مقدمة الجزء الثاني

قال الله تعالى : « انا اوحينا اليك كما اوحينا الى نوح والنبيين من بعده واوحينا الى ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والاسباط وعيسى وايوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داوود زبورا ، ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما » (١)

بعث الله تبارك وتعالى الانبياء والرسل والاولياء مبشرين ومنذرين وبعث معهم الكتب والشرائع ، مبشرين لمن اطاعهم بالجنة ، ومنذرين لمن عصاهم بالنار ، وانزل الكتب والشرائع ليحكموا بين الناس بالحق والعدل.

الله سبحانه خلق الانسان بطبيعته وفطرته امة واحدة ، يرتبط بعضه ببعض ، ويحتاج بعضه الى البعض ، في المعاش والامور الدنيوية والاخروية ، ولا يستغني بعضه عن بعض ، وكان لابد لهم من الاختلاف في امورهم المعاشية والاجتماعية والسياسية والحكومية ، وعلى هذا الاساس بعث الله تعالى من رحمته بهم الرسل والانبياء والاولياء مبشرين ومنذرين ، يبشرونهم بالخير والسعادة في الدنيا والآخرة اذا التزموا بما امرهم وعلمهم الانبياء والرسل ، واكتفى بما لديهم من الحق ولم يعتد على غيره ، وينذروهم ويحذروهم من المخالفة وخيبة الامل واذا اتبعوا شهواتهم يكون مصيرهم عذاب الآخرة ونار جهنم.

__________________

١ ـ النساء : ١٦٣.


وعلى هذا الاساس اوحى الله تبارك وتعالى الى الانبياء والرسل وخاتم الانبياء محمد 6 ، واتى داود زبورا ، وكلم موسى 7 تكليما وبعثهم الى الناس لينذروهم ويبشروهم ويعلموهم طريق الحق والهداية ، لان الله تبارك وتعالى لم يترك البشر دون مرشد وقائد ، ودون ان يعلمهم واجباتهم وتكاليفهم الشرعية ، ولكي يتم الحجة عليهم فلا يبقى لهم عذر او حجة.

وروي عن ابي ذر رضي الله عنه : انه سأل النبي 6 عن عدد الانبياء فاجابه النبي 6 بان عددهم يبلغ « مائة واربعا وعشرين الفا ، فسأل ابو ذر رضي الله عنه عن عدد الرسل ، قال رسول الله 6 : عددهم هو ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولا والباقون كلهم انبياء ...

وقال ابو ذر رضي الله عنه عن رسول الله 6 : ان عدد الكتب السماوية التي نزلت على الانبياء والرسل هي : « مئة واربع كتاب » نزل عشرة منها على آدم 7 ، وخمسون منها نزل على شيث ، وثلاثون منها على ادريس ، وعشرة كتب على ابراهيم ، واربع كتب وهي : التوراة ، والانجيل ، والزبور ، والقرآن. (١) « نزلت على اولي العزم ، وهم : نوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم وسلم اجمعين ».

ولقد كان نزول الوحي على الانبياء يتم بصورة مختلفة ، فمرة ينزل بالوحي توسط ملك من الملائكة المكلفين به ، واحيانا يلقي الوحي على النبي 7 بواسطة الالهام القلبي ، واخرى ينزل بصورة صوت يسمعه النبي ، « اي ان الله يخلق الامواج الصوتية في الفضاء او الاجسام فيسمعها انبياؤه وبهذه الواسطة كان يتم التخاطب بينهم وبين الله سبحانه وتعالى.

__________________

١ ـ مجمع البيان : ج ١ ص ٤٧٦ عنه الامثل ج ٣ ص ٤٧٧.


عزيزي القارئ : بين يديك الجزء الثاني من كتاب « سلسلة حكم ومواعظ من حياة الانبياء والاوصياء : » وذلك بعد الانتهاء من طباعة القسم الاول الذي كان مختص بالانبياء اولي العزم :.

وفي هذا القسم الثاني ذكرنا وباختصار ايضا ، عن حياة بعض الانبياء العظام : الذين ذكر القرآن المجيد بعضا منهم ومن قصصهم وحياتهم ، وذلك حسب موقعهم الاجتماعي في الامة ، وما حدثت لهم من مواقف مهمة تحمل في طياتها مواعظ وحكم وعبر ودروس مختلفة وبنائة كي نتعض بها لما فيه الخير والصلاح لنا ولاجيالنا القادمة في السير على نهجهم والعمل بارشاداتهم وتوصياتهم الحكيمة انشاء الله تعالى.

وقد حاولنا ايضا ان نتناول الحوادث المهمة والمواقف الحكيمة للانبياء الكبار : الذين هم مظهر من مظاهر الصبر والتحمل والشجاعة ، حيث نرى ان الباري عزوجل اشاد بالوجه الطاهر والناصع لهم في قرآنه الكريم ، وبالخصوص في قصصهم القرآنية ، في نزاهتهم وعصمتهم وتقواهم ، ونزههم من كل ذنب وخطيئة ، كبيرة او صغيرة ، وعصمهم منها قبل النبوة وبعدها ...

فان استعراض القرآن المجيد لهذه القصص ، يهدف الى تربية الانسان وهدايته الى طريق السعادة والقرآن الكريم ليس كتاب قصصي ، وانما كتاب سماوي منزل من قبل الواحد الاحد ، هدفه ارشاد الناس وتربيتهم وهدايتهم.

القرآن دستور سماوي ونظام متكامل قام على اساس بنّاء وتثبيت قواعد النظام الاسلامي الصحيح وهداية المجتمعات البشرية وادارتها ، في كل زمان ومكان ( ان هذا القرآن يهدي للتي هي اقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون


الصالحات ان لهم اجرا كبيرا ) (١).

ان القرآن الكريم هو الطريق الاقوم في كل المستويات وفي كل جوانب الحياة والوجود ، وعلى صعيد كافة القضايا :

والمراد من كلمة « يهدي للتي هي اقوم » في الآية المباركة اعلاه هو:

الاقوم : من وجهة نظر العقائد والافكار ، والعقيدة الاقوم : هي العقيدة الخالية من الخرافات والاوهام ، والتي تدفع الانسان نحو الله.

الاقوم : من وجهة نظر القوانين الاجتماعية ، والاقتصادية ، والعسكرية ، والسياسية ، التي تسود المجتمع ، والتي تربي المجتمع الانساني الجوانب المادية والمعنوية وتدفع الجميع نحو التكامل ...

والاقوم : من وجهة النظر العبادية والاخلاقية ، هو كل ما يجعل الانسان في المركز الوسط بين الافراط والتفريط ، ويجعله في موقع الاعتدال بين الاسراف والبخل ، بين الضعف والتعالي.

واخيرا ـ وليس بآخر ـ فان ميزات « الاقوم » بالنسبة للنظم والسلطات الحاكمة ، هو كل ما يدفعها الى اقامة العدل ، والدعوة الى اشاعة الانصاف ، ومواجهة الظلم والظالمين ...

ونلاحظ من طرف آخر ـ ومع كل الاسف ـ لم تحفظ قصص الانبياء والمرسلين من ايدي الجهلة والمنافقين والمنحرفين وتجار القصص ، ونساجي قصص الخيال ليتاجروا بها ، حيث دسوا في كتبهم الخرافات التافهة والاقوال الباطلة التي لا تليق بمقام الانبياء والاوصياء المحمودة والمنزه عنها والمطهرة منها.

ودون اي شك فان الكثير من الروايات المروية عن الانبياء : مزيفة

__________________

١ ـ الاسراء : ٩.


ومدسوسة رغم ورودها في طيات بعض كتب الحديث المعتبرة ، لان رسالة الانبياء تفرض ان يكون النبي المرسل في اي زمان كان ، بعيدا عن مثل تلك التقولات ، كي ينجذب اليه الناس برغبة وشوق ، وان لا تتوفر فيه اشياء تكون سببا لتنفرهم منه وابتعادهم عنه ، كالامراض والعيوب الجسدية ، والاخلاق السيئة ، والافعال الباطلة ، والجهل بالامور والنسيان وغير ذلك ، لانها تتناقض مثل هذه الامور مع فلسفة الرسالة السماوية.

فالقرآن الكريم يقول في شأن رسول الله 6 :

( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لَانفضوا من حولك ) (١).

هذه الآية وغيرها دليل على ان النبي يجب ان لا يكون بحالة تجعل المحيطين به يتنفرون منه ويبتعدون عنه وكذلك بقية الانبياء الكبار مثل : آدم ، ونوح ، وابراهيم ، وموسى ، وعيسى ، وايوب ، ويوسف ، ويعقوب ، وغيرهم الكثير الذين قدوتهم وسيدهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وعليهم اجمعين.

وعلى سبيل المثال نرى في تلك الروايات والقصص الكاذبة والخرافات التفاهة ، التي لا تليق بمقام الانبياء ما ورد في بعض كتب الحديث والتفسير حول قصة النبي ايوب 7 القول : بان الدود غطى جسم النبي اثناء فترة مرضه وتعفن جسده بحيث ان اهل القرية ضاقوا به ذرعا واخرجوه من قريتهم ورموه على المزبلة.

او ما روي عن النبي داود 7 انه كان في محرابه يصلي ويعبد الله ، فاذا بطائر ـ مذهب ـ قد وقع بين يديه ، فاعجبه فقام لياخذه فطار الطائر فوقع على حائط جيرانه ـ اوريا بن حنان ـ فصعد النبي داود 7 الحائط ليأخذ الطير ، واذا

__________________

١ ـ آل عمران : ١٥٩.


بامراة اوريا جالسة عارية تغتسل ، فنظر اليها داود فافتتن بها ... الخ.

هذه القصة المؤلمة التي نسجها المنحرفون نقلها احد الاشخاص على الامام الرضا 7 وطلب منه صحة نسبة هذه الحادثة الى النبي داود 7 :

ضرب الامام 7 على جبهته وقال : انا لله وانا اليه راجعون ، لقد نسبتم نبيا من انبياء الله على التهاون بصلاته حين خرج بأثر الطائر ثم بالفاحشة ثم بالقتل.

وفي قصة يوسف 7 بانه عندما همت به وهم بها ، جلس معها مجلس الرجل من المرأة ... والى غير ذلك من الاقوال الباطلة التي يندى لها جبين الانسان العادي فكيف بالانبياء والصلحاء ، وقد ورد الكثير من هذه القصص في كتب التوراة والانجيل المحرفة ، ومع شديد الاسف قام البعض وحمل هذه الروايات الزائفة وحررها في كتبنا المعتبرة ..

فعلى من يبحث ويحقق ويفسر في القرآن المجيد من علماء ومفسرين وفقهاء ان يقفوا امام هذه القصص الخرافية التي تسيء الى مقام العصمة والطهارة للانبياء والاوصياء والرسل ، وسد كافة الابواب امامها ، حتى لا تنتشر وتصل الى ايدي الاجيال القادمة وشباب المستقبل ....

وكخطوة اولى قمت بتدوين حياة بعض الانبياء العظام وحكمهم ومواعظهم وبشكل مختصر ، وانتخبت الصحيح والمعتبر مع قلة المصادر الموجودة لدينا وعلى عجالة من اجل ان يصل الكتاب هذا الى ايدي اساتذتي واخواني المبلغين والخطباء في ايام التبليغ من شهر رمضان المبارك.

اسال الله العلي القدير ان يوفقني ، ويوفق الآخرين من كتابة حياة الانبياء وقصصهم بشكل مفصل خاليا من الاوهام والانحراف ....

والحمد لله رب العالمين.

المؤلف


عصمة الانبياء والاوصياء

نحن نعتقد في الانبياء والرسل والائمة الاطهار والملائكة صلوات الله عليهم اجمعين ، انهم معصومون مطهرون من كل دنس ، وانهم لا يذنبون ذنبا صغيرا ولا كبيرا ، ولا يعصون الله ما امرهم ويفعلون ما يؤمرون ، ومن نفى عنهم العصمة في شيء من احوالهم فقد جهلهم ... وتوجد لدينا ادلة على ذلك من الكتاب والسنة والعقل وقد ذكرت مفصلا في كتب مختلفة وكثيرة توجد في متناول الايدي والمكتبات يمكنكم مراجعتها لمن يريد المعرفة تفصيلا.

ونحن هنا نذكر باختصار بعض النقاط المهمة في هذا الباب.

ان اخطر المناصب واكبرها مسؤولية ، قيادة المجتمع البشري وهدايته الى السعادة وبعده عن الاخطاء والانحرافات ، فهذه تتطلب في المتصدي والمرشد والمبلغ مؤهلات وامتيازات خاصة يتفرد بها عن سائر الناس ، وكلما كبرت المسؤولية وشملت جميع الجوانب وتدير دفة كافة الجوانب الحياتية ، كما هي مسؤولية رسل السماء وخاصة خاتمهم الذي سد باب الوحي والنبوة من بعده ، فلابد وحسب الامور العقلية والنقلية ان يتصف هذا النبي او الرسول او ذاك الوصي الذي يحمل مثل هذه المسؤولية الخطيرة ، ان يتصفوا بفضائل روحية ومُثل خُلُقية تُميزهم عن غيرهم من البشر ، وتجعلهم في قمة الاخلاق والتزكية وحسن السيرة ، ثم في القيادة والادارة ، وتجتمع هذه الصفات في العصمة والمعصوم.


والعصمة ، لها مراتب ومراحل ثلاث :

المرتبة الاولى : العصمة عن المعصية وعدم ارتكاب الذنب ومخالفة الاوامر المولوية.

المرتبة الثانية : العصمة في تبليغ الرسالة ، اي المصونية في تلقي الوحي ، ووعيه ، وابلاغه للناس.

المرتبة الثالثة : العصمة عن الخطا في تطبيق الرسالة والامور الفردية والاجتماعية.

وبعد هذه المراحل الثلاثة المهمة ، هناك مراحل اخرى يجب على النبي او الوصي او المبلغ الرسالي ان يتحلى بها وهي :

١ ـ التنزه عن كل ما يوجب نفرة الناس عنه وعُقم التبليغ.

٢ ـ الاطلاع على اصول الدين وفروعه وكل ما القي ابلاغه وتعليمه وتعلمه على عاتقه.

٣ ـ التحلي بكفاءة خاصة في القيادة مقترنة بحسن التدبير. وفي النهاية يكون انتخاب هذه الشخصية وحملها لهذه المسؤولية وهذه الصفة من قبل الله عزوجل وتعيينه ، اما مباشرة وعن طريق الوحي مثل الانبياء ، واما بواسطة وعن طريق الانبياء مثل الائمة الاطهار : ... (١)

ادلة العصمة من الآيات القرآنية باختصار :

١ ـ قال تعالى في عصمة الملائكة : ( عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما امرهم ويفعلون ما يؤمرون ) (٢) والشاهد هنا : « لا يعصون الله ما امرهم ».

__________________

١ ـ للتفصيل مراجعة كتاب الالهيات ج ٢ لآية الله الشيخ السبحاني ( حفظه الله تعالى ).

٢ ـ التحريم : ٦.


٢ ـ وكذلك في وصف القرآن بقوله تعالى : ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) (١).

٣ ـ وقوله تعالى في عصمة النبي محمد 6 :

( ما ضل صاحبكم وما غوى ، وما ينطق عن الهوى ، ان هو الا وحي يوحى ، علمه شديد القوى ) (٢).

٤ ـ انتخاب الرسل والاوصياء لهدايتهم المجتمع البشري من قبل الله تعالى وذلك في قوله تعالى : ( واجتبيناهم وهديناهم الى صراط مستقيم ، ذلك هدى الله ، يهدي به من يشاء من عباده ، ولو اشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ) (٣).

وقوله تعالى : ( يا ايها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته ، والله يعصمك من الناس ) (٤).

( واذكر عبادنا ابراهيم واسحاق ويعقوب اولي الايدي والابصار ، انا اخلصناهم بخالصة ذكرى الدار ، وانهم عندنا لمن المصطفين الاخيار ، واذكر اسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الاخيار ) (٥).

وقوله تعالى : ( ولقد اخترناهم على علم على العالمين ، وءآتيناهم من الآيات مافيه بلاء مبين ) (٦).

فان قوله تعالى ( انهم لمن المصطفين الاخيار ) ، وقوله : ( لقد

__________________

١ ـ فصلت : ٤٢.

٢ ـ النجم : ٣ ـ ٥.

٣ ـ الانعام : ٨٧ ـ ٨٨.

٤ ـ المائدة : ٦٧.

٥ ـ ص : ٤٥ ـ ٤٨.

٦ ـ الدخان : ٣٢ و ٣٣.


اخترناهم على علم على العالمين ). دليل على ان النبوة والعصمة واعطاء الآيات لاصحابها ، من مواهب الله سبحانه للانبياء ومن يقوم مقامهم من الاوصياء والائمة : فتأمل.

وبعد التأمل يظهر من ان العصمة الالهية لا تفاض على المعصوم ولا توهب له الا بعد وجود ارضيات صالحة في نفسه ، تقتضي افاضة تلك الموهبة اليه ....

يقول العلامة الطباطبائي قدس سره : « ان الله سبحانه خَلقَ بعضَ عباده على استقامة الفطرة واعتدال الخلقة ، فنشؤا من باديء الأمر بأذهان وقّادة ، وادراكات صحيحة ، ونفوس طاهرة ، وقلوب سليمة ، فنالوا بمجرد صفاء الفطرة وسلامة النفس ، من نعمة الاخلاص ما ناله غيرهم بالاجتهاد والكسب ، بل اعلى وارقى ، لطهارة داخلهم من التلوث بأوساخ الموانع والمزاحمات.

والظاهر ان هؤلاء هم المخلَصون لله في مصطلح القرآن الكريم.

ومن الآيات المهمة في القرآن الكريم التي تدل على عصمة الانبياء والرسل ، نذكر هذه الآيات من قوله تعالى : ( ووهبنا له اسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داوود وسليمان وايوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين ، وزكريا ويحيى وعيسى والياس كل من الصالحين ، واسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين ، ومن آبائهم وذرياتهم واخوانهم واجتبيناهم وهديناهم الى صراط مستقيم ، ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ... ، اولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ... ) (١).

تصف الآية الاخيرة بان الانبياء مهديون بهداية الله سبحانه ، على وجه

__________________

١ ـ الانعام : ٨٤ ـ ٩٠.


يجعلهم القدوة والاسوة ، ونرى من جانب آخر انه سبحانه وتعالى يصرح بان من شملته الهداية الالهية لا مضل له وذلك في قوله تعالى : ( ومن يهد الله فماله من مضل ... ) (١).

وتكون النتيجة المنطقية :

١ ـ النبي قد شملته الهداية الالهية.

٢ ـ ومن شملته الهداية الالهية ، لا تتطرق اليه الضلالة.

٣ ـ فينتج : النبي لا تتطرق اليه الضلالة.

وبما ان الضلالة والمعصية متساويان ، فيصح ان يقال في النتيجة : ان النبي لا تتطرق اليه المعصية ويكون معصوما ... فتأمل.

وقال المحقق الطوسي رضي الله عنه في التجريد : « ويجب في النبي العصمة ليحصل الوثوق فيحصل الغرض ... ويجب كمال العقل ، والذكاء ، والفطنة ، وقوة الرأي ، وعدم السهو » (٢).

ولو جاز على النبي ، السهو والخطأ ، لجاز ذلك في جميع اقواله وافعاله ، فلم يبق وثوق باخباراته عن الله تعالى ، ولا بالشرائع والاديان ، لجواز الزيادة فيها والنقيصة ، فتنتفي فائدة البعثة ، فلا يجوز على النبي والرسول 6 السهو مطلقا ، في الشرع وغيره ... لو جاز ان يسهو في الصلاة ، لجاز ان يسهو في التبليغ ، لان الصلاة فريضة عليه ، كما ان التبليغ عليه فريضة.

واما الاحاديث والروايات الواردة في هذا الباب كثيرة نختصر منها مع ما يقتضيه المقام:

١ ـ قال الامام علي 7 في كتاب غرر الحكم : من اعتصم بالله لم يضره

__________________

١ ـ الزمر : ٣٦ و ٣٧.

٢ ـ شرح التجريد : ص ١٩٥.


شيطان ، ومن اعتصم بالله عز مطلبه.

ومن دعاء للامام علي بن ابي طالب 7 قال : « الهي خلقت لي جسما ، وجعلت لي فيه آلات اطيعك بها واعصيك ، واغضبك بها وارضيك ، وجعلت لي من نفسي داعية الى الشهوات ، واسكنتني دارا قد ملئت من الآفات ، ثم قلت لي : انزجر ، فبك انزجر ، وبك اعتصم ، وبك استجير ، وبك احترز واستوفقك لما يرضيك. (١)

٢ ـ عن حسين الاشقر ، قال : قلت لهشام بن الحكم : ما معنى قولكم : « ان الامام لا يكون الا معصوما »؟ فقال : سألت ابا عبد الله 7 عن ذلك فقال : المعصوم هو الممتنع بالله من جميع المحارم ، وقد قال الله تبارك وتعالى ( ومن يعتصم بالله فقد هدي الى صراط مستقيم ) (٢).

وعن الامام علي بن الحسين 8 قال : الامام منا لا يكون الا معصوما ، وليست العصمة في ظاهر الخلقة فيعرف بها ، فلذلك لا يكون لا منصوصا.

ومن اقوال الامام الصادق 7 : ... والامام معصوما من الزلات ، مصونا عن الفواحش كلها ، فهو معصوم مؤيد موفق مسدد ، قد أمن من الخطايا والزلل والعثار ، يخصه الله بذلك ليكون حجته على عباده ، وشاهده على خلقه. (٣)

__________________

١ ـ ميزان الحكمة : ج ٦ ص ٣٤١.

٢ ـ نفس المصدر ، آل عمران : ١٠١.

٣ ـ نفس المصدر.


( ٦ )

حكم و مواعظ من حياة

النبي آدم 7



قصص آدم وحواء 8 في القرآن

قال الله عزوجل :

( واذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الارض خليفة.

قالوا اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك.

قال : اني اعلم مالا تعلمون.

وعلم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة.

فقال : انبئوني باسماء هؤلاء ان كنتم صادقين.

قالوا : سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا انك انت العليم الحكيم.

قال : يا آدم انبئهم باسمائهم ، فلما انباهم باسمائهم.

قال : الم اقل لكم اني اعلم غيب السموات والارض ، واعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون.

واذ قلنا للملائكة : اسجدوا لآدم فسجدوا الا ابليس ابى واستكبر وكان من الكافرين.

وقلنا : يا آدم اسكن انت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين.

فازلهما الشيطان عنها فاخرجهما مما كانا فيه.


وقلنا : اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع الى حين.

فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه انه هو التواب الرحيم.

قلنا اهبطوا منها جميعا فأما ياتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

والذين كفروا وكذبوا بآياتنا اولئك اصحاب النار هم فيها خالدون ) (١).

في هذه الآيات المباركة عرض متكامل لخلقة آدم ابو البشر 7 وخلافة الانسان وقيادته ، كما توضح لنا ثلاث مسائل اساسية ومطالب مهمة هي :

١ ـ اخبار الملائكة بشان خلافة الانسان في الارض ، وما دار في المشهد من حوار.

٢ ـ الطلب من الملائكة ان يكرموا ويعظموا الانسان الاول ، وهذا ما نجده في مواضع عديدة من القرآن. وبمناسبات مختلفة.

٣ ـ شرح وضع آدم 7 وحياته في الجنة والحوادث التي ادت الى خروجه من الفردوس ، ثم توبة آدم ، وحياته هو وذريته في الارض.

عندما خلق الله عزوجل الدنيا ومافيها من كائنات ، اراد ان يجعل لها من يديرها ويدبر شؤنها ويكون خليفته عليها.

وهذا الخليفة يجب ان تسمو مكانته على مكانة الملائكة وان يكون له قسط وافر من العقل والشعور والادارة والكفائة الخاصة حتى يستطيع ان يقود هذه الموجودات الارضية بما فيها من نِعَمها وكنوزها ومعادنها وبحورها

__________________

١ ـ البقرة : ٣٠ ـ ٣٩.


وانهارها ....

والخليفة ، هو النائب عن الغير ، وعليه ان يحمل صفات او بعض صفات المنوب عنه ، وان يلتزم باوامره وارشاداته حتى يتمكن ان يدير الامور على احسن وجه.

والانسان هو خليفة الله في الارض ونائبه ، واول خليفة على ظهر الارض هو : آدم ابو البشر 7.

قول الملائكة :

عندما خلق الله آدم 7 قالت الملائكة : « اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ... » لم يكن قول الملائكة هذا اعتراض كما يتصور البعض ، بل كان سؤال واستفسار ، لانه كان في علم الملائكة ان هذا الانسان يُخلق من تراب ويصبح مركزا للتنافس والنزاع.

او كان للملائكة تجربة سابقة مع مخلوقات سبقت آدم ، وهذه المخلوقات تنازعت وسفكت الدماء فاصبح عند الملائكة انطباعا مرّا عن موجودات الارض.

وقيل ان الله سبحانه اوضح للملائكة من قبل ان يخلق آدم على وجه الاجمال مستقبل الانسان وما يجري في الارض ....

تعليم يالاسماء :

وبعد هذه المحاورة بين الملائكة وبين الله تعالى ، تأتي المرحلة الثانية وهي : « وعلم آدم الاسماء كلها ».

ما هي الاسماء التي علمها الله تعالى لآدم وطلب من الملائكة ان يذكروها


له ولم يتمكنوا واعتذروا؟

اختلف المفسرون في ـ تعليم الاسماء ـ وما هي ، ومن المؤكد لم يكن تعليم مفردات الاسماء ودون المعاني لان هذا ليس مهم ، بل المقصود هو الاسماء ومعانيها والمفاهيم والمسميات ..

عن ابي العباس قال : سألت الامام الصادق 7 عن قول الله : « وعلم آدم الاسماء كلها » ماذا علمه؟ قال : « الارضين والجبال والشعاب والاودية ثم نظر الى بساط تحته فقال : وهذا البساط مما علمه » (١).

علمه الاسماء واسرارها وكيفياتها وخواصها ، والله سبحانه منح آدم هذا العلم ليستطيع ان يستثمر المواهب المادية والمعنوية في الكون.

وهناك من يقول ان الاسماء التي تعلمها آدم 7 هي اسماء افضل مخلوقات الله وهم : محمد 6 وعلي وفاطمة والحسن والحسين : ، وآدم توسل بهذه الاسماء وطلب العفوا من الله تعالى وعفى عنه.

وكذلك قيل الكلمات التي تلقاها آدم 7 فتاب الله عليه هي ايضا نفس الكلمات والاسماء التي تعلمها ورآها على العرش مكتوبة.

ولا تعارض ولا اختلاف في الامر. وتصح كل الاقوال والتفاسير في الكلمات والاسماء التي تلقاها وتعلمها آدم 7 من الله تعالى ....

هنا يطرح سؤال : كيف تعلم آدم 7 الاسماء كلها في فترة قصيرة؟

الجواب : كان التعلم من قِبل الله عزوجل لآدم تكوينا ، اي « تعلم تكويني » اي : ان الله تعالى اودع هذا العلم في وجود آدم 7 بالقوة ، ودفعه خلال فترة قصيرة الى المرحلة الفعلية ...

__________________

١ ـ الميزان : ج ١ ص ١١٩ ، عنه الامثل : ج ١ ص ١٣٩.


مواعظ وحكم في خلق ادم وحواء 8

المرحلة الاولى :

اسم آدم وحواء وكيفية خلقهم : :

روي عن محمد الحلبي ، عن ابي عبد الله 7 قال : انما سمي آدم لانه خلق من أديم الارض.

وقيل : اسم الارض الرابعة اديم ، وخلق آدم منها فلذلك قيل : خُلق من اديم الارض.

وعن ابي بصير ، عن ابي عبد الله 7 قال : سميت حواء حواء لانها خلقت من حي (١) ، قال الله تعالى : ( خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ) (٢).

في خبر ابن سلام ، انه سأل النبي 6 عن آدم لم سمي آدم؟

قال : لانه خلق من طين الارض واديمها.

قال : فآدم خلق من الطين كله او من طين واحد؟

قال : بل من الطين كله ، ولو خلق من طين واحد لما عَرف الناس بعضهم بعضا ، وكانوا على صورة واحدة.

__________________

١ ـ البحار : ج ١١ ص ١٠٠.

٢ ـ النساء : ١.


قال : فلهم في الدنيا مثل؟.

قال : التراب فيه ابيض ، وفيه اخضر ، وفيه اشقر ، وفيه اغبر وفيه احمر ، وفيه ازرق ، وفيه عذب ، وفيه ملح ، وفيه خشن ، وفيه لين ، وفيه اصهب ، فلذلك صار الناس الوانهم الوان التراب ....

قال : فاخبرني عن آدم خلق من حواء ، او خلقت حواء من آدم؟

قال : بل حواء خلقت من آدم ، ولو كان آدم خلق من حواء لكان الطلاق بيد النساء ، ولم يكن بيد الرجال.

قال : فمن كله خلقت ام من بعضه؟

قال : بل من بعضه ، ولو خلقت من كله لجاز القصاص في النساء كما يجوز في الرجال.

قال : فمن ظاهره او باطنه؟

قال : بل من باطنه ، ولو خلقت من ظاهره لانكشفن النساء كما ينكشف الرجال ، فلذلك صار النساء مستترات.

قال : فمن يمينه او من شماله؟

قال : بل من شماله ، ولو خلقت من يمينه لكان للانثى كحظ الذكر من الميزان ، فلذلك صار للانثى سهم وللذكر سهمان ، وشهادة امراتين مثل شهادة رجل واحد.

قال : فمن اين خلقت؟

قال : من الطينة التي فضلت من ضلعه الايسر. (١)

وروي عن الكليني ، قال اتى يهودي الى امير المؤمنين 7 فقال له : لمَ

__________________

١ ـ علل الشرائع : ص ١٦١ عنه البحار : ج ١١ ص ١٠١


سمي آدم آدم ، وحواء حواء؟

قال : انما سمي آدم آدم لانه خلق من اديم الارض ، وذلك ان الله تبارك وتعالى بعث جبرئيل 7 وامره ان يأتيه من اديم الارض باربع طينات : طينة بيضاء ، وطينة حمراء ، وطينة غبراء ، وطينة سوداء ، وذلك من سهلها وحزنها ، ثم امره ان يأتيه باربعة مياه : ماء عذب ، وماء ملح ، وماء مر ، وماء منتن.

ثم امره ان يفرغ الماء في الطين وادمه الله بقدرته فلم يفضل شيء من الطين يحتاج الى الماء ، ولا من الماء شيء بحتاج الى الطين.

فجعل الماء العذب في حلقه ، وجعل الماء المالح في عينه ، وجعل الماء المر في اذنه ، وجعل الماء المنتن في انفه.

وانما سميت حواء حواء لانها خلقت من الحيوان. (١)

وروي عن رسول الله 6 انه قال : « ان الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الارض فجاء بنو آدم على قدر الارض ، جاء منها الاحمر والابيض والاسود وبين ذلك ، والسهل والحزن والخبيث والطيب وبين ذلك ». (٢)

كيف خلقت حواء؟ :

واما كيفية خلق حواء ، هناك روايات واحاديث واقوال متعددة.

من يقول انها خلقت من ضلع آدم ، ومنهم من يقول خلقت من فاضل طين آدم 7 ، الى غير ذلك ، ولكن المؤكد انها خلقت بعد آدم ، والله قادر على كل شيء.

وقد روي : ان الله تعالى خلق آدم من الطين ، وخلق حواء من آدم ، فهمة

__________________

١ ـ نفس المصدر.

٢ ـ كنز العمال : ح١٥١٢٦.


الرجال الارض ، وهمة النساء الرجال. (١)

وروي ايضا : ان الله خلق آدم من الماء والطين ، فهمة آدم في الماء والطين ، وان الله خلق حواء من آدم فهمة النساء في الرجال ، فحصنوهن في البيوت.

وروي كذلك : خلق الله حواء من جنب آدم وهو راقد.

وقيل ان الله عزوجل خلق حواء من قصير آدم ـ والقصير هو الضلع الاصغر ـ وابدل الله مكانه لحما.

وبالاسناد الى الصدوق باسناده الى وهب قال : ان الله تعالى خلق حواء من فضل طينة آدم على صورته ، وكان القي عليه النعاس واراه ذلك في منامه ، وهي اول رؤيا كانت في الارض فانتبه وهي جالسة عند رأسه ، فقال عزوجل : يا آدم ما هذه الجالسة؟ قال : الرؤيا التي اريتني في منامي ، فانِسَ بها وحمد الله ....

عن عمرو بن ابي المقدام ، عن ابيه قال : سألت ابا جعفر 7 : من اي شيء خلق الله حواء؟ فقال : اي شيء يقول هذا الخلق؟ قلت : يقولون : ان الله خلقها من ضلع من اضلاع آدم ، فقال : كذبوا ، كان يعجزه ان يخلقها من غير ضلعه؟ فقلت : جعلت فداك يابن رسول الله من اي شيء خلقها؟ فقال : اخبرني ابي ، عن آبائه : قال : قال رسول الله 6 : ان الله تبارك وتعالى قبض قبضة من طين فخلطها بيمينه ـ وكلتا يديه يمين (٢) ـ فخلق منها آدم ، وفضلت فضلة من الطين فخلق منها حواء. (٣)

بعدما خلق الله عزوجل القلم والعرش والنور والظلمات والماء والسماوات والارضين وما بينهما وبعد ان انتهى من خلق جميع الكائنات اراد ان يُعرف

__________________

١ ـ البحار : ج ١١ ص ١١٣.

٢ ـ اي بقدرته.

٣ ـ تفسير العياشي مخطوط ، عنه البحار : ج ١١ ص ١١٦.


وتظهر قدرته وعظمته ، فخلق آدم وحواء في آخر ما خلق ، وجعل آدم خليفته على الارض ، وانتشر بنو آدم في الارض وحكموها ...

وقد روي في حديث قدسي قوله تعالى : « كنت كنزا مخفيا فاردت ان اعرَف فخلقت الخَلقَ كي اعرف » (١).

اول من عصى الله تعالى :

بعد ان انتهى الله عزوجل من خلق آدم 7 حدثت الكارثة العظمى والمعصية الكبرى ، معصية اوامر الله تعالى ـ وذلك لما امر الله الملائكة ان تسجد لآدم ، فسجدوا وامتثلوا امر الله عزوجل الا ابليس ( ابى واستكبر وكان من الكافرين ، وقال انا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ).

كانت هذه اول معصية واول ذنب ارتكب على وجه الارض ، ومنه حدثت الكارثة والويلات على ابناء آدم حيث اخذ الشيطان يوسوس لهم ويبعدهم عن طاعة الله بعدما ابعده الله واخرجه من رحمته ، طلب منه ان يمهله الى يوم يبعثون :

( ... قال فاخرج منها فانك رجيم ، وان عليك اللعنة الى يوم الدين ، قال رب فانظرني الى يوم يبعثون ، قال فانك من المنظرين ، الى يوم الوقت المعلوم ، قال رب بما اغويتني لازينن لهم في الارض ولاغوينهم اجمعين ، الا عبادك منهم المخلصين ... ) (٢).

علما ان السجود لم يكن لشخص آدم ، بل كان لله عزوجل. وكذلك قول الملائكة لله تعالى : ( اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء .. ) لم يكن

__________________

١ ـ البحار : ٨٤/١٩٨.

٢ ـ الحجر : ٣٤ ـ ٤٠.


اعتراض على الله بل كان استفسار وسؤال عما خفي عليهم من وجه الحكمة.

وسبب امتناع الشيطان من السجود لآدم هو الكبر والغرور والتعصب الذي استولى عليه حيث اعتقد انه افضل من آدم ، ولا ينبغي له ان يسجد لآدم ، بل ينبغي ان يؤمر آدم بالسجود له.

وهكذا كفر ابليس وذهبت عبادته وطاعته لله تعالى ادراج الرياح نتيجة تكبره وغروره ، وهكذا تكون دائما نتيجة الكبر والغرور.

علة خلق آدم 7 وابليس « لع »

من سؤال الزنديق الذي سأل ابا عبد الله الصادق 7 عن مسائل كثيرة انه قال :

« فلأي علة خلق الله الخلق وهو غير محتاج اليهم ، ولا مضطر الى خلقهم ، ولا يليق به التعبث بنا؟

قال 7 : خلقهم لاظهار حكمته وانفاذ علمه وامضاء تدبيره.

قال : افمن حكمته ان جعل لنفسه عدوا ، وقد كان ولا عدو له ، فخلق كما زعمت « ابليس » فسلطه على عبيده يدعوهم الى خلاف طاعته ، ويامرهم بمعصيته ، ويصل الى قلوبهم فيوسوس اليهم ... فلِم سلط عدوه على عبيده ، وجعل له السبيل الى اغوائهم؟

قال 7 : ان هذا العدو الذي ذكرت لا تضره عداوته ، ولا تنفعه ولايته ، وعداوته لا تنقص من ملكه شيئا ، وولايته لا تزيد فيه شيئا ، وانما يتقي العدو اذا كان في قوة يضر وينفع ، ان هم بملك اخذه ، او بسلطان قهره.

فاما ابليس فعبد ، خلقه ليعبده ويوحده ، وقد علم حين خلقه ما هو الى ما يصير اليه ، فلم يزل يعبده مع ملائكته حتى امتحنه بسجود آدم ، فامتنع من ذلك


حسدا ، وشقاوة غلبت عليه فلعنه عند ذلك ، واخرجه عن صفوف الملائكة ، وانزله الى الارض ملعونا مدحورا فصار عدو آدم وولده بذلك السبب ، وماله من السلطنة على ولده الا الوسوسة ، والدعاء الى غير السبيل ، وقد اقر مع معصيته لربه بربوبيته.

قال : أفيصلح السجود لغير الله؟

قال 7 : لا.

قال : فكيف امر الله الملائكة بالسجود لآدم؟

فقال 7 : ان من سجد بأمر الله فقد سجد لله ، فكان سجوده لله اذا كان عن امر الله تعالى. (١) وذلك مثل سجود يعقوب وابنائه مقابل يوسف شكرا لله تعالى حيث قال عزوجل : ( ورفع ابويه على العرش وخروا له سجدا ... ) (٢) فكان سجودهم هذا شكرا لله عزوجل على حسن العاقبة ومعرفة الحقيقة وارجاع يوسف لابويه وحصوله على هذه المنزلة العظيمة من الله تعالى ، كذلك كان سجود الملائكة لآدم 7 سجودا بأمر من الله ، وسجود عبادة خالصة لله عزوجل.

المرحلة الثانية :

اسكانهما في الجنة :

بعد ان انتهت المرحلة الاولى من حياة آدم 7 وسجود الملائكة له وعصيان ابليس وامتناع من السجود ، تأتي المرحلة الثانية ، وهي اسكان آدم وحواء في الجنة ، حيث قال تعالى : ( وقلنا يا آدم اسكن انت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ... ).

__________________

١ ـ الاحتجاج : ج ٢ ص ٢١٧.

٢ ـ يوسف : ١٠٠.


عندما اسكنهما الجنة اباح لهما كل شيء فيها سوى شجرة واحدة نهاهما من الاقتراب منها والاكل منها ، وقيل : كانت شجرة « السنبلة ».

استغل الشيطان هذه الفرصة واخذ يوسوس لهما لانه اقسم ان يغويهما وذريتهما ، واخذ يعده ويمنيه بالمغريات مثل الخلود في الحياة ، وباتخاذه شكل الملائكة ، الى غير ذلك ، واقسم لهما انه من الناصحين لهما.

ولما سمع آدم كلام الشيطان اخذ يفكر في هذا الأمر ، وحيث انه لم يمتلك تجربة كافية عن الحياة ، ولم يكن قد وقع في حبائل الشيطان ، ولم يعرف انه كاذب ، كما انه لم يتصور انه يكذب بعد هذه الأيمان المغلّظة.

ولهذا وقع في حبائل الشيطان ، وانخدع بوسوسته للحصول على ماء الحياة الخالدة والملك الذي لا يبلى ، ولكنه لم يحصل على اي شيء من هذا ، بل سقط في ورطة المخالفة والعصيان للاوامر الالهية.

وبمجرد ان ذاق آدم وزوجته من تلك الشجرة الممنوعة تساقط عنهما ما كان عليهما من لباس وانكشفت سوءاتهما وجردا من لباس الجنة الذي هو لباس الكرامة الالهية لهما.

ولما رأى آدم وحواء نفسيهما عاريين ، استحيا وعمدا فورا الى ستر نفسيهما باوراق الجنة : ( وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ) (١).

وفي نفس الوقت جاءهما نداء من الله يقول : الم احذركما من الاقتراب والاكل من هذه الشجرة؟

الم اقل لكما : ان الشيطان عدو لكما؟ فلماذا تناسيتم امري ووقعتم في مثل هذه الازمة : ( قالا ربنا ظلمنا انفسنا وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن

__________________

١ ـ الاعراف : ٢٢.


من الخاسرين ) ولكن كان جواب الله لهم شديد ، حيث اخرجهما من جنته ومما كانا عليه من سعادة وهدوء البال : ( قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع الى حين ، قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون ) (١).

وعندما عرف آدم وحواء بكيد ابليس ، وخطته ومكره ، فكرا في تلافي الأمر ، وجبران ما صدر منها ، فسارعا الى التوبة ، فكان اول خطوة صدرت منهما هي : الاعتراف بظلمهما لنفسيهما امام الله حيث : ( قالا ربنا ظلمنا انفسنا وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين ).

التوبة والانابة الى الله تعالى واصلاح المفاسد هي : ان ينزل الانسان عن غروره ولجاجه ، ويعترف بخطأه اعترافا بنّاء ولا يعود عليه ولا يتكرر منه الخطا ، بل يسير في سبيل التكامل والصلاح.

ولا شك ان مخالفة اوامر الله ونواهيه ظلم يورده الانسان على نفسه ، ويبعده عن رحمة الله تعالى ، لان جميع الاوامر والنواهي الالهية يراد بها خير الانسان وسعادته في الدنيا والآخرة.

وآدم وحواء وان لم يذنبا ولم يرتكبا معصية ، ولكن نفس هذا الترك للاولى انزلهما من مقامهما الرفيع ، وان توبتهما الخالصة وان قبلت من جانب الله تعالى ، ولكنهما لم يستطيعا التخلص من الاثر الوضعي والنتيجة الطبيعية لعملهما ..

فقد امرا بمغادرة الجنة ، وشمل هذا الأمر الشيطان ايضا : ( قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ).

فهبط آدم وحواء الى الارض وحدث ما حدث والى يومنا هذا وسوف

__________________

١ ـ نفس المصدر : ٢٥.


يضل ابناء آدم يتصارعون مع ابليس وجنده الى ان تقوم الساعة ، والغلبة للذين آمنوا بالله وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر.

ويستفاد من آيات القرآن ومن قصة آدم وحواء ، ان آدم خلق للعيش على هذه الارض التي خلقها تعالى ، ولكن الله شاء ان يسكنه الجنة قبل ذلك ، ولعل مرحلة مكوث آدم في الجنة كانت مرحلة تحضيرية من اجل تاهيل آدم لتحمل مسؤوليات المستقبل والصعوبات الحياتية ومشاكلها التي سيواجهها وذريته في المستقبل.

وكذلك اراد الله تعالى ان يعطي درسا لابناء آدم بامكان العودة والتوبة الى الله بعد المعصية ، وان ابواب التوبة مفتوح ولا تسد الى الابد والى آخر لحظة من حياة الانسان ، بشرط ان يسارع للتوبة ويعاهد الله ان لا يعود لمثلها ، وعند ذلك يعود الى النعم الالهية والسعادة الابدية.

سؤال : هل ارتكب آدم 7 ذنبا عندما اكل من الشجرة وخالف كلام الله؟

الجواب : يوجد ثلاث اجوبة :

١ ـ ما ارتكبه آدم 7 كان ـ تركا للاولى ـ كما ذكرنا ، حيث كان لا يليق بنبي الله آدم 7 ان لا يأكل من تلك الشجرة ، وان كان الاكل منها غير محرم بل كان مكروها.

٢ ـ نهي الله عزوجل لآدم نهي ارشادي ، مثل قول الطبيب : لا تأكل الطعام الفلاني فتمرض ، والله سبحانه قال لآدم : لا تقرب هذه الشجرة فتخرج من الجنة ، وآدم 7 في اكله من الشجرة خالف نهيا ارشاديا.

٣ ـ الجنة التي مكث فيها آدم لَم تكن محلا للتكليف ولم تكن جنة الخلد ، بل كانت دورة اختبارية وتمهيدية لآدم 7 كي يهبط الى الارض ، وكان النهي ذا طابع اختياري.


ثم ان آدم 7 لم يكن يملك تجربة كافية عن الحياة ، ولم يكن قد وقع في حبائل الشيطان من قبل ، كما انه لم يصدق بان الشيطان يأتي بهذه الأيمان المغلظة والحلف كذبا .. « قاسمهما اني لكما لمن الناصحين ».

المرحلة الثالثة :

هبوطهما من الجنة الى الارض

نعم بعدما ازلهما الشيطان ووسوس لهما واخرجهما من الجنة حيث الراحة والهدوء والبعد عن الالم والتعب والعناء ، هبط الى الارض في جو مملوء بالتعب والمشقة والعناء.

وهنا اخذ آدم يفكر متألما لما صدر منه ، وكيفية تلافي الخطأ ، فاتجه بكل وجوده وجوارحه الى الله عزوجل وهو نادم اشد الندم ، وطلب منه التوبة والمغفرة لما صدر منه ، رافعا يديه متضرعا ومتوسلا الى الله ، هنا ادركته الرحمة الالهية ( فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه ، انه هو التواب الرحيم ) (١).

صحيح ان آدم 7 لم يرتكب محرما ، ولكن ترك الاولى يعتبر معصية منه ـ كما ذكرنا ـ ولذلك سرعان ما تدارك الموقف وعاد الى خالقه.

واما الكلمات التي تلقاها آدم 7 من ربه ما هي سوف نذكرها في محلها انشاء الله تعالى؟.

وقد روي ان آدم وحواء لما هبطا الى الارض ، نزل آدم على جبل الصفا بمكة ، ونزلت حواء على جبل المروة ، وذلك في رواية عن ابي عبد الله 7 قال :

سمي الصفا صفا لان المصطفى آدم هبط عليه ، فقطع للجبل اسم من اسم

__________________

١ ـ البقرة : ٣٧.


آدم 7 ، يقول الله عزوجل : ( ان الله اصطفى آدم ونوحا ) ، وهبطت حواء على المروة ، وانما سميت المروة مروة لان المرأة هبطت عليها ، فقطع للجبل اسم من اسم المرأة. (١)

وروي عنه 7 قال : رن ابليس اربع رنات : اولهن يوم لعن ، وحين اهبط الى الارض ، وحين بعث محمد 6 على حين فترة من الرسل ، وحين انزلت ام الكتاب.

ونخر نخرتين : حين اكل آدم من الشجرة ، وحين اهبط من الجنة (٢) وذلك لشدة الفرح ».

الكلمات التي تلقاها آدم

( فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه انه هو التواب الرحيم ) (٣).

ان الله عزوجل حين اهبط آدم وحواء الى الارض امره ان يحرث بيده من كده بعد نعيم الجنة.

فلبث يبكي ندما على ما صدر منه ، واخراجه من الجنة ، وكان يسجد لله تعالى تضرعا وتوسلا ويطول سجوده مدة من الزمن ، وكان يقول في سجوده ودعائه « لا اله الا انت سبحانك اني ظلمت نفسي فاغفر لي انك انت الغفور الرحيم ».

هذا وقد تعددت الآراء في تفسير الكلمات التي تلقاها آدم من ربه.

المعروف انها الكلمات المذكورة في سورة الاعراف ، آية ٢٣.

__________________

١ ـ علل الشرائع : ١٤٩ عنه البحار : ج ١١ ص ٢٠٥.

٢ ـ نفس المصدر.

٣ ـ البقرة : ٣٧.


( قالا ربنا ظلمنا انفسنا وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ) وقيل : « اللهم لا اله الا انت سبحانك وبحمدك ، رب اني ظلمت نفسي ، فاغفر لي انك خير الغافرين ».

« اني ظلمت نفسي فارحمني انك خير الراحمين ».

« اني ظلمت نفسي فتب علي انك انت التواب الرحيم ».

« نفس الدعاء يكرره ثلاث مرات مع اختلاف في الكلمات الاخيرة ».

وقد روي ايضا عن طريق اهل البيت : ، المقصود من « الكلمات » هي : اسماء افضل مخلوقات الله وهم : محمد 6 ، وعلي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين ـ عليهم افضل الصلاة السلام توسل آدم بهذه الكلمات والاسماء الطاهرة فتاب عليه.

هذه التفاسير الثلاثة لا تتعارض مع بعضها ، ولعل آدم تلقى من ربه كل هذه الكلمات ، ليشمله بعد ذلك لطف الله ورحمته.

لما استقر آدم في الارض وتلقا الكلمات من ربه ، وتاب عليه الله ، امره ان يحرث الارض بيده من كده مما نبتت الارض حلالا طيبا ...

تزويج آدم من حواء وكيفية بدء النسل :

اراد الله عزوجل ان ينتشر ابناء آدم 7 في الارض ويعمروها ، فأمر آدم 7 ان يواقع حواء ، فغشيها وولدت له هابيل ، وقابيل ، وشيث ، وغيرهم من الذكور والاناث.

وقد روي ان قابيل حسد اخيه هابيل وقربا قربانا الى الله فجاءت النار فاكلت قربان هابيل وتقبل قربانه فحسد قابيل هابيل وهدده بالقتل فقتله.

قال اليعقوبي في تاريخه : ان الله عزوجل انزل لهابيل حوراء من الجنة


فزوجه بها ، واخرج لقابيل جنية فزوجه بها ، فحسد قابيل اخاه على الحوراء ، فقال لهما آدم : قربا قربانا فقرب قابيل من تبن زرعه ، وقرب هابيل افضل كبش في غنمه لله ، فقبل الله قربان هابيل ولم يقبل قربان قابيل ، فازداد حسدا فزين له الشيطان قتل اخيه فشدخه بالحجارة حتى قتل (١).

وروي انه لما قتل قابيل هابيل ، تركه بالعراء لا يدري ما يصنع به ، فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل احدهما صاحبه ، ثم حفر له بمنقاره وبرجله ، ثم القاه في الحفيرة وواراه ، وقابيل ينظر اليه ، فتعلم منه ودفن اخاه.

ذكرنا ان الله بعث الى قابيل جنية والى هابيل حورية ، فكثر النسل منهما.

وروي ايضا : لما مضى من عمر آدم مائة وثلاثون سنة وذلك بعد قتل هابيل بخمس سنين ، ولدت له حواء ( شيثا ) ـ وتفسيره هبة الله ـ وكان وصي آدم وولي عهده ، وهو اول وصي على وجه الارض من الآدميين ، ثم ولد لآدم من بعد شيث ، يافث ، فلما ادركا واراد الله عزوجل ان يبلغ بالنسل ما ترون وان يحكم بتحريم الزواج من الاخوات على الاخوة ، انزل الله بعد العصر من يوم الخميس ، حوراء من الجنة اسمها ـ بركة ـ فأمر الله عزوجل آدم ان يزوجها من شيث ، فزوجها منه ، ثم انزل بعد العصر من الغد حوراء من الجنة اسمها ـ منزلة ـ او ـ نزلة ـ فأمر الله عزوجل آدم ان يزوجها من يافث فزوجها منه ، فولد لشيث غلام وولد ليافث جارية ، فأمر الله عزوجل آدم حين ادركا ان يزوج بنت يافث من ابن شيث ، ففعل ذلك فولد الصفوة من النبيين والمرسلين من نسلهما ....

ومن قال بزواج اخت قابيل من اخت هابيل ، او بزواج الاخوة من الاخوات فقد كذب ، ومعاذ الله ان يكون على ما قالوا ...

__________________

١ ـ تاريخ اليعقوبي : ج ١ ص ٢.


قال ابو عبد الله 7 عندما قيل له بزواج الاخوة من الاخوات قال : سبحان الله وتعالى عن ذلك علوا كبيرا يقول من قال هذا : بان الله عزوجل خلق صفوة خلقه واحباءه وانبياءه ورسله والمؤمنين والمؤمنات ، والمسلمين والمسلمات من حرام ، ولم يكن له من القدرة ما يخلقهم من حلال ، وقد اخذ ميثاقهم على الحلال الطهر الطاهر الطيب.

فو الله لقد تبينت ان بعض البهائم تنكرت له اخته ، فلما نزا عليها ونزل كشف له عنها ، فلما علم انها اخته ، اخرج غرموله ـ اي ذكره ـ ثم قبض عليه باسنانه حتى قطعه فخر ميتا ... الخ. (١)

الحيوان هكذا فعل ، فكيف الانسان في انسانيته وفضله وعلمه؟!

وفاة ادم 7 :

روي انه لما انقضت نبوة آدم 7 ودنى اجله ، اوحى الله اليه : قد انقضت نبوتك وفنيت ايامك ، فانظر الى اسم الله الاعظم وما علمتك من الاسماء كلها ، وما يحتاج الناس اليه ، فادفعه الى شيث ، وامره ان يقبله بكتمان وتقية من اخيه لئلا يقتله كما قتل هابيل ، فانه قد سبق في علمي ان لا اخلي الارض من عالم يعرف به ديني ويكون فيه نجاة لمن تولاه فيما بينه وبين العالم الذي امره باظهار ديني ، واخرج ذلك من ذرية شيث وعقبه ... (٢)

بعد ذلك دعى آدم 7 ابنه شيث واخبره بدنو اجله واوصاه بكل ما اوصاه الله تعالى ، وقلده الخلافة بأمر من الله واعلمه انه حجة الله بعده ، والخليفة في الارض ، والمؤدي حق الله الى اوصياءه ، واوصاه ان يخبئ الوصية في محل آمن

__________________

١ ـ البحار : ج ١١ ص ٢٢٣.

٢ ـ المسعودي في اثبات الوصية ، عنه البحار : ج ١١ ص ٢٢٨.


ولا يعلم به اخيه قابيل.

فخرج شيث فلقى جماعة من الملائكة ، فابلغهم بما امره آدم ، فقال جبرئيل : يا شيث ، آجرك الله في ابيك فقد قضى نحبه ، فاهبطنا لنحضر الصلاة على ابيك.

ذهب شيث مع الملائكة فوجد اباه قد مات ، فغسله مع جبرئيل 7 وصلى عليه ودفنه.

وروي ان آدم توفي يوم الجمعة لست خلون من نيسان ، في الساعة التي كان فيها خلقه ، وكان عمر آدم 7 تسع مائة وثلاثين سنة.

اختلفت الاقوال في قبره : فمنهم من قال : ان قبره بمنى وفي مسجد الخيف ، ومنهم قال : في كهف في جبل ابي قبيس ، وقيل : في النجف بجوار الامام علي 7 ، وقيل : غير ذلك ، والله اعلم بحقيقة الامر.

وكذلك اختلفوا في عمره الشريف ، حيث قالوا : مرض آدم 7 عشرة ايام بالحمى ، وتوفي يوم الجمعة لاحدى عشر يوما خلت من محرم ، ودفن في غار في جل ابي قبيس ، ووجهه الى الكعبة ، وان عمره 7 من وقت نفخ فيه الروح الى وفاته : الف سنة وثلاثين ، وان حواء 3 ما بقيت بعده الا سنة ثم مرضت خمسة عشر يوما ثم توفيت ودفنت الى جنب آدم 8. (١)

حكمه وموعظه 7 :

خير خلق الله :

روي انه اجتمع ولد آدم 7 في بيت فتشاجروا ، فقال بعضهم : خير خلق

__________________

١ ـ سعد السعود : ٣٧ عنه البحار : ج ١١ ص ٢٦٩.


الله ابونا آدم ، وقال بعضهم : الملائكة المقربون ، وقال بعضهم : حملة العرش ، اذ دخل عليهم هبة الله فقال بعضهم : لقد جاءكم من يفرج عنكم ، فسلم ثم جلس فقال : في اي شيء كنتم؟ فقالوا : كنا نفكر في خير خلق الله فاخبروه ، فقال : اصبروا لي قليلا حتى ارجع اليكم ، فاتى اباه فقال : يا ابت اني دخلت على اخوتي وهم يتشاجرون في خير خلق الله ، فسألوني فلم يكن عندي ما اخبرهم ، فقلت : اصبروا حتى ارجع اليكم.

فقال آدم 7 : يا بني وقفت بين يدي الله جل جلاله فنظرت الى سطر على وجه العرش مكتوب : بسم الله الرحمن الرحيم محمد وآل محمد خير من برأ الله. « اي محمد وآل محمد : خير خلق الله » (١).

شر خلق الله :

روي عن علي بن محمد بن موسى الدقاق رضي الله عنه عن رسول الله 6 انه قال : « من شر خلق الله خمسة : ابليس ، وابن آدم الذي قتل اخاه ، وفرعون ذو الاوتاد ، ورجل من بني اسرائيل ردهم عن دينهم ، ورجل من هذه الامة يبايع على كفر عند باب لد » (٢) قال : ثم قال : اني لما رأيت معاوية يبايع عند باب لد ، ذكرت قول رسول الله 6 فلحقت بعلي 7 فكنت معه. (٣)

العلم كله في اربع كلمات

اوحى الله تعالى الى آدم 7 : اني اجمع لك العلم كله في اربع كلمات :

__________________

١ ـ البحار : ج ١١ ص ١١٤.

٢ ـ لد : قرية قرب بيت المقدس من نواحي فلسطين.

٣ ـ الخصال : ج ١ ص ٣١٩ باب الخمسة.


واحدة لي ، وواحدة لك ، وواحدة فيما بيني وبينك ، وواحدة فيما بينك وبين الناس.

فاما التي لي : فتعبدني لا تشرك بي شيئا.

واما التي لك : فاجزيك بعملك احوج ما تكون اليه.

واما التي فيما بيني وبينك : فعليك الدعاء وعلي الاجابة.

واما التي فيما بينك وبين الناس : فترضى للناس ما ترضى لنفسك. (١)

فضل الركوع لله :

عن ابي عبد الله 7 قال :

لما اعطى الله تبارك وتعالى ابليس ما اعطاه من القوة ، قال آدم : يا رب سلطت ابليس على ولدي ، واجريته فيهم مجرى الدم في العروق ، واعطيته ما اعطيته ، فما لي ولولدي؟ فقال : لك ولولدك السيئة بواحدة والحسنة بعشرة امثالها ، قال : يا رب زدني ، قال : التوبة مبسوطة الى ان تبلغ النفس الحلقوم ، قال : يا رب زدني ، قال : اغفر ولا ابالي ، قال : حسبي.

قال : قلت : جعلت فداك بماذا استوجب ابليس من الله ان اعطاه ما اعطاه؟ فقال : بشيء كان منه ، شكره لله عليه ، قلت : وما كان منه جعلت فداك؟ قال : ركعتين ركعهما في السماء في اربعة آلاف سنة. (٢)

فضل السجود لله :

عن ابي جعفر صلوات الله عليه قال : قال رسول الله 6 : ان الله عزوجل

__________________

١ ـ نفس المصدر.

٢ ـ تفسير القمي : ٢٠٣٥.


حين اهبط آدم 7 من الجنة امره ان يحرث بيده ، من كدها بعد نعيم الجنة ، فجعل يجأر (١) ويبكي على الجنة مائتي سنة ، ثم انه سجد لله سجدة ، فلم يرفع رأسه ثلاثة ايام ولياليها. (٢)

الانوار الخمسة :

قال الامام الحسين 7 : ... ان الله تعالى لما خلق آدم وسواه وعلمه اسماء كل شيء وعرضهم على الملائكة ، جعل محمدا وعليا وفاطمة والحسن والحسين اشباحا خمسة في ظهر آدم ، وكانت انوارهم تضيء في الآفاق من السموات والحجب والجنان والكرسي والعرش ، فأمر الله الملائكة بالسجدة لآدم تعظيما له ، انه قد فضله بان جعله وعاء لتلك الاشباح التي قد عم انوارها في الآفاق ، فسجدوا الا ابليس ابى ان يتواضع لجلال عظمة الله وان يتواضع لانوارنا اهل البيت وقد تواضعت لها الملائكة كلها فاستكبر وترفع وكان بإبائه ذلك وتكبره من الكافرين. (٣)

عن الباقر 7 قال : ان آدم لما بنى الكعبة وطاف بها فقال : « اللهم ان لكل عامل اجرا ، اللهم واني قد عملت ، فقيل له : سل يا آدم ، فقال : اللهم اغفر لي ذنبي ، فقيل له : قد غفر لك يا آدم ، فقال : ولذريتي من بعدي ، فقيل له : يا آدم من باء (٤) منهم بذنبه هاهنا كما بؤت ، غفرت له. (٥)

__________________

١ ـ جأر الى الله : التضرع والدعاء ورفع الصوت الى الله تعالى.

٢ ـ البحار : ج ١١ ص ٢١٠ عنه قصص الانبياء ص ٤٩.

٣ ـ البحار : ج ١١ ص ١٥٠.

٤ ـ باء بذنبه : اي رجع الى الله واعترف بذنبه.

٥ ـ نفس المصدر ص ١٧٩.


« بمعنى : من حج بيت الله الحرام او اعتمر وتاب الى الله تعالى من ذنوبه وخطاياه ، تاب الله عليه وخرج من ذنوبه كمن ولدته امه وليس عليه ذنب ». كما ذكر في الاحاديث المعتبرة ، روي عن امير المؤمنين 7 قال : ... وحج البيت والعمرة ، فانهما ينفيان الفقر ويكفران الذنب ، ويوجبان الجنة ». (١)

قلة الكلام

وروي ان آدم 7 لما كثر ولده وولد ولده كانوا يتحدثون عنده وهو ساكت ، فقالوا : يا ابة مالك لا تتكلم؟ قال :

يا بني ان الله جل جلاله لما اخرجني من جواره عهد الي وقال : اقل كلامك ترجع الى جواري. (٢)

« بمعنى انه قلة الكلام تقربك من الله تعالى ، وكثرة الكلام بدون فائدة والثرثرة تبعدك عن الله تعالى ، وقد قيل : خير الكلام ما قل ودل ».

روي انه كان جبرئيل 7 يتردد على آدم دائما ، وكان اذا لم يأته جبرئيل 7 اغتم وحزن ، فشكا ذلك الى جبرئيل فقال : اذا وجدت شيئا من الحزن فقل : لا حول ولا قوة الا بالله.

قال آدم 7 بعد ان رفع رأسه من السجود لله تعالى :

اي رب الم تخلقني؟ فقال الله : قد فعلت ، فقال : الم تنفخ في من روحك؟ قال : قد فعلت ، قال : الم تسكني جنتك؟ قال : قد فعلت ، قال : الم تسبق لي رحمتك غضبك؟ قال الله : قد فعلت ، فهل صبرت او شكرت؟ قال آدم : ( لا اله الا انت سبحانك اني ظلمت نفسي فاغفر لي انك انت الغفور الرحيم )

__________________

١ ـ ميزان الحكمة : ج ٢ ص ٢٦٨.

٢ ـ نفس المصدر.


فرحمه الله بذلك وتاب عليه انه هو التواب الرحيم (١).

السيئة بواحدة والحسنة بعشر :

وقال آدم 7 لربه لما هبط من الجنة الى الارض :

رب هذا الذي جعلت بيني وبينه العداوة لم اقو عليه وانا في الجنة ، وان لم تعني عليه لم اقو عليه.

فقال الله : السيئة بالسيئة والحسنة بعشر امثالها ، الى سبع مائة ، قال : رب زدني ، قال : لا يولد لك ولد الا جعلت معه ملكا او ملكين يحفظانه ، قال رب زدني ، قال : التوبة مفروضة في الجسد مادام فيها الروح ، قال : رب زدني ، قال : اغفر الذنوب ولا ابالي ، قال : حسبي.

قال : فقال ابليس : رب هذا الذي كرمت علي وفضلته وان لم تفضل علي لم اقو عليه ، قال : لا يولد ولدا الا ولد لك ولدان ، قال : رب زدني ، قال : تجري منه مجرى الدم في العروق ، قال : رب زدني ، قال تتخذ انت وذريتك في صدورهم مساكن ، قال : رب زدني ، قال : تعدهم وتمنيهم وما يعدهم الشيطان الا غرورا. (٢)

اول من حرث الارض وزرع :

عن ابي عبد الله 7 قال : لما هبط بآدم الى الارض احتاج الى الطعام والشراب ، فشكا ذلك الى جبرئيل فقال له جبرئيل : يا آدم كن حراثا ، قال : فعلمني دعاء ، قال : قل : اللهم اكفني مؤونة الدنيا وكل هول دون الجنة ، والبسني

__________________

١ ـ ٢ ـ تفسير العياشي ، عنه البحار : ج ١١ ص ٢١٢.


العافية حتى تهنئني المعيشة. (١)

اول من عمل بالتقية :

روي انه بعد وفاة آدم 7 جاء قابيل الى اخيه هبة الله 7 ، فقال : ان ابي قد اعطاك العلم الذي كان عنده ، وانا كنت اكبر منك واحق به منك ، ولكن قتلت ابنه فغضب عليّ فاترك بذلك العلم عليّ ، وانك والله ان ذكرت شيئا مما عندك من العلم الذي ورثك ابوك لتتكبر به عليّ ولتفتخر عليّ لاقتلنك كما قتلت اخاك.

فاستخفى هبة الله بما عنده من العلم لينقضي دولة قابيل ، فحدّث هبة الله ولده بالميثاق سرا ، فكانوا يتوارثونها عالم بعد عالم ، وكانوا يفتحون الوصية كل سنة يوما فيحدثون ان اباهم قد بشرهم بنوح 7.

وعلى هذا كانت التقية والوصية من الامور المهمة ومن اجل الحفاظ على الدين الاصيل والرسالة السماوية الحقة ، ولنا في ابن آدم اسوة حسنة ، فجرت السنة بالتقية والوصية.

