حرف الحاء


عناوين حرف الحاء

٢٧٩ ـ الحال

٢٩٨ ـ الحقيقة المتشرعيّة

٢٨٠ ـ الحجر التكليفي والحجر الوضعي

٢٩٩ ـ الحكم الإنشائي

٢٨١ ـ الحجّة

٣٠٠ ـ الحكم الأولي

٢٨٢ ـ الحجيّة الاصوليّة

٣٠١ ـ الحكم التكليفي

٢٨٣ ـ الحجيّة الذاتيّة

٣٠٢ ـ الحكم الثانوي

٢٨٤ ـ حجيّة القطع

٣٠٣ ـ الحكم الشرعي

٢٨٥ ـ الحجيّة المجعولة

٣٠٤ ـ الحكم الظاهري

٢٨٦ ـ الحرمة

٣٠٥ ـ الحكم العدمي

٢٨٧ ـ الحرمة الذاتيّة والحرمة العرضيّة

٣٠٦ ـ الحكم المقابل للفتوى

٢٨٨ ـ الحرمة الظاهريّة والحرمة الواقعيّة

٣٠٧ ـ الحكم الواقعي

٢٨٩ ـ الحسن والقبح

٣٠٨ ـ الحكم الوضعي

٢٩٠ ـ الحسن والقبح الذاتيان

٣٠٩ ـ الحكومة

٢٩١ ـ الحسن والقبح العقلائيّان

٣١٠ ـ الحكومة الانسداديّة

٢٩٢ ـ الحسن والقبح العقليّان

٣١١ ـ الحكومة الواقعيّة والحكومة الظاهريّة

٢٩٣ ـ أصالة الحظر

٣١٢ ـ الحكومة بملاك الرفع

٢٩٤ ـ حقّ الطاعة

٣١٣ ـ الحكومة بملاك النظر

٢٩٥ ـ مسلك حقّ الطاعة

٣١٤ ـ أصالة الحل

٢٩٦ ـ أصالة الحقيقة

٣١٥ ـ الحمل الأولي والحمل الشائع

٢٩٧ ـ الحقيقة الشرعيّة

٣١٦ ـ الحمل البسيط والحمل المركّب


حرف الحاء

٢٧٩ ـ الحال

ذكر صاحب الكفاية في مقام بيان تحرير محلّ النزاع في بحث المشتق « انّه اختلفوا في انّ المشتقّ حقيقة في خصوص ما تلبّس بالمبدإ في الحال أو فيما يعمّه أو ما انقضى عنه على أقوال ». والذي يهمّنا هو بيان المراد من الحال المأخوذ في عنوان تحرير المسألة ، فنقول : انّ هنا احتمالين للمراد من الحال :

الاحتمال الاول : هو حال النطق ، أي انّه يعتبر في صدق المشتقّ تلبّس الذات بالمبدإ حال الإطلاق والنطق بالإسناد ، فحينما نسند عنوان العالم الى زيد لا بدّ وان يكون زيد متلبسا بالعالميّة حين اطلاق الإسناد وحين حمل العالميّة عليه بقطع النظر عن الحيثيّة المأخوذة في الإسناد وانّ اسناد العالميّة له في الزمان الفعلي أو الزمان الماضي أو الاستقبالي أو انّه لم تؤخذ حيثيّة زمانية حين الإسناد كأن كان الإسناد مطلقا من هذه الجهة.

فحينما يقال زيد عالم فعلا أو غدا أو أمس أو يقال زيد عالم ، ففي تمام هذه الأمثلة يعتبر في صدق عنوان العالم على زيد ـ وان المشتقّ « العالم » حقيقة في زيد ـ يعتبر في الصدق أن يكون زيد عالما حين النطق بهذه الأمثلة ، أي حين النطق باسناد العالميّة لزيد ، فعليه لو لم يكن زيد عالما حين قولنا « زيد عالم أمس » يكون اطلاق


العالميّة على زيد مجازيا وان كان عالما حقيقة أمس.

الاحتمال الثاني : انّ المراد من الحال هو فعليّة التلبّس بالمبدإ حين الجري والإسناد لا حال النطق به ، فلو كان الجري والإسناد بلحاظ الزمان الماضي فلا بدّ أن تكون الذات متلبّسة بالمبدإ في الزمان الماضي ، وحينما يكون الإسناد والجري بلحاظ الزمان الاستقبالي فلا بدّ وان يكون تلبّس الذات بالمبدإ في الزمان الاستقبالي ، وعليه لو كان الحال معتبرا في صدق المشتق فهذا معناه انّ المشتقّ يكون حقيقة عند ما تكون الذات متلبّسة بالمبدإ في الزمان الماضي وكان الإسناد بلحاظ الزمان الماضي حتى ولو لم تكن الذات متلبّسة بالمبدإ حين النطق بالإسناد والجري.

فعند ما يقال « زيد عالم أمس » فإنّ المشتقّ وهو « عالم » حقيقة في زيد اذا كان متلبّسا بالعالميّة أمس ـ أي حال الجري والإسناد ـ وان كان زيد قد انقضى عنه التبس بالعالميّة حال النطق بالإسناد وهو اليوم مثلا. وهكذا لو كان الجري والإسناد بلحاظ الزمان الاستقبالي فإنّ الصدق وعدمه يدوران مدار فعليّة تلبّسه بالمبدإ حين الجري والإسناد وعدم تلبّسه بها ، فحينما يكون متلبسا بالمبدإ في الزمان الاستقبالي فإنّ المشتقّ حقيقة فيه وان كان حال النطق غير متلبّس بالمبدإ.

والمتحصّل انّ المراد من الحال في الاحتمال الثاني هو فعليّة التلبّس حال الجري والإسناد لا حال النطق بالجري والاسناد.

والمتعيّن من الاحتمالين ـ كما ذهب لذلك صاحب الكفاية رحمه‌الله وغيره من الأعلام ـ هو الاحتمال الثاني ، وذلك لأنّه لا خلاف في انّ اسناد المشتقّ الى الذات يكون حقيقيا لو كان تلبّس الذات بالمبدإ فعليا بلحاظ حال الإسناد والجري ، فلو قال المتكلّم « زيد عالم أمس أو غدا » وكان زيد متلبّسا بالعالميّة في ظرف الإسناد وهو أمس في المثال الاول وغدا في المثال الثاني فإنّه لا ريب في صدق المشتقّ


حقيقة على الذات حتى لو لم تكن الذات متلبّسة بالمبدإ حين النطق بالإسناد ، نعم لو استظهرنا ـ ولو بواسطة الاطلاق ـ انّ اتّصاف الذات بالمبدإ انّما هو حين النطق بالجري والإسناد وكان التلبّس بالمبدإ في الزمان الماضي أو المستقبل كما لو دلّت القرينة على ذلك فإنّ صدق المشتقّ على الذات يكون مجازيا.

فلو قال المتكلّم « زيد ضارب غدا » وعلمنا انّ مراد المتكلّم هو فعليّة اتّصاف الذات بالضاربية رغم انّه انّما سيتلبّس بها غدا فإنّ اطلاق الضاربيّة على زيد يكون مجازيا بلا إشكال ، إلاّ انّ ذلك ناشئ عن انّ التلبّس بالمبدإ استقبالي والإسناد حالي ، وهو خارج عن محلّ الكلام ، إذ انّ الدعوى هو ان الإسناد والتلبّس إذا كانا متّحدين زمانا فإنّ المشتقّ يكون حقيقة في الذات بقطع النظر عن حال النطق ، فقد يكون التلبّس والإسناد متّحدين مع حال النطق ، وقد يكون التلبّس والإسناد متأخّرين أو متقدّمين على حال النطق ، فالمدار في صدق المشتقّ على الذات وعدم صدقه هو اتّحاد التلبّس والإسناد وعدم اتّحادهما ، فمتى ما اتّحدا كان المشتقّ حقيقة في الذات ، ومتى ما اختلفا كان اسناد المشتقّ للذات مجازيا.

* * *

٢٨٠ ـ الحجر التكليفي والحجر الوضعي

الحجر التكليفي تعبير آخر عن الحرمة التكليفيّة ، وهو عادة ما يطلق على الحرمة التي يكون متعلّقها واحدا من المعاملات.

مثلا : الحرمة التكليفيّة الثابتة لبيع الخمر أو الاستئجار على صنعه ، هذه الحرمة يعبّر عنها بالحجر التكليفي أي أنّ المكلّف ممنوع عن فعل ذلك فيكون موزورا وعاصيا لو ارتكب ما ينافي الحجر التكليفي.

وأمّا الحجر الوضعي فهو بمعنى الحكم بعدم ترتّب الأثر المنتظر من المعاملة ، فكلّ معاملة وقعت متعلّقا


للحجر الوضعي فهي غير نافذة ولا يترتّب على إيقاعها الأثر المنتظر منها.

فحينما يكون البيع مثلا متعلّقا للحجر الوضعي فذلك معناه الحكم بفساد البيع وعدم اقتضائه للنقل والانتقال.

وهذا المقدار ليس موردا للخلاف بين الأعلام وإنّما وقع الخلاف من جهة أنّ الحجر التكليفي هل يستلزم الحجر الوضعي أو لا؟ أي أنّ المنع تكليفا عن المعاملة هل يقتضي فساد المعاملة أو لا يقتضي ذلك؟ أو أنّ في المسألة تفصيل بين ما إذا كان متعلّق الحجر التكليفي هو المعاملة بلحاظ السبب والمعاملة بلحاظ المسبّب ففي الأوّل لا يكون الحجر التكليفي مقتضيا للحجر الوضعي ، وفي الثاني يكون الحجر التكليفي مقتضيا للحجر الوضعي خلاف بين الأعلام أجملنا بيانه تحت عنوان ( النهي في المعاملات ).

* * *

٢٨١ ـ الحجّة

الحجّة في اللغة بمعنى الغلبة وبمعنى الدليل والبرهان ، والظاهر انّ اطلاق الحجّة على البرهان والدليل من باب اطلاق السبب وإرادة مسبّبه ، إذ انّ البرهان يكون سببا للغلبة على الخصم ، فالحجّة هي الغلبة ، والدليل والبرهان هما السبب لوقوع الغلبة والظفر ، فيكون اطلاق الحجّة في اللغة على ما يحتجّ به على الخصم وعلى ما يوجب الظفر عند الخصومة اطلاقا مجازيا بنحو المجاز المرسل ، وذلك بعلاقة السببيّة ، بمعنى انّ ما يحتجّ به يكون سببا للغلبة والتي هي المعنى الحقيقي للفظ الحجّة في اللغة.

إلاّ انّه في مقابل هذه الدعوى قد يقال انّ المعنى الحقيقي للفظ الحجّة هو نفس الدليل والبرهان ومطلق ما يحتجّ به عند الخصومة ، وذلك لأنّ الحجّة مشتقّة من الحجّ والذي هو القصد ، وحينئذ تكون الحجّة أقرب للوسيلة منها الى الغاية ، فالغاية هي الغلبة والوسيلة هي البرهان والدليل ، وحينئذ يكون اطلاق لفظ الحجّة على البرهان والدليل اطلاقا حقيقيّا ،


ويكون اطلاق الحجّة على الغلبة مجازيا بعلاقة المسببيّة ، إذ انّ الغلبة تكون مسبّبة عن الحجّة والتي هي البرهان والدليل.

