقدير ثبوتها لا تدل إلّا علىٰ أن المتعة كانت مشروعة ، ونحن لا ننازع فيه ، إنما الذي نقوله أن النسخ طرأ عليها ... (١) .

وإلى هذا القول ذهب معظم مفسري أهل السنة .

أما حجة أهل السنة بالقول بالنسخ فتعتمد علىٰ بعض الآيات الكريمة ، منها :

١ ـ قوله تعالىٰ : ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ) (٢) .

_______________

تفسير السيوطي ٢ / ٤٨٤ ، تفسير ابن كثير ١ / ٤٨٦ ، تفسير أبي حيان ٣ / ٢١٨ ، تفسير الشوكاني ١ / ٤٤٩ ـ ٤٥٠ ، تفسير ابن العربي المالكي ١ / ٣٨٩ ، وغيرهم .

(١) التفسير الكبير ١٠ / ٥١ ـ ٥٢ .

(٢) سورة المؤمنون : ٥ ـ ٦ ، سورة المعارج : ٢٩ ـ ٣٠ .


لكن يبطل القول بالنسخ بهذه الآية أنها مكية ، وآية المتعة في سورة النساء وهي مدنية ، والمكي لا ينسخ المدني طبعاً لأنه متقدم عليه .

٢ ـ قوله تعالىٰ : ( إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ) (١) .

قال البلاغي في تفسيره : إن تشريع الطلاق لم يحصر إباحة الوطء وشرعيته بما كان مورداً للطلاق ، وإلّا فما تقول في التسري والوطء بملك اليمين ، فان مورد الطلاق هو العقد المبني علىٰ الدوام ، لان الطلاق هو الحل لعقدة الزواج الدائم وقطع لدوامه ، وإن قلت أن النسخ بالعدة ، قلنا أن المستمتع بها عليها تنقص عن عدة الدائم بحسب الدليل كما نقصت عدة الأمة كما عليه الامامية وجمهور أهل السنة ما عدا داود وأصحابه الظاهريين ، وقد روي في الدر المنثور من طريق عمار مولىٰ الشريد عن ابن عباس أن المستمتع بها تعتد بحيضه ، وفي كنز العمال مما أخرجه عبد الرزاق عن جابر في المتعة : وكنا نعتد من المستمتع بها منهن بحيضة ، وروىٰ أيضاً عن السدي أنها تستبرئ رحمها ...

وأما الصدقة أي النفقة ، إن كان المراد منها الصداق فان المتعة

_______________

(١) سورة الطلاق : ١ .


فيها صداق ، ولئن سمي أجراً فان القرآن قد سمىٰ الصداق في العقد الدائم أجراً ، فمن أين يجيء النسخ يا ترىٰ ؟ ... وأما الميراث ، فان آية ميراث الزوجين تقتضي بنفسها أن يتوارث المستمتع والمستمتع بها لأنهما زوجان ، نعم دل الدليل علىٰ عدم توارثهما فخصص به الكتاب ، ولعل ذلك لضعف علقتهما بكونها موقتة ، وقد اتفق جمهور أهل السنة علىٰ جواز نكاح الكتابية بالعقد الدائم واتفقوا علىٰ عدم التوارث بينهما وبين زوجها المسلم ، تخصيصاً منهم لعموم الارث بما رووه من قول النبي « لا يتوارث أهل الملتين » ونحوه ، وأجمع المسلمون علىٰ أن القاتل من أحد الزوجين للآخر لا يرث منه ... (١) .

٣ ـ قوله تعالىٰ : ( مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ) (٢) .

وقد ورد عن أهل السنة دعوىٰ أن الآية ناسخة لآية المتعة برواية ابن عباس ، وهذه الدعوىٰ باطلة من وجهين :

أحدهما : أن ذلك يخالف مذهب ابن عباس القائل بإباحة المتعة .

والثاني : أنه لو صحت الرواية عن ابن عباس لما كان ذلك سبباً

_______________

(١) آلاء الرحمان ٢ / ٨٢ ـ ٨٣ .

(٢) سورة النساء : ٢٤ .


لنسخ الآية ، لأن ثبوت الناسخ بخبر الواحد لا يصح ، وإلّا لالتزم إمكانية نسخ القرآن كلّه بخبر الواحد ، وعلماء أهل السنة لا يجيزون النسخ بخبر الواحد .

٤ ـ قوله تعالىٰ : ( فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ) (١) .

وإدعاء النسخ بهذه الاية ليس صحيحاً أيضاً .

يقول السيد الطباطبائي : أما النسخ بآية العدد ، ففيه أن النسبة بينها وبين آية المتعة ليست نسبة الناسخ والمنسوخ ، بل نسبة العام والمخصص أو المطلق والمقيد ، فان آية الميراث مثلاً تعم الأزواج جميعاً من كل دائم ومنقطع ، والسنة تخصصها باخراج بعض أفرادها ، وهو المنقطع من تحت عمومها ، كذلك القول في آية العدد ، وهو ظاهر ، ولعل القول بالنسخ ناشئ من عدم التمييز بين النسبتين .

نعم ذهب بعض الأصوليين فيما إذا ورد خاص ثم عقبه عام يخالفه في الاثبات والنفي إلىٰ أن العام ناسخ للخاص ، لكن هذا مع ضعفه غير منطبق علىٰ مورد الكلام ، وذلك ... لموقع آية العدد في سورة النساء متقدمة علىٰ آية المتعة ، فالخاص أعني آية المتعة

_______________

(١) سورة النساء : ٣ .


متأخر عن العام علىٰ أي حال (١) .

دعوىٰ النسخ بالسنّة :

إضافة لدعوىٰ أهل السنة نسخ آية المتعة بالقرآن ـ وقد ثبت بطلان ذلك ـ فانهم تمسكوا بمجموعة من الروايات التي أخرجها محدثوهم ـ وبخاصة في صحيح مسلم ـ بأنها قد نسخت المتعة ، وقد نسبت هذه الروايات القول في تحريمها إلىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم .

إلّا أن الملاحظ علىٰ هذه الروايات هو إضطرابها في ألفاظها من جهة ، وفي الوقت الذي تم فيه تحريم المتعة من جهة أخرى ، فبعضها يدعي أنها حرمت في عام خيبر ، وبعضها يدعي أنها حرمت في عام حنين ، وأُخرىٰ تدعي وقوع التحريم في غزوة تبوك ، أو في حجة الوداع أو في عام أوطاس ، وقد تناقضت أقوال علماء أهل السنة في هذا الباب تناقضاً واضحاً .

قال ابن حجر العسقلاني نقلاً عن السهيلي : ويتصل بهذا الحديث تنبيه علىٰ إشكال ، لأن فيه النهي عن نكاح المتعة يوم خيبر ، هذا شيء لا يعرفه أحد من أهل السير ورواة الأثر ...

وقال عن تحريم المتعة عام تبوك نقلاً عن السهيلي أيضاً : وقد

_______________

(١) تفسير الميزان ٤ / ٢٧٤ .


اختلف في وقت تحريم نكاح المتعة ، فأغرب ما روي في ذلك رواية من قال : في غزوة تبوك ، ثم رواية الحسن إن ذلك كان في عمرة القضاء ، والمشهور في تحريمها أن ذلك كان في غزوة الفتح ، كما أخرجه مسلم من حديث الربيع بن سبرة عن أبيه ، وفي رواية عن الربيع أخرجها أبو داود أنه كان في حجة الوداع ، قال : ومن قال من الرواة : كان في غزوة أوطاس ، فهو موافق لمن قال عام الفتح ، انتهىٰ .

فتحصل مما أشار إليه ستة مواطن : خيبر ، ثم عمرة القضاء ، ثم الفتح ، ثم أوطاس ، ثم تبوك ، ثم حجة الوداع ، وبقي عليه حنين (١) .

وقال ابن القيّم : ولم تحرم المتعة يوم خيبر ، وإنما كان تحريمها عام الفتح ، هذا هو الصواب ...

وقصة خيبر لم يكن فيها الصحابة يتمتعون باليهوديات ، ولا استأذنوا في ذلك رسول الله ولا نقله أحد قط في هذه الغزوة ، ولا كان للمتعة فيها ذكر البتة ، لا فعلاً ولا تحريماً ، بخلاف غزاة الفتح ، فان قصة المتعة كانت فيها فعلاً وتحريماً ، مشهورة ، وهذه الطريقة أصح (٢) .

_______________

(١) فتح الباري ٩ / ١٣٨ .

(٢) زاد المعاد ٣ / ٣٤٣ ـ ٣٤٥ .


يتبين من ذلك أن علماء أهل السنة أنفسهم يسقطون جميع الروايات التي تدعي نسخ المتعة أو تحريمها في كل الموارد المذكورة ، عدا الروايات التي تدعي أن ذلك كان في عام الفتح ، والعمدة فيها الروايات التي أخرجها مسلم في صحيحه ومن ثم أحمد بن حنبل في مسنده ، فلنستعرض بعضاً من هذه الروايات ـ طلباً للاختصار ـ ثم نناقشها مستشهدين بأقوال بعض العلماء فيها .

أخرج مسلم في صحيحه في ( باب نكاح المتعة وبيان أنه أُبيح ثم نسخ ثم أُبيح ثم نسخ ، واستقر تحريمه إلىٰ يوم القيامة ) :

١ ـ عن الربيع بن سبرة الجهني ، عن أبيه سبرة ، أنه قال : أذن لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمتعة ، فانطلقت أنا ورجل إلىٰ امرأه من بني عامر كأنها بكرة عيطاء فعرضنا عليها أنفسنا ، فقالت : ما تعطي ؟ فقلت ردائي ، وقال صاحبي : ردائي ، وكان رداء صاحبي أجود من ردائي وكنت أشب منه ، فاذا نظرت إلىٰ رداء صاحبي أعجبها ، وإذا نظرت إليّ أعجبتها ، ثم قالت : أنت ورداؤك يكفيني ، فمكثت معها ثلاثاً ، ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : « من كان عنده شيء من هذه النساء التي يتمتع فليخل سبيلها » .

٢ ـ عن الربيع بن سبرة : أن أباه غزا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتح مكة ، قال : فأقمنا بها خمس عشرة ( ثلاثين بين يوم وليلة ) فاذن لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم


في متعة النساء ، فخرجت أنا ورجل من قومي ولي عليه فضل في الجمال وهو قريب من الدمامة ، مع كل واحد منا بُرد ، فبردي خلق وأما برد ابن عمي فبرد جديد غض ، حتىٰ إذا كنا بأسفل مكة أو بأعلاها ، فتلقتنا فتاة مثل البكرة العنطنطه ، فقلنا : هل لك أن يستمتع منك أحدنا ؟ قالت : وماذا تبذلان ؟ فنشر كل واحد منا برده ، فجعلت تنظر إلىٰ الرجلين ، ويراها صاحبي تنظر إلىٰ عطفها فقال : إن برد هذا خلق وبردي جديد غض ، فتقول : برد هذا لا بأس به ، ثلاث مرار أو مرتين ، ثم استمتعت منها ، فلم أخرج حتىٰ حرّمها رسول الله .

٣ ـ الربيع بن سبرة الجهني : أن أباه حدثه أنه كان مع رسول الله فقال : « يا أيها الناس إني كنت قد أذنت لكم في الاستمتاع من النساء ، وإن الله قد حرم ذلك إلىٰ يوم القيامة ، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً » .

٤ ـ عبد الملك بن الربيع بن سبرة الجهني ، عن أبيه ، عن جده قال : أمرنا رسول الله بالمتعة عام الفتح حين دخلنا مكة ، ثم لم نخرج منها حتىٰ نهانا عنها .

٥ ـ ربيع بن سبرة يحدث عن أبيه سبرة بن معبد : أن نبي الله عام فتح مكة أمر أصحابه بالتمتع من النساء ، قال : فخرجت أنا وصاحب


لي من بني سليم ، حتىٰ وجدنا جارية من بني عامر ، كأنها بكرة عيطاء ، فخطبناها إلىٰ نفسها ، وعرضنا عليها بردينا ، فجعلت تنظر فتراني أجمل من صاحبي ، وترىٰ برد صاحبي أحسن من بردي ، فآمرت نفسها ساعة ثم اختارتني علىٰ صاحبي ، فكنّ معنا ثلاثاً ، ثم أمرنا رسول الله بفراقهن .

٦ ـ عن الربيع بن سبرة ، عن أبيه : أن النبي نهىٰ عن نكاح المتعة .

٧ ـ عن الربيع بن سبرة ، عن أبيه : أن رسول الله نهىٰ يوم الفتح من متعة النساء .

٨ ـ عن الربيع بن سبرة الجهني ، عن أبيه : أنه أخبره أن رسول الله نهىٰ عن المتعة زمان الفتح متعة النساء ، وأن أباه كان تمتع ببردين أحمرين (١) .

وأخرج الامام أحمد في هذا الباب في مسند سبرة بن معبد :

١ ـ عن ربيع بن سبرة ، عن أبيه : أن رسول الله نهىٰ عن متعة النساء يوم الفتح .

٢ ـ عن الزهري قال : تذاكرنا عند عمر بن عبد العزيز المتعة ، متعة النساء ، فقال ربيع بن سبرة : سمعت أبي يقول : سمعت رسول

_______________

(١) صحيح مسلم ٢ / ١٠٢٢ ـ ١٠٢٦ كتاب النكاح .


الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجة الوداع ينهىٰ عن نكاح المتعة .

٣ ـ عبد الملك بن الربيع بن سبرة ، عن أبيه ، عن جده أنه قال : نهىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن نصلي في أعطان الابل ورخص أن نصلي في مراح الغنم ، ونهىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المتعة .