اول قبر :

روي انه لما صمم قابيل على قتل اخيه هابيل ( فطوعت له نفسه قتل اخيه ) فلم يدري كيف يقتله حتى جاء ابليس فعلمه فقال : ضع رأسه بين حجرين ثم اشدخه ، فلما قتله لم يدر ما يصنع به ، فجاء غرابان فاقبلا يتضاربان حتى اقتتلا فقتل احدهما صاحبه ، ثم حفر الذي بقي الارض بمخالبه ودفن فيه صاحبه ، قال قابيل : ( يا ويلتي اعجزت ان اكون مثل هذا الغراب فاواري

__________________

١ ـ فروع الكافي ٢ : ٢١٦.


سوأة اخي فاصبح من النادمين ). فحفر له حفيرة ودفن فيها ، فصارت سنة يدفنون الموتى ، وكان اول قبر حفر على وجه الارض.

اول من عبد النار :

عن الصادق 7 قال : ان قابيل لما رأى النار قد قبلت قربان هابيل قال له ابليس : ان هابيل كان يعبد تلك النار ، فقال قابيل : لا اعبد النار التي عبدها هابيل ، ولكن اعبد نارا اخرى واقرب قربانا لها فتقبل قرباني ، فبنى بيوت النار فقرب لها ولم يكن له علم بربه عزوجل ولم يرث منه ولده الا عبادة النيران. (١)

« من هنا كان السبب في عبادة النار ، واول من اسس عبادتها هو قابيل بما وسوس له الشيطان وعلمه ذلك ».

وكان قابيل اول من عبد النار على وجه الارض ومن بعده نسله الذي بقي من عقبه.

اول كتاب كتب :

وروي انه لما حضرت آدم 7 الوفاة اتاه ملك الموت فقال آدم : يا ملك الموت ما جاء بك؟ قال : جئت لاقبض روحك ، قال : قد بقي من عمري ستون سنة ، فقال : انك جعلتها لابنك داود ، قال : ونزل عليه جبرئيل واخرج له الكتاب ، فقال ابو عبد الله 7 : فمن اجل ذلك اذا اخرج الصك على المديون ذل المديون ، فقبض روحه.

« نستفيد من هذا قوله تعالى ( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده ام

__________________

١ ـ علل الشرائع : ٢٠١٣.


الكتاب ) (١) وكذلك في قوله تعالى : ( يا ايها الذين آمنوا اذا تداينتم بدين الى اجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ... ) (٢).

وكان هذا اول كتاب كتب في الارض.

اول زواج واول مهر :

ان الله تعالى لما خلق حواء بعد آدم 8 ، ونظر اليها آدم استأنس بها.

فقال آدم عند ذلك يا رب ما هذا الخلق الحسن الذي قد آنستني قربه والنظر اليه؟ فقال الله تعالى : يا آدم هذه أمتي حواء ، افتحب ان تكون معك فتؤنسك وتحدثك وتكون تابعة لامرك؟

فقال : نعم يا رب لك علي بذلك الحمد والشكر ما بقيت.

ـ قال الله تعالى : فاخطبها الي ، فانها أمتي وقد تصلح لك زوجة.

ـ فقال : يا رب اني اخطبها اليك فما رضاك لذلك لي؟

فقال : مرضاتي ان تعلمها معالم ديني.

فقال : ذلك لك يا رب ان شئت ذلك لي.

فقال : فقد شئت ذلك وقد زوجتكها فضمها اليك.

فقال لها آدم الي فاقبلي ، فقالت : بل انت.

فامر الله آدم ان يقوم اليها فقام ، ولولا ذلك لكن النساء يذهبن الى الرجال (٣).

يظهر من هذا ان آدم 7 خطب حواء من الله تعالى وجعل مهرها تعليمها

__________________

١ ـ الرعد : ٣٩.

٢ ـ البقرة : ٢٨٢.

٣ ـ قصص الانبياء للراوندي : ص ٥٨.


الاحكام ، وبعد ذلك اجريت صيغة الزواج وتم الزواج المبارك ، وكان هذا اول زواج واول مهر حدث على وجه الارض.

ذرية آدم من شيث 7 :

روي انه كان الامام 7 جالسا في الحرم وحوله عصابة من اوليائه اذ اقبل طاووس اليماني فسلم وجلس بينهم ثم قال :

اتاذن لي في السؤال؟ فقال الباقر 7 : قد آذناك فسل ، قال : اخبرني بيوم هلك ثلث الناس ، فقال : وهمت يا شيخ اردت ان تقول ربع الناس ، وذلك يوم قتل هابيل ، كانوا اربعة : قابيل وهابيل وآدم وحواء : فهلك ربعهم ، فقال : اصبتَ ووهمتُ انا ، فايهما كان الاب للناس القاتل او المقتول؟ قال 7 : لا واحد منهما ، بل ابوهم شيث بن آدم 7. (١)

« يستدل من هذا بان ذرية ابناء آدم ونسله من شيث بن آدم الابن المطيع والمؤمن لآدم ، لان هابيل لم يعقب له وقابيل كذلك لانه مجرم وقاتل ، ولو كان النسل من قابيل لاصبحوا قتلة .. وكذلك لو كان قابيل تزوج اخته ـ كما يدعي بعض الجهلة ـ لكان اولادهم اولاد زنا ، فتأمل ».

اذا جاء الاجل :

روي عن ابي عبد الله 7 قال : ان آدم 7 اشتكى فاشتهى فاكهة ، فانطلق هبة الله يطلب له فاكهة ، فاستقبل جبرئيل فقال له : اين تذهب يا هبة الله ، فقال : ان ابي آدم يشتكي وانه اشتهى فاكهة ، قال له : فارجع فان الله عزوجل قد قبض

__________________

١ ـ البحار : ج ١١ ص ٢٢٩.


روحه ، قال : فرجع فوجده قد قبضه الله ، فغسلته الملائكة ، ثم وضع وامر هبة الله ان يتقدم ويصلي عليه ، فتقدم فصلى عليه والملائكة خلفه ، واوحى الله اليه ان يكبر عليه خمسا ، وان يسله « اي انتزعه واخرجه برفق » وان يسوي قبره ، ثم قال : هكذا فاصنعوا بموتاكم (١).

وعلى هذا قال الله تعالى : ( اذا جاء اجلهم فلا يستاخرون ساعة ولا يستقدمون ) (٢) وكان هذا اول صلاة على ميت في الارض وتغسيل الميت وتكبيرات الخمسة ....

اول وصية كتبت :

روي انه لما مرض آدم 7 مرض الموت ، دعا ابنه شيثا (٣) وقال له : يا بني ان اجلي قد حضر وانا مريض ، وان ربي قد انزل من سلطانه ما قد ترى ، وقد عهد الي فيما قد عهد ان اجعلك وصيي وخازن ما استودعني ، وهذا كتاب الوصية تحت راسي وفيه اثر العلم واسم الله الاكبر ، فاذا انا مت فخذ الصحيفة واياك ان يطلع عليها احد ، ... وفيها جميع ما تحتاج اليه من امور دينك ودنياك ....

وكانت هذه اول وصية وكتاب يكتب على الارض وعلى هذا جرت السنة في كتابة الانسان وصيته قبل ان يموت ليعلم اهله بما يريده بعد موته ...

__________________

١ ـ الخصال : ج ١ ص ١٣٥.

٢ ـ يونس : ٤٩.

٣ ـ لما ولد لآدم مولود سماه ـ شيث ـ فاوصى الله تعالى اليه : يا آدم انما هذا الغلام هبة مني اليك فسمه ـ هبة الله ـ فسماه آدم به ».


لا تخلو الارض من حجة لله :

روي انه لما حضرت الوفاء لآدم 7 جمع ولده من الرجال والنساء واخبرهم بوفاته ، وجعل خير ولده وصيا من بعده كما امره الله تعالى بذلك وهو ، هبة الله « شيث » فقال له : انظر اذا انا مت يا هبة الله فاغسلني وكفني وصلي علي وادخلني حفرتي.

واذا حضرت وفاتك واحسست بذلك من نفسك فالتمس خير ولدك ، واكثرهم لك صحبة وافضلهم ، فاوصي اليه بما اوصيت به اليك ، ولا تدع الارض بغير عالم منا اهل البيت ، يا بني ان الله تعالى اهبطني الى الارض وجعلني خليفة فيها وحجة له على خلقه ، وجعلتك حجة الله في ارضه من بعدي ، فلا تخرجن من الدنيا حتى تجعل لله حجة على خلقه ووصيا من بعدك ... (١)

امر الله عزوجل نبيه آدم 7 ان يجعل من بعده وصيا وحجة ولا يترك الارض من غير حجة لله على الناس ، وكذلك اوصى آدم 7 لولده بهذا وهكذا من نبي الى نبي ومن وصي الى وصي ... الى ان وصلت الى النبي الخاتم محمد بن عبد الله 6 ، فهل من المعقول ان يخرج النبي 6 من الدنيا ولا يوصي من بعده حجة ووصيا ، ويخالف امر الله تعالى ، ويترك الارض ومن عليها بلا حجة ...؟! فتامل.

قبل خلق آدم 7 :

كثيرا ما يطرح هذا السؤال ، هل يوجد خلق قبل خلق آدم؟ وهل خلق الله عزوجل مخلوقات قبل آدم؟ ، وهل قول الملائكة : ( ... أتجعل فيها من يفسد

__________________

١ ـ البحار : ج ١١ ص ٢٦٥.


فيها ويسفك الدماء ... ) (١) دليل على ان قبل آدم كانت مخلوقات تفسد في الارض على هذا وغيره من الاستفهامات يجيبنا باب علم النبي امير المؤمنين عن ابنه الصادق الامين عليهم افضل الصلاة والسلام عندما سأله 7 :

هل كان في الارض خلق من خلق الله تعالى يعبدون الله قبل آدم 7 وذريته؟

فقال 7 : نعم ، قد كان في السماوات والارض خلق من خلق الله يقدسون الله ، ويسبحونه ، ويعظمونه بالليل والنهار لا يفترون.

وان الله عزوجل لما خلق الارضين خلقهما قبل السماوات.

ثم خلق الملائكة روحانيين لهم اجنحة يطيرون بها حيث يشاء الله.

ثم خلق عزوجل في الارض الجن روحانيين لهم اجنحة فخلقهم دون خلق الملائكة ، فاسكنهم فيما بين اطباق الارضين السبع وفوقهن يقدسون الله الليل والنهار لا يفترون.

ثم خلق خلقا دونهم ، لهم ابدان وارواح بغير اجنحة ، يأكلون ويشربون نسناس « اي سماهم بالنسناس » ، اشباه خلقهم وليسوا بانس ، واسكنهم اوساط الارض على ظهر الارض مع الجن ، يقدسون الله بالليل والنهار لا يفترون.

الى ان قال 7 : ثم ان طائفة من الجن والنسناس ، الذين خلقهم الله واسكنهم اوساط الارض مع الجن تمردوا وعتوا عن امر الله ، فمرحوا وبغوا في الارض بغير الحق ، وعلا بعضهم على بعض في العتو على الله تعالى ، حتى سفكوا الدماء فيما بينهم ، واظهروا الفساد ، وجحدوا ربوبية الله تعالى.

الى ان قال 7 : ثم خلق الله تعالى خلقا على خلاف خلق الملائكة وعلى

__________________

١ ـ البقرة : ٣٠.


خلاف خلق الجن ، وعلى خلاف خلق الشياطين وخلاف خلق النسناس ، يدبون كما يدب الهوام في الارض ، يشربون ويأكلون كما تأكل الانعام من مراعي الارض.

الى ان قال 7 : ثم ان الله احب ان يخلق خلقا ، وذلك بعدما مضى من الجن والنسناس سبعة آلاف سنة ، فلما كان من خلق الله ان يخلق آدم للذي اراد من التدبير والتقدير فيما هو مكونه من السماوات والارضين ، كشف عن اطباق السماوات ... الخ. (١)

اقول والله العالم : عندما اراد الله ان يُعرف وتُعرف قدرته ، كشف للملائكة اطباق السماوات والارض وقال لهم : انظروا الى اهل الارض من خلقي ، فاطلعت الملائكة ورأوا ما يعملون من المعاصي وسفك الدماء والفساد في الارض ، غضبوا لله واسفوا على اهل الارض فقالوا : ( سبحانك ربنا اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ). فاجابهم الله تعالى وقال لهم : ( اني اعلم مالا تعلمون ).

__________________

١ ـ قصص الانبياء للراوندي : طبع مشهد سنة ١٤٠٩هـ ص ٣١.



( ٧ )

حِكَم ومواعظ من حياة

النبي ادريس 7



قصة النبي ادريس 7

قال الله تعالى :

( واذكر في الكتاب ادريس انه كان صديقا نبيا ، ورفعناه مكانا عليا ) (١).

صفات النبي ادريس 7 :

النبي ادريس 7 هو احد انبياء الله المعروفين بالانبياء « السريانيين » وذلك في قول رسول الله 6 لابي ذر : يا ابا ذر اربعة من الانبياء ـ سريانيون : آدم وشيث واخنوخ ـ « وهو ادريس 7 » ـ ونوح 7 ، واربعة من الانبياء من العرب ! هود ، وصالح ، وشعيب ، ونبيك محمد 6 ، واول نبي من بني اسرائيل : موسى ، وآخرهم عيسى ، وهم ستمائة نبي ... (٢)

نقل كثير من المفسرين ، ان ادريس كان اسمه في التوراة « اخنوخ » وفي العربية « ادريس » ، وهو جد سيدنا نوح 7 ، وادريس 7 كان اول من كتب بالقلم ودرس ودرّس ، ولذلك سمي ـ ادريس فقد كان بالاضافة الى النبوة عالما بالنجوم والحساب ، والهيئة ، وكان اول من علّم

__________________

١ ـ مريم : ٥٦ ـ ٥٧.

٢ ـ الخصال : ٥٢٤.


البشر خياطة الملابس ، وكان ذلك من معاجزه 7 ، واول من استخرج الحكمة وعلم النجوم ، فان الله عزوجل افهمه سر الفلك وتركيبه. ونقط اجتماع الكواكب فيه ، وافهمه عدد السنين والحساب ، وكان 7 رجلا طويلا ، ضخم البطن ، عظيم الصدر ، قليل الصوت ، رقيق المنطق ، قريب الخطى اذا مشى.

وكان كثير التصديق في امور الدين وذكره القرآن الكريم « انه كان صديقا » كان صادقا مبالغا في الصدق فيما يخبر عن الله تعالى.

ومن الصفات التي انفرد بها عن باقي الانبياء انه قبض الله روحه بين السماء الرابعة والخامسة ، وذلك في قوله تعالى : ( ورفعناه مكانا عليا ) ـ كما سيأتي ذلك.

مولد النبي ادريس 7 :

اختلف الحكماء في مولده ومنشأه وعمن اخذ العلم قبل النبوة. قال البعض : ولد النبي ادريس بمصر وسموه « هرمس الهرامة » ومولده بمنف ـ وقالوا : ان معلمه اسمه « اغثا ذيمون المصري » وانه احد الانبياء اليونايين والمصريين.

وقالت فرقة اخرى : ان ادريس ولد ببابل ونشأ بها ، وانه اخذ في اول عمره بعلم شيث بن آدم وهو جد جد ابيه لان ادريس : ابن يارد ، بن مهلائيل ، بن قينان ، بن انونس ، بن شيث ، ـ « وقال الشهرستاني : ان معلمه اغثا ذيمون هو النبي شيث ».

ولما كبر ادريس آتاه الله النبوة ، فدعى بني آدم الى الايمان وعبادة الله والعمل بشريعة آدم وشيث : ، فاطاعه القليل منهم وخالفه جلهم.


عبادته لله قبل نبوته :

كان ادريس 7 يفكر في عظمة الله وقدرته ، وكان يقول : ان لهذه السماوات والارض والخلق العظيم والشمس والقمر والنجوم والسحاب والمطر لابد ان يكون لها ربا يدبرها ويصلحها بقدرته فكيف لي بهذا الرب فاعبده حق عبادته.

فجمع طائفة من اصحابه وقومه ، فجعل يعظهم ويذكرهم بعظمة الخالق لهذه الكائنات ، ويدعوهم الى عبادة خالق هذه الاشياء ، فكان يجيبه واحدا بعد الآخر ويؤمن بقوله حتى صاروا سبعة ، ثم صاروا سبعين ، ثم سبعمائة ، ثم بلغوا الفا ، فلما بلغوا الفا قال لهم : تعالوا نختار من خيارنا مائة رجل ، فاختاروا مائة رجل ، واختاروا من المائة سبعين رجلا ، ثم اختاروا من السبعين عشرة ، ثم اختاروا من العشرة سبعة.

ثم قال لهم : تعالوا فليدع هؤلاء السبعة وليؤمّن بقيتنا فلعل هذا الرب جل جلاله يدلنا على عبادته.

فوضعوا ايديهم على الارض ودعوا طويلا فلم يتبين لهم شيء ، ثم رفعوا ايديهم الى السماء فأوحى الله عزوجل الى ادريس 7 ونبأه ودله على عبادته ، ومن آمن معه ، فلم يزالوا يعبدون الله عزوجل لا يشركون به شيئا.

وبعدما توفى ادريس انقرض اكثر من تابعه على دينه الا القليل منهم ، ثم اختلفوا بعد ذلك واحدثوا الاحداث وابدعوا البدع حتى كان زمان نوح 7. (١)

__________________

١ ـ علل الشرائع : ٣٧.


بدء نبوته 7 :

من الروايات الواردة في قصة نبوة ادريس 7 اخترنا هذه الرواية المنقولة عن ابراهيم بن ابي البلاد عن ابيه عن الامام الباقر 7 ـ والحديث طويل اختصرناه فيما يلي :

انه كان بدء نبوة ادريس 7 انه كان في زمانه ملك جبار ، بينما كان ذات يوم في بعض نزهة ، فمر بارض خضراء نضرة اعجبته فأحب ان يمتلكها ، وكانت الارض لعبد مؤمن فأمر باحضاره وساومه فيها ليشتريها فلم يبعها ولم يرض به.

فرجع الملك الى بلده وهو مغموم متحير في امره ، فاستشار امرأة له كان يستشيرها في اموره المهمة ، فأشارت عليه ، ان يقيم عليه شهودا انه خرج عن دين الملك ، فيقتله ويملك ارضه ففعل ما اشارت اليه وغصب الارض.

فأوحى الله الى ادريس ان يأتي الملك ويقول له عنه :

اما رضيت ان قتلت عبدي المؤمن ظلما حتى استخلصت ارضه خالصة لك ، واحوجت عياله من بعده واجعتهم؟

اما وعزتي لانتقمن له منك في الآجل ، ولاسلبن ملكك في العاجل ، ولاخربن مدينتك ، ولاذلن عزك ، ولاطعمن الكلاب لحم امرأتك ، فقد عزك يا مبتلي حلمي عنك.

فاتاه ادريس برسالة الله وبلغه ذلك في ملأ من اصحابه ، فاخرجه الملك من مجلسه ، ثم ارسل اليه باشارة من امرأته قوما يقتلونه ، فانتبه لذلك بعض اصحاب ادريس واشاروا عليه بالخروج والهجرة.

فخرج النبي ادريس مع اصحابه ، ثم ناجى ربه وشكى اليه ما لقيه من الملك في رسالته اليه ، فأوحى الله اليه بالخروج من القرية ، وانه سينفذ في الملك


امره ويصدق فيه قوله.

عندما خرج ادريس من القرية طلب من الله عزوجل وقال :

يا رب ان لي اليك حاجة ، قال الله : سلها تعطها ، قال : اسألك ان لا تمطر الماء على اهل هذه القرية وما حولها حتى اسألك ذلك ، قال الله عزوجل : قد اعطيتك ما سألت ولن امطر السماء عليهم حتى تسألني.

فاخبر ادريس بذلك اصحابه من المؤمنين وامرهم بالخروج منها فخرجوا وتفرقوا في البلاد وكانوا عشرين رجلا.

وشاع خبر ادريس في القرى بما سأل الله ، وخرج هو متنحيا الى كهف في جبل شاهق يعبد الله فيه ويصوم النهار ، وكان يأتيه ملك بفطوره عند كل مساء.

وانفذ الله في الملك وامراته ومدينته ما اوحاه الى ادريس ، وقتله واخرب مدينته ، واطعم الكلاب لحم امرأته غضبا للمؤمن ـ الذي قتله وغصب ارضه ـ ، وبعد ذلك ظهر في المدينة جبار آخر عاص.

امسكت السماء عنهم امطارها عشرين سنة حتى جهدوا واشتدت حالهم ، فلما بلغ بهم الجهد ذكر بعضهم لبعض ان الذي لقوه من الجهد والمشقة والجوع انما هو من دعاء ادريس عليهم ان لا يمطر علينا السماء حتى يساله هو ، وقد خفى علينا ادريس ولا نعلم بموضعه واين هو.

وقالوا : الله ارحم بنا منه ، فاجمع امرهم على ان يتوبوا الى الله ويدعوه ويفزعوا اليه ويساله ان يمطر السماء عليهم فهو ارحم بهم منه ، فاجتمعوا على الدعاء والتضرع.

بعد ان رأى الله تعالى توبتهم وندمهم وبكائهم ، اوحى الى ادريس ان القوم عجوا الي بالتوبة والاستغفار والبكاء والتضرع ، وقد رحمتهم وما يمنعني من امطارهم الا مناضرتك فيما سالتني ان لا امطر السماء عليهم حتى تسألني


فأسألني حتى اغيثهم ، قال ادريس : اللهم اني لا اسألك.

فأوحى الله الى المَلِك الذي كان يأتيه بالطعام ان يمسك عنه ، فامسك عنه ثلاثة ايام حتى بلغ به الجوع.

فنادى : اللهم حبست عني رزقي من قبل ان تقبض روحي ، فأوحى الله اليه : يا ادريس جزعت ان حبست عنك طعامك ثلاثة ايام ، ولم تجزع من جوع اهل قريتك وجهدهم منذ عشرين سنة ، ثم سألتك ان تسألني ان امطر عليهم فبخلت ولم تسأل ، فادبتك بالجوع ، فاهبط من موضعك واطلب المعاش لنفسك فقد وكلتك في طلبه الى حيلتك.

فهبط ادريس الى قرية هناك ونظر الى بيت يصعد منه دخان ـ وكان جائعا لم يأكل منذ ثلاث ايام ـ فهجم عليهم واذا عجوز كبيرة ترفق فرصتين لها على مقلاة فسالها ان تطعمه فقد بلع به جهد الجوع.

فقالت : يا عبد الله ما تركت لنا دعوة ادريس فضلا نطعمه احدا ـ وحلفت انها لا تملك غيره شيئا ـ فاطلب المعاش من غير اهل هذه القرية.

فقال لها : اطعميني ما امسك به روحي وتقوم به رجلي حتى اطلب.

فقالت : انهما قرصتان واحدة لي والاخرى لابني ، فان طعمتك قوتي مت ، وان طعمتك قوت ابني مات ، وليس ههنا فضل.

قال : ان ابنك صغير يجزيه نصف قرصة فاطعمي كلا منا نصفا يكون لنا بلغة ، فرضيت وفعلت.

فلما رأى ابنها ادريس وهو يأكل من قرصته اضطرب حتى مات.

قالت امه : يا عبد الله قتلت ابني جزعا على قوته.

فقال : لا تجزعي انا احييه لك الساعة باذن الله ، واخذ بعضد الصبي وقال : ايتها الروح الخارجة من بدنه بأمر الله ارجعي الى بدنه باذن الله وانا ادريس


النبي ، فرجعت روح الغلام اليه.

فلما سمعت ام الصبي كلام ادريس وقوله : انا ادريس ونظرت الى ابنها حيا ، قالت : اشهد انك ادريس النبي ، وخرجت تنادي باعلى صوتها في القرية :

ابشروا بالفرج فقد دخل ادريس في قريتكم ، فمضى ادريس حتى جلس على موضع مدينة الجبار الاول ، وقد تبدلت تلا من تراب ، فاجتمع اليه اناس من اهل قريته واسترحموه وسألوه ان يدعوا لهم فيمطروا.

قال : لا ، حتى يأتي جباركم هذا وجميع اهل قريتكم مشاة حفاة فيسألوني ذلك.

فبلغ ذلك الملك الجبار ، فبعث الى ادريس اربعين رجلا وامرهم ان يأتوا به اليه ، فلما جاءوه وكلفوه الذهاب معهم اليه ، دعا عليهم فماتوا عن آخرهم.

ثم ارسل خمسمائة رجل ، فلما اتوه كلفوه الذهاب واسترحموه فاراهم مصارع اصحابهم وقال : ما انا بذاهب اليه ولا سائل حتى يأتيني هو وجميع اهل القرية مشاة حفاة ويسألوني الدعاء للمطر.

فانطلقوا الى ملكهم الجبار واخبروه بما قال لهم النبي ادريس وسألوه ان يمضي اليه وجميع اهل القرية مشاة حفاة ويسألوه ان يسأل الله ان تمطر السماء ، فأتوه حتى وقفوا بين يديه خاضعين متذللين ، وسألوه ان يسأل الله ان تمطر السماء عليهم ، فعند ذلك دعا ادريس ان تمطر السماء عليهم ، فاظلتهم سحابة من السماء وارعدت وابرقت وهطلت عليهم من ساعتهم حتى ظنوا انه الغرق ، فما رجعوا الى منازلهم حتى سقيت جميع اراضيهم من الماء. (١)

لقد كان غرض النبي ادريس 7 في عدم الدعاء الى الله لانزال المطر ،

__________________

١ ـ كمال الدين : ج ١ ص ١٢٧.


واصراره في طلب القوم ان يأتوه متذلليين ، من اجل تنبيههم وزجرهم عن الطغيان والفساد ، ولئلا يخالفوا ربهم بعد ذلك ، ويكون ذلك ايضا تنبيها للملك الجبار واتباعه ورجوعهم الى الله مسلمين ، ولو كان يدعو لهم قبل ان يؤمنوا بالله ويتضرعوا لكانوا على ضلالهم وطغيانهم ويجبرون الناس على الضلال ايضا.

وكان تصرفه 7 فيه حكمة وموعظة لقومه وللاقوام التي تجيء من بعدهم والى يومنا هذا.

مسجد السهلة وسكنته 7 :

روي عن عبد الله بن ابان عن ابي عبد الله 7 :

ان موضع بيت ادريس النبي 7 كان في مسجد السهلة ، وكان يخيط في الملابس ومحل عمله.

ومسجد السهلة من المساجد المهمة والقديمة جدا ومن افضل المساجد بعد مسجد الكوفة ، ويقع بالقرب من مسجد الكوفة.

وفيه ايضا سكن ابراهيم النبي 7 الذي منه سار الى اليمن بالعمالقة ، ومنه سار داود الى جالوت.

وكان فيه ايضا مسكن الامام المهدي 7 ومقر صلاته ومنه يظهر وتزوره الملائكة في كل يوم ، وتقضى به الحوائج ويستجاب الدعاء فيه.

وروي عن الامام الصادق 7 ايضا انه قال :

بالكوفة مسجد يقال له : مسجد السهلة ، لو ان عمي زيدا اتاه فصلى فيه واستجار الله لاجاره عشرين سنة ، فيه مناخ الراكب وبيت ادريس النبي 7 وما


اتاه مكروب قط فصلى فيه بين العشائين ودعا الله الا فرج الله كربته. (١)

روي عن الامام الصادق 7 ايضا انه قال :

اذا دخلت الكوفة فأت مسجد السهلة فصل فيه واسال الله حاجتك لدينك ودنياك ، فان مسجد السهلة بيت ادريس النبي 7 الذي كان يخيط فيه ويصلي فيه ، ومن دعا الله فيه بما احب قضى له حوائجه ورفعه يوم القيامة مكانا عليا الى درجة ادريس 7 ، واجير من مكروه الدنيا ومكائد اعدائه. (٢)

هجرته 7 الى مصر :

لما كبر ادريس وآتاه الله النبوة ، واطاعه القليل من قومه ، فنوى الخروج مع اصحابه من القرية التي كان يسكن فيها ، فثقل على اصحابه الرحيل من اوطانهم فقالوا له : واين نجد اذا رحلنا مثل هذا النهر (٣) ، فقال لهم : اذا هاجرنا لله رزقنا غيره.

فخرج وخرجوا معه اصحابه الى ان وصلوا الى اقليم فرأوا النيل وراوا واديا خاليا من ساكن ، فوقف ادريس على النيل ، وسبح الله وقال لجماعته : بابليون ، فسمي الاقليم ببابل. (٤) وسمته العرب ـ مصر ـ نسبة الى مصر بن حام.

واقام النبي ادريس ومن معه بمصر يدعو الخلائق الى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطاعة الله عزوجل.

وتكلم الناس في ايامه باثنين وسبعين لسانا ، وعلمه الله عزوجل منطقهم

__________________

١ ـ الكافي : ج ٣ ص ٤٩٤.

٢ ـ البحار : ج ١١ ص ٢٨٠.

٣ ـ بابل ـ بالسريانية النهر.

٤ ـ بابل ـ بالسريانية النهر.


ليعلم كل فرقة منهم بلسانها ، ورسم لهم تمدين المدن ، وجمع له طالبي العلم بكل مدينة فعرفهم السياسة المدنية ، وقررها لهم قواعدها ، فبنت كل فرقة من الامم مدنا في ارضها.

وكانت عدة المدن التي انشئت في زمانه مائة مدينة وثماني وثمانين مدينة ، وعلمهم العلوم.

وكان ادريس 7 اول من اسس المدن.

واول من استخرج الحكمة وعلم النجوم ، فان الله عزوجل افهمه سر ذلك وتركيبه ، وافهمه عدد السنين والحساب.

واقام للامم سننا في كل اقليم تليق كل سنة باهلها.

وقسم الارض الى اربعة ارباع ، وجعل على كل ربع ملكا يسوس امر المعمورة من ذلك الربع.

ويظهر من هذا ان النبي ادريس 7 هو اول من ساق العالم الانساني الى ساحة التفكر الاستدلالي والامعان في البحث عن المعارف الالهية.

وفاته 7 :

ورد في بعض الروايات في معنى قوله تعالى في ادريس النبي 7 : « ورفعناه مكانا عليا » هو :

ان الله عزوجل غضب على ملك من الملائكة فقطع جناحه والقاه في جزيرة من جزائر البحر ، فبقي هناك ما شاء الله. فلما بعث الله ادريس جاءه ذلك الملك وسأله ان يدعو الله ان يرضى عنه ويرد اليه جناحه ، فدعا له ادريس فرد الله جناحه اليه ورضى عنه.

قال الملك لادريس : الك حاجة؟ قال : نعم احب ان ترفعني الى السماء


حتى انظر الى ملك الموت ، فلا عيش لي مع ذكره ، فاخذه الملك على جناحه حتى انتهى به الى السماء الرابعة.

فلما وصل الى السماء الرابعة نظر الى ملك الموت جالس فلما رآهم حرك رأسه تعجبا ، فسلم عليه ادريس فقال له : مالك تحرك راسك؟ قال : ان رب العزة امرني ان اقبض روحك بين السماء الرابعة والخامسة.

فقلت يا رب كيف يكون هذا بيني وبينه اربع سماوات وغلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام ...

ثم قبض روحه بين السماء الرابعة والخامسة وهو قوله تعالى : ( ورفعناه مكانا عليا ) (١).

وكان قد انزل الله عزوجل على ادريس ثلاثين صحيفة.

وكان يصعد الى السماء من عمله في كل يوم مثل اعمال اهل زمانه كلهم.

وكانت الملائكة في زمان ادريس 7 يصافحون الناس ويسلمون عليهم ويكلمونهم ويجالسونهم ، وذلك لصلاح الزمان واهله ، فلم يزل الناس على ذلك حتى كان زمن نوح 7 وقومه ثم انقطع ذلك.

وكانت حياته في الارض ثلاثمائة سنة ، وقيل : اكثر من ذلك.

وقال الطبرسي رحمه الله عنه والرازي : انه جد ابي نوح 7 واسمه « اخنوخ ». (٢)

في وفاته ايضا 7 :

روي عن ابن عباس قال : كان ادريس النبي 7 يسبح النهار ويصومه ويبيت حيث ما جنه الليل ويأتيه رزقه حيث ما افطر ، وكان يصعد له من العمل

__________________

١ ـ تفسير الميزان : ج ١٦ ص ٦٨.

٢ ـ البحار : ج ١١ ص ٢٧٩.


الصالح مثل ما يصعد لاهل الارض كلهم.

فسأل ملك الموت ربه في زيارة ادريس 7 وان يسلم عليه ، فاذن له ، فنزل واتاه ، فقال لادريس : اني اريد ان اصحبك فأكون معك ، فصحبه.

كانا يسيران في النهار ويصومانه فاذا جنهما الليل اتي ادريس فطوره فيأكل ويدعو ملك الموت اليه فيقول : لا حاجة لي فيه ، ـ اي لا يأكل لانه ملك ـ ، ثم يقومان يصليان ، وادريس يصلي ويفتر وينام ، وملك الموت يصلي ولا ينام ولا يفتر ، فمكثا بذلك اياما.

ثم انهما مرا بقطيع غنم وكرم قد اينع ، فقال ملك الموت : هل لك ان تأخذ من ذلك حملا او من هذا عناقيد فنفطر عليه؟.

فقال : سبحان الله ادعوك الى مالي فتابى فكيف تدعوني الى مال الغير؟!

ثم قال ادريس 7 : فقد صحبتني واحسنت فيما بيني وبينك من انت؟

قال : انا ملك الموت ، قال ادريس : لي اليك حاجة ، فقال : وما هي؟

قال : تصعد بي الى السماء ، فاستاذن ملك الموت ربه في ذلك فاذن له ، فحمله على جناحه فصعد به الى السماء.

ثم قال له ادريس 7 : ان لي اليك حاجة اخرى ، قال وما هي؟.

قال : بلغني من الموت شدة فأحب ان تذيقني منه طرفا فانظر هو كما بلغني ، فاستاذن ربه له فاذن فأخذ بنفسه ساعة ثم خلّى عنه.

فقال له : ـ ملك الموت ـ كيف رأيت؟ قال : بلغني عنه شدة وانه لاشد مما بلغني.

قال ادريس 7 : ولي اليك حاجة اخرى تريني النار ، فاستاذن ملك الموت صاحب النار ، ففتح له فلما رآها ادريس 7 سقط مغشيا عليه.

ثم قال : لي اليك حاجة اخرى تريني الجنة ، فاستاذن ملك الموت خازن


الجنة فدخلها ، فلما نظر اليها قال : يا ملك الموت ما كنت لاخرج منها.

ان الله تعالى يقول : ( كل نفس ذائقة الموت ) (١) وقد ذقته ، ويقول : « وان منكم الا واردها » وقد وردت النار ، ويقول في الجنة : « وماهم منها بمخرجين » ولست اخرج من الجنة بعد دخولها.

فأوحى الله الى ملك الموت : خصمك عبدي فاتركه ولا تتعرض له فبقي في الجنة. (٢)

كانت هذه المحاجة بين ملك الموت وادريس النبي 7 بوحي من الله تعالى ، واراد بها الله عزوجل تعجيل دخول ادريس 7 الجنة ، وذلك بما كان يتعب نفسه وجسده لعبادة الله سبحانه ، وكان حقا على الله ان يعوضه من ذلك الراحة والطمانينة ، وان يبوئه بتواضعه لله تعالى وصالح عبادته من الجنة مقعدا ومكانا عليا.

وهكذا نتيجة كل مؤمن صالح متقي يعمل لاجل الله تعالى ويتعب نفسه وجسده من اجل الله ومن اجل الاسلام واعلاء اكلمة لا اله الا الله محمد رسول الله علي ولي الله.

من حكم ومواعظ النبي ادريس 7 :

علما ان في كل خطوة من خطوات النبي ادريس 7 في مسيرة حياته المباركة ـ من ولادته الى مماته ـ حكمة وموعظة يمكننا ان نتعض بها ونعمل على نهجها ، ونضيف وباختصار على ذلك بعضا من حكمه المروية عن السيد ابن طاووس في سعد السعود :

__________________

١ ـ العنكبوت : ٥٧.

٢ ـ البحار : ج ١١ ص ٢٧٨.


روي الثعلبي في العرائس عن ابن عباس وغيره ما ملخصه.

ان ادريس سار ذات يوم فاصابه وهج الشمس فقال : اني مشيت في الشمس يوما فتأذيت فكيف بمن يحملها مسيرة خمسمائة عام في يوم واحد ! « ويريد بذلك الموقف يوم القيامة ».

اللهم خفف عنه ثقلها واحمل عنه حرها ، فاستجاب الله له ، فاحس الملك الذي يحملها بذلك فسأل الله في ذلك فأخبره بما كان من دعاء ادريس واستجابته ، فساله تعالى ان يجمع بينه وبين ادريس ويجعل بينهما خلة فاذن له. (١)

مواعظه 7 في الموت

فكأن بالموت قد نزل ، فاشتد انينك ، وعرق جبينك ، وتقلصت شفتاك ، وانكسر لسانك ، ويبس ريقك ، وعلا سواد عينيك بياض ، وازبد فوك ، واهتز جميع بدنك ، وعالجت غصة الموت وسكراته ومرارته وزعقته (٢) ، ونوديت فلم تسمع.

ثم خرجت نفسك وصرت جيفة بين اهلك.

ان فيك لعبرة لغيرك ، فاعتبر في معاني الموت ، ان الذي نزل نازل بك لا محالة.

وكل عمر وان طال فعن قليل يفنى ، لان كل ما هو آت قريب لوقت معلوم.

فاعتبر بالموت يا ابن آدم ، واعلم ايها الانسان ان اشد الموت ما قبله ، والموت اهون مما بعده من شدة اهوال يوم القيامة.

__________________

١ ـ عن العرائس : البحار : تفسير الميزان : ج ١٦ ص ٦٩.

٢ ـ زعقته اي تقلصه.


مواعظه 7 في التقوى :

واعملوا واستيقنوا ان تقوى الله هي الحكمة الكبرى ، والنعمة العظمى ، والسبب الداعي الى الخير ، والفاتح لابواب الخير والفهم والعقل.

لان الله لما احب عباده وهب لهم العقل ، واختص انبيائه واوليائه بروح القدس ، فكشفوا لهم عن سراير الديانة ، وحقائق الحكمة ، لينتهوا عن الضلال ، ويتبعوا الرشاد ، ليتعظ في نفوسهم.

ان الله اعظم من ان تحيط به الافكار ، او تدركه الابصار ، او تحصله الاوهام ، او تحده الاحوال ، وانه المحيط بكل شيء ، والمدبر له كما يشاء ، ولا يتعقب افعاله ، ولا يدرك غاياته ، ولا يقع عليه تحديد ، ولا تحصيل ، ولا مسار ، ولا اعتبار ، ولا نطق ، ولا تفسير ، ولا ينتهي استطاعة المخلوقين الى معرفة ذاته ولا علم كنهه.

مواعظه 7 في الدعاء :

ادعوا الله في اكثر اوقاتكم ، مقاصدين متألهين في دعائكم ، فانه ان يعلم منكم التظافر والتوازر يجيب دعائكم ، ويقضي حاجاتكم ، ويبلغكم آمالكم ، ويفضي عطاياه عليكم من خزائنه التي لا تفنى.

مواعظه 7 في الصيام :

انما اذا دخلتم في الصيام ، طهروا نفوسكم من كل دنس ونجس ، وصوموا لله بقلوب خالصة صافية منزهة عن الافكار السيئة ، والهواجس المنكرة ، فان الله


سيحبس القلوب اللطخة ، والنيات المدخولة (١).

ومع صيام افواهكم من المآكل ، فلتصم جوارحكم من المآثم ، فان الله لا يرضى عنكم ان تصوموا من المطاعم فقط ، لكن من المناكير كلها ، والفواحش باسرها.

مواعظه 7 في الصلاة :

اذا دخلتم في الصلاة فاصرفوا لها خواطركم ، وافكاركم ، وادعوا الله دعاء طاهرا متفرغا وسلوه مصالحكم ، ومنافعكم ، بخضوع ، وخشوع ، وطاعة ، واستكانة ، واذا بركتم وسجدتم فابعدوا عن نفوسكم افكار الدنيا وهواجس السوء ، وافعال الشر ، واعتقاد المكر ، واكل السحت والعدوان والاحقاد ، واطرحوا بينكم ذلك كله (٢).

__________________

١ ـ اي النيات التي دخلتها الفساد من الرياء والعجب وغيرها.

٢ ـ عن السيد ابن طاووس في كتاب سعد السعود : ٣٨ ـ ٤٠.


( ٨ )

حكم و مواعظ من حياة

النبي هود 7 وعاد



قصة النبي هود 7 وعاد

قال الله تعالى : ( والى عاد اخاهم هودا قال ياقوم اعبدوا الله مالكم من اله غيره افلا تتقون ) (١).

من هو هود :

النبي هود 7 فهو من قوم عاد ، وثاني الانبياء (٢) الذين انتهضوا للدفاع عن الحق ودحض الوثنية ، وقد تحمل الاذى والمحن في سبيل الله سبحانه ، وقاسى انواع العذاب ، واثنى عليه الله عزوجل فذكره في كتابه الكريم واثنى عليه وعلى رسله الكرام.

وهود بن شالخ بن ارفخشد بن سام بن نوح ، وقيل : هود بن عبد الله بن رباح بن جلوث (٣) بن عاد بن عوض بن ارم بن سام بن نوح. (٤)

قوم عاد :

قوم عاد هم قوم هود 7 حيث قال تعالى : ( والى عاد اخاهم هودا )

__________________

١ ـ الاعراف : ٦٥.

٢ ـ الاول كان نوح 7.

٣ ـ في الكامل : ابن الجلود.

٤ ـ البحار : ج ١١ ص ٣٤٥.


كان اخاهم في النسب لكونه منهم ، وافراد القبيلة يسمون اخوة لانتسابهم جميعا الى اب القبيلة ، مثلما نقول : اخا اسد.

وان عادا كانت بلادهم في البادية من الشقوق (١) الى الاجفر اربعة منازل ، وكان لهم زرع ونخل كثير ، ولهم اعمار طويلة واجسام طويلة ، وكانوا جبارين واهل اوثان يعبدونها ، واوثانهم الثلاثة يقال لاحدها ـ ضرا ـ وللآخر خمور ، وللثالث الهباء.

بعث الله اليهم النبي هود 7 يدعوهم الى الاسلام وخلع الانداد فابوا ولم يؤمنوا بهود وآذوه ، فدعا عليهم فامسكت السماء عنهم المطر سبع سنين وقيل : ثلاث سنين حتى قحطوا ، وقال لهم هود 7 : ( ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا اليه يرسل السماء عليكم مدرارا ) (٢) فابوا الا تماديا.

فاما عاد ، كان من الجبابرة ، فهو : عاد بن عوض بن ارم بن سام بن نوح ، وهو عاد الاول ، وكانت مساكنهم مابين الشحر وعُمان وحضرموت بالاحقاف ، فكانوا جبارين ، حيث قال الله تعالى : ( واذكروا اذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة ) (٣).

وكانت مدينة عاد او جنة عاد ، فيها البساتين النظرة والاشجار المثمرة ، والقصور المشيدة بالاعمدة والاوتدة ، وكانت حصونا ومدائن ومصانع ومنازل وبساتين ، وكانت بلاد عاد اخصب بلاد العرب واكثرها انهارا وجنانا ، ولكنهم مع الاسف الشديد لم يشكروا الله على هذه النعمة التي انعمها عليهم بل عصوه

__________________

١ ـ الشقوق : هو منزل بطريق مكة ، وقيل كانت مساكنهم ما بين الشحر وعمان وحضرموت بالاحقاف » الكامل : ج ١ ص ٧٩.

٢ ـ هود : ٥٢.

٣ ـ الاعراف : ٦٩.


وفسدوا في الارض وعبدوا الاوثان من دون الله ، ولم يمتثلوا ويطيعوا النبي هود 7 الذي ارسله الله لهم ليهديهم من ضلالتهم فلم يهتدوا عند ذلك غضب الله عليهم.

فلما غضب الله عليهم سلط عليهم الريح العقيم ـ وانما سميت عقيم لانها تلقمت بالعذاب ، وعقمت عن الرحمة ـ وطحنت تلك القصور والحصون والمدائن والمصانع حتى عاد ذلك كله رملا ودقيقا تسفيه الرياح.

وكانت تلك الريح تدفع الرجال والنساء فتهب بهم صعدا ثم ترمي بهم في الجو فيقعون على رؤوسهم منكّسين ، واستمرت الريح تعصف عليهم سبع ليالي وثمانية ايام حسوما ، فترى القوم فيها صرعى كانهم اعجاز نخل خاوية ، وكانت الريح تقصف الجبال كما تقصف المساكن فتطحنها ثم تعود رملا دقيقا.

وكانت عاد ثلاثة عشر قبيلة.

وكانوا يسلخون العمد من الجبال فيجعلون طول العمد مثل طول الجبال الذي يسلخونه من اسفله الى اعلاه ، ثم ينقلون تلك العمد فينصبونها ، ثم يبنون القصور عليها ، وعلى هذا سميت ـ ذات العماد ـ.

وانه لم يكن امة اكثر من قوم عاد ولا اشد منهم بطشا وفسادا ، فلما راوا الريح قد اقبلت عليهم قالوا لهود :

اتخوفنا بالريح؟ فجمعوا ذراريهم واموالهم في شِعب من تلك الشعاب ، ثم قاموا على باب ذلك الشعب يردون الريح ويمنعونها عن اموالهم واهاليهم ، حسب اعتقادهم يتمكنون من منع الريح من دخول الشعب ـ فدخلت الريح من تحت ارجلهم بينهم وبين الارض حتى قلعتهم فهبت بهم صعدا ، ثم رفعتهم في الجو ، ثم رمت بهم الريح في البحر.

وسلط الله عليهم الذر فدخلت في مسامعهم ، وجاءهم من الذر مالا يطاق


قبل ان يأخذهم الريح.

امراة هود :

كان هود 7 زراعا وكان يسقي الزرع ، فجاء قوم الى بابه يريدونه ، فخرجت عليهم امرأته شمطاء عوراء.

فقالت من انتم؟ فقالوا : نحن من بلاد كذا وكذا ، اجدبت بلادنا فجئنا الى هود نسأله ان يدعو الله لنا حتى تمطر وتخصب بلادنا.

فقالت : لو استجيب لهود لدعا لنفسه ، فقد احترق زرعه لقلة الماء ، قالوا : فأين هو؟ قالت : هو في موضع كذا وكذا.

فجاؤوا اليه فقالوا : يا نبي الله قد اجدبت بلادنا ولم تمطر فأسأل الله ان تخصب بلادنا وتمطر ، فتهيا للصلاة وصلى ودعا لهم فقال لهم : ارجعوا فقد امطرتم فاخضبت بلادكم.

فقالوا : يا نبي الله انا رأينا عجبا ، قال : وما رايتم؟

قالوا : رأينا في منزلك امرأة شمطاء عوراء ، قالت لنا : من انتم؟ ومن تريدون؟ قلنا : جئنا الى نبي الله هود ليدعو الله لنا فنمطر ، فقالت :

لو كان داعيا لدعا لنفسه فان زرعه قد احترق.

فقال هود : ذاك ، وانا ادعو الله لها بطول البقاء.

فقالوا : كيف ذلك؟ قال : لانه ما خلق الله مؤمنا الا وله عدو يؤذيه ، وهي عدوتي.

فلئن يكون عدوي فمن املكه ، خير من ان يكون عدوي ممن يملكني.


نبوة هود 7 :

بالاسناد عن الصدوق ... عن وهب قال :

لما تم لهود 7 اربعون سنة اوحى الله تعالى اليه : ان ائت قومك فادعهم الى عبادتي وتوحيدي ، فان اجابوك زدتهم قوة واموالا ، فبينما هم مجتمعون اذ اتاهم هودـ فقال : يا قوم اعبدوا الله مالكم من اله غيره.

فقالوا : يا هود لقد كنت عندنا ثقة امينا ، قال : فاني رسول الله اليكم ، دعوا عبادة الاصنام ، فلما سمعوا ذلك منه بطشوا به وخنقوه وتركوه كالميت ، فبقي يومه وليلته مغشيا عليه ، فلما افاق قال : يا رب اني قد عملت وقد ترى ما فعل بي قومي ، فجاء جبرئيل 7 فقال : يا هود ان الله تعالى يامرك ان لا تفتر عن دعائهم وقد وعدك ان يلقي في قلوبهم الرعب فلا يقدرون على ضربك بعدها.

فبقي هو في قومه يدعوهم الى الله وينهاهم عن عبادة الاصنام حتى تخصب بلادهم وينزل الله عليهم المطر ، وهو قوله عزوجل : ( ويا قومي استغفروا ربكم ثم توبوا اليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزيدكم قوة الى قوتكم ولا تتولوا مجرمين ) (١).

فقالوا كما حكي الله عزوجل : ( يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين ) (٢).

فلما لم يؤمنوا ارسل الله عليهم الريح الصرصر ـ يعني الباردة ـ قال تعالى : ( انا ارسلنا عليهم ريحا صرصرا (٣) في يوم نحس مستمر ) (٤).

وحكى في سورة الحاقة فقال : ( واما عاد فاهلكوا بريح صرصر

__________________

١ و ٢ ـ هود : ٥٢ ـ ٥٣.

٣ ـ الصرصر : الريح الباردة واليوم النحس ، اليوم المشؤم.

٤ ـ القمر : ١٩.


عاتية ) (١).

عن ابي جعفر 7 قال : الريح العقيم تخرج من تحت الارضين السبع وما خرج منها شيء قط الا على قوم عاد حين غضب الله عليهم ، فأمر الخزان ان يخرجوا منها مثل سعة الخاتم ، فعصت على الخزنة ، فخرج منها مثل مقدار منخر الثور تغيظا منها على قوم عاد.

فضج الخزنة الى الله من ذلك وقالوا : يا ربنا انها قد عصت علينا ونحن نخاف ان يهلك من لم يعصك من خلقك وعمار بلادك ، فبعث الله جبرئيل فردها بجناحه وقال لها : اخرجي على ما امرت به ، فرجعت وخرجت على ما امرت به فاهلكت قوم عاد ومن كان بحضرتهم. (٢)

رياح الرحمة ورياح العذاب :

عن ابي جعفر 7 قال : ان لله تعالى رياح رحمة ورياح عذاب ، فان شاء الله ان يجعل العذاب من الرياح رحمة فعل ، قال : ولن يجعل من الرحمة من الريح عذابا ، قال : وذلك انه لم يرحم قوما قط اطاعوه وكانت طاعتهم اياه وبالا عليهم الا من بعد تحولهم من طاعته.

قال : وكذلك فعل بقوم يونس لما آمنوا رحمهم الله بعدما قد كان قدر عليهم العذاب وقضاه ، ثم تداركهم برحمته فجعل العذاب المقدر عليهم رحمة فصرفه عنهم وقد انزله عليهم وغشيهم ، وذلك لما آمنوا به وتضرعوا اليه.

قال : واما الريح العقيم فانها ريح عذاب لا تلقح شيئا من الارحام ولا شيئا من النبات ، وهي ريح تخرج من تحت الارضين السبع ، وما خرجت منها ريح

__________________

١ ـ الحاقة : ٦.

٢ ـ البحار : ج ١١ ص ٣٥١.


قط الا على قوم عاد. (١)

وروي عن الامام ابي جعفر 7 انه قال : ان لله جنودا من الرياح يعذب بها من يشاء ممن عصاه ، ولكل ريح منها ملك موكل بها ، فاذا اراد الله ان يعذب قوما بنوع من العذاب اوحى الى الملك الموكل بذلك النوع من الريح التي يريد ان يعذبهم بها ، قال : فيأمر بها الملك فتهيج كما يهيج الاسد المغضب.

قال : ولكل ريح منهن اسم ، اما تسمع قوله تعالى : ( كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر ، انا ارسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر ) وقال تعالى : ( الريح العقيم ) (٢) وقال : ( ريح فيها عذاب اليم ) وقال : ( واصابها اعصار فيه نار فاحترقت ) وماذكر من الرياح التي يعذب الله بها من عصاه ؛ الخبر. (٣)

ان الله عزوجل رؤوف رحيم بعباده المخلصين ، ولا يسلط عليهم العذاب الا من بعد ان يبعث لهم رسولا يدعوهم الى عبادته واطاعة اوامره والنهي عن المحرمات والسير على سراطه المستقيم ، واذا عصوا الله وتمادوا وازدادوا في عصيانهم ، يرسل عليهم العذاب ، وقال تعالى ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) (٤) ، والعذاب الذي يسلطه على عباده العاصين والمذنبين يختلف حسب ما يراه سبحانه وتعالى مناسبا وصالحا لتلك الامة ولؤلائك القوم ، مرة يبعث عليهم الزلزال ، واخرى الفيضان ، واخرى الدم والضفادع ، ومرة اخرى الريح على انواعها ، ومرة اخرى يسلط بعضهم على بعض ، والى غير ذلك.

__________________

١ ـ البحار : ج ١١ ص ٣٥٢ عن الروضة : ص ٩٢.

٢ ـ الريح العقيم : لا تلقح الشجر ولا تنبت النبات.

٣ ـ نفس المصدر ص ٣٥٤.

٤ ـ الاسراء : ١٥.


اعاذنا الله واياكم من عذابه وغضبه ورحمنا برحمته.

وكذلك لله تعالى رياح رحمة لواقح ينشرها بين يدي رحمته ، منها يهيج بها السحاب للمطر ، ومنها تعصر السحاب فتمطره باذن الله ، ومنها لواقح تلقح الاشجار وينمو الثمر ، والى غير ذلك.

وفاة النبي هود 7 :

وفي النهاية لحق النبي هود 7 ومن آمن معه بمكة فلم يزالوا بها حتى ماتوا.

وكانت اعمار قوم هود 7 بحدود اربعمائة سنة. وتوفي النبي هود 7 وله من العمر مائة وخمسين سنة ، وقبره بحضرموت. (١)

اختلف في موضع قبر هود 7 فقيل : انه بغار بحضرموت ، وروي المؤرخون عن امير المؤمنين 7 ان قبره على تل من رمل احمر بحضرموت ، وقيل : انه دفن في مكة في حجر اسماعيل ، وقيل : انه دفن قريبا من امير المؤمنين 7 في الغري ....

والمشهور الآن قبر النبي هود والنبي صالح 8 في وادي السلام في النجف ويزار ، ويحتمل ان يكون قد دفن في مكان آخر ثم نقل الى الغري كآدم 7 » ، والله العالم.

__________________

١ ـ الكامل : ج ١ ص ٨١.


( ٩ )

حكم و مواعظ من حياة

النبي صالح 7



قصة النبي صالح 7 وقومه

قال الله تعالى : ( والى ثمود اخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في ارض الله ولا تمسوها بسوء فياخذكم عذاب اليم ، ... قال الذين استكبروا انا بالذي آمنتم به كافرون ، فعقروا الناقة وعتوا عن امر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا ان كنت من المرسلين ، فاخذتهم الرجفة فاصبحوا في دارهم جاثمين ... ) (١).

من هم ثمود :

في هذه الآيات المباركة وفي غيرها ما جاء في سورة هود ، والشعراء ، والقمر ، والشمس ، وفي سورة هود اكثر تفصيلا.

كل هذه الآيات ذكرت فيها بشكل مختصر قصة صالح 7 وقومه قوم هود ومادار بينهما ، وقصة الناقة ، وكيف كانت نهايتهم.

واما ثمود : فهم ولد ثمود بن جائر بن ارم بن سام ، وكانت مساكن ثمود بالحجر بين الحجاز والشام ، وكانوا بعد عاد قد كثروا وكفروا وعتوا ، فبعث الله

__________________

١ ـ الاعراف ٧٣ ـ ٧٩.


اليهم صالح بن عبيد بن اسف بن ماشج بن عبيد بن جادر بن ثمود ، ودعاهم الى توحيد الله بالعبادة. (١)

وكان الله قد اطال اعمارهم حتى كان احدهم يبني البيت من المدَر فينهدم وهو حي ، فلما راوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتا فنحتوها ، وكانوا في سعة من معايشهم ، ولم يزال صالح يدعوهم فلم يتبعه منهم الا قليل من المستضعفين.

وروي ايضا ان ثمود كانت بوادي القرى بين المدينة والشام ، وكانت عاد باليمن ، وكانت اعمارهم من الف سنة الى ثلاث مائة سنة ، وكانوا قوم النبي صالح 7. (٢)

ان الله تبارك وتعالى بعث صالحا الى ثمود وهو ابن ست عشر سنة ، وكان يدعوهم الى الله والعمل الصالح فلا يقبلون منه ويعصون امره ، وكان لهم سبعون صنما يعبدونها من دون الله.

فلما رأى ذلك منهم واصرارهم على العصيان ، قال لهم : يا قوم بعثت اليكم وانا ابن ست عشر سنة ، وقد بلغت الآن من العمر مائة وعشرون سنة ، وانا اعرض عليكم امرين :

ان شئتم فاسألوني حتى اسأل الهي فيجيبكم ، وان شئتم سألت آلهتكم فان اجابتني خرجت من عندكم.

فقالوا له : انصفت فامهلنا ، فاقبلوا يتعبدون ثلاثة ايام ويتمسحون بالاصنام ، ويذبحون لها ، واخرجوها الى سطح الجبل ، واقبلوا يتضرعون اليها ، فلما كان يوم الثالث قال لهم صالح 7 :

قد طال هذا الأمر فقالوا : اسأل ما شئت ، فدنا الى اكبر صنم لهم فقال له : ما

__________________

١ ـ الكامل : ج ١ ص ٨١.

٢ ـ البحار : ج ١١ص ٣٧٣.


اسمك؟ فلم يجبه ، فقال لهم : ماله لا يجيبني؟ قالوا له : تنح عنه ، فتنحى عنه ، فاقبلوا اليه يتضرعون ووضعوا على رؤوسهم التراب وضجوا وقالوا : فضحتنا ونكست رؤوسنا.

فقال صالح : قد ذهب النهار ، فقالوا : سله ، فدنا منه فكلمه فلم يجبه ، فبكوا وتضرعوا حتى فعلوا ذلك ثلاث مرات فلم يجبه بشيء.

فقالوا : ان هذا لا يجيبك ، ولكنا نسأل الهك ، فقال لهم سلوه ما شئتم ، فقالوا : سله ان يخرج لنا من هذه الجبل ناقة حمراء شقراء شعراء ، او : عشراء ـ اي حاملة ، تضرب منكبيها طرفي الجبلين ، وتلقي فصيلها من ساعتها ، وتدر لبنها.

فقال صالح : ان الذي سألتموني عندي عظيم وعند الله هين ، فقام فصلى ركعتين ثم سجد وتضرع الى الله فما رفع رأسه حتى تصدع الجبل وسمعوا له دويا شديدا ففزعوا منه وكادوا ان يموتوا منه ، فطلع رأس الناقة وهي تجتر ، فلما خرجت القت فصيلها ، ودرت بلبنها ، فبهتوا ، وقالوا :

قد علمنا يا صالح ان ربك اعز واقدر من آلهتنا التي نعبدها.

وكان لقريتهم ماء وهي الحِجر التي ذكرها الله تعالى في كتابه وهو قوله : ( ولقد كذب اصحاب الحجر المرسلين ) (١) فقال لهم صالح 7 : لهذه الناقة شرب ، اي تشرب ماءكم يوما وتدر لبنها عليكم يوما ، وهو قوله تعالى : ( قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ، ولا تمسوها بسوء فياخذكم عذاب يوم عظيم ) (٢) فكانت تشرب ماءهم يوما ، واذا كان من الغد وقفت وسط قريتهم فلا يبقى في القرية احد الا حلب منها حاجته.

__________________

١ ـ الحجر : ٨٠.

٢ ـ الشعراء : ١٥٥ ـ ١٥٦.


وكان فيهم تسعة من رؤسائهم كما ذكر الله في سورة النمل : ( وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الارض ولا يصلحون ) (١) فعقروا الناقة ورموها حتى قتلوها وقتلوا الفصيل ، فلما عقروا الناقة قالوا لصالح 7 : ( فاتنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين ) (٢) قال صالح : ( تمتعوا في داركم ثلاثة ايام ذلك وعد غير مكذوب ) (٣).

ثم قال لهم : وعلامة هلاككم انه تصفر وجوهكم غدا ، وتحمر بعد غد ، وتسود يوم الثالث فلما كان من الغد نظروا الى وجوههم قد ابيضت (٤) مثل القطن ، فلما كان يوم الثاني احمرت مثل الدم ، فلما كان يوم الثالث اسودت وجوههم ، فبعث الله عليهم صيحة وزلزلة فهلكوا ، وهو قوله تعالى : ( فاخذتهم الرجفة فاصبحوا في ديارهم جاثمين ) (٥) فما تخلص منهم غير النبي صالح 7 وقوم مستضعفين مؤمنين وهو قوله تعالى : ( فلما جاء امرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ ان ربك هو القوي العزيز ، واخذ الذين ظلموا الصيحة فاصبحوا في ديارهم جاثمين ... ) (٦).

قصة اخرى :

وقد كان بعث الله تعالى النبي صالحا 7 الى قومه بعد ما اكثروا الفساد وعبدوا الاوثان ، فدعاهم الى الله تعالى فلم يجيبوه وعتوا عليه فقالوا له : لن نؤمن

__________________

١ ـ النمل : ٤٨.

٢ ـ الاعراف : ٧٠.

٣ ـ هود : ٦٥.

٤ ـ قد اصفرت.

٥ ـ الاعراف : ٧٨.

٦ ـ هود : ٦٦ ـ ٦٧.


حتى تُخرج لنا من هذه الصخرة ناقة عشراء ، وكانت صخرة يعظمونها ويذبحون عندها في رأس كل سنة ويجتمعون عندها.

فقالوا له : ان كنت كما تزعم نبيا رسولا ، فادع الله يخرج لنا ناقة منها ، فاخرجها لهم كما طلبوا منه ، بأمر من الله ، واوحى الله تعالى الى صالح ان قل لهم : ان الله جعل لهذه الناقة شرب يوم ولكم شرب يوم ، فكانت الناقة اذا شربت يومها ، شربت الماء كله ، فيكون شرابهم ذلك اليوم من لبنها ، فيحلبونها فلا يبقى صغير ولا كبير الا شرب من لبنها يومه ذلك ، فاذا كان الليل واصبحوا غدوا الى مائهم فشربوا هم ذلك اليوم ولا تشرب الناقة.

فمكثوا بذلك ما شاء الله حتى عتوا ودبروا في قتلها فبعثوا رجلا احمر اشقر ازرق ، لا يُعرف له اب ـ ولد زنا ـ يقال له قدار ليقتلها ، فلما توجهت الناقة الى الماء ضربها ضربة ثم ضربها اخرى فقتلها ، ومر فصيلها حتى صعد الى الجبل فلم يبقى منهم صغير ولا كبير الا اكل من لحمها.

فقال لهم صالح 7 : عصيتم ربكم وقتلتم الناقة ، ان الله تعالى يقول : ان تبتم قبلت توبتكم ، وان لم ترجعوا بعثت عليكم العذاب في اليوم الثالث ، فقالوا : يا صالح ائتنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين ...

فلما كان نصف الليل من اليوم الثالث اتاهم جبرئيل 7 فصرخ صرخة خرقت اسماعهم وشقت قلوبهم فماتوا اجمعين في طرفة عين صغيرهم وكبيرهم ، ثم ارسل الله عليهم نارا من السماء فاحرقتهم. (١)

قال رسول الله 6 لامير المؤمنين علي 7 : يا علي اتدري من اشقى الاولين؟ قال : قلت : الله ورسوله اعلم ، قال : عاقر الناقة.

__________________

١ ـ البحار : ج ١١ ص ٣٨٥.


قال : اتدري من اشقى الآخرين؟ قال : قلت : الله ورسوله اعلم ، قال : قاتلك. (١)

وفاته 7

اختلفت الاقوال والروايات في عمر النبي صالح 7 وتاريخ وفاته ، وقد ذكر في الكامل :

واما صالح 7 ، فانه سار الى الشام فنزل فلسطين ثم انتقل الى مكة فاقام بها يعبد الله حتى مات وهو ابن ثمان وخمسين سنة ، وكان قد اقام في قومه يدعوهم عشرين سنة. (٢)

والرواية الثانية ، عن النبي 6 انه سأل جبرئيل 7 كيف كان مهلك قوم صالح؟ فقال : يا محمد ان صالحا بعث الى قومه وهو ابن ست عشر سنة ، فلبث فيهم حتى بلغ عشرين ومائة سنة لا يجيبونه الى خير ... الى آخر القصة.

ويظهر من هذه الرواية انه كان عمر النبي صالح 7 مئة وعشرون سنة وهو لا يزال حي يدعو قومه الى التوحيد ولا يجيبونه.

اصحاب الرس :

قال تعالى : ( وعادا وثمود واصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا ) (٣).

كلمة « رس » في الاصل بمعنى الاثر القليل ، فيقال : « وجد رسّا من

__________________

١ ـ رواه الثعلبي في العرائس : ٤٣.

٢ ـ الكامل في التاريخ : ج ١ ص ٨٣.

٣ ـ الفرقان : ٣٨.


حمى ، يعني وجد قليلا من درجة الحرارة في نفسه » (١).

واعتقد بعض من المفسرين بان « الرس » بمعنى البئر.

على اي حالة فتسمية هؤلاء القوم « بالرس » اما لان اثرا قليلا جدا بقي منهم ، او لانهم كانت لديهم آبار ماء كثيرة ، او لانهم هلكوا وزالوا بسبب جفاف آبارهم.

اقوال كثيرة بين المؤرخين والمفسرين في : من هم هؤلاء القوم؟!

١ ـ الكثير يعتقدون ان « اصحاب الرس » كانوا طائفة تعيش في ـ اليمامة ـ وبعث الله لهم نبي اسمه « حنظلة » كذبوه والقوه في بئر ، حتى كتب بعضهم : انهم ملأوا هذا البئر بالرماح ، واغلقوا فم البئر بعد القاء النبي 7 في البئر وملؤها بالحجارة الى ان استشهد ذلك النبي. (٢)

٢ ـ والبعض الآخر يعتبر ان « اصحاب الرس » اشارة الى الناس ايام « شعيب » الذين كانوا يعبدون الاصنام ، وكانوا ذوي اغنام كثيرة وآبار ماء و « الرس » كان اسما لبئر عظيم ، حيث اغاضه الله ، فأهلك اهل ذلك المكان. (٣)

٣ ـ وبعض آخر يعتقد ان « الرس » كانت قرية في ارض « اليمامة » حيث كان يعيش فيها جماعة من بقايا قوم ثمود ، فهلكوا نتيجة طغيانهم وغرورهم. (٤)

٤ ـ العلامة الطبرسي في مجمع البيان ، والفخر الرازي في التفسير الكبير ، والآلوسي في روح المعاني ، نقلوا : ان اولئك كانوا اناسا يعيشون في انطاكية

__________________

١ ـ مفردات الراغب.