هذا بحسب المدلول اللغوي للفظ الحجّة ، وأمّا بحسب اصطلاح المناطقة فهي كلّ معلوم تصديقي يصلح لإثبات مجهول تصديقي.

وبقيد الصلاحية لإثبات المجهول التصديقي تخرج المعلومات التصديقيّة التي لا صلاحيّة لها للدلالة على المجهول التصديقي إمّا لأنّها أجنبيّة عن مقام الاحتجاج وامّا انّها لم ترتّب بكيفيّة تصلح معه للاحتجاج ولإثبات المطلوب والذي هو المجهول التصديقي.

ومن هنا لا تكون القضيّة التصديقيّة حجّة ما لم تؤطر في شكل من أشكال القياس مثلا ، فتكون الكبرى في ذلك القياس ، إذ مع عدم ترتيبها بهذه الكيفيّة لا تكون منتجة للمطلوب ، فلا تكون صالحة لأن يطلق عليها عنوان الحجّة.

وهناك تعريف آخر للحجّة ذكره بعض المناطقة ، وهو انّ الحجّة عبارة عن تأليف قضايا ينتج عنها المطلوب.

وبناء عليه تكون الحجّة المنطقيّة هي مجموع القضايا المؤلّفة بشكل خاص وينتج عن مجموعها المطلوب ، فيكون القياس بصغراه وكبراه وكذلك الاستقراء بتمام مقدّماته وهكذا التمثيل وغيرهم مصاديق الحجّة المنطقيّة.

وهناك تعريف ثالث للحجّة المنطقيّة ، وحاصله : انّ الحجّة هو الحدّ الاوسط الذي يكون طريقا للكشف عن ثبوت الحدّ الأكبر للحدّ الأصغر في القياس المنطقي ، بقطع النظر عن كون الحدّ الأوسط علّة لوجود الأكبر أو معلولا له أو كان بينهما تلازم ناشئ عن كونهما معلولين لعلّة ثالثة.

والمراد من الحدّ الاوسط هو الحدّ المشترك والمتكرّر في مقدمتي القياس « الصغرى ـ والكبرى » ويعبّر عنه بالواسطة في الإثبات باعتبار طريقيّته لإثبات الحدّ الأكبر للأصغر ، أي لإثبات الحكم في نتيجة القياس


والذي هو الأكبر لموضوعه وهو الأصغر.

ولغرض توضيح المطلب نشكّل قياسا نتعرّف بواسطته على الحدّ الاوسط والذي هو الحجّة بحسب هذا التعريف.

العالم متغيّر

وكلّ متغيّر حادث

.. العالم حادث

فالحد الأوسط في هذا القياس هو عنوان « متغيّر » فهو الحدّ المشترك والمتكرّر في المقدّمتين « الصغرى والكبرى » وبواسطته ثبت لنا انّ « العالم حادث » فهو واسطة في الكشف عن ثبوت الحدّ الأكبر ـ والذي هو محمول النتيجة ـ للحدّ الأصغر وهو موضوع النتيجة ، فلو لا اشتراك العالم وكلّ حادث في التغير لما أمكن اثبات الحدوث للعالم.

وبما ذكرناه يتّضح المراد من قول المناطقة انّ الحجّة هي الوسطية في الإثبات ، فمرادهم من ذلك هو الحدّ الأوسط الذي يتوسّل به للتعرّف على ثبوت الحدّ الأكبر للحدّ الأصغر.

* * *

٢٨٢ ـ الحجيّة الاصوليّة

المراد من الحجيّة الاصوليّة هو الأدلة الاجتهاديّة المعتبرة شرعا والتي تكون طريقا لإثبات متعلقاتها ولا يكون بينها وبين متعلقاتها أيّ رابطة واقعيّة ، بمعنى انّ دور الأدلة الاجتهاديّة المعتبرة شرعا يتمحّض في الكشف دون أن يكون بينها وبين متعلقاتها علاقة التلازم أو العليّة مثلا ، فدليليّة البيّنة على خمرية هذا السائل لا تعبّر عن علاقة واقعيّة بين البيّنة وبين خمريّة هذا السائل بل انّ خمرية هذا السائل لو كانت ثابتة واقعا فهي ناشئة عن أسبابها التكوينيّة ، وليس للبيّنة سوى دور الكشف عن ثبوت الخمريّة لهذا السائل ، وهكذا الكلام في كاشفيّة الأمارة المعتبرة عن الحكم الشرعي ، فإنّها لا تعبّر عن علاقة واقعيّة بين الأمارة وبين ثبوت الحكم لموضوعه بل انّ ثبوت الحكم لموضوعه ناشئ عن ملاك في متعلّقه اقتضى جعل الحكم واعتباره شرعا.


وبهذا تمتاز الحجيّة الاصوليّة عن الحجّة في باب الأقيسة ، فهما وان كانا يشتركان من جهة وسطيتهما في الإثبات إلاّ انّ وسطية الحجّة في باب الأقيسة ـ والذي هو الحدّ الأوسط ـ منوطة بثبوت علاقة واقعيّة بن الحدّ الأوسط والحدّ الأكبر ، فإمّا أن يكون الحدّ الأوسط علة للحدّ الأكبر ، وعندها يكون الحدّ الأوسط برهانا لميّا وواسطة في الثبوت بالإضافة الى كونه واسطة في الإثبات ، وأمّا ان يكون معلولا للحدّ الأكبر أو أن يكون كلاهما معلولين لعلّة ثالثة ، وعندها يكون الحدّ الأوسط برهانا إنيّا ومتمحضا في كونه واسطة في الإثبات ، وقد أشرنا لذلك في بحث « الحجيّة » في التعريف الثالث للحجيّة المنطقيّة.

ثمّ انّ الحجّة عند الاصوليين قد تطلق ويراد منها المنجّزيّة والمعذّرية ، والمنجّزية هي المسئوليّة وثبوت العهدة ، والمعذرية هي انتفاء المسئوليّة وصحّة الاعتذار عن منافاة الواقع.

وقد أفاد المحقّق النائيني رحمه‌الله انّ المنجّزيّة والمعذريّة من اللوازم العقليّة لوصول الواقع ، فهي غير قابلة للجعل ، نعم حينما تجعل الطريقيّة والوسطيّة في الإثبات للدليل يكون محرزا للواقع ، وعندها يتنجّز الواقع عقلا.

* * *

٢٨٣ ـ الحجيّة الذاتيّة

ويقصدون من الحجيّة الذاتيّة الحجيّة الثابتة للدليل دون جعل شرعي ، بمعنى انّ ذات الدليل بنفسه يقتضي ثبوت الحجيّة له ، وذلك في مقابل الدليل الذي تكون دليليته وكاشفيّته منوطة بالجعل الشرعي ، وليس ثمّة دليل ادعي ثبوت الحجيّة الذاتيّة له سوى الدليل القطعي.

وتحرير المراد من حجيّة القطع هو السبيل للتعرّف على انّ الحجيّة الثابتة له هل هي ذاتيّة أو غير ذاتيّة ، فنقول :

انّ حجيّة القطع تارة يراد منها الحجيّة المنطقيّة واخرى يراد منها


المنجّزيّة والمعذرية ، ونقصد بالحجيّة المنطقية الوسطية في الإثبات ، أي الطريقيّة والكاشفيّة ، واذا كان المراد من حجيّة القطع هي الحجيّة المنطقيّة فالحجيّة الثابتة له ذاتيّة بلا ريب ، وذلك لأن المراد من القطع هو الانكشاف التام والإراءة التامّة ، فالقطع هو عين الكشف والإراءة والطريقيّة ، وليس شيئا ثبت له الكشف والطريقيّة.

وإذا كان كذلك فالطريقيّة ـ والتي هي الحجّة المنطقيّة ـ ذاتيّة للقطع ، وثبوت الذاتي لذاته لا يفتقر للجعل لا بنحو الجعل التأليفي بل ولا بنحو الجعل البسيط ، وذلك لأنّ الجعل التأليفي يلازم المباينة بين المجعول والمجعول له ، وهو خلف الفرض ، إذ قلنا انّ الطريقيّة هي عين القطع وثبوت الشيء لنفسه ضروري ، فكما انّ ثبوت الإنسانيّة للإنسان ضروري وقضيّة بشرط المحمول فكذلك ثبوت الطريقيّة للقطع.

وأمّا عدم تعقّل الجعل البسيط للطريقيّة والحجيّة المنطقيّة فلأنّه تحصيل للحاصل بعد وجود القطع ، نعم يكون الجعل البسيط للطريقيّة والحجيّة متعقلا إذا كان بنحو إيجاد القطع ، فإيجاد القطع هو عينه ايجاد الطريقيّة ، وذلك في مقابل رفع الطريقيّة واعدامها بواسطة اعدام القطع.

وأمّا لو أنكرنا انّ القطع هو عين الانشكاف والإراءة التامّة وقلنا بأنّ القطع من الحالات النفسانيّة القائمة بالنفس فإنّ لا بدّ من التسليم بأنّ الطريقيّة ذاتيّة للقطع إلاّ انّ الذاتيّة هنا بمعنى الذاتيّة في باب البرهان لا الذاتيّة في باب الإيساغوجي ـ كما هو مقتضى المبنى الاول ـ فالمقصود من الذاتيّة في المقام هو انّ الطريقيّة لازم ذاتي للقطع بنحو اللزوم البيّن بالمعنى الأخص والذي يكون معه تصوّر الموضوع كافيا في تصوّر الحكم.

وحينئذ لا تكون الطريقيّة مفتقرة للجعل أيضا ، فمحض وجود القطع كافيا لحمل الطريقيّة عليه ، ولذلك


يكون جعل الحجيّة والطريقيّة للقطع تحصيلا للحاصل.

وبهذا اتّضح ثبوت دعوى ذاتيّة الحجيّة للقطع بناء على انّ المراد من الحجيّة هي الحجيّة المنطقيّة والتي هي الطريقيّة والوسطيّة في الإثبات ، سواء قلنا بأن الطريقيّة هي عين القطع أو انّها لازم ذاتي له.

أمّا لو كان المراد من حجيّة القطع هو المنجّزيّة والمعذريّة فهل انّ الحجيّة حينئذ ذاتيّة للقطع أو لا؟

وقع الخلاف بين الأعلام في ذلك وذكرت لذلك ثلاثة اتّجاهات ، وسوف نستعرضها تحت عنوان « حجيّة القطع » ان شاء الله تعالى.

* * *

٢٨٤ ـ حجيّة القطع

ذكرنا في بحث « الحجيّة الذاتيّة » انّ الحجيّة الثابتة للقطع إذا كانت بمعنى الحجيّة المنطقيّة فإنّ ثبوتها للقطع يكون ذاتيا ، وأمّا إذا كانت الحجيّة بمعنى المنجزيّة والمعذريّة فقد وقع البحث في نحو ثبوتها للقطع ، وقد ذكرت في ذلك ثلاثة اتّجاهات.