٤ ـ عن الربيع بن سبرة ، عن أبيه : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرم متعة النساء .

٥ ـ عن الربيع بن سبرة ، عن أبيه قال : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدينة في حجة الوداع ... فلما قدمنا مكة طفنا بالبيت وبين الصفا والمروة ، ثم أمرنا بمتعة النساء فرجعنا إليه فقلنا : يا رسول الله إنهن قد أبين إلّا إلىٰ أجل مسمىٰ ، قال : « فافعلوا » ، قال : فخرجت أنا وصاحب لي علي برد وعليه برد ، فدخلنا علىٰ إمرأة فعرضنا عليها أنفسنا ، فجعلت تنظر إلىٰ برد صاحبي فتراه أجود من بردي وتنظر إليّ فتراني أشب منه ، فقالت : برد مكان برد ، واختارتني ، فتزوجتها عشراً ببردي ، فبت معها تلك الليلة ، فلما أصبحت غدوت إلىٰ المسجد فسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو علىٰ المنبر يخطب ويقول : « من كان منكم تزوج إمرأة إلىٰ أجل فليعطها ماسمّىٰ لها ولا يسترجع من أعطاها شيئاً وليفارقها فان الله تعالىٰ قد حرمها عليكم إلىٰ يوم القيامة » .

٦ ـ الربيع بن سبرة ، عن أبيه قال : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الفتح


فأقمنا خمس عشرة من بين ليلة ويوم ، قال : فاذن لنا رسول الله في المتعة ، فخرجت أنا وابن عم لي في أسفل مكة أو قال في أعلىٰ مكة فلقيتنا فتاة من بني عامر بن صعصعة كأنها البكرة العنطنطة ، قال : وأنا قريب من الدمامة وعلي برد جديد غض وعلىٰ ابن عمي برد خلق ، قال : فقلنا لها : هل لك أن يستمتع منك أحدنا ؟ قالت : وهل يصلح ذلك ؟ قال : قلنا : نعم ، قال : فجعلت تنظر إلىٰ ابن عمي ، فقلت لها : إنّ بردي هذا جديد غض وبرد ابن عمي هذا خلق مُح ، قالت : برد ابن عمك هذا لا بأس به ، قال : فاستمتع منها فلم ، نخرج من مكة حتىٰ حرمها رسول الله .

٧ ـ عن الربيع بن سبرة ، عن أبيه يقال له السبري ، عن النبي أنه أمرهم بالمتعة ، قال : فخطبت أنا ورجل إمرأة ، قال : فلقيت النبي بعد ثلاث فاذا هو يحرمها أشد التحريم ويقول فيها أشد القول وينهىٰ عنها أشد النهي .

٨ ـ الربيع بن سبرة ، عن أبيه سبرة الجهني أنه قال : أذن لنا رسول الله في المتعة ، قال : فانطلقت أنا ورجل هو أكبر مني سناً من أصحاب النبي ، فلقينا فتاة من بني عامر كأنها بكرة عيطاء ، فعرضنا عليها أنفسنا فقالت : ما تبذلان ؟ قال كل واحد منا ردائي ، قال : وكان رداء صاحبي أجود من ردائي وكنت أشب منه ، قالت : فجعلت


تنظر إلىٰ رداء صاحبي ثم قالت : أنت ورداؤك تكفيني ، قال : فأقمت معها ثلاثاً ، ثم قال رسول الله : « من كان عنده من النساء التي تمتع بهن شيء فليخل سبيلها » ، قال : ففارقتها .

٩ ـ عن الربيع بن سبرة ، عن أبيه قال : نهىٰ رسول الله عن نكاح المتعة .

١٠ ـ الربيع بن سبرة الجهني ، عن أبيه قال : خرجنا مع رسول الله فلما قضينا عمرتنا قال لنا رسول الله : « استمتعوا من هذه النساء » قال : والاستمتاع عندنا يوم التزويج ، قال : فعرضنا ذلك علىٰ النساء فأبين إلّا أن يضرب بيننا وبينهن أجلاً ، قال : فذكرنا ذلك للنبي فقال : « إفعلوا » ، فانطلقت أنا وابن عم لي ومعه بردة ومعي بردة وبردته أجود من بردتي وأنا أشب منه ، فأتينا إمرأة فعرضنا ذلك عليها فأعجبها شبابي وأعجبها برد ابن عمي ، فقالت : برد كبرد ، قال : فتزوجتها فكان الأجل بيني وبينها عشراً ، قال : فبت عندها تلك الليلة ثم أصبحت غادياً إلىٰ المسجد فاذا رسول الله بين الباب والحجر يخطب الناس يقول : « ألا أيها الناس قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من هذه النساء ، ألا وإنّ الله تبارك وتعالىٰ قد حرم ذلك إلىٰ يوم القيامة ، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها ولا تأخذوا


مما آتيتموهن شيئاً » (١) .

نلاحظ أن جميع أسانيد هذه الروايات تنتهي إلىٰ الربيع بن سبرة عن أبيه ، والواقعة واحدة ، إلّا أن الاضطراب واضح فيها .

ففي بعض الروايات أنها كانت في عام الفتح ، وفي الروايات الاُخرىٰ أنها كانت في حجة الوداع .

وبعض الروايات تذكر أن سبرة خرج مع أحد من بني قومه ، وأُخرىٰ تذكر أنه ابن عمه ، وبعضها تقول رجل كبير من أصحاب رسول الله .

وفي بعض الروايات أن سبرة كان أجمل وأكثر شباباً من صاحبه وأن برد صاحبه كان أفضل من برده ، وروايات تقول العكس .

وبالتالي فان رواية الآحاد هذه هي آخر مستمسك بيد أهل السنة لاثبات تحريم المتعة ، ولكن هل تستطيع هذه الرواية المهلهلة أن تنهض أمام الروايات الصحيحة المستفيضه التي تقول بعكس ذلك ، ومن أين نشأ هذا التناقض ؟

عملية التبرير :

إن هذه الروايات المضطربة عن تحريم المتعة إنما وضعت لتبرير

_______________

(١) مسند أحمد ٣ / ٤٠٤ ـ ٤٠٦ .


أمر قد وقع ولا حيلة في رده ، وهو أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب هو الذي حرم المتعتين ـ متعة النساء ومتعة الحج ـ وقد مرّ في بعض المباحث السابقة إعتراف القوشجي بأن عمر بن الخطاب قد نسب تحريم المتعتين والحيعلة الثالثة إلىٰ نفسه علىٰ المنبر وعلىٰ رؤوس الاشهاد ، وبما أن ذلك أمر غير جائز شرعاً ، واجتهاد أمام نصوص قرآنية وسنة ثابتة لا ينبغي الاجتراء عليها ، لذا لم يجد القوم سبيلاً لتبرير عمل الخليفة إلّا بوضع روايات تدعي نسبة النهي عن المتعة إلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بغية إيجاد الغطاء الشرعي لتصرف الخليفة .

قال الامام عبد الحسين شرف الدين قدس‌سره : وظنّي أن المتأخرين عن زمن الصحابة وضعوا أحاديث النسخ تصحيحاً لرأي الخليفه إذ تأول الأدلة فنهىٰ وحرّم متوعداً بالعقوبة ، فقال : متعتان كانتا علىٰ عهد رسول الله وأنا أحرمهما وأعاقب عليها : متعة الحج ومتعة النساء (١) .

والباحث يجد في صحاح أهل السنة وكتبهم المعتمدة اعترافات مجموعة كبيرة من الصحابة بأن المتعة كانت مباحة في عهد النبي

_______________

(١) مسائل فقهية : ٦٤ .


وفي زمن أبي بكر وردحاً من خلافة عمر ، حتىٰ نهىٰ عنهما بعد ذلك ، وسوف أذكر بعض الروايات التي أخرجها محدّثو أهل السنة وحفاظهم والتي تتضمن هذه الاعترافات :

١ ـ عن عمران رضي‌الله‌عنه قال : تمتعنا علىٰ عهد رسول الله فنزل القرآن ، قال رجل برأيه ماشاء (١) .

وفي بعض نسخ البخاري : يقال أنه عمر .

قال القسطلاني في الارشاد : لأنه كان ينهىٰ عنها .

وقال ابن حجر العسقلاني : ونقله الاسماعيلي عن البخاري كذلك فهو عمدة الحميدي في ذلك ، ولهذا جزم القرطبي والنووي وغيرهما ، وكأن البخاري أشار بذلك إلىٰ رواية الحريري عن مطرف فقال في آخره : إرتأىٰ رجل برأيه ماشاء ، يعني عمر . كذا في الأصل أخرجه مسلم . وقال ابن التين : يحتمل أن يريد : أو عثمان . وأغرب الكرماني فقال : إن المراد به عثمان ، والأولىٰ أن يفسر بعمر ، فانه أول من نهىٰ عنها وكان من بعده تابعاً له في ذلك . ففي مسلم : إن ابن الزبير كان ينهىٰ عنها وابن عباس يأمر بها ، فسألوا جابراً فأشار إلىٰ

_______________

(١) صحيح البخاري ٢ / ١٧٦ ، وفي لفظ : أنزلت آية المتعة في كتاب الله ففعلناها مع رسول الله ولم ينزل قرآن يحرمه ، ولم ينه عنها حتى مات ، قال رجل برأيه ماشاء ٦ / ٣٣ ، صحيح مسلم ٢ / ٩٠٠ باب جواز التمتع .


أن أول من نهىٰ عنها عمر (١) .

وقال القسطلاني : قال رجل برأيه ماشاء ، هو عمر بن الخطاب لا عثمان بن عفان ، لأن عمر أول من نهىٰ عنها ، فكان من بعده تابعاً له في ذلك (٢) .

٢ ـ عن أبي جمرة نصر بن عمران قال : سألت ابن عباس رضي‌الله‌عنه عن المتعة فأمرني بها ، وسألته عن الهدي فقال فيها : المتعة جزور أو بقرة أو شاة أو شرك في دم . قال وكأن أناساً كرهوها ، فنمت ، فرأيت في المنام كأن إنساناً ينادي : حج مبرور ومتعة متقبلة ، فأتيت ابن عباس رضي‌الله‌عنه فحدثته فقال : الله أكبر ، سنة أبي القاسم (٣) .

هذا فيما يتعلق بالتمتع بالعمرة ، وفيها إثبات بأن عمر بن الخطاب هو الذي نهىٰ عنها وحرمها ، والروايات في هذا الباب كثيرة جداً عن عدد من الصحابة في مصادر أهل السنة المعتمدة (٤) .

أما الروايات المثبته لتحريم عمر متعة النكاح فهي كثيرة جداً ، منها :

_______________

(١) فتح الباري ٣ / ٣٣٩ .

(٢) إرشاد الساري ٣ / ١٣٦ .

(٣) صحيح البخاري ٢ / ٢٠٤ ، إرشاد الساري ٣ / ٢٠٤ وقال : وكأن أناساً كرهوها ، يعني كعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وغيرهما ممن نقل الخلاف في ذلك .

(٤) راجع مثلاً : صحيح مسلم ٢ / ٩٠٠ و ٩٠٩ باب في متعة الحج .


١ ـ عن جابر بن عبدالله قال : كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام علىٰ عهد رسول الله وأبي بكر ، حتىٰ نهىٰ عنه عمر في شأن عمرو بن حريث (١) .

٢ ـ عن الحكم أنه سئل عن هذه الآية ـ آية متعة النساء ـ أمنسوخة ؟ قال : لا ، وقال علي : لولا أن عمر نهىٰ عن المتعة مازنىٰ إلّا شقي (٢) .

٣ ـ قال عطاء : قدم جابر بن عبدالله معتمراً فجئناه في منزله فسأله القوم عن أشياء ثم ذكروا المتعة فقال : استمتعنا علىٰ عهد رسول الله وأبي بكر وعمر (٣) .

٤ ـ عن أبي سعيد الخدري وجابر بن عبدالله قالا : تمتعنا إلىٰ نصف من خلافة عمر حتىٰ نهى عمر الناس عنها في شأن عمرو بن حريث (٤) .

_______________

(١) صحيح مسلم ٢ / ١٠٢٣ ، فتح الباري ٩ / ١٤١ ، كنز العمال ١٦ / ٥٢٣ ، جامع الاصول ١١ / ٤٥١ .

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٩ باسناد صحيح ، تفسير الرازي ٣ / ٢٠٠ ، تفسير أبي حيّان ٣ / ٢١٨ ، الدر المنثور ٢ / ١٤٠ بعدة طرق .

(٣) صحيح مسلم ٢ / ١٠٢٣ ، وفي لفظ أحمد : حتىٰ إذا كان في آخر خلافة عمر رضي‌الله‌عنه المسند ٣ / ٣٨٠ .

(٤) عمدة القاري ٨ / ٣١٠ .


٥ ـ قال ابن شهاب : أخبرني عروة بن الزبير : أن عبد الله بن الزبير قام بمكة فقال : إنّ أُناساً أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة ، يعرّض برجل ، فناداه فقال : إنك لجلف جاف ، فلعمري لقد كانت المتعة تفعل علىٰ عهد إمام المتقين ( يريد رسول الله ) ، فقال له ابن الزبير : فجرب بنفسك فو الله لئن فعلتها لأرجمنك بأحجارك (١) .

والشخص الذي عرّض به ابن الزبير هو عبد الله بن عباس ، وواضح قوله : لقد كانت المتعة تفعل علىٰ عهد إمام المتقين ، بحلّيتها زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعدم تحريمه لها .