٢ ـ اعلام القرآن ص ١٤٩ عنه تفسير الامثل ج ١١ ص ٢٢٧.

٣ ـ تفسير الامثل : ج ١١ ص ٢٢٧.

٤ و ٢ ـ تفسير الامثل : ج ١١ ص ٢٢٧.


الشام ، وكان بينهم « حبيب النجار ». (١)

٥ ـ روي عن يعقوب بن ابراهيم بن عبد الله بن جعفر بن ابي طالب ، قال : سمعت ابا الحسن موسى بن جعفر صلوات الله عليهما ، انه سأله رجل عن « اصحاب الرس » الذي ذكرهم الله في كتابه من هم؟ وممن هم؟ واي قوم كانوا؟.

فقال : كانا رسين ، فأما احدهما ليس الذي ذكره الله في كتابه ، كان هؤلاء اهل بدو واصحاب شاة وغنم ، يعيشون في البادية ، فبعث الله اليهم صالح النبي رسولا ، فقتلوه ، وبعث اليهم رسولا آخر فقتلوه ، ثم بعث اليهم رسولا آخر وعضده بولي ، فقُتل الرسول وجاهد الولي حتى فحمهم ، وكانوا يقولون الهنا في البحر ، وكانوا يسكنون على شفير البحر ، وكان لهم عيد في السنة يخرج حوت عظيم من البحر في ذلك اليوم فيسجدون له.

واما الذين ذكرهم الله في كتابه ، فهم قوم كان لهم نهر يدعى « الرس » وكان فيها مياه كثيرة ، يقع بمنقطع آذربيجان وهو من حد ارمينية وآذربيجان ، وكانوا يعبدون الاوثان ، فبعث الله اليهم ثلاثين نبيا فقتلوهم جميعا ، فبعث الله اليهم نبيا آخر وبعث معه وليا فجاهدهم.

وبعد ذلك بعث الله عليهم العذاب ، فجف مائهم ، ويبست الانهار ومات الزرع ، وماتت مواشيهم ، فماتوا جوعا وعطشا وبكاء ، فلم يبق منهم باقية ، وبقي منهم المخلصون فقط ، وهم قليلون ، فدعوا الله ان ينجيهم بزرع وماشية وماء قليلا لئلا يطغوا ، فاجابهم الله الى ذلك ، لما علم من صدق نياتهم. (٢)

٦ ـ عن ابي الصلت الهروي عن الرضا عن امير المؤمنين 8 حديث

__________________

٢ ـ قصص الانبياء للراوندي : ص ٩٦.


طويل في قصة اصحاب « الرس » ملخصة :

انهم كانوا قوما يعبدون شجرة صنوبرة يقال لها شاه درخت ، كان يافث بن نوح غرسها بعد الطوفان على شفير عين يقال لها : روشن آب ، وكان لهم اثنا عشرة قرية معمورة على شاطئ نهر يقال له « الرس ».

وهذه القرى يسمين باسماء : ابان ، آذر ، بهمن ، اسفندار ، فروردين ، اردي بهشت ، خرداد ، مرداد ، تير ، مهر ، شهريور ، ومن هذه الاسماء اشتق العجم اسماء شهورهم.

وقد غرسوا في كل قرية منها من طِلع تلك الصنوبرة حبة ، اجروا عليها نهرا من العين التي عند الصنوبرة ، وحرموا شرب مائها على انفسهم وانعامهم ومن شرب منه قتلوه ، ويقولون : انه حياة الآلهة فلا ينبغي لاحد ان ينقص حياتها.

وقد جعلوا في كل شهر من السنة يوما في كل قرية عيدا يخرجون فيه الى الصنوبرة التي خارج القرية ويقربون اليها القرابين ويذبحون الذبائح ....

وكان في كل سنة يجتمعون جميعا في القرية الكبيرة التي يسكنها ملكهم واسمها « اسفندار » ويعيّدون فيها اثنى عشر يوما ، ويجيئوا باكثر ما يستطيعونه من القرابين والعبادات للشجرة ، ويكلمهم ابليس ويعدهم ويمنيهم اكثر من سائر الاعياد.

ولما طال منهم الكفر بالله وعبادة الشجر ، بعث الله اليهم رسولا من بني اسرائيل من ولد يهودا فدعاهم الى عبادة الله وترك الشرك فلم يؤمنوا ، فدعى على الشجرة فيبست فلما راوا ذلك ساءهم فقال بعضهم : ان هذا الرجل ساحر ....

فاجتمعت آرائهم على قتله ، فحفروا بئرا عميقا والقوه فيها وشدوا راسها


فلم يزالوا عليها يسمعون انينه حتى مات فاتبعهم الله بعذاب شديد واهلكهم عن آخرهم. (١)

__________________

١ ـ تفسير الميزان : ج ١٥ ص ٢١٩.


( ١٠ )

حكم و مواعظ من حياة

النبي لوط 7



قصة النبي لوط 7 وقومه

قال الله تعالى في كتابه الكريم :

١ ـ ( ولوطا اذ قال لقومه اتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من احد من العالمين ).

٢ ـ ( انكم لتاتون الرجال شهوة من دون النساء بل انتم قوم مسرفون ).

٣ ـ ( وما كان جواب قومه الا ان قالوا اخرجوهم من قريتكم انهم اناس يتطهرون ).

٤ ـ ( فانجيناه واهله الا امرأته كانت من الغابرين ).

٥ ـ ( وامطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين ) (١).

وقفة تأمل :

في هذه الآيات المباركة يستعرض القرآن الكريم فصلا آخر غنيا بالعبر والمواعظ والحكم من قصص الانبياء.

والقصة هذه المرة هي قصة النبي « لوط » 7 ، وقد ذكرت هذه القصة في

__________________

١ ـ الاعراف : ٨٠ ـ ٨٤.


عدة سور من القرآن الكريم منها :

سورة هود ، والحجر ، والشعراء ، والانبياء ، والنمل ، ... الخ ويشير القرآن الكريم في قصة لوط وفي سورة الاعراف ، ضمن خمس آيات الى خلاصة سريعة عن الحوار الذي دار بين لوط النبي وقومه.

نقف لحظات ونتامل قوله تعالى في هذه الآيات الكريمة اعلاه ، ونرى كيف كان الانبياء : والرسل يبلغون رسالات الله ، وكيف كان جواب اقوامهم لهم ، وكيف كانت اعمالهم ، وكيف كان صنع الله بهم بعد عصيانهم ، عسى ان نعتبر ... ( ... يخربون بيوتهم بايديهم وايدي المؤمنين فاعتبروا ياولي الابصار ) (١).

في البداية يقول النبي لوط 7 لقومه : اترتكبون عملا قبيحا لم يفعله احد قبلكم من الناس ، لان هذه المعصية مضافا الى كونها عملا قبيحا جدا ولم يفعله احد قبل هذا ، وقد اصبح فيما بعد سنة سيئة ، وسببا لوقوع الآخرين في المعصية.

واي انحراف واي عمل قبيح هذا حيث يترك الرجل المرأة التي هي الوسيلة لتوليد النسل وانجاب الاولاد ، والتي جعلها الله سكنا ولباسا وسترا وعفافا للرجل والمرأة ، يترك هذا العمود الاساسي للاسرة والتركيب الطبيعي للجسم والروح ، ويلجأ الى الاشباع الكاذب والمنحرف للحاجة الجنسية ، والقضاء على الهدف الاصلي ، وهو استمرار النسل البشري وسعادة الامة وطهارة الاسرة.

وفي الحقيقة مثل هؤلاء المنحرفين والذين يرتكبون الذنوب العظيمة ، لم

__________________

١ ـ الحشر : ٢.


يكن عندهم جواب مقنع وشافي ومقبول في مقابل دعوة الانبياء والرسل والدعاة الى الله ، الا التعنت والاصرار على الخطيئة مثل قوم لوط حيث قالوا : اخرجوا لوطا واتباعه من مدينتكم ، او قَتلِهم بعض الانبياء والرسل.

وهذا ليس موضع تعجب واستغراب ان يطرد جماعة من العصاة والفسقة والطغاة اشخاصا طاهرين ومؤمنين لا لشيء الا لانهم اتقياء انقياء الجيب ، يجتنبون المنكرات ، لانهم يعتبرون هؤلاء الصلحاء مزاحمين لشهواتهم ومفاسدهم.

ولكن مثل هؤلاء الفسقة والطغاة يقف الله عزوجل لهم بالمرصاد وينزل عليهم العذاب الاليم ويجعلهم عبرة لمن يعتبر مثلما انزل غضبه تعالى على قوم لوط بعدما انجا لوطا واتباعه واهله الطيبين الا زوجته التي كانت مع قومه المنحرفين.

كان الله عزوجل يعذب الاقوام المنحرفة والعاصية السالفة كل حسب ما يراه تعالى مناسبا لهم ولزمانهم ولذنوبهم حيث نرى قوله تعالى : ( فكلا اخذنا بذنبه فمنهم من ارسلنا عليه حاصبا ) ، وهم قوم هود وعاد ، والحاصب معناه الطوفان الذي فيه الحصى الكثير.

( ومنهم من اخذته الصيحة ) ، وهم ثمود ـ قوم صالح ـ والصيحة السماوية هي الصاعقة التي تقترن بالزلزلة يحدث منها صوت رهيب.

( ومنهم من خسفنا به الارض ) وهو قارون الملك المتكبر والمتجبر الثري المغرور ، خسفت به الارض نتيجة استكباره وغروره.

( ومنهم من اغرقنا ) ، وهم فرعون وهامان وجنودهما.


( وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا انفسهم يظلمون ) (١).

وهناك طوائف واقوام اخرى اصابها العذاب مثل قوم نوح وقوم لوط وغيرهم.

وعلى كل حال فان انواع العذاب ينزل على الاقوام المنحرفة والعاصية حسب ما يراه الله تعالى ، علما ان الله عزوجل لا يعذب احدا ولا يظلمهم الا بما كسبت ايديهم وبعدما يرسل لهم الانبياء والرسل لهدايتهم ، فالله اكثر عدلا واسمى من ان يظلم الانسان اقل ظلم ، وقد خلقه حرا ويريده حرا ....

لوط في القرآن :

كان النبي لوط 7 من كلدان في ارض بابل ومن السابقين الاولين ممن آمن بابراهيم 7 ، وقد ذكرت التوراة ان لوطا كان ابن اخي ابرام ـ « اي ابراهيم » ... وهاجر مع النبي ابراهيم الى الارض المقدسة ارض فلسطين : ( اني مهاجر الى ربي ... ) (٢).

وكان اهل المدينة وما حولها من المدائن ـ التي سماها الله في كلامه بالمؤتفكات ( ... واصحاب مدين والمؤتفكات ... ) (٣) يعبدون الاصنام ، ويأتون بالفاحشة اللواط ، وهم اول قوم شاع فيهم ذلك ( ... اتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من احد من العالمين ) (٤) حتى كانوا ياتون به في نواديهم من غير

__________________

١ ـ العنكبوت : ٤٠.

٢ ـ العنكبوت : ٢٦.

٣ ـ التوبة : ٧٠.

٤ ـ الاعراف : ٨٠.


انكار ، ولم ( ... وتاتون في ناديكم المنكر ... ) (١) يزالوا يمارسون الفاحشة فيهم حتى اصبحت سنة قومية ابتلت به عامتهم وتركوا النساء وقطعوا السبيل.

بعد ان تمادوا في غيهم ارسل الله اليهم لوطا 7 ، فدعاهم الى تقوى الله وترك الفحشاء ، وانذرهم وخوفهم فلم يزدادوا الا عتوا ، ولم يكن جوابهم الا ان قالوا : ائتنا بعذاب الله ان كنت من الصادقين ، وهددوه بالاخراج من بلدتهم وقالوا له : ( لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين ) (٢).

لم يزال لوط 7 يدعوهم الى سبيل الله وترك الفحشاء وهم يصرون على عمل الخبائث حتى استقر بهم الطغيان وحقت عليهم كلمة العذاب ، فبعث الله من الملائكة المكرمين لاهلاكهم.

نزلوا الملائكة اولا على النبي ابراهيم 7 واخبروه بما امرهم الله به من اهلاك قوم لوط ، فجادلهم ابراهيم 7 لعله يرد بذلك عنهم العذاب ، وذكرهم بان فيهم لوطا ، فقالوا له بانهم اعلم بموقع لوط واهله ، وانه قد جاء امر الله وان القوم آتيهم العذاب غير مردود ( قد جاء امر ربك وانهم آتيهم عذاب غير مردود ) (٣).

عند ذلك ذهبوا الى لوط في صِوَر غلمان مرد ودخلوا عليه ضيفا فشق ذلك على لوط وضاق بهم ذرعا ، وخاف عليهم من قومه انهم سيتعرضون لهم وانهم غير تاركيهم البتة ( ولما ان جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لاتخف ولا تحزن انا منجوك واهلك الا امرأتك كانت من

__________________

١ ـ العنكبوت : ٢٩.

٢ ـ الشعراء : ١٦٧.

٣ ـ العنكبوت : ٣٢ وهود : ٧٦.


الغابرين ) (١).

فلما دخلوا البيت وسمع القوم بذلك اقبلوا يهرعون اليه وهم يستبشرون وهجموا على داره ، فخرج اليهم وبالغ في وعظهم واستثارة فتوتهم ورشدهم حتى عرض عليهم بناته وقال : يا قوم ان هؤلاء بناتي هن اطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزوني في ضيفي ، ثم استغاث وقال : اليس منكم رجل رشيد ، فردوا عليه : انه ليس لهم في بناته اربة وانهم غير تاركي اضيافه البتة حتى آيس لوط وقال : لو ان لي بكم قوة او آوي الى ركن شديد. (٢)

عند ذلك قالت له الملائكة يا لوط : انا رسل ربك طب نفسا ان القوم لن يصلوا اليك ، فطمسوا اعين القوم فعادوا عميانا يتخبطون وتفرقوا ( ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا اعينهم فذوقوا عذابي ونذر ) (٣).

ثم امروا لوطا 7 ان يسري باهله من ليلته بقطع من الليل ويتبع ادبارهم ولا يلتفت منهم احد الا امرأته فانه مصيبها ما اصابهم ، واخبروه انهم سيهلكون القوم مصبحين ( ... فاسر باهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم احد ... ) (٤).

جاء في معنى قوله تعالى : ( ولا يلتفت مكم احد الا امرأتك انه مصيبها ما اصابهم ... ) مفهوم ذلك ان لوطا واهله بما فيهم امرأته تحركوا للخروج من المدينة ولم يلتفت منهم احد كما امرهم الرسل ، الا امرأة لوط فانها بحكم علاقتها بقوم لوط وتاثرها على مصيرهم ، حينما سمعت الصوت وقفت والتفتت وراءها لترى ما حدث ، اصابها حجر من الاحجار التي كانت تهوي على

__________________

١ ـ العنكبوت : ٣٣.

٢ ـ هود : ٨٠.

٣ ـ القمر : ٣٧.

٤ ـ الحجر : ٦٦.


المدينة فقتلت به.

وايضا نرى في قوله تعالى : ( ولا يلتفت منكم احد ) احتمالات عديدة : منها.

١ ـ لا ينظر احد الى وراء مديرا وجهه لمن خلفه.

٢ ـ لا تفكروا بما تركتم خلفكم من الاموال والقصور ووسائل المعاش ، انما عليكم ان تنجوا بانفسكم من العذاب والهلاك ، ولا تنفعكم اموالكم واولادكم ونسائكم اذا نزل العذاب وقامت القيامة.

٣ ـ لا يتاخر احد منكم عن هذه القافلة الصغيرة يا اهل لوط 7 الى غير ذلك من الاحتمالات ...

فاخذت الصيحة القوم مشرقين ، وارسل الله عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين ، وقلب مدائنهم عليهم فجعل عاليها سافلها ، واخرج من كان فيها من المؤمنين ، فلم يجد فيها غير بيت من المسلمين ، وهو بيت لوط ، وترك فيها آية للذين يخافون العذاب الاليم (١).

نزول غضب الله على قوم لوط 7 دليل على ان القوم كانوا كفارا غير مؤمنين ، وان الفحشاء ما كانت شائعة بين الرجال منهم حسب بل ان الفحشاء شاعت بين الرجال والنساء ، واكتفى الرجال بالرجال باللواط ، والنساء بالنساء بالسحق.

ومن الاعمال الشنيعة والخبيبثة التي كان يرتكبونها قوم لوط وادت الى قطع السبيل كما ذكرها الله في كتابه العزيز : ( وتقطعون السبيل ) اي تقطعون سبيل الولد وقطع النسل الحلال باختياركم الرجال بدل النساء ، كما تقطعون

__________________

١ ـ الذاريات : ٣٧.


سبيل المعروف ، وخوف الناس من الاسفار ، لان قوم لوط كانوا ياتون الفاحشة بالمجتازين في ديارهم ، وكانوا يرمون ابن السبيل بالحجارة بالخذف ، فايهم اصابه كان اولى به ، وياخذون ماله ، وينكحونه ويغرمونه ثلاثة دراهم ، وكان لهم قاض يقضي بذلك ، وكانوا يقطعون الطريق على الناس بالسرقة ، وكانوا يتضارطون في مجالسهم من غير حشمة ولا حياء ، وكانوا ياتون الرجال في مجالسهم يرى بعضهم بعضا ، وقيل : كانت مجالسهم تشمل انواع المناكير مثل الشتم والسخف والصفع والقمار وخذف الاحجار على من مر بهم ، وضرب المعازف والمزامير وكشف العورات واللواط.

ضلوا عليها عاكفين حتى جائتهم ريحا حصبتهم ورمتهم بالحجارة والحصباء فاهلكتهم.

آثار البخل :

نقرأ في حياة الانبياء وقصصهم ومواعظهم وحكمهم روايات مختلفة وقصص متعددة ، وهذا الاختلاف سببه ينحصر في نقل الراوي وحسب ما يراه ويعيشه من الحوادث والمناسبات الواقعة في زمانه وحين حضوره.

وعلى هذا الاساس نحن نذكر النقاط المهمة التي جرت في حياة الانبياء.

نقرا في كتاب بحار الانوار ما نقله من علل الشرائع عن الراوية الثقة « ابي بصير » رضي الله عنه القصة الثانية من حياة النبي لوط 7 وقومه هذه الحكمة والموعظة المهمة عسى ان نعتبر بها ما ينفعنا لديننا ودنيانا.

... عن ابي بصير قال : قلت لابي جعفر 7 : كان رسول الله 6 يتعوذ من البخل؟ قال : نعم يا ابا محمد في كل صباح ومساء ، ونحن نتعوذ بالله من البخل ،


الله يقول : ( ومن يوق شح نفسه فاولئك هم المفلحون ) (١) وساخبرك عن عاقبة البخل.

ان قوم لوط كانوا اهل قرية اشحاء على الطعام ، فاعقبهم البخل داء لا دواء له في فروجهم.

وقال : ان قرية لوط كانت على طريق السيارة الى الشام ومصر ، فكانت السيارة تنزل بهم فيضيفونهم ، فلما كثر ذلك عليهم ضاقوا بذلك ذرعا وبخلا ولؤما ، فدعاهم البخل الى ان كانوا اذا نزل بهم الضيف فضحوه من غير شهوة بهم الى ذلك ، وانما كانوا يفعلون ذلك بالضيف حتى لا ينزل عندهم الضيوف والمارة على قريتهم.

فشاع امرهم في القرى وحذر منهم النازلة والمارة ، فاورثهم البخل بلاء لا يستطيعون دفعه عن انفسهم من غير شهوة لهم الى ذلك ، حتى صاروا يطلبونه من الرجال في البلاد ـ بشهوة ـ ويعطونهم عليه الجعل.

قال ابو بصير : فقلت له : جعلت فداك فهل كان اهل قرية لوط كلهم هكذا يعملون؟ فقال : نعم الا اهل بيت من المسلمين ، اما تسمع لقوله تعالى : ( فاخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ) (٢).

ثم قال ابو جعفر 7 : ان لوطا 7 لبث في قومه ثلاثين سنة يدعوهم الى الله عزوجل ويحذرهم عذابه ، وكانوا قوما لا يتنظفون من الغائط ، ولا يتطهرون من الجنابة ، وكان لوط 7 ابن خالة النبي ابراهيم 7 وكان امرأة ابراهيم سارة اخت لوط ، وكان لوط وابراهيم نبيين مرسلين منذرين ، وكان لوط رجلا سخيا

__________________

١ ـ الحشر : ٩.

٢ ـ الذاريات : ٣٥.


كريما يقري الضيف اذا نزل به ، وكان قومه يحذرونه من ذلك ، وكانوا يقولون له : انا ننهاك ان تقر ضيفا ينزل بك ان فعلت فضحنا ضيفك الذي ينزل بك واخزيناك.

فكان لوط اذا نزل به الضيف كتم امره مخافة ان يفضحه قومه ، وذلك انه لم يكن للوط عشيرة تدافع عنه ، فضلّ على هذه الحالة حتى جاء امر الله وقلب عاليها سافلها وامطرهم بحجارة من سجيل.

وروي ايضا : ان قرية قوم لوط كانت كثيرة الشجر والنبات والخير ، وكان الطريق عليها ، وكان كل من يمر بتلك البلاد يتناول من ثمارهم وزرعهم ، فجزعوا من ذلك ، فجائهم ابليس في صورة شيخ فقال لهم : ادلكم على ما ان فعلتموه لم يمر بكم احد؟

فقالوا : ما هو؟ فقال : من مر بكم فانكحوه في دبره واسلبوه ثيابه ، ثم تصور لهم ابليس في صورة شاب امرد حسن الوجه ، فجائهم فوثبوا عليه ففجروا به كما امرهم فاستطابوه فكانوا يفعلونه بالرجال ، فاستغنى الرجال بالرجال والنساء بالنساء.

وكان هذا اول انحراف قوم لوط وسبب هلاكهم.

وقال المسعودي : ارسل الله النبي لوط 7 الى المدائن الخمسة وهي : سدوم ، وعموراء ، وادوما ، وصاعورا ، وصابورا. (١)

هذه المدن كان يسكنها قوم لوط ، واعظم هذه المدن سدوم ، وكان لوط يسكنها ، وقد قلبها الله عزوجل كلها على قومها المنحرفين ، فلذلك سميت ـ المؤتفكات : ـ اي المنقلبات.

__________________

١ ـ مروج الذهب : ج ١ ص ٢١.


ملاحظات :

اختلف المفسرون في معنى قول النبي لوط 7 لقومه : ( هؤلاء بناتي هن اطهر لكم ).

ذلك لما رأى لوط 7 ان الاشرار تجمعوا على داره ، وصمّموا على اقتحام الدار ، اراد ان يصرفهم عنه بتبديل ما يريدون من الفحشاء مما لا معصية فيه من الحلال ، فعرض بناته عليهم ورجحه لهم بانهن اطهر لكم ـ اي كان يقصد بذلك تزويجه بناته لهم وتركهم الفحشاء.

وتقييد قوله ـ هؤلاء بناتي ـ بقوله ( هن اطهر لكم ) شاهد صدق على انه عرض عليهم النكاح بالحلال لا بالسفاح ، وحاشا مقام النبي عن ذلك ـ وذلك لان السفاح لا طهارة فيه اصلا ، وقد قال الله تعالى : ( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) (١) وقال تعالى : ( ولا تقربوا الزنا انه كان فاحشة وساء سبيل ) (٢) وهذه الاحكام مشرعة من قبل الله تعالى وعامة على كل الانبياء وفي جميع الشرائع الالهية النازلة على الانبياء.

وقيل ايضا : ان المراد بقوله : « هؤلاء بناتي » اشارة منه الى ان نساء القوم هن بناته ، لان النبي ابو امته فنساؤهم بناته كما ان رجالهم بنوه ، ويقرب هذا القول تعبيره 7 ـ بالبنات ـ بنات القوم ، لانه ليس عنده الا بنتان ، وان البنتان لا يصدق عليهن لفظ الجمع.

وهناك من قال : بان بناته مسلمات وهم كفار ، ولا يجوز انكاح المسلمة من الكافر.

نقول : فمن الجائز ان يكون تزويج المؤمنة بالكافر جائزا في شريعة

__________________

١ ـ الانعام : ١٥١.

٢ ـ الاسراء : ٣٢.


لوط 7 ، كما انه كان جائزا في صدر الاسلام ، وقد زوج النبي 6 بنته من ابي العاص بن الربيع وهو كافر قبل الهجرة ثم نسخ ذلك. (١)

ويحتمل ان يكون قوله مشروطا بالايمان ، اي تعالوا يا قومي وآمنوا بالله واتركوا الفحشاء حتى ازوجكم بناتي حلالا طاهرا ، وكان يريد بهذا ان يثبت منتهى علاقته بهدايتهم ويوقظ ضمائرهم ووجدانهم.

والملاحظة الاخرى في معنى قوله تعالى : « ولا يلتفت منكم احد » اي لا ينظر احد منكم وراءه او لا يلتفت احد منكم الى ماله ولا متاعه بالمدينة ، او لا يتخلف احد منكم ويتاخر في الخروج ، كما امرهم ان لا يلتفتوا اذا سمعوا الرجفة والهدة ، وقيل : ان امرأته التفتت حين سمعت الرجفة وقالت : يا قوماه ، فاصابها حجر فقتلها.

وذكر ان حجرا بقي معلقا بين السماء والارض اربعين يوما يتوقع به رجل من قوم لوط كان في الحرم حتى خرج منه فاصابه الحجر فقتله.

وقيل : لِمَ كانت لحظة نزول العذاب صباحا؟

والجواب هو : ان الله عزوجل امهلهم للصبح لعلهم يتيقظون ويرجعون اليه ويتوبون.

او ان الله لم يرد ان يجعل الليل داميا عليهم ، ولذلك فقد امر الملائكة المأمورين بالعذاب ان ينتظروا حتى يجيء الصباح؟!

او حتى يخرج لوط واهله ويبتعدوا عن المدينة.

وقيل لِمَ قلب الله عاليها سافلها؟ :

الجواب : ان العذاب ينبغي ان يتناسب مع الاثم ، حيث ان هؤلاء القوم

__________________

١ ـ الميزان : ج ١٠ ص ٣٣٩.


حرّفوا كل شيء عن طريق الانحراف الجنسي وارتكاب ابشع الاعمال والخبائث ، فان الله جعل مدنهم عاليها سافلها ايضا ، وحيث كانوا يترامون بالاحجار الصغيرة ويرمون بها المارة ، فان الله رماهم بحجارة من سجيل لتتهاوى على رؤوسهم ايضا ، وذلك لتشديد العذاب.

وان هذه الاحجار كانت لها علامات خاصة ومميزة تختلف عن بقية الاحجار العادية ، بل هي احجار خاصة لنزول العذاب الالهي ، هي احجار سماوية كل حجر يصيب شخص معين ولا يتخطاه ، وهي اشارة الى دقة الحساب في عقاب الله وجزائه.

ويحتمل ان يكون سبب قلب مينة قوم لوط وجعل عاليها سافلها على اهلها ورميهم بالحجارة ، هو اجراء الحد الشرعي عليهم ، لان الحد الشرعي في اللواط هو القتل ، اما برميهم من اعلى الشاهق او حرقهم ، او رجمهم بالحجارة اذا كانوا محصنين ، وبالشروط المذكورة في الفقه ، لان الحدود الشرعية لها شرائط دقيقة ذكرت في كتب الفقه.

ونقرأ في حديث للامام الصادق 7 عن النبي 6 انه قال :

« من جامع غلاما جاء يوم القيامة جنبا لا ينقيه ماء الدنيا ، وغضب الله عليه ولعنه واعد له جهنم وساءت مصيرا.

ثم قال 6 : ان الذكر يركب الذكر فيهتز العرش لذلك. (١)

وعن امير المؤمنين 7 قال : « سمعت رسول الله 6 يقول : لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال » (٢).

وقال 7 : قال : اذا كان الرجل كلامه كلام النساء ، ومشيته مشية النساء ،

__________________

١ ـ وسائل الشيعة ج ١٤ ص ٢٤٠.

٢ ـ نفس المصدر ص ٢٥٥.


ويمكّن من نفسه يُنكح كما تُنكح المرأة ، فارجموه ولا تستحيوه. (١)

فلسفة تحريم اللواط :

لقد صدر ـ وبكل وقاحة ـ من بعض الدول الغربية مثل ، بريطانيا اصدر المجلس النيابي فيها بجواز اللواط والزواج المماثل.

وقال بعض اتباع المذاهب المادية : نحن لا نجد مانعا طبيا عن هذا الأمر ـ اي اللواط ـ.

ولكنهم مع الاسف نسوا او تناسوا ان كل انحراف جنسي له اثره في روحية الانسان وبنائه ويفقد بسببه كل تعادل وتوازن وشخصية الانسان الطبيعي والسليم يميل الى ما يخالفه جنسه ، اي الرجل يميل الى المرأة ، والمرأة تميل الى الرجل ، وهذا امر طبيعي والانسان فطر عليه ، وهذا الأمر ضامن لبقاء النسل وسعادة المجتمع ونموه وتطوره ، اما الانحراف الجنسي ـ اي اللواط ـ سوف يحرف الانسان عن مسيره الطبيعي وسوف يوجد انواع كثيرة من الامراض النفسية والانحرافات والسقوط.

فالرجل الذي يميل الى نظيره من جنسه ـ ليس رجلا كاملا ، والاستمرار على هذا العمل وادامته يجر الانسان تدريجيا الى البرود الجنسي ، ويورث هذا العمل ايضا ضعفا مفرطا في الجنس حتى انه لا يستطيع بعد مدة على المعاشرة الطبيعية مع جنسه المخالف ـ المرأة ـ.

مع العلم ان الاحساسات الجنسية للرجل والمرأة لها تأثير فاعل على روحية كل منهما.

__________________

١ ـ نفس المصدر : ص ١٥٩.


وكذلك يمكن ان يؤثر هذا العمل الشنيع الى ضعف جسم الانسان وروحه ، ومن الممكن ايضا ان يبتلى الافراد المنحرفون بالضعف الجنسي الذي يؤدي الى عدم القدرة على الانجاب والتوليد.

وعلى هذا سوف يفقدون وبالتدريج القدرة والنشاط على الادارة والعمل في اواسط المجتمع ، ويعشعش في روحهم نوع من الاضطراب والقلق ، وهذا القلق والاضطراب النفسي سوف يؤدي بهم الى استعمال المواد المخدرة والمشروبات الكحولية ، كما يجرهم الى انحرافات اخلاقية اخرى.

واذا لم يصمموا على اصلاح انفسهم فورا ، ولم يستعينوا بالطبيب النفسي او الطبيب الجسمي ، سوف يصبح هذا العمل عندهم امرا طبيعيا وعاديا ، عند ذلك يصعب تركه.

نقل عن الامام الصادق 7 ان رجلا سأله : لم حرم الله اللواط؟ فقال سلام الله عليه « من اجل انه لو كان اتيان الغلام حلالا لاستغنى الرجال عن النساء وكان فيه قطع النسل وتعطيل الفروج وكان في اجازة ذلك فساد كبير. (١)

وهنا مسألة فقهية جديرة بالالتفات وهي : ان الاسلام حرم الزواج من اخت المفعول به وامه وبنته على الفاعل ، اي اذا تحقق اللواط قبل الزواج من احد هؤلاء المذكورين ، فعندئذ يحرم الزواج منهن حرمة مؤبدة. (٢)

حكمة :

في الواقع وكما اشرنا الى ذلك ان كل حياة الانبياء : حكم ومواعظ يجب علينا ان نتعظ منها ، ولكن احيانا نذكر بعض الكلمات والاقوال من اجل التاكيد

__________________

١ ـ تفسير الامثل : ج ٧ ص ٣٠.

٢ ـ المسائل المنتخبة والرسائل العملية للمراجع باب النكاح : اسباب التحريم م٩٩٥.


على ذلك.

روي انه لما بعث الله اربعة املاك الى ابراهيم 7 من اجل اهلاك قوم لوط ، وهم : جبرئيل ، وميكائيل ، واسرافيل ، وكرّوبيل ، فسلموا عليه ولم يعرفهم ، فشوى لهم عجلا سمينا ووضعه بين ايديهم فقال لهم كلوا ، ولكنهم امتنعوا من الاكل ...

فقالوا : لا ناكل حتى تخبرنا ما ثمنه ، فقال : اذا اكلتم فقولوا : بسم الله ، واذا فرغتم فقولوا : الحمد لله ، قال : فالتفت جبرئيل الى اصحابه وكان رئيسهم فقال : حق لله ان يتخذ هذا خليلا. (١)

وروي عن الامام علي 7 قال :

... وستة في هذه الامة من اخلاق قوم لوط ، ... واما التي من اخلاق قوم لوط : فالجلاهق (٢) وهو البندق والخذف ، ومضع العلك ، وارخاء الازار خيلاء ، وحل الازرار من القباء والقميص. (٣)

وقال 7 ايضا : ... اذا كنت في الصلاة لا يصلي الرجل في قميص متوشحا به فانه من افعال قوم لوط. (٤)

هلاك قوم لوط :

عن ابي جعفر 7 ، ان رسول الله 6 سأل جبرئيل كيف كان مهلك قوم

__________________

١ ـ البحار : ج ١٢ ص ١٦٨.

٢ ـ الجلاهق : جسم صغير كروي من طين او رصاص يرمى به الناس ، والبندق جسم صغير ايضا يعملونه من الطين ويرمون به الناس.

٣ ـ الخصال ج ١ ص ٣٣١.

٤ ـ نفس المصدر ص ٦٢٧.


لوط؟ فقال :

ان قوم لوط كانوا اهل فرية لا يتنظفون من الغائط ، ولا يتطهرون من الجنابة ، بخلاء اشحاء على الطعام ، وان النبي لوط لبث عندهم ثلاثين سنة ، ولم يكن له عشيرة فيهم ولا قوم ، وانه دعاهم الى الله عزوجل والى الايمان واتباعه ، ونهاهم عن الفواحش ، وحثهم على طاعة الله فلم يجيبوه ولم يطيعوه ، وان الله عزوجل لما اراد عذابهم بعث اليهم رسلا منذرين عذرا ونذرا ، ـ ولم يعذبهم قبل ان يرسل اليهم رسولا منذرا ـ.

فلما عتوا عتوا عن امر الله ولم يتوبوا بعث الله اليهم ملائكة ليخرجوا من كان في قريتهم من المؤمنين ، فما وجدا منها غير بيت من المسلمين فاخرجوهم منها ، وقالوا للوط : اسر باهلك من هذه القرية الليلة بقطع من الليل ولا يلتفت منكم احد ..

فلما انتصف الليل سار لوط ببناته ورجعت امرأته مدبرة الى قومها واخبرت قومها بان لوط خرج ببناته ...

عند ذلك امر الله تعالى جبرئيل 7 ان يهبط الى قرية لوط فقلعها وما حوت من سبع ارضين فرفعها ، حتى سمع اهل السماء نباح الكلاب وصياح الديكة ثم قلبها على قومها حتى صار اسفلها اعلاها بأمر من الله ، وامطر الله عليهم حجارة من سجيل مسومة فسأل النبي 6 جبرئيل وقال : اين كانت قريتهم من البلاد؟

فقال جبرئيل : كان موضع قريتهم في موضع بحيرة طبرية اليوم ، وهي من نواحي الشام.

قال له رسول الله 6 : أرأيتك حين قلبتها عليهم في اي موضع من الارضين وقعت القرية واهلها؟ فقال : يا محمد وقعت فيما بين بحر الشام الى


مصر فصارت تلولا في البحر. (١)

معنى كلمة لوط :

كلمة لوط لها معاني كثيرة منها :

لوط : بمعنى لاط ، اي لاط الحوض بالطين لوطا ، اي : طيّنه وقال اللحياني : لاط فلان بالحوض ـ اي طلاه بالطين وملسه به.

فالتاط به ، اي التصق به ، وفي الحديث : من احب الدنيا التاط منها بثلاث ـ اي التصق بها ـ شغل لا ينقضي ، وامل لا يدرك ، وحرص لا ينقطع.

وايضا اذا لزق الحب بالقلب يقال : لاط حبه بقلبي ، اي لصق حبه بقلبي ـ ويقال : الولد الوط بالقلب ـ اي الصق بالقلب ، وكذلك كل شيء لَصقَ بشيء ، فقد لاط به يلوط لوطا ، ويليط ليطا.

قال الليث : لوط كان نبيا بعثه الله الى قومه فكذبوه واحدثوا ما احدثوا ، فاشتق الناس من اسمه فعلا لمن فعَلَ فِعلَ قومه. (٢)

ولوط هو ابن هاران بن تارخ ابن اخي ابراهيم 7 ، « وانما سمي لوط لان حبه لاط بقلب ابراهيم 7 » اي تعلق به ولصق ، وكان النبي ابراهيم 7 يحبه حبا شديدا.

ولوط خرج من ارض بابل مع عمه ابراهيم ، وكان مؤمنا بعمه تابعا له في دينه وهاجر معه الى الشام ....

__________________

١ ـ علل الشرائع : ص ١٨٤.

٢ ـ لسان العرب : ج ١٢ ص ٣٥٧.


( ١١ )

حكم و مواعظ من حياة

ذي القرنين



قصة ذي القرنين

قال الله تعالى : ( ويسالونك عن ذي القرنين قل ساتلو عليكم منه ذكرا ، انا مكنا له في الارض وآتيناه من كل شيء سببا ، فاتبع سببا ... الخ ) (١).

اختلف المفسرون في شخصية ذي القرنين ، وكما اثارت اهتمام الفلاسفة والباحثين منذ القدم ، وبذلوا مساعي كثيرة للتعرف على هذه الشخصية.

وحياة ذي القرنين مليئة بالحكم والموعظة والعبر ، وكانت محاطة بالغموض والابهام ، لذلك طالبوا النبي 6 ان يوضح لهم حياة ذي القرنين.

واعلم ان الروايات المروية من طرق الشيعة والسنة عن النبي 6 ومن طرق الشيعة عن الائمة اهل البيت : ، وكذلك الاقوال المنقولة عن الصحابة والتابعين كثيرة ومشتملة على غرائب وعجائب يستوحش منها الذوق السليم ، واغربها ما روي عن علماء اليهود وغيرهم.

وعلى هذا نحن هنا نترك كل الاقوال المذكورة في الكتب المختلفة عن حياة ذي القرنين ولا نتطرق لها ، ولكن نذكر مختصرا عن حياته المباركة ما جاء به في القرآن الكريم وتفسير آياته وباختصار ايضا ، وبعد ذلك نذكر حكمه ومواعظه الغنية لمن يتعض ....

__________________

١ ـ الكهف : ٨٣ ـ ٩٨.


ذي القرنين في القرآن :

فلما اخبر رسول الله 6 بخبر موسى 7 وفتاه والخضر ، قالوا له : يا رسول الله اخبرنا عن طائف طاف الارض بين المشرق والمغرب من هو؟ وما قصته؟ فانزل الله تعالى : ( ويسالونك عن ذي القرنين ) (١).

فيكون الجواب على لسان النبي 6 : ( قل ساتلو عليكم منه ذكرا ) والرسول هنا يتحدث لهم مباشرة عن ذي القرنين.

ويظهر من بداية الآية ان قصة « ذو القرنين » كانت متداولة ومعروفة بين الناس ، ولكنها كانت محاطة بالغموض والابهام ، لهذا السبب طالبوا رسول الله 6 ليوضحها لهم.

يقول تعالى : ( انا مكنا له في الارض ) (٢) اي منحناه القوة والقدرة والحكم على وجه الارض ، ( وآتيناه من كل شيء سببا ) (٣) اي اعطاه الله ومنحه كل وسائل القدرة والتمكن ، وعلمه اسباب الوصول اليها مثل : العقل : والعلم الكافي ، والادارة السليمة ، والقوة والقدرة ، والجيوش البشرية ، بالاضافة الى الامكانيات المادية والمعنوية الكفيلة بتحقيق الاهداف المنشودة.

ثم يشير القرآن بعد ذلك الى استفادة ذي القرنين من هذه الاسباب والسبل حيث يقول : « فاتبع سببا » اي استفادة من العقل والعلم والقوة التي منحها الله اياه في خدمة الانسان وهدايته واخذ يجول في الارض شرقها وغربها ، فيقول تعالى :

( حتى اذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ) (٤).

__________________

١ ـ الكهف : ٨٣.

٢ ـ ٣ ـ الكهف : ٨٤.

٤ ـ الكهف : ٨٦.


« حمئة : تعني في الاصل الطين الاسود ذا الرائحة الكريهة ، او الماء الاسن الموجود في المستنقعات ، وهذا الوصف يبين لنا بان الارض التي بلغها ذو القرنين ، كانت مليئة بالمستنقعات ، بشكل كان ذو القرنين يشعر معه بان الشمس كانت تغرب في هذه المستنقعات ، تماما كما يشعر بذلك ما بحر البحر ، وسكان السواحل الذين يشعرون بان الشمس غابت في البحر او خرجت منه ».

( ووجد عندها قوما ) (١) : هؤلاء القوم هم الذين خاطب الله ذا القرنين في شأنهم وقال :

( قلنا يا ذا القرنين إما ان تعذب وإما ان تتخذ فيهم حسنا ) (٢) اي اما ان تعذب هؤلاء القوم ، واما ان تتخذ فيهم امرا ذا حسن ، حسب الظاهر ان هؤلاء القوم الذين وجدهم ذي القرنين كانوا منحرفين ولا يعبدون الله وظَلَمة.

بعد ذلك تحكي الآية جواب ذي القرنين الذي قال : ( قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد الى ربه فيعذبه عذابا نكرا ) (٣) اي ان الظالمين سينالون العذاب الدنيوي والاخروي معا.

( وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى ) (٤).

( وسنقول له من امرنا يسرا ) (٥).

اي اننا سنتعامل مع المؤمنين بالقول الحسن ونحسن له ونكلفه بما فيه اليسر ، اما الظالمين منهم سوف نعذبهم ونشدد عليهم في الضرائب والاعمال الشاقة.

وعندما انتهى ـ ذو القرنين ـ من سفره الى المغرب ، توجه الى المشرق

__________________

١ و ٢ ـ الكهف : ٨٦.

٣ ـ الكهف : ٨٧.

٤ و ٥ ـ الكهف : ٨٨.


حيث يقول القرآن في ذلك : ( ثم اتبع سببا ) (١) ، اي استخدم الوسائل والامكانات التي كانت بحوزته.

( حتى اذا بلغ مطلع الشمس ) (٢) رأى هنا انها تطلع على قوم آخرين ، ما هي صافتهم؟ ( وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا ) (٣) اي كانت صفاتهم عراة ، لا يملكون سوى القليل من الملابس التي لا تكفي لتغطية ابدانهم من الشمس ، ولم تكن عندهم مساكن تحميهم من الشمس ، ويحتمل ان يكون هؤلاء القوم في ارض صحراوية لا يوجد فيها جبال ولا اشجار ولا ملاجيء يمكنهم حماية انفسهم.

( كذلك وقد احطنا بما لديه خبرا ) (٤). هكذا كانت اعمال ـ ذو القرنين ـ ونحن ، اي الله يعلم جيدا بامكاناته وقدراته وكل جزئياته ، ولا يخفى عليه ما قاساه ذو القرنين في هذا المسير وما تحمله من مصائب وشدائد.

بناء السد :

بعد ان انتهى ـ ذي القرنين ـ من سفره الى المغرب والمشرق ، ينتقل الى المرحلة الثانية والسفرة الثالثة وهي بناء السد والتقاءه بقوم آخرين. حيث يقول تعالى :

( ثم اتبع سببا ) : اي استفاد من الوسائل المهمة التي كانت تحت تصرفه لبناء السد .. فقال تعالى :

( حتى اذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون

__________________

١ ـ الكهف : ٨٩.

٢ ـ ٣ ـ الكهف : ٩٠.

٤ ـ الكهف : ٩١.


قولا ) (١).

تشير الآية المباركة الى انه وصل الى منطقة جبلية ، وهناك وجد اناسا ـ غير المجموعتين اللتين عثر عليهما في الشرق والغرب ـ كانوا على مستوى دان من المدينة ، وكانوا لا يفهمون محتوى الكلام ومتخلفين فكريا عندما وصل ذو القرنين اليهم وراوه ، اغتنموا مجيئه واستنجدوا به ، لانهم كانوا في عذاب شديد من قبل اعدائهم « يأجوج ومأجوج » لذا فقد طلبوا منه العون قائلين :

( قالوا يا ذا القرنين ان يأجوج ومأجوج مفسدون في الارض فهل نجعل لك خرجا على ان تجعل بيننا وبينهم سدا ) (٢).

تم التفاهم بين هؤلاء القوم وذي القرنين بالعلامات والاشارات او عن طريق المترجمين ، او باسلوب آخر ، على كل حال اتفقوا معه على بناء السد ، وكانت هذه المجموعة من الناس على وضع جيد من حيث الامكانات والثروة المادية ، ولكنهم ضعفاء من حيث الفكر والصناعة والتخطيط ، لذا فقد قبلوا بتكاليف بناء هذا السد المهم بشرط ان يتكفل ذو القرنين ببنائه.

اما ذو القرنين فقد اجابهم : و ( قال ما مكّنّي فيه ربي خير ) واني لا احتاج الى مساعدتكم المالية ، وانما : ( فاعينوني بقوة اجعل بينكم وبينهم ردما ) (٣).

فان ذو القرنين طلب منهم قوة بشرية من اجل ان يساعدوه على بناء السد ، وكلمة « ردم » هنا تقال للسد القوي ، ويطلق ايضا على ـ ترقيع الملابس ـ.

__________________

١ ـ الكهف : ٩٣.

٢ ـ الكهف : ٩٤.

٣ ـ الكهف : ٩٥.


ثم امر ذو القرنين وطلب منهم وقال : ( آتوني زبر الحديد ) (١) وهي تعني القطع الكبير من الحديد.

وعندما جاءوه بقطع من الحديد اعطى امرا بوضع بعضها فوق بعض الآخر حتى غطى بين الجبلين بشكل كامل : ( حتى اذا ساوى بين الصدفين ) (٢) ومعنى « الصدف » هنا حافة الجبل ، حيث كان بين حافتي الجبل شقا كان يدخل منها يأجوج ومأجوج ويؤذون القوم ، وقد صمم ذو القرنين ملأ هذا الشق.

وبعد ذلك امرهم ذو القرنين وطلب منهم ان ياتون الحطب والاخشاب ويضعونها على جانبي السد ، واشعل النار فيه حتى احمر الحديد من شدة النار و ( قال انفخوا حتى اذا جعله نارا ) (٣).

لقد كان هدف ذو القرنين من ذلك هو ربط قطع الحديد بعضها مع البعض ليصنع منه قطعة واحدة ، والتحمت اجزاء الحديد بعضها ببعض.

وبعدما انتهى من هذه المرحلة ، طلب منهم فقال : اجلبوا لي النحاس المذاب حتى اضعه فوق هذا السد : ( قال آتوني افرغ عليه قطرا ) (٤).

وبهذه الطريقة فقد قام بتغطية هذا السد الحديدي بقطعة من النحاس حتى لا ينفذ فيه الهواء ويحفظ من التآكل.

ان علم الحديث اليوم اثبت انه عند اضافة مقدار من النحاس الى الحديد فان ذلك سيزيد من مقدار مقاومته.

واخيرا تم بناء السد واصبح محكما وقويا بحيث : ( فما اسطاعوا ان يظهروه وما استطاعوا له نقبا ) (٥).

لقد كان عمل ذي القرنين عظيما ومهما ، وكان يمكن له ان يتباهى ويفتخر

__________________

١ ـ ٤ ـ الكهف : ٩٦.

٥ ـ الكهف : ٩٧.


ويمن به على القوم ، الا انه قال بأدب كامل وتواضع : ( قال هذا رحمة من ربي ) ، لان اخلاقه كانت اخلاقا الهية.

اراد ذو القرنين ان يعِضَهم فقال : انني لا املك شيئا من عندي كي افتخر به ، اذا كنت املك العلم والمعرفة ، وقابلت الكلام والحديث المؤثر ، كل هذا من فضل الله ومن قبل الخالق جل وعلا.

واذا كانت مِثل هذه الوسائل والافكار في اختياري فان ذلك من بركة الله ورحمة الخالق الواسعة.

ثم استطرد قائلا متواضعا لله تعالى : لا تظنوا ان هذا السد سيكون ابديا خالدا لا يتزعزع : ( فاذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا ) (١).

لقد اشار ذو القرنين في النهاية من كلامه هذا الى فناء الدنيا وتحطيم هيكل نظام الوجود فيها عند البعث ويوم تقوم القيامة.

واعتبر بعض المفسرين ـ الوعد الالهي ـ اشارة الى التقدم العلمي للبشر والذي بواسطته لا يبقى معنى لسد غير قابل للاختراق والعبور ، فالطائرات والصواريخ والقنابل الذرية وما شابهها تستطيع ان تعبر جميع هذه الموانع ....

من هم يأجوج ومأجوج :

لقد ذكر القرآن الكريم في سورتين اسم ـ يأجوج ومأجوج ـ ، وردت في المرة الاولى في الآيات التي نبحثها من سورة ـ الكهف ـ والثانية في سورة الانبياء ، آية (٩٦).

الآيات القرآنية تؤيد بوضوح ان هذين الاسمين هما لقبيلتين همجيتين

__________________

١ ـ الكهف : ٩٨.


كانتا تؤذيان سكان المناطق القريبة بهم.

ويقول العلامة الطباطبائي في تفسيره الميزان : انه يستفاد من مجموع ماذكر في التوراة ان مأجوج او يأجوج ومأجوج هم مجموعة او مجاميع كبيرة ، كانت تسكن اقصى نقطة من شمال آسيا ، وهم اناس محاربون يغيرون على الاماكن القريبة منهم ، وانهم كانوا امما حربية معروفة بالمغازي والغارات. (١)

والبعض يعتقد ان هاتبين الكلمتين عبريتين ولكنهما في الاصل انتقلتا من اليونانية الى العبرية ، اذ كانتا تلفظان في اليونانية بـ « كاك » و « ماكاك » ثم انتقلتا على هذا الشكل الى كافة اللغات الاوربية.

وقد وردت اخبار تاريخية مختلفة لحركة هؤلاء الاقوام وهجراتهم منها ، ان منطقة شمال شرقي الارض من نواحي « مغولستان » كانت في الازمنة السابقة كبقية السكان ، وكانت تتكاثر بسرعة ، وبعد ان ازداد عددهم ، اتجهوا نحو الشرق او الغرب ، وسيطروا على هذه الاراضي وسكنوا فيها تدريجيا.

وقد كان آخر مقطع تاريخي لهجومهم في القرن الثاني عشر الميلادي بقيادة « جنكيز خان » حيث هجم شرق البلاد الاسلامية ودمر العديد من المدن ، وفي طليعتها مدينة بغداد ....

ويظهر من هذا ان « يأجوج ومأجوج » هم من هذه القبائل الوحشية حيث طلب اهل القفقاز من ـ كورش ـ عند سفره اليهم ان ينقذهم من هجمات هذه القبائل الوحشية ، كما طلب قوم ذي القرنين منه ان يجعلوا له خرجا على ان ينجيهم من يأجوج ومأجوج ـ ويجعل فيما بينهم سدا ، فاجابهم الى بناء السد وابى ان يقبل خرجهم ، وانما طلب منهم ان يعينوه بقوة ....

__________________

١ ـ تفسير الميزان : ج ١٣ ص ٣٧٩.


من هو ذو القرنين :

روي ان ـ ذي القرنين ـ كان اسمه عياشا وكان اول الملوك بعد نوح 7 ملك ما بين المشرق والمغرب ، ومكن الله له في الارض وبسط يده حتى استولى عليها ... (١)

وروي عن عبد الله بن سليمان ، وكان قارئا للكتب قال : قرأت في بعض كتب الله عزوجل ان ـ ذا القرنين ـ كان رجلا من اهل الاسكندرية وامه عجوز من عجائزهم ليس لها ولد غيره يقال له : اسكندروس ، وكان له ادب وخلق وعفة ، وكان رأى في المنام كأنه دنا من الشمس حتى اخذ بقرنيها شرقها وغربها ، فلما قص رؤياه على قومه سموه ـ ذا القرنين ـ.

فلما رأى الرؤيا بعدت همته وعلا صوته وعز في قومه ، وكان اول ما اجمع على امره ان قال : اسلمت لله عزوجل ، ثم دعا قومه الى الاسلام فاسلموا هيبة له ، ثم امرهم ان يبنوا له مسجدا فاجابوه الى ذلك ... (٢)

وسئل امير المؤمنين 7 عن ذي القرنين ، انبيا كان ام ملكا؟ فقال : لا نبيا ولا ملكا ، بل عبدا احب الله فاحبه الله ، ونصح لله فنصح له ، فبعثه الى قومه فضربوه على قرنه الايمن فغاب عنهم ما شاء الله ان يغيب ، ثم بعثه الثانية فضربوه على قرنه الايسر فغاب عنهم ما شاء الله ان يغيب ، ثم بعثه الثالثة فمكن له في الارض ، وفيكم مثله (٣) يعني نفسه 7 وذلك فانه اصيب بضربة من عمر بن ود ، وبضربة من ابن ملجم لعنه الله.

وروي انه لما اخبر النبي 6 بخبر موسى وفتاه والخضر ، قالوا له : فاخبرنا يا رسول الله 6 عن طائف طاف الارض بين المشرق والمغرب من

__________________

١ ـ قصص الانبياء لنعمة الله الجزائري : ص ١٦٢.

٢ ـ البحار : ج ١٢ ص ١٨٣.


هو؟ وما قصته؟ فانزل الله : ( ويسالونك عن ذي القرنين قل ساتلو عليكم منه ذكرا ... ) القصة. (١)

وفي بعض الروايات ، انه كان بشرا ، وقد ورد في بعضها انه كان ملكا سماويا انزله الله الى الارض وآتاه من كل شيء سببا ، وفي خطط المغريزي عن كتاب الجاحظ ؛ ان ذا القرنين كانت امه آدمية وابوه من الملائكة ، وفي بعضها انه كان محدثا يأتيه الملك فيحدثه وفي بعضها انه كان نبيا ....

وكذلك اختلفوا في اسمه ، ان اسمه عياش ، في بعضها اسكندر ، وفي بعضها مرزيا بن مرزبة اليوناني من ولد يونن بن يافث بن نوح ، وفي بعضها انه الاسكندر المقدوني الذي سيطر على دول الغرب والروم ومصر وبنى مدينة الاسكندرية ، ثم سيطر بعد ذلك على الشام وبيت المقدس.

وقال البعض ان ذو القرنين ـ كان احد ملوك اليمن ، واكد البعض انه « كورش الكبير » الملك الاخميني ... الخ.

واما الاختلافات في وجه تسميته بذي القرنين كثيرا ايضا منها : ما رويناه عن الامام امير المؤمنين 7 : انه دعا قومه الى الله فضربوه على قرنه الايمن ... » فسمي بذلك ذا القرنين.

وفي بعضها انه نبت له قرنان في رأسه وكان يتعمم عليها يواريهما بذلك ، وهو اول من تعمم وقد كان يخفيهما عن الناس ....

وقيل : سمي ذا القرنين لانه ملك قرني الارض وهما المشرق والمغرب ، وقيل : لانه كان له عقيصتان في رأسه ، وقيل : لانه ملك الروم وفارس.

واما جواب سؤال ، اين يقع سد ذي القرنين؟ ايضا اجيب عليه عدة اجوبة

__________________

١ ـ تفسير القمي : ص ٤٠.


منها :

يرى البعض في سد ذي القرنين انه سد مأرب في اليمن ، ولكن هذا السد برغم وقوعه في مضيق جبلي الا انه انشئ لمنع السيل ولخَزن المياه ، وان النحاس والحديد لم يدخلا في بنائه.

ومن قائل يقول بانه جدار الصين الذي لا يزال موجودا ويبلغ طوله مئات الكيلومترات ، وهذا ايضا مردود ، لان الجدار لم يدخل في بنائه النحاس والحديد ، ولا يقع في مضيق جبلي ...

ولكن بالاستشهاد الى شهادة العلماء واهل الخبرة فان السد يقع في ارض القوقاز بين بحر الخزر والبحر الاسود ، حيث توجد سلسلة جبلية كالجدار تفصل بين الشمال عن الجنوب ، والمضيق الوحيد الذي يقع بين هذه الجبال الصخرية هو مضيق « داريال » المعروف ، ويشاهد فيه جدار حديدي اثري حتى الآن ، ولهذه المرجحات يعتقد الكثير بان سد « ذو القرنين » يقع في هذا المضيق ويوجد نهر بالقرب من ذلك المكان يسمى « سائرس » اي « كورش » اذ كان اليونان يسمون كورش بـ « سائرس ».

وقد وردت روايات كثيرة واقوال مختلفة في حياة ذي القرنين لو اردنا التفصيل يُطيل بنا المقام. (١)

ملاحظات :

قصة ذي القرنين بشكل عام تحتوي على دروس تربوية كثيرة ، ومواعظ وحكم قيمة جدا ومهمة يمكن الاستفادة منها والعمل على ضوئها من اجل

__________________

١ ـ راجع تفسير الميزان : ج ١٣ ص ٣٦٩.


سعادة الامة وادارة الدولة ... ، ويمكن تلخيص هذه الدروس بما يلي :

١ ـ اول درس نتعلمه هو ان اي عمل في هذه الدنيا لا يتم دون توفير اسبابه ، فان الله تبارك وتعالى هيأ الاسباب وتمكن ذو القرنين من الاستفادة منها بالوجه الصحيح وبافضل وجه ممكن ، ( فاتبع سببا ).

٢ ـ لا يمكن اي حكومة ان تنتصر بدون ترغيب الانصار والاتباع ، ومعاقبة المذنبين والمخطئين ، وهذا في قول ذي القرنين : ( قال أما من ظلم فسوف نعذبه ... وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى ).

وبلور الامام امير المؤمنين 7 هذا في رسالته الى مالك الاشتر حيث قال 7 : « ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء ... » (١).

٣ ـ التكليف الشاق وتحميل الناس ما لا يطاق ، مثل هذه الامور لا تناسب الحكومة الالهية العادلة ابدا ، « وسنقول له من امرنا يسرا » ، حتى يمكن انجاز الاعمال عن شوق ورغبة واخلاص.

٤ ـ رعاية شرائط حياة الامة المختلفة ، والتعامل مع كل مجموعة بما يناسب حياتها الخاصة ، وبذلك يدخل الجميع تحت لوائه ، كما فعله ذو القرنين مع اصحابه.

٥ ـ الاستماع الى مشاكل الامة ، والدأب على رفع احتياجاتهم بأي اسلوب كان ، وعدم التفرقة فيما بينهم ، حتى اذا كانت بعض المجموعات من شرائح الامة لم تكن تفهم الكلام وضعيفة الذكاء ولا تنفع الحكومة بأي شيء ـ ولا يكادون يفقهون قولا ـ.

٦ ـ الامن والامان للامة وهما اهم شرط من شروط الحياة الاجتماعية

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، الرسالة رقم ( ٥٣ ).


السالمة ، لهذا السبب تحمل « ذو القرنين » اصعب الاعمال واشقها لتامين امن القوم من اعدائهم وبنى لهم السدود ....

ولذلك نرى اول شيء طلبه ابراهيم 7 من الله عند بناء الكعبة هو الامن حيث قال : ( رب اجعل هذا البلد آمنا ). (١)

٧ ـ الدرس الآخر الذي يمكن ان نتعلمه من قصة ـ ذو القرنين ـ هو ان اصحاب المشكلة الاصليين والذين يطلبون الراحة والامن من الدعاء ، هم بالدرجة الاولى معنيين في الاشتراك في بناء بلادهم وبذل الجهد لحل مشكلتهم ، ورص الصفوف والتعاون الجمعي ، لذلك نرى « ذو القرنين » اعطى امرا الى الفئة التي اشتكت اليه امر يأجوج ومأجوج ـ وان يجلبوا قطع الحديد ، واشعال النار ، والنفخ في النار لاذابة النحاس ، وهذا يعطي قيمة خاصة للنتائج الحاصلة منه ، وللجهود المبذولة فيه ، ومن ثم يحرص الجميع للحفاظ عليه وادامته بحكم تحملهم لمجهودات انشائه.

ونستفيد من هذا ايضا ان المجتمع المتأخر والمتخلف يستطيع ان ينجز اعمالا مهمة وعظيمة اذا تمتع ببرنامج صحيح وادارة امنية وقيادة مخلصة ومؤمنة ....

٨ ـ الزعيم الالهي والقائد الرباني لا يلتفت الى الجزاء المادي والنفع المالي والدنيوي ، وانما يقتنع بما حباه الله ، وعلى هذا نرى « ذو القرنين » عندما اقترحوا عليه الاموال قال : « ما مكني فيه ربي خير » ، وقول النبي محمد 6 : « انما اجري على الله » وقوله 6 : « قل لا اسئلكم عليه اجرا الا المودة في القربى » ..

٩ ـ إحكام الامور والدقة في العمل والاخلاص هو درس آخر نستفيده من

__________________

١ ـ ابراهيم : ٣٥.


ذي القرنين حيث استفاد من قطع الحديد وقد فصلها بالنار ثم غطاها بالنحاس المذاب في بناء السد كي تمتنع عن التلف والصدأ اذا تعرضت للهواء والرطوبة.

١٠ ـ والدرس الآخر هو ، مهما كان الانسان قويا ومتمكنا وعالما وصاحب انجازات كبيرة ، فعليه ان لا يغتر بنفسه ويقول ما قاله « ذو القرنين » ـ هذا رحمة من ربي ـ وكما تعلمون الرياء يذهب ثواب الاعمال ويبطلها ويبتعد عن الله ، وكل شيء الى زوال واضمحلال مهما كان محكما وصلدا ...

اليس الجدير بنا ان نقف امام هذه النقاط المختصرة في عباراتها والمفصلة في معانيها وقفة متفكر ومعتبر كيف نعتبر منها ونعمل على ضوئها حتى نتمكن ان نقف بوجه الاستبداد والطاغوت والمحاريبن لديننا ودنيانا.

حكمه ومواعظه :

الدرس المهم الآخر الذي نستفيده من قصة « ذي القرنين » هي حكمه ومواعظه ومحادثاته مع الآخرين ، نختصر منها ما يلي :

عن ابي وائل ، عن وهب قال : وجدت في بعض كتب الله عزوجل ان ذا القرنين لما فرغ من عمل السد انطلق على وجهه ، فبينما هو يسير ومعه جنوده ، اذ مر على شيخ يصلي فوقف عليه بجنوده حتى انصرف من صلاته.

فقال له ذو القرنين : كيف لم يروّعك ما حضرك من جنودي؟

قال : كنت اناجي من هو اكثر جنودا منك ، واعز سلطانا ، واشد قوة ، ولو صرفت وجهي اليك لم ادرك حاجتي قبله.

قال له ذو القرنين : هل لك ان تنطلق معي فاواسيك بنفسي ، واستعين بك على بعض امري؟

قال : نعم ان ضمنت لي اربع خصال : نعيما لا يزول ، وصحة لا سقم فيها ،


وشبابا لا هرم فيه ، وحياة لا موت فيها.

فقال له ذو القرنين : واي مخلوق يقدر على هذه الخصال؟

فقال الشيخ : فاني مع من يقدر عليها ويملكها واياك.

ثم مر برجل عالم فقال لذي القرنين : اخبرني عن شيئين منذ خلقهما الله عزوجل قائمين ، وعن شيئين جاريين ، وشيئين متباغضين.

فقال له ذو القرنين : اما الشيئان القائمان فالسماوات والارض ، واما الشيئان الجاريان فالشمس والقمر ، واما الشيئان المختلفان فالليل والنهار ، واما الشيئان المتباغضان فالموت والحياة.

فقال : انطلق فانك عالم.

فانطلق ذو القرنين يسير في البلاد حتى مر بشيخ يقلب جماجم الموتى ، فوقف عليه بجنوده فقال له : اخبرني ايها الشيخ لاي شيء تقلب هذه الجماجم؟

قال : لاعرف الشريف من الوضيع ، والغني من الفقير ، فما عرفت ، واني لاقلبها منذ عشرين سنة ، فانطلق ذو القرنين وتركه وقال : ما عنيت بهذا احدا غيري.

فبينما هو يسير اذ وقع الى الامة العادلة والعالمة من قوم موسى 7 الذين يهدون بالحق وبه يعدلون.

فلما رآهم قال لهم : ايها القوم اخبروني بخبركم ، فاني قد درت الارض شرقها وغربها وبرها وبحرها ، وسهلها وجبلها ، ونورها وظلمتها فلم الف مثلكم.

فاخبروني ما بال قبور موتاكم على ابواب بيوتكم؟

قالوا : فعلنا ذلك لئلا ننسى الموت ولا يخرج ذكره من قلوبنا.

قال : فما بال بيوتكم ليس عليها ابواب؟

قالوا : ليس فينا لص ولا ظنين وليس فينا الا امين.


قال : فما بالكم ليس عليكم امراء؟

قالوا : لا نتظالم.

قال : فما بالكم ليس بينكم حكام؟ قالوا : لا نختصم.

قال : فما بالكم ليس فيكم ملوك؟ قالوا : لا نتكاثر.

قال : فما بالكم لا تتفاضلون ولا تتفاوتون؟ قالوا : من قبل انا متواسون متراحمون.

قال : فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون؟ قالوا : من قبل الفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا.

قال : فما بالكم لا تستبون ولا تقتلون؟ قالوا : من قبل انا غلبنا طبائعنا بالعزم وسسنا انفسنا بالحلم.