الاتّجاه الأوّل : انّ المنجّزيّة والمعذريّة للقطع نشأ عن التباني العقلائي بملاك انّ عدم ترتيب هذين الأثرين على القطع يفضي الى اختلال النظام. ومن هنا كان عدم ترتيب الأثرين على القطع قبيحا وانّ ترتيبهما حسن ، والحسن والقبح بناء على مبنى أصحاب هذا الاتّجاه من المتبنّيات العقلائيّة المعبّر عنها في المنطق بالقضايا المشهورة أو التأديبات الصلاحيّة. وحينئذ تكون الحجيّة الثابتة للقطع حجيّة جعليّة وليست ذاتيّة.

وأمّا اعتبار حجيّة القطع بهذا المعنى من موارد الحسن والقبح العقلائيين فهو ناشئ ـ كما أفاد السيد الخوئي رحمه‌الله ـ عن انّ عدم جعل الحجيّة ـ بهذا المعنى ـ للقطع يفضي الى اختلال النظام ، إذ لو لم يكن القطع منجّزا لما كان القاتل مثلا عن عمد مسئولا عن فعله ، إذ له أن يقول بأني وان كنت


قاطعا إلاّ انّي لست مسئولا عن ترتيب الأثر على القطع ، كما انّه لو لم يكن القطع معذّرا لكان لكلّ سلطان مثلا أن يعاقب رعيّته على فعل يعتقدون صوابيّته ، وهذا من الظلم القبيح ، وعندها لا يقوم للناس نظام لعدم وجود ضابط يعتمدونه.

وبهذا يتّضح انّ منجزيّة ومعذريّة القطع ناشئة عن التباني العقلائي ، وباعتبار انّ الشارع قد أمضى البناء على حجيّة القطع ، فإنّه حينئذ يكون حجّة شرعا.

الاتّجاه الثاني : انّ الحجيّة الثابتة للقطع انّما هي بحكم العقل وإلزامه ، فهو القاضي بلزوم ترتيب الأثر على القطع أي هو القاضي بمنجزيّته ومعذريّته.

وهذه النظريّة وان كانت ظاهرة من بعض العبائر إلاّ انّ السيد الصدر رحمه‌الله يشكك في إرادة أصحاب هذه العبائر لما هو ظاهر منها ، وذلك لوضوح فساد ما هو مستظهر منها ، إذ انّ العقل ليس من شأنه الحكم والإلزام وتنحصر وظيفته في الإدراك فحسب ، كما هو محرّر في محلّه.

وبناء على هذا الاتّجاه لو صحّت النسبة تكون الحجيّة الثابتة للقطع ذاتيّة ، والمقصود من الذاتيّة هو الذاتيّة في باب البرهان ، والذي يكون فيه وجود الموضوع وتقرّره كافيا في ثبوت الحكم له.

الاتّجاه الثالث : انّ الحجيّة الثابتة للقطع من اللوازم الذاتيّة له ، وذلك بمقتضى ما يدركه العقل من التلازم بين القطع وبين المنجزيّة والمعذريّة.

وهذا الاتّجاه يختلف عن الثاني من جهة انّ المدّعى في الإتجاه الثاني هو حاكميّة العقل بحجيّة القطع وأمّا هذا الاتّجاه فهو يبنى على انّه ليس للعقل سوى دور الإدراك للتلازم الذاتي بين القطع والحجيّة ، فالعقل بناء على هذه النظريّة يدرك انّ العمل بمؤدّى القطع حسن وانّ المؤاخذة على ترك العمل بمقتضى القطع حسن ، كما انّه يدرك قبح التخلّف عمّا يقتضيه القطع وقبح المؤاخذة على العمل بمؤدى القطع حتى


مع اتفاق منافاة القطع للواقع. وهذا الاتّجاه هو مذهب مشهور الاصوليّين كصاحب الكفاية والسيّد الخوئي رحمهما الله.

وحتى يتجلّى المراد من هذا الاتّجاه لا بدّ من بيان معنى اللازم الذاتي ، فنقول : انّ المراد من اللازم الذاتي ـ وسيأتي ايضاحه تحت عنوانه ـ هو المحمول الخارج عن الذات اللازم لها ، وذلك مثل الزوجيّة بالنسبة للأربعة ، فإنّ الزوجيّة ليست هي عين الأربعة كما انّها ليست جزء مقوما لها إلاّ انّها لازمة للاربعة بحيث يستحيل تخلّفها عن الأربعة. فالزوجيّة محمول خارج عن ذات الأربعة لازمة لها ، وهذه الملازمة ناشئة عن مقام الذات للأربعة ، فهي بمقتضى ذاتها تستلزم حمل الزوجيّة عليها ، وليس للعقل سوى دور الإدراك للملازمة.

وهكذا الكلام في القطع فإنّ الحجيّة نابعة عن مقام ذاته وان كانت مباينة لذات القطع ، فهي محمول خارج عن ذات القطع لازمة له ، ودور العقل متمحض في إدراك هذا التلازم ، فليس هو واسطة في الثبوت كما هو مقتضى الإتجاه الثاني بل هو واسطة في الإثبات.

هذا هو حاصل الاتّجاه الثالث في نحو ثبوت الحجيّة للقطع ، وللسيّد الصدر رحمه‌الله اتّجاه رابع تبنى فيه انّ الحجيّة ـ بمعنى المنجزيّة والمعذريّة ـ ليست لازما ذاتيا للقطع ، وحاصل ما أفاده رحمه‌الله.

انّ إدراك العقل لحسن العمل بمؤدى القطع وحسن المؤاخذة على ترك العمل بمؤداه ، وكذلك إدراكه لقبح المؤاخذة على العمل بمتعلّق القطع لو اتّفق منافاته للواقع هذا الإدراك العقلي ليس إدراكا للملازمة بين القطع بما هو قطع وبين الحجيّة ، إذ لا ريب في انّ القطع الغير المتّصل بأوامر المولى ليس منجزا ولا معذرا ، بمعنى انّه لا يقبح ـ بحسب الإدراك العقلي ـ عدم الجريان على وفق ما يقتضيه هذا النحو من القطع ، فلا يعدّ التخلّف عن الاوامر القطعيّة الصادرة عن غير المولى ظلما ، كما انّ العقل لا يدرك


حسن الجري على وفق الاوامر القطعيّة الصادرة عن غير المولى ، وما ذلك إلاّ لأنّ الظلم معناه سلب ذي الحقّ حقّه وانّ العدل اعطاء ذي الحقّ حقّه ، وهذا ما يستبطن لزوم ثبوت الحقّ لذي الاوامر في مرحلة سابقة عن إدراك حسن الجري على وفق أوامره القطعيّة وقبح التخلّف عن أوامره.

وبتعبير آخر : انّ العدل والظلم لا يصدقان إلاّ في حالة يكون هناك حقّ متقرّر يراعى فيكون ذلك عدلا أو لا يراعى فيكون ذلك ظلما ، وهذا ما يعبّر عن انّ الحجيّة ليست لازما ذاتيا للقطع بما هو قطع بل هو لازم للأوامر القطعيّة الصادرة عمّن له حقّ الجريان على وفق أوامره.

ومن هنا لا بدّ وان يتّجه البحث الى ما هو الدليل على ثبوت حقّ الطاعة لذي الأوامر القطعيّة فإن كان الدليل مقتضيا لثبوت ذلك الحقّ كانت أوامره القطعيّة حجّة أي منجّزة ومعذرة.

وبتعبير آخر : انّ التنجيز والتعذير ثابتان لاوامر من له حقّ الطاعة ويكون القطع وسيلة لإثبات صدور الاوامر ممّن له حقّ الطاعة ، فالقطع يكون وسطا في الإثبات وحجّة منطقيّة يتوسّل بها للتعرّف على صدور أوامر من له حقّ الطاعة.

وبهذا يتشكّل قياس نتيجته الحجيّة الاصوليّة ـ والتي هي المنجّزيّة والمعذريّة ـ وكبرى هذا القياس هو الاوامر الصادرة ممّن له حقّ الطاعة وصغراه القطع بصدور هذه الاوامر. وعندئذ يمكن اسناد الحجيّة للقطع باعتبار وقوعه صغرى في القياس المنتج للحجيّة أي المنجزيّة والمعذريّة.

والمتحصّل انّ الحجيّة ـ بهذا المعنى ـ ليست لازما ذاتيا للقطع بل انّها لازم ذاتي لأوامر من له حقّ الطاعة.

* * *

٢٨٥ ـ الحجيّة المجعولة

هي الحجيّة الثابتة للدليل بواسطة الجعل والاعتبار بحيث لولاه لما كان الدليل مؤهلا للدليليّة والكاشفيّة والوسطية في الإثبات.


وهذا النحو من الأدلّة المفتقرة الى الجعل والاعتبار هي الأدلّة الظنيّة والتي تكون درجة كشفها عن الواقع ناقصة. إذ من الواضح عدم صلاحيّة الدليل الظني لأن يقع وسطا في الإثبات أو يكون وسيلة للاحتجاج به على المدعى ، وذلك لعدم إحرازه للواقع.

نعم بواسطة الاعتبار يكون صالحا للدليليّة إلاّ انّ ذلك لا يعني صيرورته كاشفا تاما عن الواقع بالاعتبار ، وذلك لأنّ الشيء لا ينقلب عمّا هو عليه بمجرّد الجعل والاعتبار.

ثمّ انّ الأهلية التي يضفيها الجعل والاعتبار على الدليل الظني انّما تنشأ بسبب انّ الاعتبار تبان نفساني يتواطأ عليه العقلاء مثلا ، فيكون ذلك التباني ملزما لهم ، ولذلك يكون الدليل الظني الملزم لهم هو خصوص الدليل الذي وقع التباني على حجيّته دون الدليل الظني الذي لم يقع التباني منهم على حجيّته. وهذا بخلاف الدليل القطعي ، إذ انّ حجيّته ووسطيّته في الإثبات ذاتيّة ، فتكون صلاحيّته للاحتجاج به غير مفتقرة للتباني النفساني من العقلاء.

والمتحصّل ممّا ذكرناه انّ الحجيّة الثابتة لبعض الأدلّة الظنيّة تابعة للجعل والاعتبار ممّن له حقّ الاعتبار ، والكلام بعد ذلك يقع فيمن له حقّ الاعتبار.

والذي يهمّنا من هذا البحث هو تشخيص من له حقّ اعتبار الحجيّة للأدلّة الظنيّة المتصدّية للكشف عن الحكم الشرعي. فنقول :

انّ الذي عليه جمهور الاصوليّين هو انّ هذا الحقّ مختصّ بالشارع المقدّس ، فكلّ دليل ظني لم يجعل الشارع له الحجيّة فإنّه لا يصح ترتيب الأثر على مؤداه فلا يكون منجّزا لمتعلّقه كما لا يكون معذرا لو اتّفق منافاة مؤداه للواقع ، وذلك لأن مفروض الكلام انّ الذي يراد التعرّف عليه بواسطة الدليل الظني هو الحكم الشرعي فيكون حقّ اختيار الطريق المؤدي لذلك بيد الشارع ، فلا يصحّ


الاحتجاج على الشارع بما لا يرى له صلاحيّة لذلك كما لا يصحّ الاحتجاج على واحد من العقلاء بشيء لا يرى العقلاء صلاحيّته للاحتجاج به ، وذلك لما ذكرناه من انّ الحجيّة المجعولة تنشأ عن التباني النفساني ، وحينئذ تكون الحجيّة ثابتة على من قبل بذلك التباني أو من كان مسئولا عن قبوله ، فالحجيّة الثابتة بواسطة التباني العقلائي تكون ملزمة لكلّ واحد من العقلاء باعتبار وقوعه طرفا في ذلك التباني إمّا لقبوله به أو لكونه مسئولا عن قبوله. وأمّا ما كان خارجا عن التباني العقلائي فإنّه لا يصح الاحتجاج به على العقلاء ، وذلك لأنه حينئذ يكون إلزاما بما لم يلتزموا به.