٦ ـ عن عبدالله بن مسعود قال : كنا نغزو مع رسول الله وليس لنا نساء ، فقلنا : ألا نختصي ؟ فنهانا ، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلىٰ أجل ، ثم قرأ علينا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّـهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) (٢) .

هذه الروايات وغيرها كثيرة كافية لاثبات أن تحريم المتعة إنما كان إجتهاداً في غير محله من قبل الخليفة عمر بن الخطاب ،

_______________

(١) صحيح مسلم ٢ / ١٠٢٦ .

(٢) صحيح البخاري ٧ / ٥ ، صحيح مسلم ٢ / ١٠٢٢ باب نكاح المتعة ، زاد المعاد ٣ / ٤٦١ .


واعترافه بنسبة التحريم إلىٰ نفسه ـ خلافاً للكتاب والسنة ـ كافٍ لكشف النقاب عن وجه المسألة كلّها ، ولعل رواية ابن مسعود ـ الذي كان معاصراً لقضية تحريم المتعة من قبل عمر ، وكان من الذين نهاهم عمر عن الرواية ـ كافية لوضع النقاط علىٰ الحروف وتنبيه المسلمين إلىٰ أن المتعة من الطيبات التي أحلها الله ، وأن تحريمها من قبيل الاعتداء علىٰ الشريعة .

وليس ابن مسعود رضي‌الله‌عنه هو الصحابي الوحيد الذي كان يقول بجواز المتعة ، بل ثبت علىٰ جوازها أيضاً ـ كما يقول ابن حجر ـ معاوية وأبو سعيد وابن عباس وسلمة ومعبد إبنا أُمية بن خلف وجابر وعمرو بن حريث إلىٰ قرب خلافة عمر ... ومن التابعين طاووس وسعيد بن جبير وعطاء وسائر فقهاء مكة .

وكان فقيه مكة عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح أبو خالد المكي وهو من أعلام التابعين يرىٰ جواز زواج المتعة ، وقد روي عنه أنه تزوج نحواً من تسعين إمرأة بنكاح المتعة وأنه كان يرىٰ الرخصة في ذلك (١) .

فاذا كانت المتعة من الزنا ، فينبغي أن يكون جميع أُولئك الصحابة

_______________

(١) فتح الباري ٩ / ٣١ .


والتابعين من الزناة ، أو من المقرين به علىٰ الأقل ، كما أن جواز المتعة ولو لثلاثة أيام كما يدعون هو إباحة للفاحشة ، فالروايات التي يتحصن بها أهل السنة ـ علىٰ ما فيها ـ في تحريم المتعة معارضة بالروايات الصحيحة المتكاثرة في حليتها ، فاذا أسقطنا الروايات جميعاً للتعارض ، يبقىٰ لنا ظاهر القرآن الذي هو الحجة البالغة ، وحيث لم يثبت نسخها ـ كما بينا ـ فالحكم باق إلىٰ قيام الساعة .

يتبين من كل ذلك أن الشيعة يتمسكون بالقرآن أولاً في بيان حلية المتعة ، وبالروايات المستفيضة التي جاءتهم عن طريق أئمتهم الأطهار عليهم‌السلام فضلاً عن الروايات التي أوردنا بعضها والتي هي في مصادر أهل السنة وصحاحهم .

وبذلك يثبت الشيعة مرة أُخرىٰ أنهم هم المتمسكون بالثقلين : كتاب الله وعترة النبي أهل بيته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون غيرهم .

النكاح بلا ولي وشهود :

قال الشيخ في « مطلب النكاح بلا وليّ ولا شهود » :

ومنها إباحتهم النكاح بلا ولي ولا شهود ، وهذا هو الزنا بعينه ، قال الحلي منهم : ولا يشترط في نكاح الرشيدة الولي ولا يشترط الشهود في شيء


من الأنكحة ، ولو تآمروا علىٰ الكتمان لم يبطل ، انتهى .

عن عمران بن حصين أنه قال : « لا نكاح إلّا بولي وشاهدي عدل » ... قال بعض السادة : وإذا طرق سمعك ما سردنا عليك من الأحاديث فقد ظهر بطلان مذهبهم في تجويز النكاح بلا ولي ولا شهود والله أعلم (١) .

قلت : علىٰ الرغم من أن الخلاف في مسائل الفروع أمر طبيعي ، إلّا أن إدعاء الشيخ ـ رغم ذلك ـ لا أساس له من الواقع ، وهو يخالف رأي جمهور الشيعة في هذا الباب ، وإليك جملة من آراء علمائهم :

١ ـ قال الشيخ البحراني قدس‌سره : الذي عليه المعوّل باستقلال الولي وأنه ليس لها معه أمر ، ويدل عليه جملة من الأخبار ، منها ما يدل علىٰ إستقلاله نصاً بحيث لا يقبل التأويل والاحتمال ، ومنها ما يدل علىٰ ذلك ظاهراً كما هو المعتمد في الاستدلال ، فلا يلتفت إلىٰ ما قبله من التأويل والاحتمال .

فمنها : ما رواه ثقة الاسلام في الصحيح عن عبدالله بن الصلت ، قال : سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن الجارية الصغيرة زوّجها أبوها ،

_______________

(١) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ٣٦ ـ ٣٨ .


ألها أمر إذا بلغت ؟ قال : « لا ليس لها مع أبيها أمر » قال : وسألته عن البكر إذا بلغت مبلغ النساء ، ألها مع أبيها أمر ؟ قال : « ليس لها مع أبيها أمر مالم تثيب » .

وما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي عن الصادق عليه‌السلام قال : سألته عن البكر إذا بلغت مبلغ النساء ألها مع أبيها أمر ؟ قال : « ليس لها مع أبيها أمر مالم تثيب » .

وهي كالأُولىٰ متناً ودلالة (١) .

٢ ـ قال المحقق الكركي قدس‌سره : والولاية الثابتة بالقرابة منحصرة عندنا في قرابة الأبوة والجدودة من الأبوة ، باتفاق علمائنا ، فلا تثبت للأخ ولاية من الأبوين كان أو من أحدهما ، انفرد أم كان مع الجد ، خلافاً للعامة .

وكذا الولد وسائر العصبات قربوا أو بعدوا ، وكذا لا ولاية للأُم ولا لمن يتقرب بها ، وهو قول الأصحاب وأكثر العامة (٢) .

٣ ـ واختار السيد الخوئي قدس‌سره التشريك ، بمعنىٰ : اعتبار إذنهما معاً ، قال : هذا القول هو المتعيّن في المقام ، لما فيه من الجمع بين

_______________

(١) الحدائق الناضرة ٢٣ / ٢١٢ كتاب النكاح .

(٢) جامع المقاصد ١٢ / ٩٢ كتاب النكاح في الأولياء .


النصوص الواردة ، ولخصوص ظهور قوله عليه‌السلام في معتبرة صفوان : « فان لها في نفسها نصيباً » أو : « فان لها في نفسها حظاً » ، فانهما ظاهران في عدم إستقلالها وكون بعض الأمر خاصة بها (١) .

وكتب الحديث المعتمدة عند الشيعة مليئة بالروايات عن الأئمة المعصومين عليهم‌السلام والتي تكذب مقالة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، أذكر منها هذه الروايات القليلة ـ طلباً للاختصار ـ :

١ ـ عن سعيد بن إسماعيل ، عن أبيه قال : سألت الرضا عليه‌السلام عن رجل تزوج ببكر أو ثيب لا يعلم أبوها ولا أحد من قراباتها ، ولكن تجعل المرأة وكيلاً فيزوجها من غير علمهم ، قال : « لا يكون ذا » (٢) .

٢ ـ عن ابن أبي يعفور ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « لا تنكح ذوات الآباء من الأبكار إلّا باذن آبائهن » (٣) .

٣ ـ عن المهلب الدلال ، أنه كتب إلىٰ أبي الحسن عليه‌السلام : إن إمرأة كانت معي في الدار ، ثم أنها زوجتني نفسها وأشهدت الله وملائكته علىٰ ذلك ، ثم أن أباها زوجها من رجل آخر ، فما تقول ؟ فكتب عليه‌السلام :

_______________

(١) مباني العروة الوثقىٰ ٢ / ٢٦٤ .

(٢) وسائل الشيعة ٢٠ / ٢٧٠ .

(٣) وسائل الشيعة ٢٠ / ٢٧٧ .


« التزويج الدائم لا يكون إلّا بولي وشاهدين ... » (١) .

وأخيراً أختم هذا المبحث بقول الشيخ المفيد في هذا الباب :

وذوات الآباء من الأبكار ينبغي لهن ألا يعقدن علىٰ أنفسهن إلّا باذن آبائهن ، وإن عقد الأب علىٰ إبنته البكر البالغ بغير إذنها أخطأ السنّة ، ولم يكن لها خلافه ، وإن عقدت علىٰ نفسها بعد البلوغ بغير إذن أبيها خالفت السنّة وبطل العقد إلّا أن يجيزه الأب (٢) .

وطء الجارية بالاباحة :

قال الشيخ في « مطلب وطء الجارية بالإباحة » :

ومنها : تجويزهم وطء الجارية للغير بالاباحة ، قال الحلي : يجوز إباحة الأمة للغير بشرط كون المبيح مالكاً لرقه جائز التصرف ، وكون الأمة مباحة بالنسبة إلىٰ من أُبيحت له ، ويكفي في رد هذا الباطل قوله تعالىٰ : ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ) ، ومعلوم قطعاً أن وطأها ليس بالنكاح ولا بملك اليمين ، وقوله تعالىٰ :

_______________

(١) وسائل الشيعة ٢١ / ٣٤ .

(٢) المقنعة : ٥١٠ .


( وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ ) (١) .

هذه أيضاً واحدة من المسائل الفقهية المختلف فيها ، ومن المؤسف أن البعض لم يكتفوا بما سطره الشيخ ابن عبد الوهاب قبل مئات السنين بما يوغر صدور المسلمين ويغري بينهم بالعداوة والبغضاء ، فراحوا يردّدون مقالاته إلىٰ يومنا هذا ، فقد نشرت مجلة ( الدعوة ) السعودية مقالاً حمل فيه كاتبه إبراهيم السليمان الجهمان علىٰ الشيعة وعقائدهم ، فسبّ وشتم ماشاءت له قريحته ، فمما قال : إن الشيعة قائلون بجواز تحليل وإباحة فروج الاماء للغير ، وهذا مخالف لقوله تعالى : ( وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ ... ) الآية (٢) .

نقول : إن هذه المسألة من المسائل التي وقع الاختلاف فيها بين الفريقين أولاً ، وبين أبناء الطائفة الواحدة ثانياً .

فجمهور أهل السنة قالوا بالمنع ، أما الشيعة فقد اختلفوا فيه .

قال ابن إدريس : إنه جائز عند أكثر أصحابنا المحصلين ، وبه تواترت الأخبار ، وهو الأظهر بين الطائفة والعمل عليه والفتوىٰ به ، ومنهم من منع منه .

_______________

(١) رسالة في الردّ على الرافضة : ٣٨ .

(٢) سورة المؤمنون : ٥ .


أما الشيخ الطوسي فقد حكىٰ قولاً في المبسوط بالمنع منه ، وكذلك نقل عن الشيخ الطوسي عدم الجواز في النهاية في مسألة تحليل المولىٰ أمته لعبده .

وممن قال بعدم الجواز أيضاً ، العلامة في المختلف ، وولده .

أما القائلون بالجواز فيستدلّون بقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ) (١) .

حيث استدل ابن إدريس بهذه الاية علىٰ حلية الاستمتاع بالتحليل لدخوله في قوله تعالىٰ : ( أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ) ، لأن المراد من ملك اليمين ما يشمل تحليل الأمة المملوكة ، والتحليل هذا هو ( تمليك المنفعة ) .

ويمكن أن يدخل التحليل أيضاً في قوله تعالىٰ : ( إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ ) ، لأن الأصحاب اختلفوا في أن التحليل هنا هل هو عقد أو إباحة وتمليك منفعة ؟ فنقل عن السيد المرتضىٰ رحمه‌الله أنه عقد متعة .

وعلى فرض عدم شمول الآية لتحليل الأمة المملوكة فيخصص عموم الآية ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ) بتخصيص آخر غير القسمين المذكورين فيها ، للروايات الواردة عن أئمة أهل

_______________

(١) سورة المؤمنون : ٥ .


البيت عليهم‌السلام ، لأن أقوالهم حجة ، بدليل حديث الثقلين وآية التطهير وغيرهما .

قال الشيخ يوسف البحراني رحمه‌الله : لا ريب من اعتبار صيغة لهذا النكاح ، فان مجرد التراضي لا يكفي حل الفروج إجماعاً ، وقد أجمعوا علىٰ الجواز بلفظ التحليل ، لأنه هو الوارد في النصوص ... فيصح بقوله : أحللت لك وطء فلانة ، أو جعلتك في حل من وطئها ، قاصداً به الانشاء (١) .

والذين يشنعون علىٰ الشيعة في هذا الباب يغمضون أعينهم عما جاء في كتب أهل السنة من الاعتراف باباحة ذلك ، مما قد ورد عن عدد من الصحابة والتابعين ، فقد أخرج عبد الرزاق في مصنفه ( باب : الرجل يحل أمته للرجل ) :

١ ـ عن الحسن يقول : إذا أحل الرجل الجارية للرجل ، فعتقها له ، فان حملت أُلحق به الولد .

٢ ـ عن ابن جريج قال : أخبرني عطاء قال : كان يُفعل ، يُحل الرجل وليدته لغلامه وابنه وأخيه وأبيه ، والمرأة لزوجها ، وما أحب أن يفعل ذلك ، وما بلغني عن ثبت ، وقد بلغني أن الرجل يرسل

_______________

(١) الحدائق الناضرة : ٢٤ / ٣١٥ .