قال : فما بالكم كلمتكم واحدة وطريقتكم مستقيمة؟

قالوا : من قبل انا لا نتكاذب ولا نتخادع ولا يغتاب بعضنا بعضا.

قال : فاخبروني لم ليس فيكم مسكين ولافقير؟

قالوا : من قبل انا نقسم بالسوية.

قال : فما بالكم ليس فيكم فظ ولا غليظ؟ قالوا : من قبل الذل والتواضع.

قال : فلمَ جعلكم الله عزوجل اطول الناس اعمارا؟

قالوا : من قبل أنّا نتعاطى الحق ونحكم بالعدل.

قال : فما بالكم لا تقحطون؟ قالوا : من قبل أنّا لا نغفل عن الاستغفار.

قال : فما بالكم لا يصيبكم الآفات؟ قالوا : من قبل أنّا لا نتوكل على غير الله عزوجل ، ولا نستمطر بالانواع والنجوم.

قال : فحدثوني ايها القوم هكذا وجدتم آباءكم يفعلون؟

قالوا : وجدنا آباءنا يرحمون مسكينهم ، ويواسون فقيرهم ، ويعفون عمن


ظلمهم ، ويحسنون الى من اساء اليهم ، ويستغفرون لمسيئهم ، ويصلون ارحامهم ، ويؤدون امانتهم ، ويصدقون ولا يكذبون ، فاصلح الله لهم بذلك امرهم ، فاقام عندهم ذو القرنين حتى قبض ، وكان له خمسمائة عام. (١)

ومن الحكم التي تعلمها ذو القرنين من الله تعالى بواسطة الملائكة واوصانا بها قوله : « لا يهمّنّك رزق غد ، ولا تؤخر عمل اليوم لغد ، ولا تحزن على ما فاتك ، وعليك بالرفق ، ولا تكن جبارا متكبرا ». (٢)

روي انما لما التقى ذو القرنين مع النبي ابراهيم الخليل 7 ، قال ابراهيم 7 لذي القرنين : بمَ قطعت الدهر؟ قال : باحدى عشر كلمة : « سبحان من هو باق لا يفنى * سبحان من هو عالم لا ينسى * سبحان من هو حافظ لا يسقط * سبحان من هو بصير لا يرتاب * سبحان من هو قيوم لا ينام * سبحان من هو ملك لا يرام (٣) * سبحان من هو عزيز لا يضام (٤) * سبحان من هو محتجب لا يرى * سبحان من هو واسع لا يتكلف * سبحان من هو قائم لا يلهو * سبحان من هو دائم لا يسهو ».

مثال ضربه الخضر 7 الى ذي القرنين عندما ملك ما بين المشرق والمغرب واراد ان يصل الى عين الحياة ، في قصة مفصلة ذكرها صاحب البحار (٥) ، لا يعلم مدى صحتها الا الله ، نذكر الموعظة التي فيها.

قال الخضر لذي القرنين : ان مثلَ ابن آدم مِثل هذا الحجر العجيب الذي اذا

__________________

١ ـ البحار : ج ١٢ ص ١٧٧.

٢ ـ نفس المصدر : ص ١٨٨.

٣ ـ لا يرام : اي لا يقصده احد بسوء.

٤ ـ لا يضام : اي لا يُقهر ولا يَظلم.

٥ ـ البحار : ج ١٢ ص ١٩٩.


وضِعَ في كفة الميزان ووضع مقابله الف حجر فمال بها ، ثم اذا وضع عليه التراب شَبِعَ وعاد حجرا مثله « فتساوى ».

فقال : كذلك مثلك « يا ذا القرنين » اعطاك الله من الملك ما اعطاك فلم ترضى به حتى طلبت امرا لم يطلبه ابدا من كان قبلك ، ودخلت مدخلا لم يدخله انس ولا جان.

يقول : كذلك ابن آدم لا يشبع حتى يحثى عليه التراب.

قال : فبكى ذو القرنين بكاء شديدا وقال : صدقت يا خضر يضرب لي هذا المثل ، لا جرم اني لاطلب اثرا في البلاد بعد مسلكي هذا.

ثم انصرف راجعا في الظلمة ، فبينما هم يسيرون اذ سمعوا خشخشة تحت سنابك خيلهم ، فقالوا : ايها الملك ما هذا؟ فقال : خذوا منه ، فمن اخذ منه ندم ، ومن تركه ندم ، فأخذ بعض وترك بعض ، فلما خرجوا من الظلمة اذا هم بالزبرجد فندم الآخذ والتارك « ندم الآخذ لانه لم يأخذ اكثر ، وندم التارك لانه لم يأخذ ».

ورجع ذو القرنين الى دومة الجندل وكان بها منزله ، فلم يزل بها حتى قبضه الله اليه.

وكان عدة ما سار في البلاد من يوم بعثه الله عزوجل الى يوم قبض خمسمائة عام. (١)

__________________

١ ـ البحار : ج ١٢ ص ١٩٣.


( ١٢ )

حكم و مواعظ من حياة

النبي يوسف 7



قصة النبي يوسف 7

قال الله عزوجل في كتابه الكريم : ( اذ قال يوسف لابيه يا ابت اني رأيت احد عشر كوكبا والشمس والقمر رايتهم لي ساجدين * قال يا بني لا تقصص رؤياك على اخوتك فيكيدوا لك كيدا ان الشيطان للانسان عدو مبين ... ) الخ (١).

احسن القصص

عزيزي القارئ بين يديك قصة النبي يوسف 7 والتي تعتبر هي من احسن القصص المذكورة في القرآن الكريم وفي كتب القصص المختلفة ، هذه القصة تحتوي على حكم ومواعظ كثيرة ، ولها تأثير فاعل في حياة الانسان ، وفيها دروس تربوية ودينية واخلاقية واجتماعية وعبر لمن يعتبر.

قصة يوسف 7 ليست قصة عشق وغرام كما يتصور البعض ، بل قصة صراع مرير بين الحق والباطل ، بين جنود الشيطان وجنود الرحمان ، بين العشق المعنوي الالهي والعشق المادي الشيطاني.

ظاهر القصة عذب وجميل ومن حيث الباطن فمحتواه عظيم ومليء

__________________

١ ـ يوسف : ٤ ـ ٥ ... الخ.


بالموعظة والعفة والكرامة.

يعتقد بعض المفسرون ان قوله تعالى : ( نحن نقص عليك احسن القصص ... ) (١) اشارة الى مجموع القرآن ، اي ان القرآن الكريم كله قصص وحكايات ، والحال ليس كذلك ، صحيح يوجد في القرآن قصص كثيرة وحكايات بنّاءه ومربية كما ذكر في الاحاديث عن رسول الله 6 قال : « ان احسن القصص هذا القرآن » (٢).

وكما نقرأ في خطبة الامام امير المؤمنين 7 قوله : « ان احسن القصص وابلغ الموعظة وانفع الذكر كتاب الله » (٣).

ولكن هذا ليس معناه ان القرآن كتاب قصصي فقط ويقرا للتسلية وسد الفراغ ، بل القرآن الكريم دستور الهي وكتاب سماوي انزله الله تعالى على نبيه المرسل وخاتم الانبياء والرسل محمد 6 وهو خاتم الرسالات السماوية ، ليهتدي به الناس ويسيرون على نهجه ومنهاجه وحُكمه والعمل به بما فيه خير الدنيا والآخرة ، حيث قال تعالى : ( ان هذا القرآن يهدي للتي هي اقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات ان لهم اجرا كبيرا ) (٤).

والقصة التي في القرآن الكريم ليست بمعنى سرد الحكايات وسد الفراغ كما ذكرنا ، بل المراد معناها ـ الجذري ـ في اللغة وهو البحث عن آثار الشيء ، وترسم لنا في فصولها المثيرة اسمى دروس الحياة وحاكمية الله على كل شيء ، وتُظهر لنا ما ينتهي اليه الحاسدون والحاقدون والمنافقون والمنحرفون عن الحق

__________________

١ ـ يوسف : ٣.

٢ ـ نور الثقلين : ج ٢ ص ٤٩.

٣ ـ نفس المصدر.

٤ ـ الاسراء : ٩.


المتمسكون بالشيطان.

ولا مانع من ان يكون القرآن هو احسن القصص بصورة عامة ، وقصة يوسف هي احسن القصص بصورة خاصة.

قصة يوسف 7 :

كان ليعقوب 7 اثنا عشر ولدا ، اثنان منهما وهم يوسف وبنيامين من ام واحدة اسمها « راحيل » ، وكان يعقوب 7 يولي هذين الولدين محبة خاصة ، وخاصة يوسف 7 ، لانه كان اصغر اولاده وهو يحتاج الى رعاية وعناية خاصة ، وفي نفس الوقت كانت امه قد ارتحلت من الدنيا.

ومع كل هذا كان يوسف ترتسم عليه علائم النبوغ والذكاء الحاد ، مما ادى هذا الى ان يولي يعقوب اهتمام وعناية اكثر لولده يوسف ، حيث ادى هذا الى اثارة نار الحسد والحقد من اخوته عليه ، واخذوا يتدارسون الأمر وكيفية التخلص من يوسف حتى يخلو وجه ابيهم اليهم حسب تصورهم الباطل ، وبعد ذلك صمموا على المؤامرة الشنعاء والجريمة النكراء في التخلص من يوسف.

( اذ قالوا ليوسف واخوه احب الى ابينا منا ونحن عصبة ).

وحكموا على ابيهم من جانب واحد بقولهم ( ان ابانا لفي ضلال مبين ).

ان نار الحسد والحقد لم تدعهم ليفكروا في جميع جوانب الأمر من اجل ان يكتشفوا اسباب علاقة يعقوب بالنسبة لولديه يوسف وبنيامين واظهار الحب لهما ، لان المنافع الخاصة لكل فرد تجعل بينه وبين عقله حجابا فيجعله يقضي من جانب ، وتكون النتيجة ، الضلال والخسران المبين.

وعلما ان اتهام اخوة يوسف لابيهم بالضلالة ، لم يكن المقصود منها


الضلالة الدينية ، لانهم يعتقدون بنبوة ابيهم ، وانما استنكروا طريقة معاشرته فحسب.

الرؤيا الصادقة :

والذي زاد في حب يعقوب لولده يوسف الرؤيا التي رآها يوسف ، ـ وكان ذلك وحسب ما رواه ابن عباس ـ في ليلة الجمعة التي صادفت ليلة القدر تعيين الاقدار والآجال.

جاء يوسف في احد الايام صباحا الى ابيه وهو في غاية الشوق ليحدثه عن رؤياه ، وقال له : يا ابت اني رأيت في المنام احد عشر كوكبا والشمس والقمر رايتهم لي ساجدين ، حيث كان عمره آنذاك ، تسع سنوات او سبع ، ومنهم من يقول : اثنتي عشرة سنة ، والقدر المسلم انه كان صبيا.

عندما سمع يعقوب رؤيا ولده يوسف اخذ يفكر في الأمر وما معنى هذه الرؤيا وتفسيرها ...

وقال في نفسه : لا شك ان الشمس والقمر « انا وامه او خالته » لان امه كما ذكرنا قد ماتت ، والكواكب الاحد عشر ـ اخوته ـ ولابد لولدي يوسف شأن عند الله تعالى وسوف يصبح عزيز قوم ويتواضعون له ويخشعون.

لذلك توجه الى يوسف بلهجة ملؤها الاضطراب والخوف المقرون بالفرحة وقال له : يا بني لا تقصص رؤياك على اخوتك ولا تخبرهم خوفا من ان يكيدوا لك كيدا ، لانه كان يعرف حساسيتهم وحسادتهم بالنسبة لاخيهم يوسف ، فخاف عليه منهم.

ولكن هذه الرؤيا لم تكن دليلا على عظمة يوسف في المستقبل من الوجهة الظاهرية والمادية فحسب ، بل تدل على مقام النبوة التي سيصل اليها


يوسف في المستقبل ، وذلك في قول يعقوب لولده يوسف : ( وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تاويل الاحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما اتمها على ابويك من قبل ابراهيم واسحق ... ) (١). فان الله على كل شيء قدير ملكا.

اذن علم يعقوب 7 بان ابنه سوف يصبح نبيا ، وذلك ليس بعيد على النبي ، لان ارتباطه بالله عزوجل وبعالم الغيب يوصله الى تفسير ذلك.

آثار الحسد :

ازداد حب يعقوب لولده يوسف وازداد تحفضه عليه واهتمامه به ، مما ادى الى ازدياد حسد اخوته منه وحقدهم عليه.

اخذو يفكرون ويخططوا بكيفية التخلص من يوسف وابعاده عن ابيه حتى يخلوا لهم وجه ابيهم ، فوصلوا الى مقترَحَين وقالوا : اما ان نقتله او نرميه في بئر فتاخذه المارة ونتخلص منه ، وبعد ذلك نتوب الى الله ونكون قوما صالحين.

هذه هي اساليب الشيطان لاغواء الانسان ، يرسم له الخطة في ارتكاب الذنب والجريمة وبعد ذلك يرسم له خطة شيطانية اخرى في كيفية التخلص والابتعاد عنها ، وذلك لمخادعة الضمير والوجدان في تسهيل ارتكاب الذنب ، فان اخوة يوسف دخلوا من هذا الطريق والمخطط الشيطاني.

وفي النهاية صمموا على صواب اقتراح احدهم في عدم قتل يوسف والقائه في الجب « اي البئر » ، وكان الذي اقترح ذلك اخوه من امه ـ بنيامين ـ.

عند ذلك اخذوا يفكرون في كيفية نجاح الخطة وابعاد يوسف عن ابيه

__________________

١ ـ يوسف : ٦.


واخذه الى خارج المدينة والقائه في البئر.

فجاؤوا الى ابيهم بلسان ليّن يدعوا الى الترحم والمحبة والعطف وقالوا له : يا ابانا انّ اخانا هذا ما يزال صبيا وبحاجة الى اللهو واللعب فخل سبيله واتركه معنا غدا يرتع ويلعب ونحن نواظب عليه ونحامي عنه.

ولكن يعقوب دون ان يتهم اولاده بسوء القصد ، بل اظهر التردد في ارسال يوسف وقال لهم :

انه اذا ابتعد عني سوف يحزنني ، وربما يوجد في خارج المدينة بعض الذئاب المفترسة اخاف ان تاكله ، فاعتذر اليهم.

فقالوا لابيهم : كيف يكون ذلك ، هل نحن موتى فلا ندافع عن اخينا بل نتفرج عليه والذئب ياكله ، ما عسى ان نقول للناس وكيف نغفل عنه ونتركه وحده ، الى غير ذلك من الترغيب وتحريك احاسيس يوسف وترغيبه للذهاب معهم للنزهة خارج المدينة ايضا.

واخيرا انتصر اخوة يوسف واقنعوا اباهم ان يرسل معهم اخاهم يوسف ، فباتوا ليلتهم مطمئني البال لياتي الصباح وينفذوا خطتهم.

عندما اصبح الصباح جاؤوا الى ابيهم واخذوا منه يوسف فامرهم بالمحافظة عليه ، وكرر توصياته في شأنه ، فاظهر الابناء طاعتهم لابيهم ، وابدوا احترامهم الفائق ومحبتهم العميقة ، وتحركوا الى خارج المدينة.

عندما انتهوا الى خارج المدينة وجدوا بئرا فاجمعوا على القائه في هذا البئر ، فالقوه في البئر.

وبعد ان نفذ اخوة يوسف خطتهم كما ارادوا ، جلسوا يفكرون ماذا يجب ان يفعلوا اذا رجعوا الى ابيهم كي يصدق كلامهم بان يوسف قد انتهى الى العدم بصورة طبيعية ، ليجلبوا عواطف ابيهم نحوهم.


وكانت الفكرة هي ما تخوّف ابوهم منها في بادئ الأمر ، فادّعوا بان الذئب قد اكل يوسف وجاؤوا اليه بدلائل مزيفة !.

( وجاؤوا اباهم عشاء يبكون * قالوا يا ابانا انا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فاكله الذئب وما انت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين * وجاؤوا على قميصه بدم كذب ... ) (١).

اما الاب الذي كان ينتظر مجيء ولده بفارغ من الصبر ، عندما لم يرى ولده مع اخوته وسمع مقولتهم ، اهتز وارتجف وبكى ولده لشدة حزنه عليه ، واخذ قميص ولده الملطخ بدم الغزال ووضعه على وجهه وطفق يبكي حتى غشي عليه وسقط الى الارض كالخشبة اليابسة ، وبقي مغشيا عليه حتى السحر ، فلما هب النسيم ومر بوجهه افاق من غشيته.

وبالرغم من احتراق قلبه وبكائه الشديد ، لم يجر على لسانه ما يدل على الجزع وعدم الشكر بل قال : ( فصبر جميل ) ثم قال : ( والله المستعان على ما يصفون ) واسأله ان يرزقني الصبر والتحمل والقدرة اكثر فاكثر على فراقه.

ولم يقل على موته ، لانه كان يعلم ان يوسف لم يُقتل ، بل قال اطلب الصبر على مفارقة : ولدي يوسف ... وعلى ما تصفون.

نجاة يوسف من البئر :

قضى يوسف في ظلمة البئر الموحشة والوحدة القاتلة ساعات مرة ، ولكنه بايمانه بالله ودعائه وتوسله المستمر شع في قلبه نور الامل ، والهمه الله تعالى القوة والقدرة على تحمل الوحدة الموحشة وان ينتصر في هذا الامتحان.

__________________

١ ـ يوسف : ١٦ ـ ١٨.


بقي يوسف في البئر يومين او ثلاثة ايام ، وبينما هو كذلك اذ جاءت قافلة وحطت رحلها بالقرب من البئر ، وجاء احدهم الى البئر وادلى بدلوه ليستسقي من ماء البئر.

التفت يوسف الى صوت وحركة من اعلى البئر ، ثم رأى الحبل والدلو يسرعان الى النزول ، فانتهز الفرصة وتعلق بالحبل بشدة.

فاحس المامور بجلب الماء ان الدلو قد ثقل اكثر مما ينبغي ، فلما سحبه بقوة الى الاعلى فوجيء بغلام كانه فلقة القمر ، فصرخ وقال : يا بشرى هذا غلام ...

انتشر خبر يوسف شيئا فشيئا بين اهل القافلة ، ولكن الذي وجده اخفاه من اجل ان لا يذاع هذا الخبر وينتشر كي يمكن بيع هذا الغلام في مصر ( وأسرّه بضاعة والله عليم بما يعملون ) (١).

يوسف في بيت العزيز :

عندما وصلت القافلة الى مصر عرضوا يوسف للبيع ، فاشتراه عزيز مصر الذي كان وزيرا لفرعون ، ولم يكن يرزق ولدا وكان في غاية الشوق للولد ، وحينما رأى هذا الصبي الجميل تعلق قلبه به ليكون مكان ولده.

جاء به الى بيته وقال العزيز لامراته ( اكرمي مثواه ) ، اي تصدي بنفسك امره وتربيته واجعلي له مقاما كريما عندك عسى ان ينفعنا في امورنا او نتخذه ولدا لنا.

بقي يوسف في بيت العزيز وواجه في هذا المحيط الجديد ، الذي يعد

__________________

١ ـ يوسف : ١٩.


واحدا من المراكز المهمة السياسية في مصر ، ومن جهة اخرى كان يرى قصور الطغاة المدهشة وثرواتهم ، ومن جهة اخرى كانت تتجسد في ذهنه صورة اسواق النخاسين وبيع المماليك والعبيد ، وكان يفكر في كيفية القضاء على هذه الظواهر ونجاة الناس من المستضعفين منهم.

نعم لقد تعلم الكثير في فترة بقائه في هذا المحيط المفعم بالضوضاء ، وكان في نفس الوقت مشغولا بتهذيب نفسه وبنائها ، وبقي كذلك في بيت العزيز حتى بلغ اشده وآتاه الله علما وحكما بعدما وصل الى مرحلة البلوغ الجسمي والروحي.

عشق العزيزة :

لم ياسر جمال يوسف الملكوتي عزيز مصر فحسب ، بل اسر حتى قلب امرأة العزيز واصبح بسرعة مسخرا لجماله !

وامتدت مخالب العشق الى اعماق قلبها ، وبمرور الزمن وكلما ترعرع يوسف وكبر يزداد جمالا ورشاقة ، وفي المقابل تزداد امرأة العزيز عشقا ومحبة واشتعالا يوما بعد يوم.

لكن يوسف هذا الطاهر التقي ، لم يفكر سوى بالله ، ولم يتعلق قلبه بغير عشق الله سبحانه ، ولم تتمكن امرأة العزيز من الوصول الى قلبه والى هدفها مع اتباع كل الوسائل المغرية والاساليب الجذابة ، ولكنها فشلت ولم تتمكن من اغوائه واغرائه ، وبقيت هكذا الى ان نفذ صبرها وانتظارها بحيث اخبرت يوسف اخيرا عما في قلبها وراودته عن نفسه.

واتبعت جميع الاساليب والطرق للوصول الى هدفها ، وسعت لكي تلقي في قلبه اثرا من هواها وترغيبها وطلبها ، كما ذكر لنا القرآن الكريم ( وراودته


التي هي في بيتها ). وطلبت مه ان ينال منها بطرق المسالمة والمساومة ، وبدون اي تهديد ، وابدت محبتها القصوى له بمنتهى اللين ، ولكنها فشلت ولم توفق للنيل منه.

ساعة الصفر :

واخيرا حانت ساعة الصفر وفكرت في ان تخلو به وتوفر له جميع ما يثير غريزته ، ولبست من الثياب الفضفاضة ، وعطرت نفسها بعطور عبقة شذية ، وتجميلات مرغبة ، حتى تستولي على يوسف وتاسره.

( وغلقت الابواب وقالت هيت لك ).

نعم بعد ان هيئت نفسها على احسن ما يرام وغلقت جميع الابواب واحكمتها لئلا يجد اي طريق للفرار ، وتقدمت نحوه وقالت : ( هيت لك ) وقال لها : ( معاذ الله انه ربي احسن مثواي انه لا يفلح الظالمون ).

وفي هذا الحال ، وحين رأى يوسف ان هذه تجره نحو الاثم ، ولم يرى طريقا للخلاص منها ، توجه اليها وقال بهذا الكلام « معاذ الله ».

وبهذا الكلام رفض يوسف طلب امرأة العزيز غير المشروع ... واعلمها انه لن يستسلم لارادتها ....

وافهمنا ضمنا ، كما افهم غيرها ، ان مثل هذه الظروف الصعبة لا يمكن النجاة من وساوس الشيطان واغراءاته ، الا بالالتجاء الى الله والتمسك بالعروة الوثقى ، الله الذي يعلم الجهر وما اخفى ، والمطلع والمهيمن على كل شيء ، وحاضر في كل مكان في السر والعلانية.


معنى هم بها :

ومعنى قوله تعالى : ( ولقد همت به وهم بها لولا ان رأى برهان ربه ) المراد هنا بالهم الثاني هو قصده ان يضربها للدفاع عن نفسه ، اي بعدما همت به لارتكاب الفاحشة معه ، هم بها ليضربها ، ودفعها عن نفسه ، كما يقال : هممت بفلان اي بضربه وايقاع مكروه به ، والدليل على التفرقة بين الهمين شهادته تعالى على انه من عباده المخلصين وقيام الحجة عقلا على عصمة الانبياء :.

وعلى هذا فيكون معنى رؤية البرهان ان الله سبحانه اراه برهانا على انه ان اقدم على ما هم به وضربها ، اهلكه اهلها او قتلوه ، او ادعت عليه المراودة على القبيح وقذفته بانه دعاها اليه وضربها لامتناعها منه ، فأخبره الله سبحانه انه صرف عنه السوء والفحشاء اللذين هما القتل.

وكذلك هم بها بمعنى : الهم ان يختار للدفاع عن نفسه سبيل الفرار فقصد باب البيت ليفتحه ويخرج من عندها ويهم بالفرار.

فتصميم امرأة العزيز على هذا العمل كان لعدم انتصارها في عشقها وبروز روح الانتقام فيها ثأرا لهذا العشق.

وتصميم يوسف كان دفاعا عن نفسه ، وعدم التسليم لطلب تلك المرأة.

هذا مختصرا ، وهناك اقوال عديدة وتفاسير مختلفة ومفصلة ومنها افتراءات واكاذيب اسرائيلية ، للاطلاع عليها راجع تفسير الميزان (١).

الانتصار على النفس :

وهنا يبلغ امر يوسف وامرأة العزيز الى ادق مرحلة واخطرها ، وتحول الى

__________________

١ ـ تفسير الميزان : ج ١١ ص ١٢٢ ـ ١٤٠.


مرحلة صعبة ، وعذاب مستمر يحتاج الى صبر وتحمل وتوكل على الله.

بعدما تمكن يوسف ان ينجو من هذه المرحلة الصعبة جدا والتي ساعده الله وانجاه منها بما انقدح في ذهنه ورأى ببصره وبصيرته برهان ربه ، وانتصر على نفسه الامارة بوجه مشرق.

قال يعطي المفسرين ان سبب انتصاره يقود الى اسباب ثلاث :

الاول : انه التجأ الى ربه واستعاذ به ، وقال : ( معاذ الله ).

الثاني : التفاته الى ـ الزاد والملح ـ الذي اكله عند عزيز مصر ، وما تناوله في بيته فاثر فيه فلم ينس فضله طيلة حياته ، هذا مع ما حصل عليه من نعم الله التي لا تحصى والتي انقذته من غيابة الجب الموحشة واوصلته الى محيط الامان والهدوء ، كل هذه جعلته يفكر بها ، ولا يستسلم للتيارات العابرة. واللذةالزائلة.

الثالث : بناء شخصيته وعبوديته المقرونة بالاخلاص لله تعالى ، والتي عبر عنها القرآن : ( انه من عبادنا المخلصين ).

وهذا الدرس كبير ومهم لجميع الناس الاحرار الذين يريدون ان ينتصروا على عدوهم الخطير في ميادين الجهاد ، جهاد النفس.

نرى امرأة العزيز تتوسل بيوسف بعدة اسباب وتغلق الابواب دونه وتراوده بقولها : هيت لك ـ ، واما هو ، فقد قابلها بقوله : ( معاذ الله ) فلم يجبها بتهديد ولم يقل : باني اخاف العزيز ، او لا اخونه ، الى غير ذلك من الاعتذارات ، بل استمسك بعروة التوحيد ، ولم يكن في قلبه احد سوى ربه ، ولم يقل سوى معاذ الله ....

الفضيحة :

نعم : لم تيأس امرأة العزيز « زليخا » من يوسف ، وارادت ان ترمي بنفسها


عليه عسى ان يستسلم لها ، ولكن يوسف احس بالخطر مرة ثانية وهرب منها واسرع نحو الباب ليفتحه ويخرج ، واسرعت زليخا خلفه لتمنعه من الخروج ، وسحبت قميصه من خلفه ، فقدته من دبر ، اي مزقته طولا » ( واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر ).

وعلى كل حال تمكن يوسف من الوصول نحو الباب وفتحه ، فرآه عزيز مصر خلف الباب فجاة ، ( والفيا سيدها لدى الباب ).

وفي هذه اللحظة الحرجة رأت زليخا نفسها امام زوجها واحست بالفضيحة من جهة ، وشعلة الانتقام تتأجج في داخلها على يوسف من جهة اخرى ، كان اول شيء توجهت اليه ان تخاطب زوجها بمظهر الحق متهمة يوسف اذ : ( قالت ما جزاء من اراد باهلك سوءا الا ان يسجن او عذاب اليم ) (١).

ولكن يوسف هنا وفي هذه اللحظة الحرجة لم يجد من الرد بدا ووجد السكوت حراما لئلا تثبت التهمة عليه ، فاماط اللثام عن عشق زليخا وقال : ( قال هي راودتني عن نفسي ).

من الطبيعي ان مثل هذا الحادث عسير جدا ولا يمكن ان يصدقه كل احد ، اي ان شابا يافعا غير متزوج لا يعد آثما ، وفي مقابله امرأة متزوجة ذات شخصية مرموقة ، فلذلك كانت شعلة الاتهام تحوم حول يوسف اكثر من امرأة العزيز.

ولكن حين ان الله عزوجل حامي المخلصين والصالحين فلا يرضى ان يحترق هذا الشاب المجاهد بشعلة الاتهام ، لذلك انجاه بحضور شاهد من اهلها مع دليل قاطع وقوي ( وشهد شاهد من اهلها ان كان قميصه قد من قبل

__________________

١ ـ يوسف : ٢٥.


فصدقت وهو من الكاذبين * وان كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين ) (١).

اي دليل اقوى من هذا الدليل ، فقد ركضت خلف يوسف وقدت قميصه من دبر ، لانه كان يريد الفرار منها فامسكت بثوبه فقدته.

ولكن من هو هذا الشاهد الذي انقذ يوسف في اللحظة الحاسمة؟ سوف يأتي انشاء الله ...

كان هذا سندا على طهارة يوسف وبرائته من الجريمة ، وفي نفس الوقت دليلا على افتضاح المجرم !

اما عزيز مصر لما رأى الحقيقة قِبَل هذا الحكم ، وخوفا من ان يذيع هذا الحادث المؤسف على الملا ، ويسقط ماء وجهه ، رأى من الصلاح جعل القضية طي الكتمان والسر ، فالتفت الى زوجته قائلا لها ... ( انه من كيدكن ان كيدكن عظيم ) ، والتفت الى يوسف قائلا له : ( يوسف اعرض عن هذا ) اي اكتم هذا الأمر ولا تخبر به احدا ، ثم التفت مرة ثانية الى امرأته وقال : ( واستغفري لذنبك انك كنت من الخاطئين ) (٢).

هل كان هذا اول مرة وآخر مرة من امرأة العزيز في مراودته ليوسف؟ كلا ، بل كانت هناك محاولات متعددة قبل هذه الحادثة وبعدها في جلب يوسف لها ، وقد استولى عليها الوله وسلب منها الحب والغرام كل حلم وحزم ، ولم تكن المراودة مرة او مرتين الى ان انتشر حبها ليوسف بين اكثر نساء مصر وخاصة بين نساء القصور والامراء واصبح حديث الساعة في محافلهن ومجالسهن ، واخذن يعيّرن بذلك عزيزة مصر وقلن انها تولهت الى فتاها وافتتنت به فراودته عن نفسه

__________________

١ ـ يوسف : ٢٦.

٢ ـ يوسف : ٢٩.


( وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا انا لنراها في ضلال مبين ).

وكان ذلك مكرا منهن بها على ما في طبع اكثر النساء من الحسد والعجب والغيرة ، فان المرأة تغلبها العواطف الرقيقة والاحساسات اللطيفة.

يوسف ونساء مصر :

شاع خبر مراودة العزيزة لفتاها بين نساء مصر حتى وصل الى مسامع امرأة العزيز ، التي لا هم لها الا ان تفوز في طلب يوسف وبلوغ ما تريده منه ، فاستيقظت من رقدتها وعلمت بمكرهن ، فارسلت اليهن للحضور لديها.

تهيئن ولبسن افخر ثيابهن وزينتهن ، لانهن ايضا لسن باقل من امرأة العزيز عشقا ليوسف ، فاستغلت ـ زليخا ـ هذه الفرصة.

ثم لما حضرن عند العزيزة واخذن مقاعدهن ، وجرى الانس والمحادثة واخذن في التفكه اتت كل واحد منهن سكينا مع الفاكهة عند ذلك امرت يوسف ان يخرج اليهن وقد كان مستورا عنهن.

فلما طلع يوسف عليهن ووقعت عليه اعينهن طارت عقولهن وبهتن وذهلن حتى جرحن ايديهن مكان الفاكهة واخذت الدماء تسيل من ايديهن ولا يشعرن بذلك ، وقلن ( حاش لله ما هذا بشرا ان هذا الا ملك كريم ).

فالتفتت اليهن العزيزة وقالت : ( فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ) ثم هددت يوسف تجلدا وحفظا لمقامها عندهن واصرارا منها على اخضاعه ومطاوعته لها فقالت : ( ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن


وليكونا من الصاغرين ) (١).

ولهذا انقلب المجلس دفعة ، وانقطعت قيود الاحتشام فانبسطن وتظاهرن بالقول في حسن يوسف وجماله وكل تتكلم بما في ضميرها منه ....

دخول يوسف الى السجن :

واما يوسف فلم ينظر الى تلك الوجوه الحسان ولا التفت الى شيء من لطيف كلامهن ، ولم يلتفت الى ما كانت امرأة العزيز تسمعه من القول والتهديد ، وانما رجع الى ربه وتوجه نحوه تعالى ودعاه ان ينجيه منهن ومن مكرهن حتى لو ادى ذلك الى السجن وقال رافعا رأسه الى السماء مناجيا ربه : ( قال رب السجن احب الي مما يدعونني اليه ).

رباه ... انني اتقبل السجن الموحش رعاية لامرك وحفظا لطهارة نفسي ، في هذا السجن تتحرر فيه روحي وتطهر نفسي.

وحيث ان وعد الله حق ، وانه يعين المجاهد لنفسه او لعدوه ، فانه لم يترك يوسف لوحده ( فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن انه هو السميع العليم ) (٢).

انتهى المجلس العجيب لنسوة مصر مع يوسف في قصر العزيز والعزيزة ، ووصل الخبر الى سمع العزيز ، اتضح لهم ان يوسف لم يكن شابا عاديا ، بل كان طاهرا لدرجة لا يمكن لاي قوة ان تجره الى الانحراف والتلوث ومقاومته امام وساوس نسوة مصر ، واستعداده لدخول السجن وعدم الاستسلام لتهديدات العزيزة.

__________________

١ ـ يوسف : ٣٢.

٢ ـ يوسف : ٣٤.


فكان الراي ان يُبعَد يوسف عن الانظار لينسى الناس اسمه وشخصه ، وفي نفس الوقت يحافظون على سمعتهم وصونا لاسرتهم من العار والهوان ، وليشيع بين الناس ان المذنب هو يوسف ، وفعلا ادخل يوسف السجن مؤقتا حتى تهدأ الامور وينسى الناس.

ومن جملة السجناء الذين دخلوا مع يوسف السجن فتيان يقال : انهما كانا عبدين من عبيد الملك.

بعد فترة من الزمن ويوسف جالس في السجن يعبد الله ، جاء هذا الفتيان الى يوسف وقال احدهما : اني رأيت فيما يرى النائم اعصر خمرا ، وقال الثاني : اني رأيت احمل فوق راسي خبزا تأكل الطير منه.

فاجابهما يوسف بعدما نصحهما وارشدهما الى توحيد الله ودعا لهما ، ثم التفت اليهما وقال : ( يا صاحبي السجن اما احدكما فيسقي ربه خمرا واما الآخر فيصلب فتاكل الطير من رأسه ... ).

المراد هنا من ـ فيسقي ربه خمرا ـ بمعنى هذا الذي سوف يخرج من السجن ويطلق صراحه سوف يسقي الملك خمرا ويصبح ساقي للملك ، لذلك طلب منه يوسف ان يذكره عند الملك ليطلق سراحه في قوله تعالى : « اذكرني عند ربك » اي توسل يوسف بغير الله ، ولكن الغلام نسى وانساه الله ان يخبر الملك واصبح يوسف منسيا وضل في السجن ما يقارب سبع سنوات.

خروج يوسف من السجن :

بقي يوسف سنين في السجن المظلم كأي انسان منسي ، ولم يكن لديه من عمل سوى بناء شخصيته ، وارشاد السجناء وعيادة المرضى وتسلية الموجعين منهم الى ان حان الفرج.


لقد رأى ملك مصر رؤيا مهولة ، فاحضر عند الصباح المعبرين للرؤيا ، فقص عليهم رؤياه ثم التفت اليهم وطلب منهم تعبير رؤياه ، ولكن الجميع دهشوا لهذه الرؤيا ولم يتمكنوا من تعبيرها ، وقالوا له : ( اضغاث احلام وما نحن بتأويل الاحلام بعالمين ).

والرؤيا التي رآها الملك وكما يصفها القرآن لنا هي : ( وقال الملك اني ارى سبع بقرات سمان ياكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر واخر يابسات ... ).

ولما اظهروا عجزهم عن تأويل هذه الرؤيا ، هنا تذكر ساقي الملك الذي خرج من السجن ما حدث له ولصاحبه في السجن مع يوسف ، ونجا من السجن كما بشره يوسف.

قال الساقي للملك : يوجد في زاوية السجن رجل حي الضمير طاهر القلب ومؤمن بالله مفسرا للارحام ، يستطيع ان يكشف الحجاب عن هذه الرؤيا ، هنا طلب الملك الاسراع بالذهاب الى السجن واخبار السجين بالرؤيا والاتيان بالخبر.

مضى الساقي الى السجن مسرعا ليرى صديقه القديم ، الذي لم يف له بوعده.

عندما وصل اليه قال له : يوسف ايها الصديق افتنا في سبع بقرات سمان ... ونقل له رؤيا الملك ، وطلب منه تفسير الرؤيا.

بدون اي تردد واي شرطا او اجرا لتعبيره ، عبر الرؤيا فورا وقال له : تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم منه فذروه في سنبله ولا تستعملون منه الا القليل مما تاكلون ، ويجب عليكم ان تقتصدون في مصرفه ، ثم يأتي بعد ذلك سبع سنين شداد تموت مزارعكم وتنقطع الامطار وتحصل المجاعة والقحط عند


ذلك تأكلون مما ادخرتم وتنجون من الموت جوعا ، ثم يأتي بعد ذلك عام فيه يُغاث الناس وتنزل البركة وتمطر السماء فترتفع المجاعة وتكثر الخيرات ...

لقد كان تعبير يوسف لرؤيا الملك دقيقا ومدروسا ومنطقيا الى درجة انه جذب الملك وحاشيته اليه.

لقد فهم الملك اجمالا ان يوسف لم يكن رجلا يستحق السجن ، بل هو شخص اسمى مقاما من الانسان العادي ، فعند ذلك امر الملك باحضاره واطلاق صراحه فبعث من يأتي به.

الاعتراف بالذنب :

لم يوافق يوسف على الخروج من السجن دون ان يثبت براءته وطهارته امام الجميع ، كما يُثبت ضمنا تلوث النظام الحكومي وما يجري في قصر الملك وقصر وزيره ! فالتفت الى رسول الملك وقال له : ارجع الى الملك واسأله ما بال النسوة التي قطعن ايديهن.

عندما جاء الرسول واخبر الملك بطلب يوسف ، احضر النسوة وكانت العزيزة حاضرة ايضا وسألهن وقال : ( ما خطبكن اذ راودتن يوسف عن نفسه ) ، هل كان عنده من تقصير او ذنب؟ فتيقظ الوجدان ونطقن بالحق جميعا وقلن : ( حاش لله ما علمنا عليه من سوء ) واعترفن بذنبهن.

وقالت العزيزة حيث كانت حاضرة تسمع وترى ، فلم تجد القدرة في نفسها على السكوت ، ودون ان تُسأل واحست بضميرها يستيقظ والوقت قد حان لان تعترف وتنزه يوسف ، وخاصة انها رأت كرم يوسف المنقطع النظير من خلال رسالته الى الملك ، اذ لم يعرض فيها بالطعن في شخصيتها ولم يذكرها بسوء ، بل كان كلامه مغلقا تحت عنوان « نسوة مصر ».


فصرخت وقالت : ( الآن حصحص الحق انا راودته عن نفسه وانه لمن الصادقين ).

نعم واخيرا اعترفت العزيزة بذنبها وطلبت من الله عزوجل العفو والتوبة وقالت : ( وما ابرئ نفسي ان النفس لامارة بالسوء الا ما رحم ربي ان ربي غفور رحيم ). وقد تركت العشق المجازي والمادي ، وتمسكت بالعشق الحقيقي الروحاني وهو « عشق الله » والاخلاص لعبودية الله الواحد الاحد ، اله يوسف ويعقوب.

وبهذا ثبتت براءة يوسف وخرج من السجن واصبح من المقربين للملك ، ومن المخلصين للرعية ، ومتنفذا للمستضعفين ، وملجأ للمحرومين.

يوسف عزيز مصر :

بعد ان خرج يوسف من السجن قال الملك : ( ائتوني به استخلصه لنفسي ) ، فان الملك امر باحضاره لكي يجعله مستشاره الخاص ونائبه في المهمات ، فيستفيد من علمه ومعرفته وخبرته في الادارة لحل المشاكل المستعصية.

ولما سمع الملك من يوسف كلامه واجوبته على الاسئلة التي تحكي عن علمه وفراسته ، ازداد حبا له وقال : ان لك اليوم عندنا منزلة رفيعة وسلطات واسعة وانك في موضع الثقة والاعتماد عندنا ، وانك لابد ان تتصدى للمناصب الهامة في هذا البلد ، وتهتم باصلاح الامور الفاسدة ، وانك الوحيد القادر على ان يتغلب على هذه الازمة الاقتصادية التي ستواجه بلدنا حسب تفسيرك للرؤيا.

فوافق يوسف واختار منصب الامانة على خزائن مصر ، وقال : اجعلني مشرفا على خزائن هذا البلد فاني عليم حفيظ وعلى معرفة باسرار المهنة.


كان يوسف يعتقد ان جانبا كبيرا من الاضطرابات الحاصلة في ذلك المجتمع الكبير ، والظلم والجور كله ناشئ من القضايا الاقتصادية ، واراد من هذا حل تلك المشاكل ومساعدة المستضعفين من الناس واسترداد حقوقهم المغصوبة من الظالمين ، لاجل هذا طلب من الملك منصب الامانة على الخزائن فوافق الملك على طلبه واستلم المنصب الجديد.

لقاء يوسف باخوته :

لما اشتد القحط والجفاف على مصر والبلدان المحيطة بها واشتد الضيق والجوع بالشعوب ، اخذوا يرسلون تجارهم واولادهم لشراء الحبوب والطعام من خزائن الملك ، ومن جملة الذين دخلوا مصر اخوة يوسف ، وذلك بعدما اضطر يعقوب ان يرسل جميع اولاده ـ ما عدا بنيامين ـ الذي ابقاه عنده بعد غياب يوسف لشراء الطعام.

فلما وصلت القافلة ودخلوا على يوسف ، فعرفهم ولم يعرفوه ، ( وجاء اخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون ).

رحب بهم يوسف وطلبوا منه المساعدة بعدما شرحوا له قصة ابيهم والالم الذي يحيط به على فقد ابنه الذي اكله الذئب.

كان اخوة يوسف عشرة فاعطاهم عشرة احمال من الحنطة والحبوب ، فزاد عليهم حملان آخران ، وقال لهم : اني ارى في وجوهكم النبل والرفعة ، فاطلب منكم ان تأتوني باخيكم الذي بقي عند ابيه في سفرتكم القادمة الى مصر ، وختم كلامه بتهديد مبطن لهم ، وهو انني سوف امنع عنكم الحبوب اذا لم تأتوني باخيكم ، وكان يوسف يحاول بشتى الطرق ان يلتقي باخيه بنيامين ويبقيه عنده.


رجع اخوة يوسف الى كنعان فرحين حاملين معهم المتاع الثمين ، ولكنهم كانوا يفكرون كيف يوافق ابوهم على ارسال اخيهم معهم.

فلما رجعوا الى ابيهم اخبروه وقالوا له : يا ابانا منع منا الكيل ، ولا سبيل لنا للحصول عليه الا ان ترسل معنا اخانا حتى نحصل على حبوب كثيرة ، وكن على يقين من اننا سوف نحافظ عليه ونمنعه من الاذى.

فلما استمع الاب الشيخ كلامهم استولى عليه الخوف ، وتذكر يوسف حيث لم تنمحي ذاكرته عن مخيلته وقال لهم :

كيف اطمئن ان ابعث معكم ولدي وفلذة كبدي العزيز الى بلاد بعيدة ، واخاف عليه ان يضيع كما ضاع اخيه يوسف.

ولكن بعد الاصرار من الاولاد اضطر الى قبول مطاليبهم بشرط ان يعطوه مواثيق قوية على ارجاعها اليه ، فوافقوا على الشرط واليمين ، وارسل معهم ابنه « بنيامين » ، وخاصة بعدما فتحوا متاعهم شاهدوا بضاعتهم ردت اليهم وقالوا لابيهم انظر هذه نقودنا ردت الينا ، هل هناك كرم وفضل مثل هذا؟ ان يقوم حاكم اجنبي وفي ظروف القحط والجفاف ، بمساعدتنا ويبيع لنا الحبوب والمؤن ثم يرد الينا ما دفعناه ثمنا له.

فيا ابانا ليس هناك مجال للتفكير والتاخير ، ابعث معنا اخانا لكي نسافر ونشتري الطعام ، وسوف نكون جادين في حفظ اخينا .. فوافق بعد هذا الاصرار واليمين والعهد.

لقاء يوسف وبنيامين :

واصل الاخوة سيرهم نحو مصر وبعد ان قطعوا مسافات شاسعة وطويلة بين كنعان مقر اقامتهم ومصر ، وصلوا الاراضي المصرية ودخلوها ، ومن هناك


ذهبوا الى مقر اخيهم يوسف ودخلوا عليه واخبروه بمجيء اخاهم الصغير معهم حسب طلبه وبرغم امتناع ابيه في البداية ، ولكنهم اصروا عليه وبعد ذلك تمت الموافقة.

اما يوسف فانه قد استقبلهم بحفاوة وكرم ، ودعاهم لتناول الطعام معه وعلى مائدته ، وامرهم ان يجلس كل اثنين منهم على طبق من الطعام ، ففعلوا وجلس كل واحد مع اخيه وبقي بنيامين وحدة فتألم من وحدته وبكى وقال : لو كان اخي يوسف حيا لعطف علي واجلسني الى جنبه.

فقال يوسف لهم : ان اخاكم بقي وحيدا وانني ساجلسه بجنبي على المائدة ونأكل سوية من الطعام ، ثم بعد ذلك استدعاهم الى غرف المنام ليناموا ، ومرة اخرى بقي بنيامين وحده ، فدعاه يوسف الى غرفته وبسط له الفراش لينام الى جنبه ، لكنه لاحظ في تقاسيم وجهه الحزن والالم وسمعه يذكر يوسف دائما متأوها.

عند ذلك نفذ صبر يوسف وكشف له عن حقيقة نفسه ، ويصف القرآن الكريم هذا الموقف ويقول : ( ولما دخلوا على يوسف ءآوى اليه اخاه قال اني انا اخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون ).

فعندما كشف يوسف عن واقع حاله ، قال لاخيه الذي كان الالم يعصر قلبه للمعاملة السيئة التي لاقاها من اخوته ، لا تحزن يا اخي واطمأن سوف يندمون عن قريب وسوف تبقى معي ولن اتركك تذهب معهم ، وسوف تذهب محاولاتهم وحيلهم ادراج الرياح.

وبدا يوسف بتنفيذ خطته لابقاء اخيه بنيامين عنده ، وامر بان يُعطي لكل واحد منهم حصة من الطعام والحبوب ، وبعد ذلك وضع الكيل المخصوص الثمين في رحل اخيه بسرية تامة ، وعند ذلك افتُقد الكيل الملكي الخاص ، وبحث عنه


الموظفون والعمال كثيرا ولكن دون جدوى ، وحينئذ اذن المؤذن باعلى صوته : ايها العير انكم لسارقون.

وعندما سمع اخوة يوسف هذا النداء ارتعدت فرائصهم واستولى عليهم الخوف ، حيث لم يخطر ببالهم ان يتهموا بالسرقة ، بعد هذه الحفاوة التي قوبلوا بها من جانب يوسف ، فقالوا للموظفين والعمال ؛ ماذا فقدتم؟

قالوا : فقدنا صواع الملك ونظن انه عندكم ، لانه لا يوجد غيركم في هذا المحل ، وان الملك قد وضع جائزة ، وهي حمل بعير من الطعام لمن وجدها.

فاشتد اضطراب الاخوة لسماعهم هذه الامور وزادت مخاوفهم ، وقالوا للموظفين ، فتشوا رحالنا ، ومن وجد الصواع في رحله هو ان يؤخذ ويسجن بدل الصواع ، وهذا جزاء السارق.

وحينئذ امر يوسف الموظفين والعمال بتفتيش رحالهم وبداوا من رحال اخوة بنيامين ، ولما انتهوا الى رحل بنيامين اخيرا وجدوه في رحله وامتعته.

بعد ان عُثر على الصاع في متاع بنيامين استولى عليهم الارتباك والدهشة وصعقتهم هذه الواقعة وتحيروا ماذا يقولون ، فمن جهة قام اخوهم بعمل قبيح وسرق صواع الملك ، وهذا يعود عليهم بالخزي والعار ، ومن جهة اخرى خافوا على تضعضع اعتبارهم ونفوذهم عند الملك ، وخصوصا حاجتهم الشديدة الى الطعام ، واضافة الى كل هذا ، كيف يجيبون على استفسارات ابيهم وكيف يقنعونه بذنب ابنه وعدم تقصيرهم في ذلك.

وتوجه الاخوة الى بنيامين وعاتبوه عتابا شديدا ، فقالوا له : الا تخجل من فعلك القبيح قد فضحتنا وفضحت اباك يعقوب وآل يعقوب ، قل لنا كيف ولماذا سرقت الصاع ووضعته في رحلك.

قال لهم بنيامين بكل برود ، حيث كان عالما بالقضية : ان الذي قام بهذا


العمل ووضع الصاع في رحلي ، هو نفسه الذي وضع الاموال في متاعكم في المرة السابقة ، لكن الاخوة لم ينتبهوا لهول الواقعة ما قاله بنيامين.

بعد ان عَلِم اخوة يوسف من ارتكاب اخيهم السرقة وقد شوه سمعتهم عند عزيز مصر ، ارادوا ان يبرءوا انفسهم ، وقالوا للعزيز : فهذا قيامه بالسرقة ليس بأمر عجيب منه فان اخاه يوسف قد ارتكب مثل هذا العمل القبيح (١) ونحن نختلف عنهما في النسب ، فهذا ويوسف اخوة من ام ونحن من ام ولكن ابينا واحد ....

اتهام يوسف بالسرقة :

روي ان يعقوب عندما ولد له يوسف دفعه الى اخته ابنة اسحاق تحضنه ، فاحبته حبا شديدا ، واحبه يعقوب ايضا حبا شديدا ، فقال لاخته : اخيّة ، سلمي اليّ يوسف فو الله ما اقدر ان يغيب عني ساعة ، فقالت : والله ما انا بتاركته ساعة ، فاصر يعقوب على اخذه منها.

فقالت : اتركه عندي اياما لعل ذلك يسليني ، ثم عمدت الى منطقة اسحاق ، وكانت عندها ، فحزمتها على وسط يوسف ثم قالت : فقد فقدت المنطقة فانظروا من اخذها ، فكشفوا اهل البيت فوجدوها مع يوسف ، وكان من مذهبهم ان صاحب السرقة يأخذ السارق له لا يعارضه فيه احد ، فاخذت يوسف فامسكته عندها حتى ماتت ، واخذه يعقوب بعد موتها.

فهذا الذي تاول اخوة يوسف في قولهم : « ان يسرق فقد سَرق اخ له من قبل ». وقيل غير هذا ...

__________________

١ ـ ( ان يَسرق فقد سرق اخ له من قبل ).


وحينما سمع كلامهم يوسف تأثر تأثيرا شديدا لكنه كتمه في نفسه ولم يبدها لهم ، بل قال لهم : انكم احقر واشر مكانا ممن تتهمونه وتنسبون اليه السرقة ، وانتم احقر الناس عندي ( قال انتم شر مكانا ).

صدر الحكم على بنيامين كما هو المرسوم عندهم ، ان يبقى عند العزيز ويقوم بخدمته ويكون عبدا له كسائر عبيده.

حاول الاخوة ان يستنقذوا اخاهم بشتى الطرق ، وقالوا للعزيز يوسف الذي كان مجهول الهوية عندهم : ان ابانا شيخ كبير فخذ احدنا مكانه واترك هذا لنا كي نرجعه الى ابيه فانه شيخ كبير ولا طاقة له بفراق ولده العزيز ، فنرجوا منك ان تترحم علينا وعلى ابيه.

فرفض يوسف طلبهم وقال لهم : معاذ الله ان ناخذ الا من وجدنا متاعنا عنده ، فان العدل والانصاف ان يكون المعاقب هو السارق ولو فعلنا لعدنا من الظالمين.

فبعد ان فشلوا في تبرئة اخيهم ، وبعد ان رفض العزيز استعباد احدهم بدل بنيامين ، استولى عليهم اليأس وصمموا على الرجوع والعودة الى كنعان لكي يخبروا اباهم بما حدث.

وعندما وصلوا الى مدينتهم ودخلوا على ابيهم ، رآهم منهوكي القوى والالم والحزن بادي على وجوههم ولم يكن معهم بنيامين واخيه الاكبر ، سألهم ما الخبر؟ اخبروه بالواقعة بالتفصيل ، استولى عليه الحزن والغضب وقال لهم : ان اهوائكم الشيطانية هي التي استولت عليكم وزينت لكم الأمر بهذه الصورة التي انتم تصفون.

ولكن بعد العتاب المليء بالحزن والاسى رجع يعقوب الى قرارة نفسه وقال : فصبر جميل لكني على امل بان الله سبحانه وتعالى سوف يعيد لي


اولادي ، يوسف وبنيامين واخوهم الاكبر ، « اخاهم الاكبر الذي لم يرجع معهم وبقي في مصر حزنا وتألما على ابيه الذي اخذ منهم المواثيق بان يردوا له بنيامين ، وقال : لا ابرح من هذه الارض حتى اموت فيها ، او ان يفتح الله سبحانه وتعالى لنا سبيلا للنجاة ، او عذرا مقبولا عند ابينا ».

ثم بعد هذه المحاورات بين يعقوب واولاده ، استولى عليه الحزن والالم ، وتذكر ولده يوسف ، وتذكر تلك الايام الجميلة التي كان يحتضن فيها ولده الجميل ، وعلى اثر ذلك ابتعد يعقوب عن اولاده واخذ يبكي على ولديه يوسف وبنيامين حتى فقد بصره وصار بصيرا ، وكان يقول : ( انما اشكوا بثي وحزني الى الله واعلم من الله ما لا تعملون ).

اللقاء وجمع الشمل :

كان القحط والغلاء والمجاعة وشحة الطعام يشتد يوما بعد يوم في مصر وما حولها ، ومرة اخرى يامر يعقوب اولاده بان يسيروا صوب مصر للحصول على الطعام ، ولكنه في هذه المرة يطلب منهم ان يبحثوا عن يوسف واخيه بنيامين.

لكن اولاد يعقوب كانوا مطمئنين من موت يوسف وهلاكه وعدم بقاءه ، فتعجبوا من توصية ابيهم وتأكيده على يوسف ، لكن يعقوب كان قلبه يعلم بان ولده يوسف حي ، ونهاهم عن اليأس والقنوط ووصاهم بالاعتماد على الله سبحانه والاتكال عليه وقال : ( ولا تيأسوا من روح الله انه لا ييأس من روح الله الا القوم الكافرون ).

توجه الاخوة نحو مصر ، ولكن خلافا للسفرتين السابقتين ، كانوا مطاطئي الرؤوس ويشعرون بالخجل حيث كانت ضمائرهم معذبة ، وفي نفس الوقت لم


يحملوا معهم هذه المرة من المتاع والنقود ما يستحق ان يعاوضوه بالطعام والحبوب ، الا ان الذي كان يبعث في نفوسهم الامل ويعطيهم القدرة على تحمل الصعاب هو وصية ابيهم في قوله : ( ولا تيأسوا من روح الله ).

واخيرا استطاعوا ان يقابلوا العزيز يوسف فقالوا له وهم في غاية الخجل والالم : ( يا ايها العزيز مسنا واهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فاوف لنا الكيل وتصدق علينا ان الله يجزي المتصدقين ).

وقد روي في هذا المقام ، ان الاخوة كانوا يحملون معهم رسالة من ابيهم الى عزيز مصر يوسف ، حيث مدح يعقوب في رسالته عزيز مصر واكبر عدالته وصلاحه وشكره على ما بذله له ولعائلته من الطعام والحبوب ، ثم عرفه نفسه والانبياء من اهل بيته ، واخبره بفقد اعز اولاده واحبهم الى نفسه يوسف واخيه بنيامين ، وما اصابهم من القحط والغلاء ، وفي ختام الرسالة طلب منه ان يمن عليه ويطلق سراح ولده بنيامين ، وذكره ان بنيامين سليل النبوة والرسالة وانه لا يتلوث بالسرقة وغيرها من المعاصي.

وحينما قدم الاولاد رسالة ابيهم الى العزيز شاهدوا انه فض الرسالة باحترام وقبلها ووضعها على عينيه وبدأ يبكي بحيث الدموع بلت ثيابه ، وقد حير هذا التصرف الاخوة وبدأوا يفكرون بعلاقة العزيز مع ابيهم ماهي ، ولعل هذه الرسالة اثارت عواطف العزيز وشعوره ....

وفي تلك اللحظة ، وبعد ان مضت ايام الامتحان الصعب ، عرف يوسف نفسه لاخوته وقال لهم : ( هل علمتم ما فعلتم بيوسف واخيه اذ انتم جاهلون ) ، فابتسم يوسف ونظر اخوته الى اسنانه الجميلة وتذكروا الشبه بينه وبين اسنان اخيهم يوسف الجميلة ، ومن جهة اخرى شاهدوا ان العزيز يتحدث معهم ويستفسرهم عما فعلوه بيوسف.


حينما لاحظوا هذه الامور وغيرها تجرأوا اخيرا وسألوه مستفسرين منه وقالوا له : ( اءنك لانت يوسف ) كانت هذه اصعب اللحظات على الاخوة ، وكانت اللحظات تمر بسرعة والانتظار يعصر قلوبهم ويزيد في قلقهم ، رفع يوسف الحجاب بينه وبينهم واظهر لهم الحقيقة ( قال انا يوسف وهذا اخي قد منّ الله علينا انه من يتق ويصبر فان الله لا يضيع اجر المحسنين ).

لا يعرف احد كيف مرت هذه اللحظات الحساسة على الاخوة وما خامرهم من السرور والفرح وكيف تعانقوا واحتضنوا اخاهم والدموع الغزيرة التي ذرفوها وذلك حين التقوا باخيهم وبعد عشرات السنين من الفراق ، ولكنهم في كل الاحوال كانوا لا يطيقون النظر الى وجه اخيهم يوسف بسبب الذنب والجريمة التي اقترفوها في حقه ، وقالوا له : لقد آثرك الله علينا وفضلك بالحلم والعلم والحكومة علينا ونحن كنا خاطئين ونعتذر الى الله واليك.

فقال لهم يوسف بلغة المحبة والعطف والرضا : ( لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو ارحم الراحمين ). اي العتاب والعقاب مرفوع عنكم واطمئنوا وكونوا مرتاحي الضمير ، وان الله سبحانه وتعالى قد قبل توبتكم وعفا عنكم لانه ارحم الراحمين.

انتهاء حزن يعقوب :

وبعد ان علم يوسف بحال ابيه وفقد بصره تألم كثيرا وقال لاخوته ( اذهبوا بقميصي هذا فالقوه على وجه ابي يأت بصيرا واتوني باهلكم اجمعين ).

رجعوا اولاد يعقوب الى كنعان يحملون قميص اخيهم يوسف معهم فرحين ومستبشرين ، وعندما تحركت القافلة وخرجت من مصر هب نسيم عليل


وحمل ريح يوسف الى يعقوب.

وبينما يعقوب جالس في زاوية البيت يفكر بمصير اولادهم ومصير يوسف وبنيامين واذا بالنسيم يمر على بيته ويشم منه رائحة يوسف ، ينهض من مكانه فجأة نشطا متحركا بكل صراحة وجرأة واطمئنان وقال : لو لم تتحدثوا عني بسوء ولم تنسبوا كلامي للسفاهة والجهل لقلت لكم : اني لأشم ريح يوسف ، فاني احس بان ايام المحنة والالام سوف تنصرم في القريب العاجل ، وانه قد حان وقت اللقاء مع الحبيب ، وارى ان آل يعقوب قد نزعوا ثوب العزاء والمصيبة ولبسوا لباس الفرح والسرور.

تعجب الذين كانوا يحيطونه من اهله واحفاده والنساء من كلامه ، وقالوا له : يا ابانا لقد مضت سنين طويلة على موت يوسف ، لكنك تزعم انه حي ، وتقول : انك تشم رائحته من مصر؟ اين مصر واين الشام وكنعان؟ ، فقال لهم : اني اعلم من الله ما لا تعلمون ».

تمضي الليالي والايام ويعقوب في حالة الانتظار ، الانتظار الذي يصحبه القلق والسرور والفرح.

وبعد ايام عديدة من الانتظار ، والتي لا يعلم الا الله كيف قضاها يعقوب ، ارتفع صوت المنادي معلنا وصول القافلة التي تحمل البشائر ليعقوب ، والطعام لقومه.

دخل اولاد يعقوب الى المدينة فرحين مستبشرين ، وتوجهوا مسرعين الى بيت ابيهم ، وسبقه البشير الذي كان يحمل قميص يوسف وبشره بحياة يوسف والقى قميصه على وجهه ، فارتد بصيرا ، وشع النور في جميع ذرات وجوده ، ورأى السماء والارض والجدران وكل شيء حوله كأنه يضحك معه ، وفتح عينيه ورأى جمال العالم مرة اخرى ....


القرآن الكريم يصف لنا هذه الحالة ويقول عز من قائل : ( فلما ان جاء البشير القاه على وجهه فارتد بصيرا قال الم اقل لكم اني اعلم من الله ما لا تعلمون * قالوا يا ابانا استغفر لنا ذنوبنا انا كنا خاطئين * قال سوف استغفر لكم ربي انه هو الغفور الرحيم ).

توبة اولاد يعقوب :

هذه المعجزة الغريبة ، جعلت اولاد يعقوب يعودون الى انفسهم ويتساءلون عنها ويفكرون في ماضيهم الاسود المليء بالذنوب والاخطاء والحسد. ولكن ما اجمل التوبة والعودة الى الله والى طريق الصواب ، حينما ينكشف للانسان خطأه ، وما احلى تلك اللحظات التي يتمكن بها المذنب ويحاول ان يطلب العفو ممن جنى عليه ، ليطهر به نفسه ويبعده عن جادة الخطأ والانحراف وذلك قبل فوات الاوان ....

مع وصول القافلة التي تحمل اعظم البشائر من مصر الى كنعان ، ومع عودة البصر الى يعقوب ، ارتفعت اهازيج الفرح والسرور في بيت يعقوب وذهب عنهم الحزن والاسى ، وتجهز اهل هذا البيت للسفر الى مصر ـ حسب وصية يوسف ـ وتهيأت مقدمات السفر من جميع النواحي ، وركب يعقوب على راحلته وشفتاه لا تهدأ من ذكر الله وتمجيده وتحميده ، وتحركت القافلة نحو مصر تطوي الليالي والايام ، وكانت كل دقيقة تمر عليهم تحسب بيوم لشدة شوق الوصال.

واخيرا تحقق الحلم :

ولاحت معالم مصر وابنيتها من بعيد ، بمزارعها الخضراء واشجارها الباسقة ، وعماراتها الشاهقة.


واخيرا تحققت احلى سويعات الحياة ليعقوب عندما دخل على يوسف واحتضنه ، ولا يعلم الا الله ما كانت لديهما من احاسيس في تلك اللحظات الحلوة ، واية دموع انسكبت من عينيهما من الفرح.

وعندها التفت يوسف الى اخوته وابويه وقال لهم : ادخلوا مصر ، لانها اصبحت تحت حكم يوسف في امن وامان ، لان يوسف كان قد خرج الى خارج المدينة لاستقبال والديه واخوته.

فلما دخلوا القصر رفع ابويه على العرش واكرمهم وقدرهم ، وهم في المقابل شكروا الله وحمدوه وسجدوا لله شكرا وتعظيما.

ثم التفت يوسف الى ابيه يعقوب وقال له : ( يا ابت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد احسن بي اذ اخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد ان نزغ الشيطان بيني وبين اخوتي ان ربي لطيف لما يشاء انه هو العليم الحكيم ) (١).

انتهت قصة يوسف 7 مع ابيه واخوته بكل دروسها وعبرها التربوية ، وختم الله ليعقوب 7 حياته بالخير والسعادة ، وليوسف 7 بالبركة والملك والسلطان ، ولاخوته بالمغفرة والرضوان ، واجتمعت العائلة الكريمة بعد النجاح من هذا الامتحان الصعب ، تحت شوق واحد وقلوبهم مطمئنة ومملوئة بالايمان والعشق الالهي.

زواج العزيزة من العزيز :

روي انه لما مات عزيز مصر زوج زليخا وكان ذلك في السنين الجدبة

__________________

١ ـ يوسف : ١٠٠.


وايام المجاعة ، افتقرت امرأة العزيز ـ زليخا ـ وهرمت واحتاجت الى المساعدة حتى سألت البعض ، فقالوا لها : لو قعدت للعزيز يوسف وطلبتي منه المساعدة ، قالت : استحي منه ، فلم يزالوا بها حتى قعدت له في الطريق ، فاقبل يوسف في موكبه ، فقامت اليه وقالت :

الحمد لله الذي جعل الملوك بالمعصية عبيدا ، وجعل العبيد بالطاعة ملوكا.

فقال لها يوسف ، وهي هرمة : ألست فعلت بي كذا وكذا؟ اي ولماذا فعلت كذا وكذا.

فقالت : لا تلمني يا نبي الله ، فاني بليت بثلاثة لم يبل بها احد ، قال : وما هي؟

قالت : بليت بحبك ولم يخلق الله لك نظيرا ، وبليت بحسني بانه لم تكن بمصر امرأة اجمل مني ولا اكثر مالا ، وبليت بان زوجي كان محصورا بفقد الحركة ـ يعني عنّينا ـ.

فقال لها يوسف : ما حاجتك؟

قالت : تسأل الله ان يرد علي شبابي ، فسأل الله ، فرد عليها شبابها فتزوجها وهي بكر.

وفاة يوسف 7 :

روي انه كان عمر يوسف لما القي في البئر سبع سنين وقيل : عشر سنين وقيل غير هذا ، ولما اجتمع مع ابيه كان عمره اربعين سنة. (١)

وعاش يوسف بعد موت يعقوب 8 ثلاث وعشرين سنة ، ومات يوسف

__________________

١ ـ قصص الانبياء للجزائري : ص ١٨٣.