وهذا الكلام ينسحب الى الأدلّة الظنيّة المتصدّية للكشف عن الأحكام الشرعيّة ، فإنّه لا يصحّ التعبّد بها والاحتجاج على الشارع بمؤداها ما لم يجعل الشارع لها الحجيّة ، إذ كيف يصحّ إلزامه بدليل لم يلتزم بحجيّته ودليليّته.

وأمّا ثبوت حقّ الاحتجاج للشارع بالأدلّة الظنيّة التي جعل لها الحجيّة فباعتبار حقّ المولويّة للمشرّع جلّ وعلا على عباده ، فكلّ واحد من العباد مسئولا عن ترتيب الأثر على الدليل الظني الذي اعتبر الشارع له الحجيّة ، ففي الوقت الذي لا يصحّ للعباد إلزام الشارع بالطرق الظنيّة التي لم يعتبر الشارع لها الحجيّة وان كانوا قد تبانوا على حجيّتها ، وذلك لعدم وقوعه طرفا في ذلك التباني في الوقت نفسه يكونون ملزمين بالتعبّد بالأدلّة الظنيّة التي جعل الشارع لها الحجيّة ، وذلك بمقتضى حقّ المولويّة للمشرع والتي هي من مدركات العقل العملي.

وبما ذكرناه يتّضح انّ الطرق الظنيّة المعتبرة بنظر العقلاء لا تكون صالحة للدليليّة على الحكم الشرعي ما لم تكن ممضاة من قبل الشارع ، كما اتّضح انّه لو اتّفق وجود دليل ظني غير معتبر بنظر العقلاء إلاّ انّه معتبر بنظر الشارع فإنّه يلزم التعبّد بمؤداه في موارد الكشف عن الحكم الشرعي.


٢٨٦ ـ الحرمة

الحرمة حكم تكليفي معناه الإلزام ـ ممّن له حقّ الطاعة ـ بترك فعل معيّن ، فالحرمة وصف للإلزام الذي يكون متعلّقه ترك الفعل.

ومنشأ التعبير عن هذا الحكم بالحرمة هو أنّ إلزام المولى لعبده بترك فعل معناه اعتبار العبد محروما من هذا الفعل ، إذ لو لا الحرمة لكان في سعة من جهة فعله أو تركه.

وأمّا الحرام فهو وصف للفعل المجعول عليه الحرمة ، فهو متعلّق الحرمة ، وذلك مثل الزنا وشرب الخمر والقرض الربوي ، فهذه كلّها أفعال وقعت متعلّقا للحرمة ولذلك لا توصف بالحرمة ، وإنّما توصف بالحرام أو بالمحرّمات ، والذي يصحّ وصفه بالحرمة هو الاعتبار الشرعي بالإلزام.

* * *

٢٨٧ ـ الحرمة الذاتيّة والحرمة العرضيّة

المراد من الحرمة الذاتيّة هو الحكم التكليفي الناشئ عن مفسدة في ذات متعلّقه.

فحرمة الزنا ذاتيّة لأنّها نشأت عن مفسدة في نفس فعل الزنا ، فحينما يكون متعلّق الحرمة مبغوضا ذاتا وواجدا لمفسدة في نفسه فالحرمة الواقعة عليه يعبّر عنها بالحرمة الذاتيّة.

وأمّا الحرمة العرضيّة فهي الحكم التكليفي الناشئ عن مفسدة فيما يقترن بمتعلّقه وإلاّ فالمتعلّق في حدّ ذاته غير واجد للمفسدة بل قد يكون واجدا للمصلحة لو خلّي ونفسه.

ومثاله السفر للمعصية أو الصلاة في الأرض المغضوبة ، فإنّ السفر لو خلّي ونفسه ليس مبغوضا وليس واجدا للمفسدة ولكن بسبب اقترانه بالمعصية أصبح مبغوضا لترشّح مفسدة المعصية منها إليه وهكذا الحال بالنسبة للصلاة في الأرض المغصوبة.

* * *


٢٨٨ ـ الحرمة الظاهريّة والحرمة الواقعيّة

نقل الشيخ الأنصاري رحمه‌الله عن الوحيد البهبهاني رحمه‌الله انّه نسب للأخباريين رحمهم‌الله مذاهب أربعة في الشبهة الحكميّة عند فقدان النصّ ، الأوّل : التوقّف ، والثاني : الاحتياط ، والثالث : الحرمة الظاهريّة ، والرابع : الحرمة الواقعيّة.

وما يهمنا في المقام هو بيان الفرق بين الحرمة الظاهريّة والحرمة الواقعيّة ، فنقول : انّ الشيخ الانصاري رحمه‌الله احتمل للفرق بينهما احتمالات ثلاثة بعد احتمال انّ المذاهب الأربعة تؤول الى معنى واحد وانّ الاختلاف انّما هو في التعبير بلحاظ الاختلاف في الأدلّة المعتمدة عندهم ، فمن قال بالتوقف تحفظ على التعبير الوارد في بعض الروايات المعبّر عنها بروايات التوقّف ، وهكذا الكلام فيمن قال بالاحتياط فإنّه تحفظ على التعبير الوارد في روايات الاحتياط ، وأمّا من قال بالحرمة الظاهريّة فإنّه اعتمد على روايات التثليث والتي تقتضي ترك اقتحام الشبهات ، وهذا ما يقتضي كون الحرمة ثابتة في ظرف الشك في الواقع ، وهو تعبير آخر عن الحكم الظاهري والذي موضوعه الشك في الحكم الواقعي ، وأمّا من قال بالحرمة الواقعيّة فمراده انّ المشتبه بنفسه موضوع للحرمة ، فالحكم بالحرمة موضوع ابتداء على ما هو مشتبه ، وهذا هو مبرّر التعبير بالحرمة الواقعيّة.

وأمّا الاحتمالات الثلاثة للفرق بين الحرمة الظاهريّة والحرمة الواقعيّة فهي كما يلي :

الاحتمال الاول : انّ مقصود القائل بالحرمة الظاهرية هو انّ هذه الحرمة لم تثبت إلاّ لموضوع لا يعلم ما هو حكمه الواقعي ، وهذا يقتضي كون الحرمة الثابتة له حرمة ظاهريّة ، إذ كلّ حكم يثبت في ظرف الجهل بما هو الحكم الواقعي للموضوع فهو حكم ظاهري.


وأمّا مقصود القائل بالحرمة الواقعيّة فهو انّ المشتبه بنفسه موضوع للحرمة لا انّ الحرمة ثابتة له باعتباره مجهول الحكم ، فعنوان المشتبه كسائر العناوين التي يعرضها الحكم ابتداء دون أن يؤخذ في عروض الحكم لها الشك في الحكم الواقعي ، ومتى ما كان كذلك فإنّ الحكم عندئذ يكون من الأحكام الواقعيّة.

الاحتمال الثاني : انّ القائل بالحرمة الظاهريّة يحتمل انّ الحكم الواقعي للمشتبه هو الإباحة فتكون أدلّة الاجتناب عن الشبهات قاضية بتحريم المشتبه ظاهرا.

وأمّا القائل بالحرمة الواقعيّة فيبني على أصالة الحظر في الأشياء المستفادة من حكم العقل بقبح التصرّف في مال الغير دون إذنه ، فهي مستند القائل بالحرمة الواقعيّة لا انّ مستنده روايات الاحتياط.

ومن الواضح انّ حكم العقل بأصالة الحظر في الاشياء حكم واقعي موضوعه التصرّف بالشيء الذي لم يأذن ذو الحقّ في التصرّف به ، وهذا هو أحد المباني في أصالة الحظر في الأشياء.

الاحتمال الثالث : انّ مقصود القائل بالحرمة الظاهريّة هو انّ حكم المشتبهات ظاهرا هو الحرمة مطلقا أي سواء كان المشتبه محرما واقعا أو كان حكمه الواقعي هو الإباحة ، ومن هنا يكون المرتكب للشبهات مستحقا للعقاب بنحو مطلق.

وأمّا القائل بالحرمة الواقعيّة فمقصوده عدم ثبوت الحرمة ظاهر للمشتبهات إلاّ انّه لو اتّفق ان كان المشتبه حراما واقعا فإنّ المكلّف يكون مستحقا للعقاب على تركه ، وأمّا مع عدم اتّفاق الحرمة الواقعيّة للمشتبه فإنّ المكلّف لا يكون مؤاخذا على تركه ، فأدلّة الاحتياط لا تقتضي أكثر من لزوم امتثال ما هو محرّم واقعا.

ولعلّ منشأ هذا القول هو انّ أدلّة الاحتياط لا تقتضي أكثر من الإرشاد ، ولذلك لا يترتّب عليه أكثر ممّا يترتّب على الواقع ، فموافقة أو


مخالفة الاحتياط ليس لهما موضوعيّة بل العبرة هو التحفّظ على الواقع ، فمتى ما اتّفق موافقة الواقع فإنّ الاحتياط لا يترتّب على مخالفته شيء ، ومتى ما اتّفق مخالفة الواقع فإنّ المكلّف لا يكون مستحقّا للعقوبة على مخالفة الاحتياط بل انّه يعاقب على مخالفة الواقع ، فحال الأمر بالاحتياط كحال أوامر الطبيب ، فكما انّ أوامر الطبيب لا يترتّب على الالتزام بها أو عدم الالتزام أكثر ممّا يترتب على الواقع فكذلك الاحتياط.

ثمّ علّق الشيخ الانصاري رحمه‌الله بأن هذا المبنى في فهم أدلّة الاحتياط تام لو لا انّ هذا القائل يذهب الى لزوم الاحتياط والحال انّ الصحيح عدم دلالة أدلّة الاحتياط على أكثر من أولويّة الالتزام به.

* * *

٢٨٩ ـ الحسن والقبح

ذكرت للحسن والقبح أربعة معان ، ثلاثة منها تؤول روحا الى بيان ما هو منشأ اتّصاف الأفعال بالحسن والقبح.

المعنى الاول : انّ الحسن هو ما يلائم النفس ويوجب انبساطها والقبيح هو ما يوجب انقباض النفس واستيحاشها. وبناء على هذا المعنى لا تختصّ صفتا الحسن والقبح بالأفعال الاختياريّة ، وذلك لأنّ ما يوجب انقباض النفس وانبساطها قد يكون فعلا اختياريا كالإحسان والإساءة ، وقد لا يكون كذلك كالمنظر الجميل والمنظر القبيح.