وليدته إلىٰ ضيفه .

٣ ـ عن طاووس أنه قال : هي أحلّ من الطعام ، فان ولدت فولدها للذي أُحلت له ، وهي لسيدها الأول .

٤ ـ عن ابن جريج قال : أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع طاووساً يقول : قال ابن عباس : إذا أحلّت إمرأة الرجل أو إبنته أو أُخته له جاريتها فليصبها وهي لها ، قال ابن عباس : فليجعل به بين وركيها .

٥ ـ عن ابن جريج قال : أخبرني ابن طاووس عن أبيه كان لا يرىٰ بأساً ، قال : هو حلال ، فان ولدت فولدها حر ، والأمة لامرأته ، لا يغرم زوجها شيئاً .

٦ ـ عن ابن جريج قال : أخبرني عبدالله بن قيس عن الوليد بن هشام ، أخبره أنه سأل عمر بن عبد العزيز فقال : امرأتي أَحلّت جاريتها لابنها ، قال : فهي له (١) .

الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها

قال الشيخ في « مطلب الجمع بين المرأة وعمّتها » :

ومنها : تجويزهم الجمع بين المرأة وعمتها وبين

_______________

(١) المصنف ٧ / ٢١٦ ـ ٢١٧ .


المرأة وخالتها ، وعلىٰ هذا ما ورد عن علي رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله : « لا تنكح المرأة علىٰ عمتها ولا العمة علىٰ بنت أخيها ولا المرأة علىٰ خالتها والخالة علىٰ بنت أُختها ، ولا تنكح الصغرىٰ علىٰ الكبرىٰ ولا الكبرىٰ علىٰ الكبرىٰ ، رواه البزار ... وبهذا وأمثاله تعرف أن الرافضة أكثر الناس تركاً لما أمر الله وإتياناً لما حرّمه ، وأن كثيراً منهم ناشيء عن نطفة خبيثة موضوعة في رحم حرام ، ولذا لا ترىٰ منهم إلا الخبيث اعتقاداً وعملاً !! وقد قيل : كل شيء يرجع إلىٰ أصله (١) .

قلت : لم يصدق الشيخ إلّا في العبارة الأخيرة : كل شيء يرجع إلىٰ أصله ! نعم ، فلو كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب يتملك أدنىٰ مقومات الايمان أو الاسلام ، لما تفوه بمثل هذا الكلام القبيح الذي يندىٰ له الجبين عرقاً ، والنبى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده » ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان » (٢) .

فقد نفىٰ الشيخ ابن عبد الوهاب عن نفسه صفة الايمان والاسلام ،

_______________

(١) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ٣٨ ـ ٣٩ .

(٢) كتاب السنة : ٤٧٣ ابن أبي عاصم وصححه الألباني .


وهو يُقذِع في وصف أُمّة مسلمة يربو عددهم علىٰ المائتي مليون ، ولكن ليس لنا أن نجاريه في هذه السفاهة ، فأتباع أهل البيت عليهم‌السلام يُجلون ألسنتهم وأقلامهم عن مثل هذا الفحش ، وكل شيء يرجع إلىٰ أصله .

نقول بعد هذا : إن المسلمين متفقون علىٰ أن الاجتهاد في الفروع أمر جائز تبعاً للأدلة المتوفرة ، وقد خالف أئمة أهل السنة وفقهاؤهم بعضهم بعضاً ، ولم يقدح ذلك في أحدهم .

لكن من المؤلم حقاً أن الشيخ لا يكتفي بالافتراء علىٰ الشيعة ، بل يفتري علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه المنتجبين أيضاً ، حيث ينسب لهم ما لم يقولوه ، ذلك أن الرواية التي يستشهد بها ويدعيها علىٰ لسان أمير المؤمنين عليه‌السلام فيما يخبر عن النبي ، لم ترد بهذا الشكل المشوه الذي يدعيه الشيخ ، بل هي كما يأتي :

عن علي قال : قال رسول الله : « لا تنكح المرأة علىٰ عمتها ولا علىٰ خالتها » (١) .

وهنا ينبغي لنا أن نقف قليلاً أمام النصوص التي وردت عن

_______________

(١) مجمع الزوائد ٤ / ٢٦٣ وقال : رواه أحمد وأبو يعلىٰ والبزار وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن وبقية رجاله رجال الصحيح .


النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مما أخرجه أئمة أهل السنة ، ونحاول أن نستشف منها الحكم ، ثم نقارن ذلك مع ما ورد عند الشيعة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علىٰ لسان الأئمة الأطهار من أهل البيت حتىٰ يمكن الخروج بالنتيجة المرضية :

١ ـ أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه أن رسول الله قال : « لا يجمع بين المرأة وعمتها ، ولا بين المرأة وخالتها » (١) .

٢ ـ أخرج البخاري عن الشعبي : سمع جابراً رضي‌الله‌عنه قال : نهىٰ رسول الله أن تنكح المرأة علىٰ عمتها أو خالتها .

٣ ـ وأخرج عن الزهري قال : حدثني قبيصة بن ذؤيب أنه سمع أبا هريرة يقول : نهىٰ النبي أن تنكح المرأة علىٰ عمتها والمرأة وخالتها ... لأن عروة حدثني عن عائشة قالت : حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب (٢) .

٤ ـ وأخرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله نهىٰ عن أربع نسوة أن يجمع بينهن ، المرأة وعمتها ، والمرأة وخالتها .

_______________

(١) صحيح البخاري ٧ / ١٥ ، صحيح مسلم ٢ / ١٠٢٨ كتاب النكاح : باب تحريم الجمع بين المرأه وعمتها أو خالتها .

(٢) صحيح البخاري ٧ / ١٥ كتاب النكاح : باب لا تنكح المرأة علىٰ عمتها ، صحيح مسلم ٢ / ١٠٢٨ ـ ١٠٢٩ وليس فيه حديث عروة عن عائشة .


٥ ـ وأخرج عن أبي هريرة أيضاً ، عن النبي قال : « لا يخطب الرجل علىٰ خطبة أخيه ، ولا يسوم علىٰ سوم أخيه ، ولا تنكح المرأة علىٰ عمتها ولا علىٰ خالتها ، ولا تسأل المرأة طلاق أُختها لتكتفىء صحفتها ، ولتنكح ، فانما لها ما كتب الله لها » (١) .

وأخرج البيهقي إضافة إلىٰ رواية أمير المؤمنين عليه‌السلام المتقدم ذكرها :

١ ـ عن عبدالله بن عمرو قال : قال رسول الله : « لا تنكح المرأة علىٰ عمتها ولا علىٰ خالتها » رواه أحمد ورجاله ثقات .

٢ ـ وعنه أن رسول الله استند إلىٰ بيت فوعظ الناس وذكرهم وقال : « لا يصلي أحد بعد العصر حتىٰ الليل ، ولا بعد الصبح حتىٰ تطلع الشمس ، ولا تسافر المرأة إلّا مع ذي رحم مسيرة ثلاث ، ولا يعقد من إمرأة علىٰ عمتها ولا علىٰ خالتها » رواه أحمد والطبراني في الاوسط وزاد في رواية : أنه نهىٰ عن لحوم الحمر الأهلية وعن الجلالة وركوبها وأكل لحمها . ورجال الجميع ثقات إلّا أن إسناد الطبراني الأول فيه محمد بن أبي ليلىٰ وهو ضعيف الحديث وقد وثّق .

_______________

(١) صحيح مسلم ٢ / ١٠٢٨ ـ ١٠٣٠ .


٣ ـ وعن عبدالله بن مسعود رفعه أحمد بن إسحاق قال : « لا تنكح المرأة علىٰ عمتها ولا علىٰ خالتها ولا تسأل المرأة طلاق أُختها لتكتفئ ما في صحفتها ، رواه البزار وقال : لا نعلمه عن عبدالله عن النبي إلّا بهذا الاسناد . ورواه الطبراني في الكبير وإسناده منقطع بين المنهال بن خليفة وعمرو بن الحارث بن أبي ضرار ، ورجالهما ثقات .

٤ ـ وعن ابن عمر أن رسول الله نهىٰ أن تنكح المرأة علىٰ عمتها وعلىٰ خالتها وعن لبستين عن الصماء وعن أن يحتبي الرجل في ثوب واحد وليس علىٰ فرجه منه شيء . رواه الطبراني في الأوسط والبزار باختصار اللبستين ، ورجالهما رجال الصحيح .

٥ ـ وعن سمرة قال : نهىٰ رسول الله أن تنكح المرأة علىٰ عمتها أو علىٰ خالتها . رواه البزار والطبراني في الكبير والأوسط ورجال البزار ثقات (١) .

نلاحظ مما سبق أن جميع هذه الروايات قد ورد فيها النهي عن التزوج بابنة الاخ علىٰ عمتها وابنة الأخت علىٰ خالتها ، إذ أن اللفظ المشترك بينها تقريباً « أن تنكح المرأة علىٰ عمتها أو علىٰ خالتها » ،

_______________

(١) مجمع الزوائد ٤ / ٢٦٣ .


ولم يرد النهي فيها عن العكس ، أي التزوج من العمة علىٰ إبنة أخيها أو الخالة علىٰ إبنة أُختها ، وهذا هو محل الخلاف :

فجمهور أهل السنة حكموا بتحريم الجمع في كلتا الصورتين .

قال النووي : وقوله : « لا يجمع بين المرأه وعمتها ولا بين المرأة وخالتها » ظاهر في أنه لا فرق بين أن ينكح البنتين معاً أو تقدم هذه أو هذه ، فالجمع بينهما حرام كيف كان ، وقد جاء في رواية أبي داود وغيره « لا تنكح الصغرىٰ علىٰ الكبرىٰ ولا الكبرىٰ علىٰ الصغرىٰ » لكن إن عقد عليهما معاً بعقد واحد فنكاحهما باطل وإن عقد علىٰ إحداهما ثم الأُخرىٰ فنكاح الأُولىٰ صحيح ونكاح الثانية باطل والله أعلم (١) .

وقد أخرج الأئمة من أهل السنة كثيراً من هذه الروايات ، فقد أخرج النسائي تسع روايات عن أبي هريرة جماعها : لا تنكح المرأة علىٰ خالتها ولا علىٰ عمتها ، وأخرج ثلاث روايات عن جابر ، جماعها : نهىٰ رسول الله أن تنكح المرأة علىٰ عمتها وخالتها ، وأخرج الترمذي عن ابن عباس : أن النبي نهىٰ أن تزوج المرأة علىٰ عمتها أو علىٰ خالتها ، قال : حدثنا نصر بن علي ، حدثنا عبد

_______________

(١) شرح صحيح مسلم ٥ / ١٩٢ .


الأعلىٰ ، عن هشام بن حسان ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة ، عن النبي بمثله ، وفي الباب عن علي وابن عمر وعبدالله بن عمرو وأبي سعيد وأبي أمامة وجابر وعائشة وأبي موسىٰ وسمرة بن جندب (١) .

وأخرج الدارمي عن أبي هريرة : نهىٰ أن يجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها (٢) .

هذه الروايات كما نلاحظ مجمعة علىٰ النهي عن التزوج بابنة الأخ أو إبنة الأُخت جمعاً مع العمة والخالة ، ولم ترد الزيادة علىٰ ذلك إلّا عن طريق واحد ، هو :

حدثنا الحسن بن علي الخلّال ، حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا داود بن أبى هند ، حدثنا عامر عن أبي هريرة ، أن رسول الله نهىٰ أن تنكح المرأة علىٰ عمتها أو العمة علىٰ إبنة أخيها أو المرأة علىٰ خالتها أو الخالة علىٰ بنت أُختها ، ولا تنكح الصغرىٰ علىٰ الكبرىٰ ولا الكبرىٰ علىٰ الصغرىٰ (٣) .

هذه هي الرواية التي استشهد بها النووي علىٰ التحريم ، وهي معارضة بكل الروايات المتقدمة التي ليس فيها هذه الزيادة ، فلا

_______________

(١) جامع الترمذي ٣ / ٤٣٢ ـ ٤٣٣ .

(٢) سنن الدارمي ٢ / ٣٦ .

(٣) الترمذي ٣ / ٤٣٣ ، سنن أبي داود ٢ / ٢٢٤ .


تقوم بها حجة ، فضلاً عن أن في إسنادها :

١ ـ الحسن بن علي الخلال ، أبو محمد الحلواني : قال داود بن الحسين البيهقي : بلغني أن الحلواني قال : لا أكفر من وقف في القرآن ، قال داود : فسألت سلمة بن شبث عن الحلواني فقال : يُرمىٰ في الحش ، من لم يشهد بكفر الكافر فهو كافر .

وقال الامام أحمد : ما أعرفه بطلب الحديث ولا رأيته يطلبه ، ولم يحمده . ثم قال : بلغني عنه أشياء أكرهها ، وقال مرة : أهل الثغر عنه غير راضين ، وما هذا معناه (١) .

٢ ـ يزيد بن هارون : ذكر ابن أبي خيثمة في تاريخه أنه كاتب أبي شيبة القاضي جد أبي بكر بن أبي شيبة ، قال : سمعت أبي ـ يعني أبا خيثمة زهير بن حرب ـ يقول : كان يعاب علىٰ يزيد حين ذهب بصره ، ربما إذا جاء سئل عن حديث لا يعرفه فيأمر جاريته فتحفظه من كتابه . قال : وسمعت يحيىٰ بن معين يقول : يزيد يدلّس من أصحاب الحديث لأنه لا يميز ولا يبالي عمن روىٰ (٢) .