وهو ابن مائة وعشرين سنة. (١)

وروي ان يوسف 7 لما مات دفنوه في النيل في صندوق من رخام ، وذلك انه لما مات تشاجر الناس عليه ، كل يقول يجب ان يدفن في محلته ، لما كانوا يرجون بركته ، وبعد ذلك هموا ان يدفنوه في النيل فيمر الماء عليه ثم يصل الى جميع اراضي مصر ، فيكون كلهم فيه شركاء وفي بركته سواء ، فكان قبره في النيل.

وكان قد اوصى يوسف علمائه لما حضرته الوفاة ان ينقلوا عظامه معهم اذا خرجوا مع موسى 7 من مصر الى فلسطين. فلما اراد موسى الخروج من مصر مع علمائه سأل عن قبر يوسف ، قالوا له ان عجوز من بني اسرائيل تعلم قبره ، فبعث اليها موسى فاتته فقال : دليني على قبر يوسف ، فقالت : لا اخبرك حتى تعطيني اربع خصال ، تطلق رجلي ، وتعيد الي بصري ، وشبابي ، وتجعلني معك في الجنة ، فكبر ذلك على موسى فأوحى الله تعالى اليه ان اعطها ما سألت ، ففعل ، فانطلقت بهم الى موضع عين في مستنقع ماء فاستخرجوه من شاطئ النيل في صندوق من مرمر ، فلما حملوا التابوت ، طلع القمر واضاء الطريق مثل النهار فاهتدوا به وحملوه (٢) معهم ودفنوه مع آباءه في فلسطين.

واما يعقوب 7 روي انه عاش مائة وسبعا واربعين سنة ، ودخل مصر على يوسف وهو ابن مائة وثلاثين سنة ، وكان عند يوسف بمصر سبعة عشر سنة ، وقيل : اربعا وعشرين سنة ثم توفي بمصر ، ونقل جسده الى بيت المقدس في تابوت من ساج.

__________________

١ ـ قصص الانبياء للثعلبي : ص ١٢٥

٢ ـ نفس المصدر


دروس وعبر :

١ ـ الاعتماد على الله :

كان يوسف يبكي من شدة اللكمات والضربات من اخوته ، ولما ارادوا ان يلقوه في البئر اخذ يضحك ، فتعجب اخوته وسألوه عن سبب الضحك فقال :

عندما نظرت الى عضلات ايديكم القوية وقواكم الجسدية الخارقة فسررت وقلت في نفسي : ما عسى ان يخشى ويخاف من الحوادث والملمات من كان عنده مثل هؤلاء الاخوة ، فاعتمدت عليكم وربطت قلبي بقواكم ، والآن وقد اصبحت اسيرا بين ايديكم واستجير بكم من واحد لآخر فلا اجار ، وقد سلطكم الله علي لاتعلم هذا الدرس ، وهو الا اعتمد واتوكل على احد سوى الله عزوجل ، حتى ولو كانوا اخوتي.

٢ ـ دعاء يوسف :

عندما استقر يوسف في قعر البئر انقطع امله من كل شيء ، وتوجه بكل وجوده الى الله عزوجل ودعاه بهذا الدعاء :

« اللهم يا مؤنس كل غريب ، ويا صاحب كل وحيد ، ويا ملجأ كل خائف ، ويا كاشف كل كربة ، ويا عالم كل نجوى ، ويا منتهى كل شكوى ، ويا حاضر كل ملأ ، يا حي يا قيوم ، اسألك ان تقذف رجائك في قلبي ، حتى لا يكون لي هم ولا شغل غيرك ، وان تجعل لي من امري فرجا ومخرجا ، انك على كل شيء قدير.

٣ ـ الالتجاء الى الله :

وقول يوسف لزليخا عزيزة مصر عندما قالت له هيت لك : ( قال معاذ الله انه ربي احسن مثواي ) علمنا درسا وقال :


ان في مثل هذه الظروف الصعبة ، لا سبيل الى النجاة من وساوس الشيطان واغراءاته ، الا بالالتجاء الى الله ، الله الذي لا فرق عنده بين السر والعلن ، بين الخلوة والاجتماع ، فهو مطلع ومهيمن على كل شيء ، وموجود في كل مكان.

٤ ـ الحياء من الله :

هناك رواية يستفاد منها انه كان في قصر امرأة العزيز صنم تعبده ، وفجاة وقعت عيناها عليه ، عندما ارادت ان تراود يوسف ، فانها احست بالصنم ينظر اليها والى حركاتها الخيانية ، فنهضت في غضب والقت عليه سترا ، فاهتز يوسف لهذا المنظر.

وقال : انت ايها الصنم الذي لا تملك عقلا ولا شعورا ولا احساسا تستحي منك العزيزة ! ، فكيف لا استحي من ربي الخبير بكل شيء ، والذي لا تخفى عليه خافية.

فهذا الاحساس منح يوسف قوة جديدة ، واعانه على الصراع الشديد في اعماق نفسه بين الغريزة والعقل ، ليتمكن من التغلب على امواج الغريزة النفسية.

٥ ـ جهاد النفس

نحن نعرف ان اعظم الجهاد في الاسلام هو جهاد النفس ، الذي عبر عنه في حديث عن النبي 6 بـ « الجهاد الاكبر » وجهاد العدو الذي عبر عنه ـ بالجهاد الاصغر ـ ، وقصة يوسف ، وما كان من عشق امرأة العزيز الملتهب ، واحد من هذه الصور الجهادية بالنسبة الى يوسف 7.

لقد انتصر يوسف 7 في هذا الصراع بوجه مشرق ابيض لثلاثة اسباب:

الاول : انه التجأ الى الله واستعاذ به ، وقال : « معاذ الله ».


الثاني : لاحظ نعم الله التي لا تحصى والتي انقذته من غيابة الجب الموحشة ، واوصلته الى محيط الامان والهدوء ، وجعلته يفكر في ماضيه ومستقبله ، ولا يستسلم للتيارات العابرة.

الثالث : بناء شخصيته وعبوديته المقرونة بالاخلاص التي عبر عنها القرآن الكريم ( انه من عبادنا المخلصين ).

وهذا درس كبير لجميع الناس الاحرار الذين يريدون ان ينتصرون على عدوهم الخطير في ميادين جهاد النفس.

٦ ـ الاستغاثة بالله :

روي عن ابي عبد الله الصادق 7 قال : « جاء جبرئيل 7 فقال : يا يوسف من جعلك احسن الناس؟ قال : ربي.

قال : فمن حببك الى ابيك دون اخوتك؟ قال : ربي.

قال : فمن ساق اليك السيارة؟ قال : ربي.

قال : فمن صرف عنك الحجارة؟ قال : ربي.

قال : فمن انقذك من الجب؟ قال : ربي.

قال : فمن صرف عنك كيد النسوة؟ قال : ربي.

قال فان ربك يقول : ما دعاك الى ان تنزل حاجتك بمخلوق دوني؟ البث بالسجن بما قلت بضع سنين.

وذلك قول يوسف الى صاحبه في السجن عندما خرج : « اذكرني عند ربك » استغاث بالمخلوق دون الخالق.


٧ ـ بعض الهزيمة انتصار :

في بعض من الاحيان تكون الهزيمة انتصارا ، وهذه الهزائم تكون سبب لانتصار الانسان معنويا وحتى ماديا وتكون سببا لليقظة.

فامراة العزيز ـ زليخا ـ اصبحت في عملها مبتلاة باشد الهزائم ، ولكن هذه الهزائم كانت سببا لان تنتبه ويتيقظ وجدانها النائم ، وان تندم على ما فات من عملها ، والتفتت الى ساحة الله ، وقالت عندما التقت بالعزيز يوسف : « الحمد لله الذي جعل العبيد ملوكا بطاعته ، وجعل الملوك عبيدا بمعصيته ».

السعداء هم اولئك الذين يصنعون من الهزائم انتصارا ، ومن سوء الحظ حظا حسنا ، ومن اخطائهم طريقا صحيحا للحياة.

٨ ـ الامتحان :

لماذا لم يعرّف يوسف نفسه لاخوته ، حتى يقفوا على حقيقة حاله ويرجعوا الى ابيهم ويخبرونه عن مصير يوسف ، وبذلك تنتهي آلامه لاجل فراق يوسف ، وكان قد مر ثمان سنوات على تحرير يوسف من السجن عندما التقى باخوته في المرة الاولى؟

ولماذا لم يبعث يوسف الى ابيه ويخبره بما وصل اليه من عز قبل ان يأتي اخوته .....؟

حاول جمع من المفسرين الاجابة على هذه الاسئلة ، ولعل احسنها واقربها ، هو :

ان يوسف لم يكن مجازا من قبل الله عزوجل في اخبار ابيه ، لان قصة يوسف مع غض النظر عن خصائصه الذاتية كانت ساحة لاختبار يعقوب وامتحانه ، فلابد من ان يؤدي يعقوب امتحانه ويجتاز فترة الاختبار قبل ان


يسمح ليوسف باخباره.

٩ ـ من هو الشاهد :

هناك اقوال مختلفة في انه من هو الشاهد الذي ختم ـ ملف يوسف وامرأة العزيز ـ بسرعة واوضح البريء من المسيء بجلاء !

قال البعض : هو احد اقارب امرأة العزيز ، وكلمة من « اهلها » في « شهد شاهد من اهلها » .. ويقال ان هذا الرجل كان ايضا من مشاوري عزيز مصر وكان معه حينما دخل البيت ، وكان رجل حكيم وعارف بحيث استطاع بسرعة ان يعرف من المعتدي وذلك من قميص يوسف الذي قد من دبر ...

القول الآخر : ان الشاهد كان طفلا رضيعا من اقارب العزيزة ، وكان على مقربة من الحادث ، وكان يوسف قد طلب من عزيز مصر ان يحتكم الى هذا الطفل ، فانطقه الله وتكلم ـ كما تكلم المسيح في المهد ....

وهناك احتمالات اخرى ولكن هذان القولان اقوى من البقية والله العالم.

١٠ ـ حماية الله والطافه الخفية :

الدرس الآخر المهم الذي نتعلمه من قصة يوسف ، هو حماية الله ورعايته الواسعة والطافه الخفية للانسان وفي اشد الحالات ، حيث يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ـ ويكون ذلك القميص المبارك اكبر عون ومدرك للعزيز يوسف 7 ، ذلك القميص الذي يصنع العجائب ، وفيه ثلاث آيات وهي :

يكون يوما يفضح اخوة يوسف لانهم جاؤوا اباهم ملطخا بدم كذب وهو غير ممزق ( وجاؤوا على قميصه بدم كذب ).

ويوما يفضح امرأة العزيز ، لانه قد قدّ من قبل : ( ان كان قميصه قد من


قبُل ).

ويوما آخر يكون واهبا البصر والنور ليعقوب : ( اذهبوا بقميصي هذا فالقوه على وجه ابي يأت بصيرا ) وعلى كل حال فان لله الطافا خفية ، غير مطلع على عمقها احد ، وحين يشاء الله تتغير المسارح بشكل لا يمكن حتى لاذكى الافراد ان يتنبأ عنها : ...

١١ ـ التوسل بغير الله :

يستفاد من الآية المباركة في قول يوسف 7 عندما اظهر اخوته الندامة له : ( يغفر الله لكم ) وفي قول يعقوب 7 لابنائه عندما اعترفوا بالذنب وطلبوا منه الاستغفار قال : ( سوف استغفر لكم ربي ... ) ، يستفاد ان طلب الاستغفار من الآخرين جائز وغير مناف للتوحيد ، ـ كما يتصور البعض ـ بل هو سبيل الى الوصول الى لطف الله سبحانه ، والا فكيف يمكن ليعقوب ان يستجيب لطلب ابنائه في ان يستغفر لهم وان يجيبهم جوابا مثبتا على توسلهم به.

وهذا الأمر يدل على ان التوسل باولياء الله جائز ....

١٢ ـ المحاورة :

روي انه لما ارادت امرأة العزيز مراودة يوسف عن نفسه جعلت تذكر له محاسن نفسه وتشوقه الى نفسها ، وهو يردها ويعضها ، ونحن هنا نذكر هذه المحاورة التي دارت بينهما كي نتعض بها :

قالت : يا يوسف ما احسن شعرك؟ قال : هو اول شيء يبلى اذا مت.

قالت : يا يوسف ما احسن وجهك؟ قال : ربي تعالى صورني في الرحم ، وقال : التراب ياكله.


قالت : يا يوسف قد انحلت جسمي بصورة وجهك؟ قال : الشيطان يعينك على ذلك.

قالت : يا يوسف الجنينة قد التهبت نارا قم فاطفئها؟ فقال : ان اطفأتها فمنها احتراقي.

قالت : يا يوسف الجنينة قد عطشت قم فاسقها؟ قال : فمن كان المفتاح بيده فهو احق ان يسقيها مني.

قالت : يا يوسف بساط الحرير قد بسط لك قم فاقضي حاجتي؟ قال : اذا يذهب نصيبي من الجنة.

قالت : يا يوسف ادخل معي تحت الستر فاسترك به؟ قال : ليس شيء يسترني من ربي تعالى ان عصيته.

قالت : يا يوسف ضع يدك على صدري تشفني بذلك؟ قال : سيدي احق بذلك مني.

قالت : يا يوسف ما احسن عينيك ، قال : هما اول ما يسيل في الارض من جسدي.

قالت : اما سيدك فأسقيه كاسا فيه زئبق الذهب فيتناثر لحمه ، ويتساقط عظمه ، ثم القيه في استبرق والقيه في المخدع لا يعلم به احد من الناس ، واوليك ملكه قليله وكثيره.

قال : فان الجزاء يوم الجزاء.

قالت : يا يوسف اني كثيرة الدر والياقوت والزمرد فاعطيك ذلك كله حتى تنفقه في مرضاة سيدك الذي في السماء ...

فابى يوسف.


١٣ ـ العقوبة :

روي ان يعقوب 7 لما دخل مصر ورأى يوسف ومملكته ، فكان يطوف يوما من الايام في خزائنه ، فراى خزانة مملوءة قراطيس بيضاء ، فقال له : يا بني لقد تغيرت بعدي ، لك كل هذه القراطيس وما حملت بطاقة منها تكتب الي كتابا.

فقال يوسف : هذه القراطيس كلها لك ، كنت كلما زاد شوقي وكثر حنيني آخذ ورقة حتى اكتب اليك يا ابت فيمنعني جبرئيل ان اكتب اليك فاتركها في هذه الخزانة حتى بلغت هذا المبلغ.

فسأل يعقوب جبرئيل عن ذلك ، فقال : منعني ربي.

فسأل الله عن ذلك ، فأوحى الله اليه : لانك قلت اخاف ان ياكله الذئب ، فهلا خفتني؟ هذه العقوبة لاجل تخوفك من غيري.

١٤ ـ الدعاء للفرج من الشدة :

ومن دعاء يوسف 7 للفرج ، وضع خده على الارض ثم قال :

« اللهم ان كانت ذنوبي قد اخلقت وجهي عندك ، فاني اتوجه اليك بوجه آبائي الصالحين : ابراهيم ، واسماعيل ، واسحاق ، ويعقوب ، ففرج الله عنه.

فقيل لابي عبد الله 7 : جعلت فداك اندعوا نحن بهذا الدعاء؟ فقال : ادع بمثله : « اللهم ان كانت ذنوبي قد اخلقت وجهي عندك فاني اتوجه اليك بنبيك نبي الرحمة محمد 6 وعلي وفاطمة والحسن والحسين والائمة : » ـ فرج عنا يا الله.

وكان من دعاء يعقوب 7 ايضا :

« يا من لا يعلم احد كيف هو وحيث هو وقدرته الا هو ، يا من سد الهواء بالسماء وكبس الارض على الماء ، واختار لنفسه احسن الاسماء ، ائتني بروح


من عندك وفرج قريب ».

فما انفجر عمود الصبح حتى اتي بالقميص وطرح على وجهه فرد الله عليه بصره وولده.

١٥ ـ سبب ابتلاء يعقوب 7 :

روي عن ابي عبد الله 7 قال : انما ابتلي يعقوب بيوسف انه ذبح كبشا سمينا ، وكان رجل من اصحابه محتاج لم يجد ما يفطر عليه ، فاغفله ، ولم يطعمه ، فابتلي بيوسف ، وكان بعد ذلك كل صباح مناديه ينادي ! من لم يكن صائما ، فليشهد غداء يعقوب ، فاذا كان المساء ، نادى : من كان صائما ، فليشهد عشاء يعقوب. (١)

١٦ ـ براءة يوسف :

واعلم ان العامة والمنحرفين عقائديا ، نسبوا الى يوسف 7 روايات مختلقة لا يليق للمؤمن نقلها ، فكيف باعتقادها ، واتهموه بانواع التهم لا اطيق ذكرها.

نذكر هنا وباختصار الادلة على براءته وعصمته :

ان الذين لهم تعلق بهذه الواقعة هم : يوسف 7 ، وامرأة العزيز ، وزوجها ، والشهود ، والنسوة ، ورب العالمين ، وابليس ، وكل هؤلاء قالوا ببراءة يوسف من الذنب :

١ ـ اما يوسف ، فقوله : ( هي راودتني عن نفسي ) وقوله : ( رب

__________________

١ ـ تفسير كنز الدقائق : م٦ ص ٢٧٩.


السجن احب الي مما يدعونني اليه ).

٢ ـ واما العزيزة ، فقولها : ( ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ) ، وقالت : ( الآن حصحص الحق انا راودته عن نفسه ).

٣ ـ واما زوجها العزيز ، فقال : ( انه من كيدكن ان كيدكن عظيم ).

٤ ـ واما النسوة ، فقولهن ( امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا انا لنراها في ضلال مبين ) ، وقلن : ( حاش لله ما علمنا عليه من سوء ).

٥ ـ واما الشهود ، فقوله تعالى : ( شهد شاهد من اهلها ان كان قميصه قد من قبل ... ) الآية.

٦ ـ واما شهادة الله بذلك ، فقوله عز من قائل : ( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء انه من عبادنا المخلصين ).

٧ ـ واما اقرار ابليس بذلك ، فقوله : ( لاغوينهم اجمعين الا عبادك منهم المخلصين ). فقد اقر ابليس بانه لم يغوه.

وبعد هذا نقول لهؤلاء الجهال الذين نسبوا الى يوسف 7 الفضيحة ، ان كانوا من اتباع دين الله ، فليقبلوا شهادة الله بطهارته ، وان كانوا من اتباع الشيطان وجنوده ، فليقبلوا اقرار ابليس بطهارته. !

١٧ ـ بكاء يوسف :

روي انه لما كان يوسف في السجن ، وقال للفتى : ( اذكرني عند ربك ). اتاه جبرئيل فضرب بجناحه الارض حتى كشط له عن الارض السابعة.

قال له : يا يوسف ، انظر ماذا ترى؟ فقال : ارى حجرا صغيرا ، ففلق الحجر ، فقال : ماذا ترى؟ قال : ارى دودة صغيرة ، قال : فمن رازقها؟ قال : ربي.

قال : فان ربك يقول : لم انس هذه الدودة في ذلك الحجر في قعر الارض


السابعة ، اظننت اني انساك ، حتى تقول للفتى : ( اذكرني عند ربك ) ، لتلبثن في السجن بمقالتك هذه بضع سنين.

قال : فبكى يوسف عند ذلك ، حتى بكى لبكائه الحيطان ، فتأذى به اهل السجن ، فصالحهم على ان يبكي يوما ، ويسكت يوما ، فكان في اليوم الذي يسكت به اسوأ حالا.



( ١٣ )

حكم و مواعظ من حياة

النبي ايوب 7



قصة النبي ايوب 7

قال الله تعالى : ( وايوب اذ نادى ربه اني مسني الضر وانت ارحم الراحيمن * فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه اهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين ) (١).

من هو ايوب؟

تتحدث لنا الآيتان عن نبي آخر من انبياء الله العظماء ، وقصة النبي ايوب 7 قصة حزينة ، ولكنها في نفس الوقت عظيمة وسامية وتحمل لنا تجارب وحكم ومواعظ كثيرة في الصبر والتحمل والاستقامة ، وتعلمنا درسا مهما في كيفية الاستقامة امام المشاكل والمصاعب الحياتية ، وكيف ننتصر على ابليس وجنوده.

خاصة نحن في زماننا هذا والازمنة القادمة ، حيث نواجه في مسيرة حياتنا الاجتماعية ، والدينية ، والسياسية ، مختلف المشاكل والمصاعب والطرق الشائكة ، فيجب علينا ان نعالجها بحكمة وحنكة وتدبر وصبر ، حتى نتمكن من الانتصار عليها.

__________________

١ ـ الانبياء : ٨٣ ـ ٨٤.


كان ايوب النبي 7 رجلا من الروم ، وكان رجلا طويلا عظيم الرأس ، جعد الشعر ، حسن العينين والخلق ، وكان دينه التوحيد والصلاح والاصلاح بين الناس ، وكان اذا اراد حاجة سجد وطلبها ، وكان صابرا محتسبا ، وابتلي باصعب الابتلاءات فصبر وخرج منها منتصرا ناجحا ، وضربت بصبره الامثال ، وسمي « ايوب الصابر ».

وهو ايوب بن اموص ، بن رازخ ، » او تارخ « بن روم ، بن عيص ، بن اسحاق ، بن ابراهيم ، وكانت امه من ولد لوط بن هاران 7.

وكان الله تعالى قد اصطفاه ونبأه وبسط عليه الدنيا ، وكانت له » البثنة « (١) من ارض الشام كلها ، سهلها وجبلها بما فيها ، وكان له فيها من اصناف المال كله من الابل والبقر والخيل والغنم والحمر ، ما لا يكون للرجل افضل منه في العدة والكثرة ، وكان له بها خمسمائة فدان (٢) يتبعها خمسمائة عبد ، لكل عبد امرأة وولد ومال .....

وكان النبي ايوب 7 برا تقيا رحيما بالمساكين ، يتكفل الارامل والايتام ، ويكرم الضيف ، ويبلغ ابن السبيل ، وكان شاكرا لانعم الله تعالى ، مؤديا لحق الله تعالى ... ، وكان نموذجا حيا للصبر والاستقامة.

ابتلاء ايوب :

روي عن ابي بصير عن الامام الصادق 7 قال : سالته عن بلية ايوب 7 التي ابتلى بها في الدنيا لاي علة كانت؟ قال : لنعمة انعم الله عزوجل عليه بها في الدنيا وادى شكرها.

__________________

١ ـ البثنة : هو اسم ناحية من نواحي دمشق ، وقيل هي قرية بين دمشق واذرعات ، وكان ايوب منها.

٢ ـ الفدان : الثوران يقرن بينهما للحرث.


وكان في ذلك الزمان لا يحجب ابليس دون العرش ، ـ كما كان لقاءه بآدم 7 ـ.

فلما صعد ابليس ورأى شكر نعمة ايوب 7 ، حسده ، فقال : يا رب ان ايوب لم يؤد اليك شكر هذه النعمة الا بما اعطيته من الدنيا ، ولو حرمته دنياه ما ادى اليك شكر نعمة ابدا ، فسلطني على دنياه حتى تعلم انه لم يؤد اليك شكر نعمة ابدا ، فقيل له : قد سلطتك على ماله وولده ..

» كان هذا من اجل ان يوضح البارئ عزوجل اخلاص ايوب 7 للجميع ، ويجعله نموذجا حيا للعالمين حتى يشكروه حين النعمة ويصبروا حين البلاء ، ولذلك سمح البارئ عزوجل للشيطان في ان يتسلط على دنيا ايوب «.

عندما اخذ ابليس الاجازة من الله ، انحدر الى الارض ، فلم يبق له مالا ولا ولدا الا اهلكه ، فازداد ايوب شكرا وحمدا.

قال ابليس لله عزوجل : فسلطني على زرعه يا رب ، قال : فعلت ، فجاء مع شياطينه فنفخ فيه فاحترق ، فازداد ايوب لله شكرا وحمدا.

فقال يا رب سلطني على غنمه ، فسلطه على غنمه فاهلكها ، فازداد ايوب لله شكرا وحمدا.

فقال : يا رب سلطني على بدنه فسلطه على بدنه ما خلا عقله وعينه ، فنفخ فيه ابليس فصار قرحة واحدة من قرنه الى قدمه ، فبقي في ذلك دهرا طويلا يحمد الله ويشكره.

والخلاصة : فقد كانت النعم تسلب من ايوب 7 الواحدة تلو الاخرى ، حتى ابتعد عنه جميع الناس وعاش منعزلا عنهم خارج المدينة ولم يبقى معه احد سوى امرأته ، مع كل هذا كان شاكرا وصابرا ، ويناجي ربه بلسان الشكر والحمد والثناء.


امراة ايوب 7 :

كانت امرأة ايوب 7 اسمها رحمة بنت افراييم بن يوسف بن اسحاق بن ابراهيم : ، وكانت تشتغل للناس وتأتيه بما تحصل عليه ، وكانت وفية ومطيعة لزوجها طوال فترة مرضه ولم تفارقه مما ادى ذلك قعود الشيطان لها واراد ان ينتقم بها من ايوب.

فتمثل اليها الشيطان بصورة طبيب وقال لها : اني اعالج زوجك بشرط ان تقولي حينما يتعافى : اني الوحيد الذي كنت السبب في معافاته ، ولا اريد اي اجرة على معالجته ، الزوجة التي متألمة متأثرة بشدة لاستمرار مرض زوجها وافقت على الاقتراح ، فلما عرضته على زوجها ايوب فيما بعد ، فتأثر ايوب كثيرا لوقوع زوجته في شرك الشيطان ، وحلف ان يعاقب زوجته ، ويجلدها مئة جلدة ، ان شافاه الله.

وروي غير ذلك من الاسباب ، ولكن عندما شافاه الله ، اوحي اليه : ( وخذ بيدك ضغثا (١) فاضرب به ولا تحنث ) (٢) فضربها ضربة واحدة وبر بقسمه ، وهنا ايضا شمل البارئ عزوجل ايوب 7 مرة اخرى بالطافه ورحمته.

الشماتة :

روي انه لما طال بلاء ايوب ورأى ابليس صبره ، اتى الى اصحاب له كانوا رهبانا في الجبال ، فقال لهم : مروا بنا الى هذا العبد المبتلى نسأله عن بليته ، فركبوا وجاؤوه ، فلما قربوا منه نفرت بغالهم فقربوها بعضا الى بعض ثم مشوا اليه ، وكان فيهم شاب حدث ، فسلموا على ايوب وقعدوا عنده وقالوا :

__________________

١ ـ ضغث : تعني ملء الكف من العواد الرقيقة ، كسيقان الحنطة والشعير وقيل : حزمة من سعف النخيل.

٢ ـ ص : ٤٤.


يا ايوب لو اخبرتنا بذنبك ، فلا نرى نبتلي بهذا البلاء الا لامر كنت تسره » اي لم يعلم به احد الا الله فعاقبك الله عليه بهذه العقوبة « ـ فتألم ايوب 7 ـ وقال : وعزة ربي انه ليعلم اني ما اكلت طعاما قط الا ومعي يتيم او ضعيف يأكل معي ، وما عرض لي امران كلاهما طاعة الا اخذت باشدهما على بدني ، فقال الشاب : سوءة لكم عمدتم الى نبي الله فعنفتموه حتى اظهر من عبادة ربه ما كان يستره.

فعند ذلك توجه ايوب الى الله بقلب منكسر من شدة تالمه من كلام اصحابه ، والذي كان اشد عليه من جميع ما ابتلي به وقال : ( اذ نادى ربه اني مسني الشيطان بنصب وعذاب ) (١).

وقيل لايوب بعدما عافاه الله تعالى : اي شيء اشد ما مر عليك؟ قال : شماتة الاعداء.

حقا ان شماتة اصحابه كانت اكثر الما عليه من اية مصيبة اخرى حلت به ، ورغم هذا لم يفقد ايوب صبره ، ولم يلوث شكره الصافي كالماء الزلال بالكفر ، وانما توجه الى البارئ عزوجل وناجى ربه وقال : ( اني مسني الضر وانت ارحم الراحمين ) (٢) فهنا اظهر اقصى حالات الادب والخضوع امام الله تعالى عند الدعاء لرفع هذه المشاكل المضنية ، ولم يظهر الشكوى ولم يطلب حل مشكلته بل قال مسني الضر وانت ارحم الراحمين فتامل.

النجاح في الامتحان :

بعد دعائه الى الله وخروجه من الامتحان الالهي بنجاح ونتيجة جيده ، فتح

__________________

١ ـ ص : ٤١.

٢ ـ الانبياء : ٨٣.


البارئ عزوجل مرة اخرى ابواب رحمته على عبده الصابر والشاكر ايوب 7 واعاد عليه النعم التي افتقدها الواحدة تلو الاخرى ، بل اكثر مما كان يمتلك من المال والزرع والغنم والاولاد.

كل ذلك من اجل ان يفهم الجميع ماهي العاقبة الحسنة للصبر والتحمل والشكر.

وجاءه النداء من الله عزوجل ان يا ايوب ( اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ) (١) اي دك الارض برجلك فدكها وتفجرت عين ماء باردة ليشرب منها ويغتسل بمائها للشفاء من كافة الامراض التي اصابته.

وروي ان ايوب 7 لبث في البلاء ثماني عشرة سنة وقيل سبعة سنين وقيل غير ذلك ....

وروي ان عمر ايوب 7 كان ثلاثا وتسعين سنة ، وقيل : كان عمره مائتي سنة ، وانه اوصى عند موته الى ابنه حومل ... (٢)

دروس مهمة :

في قصة النبي ايوب 7 توجد دروس وحكم مهمة جدا علينا ان نتعض منها ونجعلها منهجا نسير عليه في حياتنا اليومية من اجل الوصول الى سعادة الدارين. منها :

١ ـ الامتحان الالهي.

لقد بنيت الحياة الانسانية على اساس الامتحان والتجربة ، ومن دون هذا الامتحان لا تتفجر الامكانيات والطاقات الكامنة في الانسان ، وعلى هذا

__________________

١ ـ ص : ٤٢.

٢ ـ البحار : ج ١٢ ص ٣٧٢.


الاساس يشمل الامتحان الالهي الواسع كل البشر وبالاخص السالكين الى الله والانبياء والرسل ، وهؤلاء يكون امتحانهم اشد واصعب من الآخرين ....

٢ ـ الفرج بعد الشدة :

الدرس الآخر الذي نتعلمه من هذه القصة ، هو : عندما تشتد الامور وتتكاثر امواج الحوادث والبلاء على الانسان وتحيط به من كل جانب ، عليه ان لا ييأس ويفقد الامل ( ولا تيأسوا من رَوح الله انه لا ييأس من رَوح الله الا القوم الكافرون ) (١) وانما عليه ان يدرك انها بداية تفتح ابواب الرحمة الالهية عليه ، كما يقول امير المؤمنين علي بن ابي طالب 7 : « عند تناهي الشدة تكون الفرجة ، وعند تضايق حلَق البلاء يكون الرخاء » (٢).

٣ ـ فلسفة البلاء والحوادث الصعبة :

توضح لنا هذه القصة بصورة جيدة فلسفات البلاء والحوادث الصعبة في الحياة ، وتجيب على اولئك الذين يعتبرون وجود الآفات والبلايا مادة متناقضة ضد برهان النظم في بحوث التوحيد ، وان وجود مثل هذه الحوادث الصعبة والشديدة في حياة الانسان ـ من انبياء الله الكبار وحتى عموم الناس ـ يعد امرا ضروريا ، لان الامتحان وكما ذكرنا ـ يفجر طاقات الانسان الكامنة ، ويوصله في آخر الأمر الى التكامل في وجوده.

لذا فقد ورد في الروايات الاسلامية عن الامام الصادق 7 قال : « ان اشد الناس بلاءا الانبياء ، ثم الذين يلونهم ، الامثل فالامثل » (٣).

__________________

١ ـ يوسف : ٨٧.

٢ ـ نهج البلاغة : الكلمة ٣٥١.

٣ ـ سفينة البحار مادة ( بلاء ).


وروي عنه 7 : « ان في الجنة منزلة لا يبلغها عبد الا بالابتلاء » (١).

٤ ـ دروس في الصبر :

يعلمنا النبي ايوب 7 كيف نصبر وكيف نتحمل الصعاب والمشاكل وكيف نقف امامها ، وخاصة اذا ابتعد عنا اصدقاءنا واهلنا والتحقوا بالاعداء وتركونا ، كما فعلوا بالنبي ايوب ، فعندما فقد امواله وثرواته وصحته ، تفرق عنه اصحابه ، واتحدت السنتهم مع السنة اعدائه في الشماتة به والقاء اللائمة عليه.

فان ايوب 7 كان يتالم من جراح السنتهم اكثر من تالمه من بقية الآلام.

فالصبر الجميل والشكر الجزيل يعقبه الظفر والانتصار في كل المجالات ، ونيل المقام المحمود والمنزلة الرفيعة عند البارئ عزوجل ....

٥ ـ من هم احباء الله :

احباء الله ليسوا اولئك الذين يذكرون الله ان انعم عليهم ، وانما احباء الله الواقعيون هم اولئك الذين يذكرون الله دائما ، في السراء والضراء ، وفي البلاء والنعمة ، وفي المرض والعافية ، وفي الفقر والغنى ، ويشكرون الله ويحمدونه على كل حال من الاحوال ، وان تاثيرات الحياة ومشاكلها المادية لا تترك على ايمانهم وافكارهم ادنى اثر.

وصف امير المؤمنين 7 في خطبته الخاصة بالمتقين واستعرض فيها اكثر من « ١٠٠ » مئة صفة للمتقين التي بيّنها لصاحبه المخلص همام ، وقل في احدى تلك الصفات :

« نزلت انفسهم منهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء » ....

واعلم ان الامكانات المادية والثروة ليس دليلا على بعد الانسان عن الله

__________________

١ ـ سفينة البحار مادة ( بلاء ).


سبحانه وتعالى ، وانما الكلام هو : ان لا يكون الانسان عبدا لامواله واولاده ومقامه الدنيوي ، وان فقدها لا يفقد الصبر معها.

كم من اثرياء احسنوا الاستفادة من ثرواتهم واموالهم وانفقوها في سبيل الله كما كان يفعل الانبياء والائمة الاطهار : ومحبيهم.

شكر ايوب 7 :

عندما تسلط الشيطان على ابناء ايوب ورقيقه ولم يترك له شيئا غير غلام واحد وزوجته ، فاتاه الغلام فقال :

يا ايوب ما بقي من ابلك ولا من رقيقك احد الا وقد مات ، فقال ايوب : الحمد لله الذي اعطاه ، والحمد لله الذي اخذه.

فاتاه الغلام مرة ثانية : فقال : قد مات خيلك فلم يبقى منها شيء الا هلك ، فقال ايوب : الحمد لله الذي اعطى ، والحمد لله الذي اخذ.

وكذلك اخبره ببقره وغنمه ومزارعه وارضه واهله وولده ، وهو يقول : الحمد لله الذي اعطى ، والحمد لله الذي اخذ ، حتى مرض مرضا شديدا وهو يشكر الله ويحمده.

حكمه ومواعظه 7 :

روي انه يؤتي بالمراة الحسناء يوم القيامة التي قد افتتنت في حسنها ، فتقول : يا رب حسّنت خَلقي حتى لقيت ما لقيت ، فيجاء بمريم 3 فيقال : انت احسن او هذه؟ قد حسناها فلم تفتتن.

ويجاء بالرجل الحسن الذي قد افتتنه في حسنه ، فيقول : يا رب حسنت خلقي حتى لقيت من النساء ما لقيت ، فيجاء بيوسف ويقال : انت احسن او هذا؟


قد حسناه فلم يفتتن.

ويجاء بصاحب البلاء الذي قد اصابته الفتنة في بلائه فيقول : يا رب شدّدت علي البلاء حتى افتتنت ، فيؤتى بايوب 7 فيقال : ابليّتك اشد او بلية هذا؟ فقد ابتلي فلم يفتتن. (١)

وروي ان ابليس تمثل للنبي ايوب باحد عبيده وجاء اليه وقال له : يا ايوب : هل تدري ما الذي صنع ربك الذي اخترته وعبدته بابلك ورعاتها؟ قال ايوب : انها ماله اعارنيه ، وهو اولى به اذا شاء تركه وان شاء نزعه ، وقديما ما وطّنت نفسي ومالي على الفناء.

فقال ابليس : وان ربك ارسل عليها نارا من السماء فاحترقت كلها.

قال ايوب : الحمد لله حين اعطاني ، وحين نزع مني ، عريانا خرجت من بطن امي ، وعريانا اعود في التراب ، وعريانا احشر الى الله تعالى.

ليس ينبغي لك ان تفرح حين اعارك الله ، وتجزع حين قبض عاريته. (٢)

__________________

١ ـ روضة الكافي : ص ٢٢٨.

٢ ـ قصص الانبياء للجزائري : ص ٢٣٥.


( ١٤ )

حكم و مواعظ من حياة

النبي لقمان 7



قصة لقمان الحكيم

قال الله عزوجل في محكم كتابه الكريم : ( ولقد آتينا لقمان الحكمة ان اشكر لله ومن يشكر فانما يشكر لنفسه ومن كفر فان الله غني حميد ) (١).

من هو لقمان :

لقد ورد اسم لقمان في آيتين في القرآن وفي هذه السورة ، « اي في سورة لقمان ».

لا يوجد في القرآن دليل صريح على ان لقمان كان نبيا ام لا ، وكما ان اسلوب القرآن في شأن لقمان يوحي انه لم يكن نبيا.

نرى في القرآن المجيد ان الكلام في شان الانبياء عادة يدور حول الرسالة والدعوة الى التوحيد والتبليغ ، ومحاربة الشرك وانحرافات البيئة ، وكذلك بشارة الامم وانذارها ، في حين لم نرى ايّا من هذه الامور لم يذكرها القرآن في شأن لقمان.

بل الذي ورد في حقه هو جملة مواعظ وحكم مع ولده ، وان كانت في الظاهر مواعظه خاصة لولده ولكن في الحقيقة هي عامة للجميع ، وهذا دليل على

__________________

١ ـ لقمان : ١٢.


انه كان رجلا حكيما وحسب.

اختلف الاقوال في لقمان 7 هل كان نبيا او حكيما ، ويذهب الاكثر الا انه كان حكيما ، لذلك سمي لقمان الحكيم ...

وقد روي في المجمع عن نافع عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله 6 يقول : حقا اقول لم يكن لقمان نبيا ولكن كان عبدا كثير التفكر ، حسن اليقين ، احب الله فاحبه ومنّ عليه بالحكمة. (١)

وقد جاء في بعض التواريخ : ان لقمان كان عبدا اسود من سودان مصر ، وكان له الى جانب وجهه غير الحسن ، قلب مضيء وروح صافية ، وكان صادق القول ، ولا يمزج الامانة بالخيانة ، ولم يكن يتدخل فيما لا يعنيه.

وروي : ان شخصا سأل لقمان قال له : الم تكن ترعى معنا الغنم؟ قال نعم ، فقال الرجل : فمن اين اتاك كل هذا العلم والحكمة؟

قال : قدر الله ، واداء الامانة ، وصدق الحديث ، والصمت عما لا يعنيني (٢).

وقيل انه كان ابن اخت ايوب ، وقيل كان ابن خالة ايوب.

وكان رجلا قويا في امر الله ، متورعا في الله ، ساكتا مستكينا عميق النظر ، طويل الفكر ، مستغنن بالصبر ، لم ينم نهارا قط ، ولم يره احد من الناس على بول ولا غائط ولا اغتسال لشدة تستره وعمق نظره وتحفظه في امره ، ولم يضحك من شيء مخافة الاثم ولم يغضب ، ولم يمازح انسانا قط ، ولم يفرح بشيء اتاه من امر الدنيا ، ولا حزن منها على شيء قط ، وولد له من الاولاد الكثير وقد مات اكثرهم ، فما بكى على موت احد قط.

ولم يمر برجلين يختصمان او يقتتلان الا اصلح بينهما ... ، ولم يسمع قولا

__________________

١ ـ تفسير الميزان : ج ١٦ ص ٢٢١.

٢ ـ مجمع البيان : ج ٥ ص ٥٢ تفسير سورة لقمان.


قط من احد استحسنه الا سأل عن تفسيره وعمن اخذه. (١)

انتخاب الحكمة :

روي انه عندما كان لقمان نائما نصف النهار ان الله امر بعض من الملائكة فنادوا : يا لقمان هل لك ان يجعلك الله خليفة في الارض تحكم بين الناس بالحق؟

فأجاب الصوت : ان خيرني ربي قبلت العافية ولم اقبل البلاء ، وان هو عزم علي فسمعا وطاعة ، فانني اعلم انه ان فعل بي ذلك اعانني وعصمني.

فقالت الملائكة بصوت لا يراهم : لِمَ يا لقمان؟ قال : لان الحكم اشد المنازل وآكدها يغشاه الظلم من كل مكان ان وفى فبالحري ان ينجو ، وان اخطأ اخطأ طريق الجنة ، ومن يكن في الدنيا ذليلا وفي الآخرة شريفا خير من ان يكون في الدنيا شريفا وفي الآخرة ذليلا ، ومن تخير الدنيا على الآخرة تفته الدنيا ولا يصب الآخرة.

فعجبت الملائكة من حسن منطقه ، فنام نومة فاعطي الحكمة فانتبه يتكلم بها ، ثم كان يوازر داود بحكمته ، فقال له داود : طوبى لك يا لقمان اعطيت الحكمة وصرفت عنك البلوى ، واعطي داود الخلافة وابتلي بالحكم والفتنة. (٢)

ماهي الحكمة :

قال الله عزوجل : ( ولقد آتينا لقمان الحكمة ان اشكر لله ... ) (٣).

__________________

١ ـ تفسير الميزان : ج ١٦ ص ٢٢٢.

٢ ـ تفسير الميزان : ج ١٦ ص ٢٢١.

٣ ـ لقمان : ١٢.


ذكر البعض عن ماهية الحكمة ، ان لها معاني كثيرة ، مثل : معرفة اسرار العالم ، والاحاطة والعلم بحقائق القرآن ، والوصول الى الحق من جهة القول والعمل ، ومعرفة الله.

ويمكن جمع كل هذه المعاني في مكان واحد ، اذ قيل في تفسير الحكمة : ان الحكمة التي يتحدث عنها القرآن ، والتي كان الله قد آتاها لقمان 7 ، كانت مجموعة من المعرفة والعلم ، والاخلاق الطاهرة والتقوى ونور الهداية.

وفي حديث عن الامام موسى بن جعفر 7 ، انه قال لهشام بن الحكم في تفسير قوله تعالى : ( ولقد آتينا لقمان الحكمة ... ) : بمعنى ان الحكمة هي الفهم والعقل. (١)

وعلى كل حال ، فان لقمان 7 بامتلاكه هذه الحكمة قد هب واجتهد لشكر الله ، وكان يعلم الهدف من وراء هذه النعم الالهية ، وكيفية استغلالها والاستفادة منها ، وبناء على هذا فان الشكر والحكمة يعودان الى نقطة واحدة.

ونتيجة الشكر والكفران للنعم ، هي : ان شكر النعمة سيكون من صالح الانسان ومنفعته ، وان كفران النعمة سيكون سببا لضرره ايضا ، لان الله غني عن العالمين.

فلو ان كل الممكنات شكرته فلا يزيد في عظمته شيء ، ولو ان كل الكائنات كفرت فلا ينقص من كبريائه شيء.

وان حكمة لقمان توجب عليه ان بتوجه قبل كل شيء الى اهم المسائل الاساسية ، وهي مسألة التوحيد ، التوحيد في كل الابعاد والمجالات.

وعلى هذا اشارت الآية المباركة الى اولى مواعظه واهم وصاياه الى

__________________

١ ـ الكافي : ج ٢ ص ١٣.


ولده : ( واذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله ان الشرك لظلم عظيم ) (١).

كل حركة هدامة ضد التوجه الالهي تنبع من الشرك ، من عبادة الدنيا والمنصب والهوى وامثال ذلك ، والذي يعتبر كل منها فرعا من الشرك ، لذلك نرى ان لقمان الحكيم قد اعتبر الشرك ظلما عظيما.

حكم من القرآن :

لاهمية الحكمة والموعظة ذكرها الله عزوجل في كتابه السماوي العظيم ، وعكست لنا الآيات الثمانية المباركة من سورة لقمان الحكيم 7 والتي ذكرناها في بحثنا هذا ، وقد بينت لنا جانب مهم وباسلوب رائع المسائل العقائدية في التوحيد ومحاربة الشرك ، اضافة الى المسائل الاخلاقية والاجتماعية والدينية المهمة وذلك في مواعظ لقمان لابنه.

لقد كانت اولى مواعظ لقمان الحكيم 7 في مسألة التوحيد ومحاربة الشرك وهما اساس كل الحركات الصحيحة والبناءة ، وعقد القلوب مع الله عزوجل ، واطاعة اوامره ، وكسر كل الاصنام في ساحة كبريائه.

احترام الوالدين :

وبعد ذلك يوصي لقمان ابنه باحترام الوالدين مع العلاقة القوية فيما بينهما وخلوص النية ، وما هي خير وصلاح الولد ، فتقول الآية المباركة المحكيّة عن الله تعالى : ( ووصينا الانسان بوالديه ). وبعد ذلك تشير الآية الى جهود ومتاعب

__________________

١ ـ لقمان : ١٣.


وآلام الام العظيمة ، فتقول : ( حملته امه وهنا على وهن ).

اثبتت التجارب من الناحية العلمية ان الامهات في فترة الحمل يصبن بالضعف والوهن ، لانهن يصرفن خلاصة ارواحهن في تغذية وتنمية الجنين ، ولذلك فان الامهات اثناء فترة الحمل يبتلين بنقص انواع الفيتامينات فيسبب لهن آلاما ومتاعب كثيرة ، ويستمر هذا الأمر حتى فترة الرضاعة ، لان اللبن عصارة روح الام ، وتستمر هذه الرضاعة مدة سنتين ، وذلك قوله تعالى : ( والوالدات يرضعن اولادهن حولين كاملين ) (١) وقوله تعالى : ( وفصاله في عامين ) (٢).

وعلى هذا فان الام خلال هذه الفترة ، فترة الحمل وفترة الرضاعة ومابعد الرضاعة ، تقدم اعظم تضحية لولدها ، سواء كان من الجانب الروحي والعاطفي ، او الجسمي ، او من جهة الخدمات والرعاية.

وقد روي في الكافي : انه جاء رجل الى رسول الله 6 فقال : يا رسول الله من ابر؟ قال : امك ، قال : ثم من؟ قال : امك ، قال : ثم من؟ قال : امك ، قال : ثم من؟ قال : اباك. (٣)

وبعد ذلك يقول تعالى : ( ان اشكر لي ولوالديك ) هنا يتزامن شكر الله وشكر الوالدين « رضا الله من رضا الوالدين » الشكر يكون اولا لله تعالى لانه الخالق والمنعم الاصلي علينا ، والذي منحنا مثل هذين الابوين العطوفين الرحيمين ، وبعد ذلك يكون الشكر للوالدين ، لانهما الواسطة لهذا الفيض ، فما اجمل ان يجعل شكر الوالدين قرين شكر الله ! ..

__________________

١ ـ البقرة : ٢٣٣.

٢ ـ لقمان : ١٤.

٣ ـ الكافي : عنه تفسير الميزان ، سورة لقمان.


الاعمال الصالحة :

وبعد هذا يأتي دور التاكيد على الحساب والمعاد ، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر والاخلاق الحسنة ... حيث يقول عزوجل : ( يا بني انها ان تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة او في السماوات او في الارض يات بها الله ان الله لطيف خبير ) (١).

فان الله اللطيف الخبير المطلع على كل الموجودات ، صغيرها وكبيرها في جميع انحاء العالم ، سيحضرها للحساب والعقاب والثواب ، في اليوم الموعود ، ولا يضيع شيء في هذا الحساب ، من الحسنات والسيئات ، حتى لو كانت بقدر حبة الخردل السوداء الصغيرة جدا.

والمرحلة الاخرى التي تطرق لها لقمان الحكيم بعد التوحيد والشرك والمعاد والحساب ، مسألة الصلاة ، والتي هي اساس كل الاعتقادات الدينية واهمها ، والتي هي عمود الدين ، حيث قال : والصلاة تنور القلب ، وتصفي الروح وتطهرها وتضيء الحياة ، وتنهى عن الفحشاء والمنكر.

وبعد الصلاة يتطرق الحكيم الى اهم دستور اجتماعي ونظام عملي ، الا وهو : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيأمر الحكيم ولده ويقول : ( وامر بالمعروف وانه عن المنكر ) اذا طبق هذا الحكم وعمل به تسعد الامة والبشرية جمعاء ، ويستتب الامن والصلاح.

وبعد ذلك يتطرق لقمان 7 الى مسألة ـ الصبر ـ والاستقامة ، والتي هي من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد ، فيقول : ( واصبر على ما اصابك ان ذلك من عزم الامور ).

__________________

١ ـ لقمان : ١٦.


من المسلّم انه توجد مشاكل وعقبات كثيرة في سائر الاعمال الاجتماعية والدينية ، وخاصة في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، واقامة الصلاة جماعة وفرادا ، ومن المسلم ايضا ان الطغاة والمتسلطين على رقاب الناس ، واصحاب المصالح ، لا يستسلمون بهذه السهولة ، بل يسعون الى ايذاء المؤمنين واتهامهم بانواع التهم ، ويزرعون في طريقهم الاشواك.

فهنا لا بد من الصبر والتحمل والاستقامة حتى نتمكن من اداء ما علينا من الواجبات.

السلوك الحسنة :

ثم ينتقل الحكيم الى المسائل الاخلاقية المرتبطة بالناس والنفس ، فيوصي 7 بالتواضع والبشاشة وعدم التكبر فيقول : ( ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الارض مرحا ان الله لا يحب كل مختال فخور ) (١).

« تُصَعّر » : من مادة ( صعر ) وهو في الاصل مرض يصيب البعير فيؤدي الى اعوجاج رقبته.

« والمرح » : يعني الغرور والبطر الناشئ من النعمة.

من وصايا لقمان في المشي يقول : ولا تمشي في الارض مرحا انك لن تخرق الارض ولا تبلغ الجبال طولا ، وان كل يوم ياتيك يوم جديد يشهد عليك عند رب كريم.

« والمختال » : من مادة « الخيال » و « الخيلاء » ، وتعني الشخص الذي يرى نفسه عظيما وكبيرا ، نتيجة سلسلة من التخيلات والاوهام.

__________________

١ ـ لقمان : ١٨.


و « الفخور » : من مادة « الفخر » ويعني الشخص الذي يفتخر على الآخرين. جدا وغير مرضيتين ، وهما اساس تضعيف الانسان وقطع روابطه الاجتماعية ، وهما : التكبر وعدم الاهتمام بالآخرين ، والغرور والعجب بالنفس ، ومن كانت به هذه الصفات يسقط الى الهاوية.

حيث قال الحكيم : يا بني اياك والتجبر والتكبر والفخر فتجاور ابليس في داره.

علما ان مثل هذه الصفات مرض نفسي واخلاقي يجب علاجه عند الحكماء ومحاربته ، ومحاربة كل مظاهر التكبر والغرور ، وعلى هذا نرى الحكيم لقمان يضع اصبعه على هذا الداء الخطير ويعطينا الدواء ويقول : ( واقصد في مشيك واغضض من صوتك ان انكر الاصوات لصوت الحمير ) (١).

امرنا الحكيم الاعتدال في المشي ، كما اوصى برعاية الاعتدال في العمل والكلام وخفض الصوت ، والسبب في التاكيد على هذه الصفات المهمة ، لانها تعطي طابع عن شخصية الانسان واخلاقه ، وتنعكس على اعماله.

ففي حديث عن رسول الله 6 قال : « من مشى على الارض اختيالا لعنته الارض ومن تحتها ومن فوقها » (٢).

وجاء في حديث عن الامام علي بن موسى الرضا 7 قال : « من علامات الفقه : العلم ، والحلم والصمت ، ان الصمت باب من ابواب الحكمة » (٣).

وهذا ليس بمعنى ان الانسان يجب ان يكون صامتا وساكتا دائما ، بل المراد ان يكون الكلام في محله ومختصرا ونافعا ، وقد جاء في روايات عديدة

__________________

١ ـ لقمان : ١٩.

٢ ـ ثواب الاعمال ، وامالي الصدوق.

٣ ـ الوسائل ص ٥٣٢.


على انه لا ينبغي للمؤمن ان يسكت في المواضع التي يلزم فيها الكلام ، وان الانبياء بعثوا بالكلام لا بالسكوت.

وان وسيلة الوصول الى الجنة والخلاص من النار هي الكلام في الموضع المناسب ، وما ينتفع منه الناس.

في آداب السفر :

يا بني : سافر بسيفك وخفك وعمامتك ، وخبائك وسقائك ، وخيوطك ومخرزك ، وتزود معك من الادوية ما تنفع به انت ومن معك ، وكن لاصحابك موافقا الا في معصية الله عزوجل.

يا بني : اذا سافرت مع قوم فاكثر استشارتهم في امرك وامورهم ، واكثر التبسم في وجوههم ، وكن كريما على زادك بينهم ، واذا دعوك فاجبهم ، وذا استعانوك فاعنهم.

واستعمل طول الصمت ، وكثرة الصلاة ، وسخاء النفس بما معك من دابة او ماء او زاد.

واذا استشهدوك على الحق فاشهد لهم.

واجهد رايك اذا استشاروك ، ثم لا تعزم حتى تتثبت وتنظر ، ولا تجب في مشورة حتى تقوم فيها وتقعد ، وتنام وتاكل وتصلي ، وانت مستعمل فكرتك وحكمتك في مشورته ، فان من لم يمحض النتيجة من استشارة سلبه الله رايه.

واذا رأيت اصحابك يمشون فامش معهم ، فاذا رايتهم يعملون فاعمل معهم ، واسمع لمن هو اكبر منك سنا.

واذا امروك بأمر ، وسالوك شيئا فقل : نعم ، ولا تقل : لا ، فان « لا » عي


ولؤم. (١)

يا بني : اذا جاء وقت الصلاة فلا تؤخرها الشيء ، صلها واسترح منها فانها دَين.

وصل في جماعة ولو على زج.

واذا نزلت فصل ركعتين قبل ان تجلس ، واذا ارتحلت فصل ركعتين ثم ودع الارض التي حللت بها ، وسلم عليها وعلى اهلها ، فان لكل بقعة اهلا من الملائكة.

يا بني : اذا سافرت فلا تامن على دابتك فان ذلك سريع في ادبارها وليس ذلك فعل الحكماء الا ان تكون في محل يمكنك فيه التمدد ، واذا قربت من المنزل فانزل عن دابتك وسر ثم ابدا بعلفها قبل نفسك ، واياك والسفر في اول الليل. (٢)

اطيب شيء واخبث شيء :

يروى ان مولى لقمان ـ يوم كان عبدا ـ دعاه فقال له : اذبح شاة ، فاتني باطيب مضغتين منها ، فذبح شاة ، واتاه بالقلب واللسان.

وبعد عدة ايام امره ان يذبح شاة ، ويأتيه باخبث اعضائها ، فذبح شاة واتاه بالقلب واللسان ، فتعجب وسأله عن ذلك ، فقال :

ان القلب واللسان اذا طهرا فهما اطيب من كل شيء ، واذا خبثا كانا اخبث من كل شيء. (٣)

__________________

١ ـ البحار : ج ١٣ ص ٤٢٢.

٢ ـ قصص الانبياء : حياة لقمان.

٣ ـ تفسير البيضاوي والثعلبي.


في العلم والادب :

يا بني : جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك ولا تجادلهم فيمنعوك ، وخذ من الدنيا بلاغا ولا ترفضها فتكون عيالا على الناس ، ولا تدخل فيها دخولا يضر بآخرتك ، وصم صوما يقطع شهوتك ، ولا تصم صياما يمنعك من الصلاة ، فان الصلاة احب الى الله من الصيام.

يا بني : ان تأدبت صغيرا انتفعت به كبيرا ، ومن عنى بالادب اهتم به ، ومن اهتم به تكلف علمه ، ومن تكلف علمه اشتد له طلبه ، ومن اشتد له طلبه ادرك منفعته فاتخذه عادة ، فانك تخلف في سلفك وينتفع به من خَلفَكَ ويرتجيك فيه راغب ، ويخشى صولتك راهب.

واياك والكسل عنه بالطلب لغيره ، فان غلبت على الدنيا فلا تغلبن على الآخرة ، واذا فاتك طلب العلم في مضانه فقد غلبت على الآخرة.

واجعل في لياليك وايامك وساعاتك نصيبا في طلب العلم ، فانك لن تجد له تضييعا اشد من تركه ، ولا تمارين فيه لجوجا ولا تجادلن فقيها ولا تعادين سلطانا ، ولا تماتين ظلوما ولا تصادقنه ، ولا تواخين فاسقا ، ولا تصاحبن متهما ، واخزن علمك كما تخزن ورقك (١).

يا بني لا تتعلم العلم لتباهي به العلماء وتماري به السفهاء او ترائي به في المجالس ، ولا تترك العلم زهادة فيه ورغبة في الجهالة.

يا بني ، اختر المجالس على عينك ، فان رأيت قوما يذكرون الله فاجلس اليهم ، فانك ان تكن عالما ينفعك علمك ويزيدون علما ، وان تكن جاهلا يعلموك ، ولعل الله تعالى يظلهم برحمة فتعمك معهم (٢).

__________________

١ ـ امالي الصدوق : ص ٤٢.

٢ ـ قصص الانبياء : حكم لقمان.


قيل للعبد الصالح لقمان : اي الناس افضل :

قال : المؤمن الغني ، قيل الغني من المال؟ قال : لا ، ولكن الغني من العلم الذي ان احتيج اليه انتفع بعلمه ، فان استغنى عنه اكتفى.

وقيل : فاي الناس اشر؟ قال : الذي لا يبالي ان يراه الناس مسيئا (١).

يا بني : لا تخاصم في علم الله ، فان علم الله لا يدرك ولا يحصى.

يا بني : احسن الى من اساء اليك ، ولا تكثر من الدنيا فانك في غفلة منها ، وانظر الى ما تصير منها.

الخوف من الله :

يا بني : خف الله عزوجل خوفا لو اتيت القيامة ببر الثقلين خفت ان يعذبك.

وارج الله رجاء لو وافيت القيامة باثم الثقلين رجوت ان يغفر الله لك.

فقال له ابنه : يا ابت كيف اطيق هذا وانما لي قلب واحد؟ فقال له لقمان:

يا بني : لو استخرج قلب المؤمن يوجد فيه نوران نور للخوف ونور للرجاء ، لو وزنا لما رجح احدهما على الآخر بمثقال ذرة ، فمن يؤمن بالله يصدق ما قال الله عزوجل ، ومن يصدق ما قال الله يفعل ما امره الله ، ومن يفعل ما امره الله لم يصدق ما قال الله ، فان هذه الاخلاق يشهد بعضها لبعض.

فمن يؤمن بالله ايمانا صادقا يعمل لله خالصا ناصحا ، ومن يعمل خالصا ناصحا فقد آمن بالله صادقا. ومن اطاع الله خافه ، ومن خافه فقد احبه ، ومن احبه فقد اتبع امره ، ومن اتبع امره استوجب جنته ومرضاته ، ومن لم يتبع

__________________

١ ـ نفس المصدر.


رضوان الله تعالى فقد هان عليه سخطه ، نعوذ بالله من سخط الله (١).

يا بني : خف الله مخافة لا تيأس من رحمته ، وارجه رجاء لا تأمن من مكره.

يا بني : انْه النفس عن هواها ، فانك ان لم تنه النفس عن هواها لن تدخل الجنة ولن تراها ـ ويروى : انه نفسك عن هواها ، فان في هواها رداها (٢).

في الدنيا والآخرة :

يا بني : انك منذ سقطت الى الدنيا واستدبرتها واستقبلت الآخرة ، فدار انت اليها تسير اقرب اليك من دار وانت عنها مبتعد.

يا بني : لا تركن الى الدنيا ولا تشغل قلبك بها ، فما خلقك الله خلقا هو اهون عليه منها ، الا ترى انه يجعل نعيمها ثواب للمطيعين ولم يجعل بلاءها عقوبة للعاصين.

يا بني : ان تك في شك من الموت ، فارفع عن نفسك النوم ولن تستطيع ذلك ، وان كنت في شك من البعث فارفع عن نفسك الانتباه ولن تستطيع ذلك ، فانك اذا فكرت في هذا علمت ان نفسك بيد غيرك وانما النوم بمنزلة الموت ، وانما اليقظة بعد النوم بمنزلة البعث بعد الموت.

يا بني : لا تقترب فيكون ابعد لك ، ولا تبعد فتهان ، كل دابة تحب مثلها وابن آدم لا يحب مثله.

لا تنشر (٣) بزّك الا عند باغيه ، وكما ليس بين الكبش والذئب خلة ، كذلك

__________________

١ ـ البحار : ج ١٣ ص ٤١٢.

٢ ـ البحار : ج ١٣ ص ٤٢٩.

٣ ـ اي لا تظهر متاعك الا عند طالبه.


ليس بين البار والفاجر خلة ، من يقترب من الزفت تعلق به بعضه ، كذلك من يشارك الفاجر يتعلق من طرفه.

من يحب المراء يشتم ، ومن يدخل مدخل السوء يتهم ، ومن يقارن قرين السوء لا يسلم ، ومن لا يملك لسانه يندم (١).

يا بني : ولا تكن في هذه الدنيا بمنزلة شاة وقعت في زرع اخضر فاكلت حتى سمنت فكان حتفها عند سمنها ، ولكن اجعل الدنيا بمنزلة قنطرة على نهر جزت عليها فتركتها ولم ترجع اليها آخر الدهر ، اخربها ولا تعمرها فانك لم تؤمر بعمارتها.

واعلم انك ستسأل غدا اذا وقفت بين يدي الله عزوجل عن اربع : شبابك فيما ابليته ، وعمرك فيما افنيته ، ومالك مما اكتسبته وفيما انفقته ، فتأهب لذلك واعد له جوابا ولا تأس على ما فاتك من الدنيا ، فان قليل الدنيا لا يدوم بقاؤه ، وكثيرها لا يؤمن بلاؤه ، فخذ حذرك ، وجد في امرك ، واكشف الغطاء عن وجهك ، وتعرض لمعروف ربك ، وجدد التوبة في قلبك ، واكمش في فراقك قبل ان يقصد قصدك ، ويقضي قضاؤك ، ويحال بينك وبين ما تريد.

يا بني : خذ من الدنيا بلغة ولا تدخلن فيها دخولا فتضر فيها بآخرتك ، ولا ترفضها فتكون عيالا على الناس.

يا بني : ان الدنيا قليل ، وعمرك فيها قليل من قليل ، وقد بقي قليل من قليل القليل (٢).

يا بني : ان الدنيا بحر عميق ، قد غرق فيها عالم كثير ، فلتكن سفينتك فيها تقوى الله ، وحشوها الايمان ، وشراعها التوكل ، وقيمها العقل ، ودليلها العلم ،

__________________

١ ـ تفسير الميزان : سورة لقمان.

٢ ـ قصص الانبياء وبحار الانوار : ج ١٣ حياة لقمان الحكيم.


وسكانها الصبر. (١)

يا بني : انك مدرج في اكفانك ومحل قبرك ، ومعاين عملك كله.

يا بني : كيف تسكن دار من اسخطته؟ ام كيف من قد عصيته؟.

يا بني : عليك بما يعنيك ، ودع عنك ما لا يعنيك ، فان القليل منها يكفيك ، والكثير لا يعنيك.

يا بني : انه قد احصي الحلال الصغير فكيف بالحرام الكثير؟

مصاحبة الناس :

يا بني : صاحب مائة ولا تعاد واحدا.

يا بني : انما هو خلافك وخلقك ، فخلافك دينك وخلقك بينك وبين الناس فلا تبغضن اليهم وتعلم محاسن الاخلاق.

يا بني : كن عبدا للاخيار ولا تكن ولدا للاشرار.

يا بني : اد الامانة تسلم دنياك وآخرتك ، وكن امينا فان الله لا يحب الخائنين.

يا بني : لا تر الناس انك تخشى الله وقلبك فاجر.

يا بني : ان الناس قد جمعوا قبلك لاولادهم فلم يبق ما جمعوا ولم يبق من جمعوا له ، وانما انت عبد مستأجر قد امرت بعمل ووعدت عليه اجرا فاوف عملك واستوف اجرك.

يا بني : ليكن مما تتسلح به على عدوك فتصرعه : المماسحة ـ اي المصادقة واعلان الرضا عنه ـ ولا تزاوله بالمجانبة فيه ، فيبدو له ما في نفسك

__________________

١ ـ نفس المصدر.


فيتأهب لك.

يا بني : اني حملت الجندل والحديد وكل حمل ثقيل فلم احمل شيئا اثقل من جار السوء ، وذقت المرارات كلها فلم اذق شيئا امر من الفقر.

يا بني : اتخذ الف صديق والالف قليل ، ولا تأخذ عدوا واحدا والواحد كثير.

يا بني : لا تامر الناس بالبر وتنسى نفسك فيكون مثلك مثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه.

يا بني : اياك والكذب فانه يفسد دينك وينقص عند الناس مروءتك فعند ذلك يذهب حياؤك وبهاؤك وجاهك وتهان ، ولا يسمع منك اذا حدثت ، ولا تصدق اذا قلت : ولا خير في العيش اذا كان هكذا.

يا بني : اجعل معروفك في اهله ولا تضعه في غير اهله فتخسره في الدنيا وتحرم ثوابه في الآخرة.

يا بني : للحاسد ثلاث علامات :

يغتاب صاحبه ان غاب ، ويتملق اذا شهد ، ويشمت فيه بالمصيبة (١).

يا بني : واكتم سرك ، واحسن سريرتك ، فانك اذا فعلت ذلك امنت بسر الله ان يصيب عدوك منه عورة ، او يقدر منك على زلة ، ولا تامنن مكره فيصيب منك غرة (٢) في بعض حالاتك ، واذا استمكن منك وثب عليك ولم يقلك عثرة.