المعنى الثاني : انّ المراد من الحسن هو ما أوجب الكمال والمراد من القبيح هو ما أوجب النقص ، فكلّ فعل يساهم في كمال النفس مثلا فهو من الافعال المتّصفة بالحسن كما انّ كلّ فعل يساهم في سقوط النفس وتسافلها فهو من الأفعال المتّصفة بالقبح ، هذا لو كان المراد من الكمال هو الكمال في مصطلح علماء الأخلاق.

أمّا لو كان المراد من الكمال هو الغاية التي تنتهي عندها كلّ قوّة من


القوى بحيث تبلغ معها حدّ التماميّة فإن الحسن بناء على هذا المعنى يكون صفة لكلّ ما أوجب اشتداد قوّة من القوى وسار بها نحو غايتها ، كما انّ القبح يكون بمعنى ما يوجب تسافل قوّة من القوى والمسير بها على عكس ما تقتضيه غايتها.

وباعتبار انّ القوى متفاوتة فيما بينها وقد يكون كمال بعضها على حساب كمال الاخرى يلزم ان يتّصف الفعل الواحد ـ بناء على هذا المعنى ـ بالكمال والنقص في آن واحد ولكن باعتبارين.

مثلا : التروّي والتأمل والتأني أفعال تسير بالقوّة العاقلة نحو غايتها وكمالها إلاّ انّها توجب ضمور القوّة الغضبيّة والسبعيّة وتسير بها على عكس ما يقتضيه كمالها ، فهذه الأفعال حسنة بلحاظ القوّة العاقلة وقبيحة بلحاظ القوة الغضبيّة.

وكيف كان فالحسن والقبح بناء على المعنى الثاني بصورتيه لا يختصّ بالأفعال الاختياريّة كما هو واضح.

المعنى الثالث : انّ الحسن بمعنى المصلحة والقبح بمعنى المفسدة أو انّ الحسن ما كان موجبا للمصلحة والقبيح ما كان موجبا للمفسدة.

وهذا المعنى يحتمل مجموعة من الاحتمالات :

منها : انّ المصلحة بمعنى الكمال الشخصي لكلّ قوّة من القوى والمفسدة هي النقص الشخصي أيضا.

ومنها : انّ المصلحة تعني الكمال النوعي وهو النظام الاجتماعي الأتم ، وعليه يكون كلّ فعل يسير بالمجتمع نحو النظام الأتمّ فهو حسن لأنّه موجب للمصلحة النوعيّة ، والمفسدة تعني اختلال النظام الاجتماعي وتبدّده ، فكلّ فعل ينحدر بالمجتمع نحو السقوط فهو قبيح ، بل كلّ فعل يمنع عن الصعود بالنظام الاجتماعي الى الكمال فهو قبيح.

ومنها : انّ المصلحة بمعنى ما يوجب الكمال الشخصي المتّصل بالنفس على ان لا يتنافى ذلك مع الكمال النوعي وان تنافى مع الكمال لسائر القوى ،


وبتعبير آخر : المصلحة هي الكمال الشخصي الملائم للكمال النوعي والمفسدة ما كان عكس ذلك.

ولخروج هذا البحث عن محلّ الكلام نكتفي بهذا المقدار.

المعنى الرابع : انّ الحسن هو كلّ فعل يدرك العقل انبغاء فعله ، والقبيح هو ما يدرك العقل انبغاء تركه ، بمعنى انّ العقل يدرك استحقاق فاعل ما ينبغي فعله المدح واستحقاق فاعل ما ينبغي تركه الذم.

وواضح انّ الحسن والقبح بهذا المعنى يختص بالأفعال الاختياريّة ، كما انّ الحسن والقبح بهذا المعنى من مدركات العقل العملي وهو الذي وقع محلا للنزاع ، فالمعروف بين الاصوليين هو انّ الحسن والقبح من مدركات العقل العملي وانّهما من صفات بعض الأفعال الذاتيّة ، وذهب لذلك جمع من المعتزلة أيضا.

وفي مقابل هذه الدعوى ذهب جمع من الأشاعرة الى انّ صفتي الحسن والقبح ليستا من صفات الأفعال الذاتيّة ، فليس ثمّة فعل يقتضي بذاته الحسن أو القبح بل انّهما من الصفات التي تعرض الأفعال بواسطة الشارع ، فكلّ فعل حكم الشارع بحسنه فهو حسن لتحسين الشارع له لا لأنّه يقتضي الحسن بنفسه ، وكلّ فعل حكم الشارع بقبحه فهو قبيح لتقبيح الشارع له لا لأنّه يقتضي القبح بذاته.

وأمّا الأخباريّون فقد ذهبوا الى قصور العقل عن درك واقع الأفعال من حيث اتّصافها بالحسن والقبح ، فهم وان كانوا لا يمنعون عن انّ الأفعال قد تكون متّصفة ذاتا بالحسن والقبح في نفس الأمر والواقع إلاّ انّ إدراك ذلك بواسطة العقل غير ممكن لقصوره عن الإحاطة بواقع الأشياء. فالوسيلة التي يمكن بواسطتها التعرّف على واقع الأفعال من حيث اتّصافها بالحسن أو القبح هي الشارع ، فكلّ ما أخبر الشارع عن حسنه فهو حسن واقعا وكلّ ما أخبر الشارع عن قبحه فهو قبيح واقعا ، وبهذا يمتاز مبنى الإخباريين عن مبنى الأشاعرة.


وهناك مبنى رابع ذهب اليه مشهور فلاسفة المسلمين ، وهو انّ الحسن والقبح ليسا من مدركات العقل العملي ، وهذا معناه انّهما ليسا من الصفات الذاتيّة للأفعال وانّما هما من القضايا المشهورة المعبّر عنها بالآراء المحمودة ، فالحسن هو ما تبانى العقلاء على حسنه ، كما انّ القبيح هو ما تبانى العقلاء على قبحه. وهذا يرتبط بنكات عقلائيّة تختلف باختلاف الأنظمة الاجتماعيّة والظروف الموضوعيّة.

وبهذا المعنى يكون الحسن والقبح من الصفات الاعتباريّة للأفعال والتي ليس لها واقع وراء اعتبار العقلاء ، وهذا المعنى لا يختلف عن مبنى الأشاعرة إلاّ من حيث المعتبر ، فالمعتبر بنظر مشهور فلاسفة المسلمين هم العقلاء ، وأمّا بنظر الأشاعرة فالمعتبر هو الشارع المقدّس.

* * *

٢٩٠ ـ الحسن والقبح الذاتيان

المراد من ذاتيّة الحسن والقبح انّهما من الصفات الواقعيّة لمتعلّقاتهما ، بمعنى انّ الحسن والقبح ينشئان عن مقام الذات لبعض الأفعال.

والمقصود من الذاتيّة في المقام هو الذاتي في باب البرهان لا الذاتي في باب الكليّات الخمس ، بمعنى انّ الحسن ـ مثلا ـ ليس هو عين الفعل المتّصف به ، كما انّه ليس جزؤه المقوم بل بمعنى انّ وجود ذات الفعل كاف في اتّصافه بالحسن ، وهذا هو الذاتي في باب البرهان.

وهذه الدعوى هي مبنى مشهور الاصوليين إذا أضفنا اليها انّ ذاتيّة الحسن والقبح للأفعال مدركه بواسطة العقل العملي. ولكي تتجلّى هذه الدعوى أكثر نقول انّهم قسموا الأفعال الى ثلاثة أقسام :

القسم الأوّل : أن يكون الفعل علّة تامّة في عروض صفة الحسن والقبح عليه ، بمعنى أن لا يكون هناك عنوان آخر غير ذات الفعل يساهم في ثبوت صفة الحسن والقبح للفعل ، كما انّه ليس ثمّة مانع يمنع عن اتّصاف الفعل


بالحسن والقبح ، فلذات الفعل تمام التأثير في ان يتّصف بالحسن أو القبح. وهذا النحو من الأفعال هو الذي يكون الحسن أو القبح له ذاتي.

وتلاحظون انّ الذاتي في المقام هو الذاتي في باب البرهان ، وذلك لأنّ الحسن مثلا ليس مقوّما ذاتيا للفعل وإنّما هو لازم ذاتي له لا يتخلّف عنه بحال من الأحوال ، إذ انّ افتراض كون التلازم بنحو العلّيّة يقتضي ذلك ، فالفعل إذن علّة لعروض صفة الحسن عليه ، فالحسن محمول خارج عن ذات الفعل لازم له وهذا التلازم نشأ عن مقام ذات الفعل.

ومثال هذا النحو من الأفعال هو العدل والظلم ، فالعدل علّة تامّة لعروض صفة الحسن عليه ، كما انّ الظلم علّة تامّة لعروض عنوان القبح عليه.

القسم الثاني : ان يكون الفعل مقتضيا بذاته لعروض صفة الحسن أو القبح عليه ، وهذا معناه انّ الفعل غير مستقلّ بذاته في التأثير بل انّ تأثير اقتضائه لأثره منوط بانتفاء الموانع ، فمتى ما توفر الفعل على هاتين الحيثيّتين لزم عن ذلك عروض صفة الحسن أو القبح عليه.

الحيثيّة الاولى : ناشئة عن مقام ذاته وهي الاقتضاء للحسن والقبح.

الحيثيّة الثانية : هي انتفاء الموانع الموجبة للحيلولة عن تأثير المقتضي الذاتي لأثره.

ومثال هذا القسم من الافعال الصدق والكذب ، فالصدق لو خلّي وذاته لكان موجبا لعروض صفة الحسن عليه إلاّ انّه قد يطرأ عليه عنوان يمنع عن اتّصافه بالحسن ولو لا عروض ذلك العنوان لكان متّصفا بالحسن ، فالحسن اذن ليس لازما ذاتيا للصدق وإلاّ لما تخلّف عنه ، إذ انّ اللازم الذاتي لا يتخلّف عن ملزومه بحال من الأحوال ، وهكذا الكلام في الكذب.

القسم الثالث : أن لا يكون الفعل علّة تامّة في الاتّصاف بالحسن والقبح كما انّه ليس مقتضيا لهما إلاّ انّه قد


يتّصف بأحدهما بواسطة خارجيّة في الثبوت ، بمعنى انّ الفعل لو خلّي وذاته لا يكون علّة لأن يتّصف بالحسن أو القبح كما لا يكون مقتضيا لذلك إلاّ انّه قد تطرأ على هذا الفعل بعض العناوين فتؤثر في اتّصافه بالحسن أو القبح إمّا بنحو التأثير الاقتضائي أو بنحو التأثير العلّي.

ومثال هذا القسم من الأفعال شرب الماء ، فهو بذاته لا يؤثر في أن يتّصف بالحسن أو القبح إلاّ انّه قد يطرأ عليه عنوان يقتضي اتّصافه بالقبح ، كما لو كان الشرب معصية لمن له حقّ الطاعة ، فطرو عنوان المعصية على شرب الماء صار واسطة في ثبوت صفة القبح له.