٣ ـ داود بن أبي هند : قال الذهبي : حجة ، ما أدري لم لم يخرّج له البخاري (٣) .

_______________

(١) تهذيب التهذيب ٢ / ٢٦٢ .

(٢) تهذيب التهذيب ١١ / ٣٢٢ .

(٣) ميزان الاعتدال ٢ / ١١ .


وقال ابن حبان : روىٰ عن أنس خمسة أحاديث لم يسمعها منه ، وكان في خيار أهل البصرة من المتقين في الروايات إلّا أنه كان يهم إذا حدث من حفظه .

قال الأثرم عن أحمد : كان كثير الاضطراب والخلاف (١) .

من هذا يتبين أن هذه الرواية لا يمكن الاعتماد عليها في التحريم ، وتبقىٰ الروايات الأُخرىٰ المتكاثرة التي تنهىٰ عن نكاح ابنة الأخ أو إبنة الأُخت علىٰ العمة والخالة فقط ولا عكس ، وقد فهم الشيعة ذلك ، وبذلك وردت الروايات عن أئمتهم الاطهار عليهم‌السلام :

١ ـ عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « لا تزوج إبنة الأخ ولا إبنة الأُخت علىٰ العمة ولا علىٰ الخالة إلّا باذنهما ، وتزوج العمة والخالة علىٰ إبنة الأخ وإبنة الأُخت بغير إذنهما » .

٢ ـ عن علي بن جعفر ، عن أخيه موسىٰ بن جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن إمرأة تزوج علىٰ عمتها وخالتها ؟ قال : « لا بأس » ، وقال : « تزوج العمة والخالة علىٰ إبنة الأخ وإبنة الأُخت ، ولا تزوج بنت الأخ أو الأُخت علىٰ العمة والخالة إلّا برضىً منهما ، فمن فعل فنكاحه باطل » .

_______________

(١) تهذيب التهذيب ٣ / ١٧٧ .


٣ ـ عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « إنما نهىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تزويج المرأة علىٰ عمتها وخالتها إجلالاً للعمة والخالة ، فاذا أذنت في ذلك فلا بأس » (١) .

الطلاق الثلاث :

قال الشيخ في « مطلب الطلاق بالثلاث في لفظ واحد » :

ومنها : قولهم : أنّ من طلق إمرأته بالثلاث في لفظ واحد لا يقع شيء ، وهذا مخالف للأحاديث الصحيحة وإجماع أهل الاسلام ، فانهم أجمعوا علىٰ وقوع الطلاق ، وإنما اختلافهم في عدد الطلاق أهي واحدة أم ثلاث ... وروىٰ البيهقي عن مسلمة بن جعفر الأحمس قال : قلت لجعفر بن محمد : أن قوماً يزعمون أنّ من طلق ثلاثاً بجهالة ردّ إلىٰ السنة ، يجعلونها واحدة يروونها عنكم ، قال : معاذ الله أن يكون هذا من قولنا ، من طلق ثلاثاً فهو كما قال !!

وتعرف بهذا وأضرابه إفتراء الرافضة الكذبة علىٰ أهل البيت وأن مذهبهم مذهب أهل السنة

_______________

(١) وسائل الشيعة ٢٠ / ٤٨٧ ـ ٤٩٠ كتاب النكاح : باب عدم جواز تزويج بنت الأخ علىٰ عمتها وبنت الأخت علىٰ خالتها نسباً ورضاعاً إلّا باذنهما ، فان فعل بطل ، ويجوز العكس بغير إذن .


والجماعة ... فهؤلاء الامامية خارجون عن السنة بل عن الملة واقعون في الزنا ... (١) .

هذه فرية أُخرىٰ من إفتراءات شيخ الوهابية علىٰ الشيعة ، وهذه كتبهم في الحديث والفقه تملأ الخافقين كلها تكذّب مقالته ، فالشيعة أيضاً يقولون بوقوع الطلاق إذا طلق الرجل إمرأته بالثلاث ، ولكنهم يعتبرونها طلقة واحدة ، وهم متفقون علىٰ ذلك بالاجماع ، لكن فقهاء أهل السنة هم الذين اختلفوا في كونها طلقة واحدة أو ثلاث .

ومذهب الشيعة في ذلك يوافق كتاب الله وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام ، ففي كتاب الله ، قوله عز من قائل : ( الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ) (٢) ، وقوله تعالىٰ ( فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ) (٣) .

وأما الرواية المنسوبة إلىٰ الامام الصادق عليه‌السلام فهي مفتراة عليه ـ وكم افتري علىٰ لسان الأئمة كما أخبر بذلك الامام محمد بن علي الباقر عليه‌السلام فيما ذكرناه عنه في مبحث سابق ـ لأن الروايات قد تواترت عنهم عليهم‌السلام بما يدحض هذه الفرية ، والشيعة الامامية أعلم

_______________

(١) رسالة في الرد علىٰ الرافضة : ٤١ ـ ٤٢ .

(٢) سورة البقرة : ٢٢٩ .

(٣) سورة البقرة : ٢٣٠ .


من غيرهم بسنة أئمتهم وأحاديثهم التي هي امتداد لسنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليست مخالفة لها ، وكتب الشيعة مكتظة برواياتهم عليهم‌السلام في هذا الشأن ، نذكر بعضاً منها :

١ ـ عن زرارة ، عن أحدهما عليهما‌السلام قال : سألته عن رجل طلق إمرأته ثلاثاً في مجلس واحد وهي طاهر ؟ قال : « هي واحدة » (١) .

٢ ـ عن إسماعيل بن الفضل الهاشمي قال : قال أبو عبدالله عليه‌السلام : « لا يقع الطلاق إلّا علىٰ كتاب الله والسنة ، لأنه حد من حدود الله عزوجل ، يقول : ( إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ ) ، ويقول : ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ ) ، ويقول : ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّـهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّـهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) ، وأما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ردَّ طلاق عبدالله بن عمر لأنه كان علىٰ خلاف الكتاب والسنة » (٢) .

٣ ـ عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ـ في حديث ـ أنه قال لنافع مولىٰ ابن عمر : « أنت الذي تزعم أن ابن عمر طلق إمرأته واحدة وهي حائض ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمر أن يأمره أن يراجعها ؟ » فقال : نعم . فقال له : « كذبت ـ والله الذي لا إله إلّا هو ـ أنا سمعت ابن

_______________

(١) وسائل الشيعة ٢٢ / ٦٢ كتاب الطلاق : باب إن من طلق مرتين أو ثلاثاً أو أكثر مرسلة من غير رجعة وقعت واحدة مع الشرائط .

(٢) المصدر السابق ٢٢ / ١٧ .


عمر يقول : طلقتها علىٰ عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثاً ، فردها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليَّ » وأمسكتها بعد الطلاق ؛ فاتق الله يا نافع ولا ترو علىٰ ابن عمر الباطل (١) .

٤ ـ عن عمرو بن البراء ، قال : قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام : إن أصحابنا يقولون إن الرجل إذا طلق إمرأته مرة أو مائة مرة فانما هي واحدة ، وقد كان يبلغنا عنك وعن آبائك أنهم كانوا يقولون « إذا طلق مرة أو مائة مرة فانما هي واحدة » ، فقال : « هو كما بلغكم » .

وقال الشيخ المفيد : وإِذا دخل الرجل بالمرأة ، وكانت ممن ترىٰ الدم بالحيض وكانا مجتمعين في بلد واحد ، ثم أراد طلاقها ، لم يجز ذلك حتىٰ يستبرئها بحيضة ، فاذا طهرت من دمها طلقها بلفظ الطلاق مرة واحدة ، فقال لها : ( أنت طالق ) أو ( هي طالق ) ـ وأومىٰ إليها بعينها ـ و ( فلانة بنت فلان طالق ) ويُشهد علىٰ نفسه بذلك رجلين مسلمين عدلين ، فاذا فعل ذلك فقد بانت منه بواحدة وهو أملك برجعتها مالم تخرج من عدتها ، فان بدا له من فراقها وهي في العدة وأراد مراجعتها ، أشهد نفسين من المسلمين علىٰ أنه قد راجعها ، فقال : أشهد علىٰ أنني قد راجعت فلانة ، فاذا قال ذلك عادت إلىٰ

_______________

(١) وسائل الشيعة ٢٢ / ٢٢ .


نكاحه ، ولم يكن لها الامتناع عليه .

ولو لم يشهد علىٰ رجعته كما ذكرناه ويقول فيها ما شرحناه ، وعاد إلىٰ إستباحة زوجته فوطأها قبل خروجها من عدتها أو قبلها أو أنكر طلاقها ، لكان بذلك مراجعاً لها ، وهدم فعاله هذا حكم عدتها ، وإنما ندب إلىٰ الاشهاد علىٰ الرجعة وسُنّ له ذلك إحتياطاً فيها لثبوت الولد منه واستحقاقه الميراث بذلك ، ودفع دعاوىٰ المرأة استمرار الفراق المانع للزوج من الاستحقاق . ومتىٰ تركها حتىٰ تخرج من عدتها فلم يراجعها بشيء ـ مما وصفناه ـ فقد ملكت نفسها ـ وهو كواحد من الخطاب ـ إن شاءت أن ترجع إليه رجعت بعقد جديد ومهر جديد ، وإن لم تشأ الرجوع إليه لم يكن له عليها سبيل . وهذا الطلاق يسمىٰ طلاق السنة (١) .

هذا هو رأي الشيعة في الطلاق عامة وطلاق الثلاث ، وهو ـ كما نرىٰ ـ موافق لكتاب الله وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأن الشيعة ليسوا بخارجين عن السنة ، بل هم أهلها الحقيقيون ، وحاشاهم من الفرىٰ القبيحة التي يرميهم بها شيخ الوهابية .

ولنا أن نذكر مثالاً عن رأي أهل السنة في مسألة الطلاق ، حتىٰ

_______________

(١) المقنعة : ٥٢٦ .


نعلم عدم تمسك الشيخ محمد بن عبد الوهاب بالكتاب والسنة .

قال بهاء الدين المقدسي : ولا يحل جمع الثلاث ، ولا طلاق المدخول بها في حيضتها ، أو في طهر أصابها فيه ، لما روي عن ابن عمر أنه طلق إمرأة له وهي حائض ، فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : « مُرهُ فليراجعها ثم يمسكها حتىٰ تطهر ثم تحيض ثم تطهر ، فان بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها » .

قال المقدسي : ولا يحل جمع الثلاث ، وهو إحدىٰ الروايتين ، وهو طلاق بدعة وهو محرّم ، روي ذلك عن عمر وعلي وجماعة من الصحابة ، فروي عن عمر أنه كان إذا أُتي برجل طلق ثلاثاً أوجعه ضرباً ، وعن مالك بن الحارث قال : جاء رجل إلىٰ ابن عباس فقال : إن عمي طلق إمرأته ثلاثاً ؛ فقال : إن عمك عصىٰ الله وأطاع الشيطان فلم يجعل الله له مخرجاً ، ولأنه تحريم للبضع بقول الزوج من غير حاجة فحرم كالظهار . والرواية الاُخرىٰ أنه مكروه غير محرم ، لأن عويمراً العجلاني لما لاعن زوجته قال : كذبتُ عليها يا رسول الله إن أمسكتها ؛ فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، متفق عليه . ولم ينقل إنكار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليه ، وفي حديث إمرأة رفاعة أنها قالت : يا رسول الله إن رفاعة طلقني فبتَّ طلاقي . متفق عليه . وفي حديث فاطمة بنت قيس أن زوجها أَرسل إليها بثلاث تطليقات والاولىٰ


أولىٰ . وأما حديث المتلاعنين فغير لازم لأن الفرقة لم تقع بالطلاق وإنما وقعت بمجرد لعانها فلا حجة فيه ، وسائر الأحاديث لم يقع فيها جمع الثلاث بين يدي رسول الله حتىٰ يكون مقراً عليه . علىٰ أن حديث فاطمة بنت قيس أنه أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها من طلاقها ، وحديث إمرأة رفاعة جاء فيه أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات . متفق عليه ، ولم يكن في شيء من ذلك جمع الثلاث (١) .

ومن عجب أن يخالف الشيخ محمد بن عبد الوهاب مذهب أُستاذه ابن تيمية الذي لم يجز إيقاع الطلاق الثلاث بلفظ واحد ، حيث قال : وأمّا جمع الثلاث بكلمة ، فهذا كان منكراً عندهم إنما يقع قليلاً فلا يجوز حمل اللفظ المطلق علىٰ القليل المنكر دون الكثير الحق ولا يجوز أن يقال يطلق مجتمعات لا هذا ولا هذا ، بل هذا قول بلا دليل بل هو خلاف الدليل (٢) .

ومعلوم أن إمضاء الطلاق الثلاث كان من عند عمر بن الخطاب ، فقد أخرج مسلم عن ابن عباس قال : كان الطلاق علىٰ عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر ، طلاق الثلاث واحدة ، فقال

_______________

(١) العدة شرح العمدة : ٤٨٧ كتاب الطلاق .

(٢) مجموعة فتاوىٰ ابن تيمية ٣ / ١٤ .


عمر بن الخطاب : إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم ، فأمضاه عليهم (١) .

وبهذا يتبين أن الامامية ليسوا هم الخارجون عن السنة المخالفون لها كما يدعي الشيخ !