وليكن مما تتسلح به على عدوك اعلان الرضى عنه ، واستصغر الكثير في طلب المنفعة ، واستعظم الصغير في ركوب المضرة.

يا بني : لا تجالس الناس بغير طريقتهم ، ولا تحملن عليهم فوق طاقتهم ،

__________________

١ ـ قصص الانبياء.

٢ ـ الغرة : الغفلة.


فلا يزال جليسك عنك نافرا ، والمحمول عليه فوق طاقته مجانبا لك ، فاذا انت فرد لا صاحب لك يؤنسك ، ولا اخ لك يعضدك ، واذا بقيت وحيدا كنت مخذولا وصرت ذليلا ...

وليكن اخوانك واصحابك الذين تستخلصهم وتستعين بهم على امورك ، اهل المروءة والكفاف والثروة والعقل والعفاف ، الذين ان نفعتهم شكروك ، وان غبت عن جيرتهم ذكروك (١).

يا بني : الجار ثم الدار ، والرفيق ثم الطريق.

يا بني : الوحدة خير من صاحب السوء ، والصاحب الصالح خير من الوحدة ، ومن لا يكف لسانه يندم.

يا بني : شاور الكبير ولا تستحي من مشاورة الصغير.

يا بني : اياك ومصاحبة الفساق فانما هم كالكلاب ، ان وجدوا عندك شيئا اكلوه ، والا ذموك وفضحوك ، وانما حبهم بينهم ساعة.

يا بني : صاحب العلماء وجالسهم ، وزرهم في بيوتهم لعلك ان تشبههم فتكون منهم.

في سوء الخلق :

يا بني : اياك والضجر وسوء الخلق وقلة الصبر فلا يستقيم على هذه الخصال صاحب ، والزم نفسك التؤدة (٢) في امورك وصبر على مؤنات الاخوان نفسك وحسن مع جميع الناس خلقك.

يا بني : ان عدمك ما تصل به قرابتك وتتفضل به على اخوانك فلا يعدمنك

__________________

١ ـ البحار : ج ١٣ ص ٤١٨.

٢ ـ التؤدة : الرزانة والسكون.


حسن الخلق ، وبسط البشر ، فان من احسن خلقه احبه الاخيار وجانبه الفجار.

واقنع بقسم الله ليصفو عيشك ، فان اردت ان تجمع عز الدنيا فاقطع طمعك مما في ايدي الناس فانما بلغ الانبياء والصديقون ما بلغوا بقطع طمعهم.

يا بني : لا تعلق نفسك بالهموم ولا تشغل قلبك بالاحزان ، واياك والطمع ، وارض بالقضاء واقنع بما قسم الله لك.

يا بني : سيد اخلاق الحكمة دين الله تعالى ، ومثل الدين كمثل الشجرة الثابتة ، فالايمان بالله ماؤها ، والصلاة عروقها ، والزكاة جذعها ، والتآخي في الله شعبها ، والاخلاق الحسنة ورقها ، والخروج عن معاصي الله ثمرها ، ولا تكمل الشجرة الا بثمرة طيبة ، كذلك الدين لا يكمل الا بالخروج عن المحارم.

يا بني : لكل شيء علامة يعرف بها وان للدين ثلاث علامات : العفة ، والعلم ، والحلم. (١)

في الرزق :

يا بني : ليعتبر من قصر يقينه وضعفت نيته في طلب الرزق ، ان الله تبارك وتعالى خلقه في ثلاثة احوال من امره واتاه رزقه ولم يكن له في واحدة منها كسب ولا حيلة ، والله تبارك وتعالى سيرزقه في الحالة الرابعة.

١ ـ واما اول ذلك : فكان في رحم امه يرزقه هناك في قرار مكين حيث لا يؤذيه حر ولا برد.

٢ ـ ثم اخرجه من ذلك واجرى له رزقا من لبن امه يكفيه به ويربيه من غير حول ولا قوة.

__________________

١ ـ قصص الراوندي : ص ١٩٦.


٣ ـ ثم فطم من ذلك فاجرى له رزقا من كسب ابويه ورافة له من قلوبهما لا يملكان غير ذلك ، حتى انهما يؤثرانه على انفسهما في احوال كثيرة.

حتى اذا كبر وعقل واكتسب وضاق به امره وظن الظنون بربه وجحد الحقوق في ماله ، وقتر على نفسه وعياله مخافة اقتار رزق وسوء يقين بالخلق من الله له في العاجل والآجل ! بئس العبد هذا يا بني. (١)

يا بني : واقنع بما قسم الله لك يصف عيشك وتسر نفسك وتستلذ حياتك ، وان اردت ان يجمع لك غنى الدنيا فاقطع طمعك عما في ايدي الناس ، فان ما بلغ الانبياء والصديقون ما بلغوا الا يقطع طمعهم عما في ايدي الناس.

يا بني : وكن مقتصدا ولا تكن مبذرا ، ولا تمسك المال تقتيرا ولا تعطه تبذيرا.

يا بني : اني قد ذقت الصبر وانواع المر فلم ار امر من الفقر ، فان افتقرت يوما فاجعل فقرك بينك وبين الله ، ولا تحدث الناس بفقرك فتهون عليهم.

حكم ومواعظ :

وروي : ان مولاه دخل المخرج فاطال الجلوس ، فناداه لقمان : ان طول الجلوس على الحاجة يفجع منه الكبر ، ويورث الباسور ، ويصعد الحرارة الى الرأس ، فاجلس هونا وقم هونا (٢).

وروي : انه قدم من سفر لقي غلامه في الطريق فقال : ما فعل ابي؟ قال : مات ، قال : ملكت امري ، قال : ما فعلت امرأتي؟ قال ماتت ، قال اجدد فراشي ، قال : ما فعلت اختي؟ قال : ماتت ، قال : سترت عورتي ، قال : ما فعل اخي؟ قال :

__________________

١ ـ الخصال : ج ١ ص ٦٠ عنه البحار : قصص لقمان.

٢ ـ عرائس المجالس ص ٣١٣.


مات ، قال انقطع ظهري (١).

وقيل له : ما اقبح وجهك ، قال : تعيب على النقش او على فاعل النقش.

وقال لقمان : لان يضربك الحكيم ليؤذك ، خير من يدهنك الجاهل بدهن طيب. (٢)

يا بني : تعلمت سبعة آلاف من الحكمة ، فاحفظ منها اربع وسر معي الى الجنة :

احكم سفينتك فان بحرك عميق ، وخفف حملك فان العقبة كؤد ، واكثر الزاد فان السفر بعيد ، واخلص العمل فان الناقد بصير.

يا بني : لا تحقرن من الامور صغارها ان الصغار غدا تصير كبارا. (٣)

يا بني : ولا تنامن على دابتك فان ذلك سريع في دبرها وليس ذلك فعل الحكماء ، الا ان تكون في محل يمكنك التمدد لاسترخاء المفاصل ، وعليك بقراءة كتاب الله ما دمت راكبا ، وعليك بالتسبيح مادمت عاملا عملا ، وعليك بالدعاء ما دمت خاليا. (٤)

يا بني : كما تنام كذلك تموت ، وكما تستيقظ كذلك تبعث.

يا بني : كذب من قال : ان الشر يطفأ بالشر ، فان كان صادقا فليوقد نارين ، هل تطفئ احداهما الاخرى؟ وانما يطفئ الخير الشر كما يطفئ الماء النار (٥).

يا بني : كن امينا تعش غنيا.

__________________

١ ـ قصص الانبياء للجزائري.

٢ ـ عرائس المجالس ص ٣١٣.

٣ ـ قصص الانبياء للنيسابوري.

٤ ـ تفسير مجمع البيان : سورة لقمان.

٥ ـ تنبيه الخواطر ج ١ ص ٣٨.


يا بني : اتخذ تقوى الله تجارة تأتك الارباح من غير بضاعة ، واذا اخطأت خطيئة فابعث في اثرها صدقة تطفئها.

يا بني : ان الموعظة تشق على السفيه كما يشق الصعود على الشيخ الكبير.

يا بني : اذا دعتك القدرة الى ظلم الناس فاذكر قدرة الله عليك (١).

يا بني : اتعظ بالناس قبل ان يتعظ الناس بك.

يا بني : املك نفسك عند الغضب حتى لا تكون لجهنم حطبا.

اجعل الدنيا سجنك فتكون الآخرة جنتك.

يا بني : لا تشتم الناس فتكون انت الذي شتمت ابويك.

يا بني : اقم الصلاة ، وامر بالمعروف ، وانه عن المنكر ، واصبر على ما اصابك ان ذلك من عزم الامور.

يا بني : لا تشرك بالله ان الشرك لظلم عظيم.

يا بني : انه قد احصي الحلال الصغير فكيف بالحرام الكثير.

يا بني : اتق النظر الى ما لا تملكه ، واطل التفكر في ملكوت السماوات والارض والجبال وما خلق الله. فكفى بهذا واعظا لقلبك.

يا بني : لا تفشين سرك الى امرأتك ، ولا تجعل مجلسة على باب دارك.

يا بني : ان المرأة خلقت من ضلع اعوج ان اقمتها كسرتها ، وان تركتها تعوجت ، الزمهن البيوت فان احسن فاقبل احسانهن ، وان اسأن فاصبر ان ذلك من عزم الامور.

يا بني : لا تأكل مال اليتيم فتفتضح يوم القيامة ، وتكلف ان ترده اليه.

__________________

١ ـ نفس المصدر : ص ٢٦.


العلائم الثلاث :

عن الصادق 7 قال : قال لقمان الحكيم لابنه :

يا بني : لكل شيء علامة يعرف بها ويشهد عليها :

وان للدين ثلاث علامات : العلم ، والايمان ، والعمل به.

وللايمان ثلاث علامات : الايمان بالله ، وكتبه ، ورسله.

وللعالم ثلاث علامات : العلم بالله ، وبما يحب وما يكره.

وللعامل ثلاث علامات : الصلاة ، والصيام ، والزكاة وللمتكلف ثلاث علامات : ينازع من فوقه ويقول ما لا يعلم ، ويتعاطى ما لا ينال.

وللظالم ثلاث علامات : يظلم من فوقه بالمعصية : ومن دونه بالغلبة ، ويعين الظلمة.

وللمنافق ثلاث علامات : يخالف لسانه قلبه ، وقلبه فعله ، وعلانيته سريرته.

وللآثم ثلاث علامات : يخون ، ويكذب ، ويخالف ما يقول.

وللمرائي ثلاث علامات : يكسل اذا كان وحده ، وينشط اذا كان الناس عنده ، ويتعرض في كل امر للمحمدة.

وللحاسد ثلاث علامات : يغتاب اذا غاب ، ويتملق اذا شهد ، ويشمت بالمعصية.

وللمسرف ثلاث علامات : يشتري ما ليس له ، ويلبس ما ليس له ، ويأكل ما ليس له.

وللكسلان ثلاث علامات : يتوانى حتى يفرط ، ويفرط حتى يضيع ، ويضيع حتى يأثم.

وللغافل ثلاث علامات : السهو ، واللهو ، والنسيان.


وبعد ذلك قال الامام الصادق 7 : ولكل واحدة من هذه العلامات شعب يبلغ العلم بها اكثر من الف باب والف باب والف باب ، فكن طالبا للعلم في آناء الليل واطراف النهار ، فان اردت ان تقر عينك وتنال خير الدنيا والآخرة. فاقطع الطمع مما في ايدي الناس ، وعد نفسك في الموتى ، ولا تحدث لنفسك انك فوق احد من الناس ، واخزن لسانك كما تخزن مالك (١).

التكبر والتجبر :

ومن اقوال لقمان الحكيم ونصائحه لولده ولنا ، فيقول :

يا بني : دع عنك التجبر والتكبر ، ودع عنك الفخر ، واعلم انك ساكن القبور.

يا بني : اياك والتجبر والتكبر والفخر فتجاور ابليس في داره.

يا بني : اعلم انه من جاور ابليس وقع في دار الهوان ، لا يموت فيها ولا يحيا.

يا بني : ويل لمن تجبر وتكبر ، كيف يتعظم من خلق من طين ، والى طين يعود ، ثم لا يدري الى ما يصير الى الجنة فقد فاز ، او الى النار فقد خسر خسرانا مبينا وخاب.

ويروى : كيف يتجبر ويتكبر من قد جرى في مجرى البول مرتين.

يا بني : كيف ينام ابن آدم والموت يطلبه؟ وكيف يغفل ولا يُغفل عنه.

يا بني : انه قد مات اصفياء الله عزوجل واحباؤه وانبياؤه صلوات الله عليهم ، فمن ذا بعدهم يخلد فيترك.

__________________

١ ـ الخصال : ج ١ ص ٦٠ عنه البحار : ج ١٣ ص ٤١٥.


يا بني : ولا تمشي في الارض مرحا انك لن تخرق الارض ولن تبلغ الجبال طولا.

يا بني : ان كل يوم يأتيك يوم جديد يشهد عليك عند رب كريم.

رضا الناس غاية لا تدرك :

قال لقمان الحكيم 7 لولده في وصيته : يا بني لا تعلق قلبك برضى الناس ومدحهم وذمهم ، فان ذلك لا يحصل ولو بالغ الانسان في تحصيله بغاية قدرته.

فطلب الولد من ابيه مثالا لذلك وفعلا يراه بنفسه ، فقال الاب لولده : اخرج انا وانت.

فخرجا ومعهما بهيمة ـ دابة ـ فركبها لقمان وترك ولده يمشي وراءه ، فاجتازوا على قوم فقالوا : هذا شيخ قاسي القلب ، قليل الرحمة ، يركب هو الدابة ، وهو اقوى من هذا الصبي ، ويترك هذا الصبي يمشي وراءه ، وان هذا بئس التدبير.

فقال لولده : سمعت قولهم وانكارهم لركوبي ومشيك؟ فقال : نعم ، فقال : اركب انت يا ولدي حتى امشي انا.

فركب ولده ومشى لقمان ، فاجتازوا على جماعة اخرى فقالوا : هذا بئس الوالد وهذا بئس الولد ، اما ابوه فانه ما ادب هذا الصبي حتى يركب الدابة ويترك والده يمشي وراءه ، والوالد احق بالاحترام والركوب ، واما الولد فانه عق والده بهذه الحال ، فكلاهما اساءا في الفعال.

فقال لقمان لولده : سمعت؟ فقال نعم ، فقال : نركب معا الدابة.

فركبا معا فاجتازا على جماعة فقالوا : ما في قلب هذين الراكبين رحمة ، ولا عندهم من الله خير ، يركبان معا الدابة يقطعان ظهرها ويحملانها ما لا تطيق ،


لوكان قد ركب واحد ومشي واحد كان اصلح واجود.

فقال : سمعت؟ فقال : نعم ، فقال : هات حتى نترك الدابة تمشي خالية من ركوبنا ، فساقا الدابة بين ايديهما وهما يمشيان ، فاجتازا على جماعة فقالوا :

هذا عجيب من هذين الشخصين ، يتركان دابة فارغة تمشي بغير راكب ويمشيان : وذموهما على ذلك كما ذموهما على كل ما كان.

فقال لوالده : ترى في تحصيل رضاهم حيلة لمحتال؟ فلا تلتفت اليهم ، واشتغل برضى الله جل جلاله ، ففيه شغل شاغل ، وسعادة واقبال في الدنيا ويوم الحساب والسؤال. (١)

__________________

١ ـ فتح الابواب مخطوط : ج ١٣ ص ٤٣٣.


( ١٥ )

حكم و مواعظ من حياة

النبي داوود 7



قصة النبي داود 7

قال الله تعالى في كتابه الكريم : ( يا داوود انا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ان الذين يضلون عن سبيل الله ... ) (١).

من هو داود؟

نبي الله داود 7 احد كبار انبياء بني اسرائيل ، وقد كان حاكما لدولة كبيرة ، وقد ورد ذكر مقامه العالي في عدة آيات من القرآن الكريم.

داود 7 الذي منحه الله قدرة واسعة ، حتى ان الجبال والطيور كانت مسخرة له ، ويسبحن معه حيث يقول تعالى : ( انا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والاشراق * والطير محشورة كل له اواب ) (٢).

من نعم الله عزوجل على داود ان سخر له بكل مجاميع الطيور كي تسبح الله معه ، وكذلك الجبال مسخرة لداود ومطيعة لاوامره وتسبح معه البارئ عزوجل ، وتعود اليه « كل له اواب » اي كلها تعود الى داود بعدما ترتحل من اماكنها.

اراد الله عزوجل ان يواسي النبي محمد 6 عندما آذاه المشركون

__________________

١ ـ ص : ٢٦.

٢ ـ ص : ١٨ ـ ١٩.


وعبدة الاصنام في مكة والمدينة ، فضرب له الامثال وقال عزوجل : ( اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الايد انه اواب ) (١).

فداود مع هذه القدرة العظيمة التي منحها اياه رب العالمين ، لم يسلم من تجريح الآخرين ، وفي هذا الكلام مواساة لخواطر رسول الله 6 ، ان هذه المسالة لم تنحصر بك يا رسول الله فقط ، وانما شاركك فيها كبار الانبياء : ايضا.

وروي انه لما مات النبي طالوت ، وكان اسمه « شاول » ايضا ، ملك داود على بني يهوذا ، وكان لداود نسوة قد ولدن منه اولادا.

واجتمعت بنو اسرائيل من الاسباط على تمليك داود فملكوه بعد سبع سنين ملكها على بني يهوذا خاصة ، وهي بيت المقدس ، وبنى بها منزلا ، وتزوج النساء ، فولد له بعد ان ملك اولاد كثيرين ، وعز ملكه ، واعظمته بنو اسرائيل ، وكان سليمان افضل ولده ، واصبح نبيا بعد ابيه.

وكان داود 7 شجاعا وقاتل في معارك كثيرة وحروب قوية منها : قتاله مع الحنفاء فهزمهم ، وقاتل اهل مؤاب وهزمهم ، وقاتل اد دازار ملك سوبا فهزمه ، واخذ له الف مركب وسبعة آلاف من الخيل.

وعندما اجتمع اهل الشام ودمشق ليقتلوا داود ، فقتل منهم ـ اثنين وعشرين الفا ، واستحوذ على الارض ، فكان اهل الشام جميعا عبيدا له. (٢)

اما من حيث قدرته السياسية ، فقد كانت حكومته قوية ، ومستعدة دائما لمواجهة الاعداء بكل قوة واقتدار ، حتى قيل ان الآلاف من جنده كانت تقف على اهبة الاستعداد من المساء حتى الصباح في اطراف محراب عبادته.

__________________

١ ـ ص : ١٧.

٢ ـ تاريخ اليعقوبي : ج ١ ص ٥١.


ومن حيث قدرته الاخلاقية والمعنوية والعبادية ، فانه كان يقوم معظم الليل في عبادة الله ، ويصوم نصف ايام السنة.

واما من حيث النعم الالهية ، فقد انعم الله عليه بالكثير من النعم الظاهرية والباطنية.

وخلاصة القول : ان داود 7 كان رجلا ذا قوة وقدرة في الحروب والعبادات والعلم والمعرفة والسياسة ، وكان ايضا صاحب نعمة كبيرة.

قضاء النبي داود 7 :

كان داود 7 ذا علم واسع ومهارة فائقة في امر القضاء ، واراد الله سبحانه وتعالى ان يمتحنه ، فارسل له شخصين تسورا عليه جدار محرابه ليحتكما عنده ، كما ذكرت لنا الآيات المباركة من سورة « ص » من آية ٢١ ـ ٢٥ ، حيث قال تعالى : ( وهل اتاك نبأ الخصم اذ تسوروا المحراب ، ... الخ ) (١).

وذلك عندما كان داود 7 في محرابه ، وكان محاطا باعداد كبيرة من الجند والحرس ، فاذا برجلان تسورا جدران المحراب ودخلا عليه من دون استئذان ومن دون علم مسبق ووقفا امامه فجاة ، ففزع داود عند رؤيتهما ، وظن انهم يكنون له السوء.

الا انهما عمدا بسرعة الى تطييب نفسه واسكان روعه وقالا له : لا تخف نحن متخاصمان تجاوز احدنا على الآخر ، فاحكم بيننا وارشدنا الى الطريق الصحيح.

وطرح احدهما المشكلة فورا على داود 7 وقال : هذا اخي ، يمتلك

__________________

١ ـ ص : ٢١ ـ ٢٥.


(٩٩) نعجة ، وانا لا امتلك الا نعجة واحدة ، وانه يصر علي ان اعطيه نعجتي ليضمها الى بقية نعاجه ، وقد شدد علي القول واغلظ.

وهنا وبسرعة التفت داود 7 الى المدعي وقبل ان يستمع كلام الآخر واصدر الحكم وقال :

من البديهي انه ظلمك بطلبه ضم نعجتك الى نعاجه. وبعد اصدار الحكم خرج المتخاصمان وغادرا المكان بدون كلام واعتراض.

وبعد خروجهما غرق داود 7 في التفكير ، رغم انه كان يعتقد انه قضى بالعدل بين المتخاصمين ، فلو كان الطرف الثاني مخالفا لادعاءات الطرف الاول ، لكان قد اعترض عليه ، اذن فسكوته هو خير دليل على ان القضية هي كما طرحها المدعي.

ولكن آداب مجلس القضاء تفرض على داود ان يتريث في اصدار الحكم ولا يتعجل ، وكان عليه ان يسأل من الطرف الثاني ايضا ثم يحكم بينهما ، فلذا ندم كثيرا على عمله هذا ، وظن انما فتنه الباري عزوجل بهذه الحادثة. ( وظن داود انما فتناه ).

وهنا ادركته طبيعته ، حيث انه اواب ، رجع الى ربه طالبا منه العفو والمغفرة وخر راكعا وساجدا تائبا الى الله العزيز الحكيم.

وبعد ذلك شمله الله سبحانه وتعالى بلطفه ورحمته وعفا عنه زلته من حيث ترك العمل بالاولى ، وان له منزلة رفيعة عند الله ، كما توضحه الآية المباركة :

( فغفرنا له ذلك وان له عندنا لزلفى وحسن مآب ) (١).

كانت هذه الحادثة من جملة الحوادث التي امتحن الله عزوجل بها انبيائه

__________________

١ ـ ص : ٢٥.


ورسله ، في الواقع مثل هذه الابتلاءات والامتحانات لا تقلل شيئا من شأن ومقام الانبياء والرسل ، بل تزيدهم ايمانا واعتقادا بالله تعالى.

وفي نفس الوقت هي دروس وعبر وتجارب لنا جميعا نستفيد منها ونعتبر بها ، من اجل سعادتنا وسعادة الامة في الدنيا والآخرة ، فاعتبروا يا اولي الابصار ...

ملاحظات :

مع كل الاسف نرى ان اعداء الله من المنافقين والمخالفين من جهة ، والجهلة من جهة اخرى ، بالاضافة الى مؤلفي القصص الخيالية الذين يكتبون دائما قصص عجيبة وكاذبة من اجل المصالح المادية والسياسية ، قد لعبت اياديهم الخائنة والنفوس الحقودة على الاسلام والمسلمين ، والتي ذكرت في كتب الانجيل والتوراة والزبور المحرفة ، القصص العجيبة والغريبة في حق الانبياء العظام.

ولو طرحت مثل هذه القصص على شخص لا يمتلك سوى القليل من العقل والادراك ، لأعترف بان قصص التوراة المحرفة حاليا ، ماهي الا خرافات ، وان اعداء الدين واعداء الانبياء هم الذين صاغوا مثل هذه الخرافات ، وعلى هذا قررنا عدم ذكر مثل هذه القصص والحكايات الباطلة والضعيفة سندا.

وقد وردت جملة من الاحاديث عن الائمة الاطهار : ، في تكذيب وبشدة تلك القصص الخرافية والقبيحة الواردة في التوراة ، ونذكر منها ماورد في قصة النبي داود 7 :

روي عن الامام امير المؤمنين 7 يقول فيما روي عن قصة داود 7 والمرأة الجميلة ، او قصة زواجه مع زوجة « اوريا » ، وغير ذلك.


قال 7 فيه : « لو اوتي برجل يزعم ان داود تزوج امرأة اوريا الا جلدته حدين ، حدا للنبوة وحدا للاسلام » (١).

وقد ذكرت قصة داود 7 والطائر في مجلس المأمون وبحضور الامام الرضا 7 ، وعندما سمع الامام 7 الكلام ، ضرب على جبهته وقال : « انا لله وانا اليه راجعون ، لقد نسبتم نبيا من انبياء الله الى التهاون بصلاته حتى خرج في اثر الطير ، ثم بالفاحشة ، ثم بالقتل ».

فسئل الامام الرضا 7 : يا ابن رسول الله ، ما كانت خطيئة النبي داود 7؟

فقال : « ويحك ان داود 7 انما ظن انه ما خلق الله خلقا هو اعلم منه ، فبعث الله عزوجل اليه الملكين فتسورا المحراب ، ـ وتخاصما عنده ـ فعجل داود على المدعى عليه فقال : « لقد ظلمك بسؤال نعجتك الى نعاجه » ولم يسأل المدعي البينة على ذلك ، ولم يقل للمدعي عليه : ما تقول؟ فكان هذا خطيئة رسم الحكم ، لا ماذهبتم اليه ، الا تسمع الله عزوجل يقول : ( يا داود انا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق ).

فقال : يابن رسول الله فما قصته مع اوريال؟

قال الرضا 7 : « ان المرأة في ايام داود كانت اذا مات بعلها او قتل لا تتزوج بعده ابدا ، فأول من اباح الله عزوجل له ان يتزوج بامرأة قتل بعلها داود 7 ، فتزوج بامرأة اوريا لما قتل وانقضت عدتها ، فذلك الذي شق على الناس من قتل اوريا » (٢).

يستفاد من هذا الحديث ، ان داود 7 نفذ ما جاء في الرسالة الالهية ، الا ان اعداء الله والجهلة ، حرفوا الكلام عن مواضعه.

__________________

١ ـ مجمع البيان في آيات البحث ، عنه الامثل تفسير سورة ص.

٢ ـ عيون الاخبار ، ما نقله نور الثقلين : ج ٤ ص ٤٤٥.


فهل يمكن ان ينتخب البارئ عزوجل شخصا ينظر الى شرف المؤمنين والمقربين منه بعين خؤونة ، ويلوث يده بدم الابرياء ، خليفة له في الارض ، ويمنحه حكم القضاء المطلق؟!

هذا وقد استخدمت التوراة عبارات يجل القلم عن ذكرها ، لهذا نصرف النظر عنها.

وروي ان داود 7 لما تزوج بامرأة اوريا بعد وفاة زوجها ، ولدت له سليمان 7 واصبح نبيا بعد ابيه.

هذا ايضا دليل آخر على صحة زواج داود 7 من امرأة اوريا ، وكما امره الله تعالى بذلك ، لان الانبياء يولدون من ارحام طاهرة مطهرة ، وكلهم معصومون ومنزهون عن السهو والخطا. (١)

الصفات العشرة

١ ـ الله سبحانه وتعالى يأمر نبي الاسلام محمد 6 ، رغم مكانته العالية بان يتخذ من داود اسوة له في تحمل الصبر ، وذلك في قوله تعالى : ( اصبر على ما يقولون واذكر ... ) (٢).

٢ ـ القرآن وصف داود 7 بالعبد ، وفي الحقيقة ان اهم خصوصية لداود هي : عبوديته لله ، قال تعالى ( عبدنا داود ) ونقرا شبيه هذا المعنى بشأن رسول الله 6 في مسألة المعراج ( سبحان الذي اسرى بعبده ... ) (٣).

٣ ـ امتلاكه للقدرة والقوة ، في طاعة الباري عزوجل والاحتراز عن

__________________

١ ـ راجع كتاب تنزيه الانبياء : للشريف المرتضى.

٢ ـ ص : ١٧.

٣ ـ الاسراء : ١.


ارتكاب المعاصي وحسن تدبيره لشؤون مملكته ، في قوله تعالى : ( ذا اليد ) وجاءت ايضا بشأن رسول الله 6 ( هو الذي ايدك بنصره وبالمؤمنين ) (١).

٤ ـ وصفه بالاواب ، ونفي رجوعه المتكرر والمستمر الى الله سبحانه وتعالى ، قال تعالى : ( انه اواب ).

٥ ـ تسخير الجبال معه لتسبح في الصباح والمساء ، وهذا الأمر يعد من مفاخره، قال تعالى :(انا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والاشراق).

٦ ـ مناجاة الطيور وتسبيحها الله مع داود ، وهذه من النعم التي انعمها الله على داود ، قال تعالى : ( والطير محشورة ).

فكل الطيور والجبال مسخرة لداود ومطيعة لاوامره ، وتسبح معه ، حتى الحديد الانه الله له يعمل وينسج منه الدروع ، ( ... والنا له الحديد )(٢).

٧ ـ استمرار الجبال والطيور في التسبيح مع داود ، وفي كل مرة يسبح فيها تعود الجبال والطيور وتسبح معه ، وعلى هذا قال تعالى : ( كل له اواب ) تسبح الله عزوجل وتعود اليه.

واحتمال آخر هو : ان كل ذرات العالم تعود اليه ومطيعة لاوامره تعالى.

٨ ـ اعطاه الله الملك والحكومة التي احكمت اسسها ، اضافة الى وضع كل الوسائل المادية والمعنوية التي يحتاجها لنيل اهدافه تحت تصرفه ، قال تعالى : ( وشددنا ملكه ) اي ثبتنا واحكمنا مملكته ، بحيث كان الاعداء يحسبون لمملكته الف حساب.

٩ ـ منحه ثروة مهمة اخرى ، وهي العلم والمعرفة التي تفوق الحد الطبيعي ، والتي هي منبع خير كثير ومصدر كل بركة واحسان اينما كانت ، قال تعالى :

__________________

١ ـ الانفال : ٦٢.

٢ ـ سبأ : ١٠.


( وآتيناه الحكمة ) الحكمة التي يقول بشانها القرآن المجيد : ( ومن يؤت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا ) (١) ، وتعني العلم والمعرفة وحسن التدبير في امور البلاد ومقام النبوة والحكومة.

١٠ ـ واخيرا فقد من الله عليه بمنطق قوي وحديث مؤثر ونافذ ، وقدرة كبيرة على القضاء والتحكيم بصورة حازمة وعادلة ، قال تعالى : ( وفصل الخطاب ).

وقد استخدمت عبارة « فصل الخطاب » لانه كلمة الخطاب تعني اقوال طرفي النزاع ، اما « فصل » فانها تعني القطع والفصل ، وتعني هذه العبارة : قضاء بالعدل ، والمنطق القوي والتفكر العميق وسموه.

حقا ان اسس اي حكومة لا يمكن ان تصبح محكمة وقوية ومنتصرة بدون هذه الصفات : العلم ، والمنطق ، وتقوى الله ، والقدرة على ضبط النفس ، ونيل مقام العبودية لله تعالى ....

وروي ان معنى « داود » انه داوى جرحه بود وقيل : داوى وده بالطاعة حتى قيل عبد.

وعن ابي جعفر 7 قال : ان الله تبارك وتعالى لم يبعث الانبياء ملوكا في الارض الا اربعة بعد نوح : ذو القرنين واسمه عياش ، وداود ، وسليمان ، ويوسف :. (٢)

وعنه 7 قال : اوحى الله تعالى الى داود 7 انك نعم العبد لولا انك تأكل من بيت المال ولا تعمل بيدك شيئا. (٣)

قال : فبكى داود 7 فأوحى الله تعالى الى الحديد ان لن لعبدي داود ،

__________________

١ ـ البقرة : ٢٦٩.

٢ ـ ٣ ـ قصص الانبياء للجزائري : ص ٣٧٨ و٣٨٣.


فالان الله له الحديد ، فكان يعمل كل يوم درعا فيبيعها بالف درهم ، فعمل ثلثمائة وستين درعا ، فباعها بثلثمائة وستين الفا ، واستغنى عن بيت المال. (١)

حزقيل وداود 8 :

روي ان داود 7 خرج ذات يوم يقرأ الزبور ، وكان اذا قرأ الزبور لا يبقى جبل ولا حجر ولا طائر ولا سبع الا جاوبه ، فما زال يمر حتى انتهى الى جبل ، فاذا على الجبل نبي عابد يقال له « حزقيل » ، فلما سمع دوي الجبال واصوات السباع والطير علم انه داود 7.

فقال داود : يا حزقيل اتأذن لي فاصعد اليك؟ قال : لا ، فبكى داود 7 ، فأوحى الله جل جلاله اليه :

يا حزقيل لا تعير داود وسلني العافية ، فقام حزقيل فأخذ بيد داود فرفعه اليه.

فقال داود : يا حزقيل هل هممت بخطيئة قط؟ قال : لا ، قال : فهل دخلك العجب مما انت فيه من عبادة الله عزوجل؟ قال : لا ، قال : فهل ركنت الى الدنيا فاحببت ان تأخذ من شهوتها ولذتها؟ قال : بلى ربما عرض بقلبي ، قال : فماذا تصنع اذا كان ذلك؟ قال : ادخل هذا الشعب فاعتبر بما فيه.

قال : فدخل داود النبي 7 الشعب ، فاذا سرير من حديد عليه جمجمة بالية ، وعظام فانية ، واذا لوح من حديد فيه كتابة فقرأها داود 7 فاذا هي :

انا اروي سلم (٢) ، ملكت الف سنة ، وبنيت الف مدينة ، وافتضضت الف بكر ، فكان آخر امري ان صار التراب فراشي ، والحجارة وسادتي ، والديدان

__________________

١ ـ قصص الانبياء للجزائري : ص ٣٧٨ و٣٨٣.

٢ ـ وفي نسخة : اروى شلم.


والحيات جيراني ، فمن رآني فلا يغتر بالدنيا. (١)

ما اوحى الله تعالى الى داود 7 :

ان الله تبارك وتعالى اوحى الى داود 7 قال : مالي اراك وحدانا؟ قال : هجرت الناس وهجروني فيك. قال : فمالي اراك ساكتا؟ قال : خشيتك اسكتتني.

قال : فمالي اراك نصبا؟ (٢) قال : حبك انصبني.

قال : فمالي اراك فقيرا وقد اعطيتك؟ قال : القيام بحقك افقرني. قال : فمالي اراك متذللا؟ قال عظيم جلالك الذي لا يوصف ذللني ، وحق ذلك لك يا سيدي.

قال الله جل جلاله : فابشر بالفضل مني ، فلك ما تحب يوم تلقاني ، خالط الناس وخالقهم باخلاقهم ، وزايلهم (٣) في اعمالهم تنل ما تريد مني يوم القيامة. (٤)

وقال النبي 6 : اوحى الله عزوجل الى داود 7 :

يا داود كما لا تضيق الشمس على من جلس فيها ، كذلك لا تضيق رحمتي على من دخل فيها.

وكما لا تضر الطيرة من لا يتطير منها ، كذلك لا ينجو من الفتنة المتطيرون.

وكما ان اقرب الناس مني يوم القيامة المتواضعون ، كذلك ابعد الناس مني يوم القيامة المتكبرون. (٥)

__________________

١ ـ البحار : ج ١٤ ص ٢٥.

٢ ـ معناه : مالي اراك مجدا مجتهدا في العبادة متعبا نفسك فيها.

٣ ـ اي فارقهم في اعمالهم الرديئة وافعالهم الرذيلة.

٤ ـ الامالي للصدوق ص ١١٨.

٥ ـ نفس المصدر.


وروي عن الصادق 7 قال : اوحى الله عزوجل الى داود 7 : ان العبد من عبادي ليأتيني بالحسنة فابيحه جنتي ، قال : فقال داود 7 : يا رب وما تلك الحسنة؟ قال : يُدخل على عبدي المؤمن سرورا ولو بتمرة.

قال : فقال داود 7 حق لمن عرفك ان لا يقطع رجاءه منك.

روي عن ابن منبه قال : قرأت في زبور داود 7 اسطرا منها ما حفظت ومنها ما نسيت ، فما حفظت قوله :

يا داود اسمع مني ما اقول والحق اقول : من اتاني وهو يحبني ادخلته الجنة.

يا داود اسمع مني ما اقول والحق اقول : من اتاني وهو مستحيي من المعاصي التي عصاني بها غفرتها له ، او انسيتها حافظيه.

يا داود اسمع مني ما اقول والحق اقول : من اتاني بحسنة واحدة ادخلته الجنة.

يا داود اسمع مني ما اقول والحق اقول : من اتاني بحسنة واحدة ادخلته الجنة ، قال داود : يا رب وما هذه الحسنة؟ قال : من فرج عن عبد مسلم ، فقال داود : الهي لذلك لا ينبغي لمن عرفك ان يقطع رجاءه منك.

وان الله اوحى الى داود 7 قال : ان العباد تحابوا بالالسن ، وتباغضوا بالقلوب ، واظهروا العمل للدنيا ، وابطنوا الغش والدغل (١).

يا داود : اذكرني في ايام سرائك حتى استجيب لك في ايام ضرائك (٢).

يا داود : احبني وحببني الى خلقي ، قال : يا رب نعم انا احبك فكيف

__________________

١ ـ البحار : ج ١٤ ص ٣٧.

٢ ـ البحار : ج ١٤ ص ٣٧.


احببك الى خلقك؟ قال : اذكر ايادي عندهم فانك اذا ذكرت ذلك لهم احبوني. (١)

يا داود : كما ان اقرب الناس من الله المتواضعون ، كذلك ابعد الناس عن الله المتكبرون (٢).

يا داود : بشر المذنبين ، وانذر الصديقين.

قال : كيف ابشر المذنبين وانذر الصديقين؟ قال : يا داود بشر المذنبين اني اقبل التوبة واعفو عن الذنب ، وانذر الصديقين ان لا يعجبوا باعمالهم ، فانه ليس عبد انصبه للحساب الا هلك (٣).

يا داود : من احب حبيبا صدق قوله ، ومن آنس بحبيب قبل قوله ورضي فعله ، ومن وثق بحبيب اعتمد عليه ، ومن اشتاق الى حبيب جد في السير اليه.

يا داود ذكري للذاكرين ، وجنتي للمطيعين ، وزيارتي للمشتاقين ، وانا خاصة للمطيعين (٤).

يا داود قل لفلان الجبار : اني لم ابعثك لتجمع الدنيا على الدنيا ، ولكن لترد عني دعوة المظلوم وتنصره ، فاني آليت على نفسي ان انصره وانتصر له ممن ظُلم بحضرته ولم ينصره (٥).

يا داود : اشكرني حق شكري ، قال : الهي كيف اشكرك حق شكرك وشكري اياك نعمة منك؟ فقال : الآن شكرتني حق شكري.

وكان ايضا فيما اوحى الله عزوجل الى داود 7 قال :

يا داود : من انقطع الي كفيته ، ومن سألني اعطيته ، ومن دعاني اجبته ،

__________________

١ ـ قصص الانبياء.

٢ ـ ٣ ـ الكافي : ج ٢ ص ١٢٣.

٤ ـ ارشاد القلوب : ج ١ ص ٧٣.

٥ ـ نفس المصدر.


وانما اؤخر دعوته وهي معلقة وقد استجبتها حتى يتم قضائي ، فاذا تم قضائي انفذت ما سأل.

قل للمظلوم : انما اؤخر دعوتك وقد استجبتها لك على من ظلمك لضروب كثيرة غابت عنك وانا احكم الحاكمين :

اما ان تكون قد ظلمت رجلا فدعا عليك فتكون هذه بهذه لا لك ولا عليك.

واما ان تكون لك درجة في الجنة لا تبلغها عندي الا بظلمه لك ، لاني اختبر عبادي في اموالهم وانفسهم.

وربما امرضت العبد فقلّت صلاته وخدمته ، ولصوته اذا دعاني في كربته احب الي من صلاة المصلين.

ولربما صلى العبد فاضرب بها وجهه واحجب عني صوته ، اتدري من ذلك يا داود؟ ذلك الذي يكثر الالتفات الى حرم المؤمنين بعين الفسق وذلك الذي حدثته نفسه لو ولى امرا لضرب فيه الاعناق ظلما ....

يا داود : اذا ناولتم الصدقات فاغسلوها بماء اليقين ، فاني ابسط يميني قبل يمين الآخذ ، فاذا كانت من حرام حذفت بها في وجه المتصدق ، وان كانت من حلال قلت : ابنوا له قصورا في الجنة ، وليست الرئاسة رئاسة الملك ، انما الرئاسة رئاسة الآخرة ، سبحان خالق النور.

رحمة الله اوسع :

روي انه بينما كان داود 7 جالس وعنده شاب رث الهيئة يكثر الجلوس عنده ويطيل الصمت.

جاء ملك الموت يوما الى داود فسلم عليه وجلس عنده واخذ يمد النظر


الى الشاب ، فقال داود 7 : نظرت الى هذا؟ فقال : نعم ، اني امرت بقبض روحه الى سبعة ايام في هذا الموضع.

فرحمه داود فقال : يا شاب هل لك امرأة؟ قال : لا وما تزوجت قط ، قال داود 7 : فات فلانا ـ رجلا عظيم القدر من بني اسرائيل ـ فقل له : ان داود يأمرك ان تزوجني ابنتك ، وتدخلها الليلة ، وخذ من النفقة ما تحتاج اليه وكن عندها ، فاذا مضت سبعة ايام فوافني في هذا الموضع.

فمضى الشاب برسالة داود 7 فزوجه الرجل ابنته وادخلوها عليه ، واقام عندها سبعة ايام ، ثم وافى داود يوم الثامن ، فقال له داود 7 : يا شاب كيف رأيت ماكنت فيه؟ قال : ماكنت في نعمة ولا سرور قط اعظم مما كنت فيه.

قال داود : اجلس فجلس وداود ينتظر ان يقبض روحه ، فلما طال قال : انصرف الى منزلك فكن مع اهلك ، فاذا كان يوم الثامن فوافني ههنا.

فمضى الشاب ثم وافاه يوم الثامن وجلس عنده ، ثم انصرف اسبوعا آخر ثم اتاه وجلس ، فجاء ملك الموت الى داود 7 فقال داود : ألست حدثتني بأنك امرت بقبض روح هذا الشاب الى سبعة ايام؟ قال : بلى ، فقال : فقد مضت ثمانية وثمانية وثمانية. قال : يا داود ان الله تعالى رحمه برحمتك له فأخر في اجله ثلاثين سنة (١).

الصبر والشكر :

روي عن ابي عبد الله 7 : انه اوحى الله تعالى الى داود 7 : ان خلادة (٢) بنت اوس بشرها بالجنة ، واعلمها انها قرينتك في الجنة.

__________________

١ ـ البحار : ج ١٤ ص ٣٨.

٢ ـ وقيل : « جلادة ».


فانطلق اليها فقرع الباب عليها ، فخرجت وقالت : هل نزل في شيء؟ قال : نعم ، قالت : وماهو؟ قال : ان الله تعالى اوحى الي واخبرني انك قرينتي في الجنة وان ابشرك بالجنة.

قالت : او يكون اسم وافق اسمي؟ قال : انك لانتي هي ، قالت : يا نبي الله ما اكذبك ، ولا والله ما اعرف من نفسي ما وصفتني به.

قال داود 7 : اخبريني عن ضميرك وسريرتك ما هو ، قالت : اما هذا فساخبرك به.

اخبرك انه لم يصبني وجع قط نزل بي كائنا ما كان ، وما نزل ضر بي وحاجة وجوع كائنا ماكان الا صبرت عليه ولم اسأل الله كشفه عني حتى يحوله الله عني الى العافية والسعة ، ولم اطلب بها بدلا ، وشكرت الله عليها وحمدته ، فقال داود 7 : فبهذا بلغت ما بلغت ، ثم قال ابو عبد الله 7 : وهذا دين الله الذي ارتضاه للصالحين. (١)

وروي ان داود 7 خرج مصحرا منفردا ، فأوحى الله اليه :

يا داود مالي اراك وحدانيا؟ فقال : الهي اشتد الشوق مني الى لقائك ، وحال بيني وبينك خلقك ، فأوحى الله اليه :

ارجع اليهم فانك ان تاتني بعبد آبق اثبتك في اللوح حميدا. (٢)

كما تدين تدان :

روي انه كانت امرأة على عهد داود 7 يأتيها رجل يستكرهها على نفسها ، فالقى الله عزوجل في نفسها فقالت له :

__________________

١ ـ قصص الانبياء مخطوط : البحار ج ١٤ ص ٣٩.

٢ ـ ارشاد القلوب : ١ ـ ٢٠٨.


انك لا تاتيني مرة الا وعند اهلك من يأتيهم ، قال : فذهب الى اهله فوجد عند اهله رجلا ، فاتى داود 7 فقال : يا نبي الله اتى الي ما لم يؤت الى احد ، قال : وما ذاك؟ قال : وجدت هذا الرجل عند اهلي ، فأوحى الله عزوجل الى داود : قل له : كما تدين تدان. (١)

العبرة لمن اعتبر

وان الله تعالى اوحى الى داود 7 وقال :

يا داود من تاجرني فهو اربح التاجرين ، ومن صرعته الدنيا فهو اخسر الخاسرين.

ويحك يا ابن آدم ما اقسى قلبك : ابوك وامك يموتان وليس لك عبرة بهما؟! يا ابن آدم الا تنظر الى بهيمة ماتت فانتفخت وصارت جيفة ، وهي بهيمة وليس لها ذنب؟ ولو وضعت اوزارك على الجبال الراسيات لهدتها.

يا داود ! وعزتي ما شيء اضر عليكم من اموالكم واولادكم ، ولا اشده في قلوبكم فتنة منها ، والعمل الصالح عندي مرفوع ، وانا بكل شيء محيط ، سبحان خالق النور.

موعظة :

عن أبي عبد الله 7 قال : ان داود 7 لما وقف الموقف بعرفة نظر الى الناس وكثرتهم فصعد الجبل فاقبل يدعو.

فلما قضى نسكه اتاه جبرئيل 7 فقال له : يا داود يقول ربك ، لِمَ صعدت

__________________

١ ـ من لا يحضره الفقيه : ٤٧١.


الجبل ، ظننت انه يخفى علي صوت من صوت ، ثم مضى به الى البحر الى جدة ، فرسب به في الماء مسيرة اربعين صباحا في البر ، فاذا صخرة فغلقها فاذا فيها دودة ، فقال :

يا داود يقول لك ربك انا نسمع صوت هذه في بطن هذه الصخرة في قعر هذا البحر ، فظننت انه يخفى علي صوت من صوت. (١)

وعنه 7 قال : قال داود النبي 7 ، لاعبدن الله اليوم عبادة ولاقرأن قراءة لم افعل مثلها قط ، فدخل محرابه ففعل.

فلما فرغ من صلاته ان هو بضفدع في المحراب ، فقال له : يا داود اعجبك اليوم ما فعلت من عبادتك وقراءتك؟ فقال : نعم ، فقالت : لا يعجبك فاني اسبح الله في كل ليلة الف تسبيحة يتشعب لي مع كل تسبيحة ثلاثة آلاف تحميدة ، واني لاكون في قعر الماء ، فيصوت الطير في الهواء فاحسبه جائعا ، فاطفو له على الماء لياكلني ، ومالي ذنب. (٢)

بناء بيت المقدس ووفاة داود 7 :

قيل اصاب الناس في زمان داود 7 طاعون جارف ، فخرج بهم داود الى موضع بيت المقدس ، وكان يرى الملائكة تعرج منه الى السماء ، فلهذا قصده ليدعو فيه ، فلما وقف موضع الصخرة دعا الله تعالى في كشف الطاعون عنهم ، فاستجاب له ورفع الطاعون ، فاتخذوا ذلك الموضع مسجدا ، وكان الشروع في بنائه لاحدى عشرة سنة مضت من ملكه ، وتوفي قبل ان يستتم بناءه ، واوصى الى سليمان باتمامه.

__________________

١ ـ ٢ ـ قصص الانبياء للجزائري : ص ٣٨٥.


فلما توفي داود 7 ودفنه سليمان واستتم بناء المسجد ، بناه بالرخام وزخرفه بالذهب ورصعه بالجواهر.

وساعده على ذلك جميعه الجن والشياطين ، فلما فرغ اتخذ ذلك اليوم عيدا عظيما وقرب قربانا ، فتقبله الله منه ، وكان ابتداؤه اولا ببناء المدينة ، فلما فرغ منها ابتدأ بعمارة المسجد.

وقيل : ان سليمان هو الذي ابتدأ بعمارة المسجد.

وفاة النبي داود 7

ثم ان داود 7 كان له جارية تغلق الابواب كل ليلة وتأتيه بالمفاتيح فيقوم الى عبادته ، فاغلقتها ليلة فرأت في الدار رجلا فقالت : من ادخلك الدار؟ فقال : انا الذي ادخل على الملوك بغير اذن.

فسمع داود قوله فقال : انت ملك الموت؟ قال : نعم ، قال : فهلا ارسلت الي لاستعد للموت؟.

قال : قد ارسلت اليك كثيرا ، قال : من كان رسولك؟ قال : اين ابوك واخوك وجارك ومعارفك؟ قال : ماتوا ، قال : فهم كانوا رسلي اليك ، لانك تموت كما ماتوا ! ثم قبضه ، فلما مات ورث سليمان ملكه وعلمه ونبوته.

وكان لداود 7 تسعة عشر ولدا ، فورثه سليمان دونهم ، وكان عمر داود لما توفي ـ مائة سنة ـ وكانت مدة ملكه اربعين سنة. (١)

__________________

١ ـ الكامل في التاريخ : ج ١ ص ١٥٧.



( ١٦ )

حكم و مواعظ من حياة

النبي سليمان 7



قصة النبي سلمان 7

قال الله عزوجل فيما جاء في قصة سليمان النبي 7 :

( ولقد فتنا سليمان والقينا على كرسيه جسدا ثم اناب * قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي انك انت الوهاب * فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث اصاب * والشياطين كل بناء وغواص * وآخرين مقرنين في الاصفاد * هذا عطاؤنا فامنن او امسك بغير حساب * وان له عندنا لزلفى وحسن مآب ) (١).

هذه الآيات المباركة تتحدث عن احداث من قصة سليمان 7 وتبني لنا ان كل انسان مهما امتلك من قوة وقدرة ، فانها ليست منه ، بل ان كل ما عنده هو من الله سبحانه وتعالى.

والحكم والمواعظ التي تزيل حجب الغرور والغفلة عن اعين الانسان ، ويجعله يشعر بصغر حجمه واحتياجه الى رحمة الباري عزوجل وتسديده وهوايته ، نستفيدها من الانبياء والرسل والاوصياء ، ومنهم النبي سليمان ، حيث نقف لحظات على سيرة حياته المليئة بالمواعظ والحكم والعبر والدروس البناءة ، كي نجعلها امام اعيننا ونتعض بها وتكون خير طريق فيه صلاح ديننا

__________________

١ ـ ص : ٣٤ ـ ٤٠.


ودنيانا في كل زمان ومكان.

ومرة اخرى نرى نساجي قصص الخيال ، وتجار القصص نسجوا قصصا خيالية وهمية اخرى وتهم ما انزل الله بها من سلطان ، ولصقوها بهذا النبي الكبير ما لا يليق بالنبوة وينافي مقام العصمة ، ويتنافى اساسا مع المنطق والعقل والادراك.

فعلى من يبحث ويتحقق في القرآن المجيد من العلماء والفقهاء ان يقفوا امام هذه القصص الخرافية التي تسيء الى مقام العصمة والطهارة للانبياء والاوصياء : وسد كافة الابواب امامهم ....

خلافة النبي سليمان 7

روى الثعلبي : انه نزل كتاب من السماء على داود 7 مختوما بخاتم من ذهب فيه ثلاث عشرة مسألة ، فأوحى الله الى داود ان سل عنها ابنك سليمان فان اخبر بهن فهو الخليفة من بعدك.

قال : فدعى داود سبعين قسا وسبعين حبرا ، واجلس سليمان بين ايديهم ، فقال :

اخبرني يا بني ما اقرب الاشياء؟ وما ابعد الاشياء؟ وما آنس الاشياء؟ وما اوحش الاشياء؟ وما احسن الاشياء ، وما اقبح الاشياء؟ وما اقل الاشياء؟ وما اكثر الاشياء؟ وما القائمان؟ وما المختلفان؟ وما المتباغضان؟ وما الأمر الذي اذا ركبه الرجل حمد آخره؟ والامر الذي اذا ركبه الرجل ذم آخره؟.

قال سليمان : اما اقرب الاشياء فالآخرة ، واما ابعد الاشياء ، فما فاتك من الدنيا.

واما آنس الاشياء ، فجسد فيه روح ناطق.


واما اوحش الاشياء ، فجسد بلا روح.

واما احسن الاشياء ، فالايمان بعد الكفر.

واما اقبح الاشياء ، فالكفر بعد الايمان.

واما اقل الاشياء ، فاليقين.

واما اكثر الاشياء ، فالشك.

واما القائمان ، فالسماء والارض.

واما المختلفان ، فالليل والنهار.

واما المتباغضان ، فالموت والحياة.

واما الأمر الذي اذا ركبه الرجل حمد آخره ، فالحلم على الغضب واما الأمر الذي اذا ركبه الرجل ذم آخره ، فالحقد على الغضب.

قال : ففك ذلك الخاتم فاذا هذه المسائل سواء على ما نزل من السماء.

فقال القسيسون والاحبار : ما الشيء الذي اذا صلح صلح كل شيء من الانسان ، واذا فسد فسد كل شيء منه؟ فقال : القلب ، فرضوا بخلافته. (١)

وما استخلف داود سليمان حتى اختبر عقله ، واستخلف داود سليمان وهو ابن ثلاثة عشر سنة ، ومكث في ملكه اربعين سنة ، وملك ذي القرنين وهو ابن اثني عشر سنة ، ومكث في ملكه ثلاثين سنة.

الامتحان الصعب :

نرى هنا ايضا ان الله عزوجل يمتحن نبيه سليمان 7 كما امتحن الانبياء من قبله ، وكان امتحانهم من الله فيه حكم ومواعظ ودروس للناس جميعا.

__________________

١ ـ ذكره الثعلبي في العرائس : ١٦١.


وهنا نرى في قصة النبي سليمان 7 ومن خلال الآيات المباركة المذكورة في القرآن الكريم نرى امتحان سليمان بواسطة جسد خالي من الروح القي على كرسيه وامام عينه ( ولقد فتنا سليمان والقينا على كرسيه جسدا ثم اناب ) (١).

وقد اورد المفسرون والمحدثون تفسيرات متعددة في هذا المجال وافضلها ما يلي :

ان سليمان 7 كان متزوجا من عدة نساء ، وكان يأمل ان يُرزق باولاد صالحين شجعان ليساعدون على ادارة شؤون البلاد وجهاد الاعداء.

فحدث نفسه يوما قائلا : لاطوفن على نسائي كي ارزق بعدد من الاولاد لعلهم يساعدوني في تحقيق اهدافي ، وغفل ان يقول : « ان شاء الله ».

بعد تمام حديثه مع نفسه ، وغفل عن تلك العبارة التي تبين توكل الانسان على الله سبحانه وتعالى في كل الامور والاحوال ، فلم يرزق سوى ولد ميت ناقص الخلقة ، جيء به والقي على كرسي سليمان 7.

بعد ذلك غرق سليمان 7 في تفكير عميق ، وتألم لكونه غفل عن الله تعالى لحظة واحدة ، واعتمد على قواه الذاتية ، فتاب الى الله وعاد اليه.

وهناك تفسير آخر لهذه الآية المباركة هو :

ان الله تعالى امتحن سليمان بمرض شديد ، بحيث طرحه على كرسيه كالجسد بلا روح من شدة المرض.

وفي نهاية الأمر تاب سليمان الى الله ، واعاد الله اليه صحته ، وعاد كما كان سابقا ، هذا المراد من قوله : « ثم اناب ».

بعد رجوعه الى الله كرر توبته وطلب سليمان من ربه ملكا عظيما لم

__________________

١ ـ ص : ٣٤.


يحصل عليه احد من قبله : ( قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي انك انت الوهاب ) (١).

فاستجاب له الله عزوجل وسخر له الشياطين والجن والانس كل بناء وغواص ، وعلمه منطق الطير ومكن له في الارض ، فعلم الناس في وقته وبعده ، ان ملكه لا يشبه ملك الملوك والسلاطين والمالكين بالغلبة والجور.

الامتيازات الخمسة :

وقد منح الله عزوجل للنبي سليمان 7 ملكا يتميز بامتيازات خاصة ونِعَم كبيرة كما وضحتها لنا الآيات المباركة ، ويمكن ايجازها في خمسة اقسام وهي :

١ ـ تسخير الرياح : كما تقول الآية : ( وسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث اصاب ) (٢).

من الطبيعي ان الملك الواسع الكبير يحتاج الى واسطة سريعة للاتصال مع مناطق ملكه وتفقد مملكته بسرعة في الاوقات الضرورية.

اما كيف كانت هذه الرياح تطيع اوامره؟

وما هي هذه الواسطة التي كان يركبها ، وما هي العوامل التي كانت تحفظهم من السقوط ومن الانخفاض والارتفاع الذي يحدث بواسطة الهواء؟ وما هي الاسرار الخفية التي كانت موضوعة تحت تصرف سليمان في ذلك العصر؟

تفاصيل كل هذه التساؤلات ليست واضحة لنا ، وكل ما نعرفه ، ان الله عزوجل قادر ان يلهم انبيائه ويعطيهم القدرة الكاملة في التصرف لتسهيل امورهم والقيام بمهامهم التي من اجلها بعثهم الله تعالى.

__________________

١ ـ ص : ٢٥.

٢ ـ ص : ٣٦.


وهذه الامور تعد شيئا بسيطا في مقابل قدرة الباري عزوجل.

٢ ـ النعمة الثانية التي انعمها الله على عبده سليمان هي :

تسخير الموجودات المتمردة ووضعها تحت تصرفه لتنجز له بعض اعماله التي يحتاج لها ، وذلك في قوله تعالى :

( والشياطين كل بناء وغواص ) (١) اي ، ان مجموعة منها منشغلة في البر ببناء البيوت وما يحتاج اليه سليمان من ابنية ، وجماعة اخرى منشغلة بالغوص في البحر لتستخرج المواد الثمينة من اللؤلؤ والمرجان وغير ذلك.

٣ ـ سيطرته على مجموعة من القوى التخريبية من الشياطين والانس والجن.

هناك احتمال ان كلمة الشياطين المراد منها العصاة والمتمردين من بني الانسان ، وكذلك المجموعات المتمردة والمخربة الذين كانوا مكبلين بالقيود وفي السجون ، والشياطين التي كانت ممنوعة من اداء اي نشاط : ( وآخرين مقرّنين في الاصفاد ) (٢) كل هؤلاء سيطر عليها سليمان 7 واستعملها لتطوير مملكته.

٤ ـ النعمة الرابعة التي انعمها الله سبحانه وتعالى على نبيه سليمان 7 هي : اعطاؤه الصلاحيات الواسعة والكاملة في توزيع العطايا والنعم على من يريد ومنعها عمن يريد حسب ما تقتضيه المصلحة ، وذلك في قوله تعالى : ( هذا عطاؤنا فامنن او امسك بغير حساب ) (٣). وعبارة ( بغير حساب ) اشارة من الباري عزوجل انه اعطى لسليمان 7 صلاحيات واسعة يتمتع بها فيما فيه خير

__________________

١ ـ ص : ٣٧.

٢ ـ ص : ٣٨.

٣ ـ ص : ٣٩.


الدنيا والآخرة له ولمن يريد.

٥ ـ والنعمة الخامسة والاخيرة التي منحها الله سبحانه وتعالى بها على سليمان 7 هي : المراتب المعنوية اللائقة التي شملته ، كما ورد ذلك في قوله تعالى : ( وان له عندنا لزلفى وحسن مآب ) (١).

وهذه الآية المباركة تشير ايضا الى الرد المناسب على اولئك الذين يدنسون قدسية الانبياء العظام بادعاءات باطلة وواهية ، يستقونها من كتاب التوراة الحالي المحرف.

وعبارة « حسن مآب » التي تبشره بحسن العاقبة والمنزلة الرفيعة عند الله ، هي ، في نفس الوقت ـ اشارة الى زيف الادعاءات المحرفة التي نسبتها كتب التوراة اليه ....

وكذلك النعم التي حصل عليها سليمان من اجل ادارة مملكته القوية والامكانيات المادية والاقتصادية والسياسية الواسعة ، لا تتنامى مع المقامات المعنوية والقيم الالهية والانسانية ، كما ورد في الآية المباركة ... وان له عندنا لزلفى وحسن مآب ... فان ذلك لم يزد سليمان الا تخشعا وتعبدا لله تعالى.

المواهب العظيمة :

لقد من الله عزوجل ثلاث مواهب عظيمة خص بها نبيه سليمان 7 ، وأحد هذه المواهب تسخير الرياح له ، حيث قال تعالى : ( ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر ) (٢).

من الملفت هنا ، هو انه ، نرى الله عزوجل قد سخر لداود الاب جسما

__________________

١ ـ ص : ٤٠.

٢ ـ سبأ : ١٢.


خشنا وصلبا جدا وهو الحديد ، بان الانه له ، ونرى انه تعالى فقد سخر لسليمان الابن موجودا لطيفا للغاية ، جسم صلب يلين لداود ، وامواج الهواء اللطيفة تُجعل محكمة وفعالة لسليمان ... فتامل !!

اما كيفية تحرك الريح ، وما هي الوسيلة التي كان يتحرك عليها سليمان ، هل هي كرسيا ام بساطا ام غير ذلك؟ فليس بواضح لنا ، وهذا لا يصعب على الله جل جلاله. قدرة.

لقد استطاع الانسان بقدرته الحقيرة امام قدرة الله تعالى ان يحرك البالونات والطائرات التي تحمل آلاف المسافرين ، والاقمار الصناعية الثقيلة الى عنان السماء ، أفيمكن القول بان تحريك بساط سليمان او اي وسيلة اخرى ، بواسطة الريح ، تشكل مشكلة للباري جلت قدرته؟!

والموهبة الثانية التي خص الله بها سليمان 7 كما تقول الآية المباركة : ( واسلنا له عين القطر ) (١).

« اسلنا » بمعنى الاجراء من الجريان ، و « القطر » بمعنى النحاس ، والمقصود : اننا اذبنا له هذا الفلز وجعلناه كينبوع الماء. وقال البعض بان « القطر » يعني انواع الفلزات والرصاص ، اذيبت باجمعها لسليمان ، ليصنع منها ما يحتاجه لتطوير مملكته والدفاع عنها ...

وايضا نقول : كيف يكون النحاس والفلزات الذائبة كينبوع الماء بين يدي سليمان ، هل كانت عيون من المعادن الفلزية الذائبة ، او عيون البراكين الفعالة ، او بشكل آخر؟ كل هذا ليس واضح لدينا كيف كان ذلك ، والذي نعلمه هو ان ذلك كان من الالطاف الالهية والاعجاز لهذا النبي العظيم.

__________________

١ ـ نفس المصدر.


والموهبة الثالثة لسليمان 7 ، وكما ذكرنا ـ تسخير مجموعة كبيرة من الجن لخدمته كما تقول الآية : ( ومن الجن من يعمل بين يديه باذن ربه ومن يزغ منهم عن امرنا نذقه من عذاب السعير ) (١).

الجن ـ كما هو معلوم من اسمه ، ذلك المخلوق المستور عن الحس البشري ، له عقل وقدرة ومكلف بتكاليف الهية ، كما يستفاد من آيات القرآن الكريم.

لقد صيغت حول الجن اساطير وحكايات خرافية كثيرة ، لو حذفناها لكان اصل وجودهم والصفات الخاصة بهم التي وردت في القرآن موضوعا لا يخالف العلم والعقل مطلقا.

وعلى كل حال ، يستفاد من الآية المباركة اعلاه ، ان تسخير هذه القوة العظيمة كان ايضا بأمر من الله ، وانهم كانوا يتعرضون للعقاب حين ظهور اي تقصير منهم في اداء مهامهم.

والجدير بالملاحظة :

هو انه لادارة حكومة كبيرة ، ودولة واسعة كدولة سليمان ، تحتاج الى عوامل عديدة وقوة عاملة كبيرة ، واهم هذه العوامل وكما ذكرناها ، وذكرتها الآيات اعلاه هي :

١ ـ توفر واسطة نقل سريعة مهيأة على الدوام ، لكي يستطيع رئيس الحكومة التنقل والتفقد في جميع اطراف دولته.

٢ ـ مواد اولية يستفاد منها لصناعة المعدات اللازمة لحياة الناس والصناعات المختلفة.

__________________

١ ـ نفس المصدر.


٣ ـ قوة عاملة فعالة ، تستطيع الاستفادة من تلك المواد بدرجة مناسبة ، لسد حاجات البلاد.

وهذا الموضوع ، وهذه اللوازم ، لا تختص فقط بعصر سليمان 7 وحكومته ، بل نحتاجها في كل عصر وزمان ، اليوم وغدا ، وفي كل مكان ولاجل ادارة دولة بطريقة صحيحة وفعالة ومتطورة ، يسعد فيها المجتمع البشري ككل ..

ملاحظات :

روي انه اول من اتخذ السكر سليمان 7.

وقيل : كان ملك سليمان 7 ما بين الشامات الى بلاد اصطخين.

وروي انه كان سليمان 7 يطعم اضيافه اللحم بالحوّاري (١) ، وعياله الخشكار ، وياكل هو الشعير غير منخول. (٢)

الصدوق باسناده الى زيد الشحام ، عن ابي عبد الله 7 في قوله تعالى : ( اعملوا آل داود شكرا ) (٣) قال : كانوا ثمانين رجلا وسبعين امرأة ، ما اغب المحراب رجل واحد منهم يصلي فيه ، وكانوا آل داود ، فلما قبل داود 7 ولى سليمان 7.

قال : يا ايها الناس عُلمنا منطق الطير ، وسخر الله له الجن والانس ، وكان لا يسمع بملك في ناحية الارض الا اتاه حتى يذله ويدخله في دينه ، وسخر له الريح ، فكان اذا خرج الى مجلسه عكف عليه الطير وقام الجن والانس ، وكان اذا

__________________

١ ـ الخبز الحوّاري : المطبوخ بالدقيق الابيض ، الذي نخل مرة بعد مرة. والخشكار : الدقيق المنخول ، او الخبز اليابس.