وباتّضاح الأقسام الثلاثة يتّضح انّ ذاتيّة الحسن والقبح انّما هو للقسم الأوّل من الأفعال ، وبه يتّضح انّ دعوى مشهور الاصوليّين انّما هي ثبوت الحسن والقبح الذاتيّين بنحو الموجبة الجزئيّة في مقابل السلب الكلّي المدعى من قبل الأشاعرة ومشهور فلاسفة المسلمين القائلين بأنّ الحسن والقبح من القضايا المشهورة المعبّر عنها بالآراء المحمودة والتأديبات الصلاحيّة.

* * *

٢٩١ ـ الحسن والقبح العقلائيّان

قلنا انّ مشهور فلاسفة المسلمين أنكروا انّ صفتي الحسن والقبح من الصفات الذاتيّة والواقعيّة للأفعال ، وقالوا انّ منشأ اتّصاف بعض الأفعال بالحسن والقبح انّما هو التباني العقلائي وبهذا تكون صفتا الحسن والقبح من الصفات الاعتباريّة والتي ليس وراء اعتبار العقلاء لها واقع.

وبهذا يكون مبنى مشهور الفلاسفة مشابه الى حدّ كبير لمبنى الاشاعرة ، إذ انّ الأشاعرة أيضا يبنون على انّ الحسن والقبح من الصفات الاعتباريّة التي ليس لها واقع وراء اعتبار المعتبر ، غايته انّ المعتبر ـ بصيغة الفاعل ـ بنظر الأشاعرة هو الشارع وأمّا بنظر مشهور الفلاسفة فالمعتبر هم العقلاء.


ولغرض اتّضاح مبنى الحسن والقبح العقلائيّين لا بدّ من بيان المراد من القضايا المشهورة. فنقول :

انّ المراد من المشهورات هو ما تطابقت عليه آراء الناس جميعا إمّا بما هم عقلاء أو بما هم انفعاليّون أو بما هم واقعون تحت تأثير العادات والتقاليد المتوارثة أو لاقتضاء الخلقيّات لذلك أو بسبب التلقين أو غير ذلك ، وتطلق القضايا المشهورة أيضا على القضايا التي تطابقت عليها آراء صنف من الأصناف أو مجتمع من المجتمعات.

وقد صنّفت القضايا المشهورة الى قسمين :

القسم الاول : المشهورات بالمعنى الاعم : ويقصدون منها القضايا التي وقع التطابق عليها بقطع النظر عن منشأ ذلك التطابق والتباني ، فقد يكون منشأ التباني هو انّها قضايا يقينيّة بديهيّة من نحو الاوّليات أو الوجدانيات أو المتواترات وهكذا ، كما قد يكون منشأ التباني والتطابق هو انّها من الآراء المحمودة من نحو الخلقيّات أو التأديبات الصلاحيّة والتي لا تعدو عن كونها متبنيات عقلائيّة ليس لها وراء اعتبار العقلاء واقع.

القسم الثاني : المشهورات بالمعنى الأخصّ ، ويعبّر عنها بالمشهورات الصرفة ـ كما ذكر ذلك المحقّق المظفّر رحمه‌الله ، والمقصود منها القضايا التي وقع التطابق والتباني عليها من قبل العقلاء دون أن يكون لها وراء تباني العقلاء واقع ، بمعنى انّها ليست من القضايا المدركة بواسطة العقل وانّما هي متبنّيات عقلائيّة أو عرفيّة تقتضيها في بعض الأحيان المصلحة النوعيّة والتي ترتبط بحفظ النظام الاجتماعي ، ويعبّر عن مثل هذه القضايا بالتأديبات الصلاحيّة وبالآراء المحمودة ، كما قد تقتضيها الانفعالات النفسانيّة كالحياء والغيرة ، أو تقتضيها العادات المتوارثة كطبيعة لباس الرجال ، ويعبّرون عن الاولى بالانفعاليّات وعن الثانية بالعادات.

والجامع المشترك بين تمام


المشهورات بالمعنى الأخصّ على اختلاف مناشئها انّها ليست قضايا برهانيّة ناشئة عن مدركات العقل وليس لها واقع وراء التباني والتطابق ، فلو اتّفق ان انتفت تلك المناشئ لما كان للعقل إدراك تلك القضايا.

ومع اتّضاح المراد من القضايا المشهورة نقول : انّ مشهور فلاسفة المسلمين ادعوا انّ اتّصاف بعض الأفعال بالحسن والقبح ـ كاتّصاف العدل بالحسن والظلم بالقبح ـ انّما هو من القضايا المشهورة بالمعنى الأخص ، وعليه لا يكون وراء اشتهارها واقع ولا تكون من مدركات العقل العملي ، إلاّ انّهم قالوا انّ الحسن والقبح من القضايا الناشئة عن التأديبات الصلاحيّة والآراء المحمودة والتي تقتضيها المصلحة النوعيّة المرتبطة بحفظ النظام الاجتماعي.

وبتعبير آخر : انّ الحسن والقبح من القضايا التي تطابقت عليها آراء العقلاء بما هم عقلاء لا بما هم انفعاليّون مثلا ولا بما هم واقعون تحت تأثير العادات أو غير ذلك ، بل لأنّهم وجدوا انّ مجموعة من الأفعال تساهم في التحفّظ على النظام أو تصعد به الى مستوى الكمال الاجتماعي ، وانّ هنا مجموعة من الأفعال تنحدر بالمجتمع نحو السقوط وتؤدي الى اختلال نظامه ، فلأنّهم وجدوا ذلك بنوا على حسن الاولى وقبح الاخرى ، ويبقى اتّصاف هذه الأفعال بالحسن والقبح مطردا ما دامت لها هذه النتائج ، أمّا لو اتّفق انتفاء هذه النتائج عنها أو اتّفق تبدّلها الى الضد فإنّ اتّصافها بالحسن والقبح لا يبقى على حاله بل يكون اتّصاف الأفعال بهما تابع لما يترتّب على هذه الأفعال من نتائج.

وهكذا لو قدّر عدم وجود مجتمع فإنّه لا تباني حينئذ من العقلاء ، أو بتعبير آخر : انّ العقل لا يدرك اتّصاف الأفعال بالحسن والقبح لو لم يكن هناك وجود اجتماعي وانّ ادراك العاقل للحسن والقبح في ظرف الوجود الاجتماعي انّما هو باعتبار


انسلاكه في اطار النظام الاجتماعي.

فالبناء على حسن العدل وقبح الظلم ليس كالتصديق باستحالة اجتماع النقيضين أو أنّ المعلول لا يتخلّف عن علّته التامّة ، فإنّ التصديق والبناء على هاتين القضيّتين ناشئ عن إدراك العقل ولا صلة للتصديق بهما بالتباني والتطابق العقلائي ، كما لا يرتبط التصديق بهما بما يترتّب عليهما من نتائج ، كما انّ الحكم فيهما لا يتغيّر بتغيّر الظروف ، وما ذلك إلاّ لأنّ وراء إدراكهما واقعا متقرّرا في نفس الأمر.

هذا هو حاصل مبنى مشهور الفلاسفة في الحسن والقبح ، وقد وقع الخلط في كلمات الشيخ المظفر رحمه‌الله من حيث انّه ادعى انّ الحسن والقبح من مدركات العقل العملي وفسّر ذلك بالقضايا المشهورة والآراء المحمودة ، وأصرّ على انّ الحسن والقبح من القضايا التي تطابقت عليها آراء العقلاء وانّه ليس وراء تطابقهم واقع ، وهذا ما يعني انّها من المشهورات بالمعنى الأخص ولا صلة لها بمدركات العقل العملي ، إذ لا ريب انّ لمدركات العقل العملي واقعا متقررا في نفس الأمر ، ولا يرتبط بالبناء العقلائي الناشئ عن التأديبات الصلاحيّة أو غيرها.

فالصحيح انّ هنا مبنيين مختلفين اختلافا جوهريا ، المبنى الاول هو مبنى مشهور الاصوليّين القائل بأنّ الحسن والقبح من الصفات الواقعيّة الذاتيّة المدركة بواسطة العقل العملي ، والتي لا تخضع لاعتبار العقلاء كما انّها ليست ناشئة عن اعتبار الشارع المقدّس.

والمبنى الآخر هو انّ الحسن والقبح من القضايا المشهورة والآراء المحمودة المتبناة من قبل العقلاء وليس لها وراء تباني العقلاء واقع ، وهذا هو مبنى مشهور الفلاسفة وبعض الاصوليّين كالمحقّق الأصفهاني رحمه‌الله. ومن هنا يعبّر عن الحسن والقبح بحسب هذا المبنى بالحسن والقبح العقلائيّين ، ووصفهما بالعقليّين تسامح محض.

* * *


٢٩٢ ـ الحسن والقبح العقليّان

والمراد من الحسن والقبح العقليّين هو انّ العقل يدرك انّ من الأفعال ما ينبغي فعلها وانّ من الأفعال ما ينبغي تركها ، وانّ من يفعل ما ينبغي فعله فهو مستحقّ عقلا للمدح ، ومن يفعل ما ينبغي تركه فهو مستحقّ للذم.

وبهذا يكون الحسن والقبح من مدركات العقل العملي بل قيل انّ التحسين والتقبيح هما عين العقل العملي ، وتستبطن هذه الدعوى ـ كما قلنا ـ انّ اتّصاف بعض الأفعال بالحسن والقبح ذاتي ، أي ناشئ عن مقام الذات ، وهذا هو مبنى مشهور الاصوليّين.

وقد عرّف الشهيد الصدر رحمه‌الله الحسن والقبح ـ بحسب مبنى الاصوليّين ـ بالضرورة الخلقيّة الثابتة في لوح الواقع بقطع النظر عن اعتبار أي معتبر ، وأفاد أنّها مباينة للضرورة التكوينيّة من حيث الماهيّة ومن حيث المرتبة ، فالضرورة التكوينيّة تعني الوجوب المقابل للإمكان والامتناع.

وأمّا الضرورة الخلقيّة فهي بمعنى اتّصاف الفعل بانبغاء فعله أو بانبغاء تركه ، وبتعبير آخر : انّ الضرورة الخلقيّة تعني انّ الفعل متّصف ذاتا بأولويّة فعله أو تركه أو قل بأن الأخرى به ان يفعل أو بأن لا يفعل.

ومن هنا تكون الضرورة الخلقيّة في طول السلطنة والتي هي بمعنى الاختيار بحسب مبنى السيّد الصدر رحمه‌الله.

وبهذا يتّضح معنى انّ الضرورة الخلقيّة مختلفة عن الضرورة التكوينيّة رتبة ، إذ انّ الضرورة التكوينيّة والتي هي بمعنى الوجوب واللابدّيّة تقع في عرض السلطنة وأمّا الضرورة الخلقيّة فهي في طول السلطنة باعتبار انّ الحسن والقبح صفات الأفعال الناشئة عن الاختيار « السلطنة ».

وببيان آخر : انّ الموروث عن الفلسفة هو انّه إذا نسب شيء لآخر ، فإمّا أن يكون ذلك الشيء ضروري الثبوت للشيء الآخر : أو ضروري


الانتفاء أو لا هو ضروري الثبوت ولا هو ضروري الانتفاء ، فالأوّل يعبّر عنه بالوجوب ، والثاني يعبّر عنه بالامتناع ، والثالث يعبّر عنه بالإمكان ، وهذه القسمة عقليّة حاصرة.