إتيان النساء :

قال الشيخ في « مطلب إباحتهم ... إتيان المرأة في دبرها » :

ومنها : إباحتهم إتيان الزوجة والمملوكة في الدبر ، وقد صح عن النبي وأصحابه ما يدل علىٰ أن المراد من قوله : ( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ ) هو الاتيان في القبل ، وإليه يرشد لفظ الحرث بل هو نص علىٰ ذلك ، وقد ورد عنه لعن من فعل ذلك في الدبر ، وإطلاق الكفر عليه ، فهو خليق أن يكون حراماً قطعياً يخاف علىٰ مستحله الكفر ، الله الحافظ (٢) .

وقال في « مطلب مشابهتهم النصارىٰ » :

ومنها : جماعهم النساء في الأدبار حالة الحيض ،

_______________

(١) صحيح مسلم ٢ / ١٠٩٩ كتاب الطلاق باب الطلاق الثلاث .

(٢) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ٤٠ .


وكانت النصارىٰ تجامع النساء في المحيض (١) .

هذه مسألة أُخرىٰ من مسائل الخلاف ليس بين الشيعة والسنة وحدهم ، بل هي محل خلاف بين فقهاء الطائفة الواحدة أيضاً .

أما الشيعة ، فقال جمهورهم بكراهية وطء المرأة في الدبر كراهية شديدة ، بينما قال بعضهم بتحريم ذلك إستناداً إلىٰ الأدلة المتوفرة لدىٰ كل من الطرفين .

قال الشيخ يوسف البحراني : المشهور بين الأصحاب رضي الله عنهم كراهية الوطء في الدبر كراهية مؤكدة ، ونقل في المختلف عن ابن حمزة القول بالتحريم ، ونقل هذا القول في المسالك أيضاً عن جماعة من علمائنا منهم القميّون وابن حمزة (٢) .

أما أهل السنة ، فذهب جمهورهم إلىٰ تحريم ذلك ، ولكن نقل عن عدد من الصحابة والتابعين وكبار الفقهاء وأئمة المذاهب القول بحليته مطلقاً .

وإدعاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن المراد من آية الحرث هو الاتيان في القبل وأن النص يرشد علىٰ ذلك ، فيرده روايات عديدة :

_______________

(١) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ٤٦ .

(٢) الحدائق الناضرة ٢٣ / ٨٠ .


أخرج البخاري عن نافع قال : كان ابن عمر رضي‌الله‌عنه إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتىٰ يفرغ منه ، فأخذت عليه يوماً ، فقرأ سورة البقرة حتىٰ انتهىٰ إلىٰ مكان ، قال : تدري فيما أُنزلت ؟ قلت : لا ، قال : أُنزلت في كذا وكذا ، ثم مضىٰ ، وعن عبد الصمد حدثني أبي حدثني أيوب عن نافع عن ابن عمر ( فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ ) قال : يأتيها في ... رواه محمد بن يحيىٰ عن أبيه عن عبيدالله عن نافع عن ابن عمر (١) .

وأخرج الطبري الرواية أيضاً كما في البخاري ـ إلىٰ أن قال ـ قال : نزلت في إتيان النساء في أدبارهن (٢) .

قال ابن حجر العسقلاني ـ في معرض شرحه لحديث البخاري ـ : اختلف في معنىٰ ( أَنَّىٰ ) فقيل : كيف ، وقيل : حيث ، وقيل : متىٰ ، وبحسب هذا الاختلاف جاء الاختلاف في تأويل الآية ... وقد قال أبوبكر بن العربي في سراج المريدين : أورد البخاري هذا الحديث في التفسير فقال : يأتيها في ، وترك بياضاً ، والمسألة مشهورة صنف فيها محمد بن سحنون جزءاً وصنف فيها محمد بن شعبان كتاباً ، وتبين أن حديث ابن عمر في إتيان المرأة في دبرها ...

_______________

(١) صحيح البخاري ٦ / ٣٥ كتاب التفسير باب : نساؤكم حرث لكم ...

(٢) تفسير الطبري ٢ / ٢٣٣ .


وأما رواية محمد بن يحيىٰ بن سعيد القطان فوصلها الطبراني في الأوسط من طريق أبي بكر الأعين عن محمد بن يحيىٰ المذكور إلىٰ عمر ، قال : إنما نزلت علىٰ رسول الله : ( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ ) رخصة في إتيان الدبر ... وقد روىٰ هذا الحديث عن نافع أيضاً جماعة غير من ذكرنا ورواياتهم بذلك ثابتة عند ابن مردويه في تفسيره وفي فوائد الاصبهانيين لأبي الشيخ وتاريخ نيسابور للحاكم وغرائب مالك للدارقطني وغيرها . وقد عاب الاسماعيلي صنيع البخاري فقال : جميع ما أخرج البخاري عن ابن عمر مبهم لا فائدة فيه ...

ولم ينفرد ابن عمر بسبب هذا النزول ، فقد أخرج أبو يعلىٰ وابن مردويه وابن جرير والطحاوي من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن رجلاً أصاب إمرأته في دبرها ، فأنكر الناس ذلك عليه وقالوا : نعيّرها ، فأنزل الله عزوجل هذه الآية ، وعلّقه النسائي عن هشام بن سعيد بن زيد ، وهذا السبب في نزول هذه الآية مشهور ... (١) .

كما أخرج الطبري في سبب نزول هذه الآية عن ابن عمر : أن رجلاً أتىٰ إمرأته في دبرها فوجد في نفسه من ذلك فأنزل الله :

_______________

(١) فتح الباري ٨ / ١٥٢ ـ ١٥٣ .


( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ ... ) .

وأخرج عن عطاء بن يسار : أن رجلاً أصاب إمرأته في دبرها علىٰ عهد رسول الله فأنكر الناس ذلك وقالوا : أثفره ، فأنزل الله : ( نِسَاؤُكُمْ ... ) (١) .

وأخرج جمع من الحفاظ عن أبي سعيد الخدري قال : أبعر رجل إمرأته علىٰ عهد رسول الله فقالوا : أبعر فلان إمرأته ، فأنزل الله : ( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ ... ) (٢) .

يتبين مما سبق أن إدعاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن سبب نزول الآية غير صحيح ، وأن بعض الصحابة والتابعين قد أثبتوا نزولها في حلية إتيان النساء في الأدبار .

وإستناداً إلىٰ ذلك فان عدداً كبيراً من الفقهاء قد أجاز إتيان النساء في أدبارهن ، بل واعترف بعضهم بأنه يفعل ذلك بنفسه .

فعن أبي سعيد بن يسار ، أنه سأل ابن عمر عنه ، يعني وطء النساء في أدبارهن ، فقال : لا بأس به .

_______________

(١) تفسير الطبري ٢ / ٢٣٣ ـ ٢٣٤ .

(٢) مسند أبي يعلىٰ ٢ / ٣٥٥ ، شرح معاني الآثار ٣ / ٤٠ وقال : قال أبو جعفر : فذهب قوم إلىٰ أن وطء المرأة في دبرها جائز ، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث ، وتأولوا هذه الآية علىٰ إباحة ذلك .


وعن محمد بن كعب القرظي : أنه كان لا يرىٰ بأساً باتيان النساء في أدبارهن ، ويحتج في ذلك بقوله عزوجل ( أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ) أي : من أزواجكم مثل ذلك إن كنتم تشتهون .

وعن طريق إصبغ بن الفرج عن عبدالله بن القاسم قال : ما أدركت أحداً أقتدي به في ديني يشك فيَ أنه حلال ، يعني وطء المرأة في دبرها ، ثم قرأ : ( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ ... ) ثم قال : فأي شيء أبين من هذا (١) .

وأخرج الطبري ، قيل لزيد بن أسلم : أن محمد بن المنكدر ينهىٰ عن إتيان النساء في أدبارهن ، فقال زيد : أشهد علىٰ محمد لأخبرني أنه يفعله .

وعن قتادة قال : سئل أبو الدرداء عن إتيان النساء في أدبارهن فقال : هل يفعل ذلك إلّا كافر ؟ قال روح : فشهدت ابن أبي مليكة يُسأل عن ذلك ، فقال : قد أردته من جارية لي البارحة فاعتاص علي فاستعنت بدهن أو بشحم .

ومن المعلوم أن ابن أبي مليكة ومحمد بن المنكدر وعبدالله بن

_______________

(١) شرح معاني الآثار للطحاوي ٣ / ٤١ ، ٤٥ .


القاسم كلهم من فقهاء المدينة .

بل إن بعض أئمة المذاهب الأربعة قد صرحوا بحليته واعترف أحدهم بأنه يفعل ذلك أيضاً ، فقد أخرج الطحاوي والحاكم في مناقب الشافعي والخطيب عن محمد بن عبدالله بن عبد الحكم : أن الشافعي سئل عنه فقال : ما صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تحليله ولا تحريمه شيء ، والقياس أنه حلال .

وأخرج الخطيب في رواة مالك عن أبي سليمان الجرجاني قال : سألت مالك بن أنس عن وطء الحلائل في الدبر ، فقال لي : الساعة غسلت رأسي منه .

وأخرج ابن جرير في كتاب النكاح من طريق ابن وهب عن مالك : إنه مباح (١) .

وقد اعترف ابن تيمية الحراني بأن ذلك معروف عن الامام مالك ، فقال في معرض رده علىٰ العلامة الحلي قدس‌سره : وأما ما حكاه من إباحة اللواط بالعبيد ، فهذا كذب لم يقله أحد من علماء أهل السنة ، وأظنه قصد التشنيع به علىٰ مالك ، فاني رأيت من الجهال من يحكي هذا عن مالك ، وأصل ذلك ما يحكىٰ عنه في حشوش النساء ، فانه لما

_______________

(١) الدر المنثور ١ / ٦٣٨ .


حكي عن طائفة من أهل المدينة إباحة ذلك ، وحكي عن مالك فيه روايتان ، ظن الجاهل أن أدبار المماليك كذلك (١) .

فابن تيمية يعترف صراحة بأن مذهب مالك كان إباحة إتيان النساء في حشوشهن .

هذه بعض الحقائق واعترافات بعض الصحابة والتابعين والفقهاء من أهل السنة ، أضعها بين يدي القارئ الكريم رغم شناعة هذا الموضوع . إلّا أنني وجدت نفسي مضطراً للكلام فيه رداً علىٰ تخرصات خصوم الشيعة الذين يستغلون مثل هذه الأُمور للتشنيع عليهم ، ولكنهم يغضون الطرف عما عندهم ومما ورد عن أئمتهم وفقهائهم !! .

_______________

(١) منهاج السنة النبوية ٢ / ٩٧ .



الفصل الثالث عشر : القضاء والقدر

قال الشيخ في « مطلب نفي القدر » :

ومنها : قولهم : إن الله لم يقدر شيئاً في الأزل ، وأن الله لم يرد شراً ولا يريده ، وقد روىٰ مسلم أن قوله تعالىٰ : ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) نزل حين نازل المشركون فيه ، وقد قال بعض السادة : قد رويت في إثبات القدر ومايتعلق به أحاديث رويت عن أكثر من مائة صحابي رضي الله عنهم ، وقد ورد عنه : « لكل أُمة مجوس ومجوس هذه الاُمة الذين يقولون لا قدر » ... (١) .

إن موضوع القدر من المواضيع الشائكة التي اختلفت فيها أقول

_______________

(١) رسالة في الردّ علىٰ الرافضة : ٤٢ ـ ٤٣ .


الفلاسفة والمتكلمين ، ولكن ينبغي أن أُشير أولاً إلىٰ بطلان إدعاء الشيخ أن الشيعة يقولون في القدر بمثل مقالته ، وليس هذا بأول إفتراء له علىٰ اتباع أهل البيت عليهم‌السلام .

لقد انقسمت آراء المسلمين في القدر إلىٰ ثلاثة مذاهب :

المذهب الأول : وملخصه أن الانسان محكوم بالقدر حكماً باتاً لا مجال فيه للاختيار ، وهو ما يعطي معنىٰ ( الجبر ) ، وهو الذي ذهب إليه جمهور أهل السنة تبعاً لأبي الحسن الأشعري .

المذهب الثاني : وهو عكس المذهب الأول ، وملخصه أن الانسان مطلق الحرية غير محكوم بالقدر ، وهو ما يعطي معنىٰ ( التفويض ) ، الذي ذهب إليه المعتزلة .

المذهب الثالث : وهو مذهب وسط بين المذهبين الأولين حيث لا يقول بالجبر المطلق ولا بالتفويض المطلق ، بل هو أمر بين أمرين ، وهو مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، حيث لا إفراط ولا تفريط .

فالجبر الذي يقول به الاشاعرة يسلب الانسان إرادته ويجعله كالريشة في مهب الريح ، مسيّراً بقدره المحتوم ، وعلىٰ هذا الاساس فلا عبرة للطاعة أو المعصية ، فالعبد قد يكون مطيعاً لله ، لكن مآله يكون إلىٰ النار ، والعكس أيضاً ، إذ قد يكون العبد عاصياً لله ، ولكن يسبق قدره المحتوم عمله فيصبح من أهل الجنة ، وفي هذا القول


مافيه من نسبة الظلم لله سبحانه وتعالىٰ عن ذلك علواً كبيراً .

أما مذهب التفويض فهو يطلق إرادة الانسان إطلاقاً غير محدود وبشكل يسلب إرادة الباري عزوجل ، وفي هذا ما لا يخفىٰ من زلل قد يصل إلىٰ حد الكفر .