٢ ـ البحار : ج ١٤ ص ٧٠.

٣ ـ سبأ : ١٣.


اراد ان يغزو امر بمعسكره فضرب له بساطا من الخشب ، ثم جعل عليه الناس والدواب وآلة الحرب كلها حتى اذا حمل معه ما يريد ، امر العاصف من الريح فدخلت تحت الخشب فحمله حتى ينتهي به الى حيث يريد ، وكان غدوها شهرا ورواحها شهرا (١).

وروي انه آخر نبي يدخل الجنة سليمان بن داود 8 وذلك لما اعطي في الدنيا. (٢)

وان اول من كسا البيت الثياب سليمان بن داود 8 كساه القباطي. (٣)

كان سليمان 7 مع ما هو فيه من الملك يلبس الشَعر ، واذا جنه الليل شد يديه الى عنقه ، فلا يزال قائما حتى يصبح باكيا ، وكان قوته من سفائف الخوص يعملها بيده ، وانما سأل الملك ليقهر ملوك الكفر.

مواعظ وحكم :

الاجل :

من المواعظ المهمة للانسان هو الموت والاجل المحدد ، حيث قال الله تعالى :

( فاذا جاء اجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) (٤).

وقال امير المؤمنين 7 : ولو ان احدا يجد الى البقاء سلما ، او لدفع الموت سبيلا ، لكان سليمان بن داود 7 الذي سخر له ملك الجن والانس مع النبوة

__________________

١ ـ البحار : ج ١٤ ص ٧١.

٢ ـ السرائر : ٤٦٧.

٣ ـ من لا يحضره الفقيه : ٢١٣.

٤ ـ الاعراف : ٣٤.


وعظيم الزلفة ، « اي عظيم الدرجة » ، فلما استوفى طعمته واستكمل مدته رمته قسي الفناء بنبال الموت ، واصبحت الديار منه خالية ، والمساكن معطلة ، ورثها قوم آخرون. (١)

استسقاء النملة :

روي انه خرج سليمان يستسقي ومعه الجن والانس فمر بنملة عرجاء ناشرة جناحها ، رافعة يديها ، وتقول :

اللهم انا خلق من خلقك ، لا غنى بنا عن رزقك ، فلا تؤاخذنا بذنوب بني آدم ، واسقنا.

فقال سليمان 7 لمن كان معه : ارجعوا فقد شفع فيكم غيركم ، وفي خبر آخر : قد كفيتم بغيركم (٢).

ثواب التسبيحة :

روى ابن شهر آشوب في البيان :

فيحكى ان سليمان 7 مر بحراث فقال الحارث لقد اوتي ابن داود ملكا عظيما ، فسمعه سليمان ، فنزل ومشى الى الحراث وقال : انما مشيت اليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه ، ثم قال :

لتسبيحة واحدة يقبلها الله تعالى خير مما اوتي آل داود ، لان ثواب التسبيحة يبقى ، وملك سليمان يفنى. (٣)

__________________

١ ـ نهج البلاغة : ١ ـ ٣٤١.

٢ ـ رواه المسعودي في اثبات الوصية.

٣ ـ عدة الداعي : ١٩١. عنه البحار : ج ١٤ ص ٨١.


هذا من فضل ربي :

ان عبيد الدنيا وطلابها الذين غرتهم الدنيا حين ينالون القوة والاقتدار ، ينسون كل شيء ، وينسون الله عزوجل ، وكل ما يقع في ايديهم يحسبونه من عند انفسهم وبقدرتهم ، لا من غيرهم ولا من الله كما كان قارون يقول : « انما اوتيته على علم عندي » ...

في حين ان عباد الله من المؤمنين والمتقين والانبياء والصالحين لم يقولوا هذا الكلام بل يقولوا هو من عند الله ، كل هذه النعم والبركات من فضل الله تعالى كما كان النبي سليمان 7 يرى جميع النعم التي يتمتع بها هي من نعم الله عليه.

وعندما شاهد عرش ملكة سبأ عنده قال :

( هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر ام اكفر ومن شكر فانما يشكر لنفسه ومن كفر فان ربي غني كريم ) (١).

هذا هو معيار معرفة الموحدين الخلص ، وهذه سيرة السالكين والمقربين الى الله عزوجل والداعين له ، ونرى النبي سليمان ايضا قال : ( وقال رب اوزعني ان اشكر نعمتك التي انعمت علي وعلى والدي وان اعمل صالحا ترضاه ... ) (٢).

ومع الاسف نرى الكثير من المتظاهرين بالشكر والطواغيت ومن الذين اعتادوا على كتابة هذه العبارة والآية المباركة ( هذا من فضل ربي ) على قصورهم ودورهم ـ الطاغوتية ـ دون ان يعتقدوا بذلك ويعملوا به ...

ولكن ومع هذا ، المهم هو ان تكتب هذه العبارة على ابواب البيوت ، وعلى

__________________

١ ـ النمل : ٤٠.

٢ ـ النمل : ١٩.


جبهة الانسان ، وعلى قلبه وفي قلبه ... ايضا وان يشكر الله ، لا شكرا باللسان فحسب ، بل شكرا مقرونا بالعمل وفي جميع الاحوال وجميع وجوده ، الحمد لله وله الشكر على كل حال.

منطق سليمان :

وقال الصادق 7 : اعطي سليمان بن داود 7 مع علمه معرفة المنطق بكل لسان ومعرفة اللغات ومنطق الطير والبهائم والسباع ، فكان اذا شاهد الحروب تكلم بالفارسية ، واذا قعط لعماله وجنوده واهل مملكته ، تكلم بالرومية ، فاذا خلا مع نسائه يكلم بالسريانية والنبطية ، واذا اقام في محرابه لمناجاة ربه تكلم بالعربية ، واذا جلس للوفود والخصماء تكلم بالعبرانية. (١)

كيف احضر عرش بلقيس :

لم يكن هذا اول عمل خارق للعادة ، ولا الوحيد من نوعه ، في قصة سليمان 7 ، بل هناك الكثير من هذه الاعمال الخارقة حدثت في حياة الانبياء والاوصياء ، وحتى في زماننا هذا وايامنا هذه ، وما سيحدث في المستقبل اكثر ...

هل ترون ان هذه الاعمال الخارقة للعادة من قبل الانبياء وخلفائهم محال؟! وتنكرونها كليا؟! فهذا الأمر لا ينسجم مع اصل التوحيد ، ولا مع قدرة الله الحاكم على قوانين الوجود ....

هذا العلم الذي وصل اليه الانسان اليوم من غزو الفضاء وصنع الفضائيات حيث نرى الانسان يتكلم في المشرق ويسمع كلامه ويرى صورته من في

__________________

١ ـ تفسير القمي : ٤٧٦.


المغرب ، باقل من رمشة عين ، بل انت جالس في المغرب وتتحدث مع من يجلس في المشرق وتراه مباشرة وفي آن واحد ... اليس هذا من عظمة الله عزوجل وقدرته ، وأليس هذا هو التوحيد؟! فتأمل.

سليمان 7 والنملة :

قال الطبرسي رحمه الله : وادي النمل هو واد بالطائف ، وقيل : بالشام.

بينما كان سليمان 7 يسير مع جنوده مروا بوادي النمل ، فخرجت رئيستهم ونادت بقية النمل ، ان ادخلوا بيوتكم لا يحطمنكم جنود سليمان ، وذلك في قوله تعالى : ( حتى اذا اتوا على وادي النمل قالت نملة يا ايها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون * فتبسم ضاحكا من قولها ... ) (١).

لما سمعها سليمان 7 وقف بجنوده حتى دخل النمل مساكنهم فتبسم ضاحكا من قولها ، وسبب ضحكه ، التعجب لانه رأى ما لا عهد له به ، وقيل : فتبسم من حذرها.

وهذا يدل على ان سليمان وجنوده كانوا ركبانا ومشاة على الارض ولم تحملهم الريح ، لان الريح لو حملتهم بين السماء والارض لما خافت النملة ان يطؤوها بارجلهم ، ولعل هذه القصة كانت قبل تسخير الله الريح لسليمان 7.

فان قيل : كيف عرفت النملة سليمان وجنوده حتى قالت هذه المقالة؟

قلنا : اذا كانت مأمورة بطاعته فلابد ان يخلق الله لها من الفهم ما تعرف به امور طاعته ، ولا يمنع ان يكون لها فهم ما تستدرك به ذلك.

__________________

١ ـ النمل : ١٩.


وقد علمنا انها تشق ما تجمع من الحبوب بنصفين مخافة ان تصيبه الندى فينبت ، الا الكزبرة فانها تكسرها باربع ـ قطع ـ لانها تنبت اذا قطعت بنصفين ، فمن هداها الى هذا فانه يهديها الى تمييز ما يحطمها مما لا يحطمها.

وروي لما سمع سليمان قول النملة دعاها وقال :

علي بالنملة ، فلما اتي بها قال سليمان : يا ايتها النملة اما علمت اني نبي الله ، واني لا اظلم احدا؟ قالت النملة : بلى ، قال سليمان : فَلِمَ حذرتيهم ظلمي؟ قالت النملة : خشيت ان ينظروا الى زينتك فيفتتنوا بها فيبعدوا عن الله تعالى ذكره ويعبدون غيره (١).

سليمان 7 والعصفور :

روي ان سليمان 7 رأى عصفورا يقول لعصفورة : لِمَ تمنعين نفسك مني؟ ولو شئت اخذت قبة سليمان بمنقاري فالقيتها في البحر ، فتبسم سليمان 7 من كلامه ، ثم دعاهما وقال للعصفور : اتطيق ان تفعل ذلك؟ فقال : لا يا رسول الله ، ولكن المرء قد يزين نفسه ويعظمها عند زوجته ، والمحب لا يلام على ما يقول.

فقال سليمان 7 للعصفورة : لِمَ تمنعينه من نفسك وهو يحبك؟ فقالت : يا نبي الله انه ليس محبا ولكنه مدع ، لانه يحب معي غيري.

فأثر كلام العصفورة في قلب سليمان ، وبكى بكاء شديدا واحتجب عن الناس اربعين يوما يدعو الله ان يفرغ قلبه لمحبته وان لا يخالطها بمحبة غيره (٢).

وروي انه 7 سمع يوما عصفورا يقول لزوجته : ادني مني حتى اجامعك

__________________

١ ـ البحار : ج ١٤ ص ٩٢.

٢ ـ البحار : ج ١٤ ص ٩٥.


لعل الله يرزقنا ولدا يذكر الله تعالى فانا كبرنا.

فتعجب سليمان من كلامه وقال : هذه النية خير من مملكتي (١).

النملة والضفدعة :

ذكروا ان سليمان 7 كان جالسا على شاطئ بحر فبصر بنملة تحمل حبة قمح تذهب بها نحو البحر ، فجعل سليمان ينظر اليها حتى بلغت الماء ، فاذا بضفدعة قد اخرجت رأسها من الماء ففتحت فاها فدخلت النملة فاها وغاصت الضفدعة في البحر ساعة طويلة وسليمان يتفكر في ذلك متعجبا.

ثم انها خرجت من الماء وفتحت فاها فخرجت النملة من فيها ولم يكن معها الحبة ، فدعاها سليمان 7 وسألها عن حالها وشأنها واين كانت.

فقالت : يا نبي الله ان في قعر هذا البحر الذي تراه صخرة مجوفة وفي جوفها دودة عمياء ، وقد خلقها الله تعالى هنالك فلا تقدر ان تخرج منها لطلب معاشها ، وقد وكلني الله برزقها ، فانا احمل رزقها ، وسخر الله هذه الضفدعة لتحملني ، فلا يضرني الماء في فيها ، وتضع فاها على ثقب الصخرة وادخلها ، ثم اذا اوصلت رزقها اليها ، خرجت من ثقب الصخرة الى فيها فتخرجني من البحر.

فقال سليمان 7 : وهل سمعت لها من تسبيحة؟ قالت : نعم ، تقول : يا من لا ينساني في جوف هذه الصخرة تحت هذه اللجة برزقك ، لا تنس عبادك المؤمنين برحمتك (٢).

قال الثعلبي في تفسيره : قالت النملة لسليمان 7 :

هل علمت لم سمي ابوك داود؟ قال : لا ، قالت : لانه داوى جرحه بود ،

__________________

١ ـ دعوات الراوندي ، عنه البحار : ١٤ ـ ٩٧.


هل تدري لمَ سميت سليمان؟ قال : لا ، قالت : لانك سليم ركنت الى ما أوتيت لسلامة صدرك ، وآن لك ان تلحق بأبيك (١).

مواعظ من منطق الحيوانات

قال الراوي : وصاح ورشان (٢) عند سليمان ، فقال : اتدرون ما تقول؟ قالوا : لا ، قال : فانها تقول : لدوا للموت وابنوا للخراب.

وصاحت فاختة فقال : تقول : ليت الخلق لم يُخلقوا.

وصاح طاووس عنده فقال : اتدرون ما قال؟ قالوا : لا ، قال : فانه يقول : كما تدين تدان.

وصاح هدهد عنده فقال : انه يقول : من لا يَرحم لا يُرحم.

وصاح صرد (٣) عنده فقال : تقول : استغفروا الله يا مذنبين.

وصاح طوطي فقال : يقول كل حي ميت وكل جديد بال.

وصاح خطاف فقال : يقول قدموا خيرا تجدوه.

وهدرت حمامة فقال : تقول : سبحان ربي الاعلى ملء سماواته وارضه.

وصاح قمري فقال : يقول : سبحان ربي الاعلى.

قال : والغراب يدعو على العشار ، والحدأ (٤) يقول : كل شيء هالك الا وجهه ، والقطا (٥) يقول : من سكت سلم. والببغاء يقول : ويل لمن الدنيا همه.

__________________

١ ـ البحار : ١٤ ـ ٩٣.

٢ ـ وَرَشان : نوع من الحمام البري اكدر اللون فيه بياض فوق ذنبه.

٣ ـ صُرد : طائر ضخم الرأس ابيض البطن ، اخضر الظهر.

٤ ـ الحدأ : جمع حِداة ـ طائر من الجوارح.

٥ ـ القطاة : طائر بحجم الحمام.


والضفدع يقول : سبحان ربي القدوس.

والباز يقول : سبحان ربي وبحمده.

والضفدعة تقول : سبحان المذكور بكل مكان.

وصاح دراج عند سليمان بن داود 7 فقال : اتدرون ما يقول؟ قالوا : لا ، قال : فانه يقول : الرحمن على العرش استوى. (١)

قالت ام سليمان بن داود لسليمان 7 : يا بني اياك وكثرة النوم بالليل فان كثرة النوم بالليل تدع الرجل فقيرا يوم القيامة.

وقال سليمان 7 لابنه : يا بني اياك والمراء فانه ليست فيه منفعة ، وهو يهيج بين الاخوان العداوة. (٢)

رد الشمس :

نقرأ في حياة النبي سليمان ايضا كثير من القصص الخيالية والمختلقة من قبل المنافقين ووعاظ السلاطين ، والجهلة والمخالفين ، وذلك من اجل المصالح المادية والشخصية ـ كما ذكرنا ـ ، لم نشغل فيها وقت وذهن القارئ العزيز في سردها ، وخاصة ونحن اليوم ومع تطور العلم وانفتاح الذهن ، اصبحت مثل تلك القصص الخيالية واضحة البطلان ولا يقبلها كل ذوعقل سليم.

نذكر هنا نموذج واحد من تلك الاقاويل والتفسيرات الباطلة ، والجواب عليها ، من قبل مولى الموحدين امير المؤمنين 7 وذلك في تفسير قوله تعالى : ( ... حتى توارت بالحجاب * ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والاعناق ...

__________________

١ ـ البحار : ج ١٤ ص ٩٦. ٢ ـ تنبيه الخواطر : ٢ ـ ١٢.


الخ ) (١).

فسرت هذه الآيات باشكال مختلفة ، حيث ان بعضها فسر بصورة سيئة معارضة لموازين العقل وصدورها من انسان عادي ، فكيف تَرد بحق نبي عظيم كسليمان 7 !!

روى الطبرسي رحمه الله عن ابن عباس انه قال : سألت عليا 7 عن هذه الآية ، فقال : ما بلغك فيها يا ابن عباس؟ فقلت : سمعت كعبا يقول : اشتغل سليمان بعرض الافراس حتى فاتته الصلاة ، فقال : ردوها علي يعني الافراس ، وكانت اربعة عشر ، فأمر بضرب سوقها واعناقها بالسيف فقتلها ، فسلبه الله ملكه اربعة عشر يوما لانه ظلم الخيل بقتلها.

فقال علي 7 : كذب كعب ، لكن اشتغل سليمان بعرض الافراس ذات يوم لانه اراد جهاد العدو حتى توارت الشمس بالحجاب ، فقال بأمر من الله تعالى للملائكة الموكلين بالشمس : ردوها علي ، فردت فصلى العصر في وقتها ، وان انبياء الله لا يظلمون ولا يأمرون بالظلم لانهم معصومون مطهرون. (٢) فتأمل ... روي عن جابر عن ابي جعفر 7 قال : ان اسم الله الاعظم على ثلاث وسبعين حرفا ، وانما كان عند آصف منها حرف واحد فتكلم به فخسف بالارض ما بينه وبين سرير بلقيس ثم تناول السرير بيده ثم عادت الارض كما كانت اسرع من طرفة عين.

وعندنا نحن من الاسم اثنان وسبعون حرفا ، وحرف عند الله استأثر به في علم الغيب عنده ، ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم. (٣)

__________________

١ ـ ص : ٣٠ ـ ٣٣.

٢ ـ مجمع البيان : ٨ ـ ٤٧٥ ، البحار : ج ١٤ ص ١٠٣.

٣ ـ تفسير الميزان : ج ١٥ ص ٣٧٠.


الهدهد وبلقيس :

يشير القرآن في هذا القسم من الآيات الى جانب آخر من حياة سليمان المدهشة ، وما جرى له مع الهدهد وبلقيس ملكة سبأ ، فيقول تعالى في كتابه المجيد :

( وتفقد الطير فقال ما لي لا ارى الهدهد ام كان من الغائبين ) (١).

كان سليمان 7 دائما يتحرى اوضاع مملكته لئلا يخفى عليه شيء ، حتى لو كان طائرا واحدا.

وكان سليمان 7 عندما يتحرك او يجلس للاستراحة ، تظلل الطير بانواعها فوق رأسه فتكون مثل الخيمة وبينما هو كذلك في احد الايام ، اذ رفع رأسه ونظر الى الطيور فلم يرى الهدهد وعرف غيابه وقال : ( ما لي لا ارى الهدهد ام كان من الغائبين ) (٢). اشارة الى انه هل الهدهد لم يحضر لعذر مقبول ام دون عذر موجه؟.

فبعد فترة عاد الهدهد وتوجه نحو سليمان ، وعندما توجه نحوه احس بآثار الغضب في وجه سليمان ، ومن اجل ان يزيل ذلك الغضب ، اخبره بخبر مهم ، بحيث كان سليمان نفسه غير مطلع عليه برغم ما عنده من علم.

ولما سكن الغضب عن وجه سليمان ، اخبره الهدهد بالخبر وقال : ان غيابي لم يكن اعتباطا وعبطا ، بل جئتك بخبر يقين.

« ومما ينبغي الالتفات اليه ، ان جنود سليمان 7 ـ حتى الطيور الممتثلة لاوامره ـ كانت عدالة سليمان قد اعطتهم الحرية والامن والدعة بحيث يكلمه الهدهد وغيره من الحيوانات ، دون خوف وبصراحة لا ستار عليها ».

__________________

١ ـ النمل : ٢٠ ـ ٤٤.

٢ ـ النمل : ٢٠.


فان الهدهد اخذ يفصل لسليمان ما حدث ، ( فقال احطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين * اني وجدت امرأة تملكهم واوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم ) (١).

ولما سمع سليمان كلام الهدهد طأطأ برأسه وغرق في تفكيره ، الا ان الهدهد لم يمهله طويلا فأخبره بخبر جديد ومزعج مريب ، اذ قال : ( وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان اعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ) (٢).

بعد ان اصغى سليمان الى كلام الهدهد بكل اهتمام ، وفكر مليا ، رفع رأسه ، وكتب كتابا وجيزا ذا مغزى عميق ، وسلمه الى الهدهد وقال له : ( اذهب بكتابي هذا فالقه اليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون ) (٣).

ذهب الهدهد مسرعا الى قصر ملكة سبأ ، ودخل مخدعها والقى الكتاب اليها.

فتحت الكتاب واطلعت على مضمونه ، وحيث ان بلقيس كانت من قبل قد سمعت باخبار سليمان واسمه ، وكان الكتاب يدل على اقدامه وعزمه الشديد في شأن بلد سبأ ، وبعد ان فكرت مليا ، دعت من حولها من المستشارين والوزراء ، واخبرتهم بالكتاب ومضمونه وانه من سليمان ومختوم بخاتمه ، وطلبت منهم ان يحكموا بهذه المسألة المهمة والدقيقة وماذا يفعلون.

فالتفت اليها اشراف قومها وقالوا لها : ( نحن اولو قوة واولو بأس شديد والامر اليك فانظري ماذا تأمرين ) (٤).

__________________

١ ـ ٢ ـ النمل : ٢٢ ـ ٢٨.

٣ ـ المصدر السابق.

٤ ـ النمل : ٣٣ ـ ٣٤.


فقد اظهروا لها تسليمهم واذعانهم لاوامرها ، كما ابدوا رغبتهم في الاعتماد على القوة والحرب.

ولما رأت الملكة رغبتهم في الحرب ، مع انها لم ترغب في ذلك ولم تَمِل اليه في الباطن ، لذلك قالت لهم ( ان الملوك اذا دخلوا قرية افسدوها وجعلوا اعزة اهلها اذلة وكذلك يفعلون ) (١) فيقتلون جماعة منهم ويأسرون آخرين ويهجرونهم و ويُخرجونهم من ديارهم ويخربونها ، وذلك ان ملكة سبأ كانت هي بنفسها ملكة ايضا وتعرف الملوك بصورة جيدة ، حيث شأنهم الافساد والتخريب ، واذلال الاعزة.

ثم قالت للاشراف من قومها : علينا ان نختبر سليمان واصحابه ، لنعرف ماهم وما يريدون؟ وهل سليمان نبي حقا او ملك؟ وهل هو مصلح او مفسد ، وهل يريد العزة والكرامة للناس او الاذلال والحقارة ، فينبغي ان نرسل اليه هدايا غالية ، فاذا قبلها منا فانه ملك ، وينبغي ان نواجهه بالقوة ، واذا الح على كلامه ولم يقبل هديتنا ، فهو نبي ويجب ان نتعامل معه بحكمة وتعقل.

« يظهر من هذا ان الملوك كل تفكيرهم وانشداد قلوبهم الى الهدايا والجاه والمقام والذهب والمال ، ولا يفكرون الا في مصالحهم الشخصية ، ولا يفكرون في مصالح الامة ، في حين ان الانبياء والرسل لا يفكرون الا باصلاح اممهم وسعادتهم وتأمين مصالحهم المادية والمعنوية ».

توجه رُسُل ملكة سبأ بقافلة الهدايا نحو الشام ، وتركوا اليمن ورائهم قاصدين مقر سليمان في الشام ، ظنا منهم ان سليمان سيكون مسرورا بمشاهدته هذه الهدايا من المجوهرات والاموال والجواري والغلمان ... ويرحب بهم.

لكن لما وصلوا سليمان وواجهوه وجها لوجه ، حتى وقفوا مدهوشين امامه لعدم استقباله لهم بالشكل المطلوب فحسب بل قال : ( اتمدونن بمال


فما آتاني الله خير مما آتاكم بل انتم بهديتكم تفرحون ) (١) فما قيمة المال ازاء مقام النبوة والعلم والهداية والتقوى ، بل انتم الذين تفرحون بالهدايا والزخارف الدنيوية الزائلة.

وبعد ذلك التفت الى رسول الملكة الذي جاء بالهدايا وقال له : ( ارجع اليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها اذلة وهم صاغرون ) (٢) وهذا التهديد كان تهديدا جديا واخذه الرسول بعين الاعتبار.

واخيرا عاد رسل ملكة سبأ مع هداياهم الى ارضهم واخبروا الملكة بما شاهدوه وسمعوه ، كما بينوا عظمة ملك سليمان وجهاز حكومته ، ولم يكن كسائر الملوك ، بل هو مرسل من قبل الله ونبيا من انبياء الله العظام.

كما اتضح لهم جميعا انهم غير قادرين على مواجهته عسكريا ، لذلك قررت الملكة ان تأتي بنفسها مع اشراف قومها الى سليمان ، ويتفحصوا عن هذه المسألة ليعرفوا اي مبدأ يحمله سليمان؟

فلما وصل الخبر وعلم سليمان بمجيء الملكة ، اراد ان يُظهر قدرته واعجازه لها من اجل ان يدعوهم الى الاسلام وعبادة الله فالتفت الى من حوله و ( قال يا ايها الملأ ايكم يأتيني بعرشها قبل ان يأتوني مسلمين ) (٣).

وهنا اظهر شخصان استعدادهما لامتثال طلب سليمان 7 ، وكان الاول عجيبا والثاني اعجب اذ ( قال عفريت من الجن انا آتيك به قبل ان تقوم من مقامك واني عليه لقوي امين * قال الذي عنده علم من الكتاب انا آتيك به قبل ان يرتد اليك طرفك ) (٤).

__________________

١ ـ ٢ ـ النمل : ٣٦ ـ ٣٧.

٣ ـ النمل : ٣٨.

٤ ـ النمل : ٣٩ ـ ٤٠.


فلا عجب من ذلك ، فان حياة الانبياء والائمة الاطهار : مملوءة بالعجائب والمعاجز الربانية.

واما الشخص الآخر الذي عنده علم من الكتاب هو « آصف بن برخيا » وزير سليمان وابن اخته ، الذي كان عارفا بالاسم الاعظم ، الاسم الذي يخضع له كل شيء ، ويمنح الانسان قدرة خارقة للعادة :

فلما نطق آصف بالاسم الاعظم انشقت الارض وظهر عرش بلقيس امام سليمان ومن كان معه جالسا ، فأمر سليمان ان يوجدوا تغييرات فيه ، من قبيل تبديل بعض علاماته ، من اجل ان يختبر عقل ملكة سبأ وذكائها ، هل تعرفه ام لا؟

فلما جاءت الملكة قيل لها : ( اهكذا عرشك قالت كأنه هو ... ) (١). اجابت جوابا دقيقا ، لا انكار فيه ولا تصديق ـ كأنه هو ـ

وبعد ذلك التفتت الى سليمان وقالت له : اذا كان مرادك من هذا الاعجاز ـ او من هذه المعجزة ـ ان نؤمن بك ونصدقك ، فانا كنا مؤمنين حتى قبل رؤية هذا الأمر الخارق للعادة !

وهكذا فان سليمان منعها من عبادة الاصنام وعبادة غير الله تعالى ، فأسلمت ، وخطت خطوة جديدة من الحياة المملوءة بنور الايمان واليقين.

قامت الملكة لتدخل القصر الذي هيئه لها سليمان وكان قد امر ان تصنع في احدى ساحات القصر من قوارير ، وان يجري الماء من تحتها.

فلما وصلت الملكة الى ذلك المكان ، وارادت ان تدخل حَسِبته ماء ، فرفعت ثيابها وكشفت عن ساقيها ، ولكن سرعان ما قال لها سليمان : ( انه صرح

__________________

١ ـ النمل : ٤٢.


ممرد من قوارير ) وحيثما رأت ملكة سبأ هذا المشهد الرائع وانتبهت الى نفسها ( قالت رب اني ظلمت نفسي واسلمت مع سليمان لله رب العاليمن ) (١).

وقالت : لقد كنت فيما مضى اسجد للشمس واعبد الاصنام ، وكنت غارقة في الزينة والتجمل ، وكنت اتصور اني اعلى الناس في الدنيا.

اما الآن فانني افهم انني ضعيفة جدا ، وهذه الزخارف والزبارج لا تروي ظمأ الانسان ولا تبل غليل روحه !

رباه ... اتيتك مع قائدي سليمان ، نادمة عن سالف عمري ، خاضعة عنقي اليك.

« صحيح ان ملكة سبأ كانت قد اعلنت ايمانها قبل هذا ، ولكن هنا كررت ايمانها واكدت اسلامها مرة اخرى مما رأت ».

لم يشر القرآن الكريم الى اكثر من هذا ، ولم يذكر بعد هذا عن مصير ملكة سبأ ، هل رجعت الى وطنها ، او بقيت عند سليمان وتزوجت منه؟ او تزوجت من غيره؟

هذه الامور لم يشير اليها القرآن ، ولكن المؤرخين والمفسرين اختلفوا في ذلك ، كل منهم اختار رأيا.

وطبقا لما قاله اغلب المفسرين ، انها تزوجت من سليمان نفسه ... والله العالم.

سيرة سليمان 7 :

ان ماورد عن سيرة سليمان 7 في القرآن الكريم ، يكشف لنا عن مسائل كثيرة ذكرناها في بحثنا هذا ، وهناك مسائل كثيرة ايضا لم يسعنا المجال لذكرها

__________________

١ ـ النمل : ٤٤.


بل نختصر على البعض منها :

١ ـ ان هذه القصة تبدأ بالحديث عن موهبة سليمان 7 وعلمه الوافر التي وهبها الله لسليمان بن داود 8 ، وتنتهي بالتسليم لامر الله ، وتوحيده.

٢ ـ وتدل القصة على ان هذا الطائر والمخلوق الصغير يمكنه احيانا ان يغير مسير تاريخ امة ، وينقذها من الفساد الى الصلاح ، ومن الشرك الى الايمان ، وهذا مثل عن بيان قدرة الله ، وحكومة الحق.

٣ ـ هداية الانسان وتدمير غروره وكبرياءه ، واماطة ستار الظلام عن وجه الانسان ، كما فعل سليمان ، فدمر نمرود وكبرياء ملكة سبأ باحضار عرشها ، وادخالها الصرح الممرد الذي حسبته لجة.

٤ ـ ان الهدف من حكومة الانبياء ـ والحكومة الاسلامية ـ ليس التوسع في رقعة الارض ـ اي التوسع المادي ، بل التوسع المعنوي ـ بل الهدف هو : ان يعترف الظالم بذنبه ، وان يسلم لرب العالمين ، وينتشر السلم والامان والحرية والسعادة في ربوع العالم على النهج السماوي.

٥ ـ قد يحتاج الانسان في بعض الاحيان الى موجود صغير وضعيف كالطائر مثلا ويستعين عليه بعلمه وعمله ، مع ما لديه من قوة وقدرة ومعرفة في امور كثيرة ، ولكنه يبقى محتاج الى غيره ... فتامل.

٦ ـ كان سليمان 7 يأكل من كسب يده ، وكان كثير الغزو.

واعطاه الله القدرة انه لا يتكلم احد بشيء الا حملته الريح اليه فيعلم ما يقول.

وكذلك اليوم ، وفي زماننا هذا ، من في المغرب يسمع من في المشرق ويتكلم معه بواسطة الريح وعن طريق ، السلك واللاسلك ، وغير ذلك من العلوم المتطورة والاكتشافات الغريبة.


وفاة النبي سليمان 7 :

( فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته الا دابة الارض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن ان لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ) (١).

قال سليمان بن داود 8 ذات يوم لاصحابه : ان الله تبارك وتعالى قد وهب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي سخر لي الريح والانس والجن والطير والوحوش ، وعلمني منطق الطير ، وآتاني من كل شيء ، ومع جميع ما اوتيت من الملك ماتم لي سرور يوم الى الليل.

وقد احببت ان ادخل قصري في غد ، فاصعد اعلاه وانظر الى ممالكي ، فلا تأذنوا لاحد علي لئلا يرد علي ما ينغص علي يومي.

قالوا نعم : فلما كان من الغد اخذ عصاه بيده وصعد الى اعلى موضع في القصر ، ووقف متكئا على عصاه ينظر الى ممالكه مسرورا بما اوتي فرحا بما اعطي.

وبينما هو كذلك اذ نظر الى شاب حسن الوجه واللباس قد خرج عليه من بعض زوايا القصر ، فلما بصر به سليمان 7 قال له : من ادخلك الى هذا القصر وقد اردت ان اخلو فيه اليوم؟ فباذن من دخلت؟

فقال الشاب : ادخلني هذا القصر ربه وباذنه دخلت ، فقال : ربه احق به مني ، فمن انت؟ قال : انا ملك الموت ، قال : وفيما جئت؟ قال : جئت لاقبض روحك ، قال : امض لما امرت به فهذا يوم سروري ، وابى الله ان يكون لي يوم سرور دون لقائه.

__________________

١ ـ سبأ : ١٤.


فقبض ملك الموت روحه وهو متكئ على عصاه ، فبقي سليمان 7 متكئا على عصاه وهو ميت ما شاء الله ـ وقيل سنة ـ والناس ينظرون اليه وهم يقدرون انه حي ، وكان الجن كذلك ينظر اليه ويعملون له.

وبعد مدة من الزمن بعث الله عزوجل « الارضة » فدبت في عصاه ، فلما اكلت جوفها انكسرت العصا وخر سليمان 7 من قصره على وجهه ميتا.

وعلمت الجن بعد ذلك ما التبس عليهم انهم لا يعلمون الغيب ، ولو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب ، وشكرت الجن الارضة ما صنعت بعصا سليمان ، فما تكاد تراها في مكان الا وعندها ماء وطين.

وقيل ان سليمان 7 عاش سبعمائة سنة واثنى عشر سنة ، (١) وقيل اقل من هذا ، وروي ان سليمان عندما توفي دفن الى جنب قبر ابيه داود ، وكان له من العمر يوم ملك اثنتا عشرة سنة ، فمات وله اثنتان وخمسون سنة والله العالم. (٢)

اتضح لنا كيف ان رجلا بكل هذه القدرة والعظمة كان امام الموت ضعيفا لا حول له ولا قوة ، بحيث فارق الدنيا فجاة وفي لحظة واحدة.

وكيف ان الاجل لم يعطه حتى فرصة الجلوس او الاستلقاءعلى سريره.

هذه عبرة وموعظة لمن يتعض البعض حينما يبلغون مقاما او منصبا ان قد اصبحوا مقتدرين حقيقة ، فان المقتدر الحقيقي ، ذلك الذي كان الجن والانس والشياطين خدما بين يديه ، ذلك الذي كان يجول في الارض والسماء ، والذي بلغ قمة الهيبة والحشمة ، ثم في لحظة واحدة قصيرة ـ كزبد البحر ـ فارق الدنيا ... فتامل.

__________________

١ ـ كمال الدين ، عنه البحار : ج ١٤ ص ١٤٠.

٢ ـ تاريخ اليعقوبي : ص ٦٠.



( ١٧ )

حكم و مواعظ من حياة

النبي زكريا ويحيى 8



قصة زكريا ويحيى 8

قال تعالى : ( هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة انك سميع الدعاء * فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب ان الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين ) (١).

استجابة دعاء زكريا :

قيل : ان زوجة زكريا ، واسمها : « اليصابات » (٢) وام مريم زوجة عمران واسمها « حنة » كانتا اختين ، وكانتا عاقرين ، وعندما رزقت ام مريم بلطف من الله هذه الذرية الصالحة ، ورأى زكريا خصائصها العجيبة حيث كان كلما يدخل على مريم في محرابها يجد عندها طعام ، فسالها : من اين لك هذا قالت هو من عند الله ، فعند ذلك تمنى زكريا ان يرزقه الله ذرية صالحة وطاهرة وتقية مثل مريم.

وعلى الرغم من كبر سن زكريا وزوجته ، حيث كانت عاقرا ايضا كان يستحيل من الناحية الطبيعية ان يرزقا طفلا ، لكن زكريا لم يستبعد من حصوله

__________________

١ ـ آل عمران : ٣٨ ـ ٣٩.

٢ ـ وقيل اسمها « اشياع بنت فاقوذ » الكامل في التاريخ ج ١ ص ١٩٧.


على طفل مع شيخوخته ، لذلك راح يتضرع الى الله ويدعو ويصلي في محرابه لطلب الولد.

ولم يمضي وقت طويل حتى اجاب الله دعاء زكريا ، فبينما كان يعبد الله في محرابه ، نادته الملائكة وقالت : ان الله يبشرك بمولود اسمه ـ يحيى ـ وسوف يؤمن بالمسيح عيسى ويشد ازره ، وسيصبح من حيث العلم والعمل قائدا للناس وسيدا وحصورا ، اي يضع نفسه في المحاصرة والمراقبة ويمتنع عن الشهوات المادية ، وسيكون ايضا من الانبياء والصالحين.

فلما سمع زكريا قول الملائكة ، استولى عليه العجب والحيرة ، فقال لدى سماعه بشارة الملائكة ، كيف يمكن ان يولد لي ولد وانا في هذا السن من الشيخوخة ، ثم ان زوجتي عاقرا لا تلد.

فجاءه الجواب : ان الله يفعل ما يشاء وبيده كل شيء.

كم هو جميل ورائع ان يستجيب الله دعاء عبده بهذه الصورة ، ويبشره على تحقيق مراده ، ويعطيه مولودا ذكرا في مقابل طلب الولد ، ويسميه ايضا بنفسه تعالى ، ولم يسبقه احد بهذا الاسم : « لم نجعل له من قبل سميا ».

وكان قبل هذا قد طلب زكريا ايضا من الله ان يجعل له آية وامارة وعلامة وكان يريد ان يمتليء قلبه بالايمان : ( قال رب اجعل لي آية قال آيتك الا تكلم الناس ثلاثة ايام الا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والابكار ) (١).

اجاب الله طلب زكريا هذا ايضا ، وعين له علامة ، وهي ان يكف لسانه عن الكلام ثلاثة ايام ، فلم يقدر على المحادثة العادية ، ولكن لسانه كان ينطق بذكر الله والتسبيح فقط ، ويستطيع ان يخاطب الناس بالايماء في الامور الضرورية.

__________________

١ ـ آل عمران : ٤١.


بعد هذه البشارة والآية الواضحة ، خرج زكريا من المحراب الى الناس فكلمهم بالاشارة ( فخرج على قومه من المحراب فأوحى اليهم ان سبحوا بكرة وعشيا ) (١). هذا بالاضافة الى انه كان يسبح الله ، كذلك طلب من القوم ان يسبحوا لله ويشكروه من اجل ان تقوى اسس الايمان في قلوب الناس.

وروي ان زكريا 7 سأل ربه ان يعلمه اسماء الخمسة ، فاهبط عليه جبرئيل 7 فعلمه اياها ، فكان زكريا 7 اذا ذكر محمد 6 وعليا وفاطمة والحسن : وانكشف عنه همه وانجلى كربه ، واذا ذكر اسم الحسين 7 خنقته العبرة ووقعت عليه الزفرة وتشايع النفس.

فقال ذات يوم : الهي ما بالي اذا ذكرت اربعة منهم تسليت باسمائهم من همومي ، واذا ذكرت الحسين 7 تدمع عيني وتثور زفرتي ، فانبأه الله تعالى عن قصة كربلاء وما يجري على الحسين 7 وعترته الطاهرة ... (٢)

كفيل مريم 3 :

فلما ولدت مريم بنت عمران 3 ، وتنافس فيها الرهبان في من يكفلها لانها كانت بنت امامهم ونبيهم ، فقال زكريا : انا اكفلها ، انا احق بها لان خالتها عندي ، لان عمران كان متزوجا « بجنة بنت فاقوراء » ، وكان زكريا متزوجا باختها « اشاع بنت فاقوراء » وكان زكريا رئيس الرهبان فقال الرهبان نقترع عليها ، فاقترعوا فوقعت القرعة على زكريا فاخذها وكفلها وضمها الى خالتها ام يحيى واسترضع لها حتى كبرت.

فكان زكريا كلما يدخل على مريم يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف

__________________

١ ـ مريم : ١١.

٢ ـ البحار : ج ١٤ ص ١٧٨.


وفاكهة الصيف في الشتاء ، فسالها من اين لك هذا؟ قالت : هو من عند الله ، فلما رأى زكريا ذلك منها دعى الله عزوجل وطلب منه الولد ، فقال : ان الذي فعل بمريم هذا الفعل ورزقها الفاكهة قادر على ان يصلح زوجتي حتى تلد ! فرزقه الله يحيى.

وكان عمر زكريا 7 لما ولِد يحيى 7 ، مائة وعشرين سنة وكانت امرأته عمرها ، ثمان وتسعين سنة.

شهادة زكريا :

لم يذكر في القرآن كيف توفي زكريا 7 ، وكيفية ارتحاله ، ولكن وردت اخبار متكاثرة من طريق العامة والخاصة ، ان قومه قتلوه ، وذلك ان اعداءه قصدوه ليقتلوه فهرب منهم والتجأ الى شجرة فانفرجت له فدخل جوفها ثم التامت ، فدلهم الشيطان عليه وامرهم ان ينشروا الشجرة بالمنشار ، ففعلوا وقطعوه نصفين ، فقتل 7 عند ذلك ، ثم بعث الله عزوجل الملائكة فغسلوا زكريا وصلوا عليه ودفنوه.

ولادة يحيى 7 :

قال تعالى :

( يا زكريا انا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا ) الى ان قال تعالى : ( يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا ) (١).

لقد من الله عزوجل على زكريا عند كبره بيحيى ، وبعد ذلك صدر الامر

__________________

١ ـ مريم : ٧ : ١٢.


الالهي المهم الذي خاطب به يحيى : « يا يحيى خذ الكتاب بقوة » ـ « المشهور بين المفسرين ان المراد من الكتاب هنا هو التوراة » (١).

والمراد من اخذ الكتاب بقوة : هو اجراء وتنفيذ ما جاء في كتاب التوراة السماوي وما احتواه من احكام بكل حزم واقتدار ، وارادة حديدية ، وان يعمل بكل مافيه ، وان يستعين بكل القوى المادية والمعنوية في سبيل نشره ....

ولد يحيى 7 لابويه على خارق العادة ، حيث كان ابوه شيخا فانيا ، وكانت امه عاقرا ، فرزقهما الله يحيى ، واخذ بالرشد والعبادة والزهد من صغر سنه ، « وآتاه الحكم صبيا » كان زاهدا عابدا قد تجرد لعبادة الله والانقطاع له فلم يتزوج قط ولا الهاه شيء من ملاذ الدنيا.

وكان 7 معاصرا لعيسى بن مريم 7 ، وصدق بنبوته وكان ابن خالة عيسى 7 ، وكان سيدا في قومه تحن اليه القلوب وتميل اليه النفوس ، ويجتمع اليه الناس فيعضهم ويدعوهم الى التوبة ويامرهم بتقوى الله. وروي ان يحيى 7 صدق بالمسيح عيسى بن مريم 7 وله ثلاث سنين ، وقيل ولد يحيى قبل المسيح بثلاث سنين وقيل بستة اشهر (٢) والله العالم.

صفاته 7 :

كانت للنبي يحيى 7 صفات كثيرة وقد وصفه القرآن في مواضع كثيرة وذكره الله واثنى عليه ثناء جميلا ومن الصفات التي كان يمتاز بها هي :

١ ـ كان مصدقا بكلمة من الله ، وهو تصديقه بنبوة المسيح.

٢ ـ وانه كان سيدا يسود قومه.

__________________

١ ـ تفسير القرطبي والآلوسي.

٢ ـ الكامل في التاريخ : ج ١ ص ١٩٨.


٣ ـ وانه كان حصورا ، لا يأتي النساء ولم يتزوج.

٤ ـ وكان نبيا ومن الصالحين والمجتبين ومن المهديين.

٥ ـ وان الله هو سماه بيحيى ولم يجعل له من قبل سميا.

٦ ـ واعطاه الحكم والنبوة وهو صبي ، وآتيناه الحكم صبيا.

٧ ـ واعطاه الله ايضا الرحمة والشفقة والمحبة ، وحنانا من لدنا.

٨ ـ واعطاه زكاة : اي كل الاعمال والصفات الطاهرة والصالحة.

٩ ـ وبارا بوالديه ، ولم يكن جبارا ، ولم يكن عصيا ....

١٠ ـ فلما جمع كل هذه الاوصاف البارزة ، والاوسمة الكبيرة ، فان الله عزوجل منحه وسام مهم وبارز وشمله بعنايته الخاصة وذلك في السلام عليه ، حيث سلم عليه في مواطن ثلاث وهي اهم واخطر المواطن التي يمر بها الانسان وهي قوله تعالى :

( وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا ) (١).

هذه هي اصعب المراحل التي يمر بها الانسان في حياته وانتقاله من عالم الى عالم آخر ، يوم يضع قدمه في هذه الدنيا ، ويوم موته وانتقاله الى عالم البرزخ ، ويوم يبعثه الله في العالم الآخر.

وفي رواية عن الامام علي بن موسى الرضا 7 : « ان اوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاثة مواطن : يوم يلد ويخرج من بطن امه فيرى الدنيا ، ويوم يموت فيعاني الآخرة واهلها ، ويوم يبعث حيا فيرى احكاما لم يرها في دار الدنيا ، وقد سلم الله على يحيى 7 في هذه الثلاثة مواطن وآمن روعته ، فقال : وسلام عليه ... » (٢).

__________________

١ ـ مريم : ١٥.

٢ ـ تفسير البرهان : ج ٣ ص ٧.


اوجه التشابه بين يحيى وعيسى 8 :

توجد علاقة قوية وتقارب واضح وجوانب مشتركة بين حياة يحيى وعيسى 8 ، منها :

١ ـ الولادة : كانت ولادة يحيى 7 من اب كبير طاعن في السن ومن ام مسنة وعقيم.

وكانت ولادة عيسى 7 من ام دون اب ، وهي اعجب.

وقال الله عزوجل في ولادة يحيى 7 من زكريا : ( يا زكريا انا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا ) (١).

٢ ـ النبوة : وصل يحيى 7 الى مقام النبوة وهو صبي وفي مرحلة الطفولة ، واعطاه الله عقلا وذكاء ودراية واسعة ، بحيث اصبح مؤهلا لتقبل هذا المنصب ، ( ... وآتيناه الحكم صبيا ) (٢).

وكذلك عيسى 7 وصل الى النبوة وكلم الناس وهو في المهد ، ( قال اني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا ) (٣).

٣ ـ عدم الزواج : لم يتزوج يحيى 7 ولم يقترب من النساء ، وذلك قوله تعالى : ( ... وسيدا وحصورا ... ) (٤) وحصورا بمعنى الذي يمتنع عن الزواج وترك الملذات الدنيوية.

وكذلك عيسى 7 عاش حياة العزوبة ولم يتزوج.

٤ ـ النسب والقرابة : ان يحيى كان ابن خالة عيسى ، اي ام يحيى وام عيسى 8 اخوات.

__________________

١ ـ مريم : ١٥ ـ ٣٣.

٢ و ٣ ـ مريم.

٤ ـ آل عمران : ٣٩.


٥ ـ السلام : « سلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا » ورد في القرآن الكريم هذا التعبير في حق يحيى وفي حق عيسى 8 فقط ، الا ان الفارق ، المتكلم بهذا الكلام في حق يحيى هو الله تعالى ، في حين ان المسيح عيسى 7 هو المتكلم في حق نفسه « والسلام علي يوم ولدت ويوم اموت ويوم ابعث حيا ».

٦ ـ التسمية : فقد سماه الله تعالى يحيى وسمى ابن مريم عيسى ، وهو بمعنى « يعيش » (١).

وجعل الله عزوجل يحيى 7 : سيدا وحصورا ، كما جعل عيسى 7 : وجيها عنده.

اوجه التشابه بين يحيى والحسين 7

يستفاد من الروايات الاسلامية ، ان هناك جهات مشتركة واوجه تشابه بين يحيى بن زكريا والحسين بن علي 8 ، منها :

١ ـ في الولادة : كانت مدة حملهما اقل من المعتاد ، حيث ولد يحيى لستة اشهر ، كذلك الحسين 7 ولد لستة اشهر.

٢ ـ في الاسم : فان اسم الحسين 7 كاسم يحيى 7 لم يسبقه به احد ، ولم يسم احد باسمهم قبلهم.

٣ ـ المظلومية : قتل الحسين 7 مظلوما ، كذلك يحيى قتل مظلوما.

٤ ـ الشهادة : شهادة الحسين 7 تشبه شهادة يحيى 7 حيث ذبح وقطع رأس يحيى 7 كما ذبح الحسين وقطع راسه.

__________________

١ ـ تفسير الميزان : ج ٣ ص ١٧٦.


٥ ـ اهداء الرأس : اهدي رأس يحيى 7 الى بغية من بغايا بني اسرائيل ، كذلك رأس الحسين 7 اهدي الى بغي من بغايا بني امية يزيد.

وروي عن الامام السجاد علي بن الحسين 7 انه قال : خرجنا مع الحسين 7 فما نزل منزلا ولا رحل منه الا ذكر يحيى بن زكريا وقتله ، وقال : ومن هوان الدنيا على الله ان رأس يحيى بن زكريا اهدي الى بغي من بغاة بني اسرائيل (١).

٦ ـ بكاء الارض : بكت الارض والسماء على يحيى بن زكريا 7 عند شهادته ، كذلك بكت الارض والسماء عندما استشهد الحسين 7.

عن زرارة بن اعين عن ابي عبد الله 7 قال : بكت السماء على يحيى بن زكريا ، وعلى الحسين بن علي 8 اربعين صباحا ولم تبكي الا عليهما ، قلت وما بكاؤهما ، قال : كانت تطلع حمراء وتغيب حمراء (٢).

وعن امير المؤمنين 7 قال : ما بكت السماء والارض الا على يحيى بن زكريا والحسين بن علي 8 (٣).

٧ ـ وضع رأس يحيى بن زكريا 7 في طشت من ذهب وبعثوه الى العجوز الفاجرة ، كذلك رأس الحسين 7 وضع في طشت من ذهب وبعثوه الى يزيد الفاجر.

٨ ـ فوران الدم : عندما سقط دم يحيى 7 على الارض اخذ يغلي ويفور على وجه الارض وكلما القي عليه التراب زاد ارتفاعا ، بقي هكذا حتى خرج « بخت نصر » وقتل من بني اسرائيل سبعين الفا ثارا ليحيى 7 حتى سكن الدم ،

__________________

١ ـ نور الثقلين : ج ٣ ص ٣٢٤.

٢ ـ وسائل الشيعة : ج ١٤ ص ٤٥١.

٣ ـ قصص الانبياء للجزائري : ص ٤٤٦.


وكذلك دم الحسين 7 يغلي ، ويستمر يغلي ولا يسكن حتى يبعث الله المهدي ( عج ) فيقتل من المنافقين والفسقة سبعين الفا حتى يسكن ...

مواعظه وحكمه 7 :

كان يحيى بن زكريا 8 نبيا زاهدا عابدا متواضعا يعبد الله حق عبادته ، وكان يجتمع مع العلماء والاحبار من صغر سنه وكان يتواضع لهم مع ما عليه من مقام النبوة والحكمة العالية ، واقترب من الله تعالى ووصل الى درجة السلوك بحيث كان اذا ناجى ربه وقال : يا رب ، قال الله عزوجل : لبيك يا يحيى.

كانت حياته مليئة بالحكم والمواعظ ، نذكر منها وباختصار بعضا منها فيما يلي :

عبادة يحيى 7 :

روي ان يحيى 7 عندما كان صغيرا اتى بيت المقدس فنظر الى المجتهدين من الاحبار والرهبان عليهم مدارع من الشعر وبرانس الصوف.

فلما نظر الى ذلك ، اتى الى امه ، فقال : يا اماه انسجي لي مدرعة من شعر وبرنسا من صوف حتى آتي بيت المقدس فاعبد الله مع الاحبار والرهبان ، فقالت له امه : حتى يأتي ابيك وياذن لي ... فقال زكريا : يا بني ما يدعوك الى هذا وانما انت صبي صغير؟

فقال له : « يا ابت اما رأيت من هو اصغر مني سنا قد ذاق الموت؟ » قال بلى ، ثم قال لامه : انسجي له مدرعه من شعر وبرنسا من صوف ، ففعلت.

فتدرع المدرعة على بدنه ووضع البرنس على رأسه ، ثم اتى بيت المقدس ، فاقبل يعبد الله عزوجل مع الاحبار ، حتى اكلت مدرعة الشعر لحمه.


بكائه من خشية الله :

كان يحيى 7 من البكائين من خشية الله ، فنظر ذات يوم الى ما قد نحل جسمه ، فأوحى الله تعالى :

يا يحيى اتبكي مما قد نحل من جسمك ، وعزتي وجلالي لو اطلعت على النار اطلاعة ، لتدرعت مدرعة من الحديد فضلا عن المنسوج ، فبكى حتى اكلت الدموع لحم خديه.

فقال زكريا لولده يحيى : يا بني ما يدعوك الى هذا انما سألت ربي ان يهبك لي لتقر بك عيني؟ قال : انت امرتني بذلك يا ابة ، قال : ومتى ذلك يا بني؟

قال : الست القائل : « ان بين الجنة والنار لعقبة لا يجوزها الا البكاؤون من خشية الله؟ » قال : بلى ، فجد واجتهد وشانك غير شاني.

الجبل السكران :

وكان زكريا 7 اذا اراد ان يعظ بني اسرائيل يلتفت يمينا وشمالا فان رأى يحيى لم يذكر جنة ولا نارا.

فجلس ذات يوم يعظ بني اسرائيل ، واقبل يحيى قد لف رأسه بعباءة ، فجلس في غمار الناس ، والتفت زكريا يمينا وشمالا فلم ير يحيى ، فانشأ يقول :

حدثني حبيبي جبرئيل عن الله تبارك وتعالى ، ان في جهنم جبلا يقال له السكران في اصل ذلك الجبل واديا يقال له الغضبان ، يغضب لغضب الرحمن تبارك وتعالى ، في ذلك الوادي جب قامته مائة عام ، في ذلك الجب توابيت من نار ، في تلك التوابيت صناديق من نار وثياب من نار ، وسلاسل من نار ، واغلال من نار.

فرفع يحيى رأسه فقال : واغفلتاه من السكران ، ثم اقبل هائما على


وجهه ....

مصائد ابليس :

في الامالي عن الامام الرضا 7 : ان ابليس كان يأتي الانبياء : من لدن آدم 77 الى ان بعث الله المسيح عيسى 7 يتحدث عندهم ويسائلهم ولم يكن باحد منهم اشد باسا منه يحيى بن زكريا 8.

فقال له يحيى 7 : يا ابا مرة ان لي اليك حاجة فقال : انت اعظم قدرا من ان اردك بمسألة فسلني ما شئت فاني غير مخالفك فيما تريده.

فقال له يحيى 7 : يا ابا مرة اريد ان تعرض علي مصائدك وفخوخك التي تصطاد بها بني آدم ، فقال له ابليس : حبا وكرامة وواعده لغد.

فلما اصبح يحيى 7 قعد في بيته ينتظر الموعد واغلق عليه الباب فما شعر حتى دخل من خوخة كانت في بيته ، فاذا وجهه صورة وجه القرد ، وجسده على صورة الخنزير ، واذا عيناه مشقوقتان طولا ، واسنانه عظم واحد بلا ذقن ولا لحية ، وله اربعة ايدي يدان في صدره ويدان في منكبه ، واذا عراقيبه قوادمه واصابعه خلفه وعليه قباء وقد شد وسطه بمنطقة فيها خيوط بين احمر واصفر واخضر وجميع الالوان ، واذا بيده جرس عظيم وعلى رأسه بيضة ، واذا في البيضة حديدة معلقة شبيهة بالكلاليب.

فلما تأمله يحيى 7 قال له ، ما هذه المنطقة التي في وسطك؟ فقال هذه المجوسية انا الذي سننتها وزينتها لهم.

فقال : وما هذه الخيوط الالوان؟ قال له : هذه جميع اصباغ النساء ، لا تزال المرأة تصبغ الصبغ حتى تقع مع لونها ، فافتتن الناس بها.

فقال له : فما هذا الجرس الذي بيدك؟ قال : هذا كل لذة من طنبور وبربط


وطبل وناي وصرناي (١) ، وان القوم ليجلسون على شرابهم فلا يستلذونه فاحرك الجرس فيما بينهم ، فاذا سمعوا استخفهم الطرب ، فمن بين من يرقص ومن بين من يفرقع باصابعه ، وبين من يشق ثيابه.

فقال له : واي الاشياء اضر لعينيك؟ فقال : النساء ، هن فخوخي ومصائدي فاني اذا اجتمعت على دعوات الصالحين ولعناتهم صرت الى النساء فطابت نفسي بهن.

فقال له يحيى 7 : فما هذه البيضة التي على راسك؟ قال : بها اوتي دعوات المؤمنين.

قال : فما هذه الحديدة التي ارى فيها الكلاليب؟ قال : بهذه اقلب قلوب الصالحين.

قال يحيى 7 : فهل ضفرت بي ساعة قط؟ قال : لا ، ولكن فيك خصلة تعجبني بها.

قال يحيى 7 : فما هي؟ قال : انت رجل اكول ، فاذا ظفرت واكلت فيمنعك ذلك من بعض صلاتك وقيامك بالليل.

قال يحيى 7 : فاني اعطي الله عهدا لا اشبع من طعام حتى القاه.

قال له ابليس : وانا اعطي الله عهدا لا انصح مسلما حتى القاه ، ثم خرج فما عاد اليه بعد ذلك. (٢)

قيل : انه قال له يوما الصبيان امثاله : يا يحيى اذهب بنا نلعب ، فقال لهم : ما للعب خُلقت ، وكان يأكل العنب واوراق الشجر ، وقيل : كان يأكل خبز الشعير.

قال الصادق 7 : جاء رجل الى عيسى بن مريم 7 فقال له : يا روح الله

__________________

١ ـ كل هذه الاسماء ادوات موسيقى.

٢ ـ الامالي : عنه قصص البحار للجزائري : ص ٤٤٧.


اني زنيت فطهرني ، فأمر عيسى 7 ان ينادي في الناس : لا يبقى احد الا خرج لتطهير فلان ، فلما اجتمع واجتمعوا وصار الرجل بالحفرة ، نادى الرجل في الحفرة :

لا يحدني من لله تعالى في جنبه حد ، فانصرف الناس كلهم الا يحيى وعيسى 8.

فدنا منه يحيى فقال له : يا مذنب عظني ، فقال له : لا تخلين بين نفسك وبين هواها فتردى ، قال : زدني ، قال : لا تعيرن خاطئا بخطيئته ، قال : زدني ، قال : لا تغضب ، قال : حسبي. (١)

وعن ابي الحسن الاول 7 قال : كان يحيى بن زكريا 8 يبكي ولا يضحك ، وكان عيسى بن مريم 8 ، يضحك ويبكي ، وكان الذي يصنع عيسى 7 افضل من الذي يصنع يحيى 7. (٢)

الارث :

لقد قدم المفسرون بحوثا كثيرة حول تفسير هذه الآية المباركة ، على لسان زكريا 7 في قوله : ( ... فهب لي من لدنك وليا ، يرثني ويرث من ءال يعقوب واجعله رب رضيا ).

اختلف المفسرون في جواب : ما هو المراد من الارث هنا؟ فالبعض يعتقد ان الارث هنا يعني الارث في الاموال. والبعض اعتبره اشارة الى مقام النبوة.

وبعض آخر احتمل ان يكون المراد معنى جامعا شاملا لكلا الرأيين السابقين.

__________________

١ ـ من لا يحضره الفقيه : ٤٧٥.

٢ ـ اصول الكافي : ج ٢ ص ٦٦٥.


وقد اختار كثير من علماء الشيعة المعنى الاول ، في حين ذهب جماعة من علماء العامة الى المعنى االثاني ، والبعض الآخر ، كسيد قطب ، « في ظلال القرآن » والآلوسي في روح المعاني ـ اختاروا المعنى الثالث.

استند اصحاب الراي الاول في الارث في المال الى ظهور كلمة الارث في هذا المعنى ، لان هذه الكلمة اذا كانت مجردة عن القرآن الاخرى فانها تعني ارث الاموال.

اضافة الى ذلك انه يستفاد من الروايات والاخبار ، ان هدايا ونذورات كثيرة كانت تجلب الى الاحبار من علماء اليهود في زمان بني اسرائيل ، وكان زكريا رئيس الاحبار.

وكذلك فان زوجة زكريا كانت من اسرة سليمان بن داود حيث كانت قد ورثت اموالا من آبائها ....

من اجل هذا كان زكريا خائفا من ان تقع هذه الاموال بايدي ناس غير صالحين ، او تقع بايدي الفساق والفجرة ، لذلك طلب من ربه ان يرزقه ولدا صالحا ليرث هذه الاموال ويصرفها في افضل الموارد.

وهناك شاهد آخر على ان المراد من « يرثني ويرث من آل يعقوب » هو الارث في الاموال : استدلال فاطمة الزهراء بنت رسول الله عليهما الصلاة والسلام الطاهرة ، باسترجاع فدك ومطالبتها ارث ابيها 6 بهذه الآية حيث قالت سلام الله عليها الى ابي بكر عندما منعها من فدك :

« يا ابا بكر : افي كتاب الله ان ترث اباك ولا ارث ابي؟ لقد جئب شيئا فريا ! افعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم اذ يقول فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا : « اذ قال رب هب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل


يعقوب؟ » (١).

هذا ولا مانع ان تشمل الآية المباركة الارث المعنوي ايضا ، لان الذي كان يشغل فكر زكريا 7 الاموال والهدايا المودعة عنده واموال زوجته ، وخوف سقوطها بايدي الموالي الانتهازيين والخونة ، فطلب من الله تعالى ، من يرثها من الصالحين والمؤمنين ، حيث قال : « واني خفت الموالي من ورائي ... ».

فانها مناسبة لتفسير كلا المعنيين ، وعلى هذا فان خوف زكريا 7 يمكن توجيهه في كلا الصورتين ، وحديث فاطمة الزهراء 3 ايضا يناسب هذا المعنى ....

شهادة يحيى 7 :

لم تكن ولادة يحيى 7 عجيبة ومذهلة لوحدها ، بل ان موته ايضا كان عجيبا من عدة جهات ، وقد ذكر اغلب المفسرين المسلمين ، وكذلك المصادر المسيحية قصة شهادته على هذا النحو ، بالرغم من وجود اختلاف يسير في خصوصياتها بين هذه المراجع :

لقد اصبح يحيى ضحية للعلاقات غير الشرعية لاحد طواغيت زمانه مع احد محارمه.

عشق « هروديس » ملك فلسطين اللاهث وراء شهواته بنت اخته « هيروديا » وهام في غرامها ، والهب جمالها قلبه بنار العشق ، ولذلك صمم على الزواج منها !

فبلغ هذا الخبر نبي الله يحيى 7 ، فاعلن بصراحة ان هذا الزواج غير

__________________

١ ـ نور الثقلين : ج ٣ ص ٣٢٤ عن الاحتجاج عنهم الامثل : ج ٩ ص ٣٦٠.


شرعي ومخالف لتعليمات التوراة ، وقال سوف احارب مثل هذا العمل واقف امامه.

لقد انتشر الخبر وادى الى ضوضاء وصخب في كل ارجاء المدينة ، وسمعت تلك الفتاة « هيروديا » بذلك ، فكانت ترى يحيى اكبر عائق في طريقها ، لذلك صممت على الانتقام منه في فرصة مناسبة لترفع هذا المانع من طريق شهوتها وميولها.

وطدت علاقتها بخالها وملكت احاسيسه ومشاعره وجعلت جمالها مصيدة له ، الى ان قال لها ـ هيروديس ـ يوما : اطلبي مني كل ما تريدين فساحققه لك قطعا ـ كان ذلك من اجل ان ينال منها ـ فقالت له : لا اريد منك الا رأس يحيى ! لانه قد شوه سمعتي وسمعتك ، وقد اصبح كل الناس يعيروننا ، فان كنت تريد ان يهدأ قلبي ويسر خاطري فيجب ان تقوم بهذا العمل !

فسلم « هيروديس » ـ الذي اصبح مجنونا لا يعقل من عشق هذه المرأة ـ ودون ان ينتبه الى عاقبة هذا العمل ، امر بقتل يحيى ، واحضر رأسه وقدمه في طشت من ذهب الى تلك المرأة البغية الفاجرة.

الا ان هذا العمل المؤلم كانت عاقبته ان اخذ باطراف الملك والمرأة في النهاية ، وكانت به زوال ملكه وقتله وقتل سبعين الفا من بني اسرائيل على يد « نبخت نصّر ».

وروي عن ابي عبد الله 7 قال : كان الذي قتل الحسين بن علي 7 ولد زنا ، والذي قتل يحيى بن زكريا 8 ولد زنا. (١)

__________________

١ ـ البحراني في تفسيره ج ٣ ص ٤ عنه البحار : ج ١٤ ص ١٨٤.



( ١٨ )

حكم و مواعظ من حياة

النبي يونس بن متي 8



قصة النبي يونس بن متي 8

قال الله تعالى : ( وان يونس لمن المرسلين * اذ ابق الى الفلك المشحون * فساهم فكان من المدحضين * فالتقمه الحوت وهو مليم * فلولا انه كان من المسبحين * للبث في بطنه الى يوم يبعثون * فنبذناه بالعراء وهو سقيم * وانبتنا عليه شجرة من يقطين * وارسلناه الى مئة الف او يزيدون ) (١).

قصة النبي يونس 7 :

نتطرق في بحثنا هذا لقصة يونس 7 ، وقومه التائبين ، والتي ستكون هذه القصة اخر قصص الانبياء الستة الذين مر ذكر خمسة منهم في القسم الاول والقسم الثاني من كتابنا هذا « حكم ومواعظ » ، وهذه القصة السادسة التي تتعلق بحياة النبي يونس 7 وقومه.

والذي يلفت النظر ان القصص الخمس التي تحدثت عن قوم « نوح » و « ابراهيم » و « موسى » و « هارون » و « الياس » و « لوط » اشارت الى ان تلك الاقوام لم تصغ لنصائح الانيباء الذين بعثوا اليها ولم تؤمن بهم وبقيت غارقة في نومها ، فعمها العذاب الالهي وهلكت ، فيما انقذ الله سبحانه وتعالى الانبياء العظام

__________________

١ ـ الصافات : ١٣٩ ـ ١٤٨.