ثمّ انّ نسبة الفعل الى فاعله لا تكون إلاّ بنحو الوجوب والضرورة التكوينيّة ، بمعنى انّ الفعل ما لم يجب لا يوجد ، فلا بدّ أن تكون النسبة بين الفعل « المعلول » وفاعله « العلّة » هي الضرورة وإلاّ استحال وجود الفعل ، ولا يختلف الحال في ذلك بين الأفعال الاختياريّة وبين الأفعال غير الاختياريّة ، فهي على حدّ سواء من جهة هذه القاعدة وهي « انّ الشيء ما لم يجب لا يوجد » ، ولهذا وقعوا في مشكلة عويصة جدا ، وهي كيفيّة تفسير معنى الاختيار في الافعال الاختياريّة.

وأمّا السيّد الصدر رحمه‌الله فهو في راحة من هذه المشكلة ، وذلك لأنّه ادّعى انّ النسبة بين الفاعل وفعله قد تكون الوجوب وقد تكون الامتناع وهذه النسبة هي المعبّر عنها بالضرورة التكوينيّة ، وقد تكون النسبة بين الفاعل وفعله هي نسبة السلطنة ، والاولى هي نسبة الفاعل الى الأفعال غير الاختياريّة ، وهي موضوع قاعدة « انّ الشيء ما لم يجب لا يوجد » ، والثانية هي نسبة الفاعل المختار الى الأفعال الاختياريّة وهي غير مشمولة لقاعدة « انّ الشيء ما لم يجب لا يوجد ».

وعليه يكون تمام القاعدة هو « انّ الشيء لا يوجد إلاّ بالوجوب أو السلطنة » ، والوجوب معناه لا بدّية الفعل ، وأمّا السلطنة فهي بمعنى « انّ له أن يفعل وله أن لا يفعل » ، والتباين بين الوجوب وبين السلطنة واضح بعد بيان المراد منهما.

وعليه يتّضح الفرق بين الضرورة التكوينيّة والضرورة الخلقيّة ، فالأولى هي نسبة الفعل غير الاختياري الى الفاعل ، وأمّا الثانية فهي نسبة واقعيّة بين السلطنة وبين الفعل ، إذ انّ


الضرورة الخلقيّة تعني ـ كما قلنا ـ اتّصاف الفعل الاختياري بأوليّة فعله أو تركه في مقابل الفعل الاختياري الغير المتّصف بأولويّة فعله أو تركه ، وان كان كلاهما واقعان تحت السلطنة اذا صحّ التعبير.

ومن هنا كانت الضرورة الخلقيّة مباينة للضرورة التكوينيّة ماهية ومختلفة معها رتبة ، إذ انّ الواقع في رتبة الضرورة التكوينيّة هو السلطنة ، وأمّا الضرورة الخلقيّة فهي متأخّرة رتبة عن السلطنة.

والمتحصّل ممّا ذكرناه انّ الحسن والقبح من الصفات الواقعيّة لبعض الأفعال الاختياريّة ، فالفعل الاختياري المتّصف واقعا بأولويّة فعله حسن ، والفعل الاختياري المتّصف بأولويّة تركه واقعا قبيح ، وأولويّة الفعل أو الترك ـ والذي هو الضرورة الخلقيّة أو الحسن والقبح ـ لا يتعقّل إلاّ مع افتراض السلطنة والتي هي بمعنى انّ للفاعل ان يفعل وله ان لا يفعل ، إذ لو قلنا انّ النسبة بين الفعل والفاعل هي الوجوب والضرورة التكوينيّة دائما لما كان هناك معنى معقول لأولويّة الفعل ، فإمّا أن يكون الفعل بالنسبة لفاعله ضروري الوجود أو ضروري العدم.

هذا حاصل ما أفاده السيّد الصدر رحمه‌الله في مقام بيان الحسن والقبح العقليّين ، ثمّ أفاد انّ المشهور عرّفوا الحسن والقبح بأن الحسن هو الذي يصحّ المدح على فعله والقبيح هو ما صحّ الذم على فعله.

وأورد على هذا التعريف بأنّ من المقطوع به عدم صحّة ذم فاعل القبيح عند جهله بقبحه وتوهّمه حسنه ، وعدم صحّة مدح فاعل الحسن عند جهله بحسنه وتوهمه قبحه ، فإذا قلنا انّ الحسن معناه صحّة المدح وانّ القبح معناه صحّة الذم لزم من ذلك أن يكون الحسن والقبح منوطين بعلم الفاعل ، إذ انّ صحّة المدح والذم منوطان بذلك.

* * *


٢٩٣ ـ أصالة الحظر

قد أوضحنا المراد منها تحت عنوان « أصالة الإباحة ».

* * *

٢٩٤ ـ حقّ الطاعة

لا ريب في ثبوت حقّ الطاعة للمولى جلّ وعلا وانّ ذلك هو مقتضى ما يدركه العقل العملي القطعي ، فالبحث في حقّ الطاعة انّما هو عن حدود هذا الحقّ ، فنقول انّ الأقوال في ذلك ثلاثة.

الأوّل : انّ حقّ الطاعة يتحدّد بالتكاليف المقطوعة ، بمعنى انّ كلّ قطع يكشف عن التكليف المولوي فهو ينقح موضوع حقّ الطاعة دون اعتبار نوع خاص من القطع ، فالقطع سواء نشأ عن مقدمات عقلائيّة أو غير عقلائيّة وسواء كان منشؤه الكتاب والسنّة أو كان منشؤه المدركات العقليّة فإنّه منجّز للتكليف. وهذا القول تبناه أكثر الاصوليين.

الثاني : انّه ليس كلّ قطع بالتكليف ينقّح موضوع حقّ الطاعة وانّما الذي ينقّح موضوع حقّ الطاعة للمولى جلّ وعلا هو بعض القطوعات دون بعض ، وهذا مثل التفصيل الذي ذهب إليه بعض الأعلام بين القطع الذي ينشأ عن مبرّرات عقلائيّة والقطع الذي ينشأ عن مبرّرات غير عقلائيّة « قطع القطاع » فالأوّل يثبت به حقّ الطاعة دون الثاني. وكالتفصيل الذي ذهب اليه بعض الاخباريّين من انّ القطع الناشئ عن غير الكتاب والسنّة لا يثبت به التكليف ، فليس للمولى حقّ الطاعة فيما ينكشف بواسطة المدركات العقليّة.

الثالث : انّ مطلق الانكشاف منقّح لموضوع حقّ الطاعة سواء كانت مرتبته هي القطع والذي هو أعلى مراتب الانكشاف أو كانت مرتبته الظن أو الاحتمال ، وهذا هو مبنى السيّد الصدر رحمه‌الله.

وتلاحظون انّ هذه الأقوال الثلاثة تتفاوت من حيث ما هي حدود حقّ


الطاعة فالقول الثاني يضيف من دائرة حقّ الطاعة بحيث لا يكون للمولى جلّ وعلا حقّ الطاعة إلاّ في بعض موارد القطع وأمّا القول الاول فهو يثبت حقّ الطاعة بنحو أوسع من القول الثاني ، إذ انّ حقّ الطاعة معه ثابتة في تمام موارد القطع بالتكليف المولوي ، وأمّا القول الثالث فقد توسّع في حدود حقّ الطاعة بحيث بنى على انّ مطلق الانكشاف ينقّح موضوع حقّ الطاعة سواء كان بمرتبة القطع أو بمرتبة الظنّ أو الاحتمال وان حقّ الطاعة للمولى جلّ وعلا لا يصحّ تنظيره بحقّ الطاعة للموالي العرفيين والذي يختصّ بموارد القطع ، وذلك لأنّ هذا الحقّ انّما نشأ عن الاعتبار العقلائي ، ولذلك فهو يتحدّد بحدود ما هو معتبر عقلائيا ، وحيث انّ الاعتبار العقلائي ـ المتّصل بعلاقة الموالي العرفيين بالعبيد ـ قام على اساس ثبوت الحقّ في اطار الاوامر المقطوعة فإنّ هذا الحقّ الاعتباري يتحدد بحدود ما هو المعتبر عندهم.

وأمّا حق الطاعة للمولى جلّ وعلا فهي من اللوازم الذاتيّة لمولويّة المولى وحينئذ فهي لا تخضع للاعتبار العقلائي ، بل لا بدّ من ملاحظة حدود هذا الحقّ على أساس ما هو الثابت واقعا بمقتضى المدركات العقليّة.

وعند ما يتّجه البحث عن ما هو مقتضى المدركات العقليّة نجد انّ عقولنا تدرك انّ حقّ الطاعة للمولى جلّ وعلا لا تتحدد بالتكاليف المقطوعة بل انّها تتّسع لتشمل مطلق التكاليف الواصلة ولو بمستوى الظن بل والاحتمال ، وهذا المدرك العقلي البديهي لا يفتقر إلى أكثر من تصور الموضوع والحكم وعندئذ يحصل الجزم بالنسبة ، فهي من القضايا الضروريّة التي قياستها معها.

ثم انّ هنا أمرا لا بدّ من التنبيه عليه وهو انّ مبنى مشهور الاصوليّين هو انّ حقّ الطاعة للمولى ثابت حتى في موارد احتمال التكليف إذا لم يكن مؤمنا عنه ، غايته انّ ثمّة مؤمنا عقليا عن التكاليف المحتملة وهو ما يدركه


العقل من قبح العقاب بلا بيان المقتضي للبراءة عن التكاليف غير المعلومة ، وتظهر الثمرة في موارد عدم امكان جريان البراءة العقليّة والشرعيّة حيث لا مؤمن حينئذ عن التكليف المحتمل ، كما في الشبهات الحكميّة قبل الفحص ، وقد أوضحنا ذلك في بحث « الاحتياط العقلي ».

* * *

٢٩٥ ـ مسلك حقّ الطاعة

ويراد منه الإشارة الى القاعدة العقليّة المقتضية للاحتياط العقلي في موارد الشك في التكليف ، وذلك في مقابل قاعدة قبح العقاب بلا بيان المقتضية للبراءة العقليّة.

وحاصل المراد من مسلك حقّ ـ والذي تبناه السيد الصدر رحمه‌الله في مقابل مشهور الاصوليّين ـ هو انّ العقل يدرك منجّزية التكليف المنكشف بأيّ مرتبة من مراتب الانكشاف ، أي سواء كان بمرتبة القطع أو الظن أو حتى الاحتمال.

ومن هنا كانت القاعدة الاوليّة عند الشك في التكليف هو الاحتياط العقلي إلاّ أن يرد عن الشارع ما ينفي مسئوليّة المكلّف عن التكليف المشكوك ـ كما هو كذلك ـ وحينئذ يكون المرجع في نفي المسئوليّة عن التكاليف المشكوكة هو خصوص البراءة الشرعيّة وإلاّ فمقتضى الأصل العقلي الأولي بقطع النظر عن أدلّة البراءة الشرعيّة هو الاحتياط.

ومنشأ تبنّي السيّد الصدر رحمه‌الله لهذا المبنى هو ما ادّعاه من اتّساع حدود حقّ الطاعة وشموله لموارد التكاليف المظنونة والتكاليف المحتملة.