ولو أننا بحثنا هذا الموضوع بأُسلوب علمي محايد لاكتشفنا أن السياسة قد لعبت دوراً مهماً في نشوء الاتجاهين الاولين : الجبر والتفويض ، لأن الفتنة التي اشتعلت بين المسلمين في عهد عثمان بن عفان وما جرته بعد ذلك من حدوث الاقتتال بين المسلمين ـ وفيهم كبار الصحابة ـ في معارك الجمل وصفين ، وما أعقب ذلك من إستيلاء بني أُمية علىٰ الحكم بالقهر والغلبة ، تطلب كل ذلك ايجاد نظرية في القضاء والقدر ترفع الأوزار عن كاهل أُولئك الصحابة والتابعين ، وتعطي للفئة الباغية غطاءً شرعياً يبرر كل تصرفاتها اللاحقة ، فاخترعت نظرية الجبر ـ ووضعت الأحاديث المناسبة لها ـ لتثبت أن الانسان مسوق إلىٰ قدره بلا إرادة منه ولا حول ، فهو يفعل ما يفعل ويرتكب ما يرتكب من المعاصي بقدره المحتوم الذي سلبه حرية التصرف والاختيار .

قال أبو هلال العسكري : إن معاوية أول من زعم أن الله يريد


أفعال العباد كلها (١) .

فمعاوية كان بحاجة إلىٰ ما يبرر أعماله الشنيعة وقتله الصحابة والتابعين ـ كحجر بن عدي وغيره ـ فاخترع هذه النظرية ، وقد انساق جمهور أهل السنة ـ تبعاً للنظرية القائلة بضرورة الخضوع للحاكم وإن كان فاجراً وحرمة الخروج عليه ـ وراء هذه الخدعة ، ولم يعدم معاوية وأعوانه من يتصدىٰ لوضع بعض الأحاديث المكذوبة المنسوبة إلىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتكريس هذا الاتجاه ، وانبرى البعض لتأويل بعض الايات المتشابهات من القرآن الكريم دعماً لهذا الاتجاه الجديد .

أمام هذه الموجة كان لابد وأن يظهر إتجاه معاكس كرد فعل لهذه النظرية ، تزعّمها بعض التابعين ـ الذين سموا معتزلة فيما بعد ـ فظهرت نظرية التفويض .

روىٰ ابن قتيبة أن عطاء بن يسار كان قاضياً للأمويين ، ويرىٰ رأي معبد الجهني ، فدخل علىٰ الحسن البصري وقال له : يا أبا سعيد ، إن هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين ويأخذون أموالهم ويقولون : إنما تجري أعمالنا علىٰ قضاء الله وقدره ؛ فقال له الحسن

_______________

(١) الأوائل ٢ / ١٢٥ .


البصري : كذب أعداء الله (١) .

وقد اخترع أبو الحسن الأشعري ـ الذي كان معتزلياً ثم انقلب عليهم ـ نظرية ( الكسب ) لتبرير أفعال العباد ، وهي النظرية التي حيّرت حتىٰ أتباعه ولم تزد الأمر إلّا تعقيداً .

وقد رد عليه العلامة الحلي قدس‌سره حيث لخص رأي أتباع أهل البيت عليهم‌السلام في مسألة القضاء والقدر بقوله :

يطلق القضاء علىٰ الخلق والاتمام . قال تعالىٰ ( فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ) أي خلقهن وأتمهن .

وعلىٰ الحكم والايجاب ، لقوله تعالىٰ ( وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ ) أي أعلمناهم وأخبرناهم .

ويطلق القدر علىٰ الخلق ، كقوله تعالىٰ (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) .

والكتابة ، كقول الشاعر :

واعلم بأن ذا الجلال قد قدر

في الصحف الأولىٰ التي كان سطر

والبيان ، كقوله تعالىٰ ( إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ ) ، أي بيّنا وأخبرنا بذلك .

_______________

(١) الخطط للمقريزي ٢ / ٣٥٦ .


إذا ظهر هذا فنقول للأشعري : ما تعني بقولك إنه تعالىٰ قضىٰ أعمال العباد وقدرها ؟

إن أردت به الخلق والايجاد ، فقد بينا بطلانه وأن الافعال مستندة إلينا ، وإن عنىٰ به الالزام ، لم يصح إلّا في الواجب خاصة ، وإن عنىٰ به أنه تعالىٰ بيّنها وكتبها وَأعلَمَ أنهم سيفعلونها فهو صحيح ، لأنه تعالىٰ قد كتب ذلك أجمع في اللوح المحفوظ وبينه لملائكته ، وهذا المعنىٰ الأخير هو المتعين ، للاجماع علىٰ وجوب الرضا بقضاء الله تعالىٰ وقدره ، ولا يجوز الرضا بالكفر وغيره من القبائح ، ولا ينفعهم الاعتذار بوجوب الرضا من حيث أنه فعله تعالى وعدم الرضا به من حيث الكسب ، لبطلان الكسب أولاً ، وثانياً فلأنا نقول : إن كان كون الكفر كسباً بقضائه تعالىٰ وقدره وجب به الرضا من حيث هو كسب ، وهو خلاف قولكم ، وإن يكن بقضاء وقدر ، بطل استناد الكائنات بأجمعها إلىٰ القضاء والقدر .

واعلم ، أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام قد بيّن معنىٰ القضاء والقدر وشرحهما شرحاً وافياً في حديث الأصبغ بن نباته لمّا انصرف من صفين ، فانه قام إليه شيخ فقال له : أخبرنا يا أمير المؤمنين عن مسيرنا إلىٰ الشام ، أكان بقضاء الله وقدره ؟

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، ما


وطأنا موطئاً ولا هبطنا وادياً ولا علونا تلعة إلّا بقضاء وقدر » .

فقال له الشيخ : عند الله أحتسب عنائي ، ما أرىٰ لي من الأجر شيئاً .

فقال له : « مه أيها الشيخ ، بل عظم الله أجركم في مسيركم وأنتم سائرون وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ، ولا إليها مضطرين » .

فقال الشيخ : كيف والقضاء والقدر ساقانا ؟

فقال : « ويحك ، لعلك ظننت قضاءً لازماً وقدراً حتماً ، لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والوعد والوعيد والأمر والنهي ، ولم تأت لائمة من الله لمذنب ولا محمدة لمحسن ، ولم يكن المحسن أولىٰ بالمدح من المسيء ولا المسيء أولىٰ بالذم من المحسن ، تلك مقالة عبدة الأوثان وجنود الشيطان وشهود الزور وأهل العمىٰ عن الصواب ، وهم قدرية هذه الأُمة ومجوسها ، إن الله تعالىٰ أمر تخييراً ونهىٰ تحذيراً وكلّف يسيراً ، لم يُعص مغلوباً ولم يُطع مكرهاً ولم يُرسل الرسل عبثاً ، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً ، ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار » .

فقال الشيخ : وما القضاء والقدر اللذان ما سرنا إلّا بهما ؟

فقال : « هو الأمر من الله تعالىٰ والحكم » وتلا قوله تعالىٰ :


( وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ) ، فنهض الشيخ مسروراً وهو يقول :

أنت الامام الذي نرجو بطاعته

يوم النشور من الرحمن رضوانا

أوضحت من ديننا ما كان ملتبساً

جزاك ربك عنا فيه إحسانا

قال أبو الحسن البصري ومحمود الخوارزمي : وجه تشبيهه عليه‌السلام المجبرة بالمجوس من وجوه :

أحدها : أن المجوس اختصوا بمقالات سخيفة واعتقادات واهية معلومة البطلان وكذلك المجبرة .

وثانيها : أن مذهب المجوس أن الله تعالىٰ يخلق فعله ثم يتبرأ منه كما خلق إبليس ثم انتفىٰ منه ، وكذلك المجبرة قالوا أنه تعالىٰ يفعل القبائح ثم يتبرأ منها .

وثالثها : أن المجوس قالوا إن نكاح الأخوات والأُمهات بقضاء الله وقدره وإرادته ، ووافقهم المجبرة حيث قالوا : إن نكاح المجوس لأخواتهم وأمهاتهم بقضاء الله وقدره وإرادته .

ورابعها : أن المجوس قالوا : إن القادر علىٰ الخير لا يقدر علىٰ الشر وبالعكس ، والمجبرة قالوا : إن القدرة موجبة للفعل غير متقدمة


عليه ، فالانسان القادر علىٰ الخير لا يقدر علىٰ ضده وبالعكس (١) .

اما استشهاد الشيخ بحديث « لكل أمة مجوس ومجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر » فهذا الحديث وأمثاله من الاحاديث التي حرّفها البعض من السائرين في ركب بني أُمية ، لأن بني أُمية كانوا قدرية ، إذ أثبتوا القدر لتبرير جرائمهم ، ولأجل أن تنطلي الحيلة علىٰ الناس قلبوا حديث « القدرية مجوس هذه الأُمة » فجاؤوا بهذه الصيغة التي ذكرها الشيخ أو بصيغة « القدرية يقولون : الخير والشر بايدينا » أو « القدرية يقولون : لا قدر » وقد أورد ابن الجوزي هذه الأحاديث في كتابه العلل المتناهية (٢) وبيّن ضعفها .

والحديث الذي استشهد به الشيخ موجود في سنن أبي داود (٣) .

وفي سنده عمر مولىٰ غفرة ، عن رجل من الانصار ، عن حذيفة ، فالانصاري هذا مجهول ، وأما عمر مولىٰ غفرة فقد ضعفه ابن معين والنسائي وتركه مالك ، وقال : فيه ابن حبان : كان يقلب الأخبار ، لا يحتج بحديثه (٤) وعبارة ابن حبان واضحة في أن هذا الراوي كان

_______________

(١) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ٣١٥ ـ ٣١٧ .

(٢) العلل المتناهية ١ / ١٥٢ ، ١٦٢ .

(٣) سنن أبي داود حديث ٤٦٩٢ .

(٤) تهذيب التهذيب ٧ / ٤١٥ .


يقلب الأخبار ، فهذا الحديث الذي يحتج به الشيخ هو من الأخبار التي قلبها عمر مولىٰ غفرة هذا وحرَّف النص الأصلي .

ومن هذا كلّه يتبيّن أنّ القائلين بحتمية القدر وسلب إرادة الانسان كلية ، هم في الحقيقة المتشبهون بالمجوس ، وهم المجبّرة ، تصديقاً لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : القدرية مجوس هذه الاُمة » (١) .

( إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا ) (٢)

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

_______________

(١) سنن أبي داود ، الحديث رقم ٤٦٩١ .

(٢) سورة المزمل : ١٩ .


فهرس المصادر

١ ـ أسباب نزول القرآن

علي بن أحمد الواحدي ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ ط ١ ، ١٤١١ هـ ١٩٩١ م .

٢ ـ أسنىٰ المطالب

الجزري الشافعي ـ مطابع نقش جهان ـ طهران .

٣ ـ الاستيعاب

محمد بن عبد البر ـ دار الجيل ـ بيروت ـ ط ١ ، ١٤١٢ هـ ١٩٩٢ م .

٤ ـ أُسد الغابة

ابن الاثير الجزري ـ دار الفكر ـ بيروت ١٤٠٩ هـ ١٩٨٩ م .

٥ ـ إرشاد الساري

أحمد بن محمد القسطلاني ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت .


٦ ـ آفة أصحاب الحديث

ابن الجوزي ـ مكتبة نينوىٰ الحديثة ـ طهران .

٧ ـ الامامة والسياسة

ابن قتيبية ـ مؤسسة الوفاء ـ بيروت ـ ط ٣ ، ١٤٠١ هـ ١٩٨١ م .

٨ ـ الاصابة في معرفة الصحابة

ابن حجر العسقلاني ـ دار صادر ـ بيروت .

٩ ـ الاتقان في علوم القرآن

جلال الدين السيوطي ـ منشورات رضي ـ بيدار ـ عزيزي ط ٢ .

١٠ ـ الايضاح

الفضل بن شاذان ـ مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ـ بيروت ط ١ ١٤٢١ هـ ١٩٨٢ م .

١١ ـ الاعتقادات

الشيخ الصدوق ـ المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد ـ ١٤١٣ هـ .

١٢ ـ أوائل المقالات

محمد بن محمد بن النعمان الشيخ المفيد ـ المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد .

١٣ ـ الامام الصادق والمذاهب الأربعة

أسد حيدر ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت .


١٤ ـ إحياء علوم الدين

الغزالي ـ دار الندوة الجديدة ـ بيروت .

١٥ ـ الأم

الشافعي ـ دار المعرفة ـ بيروت .

١٦ ـ الايقاظ من الهجعة

الحر العاملي ـ بوذرجمهري ـ ١٣٦٢ هـ ش .

١٧ ـ آلاء الرحمان في تفسير القرآن

محمد جواد البلاغي ـ مكتبة الوجداني ـ قم .

١٨ ـ أحكام القرآن

ابن العربي المالكي ـ دار المعرفة ـ بيروت .

١٩ ـ أحكام القرآن

الكيالهراسي ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ط ٢ ـ ١٤٠٥ هـ ١٩٨٥ م .

٢٠ ـ أحكام القرآن

الجصاص ـ دار الفكر ـ بيروت .

٢١ ـ إعجاز القرآن

مصطفىٰ صادق الرافعي ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت .

٢٢ ـ البحر المحيط

أبو حيان الأندلسي ـ دار الفكر ـ بيروت ـ ١٤٠٣ هـ ١٩٨٣ م .


٢٣ ـ البداية والنهاية

إسماعيل بن كثير الدمشقي ـ دار الفكر ـ بيروت ـ ١٤٠٢ هـ ١٩٨٢ م .

٢٤ ـ التفسير الكبير

الفخر الرازي ـ ط ٣ .

٢٥ ـ تفسير القرآن العظيم

إسماعيل بن كثير ـ دار المعرفة ـ بيروت ط ١ ـ ١٤٠٦ هـ ١٩٨٦ م .