الذين ارسلهم الى تلك الاقوام مع القلة القليلة ممن تبعهم.

ولكن نرى ان قضية نبي الله يونس 7 تنتهي احداثها بشكل معاكس لما انتهت اليه تلك القصص ، اذ ان قوم يونس صحوا من غفلتهم وتابوا الى الله فور مشاهدتهم بعض دلائل العذاب الالهي الذي سيحل بهم ان لم يؤمنوا ، وان الله شملهم بلطفه وانزل عليهم بركاته المادية والمعنوية.

وفي المقابل فان نبي الله يونس ابتلى ببعض الابتلاءات والمشاكل لانه تعجل في ترك قومه وهجره اياهم ، حتى ان القرآن المجيد اطلق عليه كلمة « آبق » والتي تعني هروب العبد من مولاه :

وهذه القصة بمثابة خطاب موجه الى مشركي قريش ، وحكمة وموعظة الى كل بني الانسان على طول التاريخ ، جاء فيه : هل تريدون ان تكونوا كالاقوام الخمسة الماضية ، ام كقوم يونس؟ وهل ترغبون ان تكون عاقبتكم الخير والسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة ، الأمر لكم ...

نبوة يونس :

النبي يونس بن متي ، ويلقب بـ « ذي النون » اي صاحب الحوت.

ولد يونس 7 بعد موسى وهارون ، وقال البعض انه من اولاد « هود » وقد كلف من قبل الله عزوجل بهداية من تبقى من قوم هود.

بعثه الله الى احدى مناطق العراق وتسمى « نينوى » (١).

وقال البعض : ان بعثته كانت قبل ولادة المسيح 7 بحوالي « ٨٢٥ » عاما ، وحاليا هناك قبر قرب مدينة الكوفة على ضفاف النهر يعرف بقبر « يونس ».

__________________

١ ـ نينوى : هو اسم لعدة مناطق ، الاولى : مدينة قرب الموصل ، والاخرى في ضواحي الكوفة من جهة كربلاء ، وعاصمة مملكة آشور وتقع على ضفاف نهر دجلة.


وجاء في بعض الكتب ان يونس كان من ابناء بني اسرائيل وبعث الى اهل نينوى بعد سليمان.

نبي الله يونس 7 كسائر الانبياء العظام بدا بالدعوة الى توحيد الله ومجاهدة عبدة الاصنام ، ومن ثم محاربة الاوضاع الفاسدة التي كانت منتشرة في مجتمعه آنذاك ، الا ان قومه المتعصبين الذين كانوا يقلدون اجدادهم الاوائل رفضوا الاستجابة لدعوته.

استمر يونس 7 بتبليغ الرسالة وكان يعض قومه بقلب حزين ومليء بالمحبة والشفقة عليهم ، ولكن كانوا يواجهونه بالمغالطة والسفسطة والعناد ، عدا مجموعة قليلة منهم آمنت به وبرسالته ، وكان احدهم يسمى « بالعابد » والثاني ، « بالعالم ».

وبعد فترة طويلة من دعوته اياهم الى عبادة الله وترك عبادة الاصنام ، يئس يونس من هدايتهم ، وقرر 7 طبقا لاقتراح الرجل العابد ، الدعاء عليهم.

الامتحان الصعب :

وبالفعل دعى عليهم ، فنزل عليه الوحي وحدد له وقت نزول العذاب الالهي بهم ، ومع قرب حلول موعد نزول العذاب ، خرج يونس مع الرجل العابد من مدينته وهو غاضب على قومه ، ووصل الى ساحل البحر ، وشاهد سفينة عند الساحل وفيها ركاب ، فطلب منهم السماح بالصعود اليها والسفر معهم ، وافقوا على ذلك وصعد معهم ....

بينما كانت السفينة في وسط البحر ، فاذا بحوت ضخم وقف امام السفينة ، فاتحا فمه يطلب الطعام ، ولم يجد الركاب سبيلا الا ان يلقوا احدهم الى الحوت حتى يبتعد عنهم ، عند ذلك لجأوا الى الاقتراع لتعيين الشخص الذي يرمى


للحوت ، وعندما اقرتعوا خرج اسم يونس ، « وطلبقا للرواية فانهم اقترعوا ثلاث مرات وفي كل مرة كان يخرج اسم يونس 7 ، فامسكوا به وقذفوه في فم الحوت ، وذلك قوله تعالى ( فساهم فكان من المدحضين * فالتقمه الحوت وهو مليم ). اي بلعه الحوت وهو مستحق الملامة ، لانه خرج من قومه وتركهم قبل نزول العذاب بفترة من الزمن ولم يبقى معهم عسى ان يهتدوا ....

ومن المسلم النبي معصوم ولم يرتكب خلاف ، ولكن هذه الملامة بسبب تركه العمل بالاولى ، واستعجاله في ترك قومه وهجرانهم.

وبعد بلعه من قبل الحوت ، اعطى الله عزوجل امرا تكوينيا الى الحوت ان لا تلحق الاذى بعبد الله يونس ، اذ ان عليه ان يقضي فترة في السجن الذي لم يسبق له مثيل ، كي يدرك تركه العمل بالاولى ، ويسعى لاصلاحه.

التوجه الى الله :

يونس 7 انتبه بسرعة للحادث ، وتوجه على الفور الى الله سبحانه وتعالى مستغفرا لله على تركه العمل الاولى ، وعدم بقاءه مع قومه ، وطلب العفو من الله ، واخذ يناجيه ويناديه : ( فنادى في الظلمات ان لا اله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين ) (١) توجه الى الله تعالى من بطن الحوت ونادى ربه بان لا معبود سواك ، واني ظلمت نفسي وابتعدت عن باب رحمتك ، واخذ يسبح الله ويذكره ، ولولا نداءه وتسبيحه وتوجهه الى الله فورا ، لبقي في بطن الحوت الى يوم البعث : ( فلولا انه كان من المسبحين ، للبث في بطنه الى يوم يبعثون ) (٢).

__________________

١ ـ الانبياء : ٨٧.

٢ ـ الصافات : ١٤٤.


بعد ذلك استجاب له الله وانقذه من الغم ، حيث قال تعالى :

( فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين ) (١).

بعد ان لبث يونس 7 في بطن الحوت فترة من الزمن ، وفي رواية عن ابي الجارود : لبث في بطن الحوت ثلاث ايام ، وروي غير ذلك (٢) ، والله العالم » انقذه الله من ذلك السجن المظلم والموحش ، وكان قد اثر على جسده بعض الشيء ، وكان عندما خرج من بطن الحوت كانه فرخ دجاجة ضعيف لا جناح له ولا ريش ، حيث كان منهارا لا يمتلك القوة والقدرة على الحركة ، وكانت حرارة الشمس تؤذيه ، فيحتاج الى ظل يستظل به عن حرارة الشمس.

مرة اخرى شمله اللطف الالهي وانبت الله له شجرة « القرع » ليستظل باوراقها العريضة الرطبة ، حيث قال سبحانه وتعالى في ذلك : ( فنبذناه بالعراء وهو سقيم * وانبتنا عليه شجرة من يقطين ) (٣).

يا لها من موعظة عظيمة درس مهم وصلنا عن طريق هذا النبي العظيم يونس 7 ، علينا ان نعتبر بهذا الدرس ، وخاصة اذا كنا نمتلك مسؤولية ادارية في الدولة ، وكيف نتعامل مع المجتمع من اجل سعادته وانقاذه من المطبات الاخلاقية والتيارات الفكرية المنجرفة ، حتى نوصله الى ساحل الامان ....

اللجوء الى العالم :

بعد ان ترك يونس 7 قومه وهو غضبان ، ظهرت لقومه دلائل تبين لهم قرب موعد الغضب الالهي ، خافوا من غضب الله وعادوا الى رشدهم ، والتجأوا

__________________

١ ـ الانبياء : ٨٨.

٢ ـ وروي تسع ساعات وروي ثلاث اسابيع ، وروي ٤٠ يوما والله العالم.

٣ ـ الصافات : ١٤٦.


الى الرجل « العالم » الذي آمن بيونس ولم يخرج معه كما خرج « العابد » وبقي بين قومه ، واتخذوه قائدا لهم.

قال لهم الرجل العالم اخرجوا الى الصحراء ، وفرقوا بين المرأة وطفلها ، بين الحيوانات واطفالها ، وادعوا الله بتضرع واخلاص.

خرج القوم الى الصحراء كبيرا وصغيرا ومريضا وعاجزا واخذوا يدعون الله ويبكون وينتحبون باعلى اصواتهم ، داعين الله سبحانه وتعالى باخلاص ان يتقبل توبتهم ويغفر ذنوبهم وتقصيرهم بعدم اتباعهم نبي الله يونس.

وهنا استجاب الله دعائهم ، وازاح عنهم العذاب وانزله على الجبال ، وهكذا نجا قوم يونس التائبون المؤمنون بالطاف الله.

عودة يونس 7

بعد هذا عاد النبي يونس 7 الى قومه ، وذلك بعد ان انجاه الله سبحانه وتعالى من بطن الحوت ، ليرى ماذا صنع بهم العذاب الالهي؟ ولكن ما ان عاد الى قومه حتى فوجيء بأمر اثار عنده الدهشة والعجب ، حيث رآهم مؤمنين يعبدون الله عزوجل ويوحدونه بعدما كانوا يعبدون الاصنام.

يقول تعالى : ( وارسلناه الى مئة الف او يزيدون * فآمنوا فمتعناهم الى حين ) (١).

بعد ان آمن قوم يونس ، بعث لهم الله نبيه يونس مرة ثانية واغدق عليهم النعم الالهية المادية والمعنوية لمدة معينة ، وزاد ايمان القوم بالله وبرسوله يونس ، واخذوا ينفذون تعليماته واوامره ، الى نهاية حياتهم وحلول اجلهم.

__________________

١ ـ الصافات : ١٤٨.


توضح لنا هذه القصة كيف ان قوما مذنبين مستحقين للعذاب يستطيعون في آخر اللحظات تغيير مسيرتهم التاريخية بعودتهم الى احضان الرحمة الالهية وتوبتهم الى الله ، وانقاذ انفسهم من العذاب المحقق.

وهذا مشروط بالصحوة من غفلتهم قبل فوات الاوان ، وانتخاب قيادة علمائية رشيدة وامتثال اوامرها واطاعتها.

قصة متي ابا يونس 8 :

روي عن ابي عبد الله 7 قال : ان داود النبي 7 قال : يا رب اخبرني عن قريني ونظيري في منازلي؟ فاوصى الله تبارك وتعالى اليه :

ان ذلك متي ـ ابا يونس 7 ـ

قال : فاستاذن الله في زيارته فاذن له ، فخرج داود وسليمان ، حتى اتيا موضعه ، فاذا هما ببيت من سعف ، فقيل لهما : هو في السوق ، فسألا عنه فقيل لهما : اطلباه في الحطابين ، فسألا عنه ، فقال لهما جماعة من الناس : نحن ننتظره الآن يجيء فجلسا ينتظرانه.

اذ اقبل ـ متي ـ وعلى رأسه الحطب ، فقام اليه الناس ، فالقى عنه الحطب فحمد الله وقال : ( من يشتري طيبا بطيب )؟ فساومه واحد وزاد بآخر ، حتى باعه من بعضهم.

قال : فلما سلما عليه ، فقال : انطلقا بنا الى المنزل ، واشترى طعاما بما كان معه ، ثم طحنه وعجنه ، ثم اجج نارا واوقدها ، ثم جعل العجين في تلك النار ، وجلس معهما يتحدث.

ثم قام وقد نضجت خبيزته فوضعها في الاجانة وفلقها وذر عليها ملحا ووضع الى جنبه مطهرة ماء ، وجلس على ركبتيه واخذ لقمة ، فلما وضعها الى فيه


قال : بسم الله ، فلما ـ اكها ـ قال الحمد لله ، ثم فعل ذلك باخرى واخرى ، ثم اخذ الماء فشرب منه فذكر اسم الله ، فلما وضعه قال :

الحمد لله يا رب ، من ذا الذي انعمت عليه ما اوليته مثل ما اوليتني.

قد صححت بصري وسمعي وبدني وقويتني حتى ذهبت الى شجر لم اغرسه ولم اهتم لحفظه ، وجعلته لي رزقا ، وسقت الي من اشتراه مني ، فاشتريت بثمنه طعاما لم ازرعه ، وسخرت لي النار فانضجته ، وجعلتني آكله بشهوة اقوى به على طاعتك فلك الحمد ، ثم بكى.

قال داود 7 : يا بني قم فانصرف بنا ، فاني لم ار عبدا قط اشكر من هذا. (١)

« كان هذا العبد متي اب يونس سلام الله عليهما ».

فضل العالِم على العابد :

ذكرنا قبل هذا انه ، كان في قوم يونس 7 رجلان احدهما عابد واسمه « تنوخا » والآخر عالِم واسمه « روبيل » وكانا قد آمنا بالنبي يونس 7 واصبحا من مستشاريه.

فكان العابد يشير على يونس بالدعاء على قومه ، وكان العالِم ينهاه ويقول : لا تدع عليهم فان الله يستجيب لك.

فلما دعى يونس 7 على قومه بالعذاب واستجاب الله له ، ذهب الى تنوخا العابد فأخبره بما اوحى الله اليه من نزول العذاب على قومه في اليوم المعين « في شوال يوم الاربعاء في وسط الشهر بعد طلوع الشمس » وقال له : انطلق اليهم واعلمهم بما اوحى الله الي من نزول العذاب عليهم.

__________________

١ ـ قصص الانبياء : نعمة الله الجزائري ص ٤٩٣. وتنبيه الخواطر ج ١ ص ١٨.


فقال العابد : دعهم في غمرتهم ومعصيتهم ، حتى يعذبهم الله تعالى ، فقال يونس 7 : بل نلقي روبيل فنشاوره فانه رجل عالم حكيم من اهل بيت النبوة.

فانطلقا الى روبيل ، فأخبره يونس 7 بما اوحى الله اليه من نزول العذاب على قومه .. ، فقال له روبيل :

ارجع الى ربك رجعة نبي حكيم وسله ان يصرف عنهم العذاب فانه غني عن عذابهم ، وهو يحب الرفق بعباده ، ولعل قومك بعدما سمعت ورايت من كفرهم وجحودهم يؤمنون يوما فصابرهم وتأنهم.

اعترض الرجل العابد على الرجل العالِم ودار نقاش شديد بينهما ، العابد يصر على نزول العذاب ، والعالِم يصر على رفع العذاب ، بعد ذلك قال العالِم للعابد : اسكت فانك رجل عابد لا علم لك.

ثم قال روبيل للنبي يونس 7 : ارجع الى الله واسأله ان يصرف عنهم العذاب ، ولعلهم اذا احسوا بنزول العذاب يتوبوا الى الله ، فيرحمهم فانه ارحم الراحمين ، ويكشف عنهم العذاب من بعدما اخبرتهم عن الله انه ينزل عليهم العذاب يوم كذا وكذا ... فاعترض تنوخا العابد مرة اخرى على روبيل العالم ...

فابى يونس 7 ان يقبل وصية العالِم ، فانطلق ومعه تنوخا العابد وخرجا من القرية ، وبقي الرجل العالِم في القرية مع قومه ولم يخرج معهم.

لما حان موعد نزول العذاب في شوال ، صاح روبيل العالِم باعلى صوته الى القوم وقال : انا روبيل شَفيق عليكم رحيم بكم وهذا شوال قد دخل عليكم ، وقد اخبركم يونس نبيكم ورسولكم ان الله اوحى اليه ان العذاب ينزل عليكم في وسط شهر شوال بعد طلوع الشمس ، ولن يخلف الله وعده ورسوله فانظروا ما انتم صانعون.

فافزعهم كلامه ووقع في قلوبهم الخوف والرعب فاتوا نحو روبيل وقالوا


له : ما تشير علينا يا روبيل فانك رجل عالم حكيم ، فامرنا بامرك واشر علينا برايك.

فقال لهم روبيل : فاني ارى لكم واشير عليكم ان تنظروا اذا طلع الفجر من يوم الاربعاء في وسط الشهر ، ان تعزلوا الاطفال عن الامهات في اسفل الجبل ، وتقفوا النساء في سفح الجبل ... ، فاذا رايتم ريحا صفراء اقبلت من المشرق فعجوا الكبير منكم والصغير بالبكاء والصراخ والتضرع الى الله والتوبة اليه وارفعوا رؤوسكم الى السماء وقولوا : ربنا ظلمنا انفسنا وكذبنا نبينا وتبنا اليك من ذنوبنا وان لم تغفر لنا ولا ترحمنا لنكونن من الخاسرين المعذبين ، فاقبل توبتنا وارحمنا يا ارحم الراحمين ، فاجمَعَ راي القوم على هذا.

فلما كان اليوم الموعود بنزول العذاب ، اقبلت ريح صفراء مظلمة لها صرير وحفيف وهدير ، فلما رأوها عجوا بالصراخ والبكاء والتضرع الى الله وتابوا اليه ، وصرخت الاطفال تطلب امهاتها ، وعجت سخال البهائم تطلب اللبن ، وعجت الانعام تطلب المرعى ، فلم يزالوا كذلك وروبيل يسمع صراخهم ويدعو الله بكشف العذاب عنهم.

فاستجاب الله دعاءهم وقبلَ توبتهم وابعد عنهم العذاب وانزله على الجبال والصحاري.

فلما رأى قوم يونس 7 ان العذاب قد صرف عنهم هبطوا من رؤوس الجبال الى منازلهم وضموا اليهم نساءهم واولادهم واموالهم وحمدوا الله على ما صرف عنهم.

فلما رجع يونس والعابد الى القرية ، قال روبيل العالِم الى تنوخا : اي الرايين كان اصوب واحق ان يتبع ، رأيي او رأيك؟ فقال له تنوخا : بل رأيك كان اصوب ، ولقد اشرت برأي الحكماء العلماء ، وما اعطاك ربك من الحكمة مع


التقوى افضل من الزهد والعبادة بلا علم ....

عن ابي حمزة ، عن ابي جعفر 7 قال : عالم ينتفع بعلمه افضل من سبعين الف عابد. (١)

وعن معاوية بن عمار قال : قلت لابي عبد الله 7 : رجل راوية لحديثكم يبث ذلك في الناس ويشدده في قلوبهم وقلوب شيعتكم ولعل عابدا من شيعتكم ليست له هذه الرواية ايهما افضل؟ قال : الراوية لحديثنا يشد به قلوب شيعتنا افضل من الف عابد. (٢)

موعظة :

روي انه كان رسول الله 6 في بيت ام سلمة في ليلتها ، فقدته من الفراش فدخلها من ذلك ما يدخل النساء ، فقامت تطلبه في جوانب البيت حتى انتهت اليه وهو في جانب من البيت رافعا يديه يبكي وهو يقول :

« اللهم لا تنزع مني صالح ما اعطيتني ابدا.

اللهم ولا تكلني الى نفسي طرفة عين ابدا.

اللهم لا تشمت بي عدوا ولا حاسدا ابدا.

اللهم لا تردني من سوء استنقذتني منه ابدا ».

فانصرفت ام سلمة تبكي حتى انصرف رسول الله 6 لبكائها ، فقال لها ما يبكيك يا ام سلمة؟ فقالت : بابي انت وامي يا رسول الله ولِمَ لا ابكي وانت بالمكان الذي انت به من الله قد غفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، تسأله ان لا يشمت بك عدوا ابدا ، وان لا يردك في سوء استنقذك منه ابدا ، وان لا ينزع منك

__________________

١ ـ ٢ ـ الكافي : ج ١ ص ٣٣.


صالح ما اعطاك ابدا ، وان لا يكلك الى نفسك طرفة عين ابدا.

فقال : يا ام سلمة وما يؤمنني ، وانما وكل الله يونس بن متي الى نفسه طرفة عين فكان منه ما كان. (١)

__________________

١ ـ البحار : ج ١٤ ص ٣٨٤.


( ١٩ )

حكم و مواعظ من حياة

من اخبار بني اسرائيل



مواعظ وحكم من اخبار بني اسرائيل

خمسة من المنجيات :

... عن الهروي قال : سمعت علي بن موسى الرضا 7 يقول : اوحى الله عزوجل الى نبي من انبياء :

اذا اصبحت فأول شيء يستقبلك فكله ، والثاني فاكتمه ، والثالث فاقبله ، والرابع فلا تؤيسه ، والخامس فاهرب منه ، قال : فلما اصبح مضى.

فاستقبله جبل اسود عظيم فوقف وقال : امرني ربي ان آكل هذا ، وبقي متحيرا ، ثم رجع الى نفسه فقال : ان ربي جل جلاله لا يامرني الا بما اطيق ، فمشى اليه لياكله ، فكلما دنا منه صغر حتى انتهى اليه فوجده لقمة ، فأكلها فوجدها اطيب شيء اكله.

ثم مضى فوجد طستا من ذهب فقال : امرني ربي ان اكتم هذا ، فحفر له وجعله فيه ، والقى عليه التراب ، ثم مضى فالتفت فاذا الطست قد ظهر ، فقال : قد فعلت ما امرني ربي عزوجل فمضى.

فاذا هو بطير وخلفه بازي فطاف الطير حوله فقال : امرني ربي ان اقبل هذا ، ففتح كمه فدخل الطير فيه.

فقال له البازي : اخذت صيدي وانا خلفه منذ ايام ، فقال : ان الله امرني ان لا اؤيس هذا ، فقطع من فخذه قطعة فالقاها اليه ثم مضى.


فلما مضى اذا هو بلحم ميتة منتن مدوّد فقال : امرني ربي عزوجل ان اهرب من هذا ، فهرب منه ورجع.

وراى في المنام كانه قد قيل له : انك قد فعلت ما امرت به ، فهل تدري ماذا كان؟ قال : لا ، قال له اما الجبل : فهو الغضب ان العبد اذا غضب لم ير نفسه وجهل قدره من عظم الغضب ، فاذا حفظ نفسه وعرف قدره وسكّن غضبه ، كانت عاقبته كاللقمة الطيبة التي اكلتها.

واما الطست : فهو العمل الصالح ، اذا كتمه العبد واخفاه ، ابى الله عزوجل الا ان يظهره ليزينه به مع ما يدخر له من ثواب الآخرة.

واما الطير : فهو الرجل الذي ياتيك بنصيحة فاقبله واقبل نصيحته.

واما البازي : فهو الرجل الذي ياتيك في حاجة فلا تؤيسه.

واما اللحم المنتن : فهي الغيبة فاهرب منها (١).

عدل الله :

عن ابي جعفر 7 قال : مر نبي من انبياء بني اسرائيل برجل بعضه تحت حائط وبعضه خارج قد نقبته الطير ومزقته الكلاب ، ثم مضى فرفعت له مدينة فدخلها فاذا هو بعظيم من عظمائها ميت على سرير مسجى بالديباج حوله المجامير.

فقال : يا رب اشهد انك حكيم عدل لا تجور ، عبدك لم يشرك بك طرفة عين امته بتلك الميتة ، وهذا عبدك لم يؤمن بك طرفة عين امته بهذه الميتة.

قال الله عزوجل : عبدي : انا كما قلت حكم عدل لا اجور ، ذلك عبدي

__________________

١ ـ عيون الاخبار : ص ١٥٢ ، عنه البحار : ج ١٤ ص ٤٥٧.


كانت له عندي سيئة وذنب ، امته بتلك الميتة لكي يلقاني ولم يبقى عليه شيء.

وهذا عبدي كانت له عندي حسنة فامته بهذه الميتة لكي يلقاني وليس له عندي شيء. (١)

الموت رحمة :

عن ابي عبد الله 7 قال : ان قوما فيما مضى قالوا لنبي لهم ادع لنا ربك يرفع عنا الموت ، فدعا لهم فرفع عنه الموت فكثروا حتى ضاقت عليهم المنازل وكثر النسل ، ويصبح الرجل يطعم اباه وجده وامه وجد جده ، ويوضئهم ويتعاهدهم ، فشغلوا عن طلب المعاش ، فقالوا : سل لنا ربك ان يردنا الى حالنا التي كنا عليها ، فسأل نبيهم ربه فردهم الى حالهم. (٢)

موعظة :

من مواعظ الامام امير المؤمنين 7 للناس :

... ولكن الله سبحانه يختبر عباده بانواع الشدائد ، ويتعبدهم بالوان المجاهد ، ويبتليهم بضروب المكاره ، اخراجا للتكبر من قلوبهم ، واسكانا للتذلل في نفوسهم ، وليجعل ذلك ابوابا فتحا الى فضله ، واسبابا ذللا لعفوه.

فالله الله في عاجل البغي ، وآجل وخامة الظلم ، وسوء عاقبة الكِبر ، فانها مصيدة ابليس العظمى ، ومكيدته الكبرى التي تساور قلوب الرجال مساورة السموم القاتلة ، ... اما ابليس فتعصب على آدم 7 لاصله ، وطعن عليه في خلقته فقال : انا ناريّ وانت طينيّ.

__________________

١ ـ كتاب المختصر للحسن بن سليمان : عنه البحار ١٤ ـ ٤٥٧.

٢ ـ الكافي : ١ ـ ٧٢.


واما الاغنياء من مترفة الامم فتعصبوا لآثار مواقع النعم ، ( وقالوا نحن اكثر اموالا واولادا وما نحن بمعذبين ) (١).

فاذا كان لابد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال ، ومحامد الافعال ، ومحاسن الامور التي تفاضلت فيها المجداء والنجداء من بيوتات العرب ....

واحذروا ما نزل بالامم قبلكم من العقوبات بسوء الافعال ، وذميم الاعمال ، فتذكروا في الخير والشر احوالهم ، واحذروا ان تكونوا امثالهم ، فاذا تفكرتم في تفاوت حاليهم فالزموا كل امر لزمت العزة به شأنهم ، وزاحت الاعداء له عنهم ، « اي تباعدت الاعداء وزالت ».

وتدبروا احوال الماضين من المؤمنين قبلكم كيف كانوا في حال التمحيص والبلاء ، الم يكونوا اثقل الخلائق اعباء؟ واجهد العباد بلاء ، واضيق اهل الدنيا حالا؟ اتخذتهم الفراعنة عبيدا فساموهم سوء العذاب ، وجرعوهم المرار ، فلم تبرح الحال بهم في ذل الهلكة ، وقهر الغلبة ، لا يجدون حيلة في امتناع ، ولا سبيلا الى دفاع.

حتى اذا رأى الله جد الصبر منهم على الاذى في محبته ، والاحتمال للمكروه من خوفه ، جعل لهم من مضائق البلاء فرجا ، فابدلهم العز مكان الذل ، والامن مكان الخوف ، فصاروا ملوكا حكاما ، وائمة اعلاما ، وبلغت الكرامة من الله لهم ما لم تبلغ الآمال اليه بهم.

فانظروا كيف كانوا حيث كانت الاملاء مجتمعة ، والاهواء متفقة ، والقلوب معتدلة ، والايدي مترادفة ، والسيوف متناصرة ، والبصائر نافذة ، والعزائم وحدة ،

__________________

١ ـ سبا : ٣٥.


الم يكونوا اربابا من اقطار الارضين؟ وملوكا على رقاب العالمين؟

فانظروا الى ما صاروا اليه في آخر امورهم حين وقعت الفرقة ، وتشتت الالفة ، واختلفت الكلمة والافئدة ، وتشعبوا مختلفين , وتفرقوا متحازبين ، قد خلع الله عنهم لباس كرامته ، وسلبهم غضارة نعمته ، وبقي قصص اخبارهم فيكم عبرا للمعتبرين منكم ....

فاعتبروا بحال ولد اسماعيل وبني اسحاق وبني اسرائيل : ، فما اشد اعتدال الاحوال ، واقرب اشتباه الامثال ، تاملوا امرهم في حال تشتتهم وتفرقهم ليالي كانت الاكاسرة والقياصرة اربابا لهم يجتازونهم (١) عن ريف الآفاق ، وبحر العراق ، وخضرة الدنيا ، الى منابت الشيح (٢) ، ومهافي الريح ، ونكد المعاش ، فتركوهم عالة مساكين ....

فانظروا الى مواقع نعم الله عليهم حين بعث اليهم رسولا (٣) فعقد بملته طاعتهم ، وجمع على دعوته الفتهم ، كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها؟ واسالت لهم جداول نعيمها؟ والتفت الملة بهم في عوائد بركتها ، فاصبحوا في نعمتها غرقين ، وعن خضرة عشيها فكهين ... (٤)

ملاحظة :

ذكرنا مختصرا من خطبة الامام امير المؤمنين 7 في نهج البلاغة لاشتمالها على جمل قصص الانبياء : وعلل احوالهم ، والتنبيه على فائدة الرجوع الى قصصهم والنظر في احوالهم واحوال اممهم وغير ذلك من الفوائد

__________________

١ ـ اي يبعدونهم عن دجلة والفرات.

٢ ـ اي ارض العرب.

٣ ـ المراد به نبينا محمد 6.

٤ ـ الخطبة اختصرناها من نهج البلاغة : ١/٣٧٢ ـ ٣٩٥.


التي لا تحصى ولا تخفى على من تامل فيها.

الزوجة الحمقاء :

روي ان الله اوحى الى نبي من الانبياء في الزمن الاول : ان لرجل في امته دعوات مستجابة ، فأخبر به ذلك الرجل ، فانصرف من عنده الى بيته فأخبر زوجته بذلك.

فالحت عليه ان يجعل دعوة لها فرضي ، فقالت : سل الله ان يجعلني اجمل نساء الزمان ، فدعى الرجل فصارت كذلك ، ثم انها لما رأت رغبة الملوك والشبان المتنعمين فيها متوفرة زهدت في زوجها الشيخ الفقير وجعلت تغالظه وتخاشنه وهو يداريها ولا يكاد يطيقها.

فدعا الله ان يجعلها كلبة فصارت كذلك ، ثم اجمع اولادها يقولون : يا ابة ان الناس يعيرونا ان امنا كلبة نائحة ، وجعلوا يبكون ويسألونه ان يدعو الله ان يجعلها كما كانت ، فدعا الله تعالى فصيرها مثل التي كانت في الحالة الاولى ، فذهبت الدعوات الثلاث ضياعا. (١)

كفر العابد :

قال الطبرسي رحمه الله : عن ابن عباس قال : كان في بني اسرائيل عابد اسمه « برصيصا » عبد الله زمانا من الدهر حتى كان يؤتى بالمجانين يداويهم ويعوذهم فيبرؤون على يده ، وانه اتي بامرأة في شرف قد جنت وكان لها اخوة بها وكانت عنده ، فلم يزل به الشيطان يزين له حتى وقع عليها فحملت ، فلما استبان حملها قتلها ودفنها ، فلما فعل ذلك ذهب الشيطان حتى لقي احد اخوتها فأخبره بالذي

__________________

١ ـ دعوات الراوندي : عنه البحار ج ١٤ ص ٤٨٥.


فعل الراهب وانه دفنها في مكان كذا ، ثم اتى بقية اخوتها رجلا رجلا فذكر ذلك له ، وانتشر الخبر حتى بلغ ذلك ملكهم.

فسار الملك والناس فاستنزلوه فاقر لهم بالذي فعل ، فأمر به فصلب ، فلما رفع على الخشبة تمثل له الشيطان فقال : انا الذي القيتك في هذا ، فهل انت مطيعي فيما اقول لك اخلصك مما انت فيه؟ قال : نعم ، قال : اسجد لي سجدة واحدة ، فقال : كيف اسجد لك وانا على هذه الحالة؟ فقال : اكتفي منك بالايماء ، فاومأ له بالسجود ، فكفر بالله ، وقتل الرجل.

فاشار الله عزوجل الى قصته قائلا (١) ( كمثل الشيطان اذ قال للانسان اكفر فلما كفر قال اني بريء منك اني اخاف الله رب العالمين * فكان عاقبتهما انهما في النار خالدَين فيها وذلك جزاء الظالمين ) (٢).

العابد العاق :

... عن ابي جعفر 7 قال : كان في بني اسرائيل عابد يقال له « جريح » وكان يتعبد في صومعته فجاءته امه وهو يصلي فدعته فلم يجبها ، فانصرفت ، ثم اتته ودعته فلم يلتفت اليها فانصرفت ، ثم اتته فدعته فلم يجبها ولم يكلمها فانصرفت وهي تقول : اسأل اله بني اسرائيل ان يخذلك.

فلما كان في الغد جاءت امرأة زانية وكانت حامل وقعدت عند صومعته قد اخذها الطلق فادعت ان الولد من ـ جريح ـ ، ففشا في بني اسرائيل ان من كان يلوم الناس على الزنا قد زنى ، وامر الملك بصلبه ، فاقبلت امه اليهم تلطم وجهها ، فقال لها :

__________________

١ ـ مجمع البيان : ٩ ـ ٢٦٥. عن قصص الجزائري : ٥١٦.

٢ ـ الحشر : ١٦ ـ ١٧.


اسكتي انما هذا لدعوتك ، فقال الناس لما سمعوا ذلك منه : وكيف لنا بذلك؟ قال : هاتوا الصبي ، فجاؤوا به فاخذه فقال : من ابوك؟ فقال : فلان الراعي للبني فلان ، فاكذب الله الذين قالوا ما قالوا في جريح ، فحلف جريح الا يفارق امه يخدمها (١).

العاقبة للمتقين :

روي انه كان رجل في بني اسرائيل يكثر قول : « الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين » فغاظ ابليس ذلك فبعث اليه شيطانا فقال : قل : العاقبة للاغنياء ، فجاءه فقال ذلك ، فتحاكما الى اول من يطلع عليهما على قطع يد الذي يحكم عليه ، فلقيا شخصا فاخبراه بحالهما ، فقال : العاقبة للاغنياء ، فقطع يده ، فرجع وهو يحمد الله ويقول : « العاقبة للمتقين » فقال له : تعود ايضا؟ فقال : نعم على يدي الاخرى ، فخرجا فطلع الآخر فحكم عليه ايضا ، فقطعت يده الاخرى ، وعاد ايضا يحمد الله ويقول : « العاقبة للمتقين ».

فقال له : تحاكمني على ضرب العنق؟ فقال : نعم ، فخرجا فرأيا مثالا فوقفا عليه ، فقال : اني كنت حاكمت هذا وقصا عليه قصتهما قال : فمسح يديه فعادتا ، ثم ضرب عنق ذلك الخبيث ، وقال : هكذا العاقبة للمتقين. (٢)

القاضي وهوى النفس :

روي انه كان قاض في بني اسرائيل وكان يقضي بالحق فيهم ، فلما حضرته الوفاة قال لامراته ، اذا مت فاغسليني وكفنيني وغطي وجهي ، وضعيني على

__________________

١ ـ قصص الانبياء للجزائري : ٥١٧.

٢ ـ نفس المصدر.


سريري ، فانك لا ترين سوء انشاء الله تعالى ، فلما مات فعلت ماكان امرها به ، ثم مكثت بعد ذلك حينا ، ثم انها كشفت عن وجهه فاذا دودة تقرض منخره ، ففزعت من ذلك.

فلما كان بالليل اتاها في منامها فقال لها : فزعت مما رأيتي؟ قالت : اجل ، قال : والله ما هو الا في اخيك.

وذلك انه اتاني ومعه خصم له ، فلما جلسا قلت : اللهم اجعل الحق له ، فلما اختصما كان الحق له ففرحت ، فاصابني ما رأيت لموضع هواي مع موافقة الحق له (١).

الدعاء بلسان بذيء :

كان رجلا في بني اسرائيل قد دعا الله ان يرزقه غلاما ، يدعو ثلاثا وثلاثين سنة ، فلما رأى ان الله تعالى لا يجيبه قال : يا رب ابعيد انا منك فلا تسمع مني ، ام قريب انت فلا تجيبني؟

فاتاه آت في منامه فقال له : انك تدعو الله منذ ثلاث سنين بلسان بذيء ، وقلب عات غير تقي ، وبنية غير صادقة ، فاقلع من بذائك ، وليتق الله قلبك ، ولتحسن نيتك ، قال : ففعل الرجل ذلك ثم دعا الله عزوجل فولد له غلام (٢).

القاضي والاخوة الثلاثة :

عن الثمالي عن ابي جعفر 7 قال : كان في بني اسرائيل رجل عاقل كثير المال ، وكان له ابن يشبهه في الشمائل من زوجة عفيفة ، وكان له ابنان من زوجة

__________________

١ ـ نفس المصدر.

٢ ـ اصول الكافي : ٢ ـ ٣٢٤.


غير عفيفة ، فلما حضرت الوفاة قال لهم : هذا مالي لواحد منكم ، فلما توفي قال الكبير : انا ذلك الواحد ، وقال الاوسط : انا ذلك الواحد ، وقال الاصغر : انا ذلك.

فاختصموا الى قاضيهم ، قال : ليس عندي في امركن شيء ، انطلقوا الى بني الاغنام الاخوة الثلاثة.

فانتهوا الى واحد منهم فرأوه شيخا كبيرا ، فقال لهم : ادخلوا الى اخي فلان فهو اكبر مني سنا فاسألوه ، فدخلوا عليه فخرج شيخ كهل فقال : سلوا اخي الاكبر مني سنا ، فدخلوا على الثالث فاذا هو في المنظر اصغر ، فسألوه اولا عن حاله ثم بينوا له عن حالهم فقال :

اما اخي الذي رأيتموه اولا هو الاصغر ، وان له امرأة سوء تسوؤه وقد صبر عليها مخافة ان يبتلي ببلاء لا صبر عليه فهرمته.

واما الثاني اخي فان عنده زوجة تسوؤه وتسره فهو متماسك الشباب.

واما انا فزوجتي تسرني ولا تسؤني ولم يلزمني منها مكروه قط منذ صحبتني فشبابي معها متماسك.

واما حديثكم الذي هو حديث ابيكم فانطلقوا اولا وبعثروا قبره ـ اي انبشوا قبره ـ واستخرجوا عظامه واحرقوها ثم عودوا لاقضي بينكم.

فانصرفوا فأخذ الصبي سيف ابيه ، واخذ الاخوان المعاول ، فلما ان هما بذلك قال لهم الصغير :

لا تبعثروا قبر ابي وانا ادع لكما حصتي ، فانصرفوا الى القاضي ، فقال : يقنعكما هذا ، ائتوني بالمال ، فقال للصغير : خذ المال ، فلو كانا ابنيه لدخلهما من الرقة كما دخل على الصغير. (١)

__________________

١ ـ البحار : ١٤ ـ ٤٩٠ عن الجزائري في القصص : ٥١٩.


الزوجة الصالحة :

روي انه كان في بني اسرائيل رجل صالح ، وكانت له امرأة صالحة ، فرأى في النوم ان الله تعالى قد وقت لك من العمر كذا وكذا سنة ، وجعل نصف عمرك في سعة ، وجعل النصف الآخر في ضيق ، فاختر لنفسك اما النصف الاول واما النصف الثاني الاخير.

فقال الرجل : ان لي زوجة صالحة وهي شريكي في المعاش فاشاورها في ذلك وتعود الي فاخبرك.

فلما اصبح الرجل قال لزوجته : رأيت في النوم كذا وكذا ، فقالت : يا فلان اختر النصف الاول وتعجل العافية لعل الله سيرحمنا ويتم لنا النعمة.

فلما كان في الليلة الثانية اتى الآتي فقال : ما اخترت؟ فقال : اخترت النصف الاول ، فقال : ذلك لك ، فاقبلت الدنيا عليه من كل وجه ، ولما ظهرت نعمته قالت له زوجته : قرابتك والمحتاجون فاصلهم وبرهم وجارك واخوك فلان فهبهم ، فلما مضى نصف العمر وجاز حد الوقت رأى الرجل الذي رآه اولا في النوم ، فقال : ان الله تعالى شكر لك ذلك ولك تمام عمرك سعة مثل ما مضى (١).

بئس الضيف :

عن هارون بن خارجة ، عن ابي عبد الله 7 : ان عابدا كان في بني اسرائيل ، فاضاف امرأة من بني اسرائيل فهم بها ، فاقبل كلما هم بها قرب اصبعا من اصابعه الى النار ، فلم يزل ذلك دأبه حتى اصبح.

قال لها : اخرجي لبئس الضيف كنت لي (٢).

__________________

١ ـ نفس المصدر.

٢ ـ نفس المصدر.


الرزق الحلال :

كان في بني اسرائيل رجل وكان محتاجا ، فالحت عليه امرأته في طلب الرزق ، فابتهل الى الله في طلب الرزق ، فرأى في لنوم : ايما احب اليك ، درهمان من حل او الفان من حرام؟.

فقال : درهمان من حل ، فقال : تحت رأسك ، فانتبه فرأى درهمين تحت رأسه فاخذهما واشترى بدرهم سمكة ، فاقبل الى منزله ، فلما رأته المرأة اقبلت عليه كاللائمة ، واقسمت ان لا تمسها.

فقام الرجل اليها ، فلما شق بطنها اذا بدرتين فباعها باربعين الف درهم (١).

من لا يَرحم لا يُرحم :

كان رجل شيخ ناسك يعبد الله في بني اسرائيل ، فبينما هو يصلي وهو في عبادته اذ ابصر بغلامين صبيين قد اخذا ديكا وهما ينتفان ريشه ، فاقبل على ما هو فيه من العبادة ولم ينههما عن ذلك.

فأوحى الله الى الارض : ان سيخي بعبدي ، فساخت به الارض ، فهو يهوي ابد الآبدين ، ودهر الداهرين (٢).

عدم الاستغاثة :

روي انه كان في بني اسرائيل جبارا وانه اقعد في قبره ورد اليه روحه ، فقيل : انا جالدوك مائة جلدة من عذاب الله ، قال لا اطيقها ، فلم يزالوا ينقصونه من الجلد وهو يقول : لا اطيق حتى صاروا الى واحدة ، قال لا اطيقها.

__________________

١ ـ نفس المصدر.

٢ ـ امالي الطوسي : ٦٣ ، والكافي رقم ٣٧.


قالوا : لن تصرفها عنك ، قال : فلماذا تجلدوني؟

قالوا : مررت يوما بعبد لله ضعيف مسكين مقهور فاستغاث بك فلم تغثه ولم تدفع عنه ، قال : فجلدوه جلدة واحدة فامتلأ قبره نارا (١).

ترك الذنب اهون من طلب التوبة :

روي ان كان عابد في بني اسرائيل لم يكسب من امر الدنيا شيئا ، فنخر ابليس نخرة فاجتمع اليه جنوده ، فقال : من لي بفلان؟ فقال بعضهم : انا ، فقال : من اين تأتيه؟ فقال : من ناحية النساء ، قال لست له ، لم يجرب النساء.

فقال له آخر : فانا له ، قال : من اين تأتيه؟ قال من ناحية الشراب واللذات ، قال لست له ، ليس هذا بهذا.

قال آخر : فانا له ، قال : من اين تاتيه ، قال : من ناحية البر ، قال : انطلق فانت صاحبه.

فانطلق الى موضع الرجل فاقام حذاءه يصلي ، قال : وكان الرجل ينام والشيطان لا ينام ، ويستريح والشيطان لا يستريح ، فتحول اليه الرجل وقد تعاصرت اليه نفسه واستصغر عمله.

فقال الرجل : يا عبد الله بأي شيء قويت على هذه الصلاة؟ فلم يجبه ، ثم اعاد عليه فلم يجبه ، ثم اعاد عليه فقال : يا عبد الله اني اذنبت ذنبا وانا تائب منه ، فاذا ذكرت الذنب قويت على الصلاة.

قال : فاخبرني بذنبك حتى اعمله واتوب ، فاذا فعلته قويت على الصلاة.

قال : ادخل المدينة فسل عن فلانة البغية فاعطها درهمين ونل منها ، قال :

__________________

١ ـ نفس المصدر.


ومن اين لي درهمين؟ ما ادري ما الدرهمان ، فتناول الشيطان من تحت قدمه درهمين فناوله اياهما.

فقام الرجل العابد فدخل المدينة بجلابيبه يسأل عن منزل فلانة البغية ، فارشده الناس ، وظنوا انه جاء يعظها ، فارشدوه فجاء اليها فرمى اليها بالدرهمين وقال : قومي ، فقامت فدخلت منزلها ، وقالت : ادخل ، وقالت : انك جئتني في هيئة ليس يؤتي مثلي في مثلها ، فاخبرني بخبرك ، فاخبرها.

فقالت له : يا عبد الله ان ترك الذنب اهون من طلب التوبة ، وليس كل من طلب التوبة وجدها ، وانما ينبغي ان يكون هذا شيطانا مثل بك ، فانصرف فانك لا ترى شيئا ، فانصرف ...

وماتت ـ المرأة ـ من ليلتها ، فاصبحت فاذا على بابها مكتوب : احضروا فلانة فانها من اهل الجنة.

فارتاب الناس فمكثوا ثلاثا لا يدفنوها ارتيابا في امرها ، فأوحى الله عزوجل الى نبي من الانبياء لا اعلمه الا موسى بن عمران 7 :

انت ائت فلانة فصل عليها ، ومر الناس ان يصلوا عليها ، فاني قد غفرت لها ، واوجبت لها الجنة بتثبيطها عبدي فلانا عن معصيتي (١).

لان شكرتم لازيدنكم :

روي انه كان في بني اسرائيل رجل عابد وكان محارفا (٢) لا يتوجه في شيء فيصيب فيه شيئا ، فانفقت عليه امرأته حتى لم يبق عندها شيء.

__________________

١ ـ روضة الكافي : ٣٨٤.

٢ ـ الرجل المحارف : اي محدود محروم.


فجائها يوما من الايام فدفعت اليه نصلا (١) من غزل وقالت له : ما عندي غيره انطلق فبعه واشتري لنا شيئا نأكله ، فانطلق بالنصل الغزل ليبيعه فوجد السوق قد غلقت ، والمشترين قد قاموا وانصرفوا ، فقال لو اتيت هذا الماء فتوضأت منه وصببت علي منه وانصرفت.

فجاء الى البحر واذا هو بصياد قد القى شبكته فاخرجها وليس فيها الا سمكة رديئة قد مكثت عنده حتى صارت رخوة منتنة ، فقال له : بعني هذه السمكة واعطيك هذا الغزل تنتفع به في شبكتك ، قال : نعم ، فأخذ السمكة ودفع اليه الغزل ، وانصرف بالسمكة الى منزله.

فاخبر زوجته الخبر ، فاخذت السمكة لتصلحها فلما شقتها وجدت في جوفها لؤلؤة ، فدعت زوجها فأرته اياها فاخذها فانطلق بها الى السوق فباعها بعشرين الف درهم ، وانصرف الى منزله بالمال ، فوضعه فاذا بسائل يدق الباب ويقول : يا اهل الدار تصدقوا يرحمكم الله على المساكين ، فقال له الرجل : ادخل فدخل ، فقال له : خذ احدى الكيسين ، فأخذ احدهما وانطلق ، فقالت له امرأته : سبحان الله بينما نحن مياسير اذ ذهبت بنصف يسارنا.

فلم يكن ذلك باسرع من ان دق السائل الباب فقال له الرجل : ادخل فدخل ، فوضع الكيس في مكانه ، ثم قال : كل هنيئا مريئا ، انما انا ملك من ملائكة ربك ، انما اراد ان يبلوك فوجدك شاكرا ، ثم ذهب (٢).

ذم النفس افضل من العبادة :

ان رجلا من بني اسرائيل عبد الله اربعين سنة ، ثم قرب قربانا فلم يقبل

__________________

١ ـ النصل : الغزل قد خرج من المغزل.

٢ ـ نفس المصدر.


منه ، فقال لنفسه :

وما اتيت الا منك ، وما الذنب الا لك ، فأوحى الله تبارك وتعالى اليه : ذمك لنفسك افضل من عبادتك اربعين سنة (١).

الصدقة تدفع البلاء :

ان رجلا من بني اسرائيل كان له ابن وكان له محبا فاتي في منامه فقيل له ، ان ابنك ليلة يدخل باهله يموت ، قال : فلما كان تلك الليلة وبنا عليه ابوه ـ اي دخل على اهله ـ توقع ابوه ذلك ، فاصبح ابنه سليما.

فاتاه ابوه فقال : يا بني هل عملت البارحة شيئا من الخير ، قال : لا ، الا ان سائلا اتى الباب وقد كان ادخروا لي طعاما فاعطيته السائل ، فقال : بهذا دفع الله عنك (٢).

مساعدة المسكين :

كان رجل من بني اسرائيل ولم يكن له ولد ، فولد له غلام ، وقيل له : انه سيموت ليلة عرسه ، فمكث الغلام ، فلما كان ليلة عرسه نظر الى شيخ كبير ضعيف فرحمه الغلام فدعاه واطعمه ، فقال له السائل : احييتني احياك الله.

قال : فاتاه آت في النوم ، فقال له : سل ابنك ما صنع ، فسأله فخبره بصنعه ، قال : فاتاه الآتي مرة اخرى في النوم فقال له : ان الله احيا لك ابنك بما صنع بالشيخ (٣).

__________________

١ ـ اصول الكافي : ٢ ـ٧٣.

٢ ـ نفس المصدر : ١٦٣.

٣ ـ فروع الكافي : ١ ـ ١٦٣.


مرارة الموت :

روي ان فتية من اولاد ملوك بني اسرائيل كانوا متعبدين ، وانهم خرجوا يسيرون في البلاد ليعتبروا ، فمروا بقبر على ظهر الطريق قد سفى عليه السافي ، ليس يتبين منه الا رسمه ، فقالوا لو دعونا الله الساعة فينشر لنا صاحب هذا القبر فسألناه كيف وجد طعم الموت ، فدعوا الله وكان دعائهم الذي دعوا الله به :

« اللهم انت الهنا يا ربنا ، ليس لنا اله غيرك ، والبديع الدائم غير الغافل ، الحي الذي لا يموت ، لك في كل يوم شأن ، تعلم كل شيء بغير تعليم ، انشر لنا هذا الميت بقدرتك ».

قال : فخرج من ذلك القبر رجل ابيض الشعر ينفض رأسه من التراب فزعا شاخصا بصره الى السماء ، فقال لهم : ما يوقفكم على قبري؟ فقالوا : دعوناك لنسألك كيف وجدت طعم الموت؟

فقال لهم : لقد مكثت في قبري هذا تسعة وتسعين سنة ماذهب عني الم الموت وكربه ، ولا خرجت مرارة طعم الموت من حلقي.

فقالوا له : متّ يوم متّ وانت على ما نرى ابيض الرأس واللحية؟ قال : لا ، ولكن لما سمعت الصيحة ، اخرج ، اجتمعت تربة عظامي الى روحي فبقيت فيه ، فخرجت فزعا شاخصا بصري مصطعا الى صوت الداعي ، فابيض لذلك رأسي ولحيتي (١).

الخوف من الله :

روي ان رجلا ركب البحر مع اهله فكسر بهم فلم ينج ممن كان في السفينة

__________________

١ ـ نفس المصدر : ٧٢.


الا امرأة الرجل ، فانها نجت على لوح من الواح السفينة حتى لجأت الى جزيرة من جزائر البحر ، وكان في تلك الجزيرة رجل يقطع الطريق ولم يَدع لله حرمة الا انتهكها.

فلم يعلم الا والمرأة قائمة على رأسه ، فرفع رأسه اليها فقال : انسية ام جنية؟ فقالت : انسية ، فلم يكلمها كلمة حتى جلس منها مجلس الرجل من اهله.

فلما ان هم بها اضطربت ، فقال لها : مالك تضطربين؟ فقالت : اخاف من هذا ـ واومأت بيدها الى السماء ـ قال : فصنعت من هذا شيئا؟ قالت : لا وعزته ، قال : فانت تخافين منه هذا الخوف ولم تصنعي من هذا شيئا وانما استكرهتك استكراها فانا والله اولى بهذا الخوف واحق منك ، فقام ولم يحدّث شيئا ، ورجع الى اهله وليس له همة الا التوبة والمراجعة.

فبينما هو يمشي اذ صادف راهب يمشي في الطريق ، فحميت عليهما الشمس ، فقال الراهب للشاب : ادع الله يظلنا بغمامة فقد حميت علينا الشمس.

فقال الشاب : ما اعلم ان لي عند ربي حسنة فاتجاسر على ان اسأله شيئا ، قال : فادعو انا وتؤمن انت ، قال : نعم ، فاقبل الراهب يدعو والشاب يؤمّن. فما كان باسرع من ان اظلتهما غمامة فمشيا تحتها مليا من النهار ، ثم انفرجت الجادة جادتين فأخذ الشاب في واحدة ، واخذ الراهب في واحدة ، فاذا السحابة مع الشاب.

فقال الراهب : انت خير مني لك استجيب ولم يستجيب لي ، فخبرني ما قصتك؟ فأخبره بخبر المرأة.

فقال : غفر لك ما مضى حيث دخلك الخوف ـ من الله ـ فانظر كيف تكون


فيما تستقبل (١).

ان زدت زدناك :

روي ان عابدا من بني اسرائيل سأل الله تبارك وتعالى فقال : يا رب ما حالي عندك؟ أخير فازداد في خيري ، او شر فاستعتب (٢) قبل الموت؟.

قال : فاتاه آت فقال له : ليس لك عند الله خير ، قال : يا رب واين عملي؟ قال : كنت اذا عملت خيرا اخبرت الناس به ، فليس لك منه الا الذي رضيت به لنفسك ، قال : فشق ذلك عليه واحزنه ، قال : فكرر الله اليه الرسول فقال :

« سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله اكبر ، ولا حول ولا قوة الا بالله ». تقول هذا كل يوم ثلاث مائة وستين مرة ، يكون كل كلمة صدقة عن كل عرق من عروقك ، قال : فلما رأى بشارة ذلك قال : يا رب زدني ، قال : ان زدت زدتك (٣).

تم ولله الحمد الجزء الثاني من كتابنا هذا « سلسلة حكم ومواعظ من حياة الانبياء والاوصياء : » وذلك في النصف من شهر رمضان المبارك يوم ميلاد كريم اهل البيت الامام الحسن بن امير المؤمنين علي بن ابي طالب : لسنة ١٤٢٣ هجري.

ويليه الجزء الثالث في الائمة الاطهار واصحابهم الطيبين انشاء الله تعالى.

__________________

١ ـ نفس المصدر : ٢ ـ ٦٩.

٢ ـ اي فاسترضاك واطلب منك العتبى.

٣ ـ دعوات الراوندي : عنه البحار ١٤ ـ ٥٠٩.



المحتويات

مقدمة الجزء الثاني ................... ٥

هبوطهما من الجنة الى الارض ...........٣٣

عصمة الانبياء والاوصياء .......... ١١

الكلمات التي تلقاها آدم ............... ٣٤

قصص آدم وحواء 8 في القرآن

تزويج آدم من حواء وكيفية بدء النسل . ٣٥

قول الملائكة ...................... ٢١

وفاة ادم 7 ........................ ٣٧

تعليم الاسماء ...................... ٢١

حكمه وموعظه 7 ................. ٣٨

مواعظ وحكم في خلق ادم وحواء 8

شر خلق الله .......................... ٣٩

العلم كله في اربع كلمات ............. ٣٩

المرحلة الاولى ..................... ٢٣

فضل الركوع لله .......................٤٠

اسم آدم وحواء وكيفية خلقهم ..... ٢٣

فضل السجود لله ...................... ٤٠

كيف خلقت حواء؟ ............... ٢٥

الانوار الخمسة ........................ ٤١

اول من عصى الله تعالى ............ ٢٧

قلة الكلام ............................ ٤٢

علة خلق آدم 7 وابليس « لع » . ٢٨

السيئة بواحدة والحسنة بعشر ........... ٤٣

المرحلة الثانية ...................... ٢٩

اول من حرث الارض وزرع .......... ٤٣

اسكانهما في الجنة ................. ٢٩

اول من عمل بالتقية ................... ٤٤

المرحلة الثالثة ...................... ٣٣

اول قبر .............................. ٤٤


اول من عبد النار .................. ٤٥

قصة النبي هود 7 وعاد

اول كتاب كتب .................. ٤٥

من هو هود .......................... ٧٣

اول زواج واول مهر .............. ٤٦

قوم عاد .............................. ٧٣

ذرية آدم من شيث 7 ........... ٤٧

امراة هود ............................ ٧٦

اذا جاء الاجل .................... ٤٧

نبوة هود 7 ........................ ٧٧

اول وصية كتبت .................. ٤٨

رياح الرحمة ورياح العذاب ............ ٧٨

لا تخلو الارض من حجة لله ........ ٤٩

وفاة النبي هود 7 ................... ٨٠

قبل خلق آدم 7 ................ ٤٩

قصة النبي صالح 7 وقومه

قصة النبي ادريس 7

من هم ثمود .......................... ٨٣

صفات النبي ادريس 7 .......... ٥٥

قصة اخرى ........................... ٨٦

مولد النبي ادريس 7 ............ ٥٦

وفاته 7 ........................... ٨٨

عبادته لله قبل نبوته ................ ٥٧

اصحاب الرس ........................ ٨٨

بدء نبوته 7 .................... ٥٨

قصة النبي لوط 7 وقومه

مسجد السهلة وسكنته 7 ....... ٦٢

وقفة تأمل ............................ ٩٥

هجرته 7 الى مصر ............. ٦٣

لوط في القرآن ........................ ٩٨

وفاته 7 ....................... ٦٤

آثار البخل .......................... ١٠٢

في وفاته ايضا 7 ................ ٦٥

ملاحظات .......................... ١٠٥

من حكم ومواعظ النبي ادريس7. ٦٧

فلسفة تحريم اللواط .................. ١٠٨

مواعظه 7 في الموت ............ ٦٨

حكمة ............................ ١٠٩

مواعظه 7 في التقوى ........... ٦٩

هلاك قوم لوط ..................... ١١٠

مواعظه 7 في الدعاء ............ ٦٩

معنى كلمة لوط ..................... ١١٢

مواعظه 7 في الصيام ............ ٦٩

مواعظه 7 في الصلاة ........... ٧٠


قصة ذي القرنين

يوسف عزيز مصر .................. ١٥٤

ذي القرنين في القرآن ........... ١١٦

لقاء يوسف باخوته ................. ١٥٥

بناء السد ...................... ١١٨

لقاء يوسف وبنيامين ................ ١٥٦

من هم يأجوج ومأجوج ......... ١٢١

اتهام يوسف بالسرقة ................ ١٥٩

من هو ذو القرنين .............. ١٢٣

اللقاء وجمع الشمل ................. ١٦١

ملاحظات ..................... ١٢٥

انتهاء حزن يعقوب ................. ١٦٣

حكمه ومواعظه ................ ١٢٨

توبة اولاد يعقوب .................. ١٦٥

قصة النبي يوسف 7

واخيرا تحقق الحلم .................. ١٦٥

احسن القصص ................. ١٣٥

زواج العزيزة من العزيز ............. ١٦٦

قصة يوسف 7 ............... ١٣٧

وفاة يوسف 7 .................. ١٦٧

الرؤيا الصادقة .................. ١٣٨

دروس وعبر ....................... ١٦٩

آثار الحسد ..................... ١٣٩

١ ـ الاعتماد على الله .......... ١٦٩

نجاة يوسف من البئر ............. ١٤١

٢ ـ دعاء يوسف .............. ١٦٩

يوسف في بيت العزيز ........... ١٤٢

٣ ـ الالتجاء الى الله ............ ١٦٩

عشق العزيزة ................... ١٤٣

٤ ـ الحياء من الله .............. ١٧٠

ساعة الصفر .................... ١٤٤

٥ ـ جهاد النفس ............... ١٧٠

معنى هم بها .................... ١٤٥

٦ ـ الاستغاثة بالله .............. ١٧١

الانتصار على النفس ............. ١٤٥

٧ ـ بعض الهزيمة انتصار ......... ١٧٢

الفضيحة ....................... ١٤٦

٨ ـ الامتحان .................. ١٧٢

يوسف ونساء مصر .............. ١٤٩

٩ ـ من هو الشاهد ............. ١٧٣

دخول يوسف الى السجن ........ ١٥٠

١٠ ـ حماية الله والطافه الخفية .... ١٧٣

خروج يوسف من السجن ....... ١٥١

١١ ـ التوسل بغير الله ........... ١٧٤

الاعتراف بالذنب ............... ١٥٣

١٢ ـ المحاورة .................. ١٧٤

١٣ ـ العقوبة .................. ١٧٦


١٤ ـ الدعاء للفرج من الشدة ١٧٦

اطيب شيء واخبث شيء ............ ٢٠٥

١٥ ـ سبب ابتلاء يعقوب 7١٧٧

في العلم والادب ................... ٢٠٦

١٦ ـ براءة يوسف ......... ١٧٧

الخوف من الله ...................... ٢٠٧

١٧ ـ بكاء يوسف .......... ١٧٨

في الدنيا والآخرة ................... ٢٠٨

قصة النبي ايوب 7

مصاحبة الناس ...................... ٢١٠

من هو ايوب؟ .................. ١٨٣

في سوء الخلق ...................... ٢١٢

ابتلاء ايوب ..................... ١٨٤

في الرزق ........................... ٢١٣

امراة ايوب 7 ................ ١٨٦

حكم ومواعظ ...................... ٢١٤

الشماتة ......................... ١٨٦

العلائم الثلاث ..................... ٢١٧

النجاح في الامتحان .............. ١٨٧

التكبر والتجبر ....................... ٢١٨

دروس مهمة .................... ١٨٨

رضا الناس غاية لا تدرك ............. ٢١٩

شكر ايوب 7 ................ ١٩١

قصة النبي داود 7

حكمه ومواعظه 7 ........... ١٩١

من هو داود؟ ....................... ٢٢٣

قصة لقمان الحكيم

قضاء النبي داود 7 ............... ٢٢٥

من هو لقمان ................... ١٩٥

ملاحظات ......................... ٢٢٧

انتخاب الحكمة ................. ١٩٧

الصفات العشرة ..................... ٢٢٩

ماهي الحكمة ................... ١٩٧

حزقيل وداود 8 ............... ٢٣٢

حكم من القرآن ................ ١٩٩

ما اوحى الله تعالى الى داود 7 ..... ٢٣٣

احترام الوالدين ................. ١٩٩

رحمة الله اوسع ...................... ٢٣٦

الاعمال الصالحة ................ ٢٠١

الصبر والشكر ...................... ٢٣٧

السلوك الحسنة .................. ٢٠٢

كما تدين تدان ..................... ٢٣٨

في آداب السفر ................. ٢٠٤

العبرة لمن اعتبر ..................... ٢٣٩

موعظة ............................. ٢٣٩


بناء بيت المقدس ووفاة داود 7. ٢٤٠

قصة زكريا ويحيى 8

وفاة النبي داود 7 ............ ٢٤١

استجابة دعاء زكريا ................. ٢٧٧

قصة النبي سلمان 7

كفيل مريم 3 .................... ٢٧٩

خلافة النبي سليمان 7 ......... ٢٤٦

شهادة زكريا ....................... ٢٨٠

الامتحان الصعب ............... ٢٤٧

ولادة يحيى 7 ..................... ٢٨٠

الامتيازات الخمسة ............... ٢٤٩

صفاته 7 ........................ ٢٨١

المواهب العظيمة ................ ٢٥١

اوجه التشابه بين يحيى وعيسى 8.. ٢٨٣

ملاحظات ...................... ٢٥٤

اوجه التشابه بين يحيى والحسين 7... ٢٨٤

مواعظ وحكم .................. ٢٥٥

مواعظه وحكمه 7 ............... ٢٨٦

الاجل .......................... ٢٥٥

عبادة يحيى 7 ..................... ٢٨٦

استسقاء النملة .................. ٢٥٦

بكائه من خشية الله ................. ٢٨٧

ثواب التسبيحة .................. ٢٥٦

الجبل السكران ...................... ٢٨٧

هذا من فضل ربي ............... ٢٥٧

مصائد ابليس ....................... ٢٨٨

منطق سليمان ................... ٢٥٨

الارث .............................. ٢٩٠

كيف احضر عرش بلقيس ........ ٢٥٨

شهادة يحيى 7 ................... ٢٩٢

سليمان 7 والنملة ............ ٢٥٩

قصة النبي يونس بن متي 8

سليمان 7 والعصفور .......... ٢٦٠

قصة النبي يونس 7 ............... ٢٩٧

النملة والضفدعة ................. ٢٦١

نبوة يونس .......................... ٢٩٨

مواعظ من منطق الحيوانات ....... ٢٦٢

الامتحان الصعب .................... ٢٩٩

رد الشمس ..................... ٢٦٣

التوجه الى الله ....................... ٣٠٠

الهدهد وبلقيس .................. ٢٦٥

اللجوء الى العالم ..................... ٣٠١

سيرة سليمان 7 .............. ٢٧٠

عودة يونس 7 ................... ٣٠٢

وفاة النبي سليمان 7 .......... ٢٧٢

قصة متي ابا يونس 8............. ٣٠٣


فضل العالِم على العابد ........... ٣٠٤

القاضي والاخوة الثلاثة .............. ٣١٩

موعظة ......................... ٣٠٧

الزوجة الصالحة ..................... ٣٢١

مواعظ وحكم من اخبار بني اسرائيل

بئس الضيف ........................ ٣٢١

خمسة من المنجيات .............. ٣١١

الرزق الحلال ....................... ٣٢٢

عدل الله ........................ ٣١٢

من لا يَرحم لا يُرحم ................ ٣٢٢

الموت رحمة ..................... ٣١٣

عدم الاستغاثة ....................... ٣٢٢

موعظة ......................... ٣١٣

ترك الذنب اهون من طلب التوبة ..... ٣٢٣

الزوجة الحمقاء .................. ٣١٦

لان شكرتم لازيدنكم ................ ٣٢٤

كفر العابد ...................... ٣١٦

ذم النفس افضل من العبادة ........... ٣٢٥

العابد العاق ..................... ٣١٧

الصدقة تدفع البلاء .................. ٣٢٦

العاقبة للمتقين ................... ٣١٨

مساعدة المسكين .................... ٣٢٦

القاضي وهوى النفس ............ ٣١٨

مرارة الموت ........................ ٣٢٧

الدعاء بلسان بذيء .............. ٣١٩

الخوف من الله ...................... ٣٢٧

ان زدت زدناك ..................... ٣٢٩

حكم ومواعظ من حياة الانبياء عليهم السلام - ٢

المؤلف: مرتضى الميلاني
الصفحات: 336
ISBN: 964-465-066-x