٢٦ ـ تفسير المراغي

أحمد مصطفي المراغي ـ دار إحياء التراث العربي ط ٢ ـ ١٨٩٥ م .

٢٧ ـ تفسير القمي

علي بن إبراهيم القمي ـ مطبعة النجف ـ ط ٢ ـ بيروت ١٣٨٧ هـ ١٩٦٨ م .

٢٨ ـ تفسير العياشي

محمد بن مسعود السمرقندي ـ المكتبة العلمية الاسلامية ـ طهران .


٢٩ ـ تفسير الطبري

محمد بن جرير الطبري ـ دار المعرفة بيروت ـ ط ٤ ـ ١٤٠٠ هـ ١٩٨٠ م .

٣٠ ـ تفسير القرطبي

محمد بن أحمد القرطبي ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ـ ط ٢ .

٣١ ـ تاريخ دمشق

ابن عساكر ـ دار الفكر ـ بيروت ـ ط ١ ـ ١٤١٨ هـ ١٩٩٧ م .

٣٢ ـ تاريخ بغداد

أحمد بن علي الخطيب البغدادي ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت .

٣٣ ـ تاريخ الشيعة

محمد حسين المظفري ـ مكتبة بصيرتي ـ قم .

٣٤ ـ تاريخ الاسلام

الذهبي ـ دار الكتاب العربي ـ ط ١ ـ ١٤٠٧ هـ ١٩٨٧ م .

٣٥ ـ تاريخ الخلفاء

جلال الدين السيوطي ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ط ١ ـ ١٩٨٨ م .

٣٦ ـ تاريخ المذاهب الاسلامية

محمد أبو زهرة ـ دار الفكر العربي .


٣٧ ـ تاريخ الاسلام الثقافي والسياسي

صائب عبد الحميد ـ مركز الغدير للدراسات الاسلامية ـ ١٤١٧ هـ .

٣٨ ـ تاريخ اليعقوبي

أحمد بن إسحاق اليعقوبي ـ دار صادر ـ بيروت .

٣٩ ـ تاريخ الخميس

حسين بن محمد الدياربكري ـ مؤسسة شعبان ـ بيروت .

٤٠ ـ التمهيد في علوم القرآن

محمد هادي معرفة ـ مؤسسة النشر الإسلامي ـ ١٤١٢ هـ .

٤١ ـ تهذيب التهذيب

أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ـ دار الفكر ـ بيروت ط ١ ـ ١٤٠٤ هـ ١٩٨٤ م .

٤٢ ـ تنزيه الانبياء

علي بن الحسين الشريف الرضي ـ انتشارات الشريف الرضي ـ قم ـ ط ١ .

٤٣ ـ التسهيل بعلوم التنزيل

ابن جزي الكلبي ـ دار الفكر ـ بيروت .

٤٤ ـ التقية في فقه أهل البيت

محمد علي صالح المعلم ـ مطبعة بهمن ـ ط ١ ـ ١٤١٨ هـ .


٤٥ ـ تجريد الاعتقاد

نصير الدين الطوسي ـ مكتب الاعلام الاسلامي ـ ١٤٠٧ هـ .

٤٦ ـ تذكرة الفقهاء

الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي ـ مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام لاحياء التراث .

٤٧ ـ تحفة الاحوذي

المباركفوري ـ دار الفكر ـ بيروت .

٤٨ ـ تمهيد الأوائل

أبو بكر الباقلاني ـ مؤسسة الكتب الثقافية ـ بيروت ـ ط ٣ .

٤٩ ـ جامع الأصول

ابن الاثير الجزري ـ دار الفكر ـ بيروت ـ ط ٢ .

٥٠ ـ جامع المقاصد

علي بن الحسين الكركي ـ مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام لاحياء التراث .

٥١ ـ الحدائق الناضرة

يوسف البحراني ـ مؤسسة النشر الاسلامي ـ إيران .

٥٢ ـ خصائص أمير المؤمنين

أحمد بن شعيب النسائي ـ مكتبة العلا ـ الكويت ـ ط ١ .


٥٣ ـ دراسات في الحديث والمحدثين

هاشم معروف الحسيني ـ دار التعارف للمطبوعات ـ بيروت ـ ط ٢ .

٥٤ ـ الدر المنثور

جلال الدين السيوطي ـ دار الفكر ـ بيروت ـ ط ١ .

٥٥ ـ دلائل الصدق

محمد الحسن المظفر ـ دار المعلم للطباعة ـ القاهرة ـ ط ٢ .

٥٦ ـ ذكرىٰ الشيعة

محمد جمال الدين العاملي ـ مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام لاحياء التراث .

٥٧ ـ ربيع الابرار

الزمخشري ـ انتشارات الشريف الرضي ـ قم ـ ١٤١٠ هـ .

٥٨ ـ رجال النجاشي

أحمد بن علي النجاشي ـ دار الأضواء ـ بيروت ـ ط ١ .

٥٩ ـ روح المعاني

الالوسي البغدادي ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت .

٦٠ ـ الروض الانف

عبد الرحمن السهيلي ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ـ ط ١ .


٦١ ـ الرياض النضرة

المحب الطبري ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت .

٦٢ ـ زاد المسير

علي بن محمد الجوزي ـ المكتب الاسلامي ـ ط ٤ .

٦٣ ـ زاد المعاد

ابن قيم الجوزية ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ ط ١٦ .

٦٤ ـ سنن الترمذي

محمد بن عيسىٰ الترمذي ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت .

٦٥ ـ سنن أبي داود

سليمان بن الأشعث السجستاني ـ دار الفكر ـ بيروت .

٦٦ ـ سنن النسائي بشرح السيوطي

أحمد بن شعيب النسائي ـ دار الفكر ـ بيروت ـ ط ١ .

٦٧ ـ سنن الدارمي

عبدالله بن بهرام الدارمي ـ دار الفكر ـ بيروت .

٦٨ ـ سنن ابن ماجة

محمد بن يزيد القزويني ـ دار الفكر ـ بيروت .

٦٩ ـ السنن الكبرى

أحمد بن الحسين بن علي البيهقي ـ دار المعرفة ـ بيروت .


٧٠ ـ السيرة الحلبية

علي بن برهان الدين الحلبي ـ المكتبة الاسلامية ـ بيروت .

٧١ ـ السيرة النبوية

عبد الملك بن هشام الحميري ـ دار إحياء التراث العربي .

٧٢ ـ السيرة النبوية

إسماعيل بن كثير ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت .

٧٣ ـ شرح تجريد المعتقدات

علي بن محمد القوشجي ـ منشورات رضي ـ بيدار ـ عزيزي .

٧٤ ـ شرح صحيح مسلم

زكريا محيي الدين النووي ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت .

٧٥ ـ شرح معاني الآثار

أحمد بن محمد الطحاوي ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ ط ٢ .

٧٦ ـ شرح المواهب اللدنية

محمد بن عبد الباقي الزرقاني ـ دار المعرفة ـ بيروت .

٧٧ ـ شرح نهج البلاغة

ابن أبي الحديد ـ دار إحياء الكتب العربية ـ ط ٢ .

٧٨ ـ صحيح البخاري

محمد بن إسماعيل البخاري ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت .


٧٩ ـ صحيح مسلم

مسلم بن الحجاج القشيري ـ دار الفكر ـ بيروت ـ ط ٢ .

٨٠ ـ الصواعق المحرقة

أحمد بن حجر الهيتمي المكي ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ ط ٣ .

٨١ ـ الطبقات الكبرىٰ

محمد بن سعد ـ دار صادر ـ بيروت ـ ١٤٠٥ هـ ١٩٨٥ م .

٨٢ ـ عارضة الاحوذي

محمد بن عبدالله بن العربي المالكي ـ دار الكتاب العربي .

٨٣ ـ العدة شرح العمدة

عبد الرحمن بن إبراهيم المقدسي ـ مكتبة الرياض الحديثة .

٨٤ ـ العروة الوثقىٰ

محمد كاظم الطباطبائي ـ دار الفكر ـ بيروت .

٨٥ ـ العلل المتناهية في الأحاديث الواهية

عبد الرحمن ابن الجوزي ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ ط ١ ١٤٠٣ هـ .

٨٦ ـ عمدة القاري

محمود بن أحمد العيني ـ دار الفكر ـ بيروت .


٨٧ ـ فتح الباري

أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ـ ط ٢ .

٨٨ ـ فتح القدير

علي بن محمد الشوكاني ـ دار المعرفة ـ بيروت .

٨٩ ـ الفصل في الملل والاهواء والنحل

علي بن أحمد بن حزم ـ دار المعرفة ـ بيروت ـ ط ٢ .

٩٠ ـ الفصول المهمة

علي بن محمد ابن الصباغ المالكي ـ مكتبة دار الكتب التجارية ـ النجف .

٩١ ـ الكافي

محمد بن يعقوب الكليني ـ المكتبة الاسلامية ـ ١٣٨٨ هـ .

٩٢ ـ الكامل في التاريخ

محمد بن عبد الكريم ابن الاثير ـ دار صادر ـ بيروت .

٩٣ ـ الكامل في الضعفاء

عبدالله بن عدي الجرجاني ـ دار الفكر ـ بيروت ـ ط ٢ .

٩٤ ـ كتاب السنة

عمرو بن أبي عاصم ـ المكتب الاسلامي ـ بيروت ـ ط ٢ .


٩٥ ـ كشف المراد

الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي ـ مؤسسة النشر الاسلامي ـ قم .

٩٦ ـ مباني العروة الوثقىٰ

محمد تقي الخوئي ـ المطبعة العلمية ـ قم ـ ١٤٠٨ هـ .

٩٧ ـ المبسوط

شمس الدين السرخسي ـ دار المعرفة ـ بيروت ـ ط ٣ .

٩٨ ـ المجموع شرح المهذب

زكريا محيي الدين النووي ـ دار الفكر ـ بيروت ـ ط ١ .

٩٩ ـ مجموعة فتاوىٰ ابن تيمية

أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية ـ دار المنار ـ ١٤١١ هـ ١٩٩١ م .

١٠٠ ـ المحلىٰ

علي بن أحمد بن حزم ـ دار الآفاق الجديدة ـ بيروت .

١٠١ ـ مدارك الاحكام

محمد بن علي العاملي ـ مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام ـ ط ١ .

١٠٢ ـ مجمع الزوائد

علي بن أبي بكر الهيثمي ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت ـ ط ٣ .


١٠٣ ـ المراجعات

عبد الحسين شرف الدين العاملي ـ مطبوعات النجاح ـ القاهرة ـ ط ٢٠ .

١٠٤ ـ مسند أحمد

أحمد بن حنبل ـ دار الفكر ـ بيروت .

١٠٥ ـ مسند أبي يعلىٰ

أحمد بن علي التميمي ـ دار المأمون للتراث ـ ط ١ .

١٠٦ ـ مسند الطيالسي

سليمان بن داود الطيالسي ـ دار المعرفة ـ بيروت .

١٠٧ ـ المستدرك علىٰ الصحيحين

محمد بن عبدالله الحاكم النيسابوري ـ دار الفكر ـ بيروت .

١٠٨ ـ المسائل السروية

محمد بن محمد بن النعمان الشيخ المفيد ـ المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد ـ .

١٠٩ ـ المسائل والأجوبة في الحديث

ابن قتيبة الدينوري ـ دار ابن كثير ـ دمشق .

١١٠ ـ مسائل فقهية

عبد الحسين شرف الدين العاملي ـ معاونية العلاقات الدولية في


منظمة الاعلام الاسلامي .

١١١ ـ المصنف

عبدالله بن محمد بن أبي شيبة ـ الدار السلفية ـ بومياي .

١١٢ ـ المصنف

عبد الرزاق الصنعاني ـ منشورات المجلس العلمي ـ ط ١ .

١١٣ ـ مصابيح السنة

الحسين بن مسعود البغوي ـ دار المعرفة ـ بيروت ـ ط ١ .

١١٤ ـ المعيار والموازنة

أبو جعفر الاسكافي ـ مؤسسة المحمودي ـ بيروت ـ ط ١ .

١١٥ ـ المعجم الكبير

سليمان بن أحمد الطبراني ـ مكتبة ابن تيمية ـ القاهرة .

١١٦ ـ المعجم الأوسط

سليمان بن أحمد الطبراني ـ دار الحديث ـ القاهرة ـ ط ١ .

١١٧ ـ المعجم الصغير

سليمان بن أحمد الطبراني ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت .

١١٨ ـ المقنعة

محمد بن محمد النعمان الشيخ المفيد ـ المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد ـ ط ١ .


١١٩ ـ منهاج السنة النبوية

أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت .

١٢٠ ـ الموطأ

مالك بن أنس ـ دار إحياء التراث العربي .

١٢١ ـ الميزان في تفسير القرآن

محمد حسين الطباطبائي ـ مؤسسة إسماعيليان ـ قم ـ ط ٢ .

١٢٢ ـ ميزان الاعتدال

محمد بن أحمد الذهبي ـ دار المعرفة ـ بيروت .

١٢٣ ـ نهج البلاغة

صبحي الصالح ـ دار الاسوة للطباعة والنشر ـ ط ١ .

١٢٤ ـ وركبت السفينة

مروان خليفات ـ مركز الغدير ـ ط ١ ـ ١٩٩٧ م .

١٢٥ ـ وسائل الشيعة

محمد بن الحسن الحر العاملي ـ مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام لاحياء التراث ـ قم ـ ١٤١٤ هـ .

لا تخونوا الله والرسول

المؤلف: صباح علي البيّاتي
الصفحات: 336
ISBN: 964-319-291-1