وفي مقابل هذه الدعوى ذهب مشهور الاصوليّين الى انّ القاعدة الاوليّة عند الشك في التكليف هو البراءة العقليّة ، وذلك بمقتضى قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وحينئذ لا يختصّ المرجع في موارد الشك في التكليف بالبراءة الشرعيّة بل يمكن الرجوع في مثل هذه الموارد الى البراءة العقليّة.


ولمزيد من التوضيح راجع عنوان « الاحتياط العقلي » « وقاعدة قبح العقاب بلا بيان » « حقّ الطاعة ».

* * *

٢٩٦ ـ أصالة الحقيقة

وهي من الاصول اللفظيّة التي يتمسّك بها العقلاء عند الشك فيما هو المراد ، إذ انّ تمام الاصول اللفظيّة يلجأ العقلاء عند الشك في المراد ، إمّا من جهة أصل المراد أو من جهة حدوده.

وأصالة الحقيقة تكون مرجعا لتحديد أصل المراد ، وموردها الشك في مراد المتكلّم من حيث انّه أراد المعنى الحقيقي من اللفظ المستعمل أو أراد المعنى المجازي ، وهذا ما يستبطن كون المعنى الحقيقي للفظ مشخصا لدى المتلقي للفظ ، غايته انّ مراد المتكلّم هو المجهول لدى المتلقي للفظ ، إذ لعلّ المتكلّم أراد المعنى الحقيقي ولعلّه أراد المعنى المجازي ، وذلك لأنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة والمجاز. ومن هنا يأتي دور أصالة الحقيقة لتحديد المراد ، بمعنى انّ العقلاء يتمسّكون في هذا الفرض بأصالة الحقيقة لإثبات انّ مراد المتكلّم من اللفظ المستعمل هو المعنى الحقيقي.

والمتحصّل ممّا ذكرناه انّ موضوع أصالة الحقيقة هو الشك في مراد المتكلّم مع عدم قيام قرينة على المجاز ، إذ لا معنى للتمسّك بأصالة الحقيقة مع قيام القرينة على المجاز ، وذلك لأنّ افتراض قيام القرينة معناه انتفاء الشك في المراد ، وهذا ما ينفي موضوع أصالة الحقيقة ، كما انّ احتفاف اللفظ المستعمل بما يصلح للقرينيّة مانع عن التمسّك بأصالة الحقيقة ، وذلك لأنّ أصالة الحقيقة انّما تنقّح الظهور في إرادة المتكلّم للمعنى الحقيقي ومع وجود ما يصلح للقرينيّة على خلاف ذلك لا يتنقّح الظهور في إرادة المتكلّم للمعنى الحقيقي لاحتمال اعتماد المتكلّم على قرينيّة الموجود لبيان مراده ، نعم لا مجال لاستظهار إرادته للمجاز بعد ان لم تكن القرينة ظاهرة في القرينيّة ، وبذلك يكون مراد المتكلّم من اللفظ مجملا.


والعمدة انّ العقلاء انّما يتمسّكون بأصالة الحقيقة عند ما لا تكون ثمّة قرينة أو ما يصلح للقرينيّة على المجاز ، ومنشأ ذلك هو عدم انعقاد الظهور عندئذ في إرادة المعنى الحقيقي.

ثمّ انّ هنا أمرا لا بدّ من التنبيه عليه وهو انّه نسب الى السيد المرتضى علم الهدى رحمه‌الله دعوى انّ مورد التمسّك بأصالة الحقيقة هو الشك في المعنى الموضوع له اللفظ ، بمعنى انّ أصالة الحقيقة تكون مرجعا لتحديد المعنى الحقيقي للّفظ ، فحينما نجد مثلا انّ أهل اللغة يستعملون لفظا في معنى معيّن ولا ندري انّ هذا الاستعمال استعمال للفظ فيما وضع له او انّه استعمال له في غير ما وضع له فإنّه يمكن التمسّك بأصالة الحقيقة لإثبات انّ المعنى المستعمل في اللفظ حقيقي.

والصحيح عدم تماميّة هذه الدعوى لما ذكرناه من انّ الاصول اللفظيّة انّما تكون مرجعا لتحديد المراد لا أنّها مرجع لتحديد نحو الاستعمال وكيفيّته ، إذ انّ ذلك من شأن علائم الحقيقة والمجاز وأصالة الحقيقة ليس منها إلاّ ان نفترض تعبّد الشارع لنا بالبناء على الحقيقة في موارد الشك فيما هو الموضوع له اللفظ ، وهو خلف الفرض ، إذ المفترض في المقام انّما هو البحث عمّا هو الأصل اللفظي العقلائي ، وواضح انّه ليس ثمة تبان من العقلاء على اعتبار الاستعمال علامة الحقيقة وانّه كلّما استعمل لفظ في معنى وشككنا في انّ هذا الاستعمال حقيقي أو مجازي فإنّه لا بدّ من البناء على انّه استعمال حقيقي ، نعم المتبانى عليه عند العقلاء هو استظهار إرادة المعنى الحقيقي عند الشك فيما هو مراد المتكلّم وهل انّه أراد المعنى المجازي أو المعنى الحقيقي ، وهذا معناه الفراغ عما هو المعنى الحقيقي للفظ أي معرفة المتلقي لما هو الموضوع له اللفظ.

* * *

٢٩٧ ـ الحقيقة الشرعيّة

المعنى الحقيقي للفظ هو المعنى الموضوع له اللفظ ، وذلك في مقابل


المعنى المجازي والذي لو يوضع اللفظ لإفادته وإنّما يستعمل اللفظ فيه باعتبار تناسبه مع المعنى الحقيقي الذي وضع اللفظ من قبل الواضع لغرض افادته والدلالة عليه.

واضافة المعنى الحقيقي لجهة من الجهات ناشئ عن انّ هذه الجهة هي التي تصدّت لوضع اللفظ بإزاء المعنى ، فحينما يتصدى أهل اللغة لوضع لفظ بإزاء معنى معيّن يكون ذلك المعنى بالإضافة لذلك اللفظ حقيقة لغويّة ، وهذا هو منشأ اضافة الحقيقة الى الشارع ، حيث انّ مدعي ثبوت الحقيقة الشرعيّة يزعم انّ الشارع قد تصدى لوضع بعض الألفاظ لمعان خاصة ، وحينئذ تكون لتلك المعاني بالإضافة لتلك الألفاظ حقائق شرعيّة.

فمثلا : حينما يضع الشارع لفظ الصلاة للحركات المخصوصة فإنّ هذه الحركات المخصوصة بالإضافة للفظ الصلاة حقيقة شرعيّة.

والمتحصّل انّ المراد من ثبوت الحقيقة الشرعيّة هو دعوى انّ الشارع قد تصدى لوضع بعض الألفاظ بإزاء معان مخصوصة ، وبهذا تكون هذه المعاني بالنسبة لهذه الألفاظ حقائق شرعيّة تتفاوت سعة وضيقا وتباينا مع الحقائق اللغوية.

ومن هنا تظهر الثمرة من هذا البحث ، وهي انّ المستظهر من هذه الألفاظ حينما يكون المستعمل لها هو الشارع المستظهر هو المعاني الخاصّة التي وضع الشارع هذه الألفاظ لغرض إفادتها ، وهذا بخلاف ما لو كنّا نبني على عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة فإنّ المستظهر حينئذ من الألفاظ المستعملة من قبل الشارع هو المعاني اللغويّة إلاّ أن تشتمل هذه الألفاظ على قرائن توجب انصرافها الى معان تتناسب مع تلك القرائن.

إلاّ انّ المحقّق النائيني رحمه‌الله أورد على ثبوت هذه الثمرة بما حاصله : انّ هذه الثمرة وان كانت مسلّمة كبرويا إلاّ انّ ملاحظة الواقع الخارجي يعطي عدم جدوى هذه الثمرة ـ بمعنى عدم وجود


صغرى لهذه الكبرى ـ وذلك لإحراز المراد من الالفاظ المستعملة إمّا بواسطة القرائن الخاصة ، وامّا بواسطة انّ استعمال عرف المتشرعة لهذه الألفاظ ظاهر في المعاني الشرعيّة ، ومن هنا لا تكون ثمّة فائدة من هذا البحث.

وبيان ذلك : انّ معظم الألفاظ التي هي محلّ النزاع والتي صدرت عن النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد وصلت الينا بواسطة الأئمة عليهم‌السلام ، ولا ريب في تعيّن المعاني الشرعية ـ من الألفاظ التي هي محلّ النزاع ـ في زمن الأئمة عليهم‌السلام ، إذ انّه مع عدم التسليم بثبوت الحقيقة الشرعيّة فلا ريب في ثبوت الحقيقة المتشرعيّة في زمن الأئمّة عليهم‌السلام ، وذلك لكثرة تداول استعمال هذه الألفاظ في المعاني الشرعيّة دون المعاني اللغويّة.

وكيف كان فقد استدلّ صاحب الكفاية رحمه‌الله على ثبوت الحقيقة الشرعيّة بتبادر المعاني الشرعيّة من الفاظها ، وهو علامة الحقيقة ، إذ انّنا نجد انّ المنسبق عند اطلاق الشارع لهذه الألفاظ هو المعاني الشرعيّة ، وهذا ما يعبّر عن انّ استعمالها في المعاني الشرعيّة استعمال فيما وضعت له.

ويمكن تأييد هذه الدعوى بملاحظة اتّفاق عدم وجود علاقة وتناسب بين المعنى الشرعي والمعنى اللغوي ، فلو كان هناك تناسب لأمكن أن يقال انّ المبرّر لانسباق وتبادر المعاني الشرعيّة من ألفاظها هو التناسب بين المعاني اللغويّة والمعاني الشرعيّة.

هذا ولم يستبعد السيد الخوئي رحمه‌الله ثبوت الحقيقة الشرعيّة بل ادّعى الاطمئنان بثبوتها وانّ ذلك تمّ بواسطة الوضع التعيّني والذي ينشأ عن كثرة الاستعمال.

* * *

٢٩٨ ـ الحقيقة المتشرعيّة

والمقصود من الحقيقة المتشرعيّة هو انّ الألفاظ الخاصة المستعملة في المعاني المخترعة من قبل الشارع ألفاظ مستعملة في عصر الأئمة عليهم‌السلام في المعاني


الشرعيّة بنحو الاستعمال الحقيقي.

فالفرق بين الحقيقة الشرعيّة والحقيقيّة المتشرعيّة هو ان دعوى ثبوت الحقيقة الشرعيّة تعني انّ هذه الألفاظ وضعت بإزاء المعاني الشرعيّة في عصر النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمّا الحقيقة المتشرعيّة فهي عبارة عن ثبوت هذه الأوضاع في عصر الأئمّة عليهم‌السلام.

والظاهر انّه لم يقع اشكال في ثبوت الحقيقية المتشرعيّة ، فالمستشكل في ثبوت الحقائق الشرعيّة لا يستشكل في ثبوت الحقائق المتشرعيّة ، وذلك لأنّ كثرة تداول هذه الألفاظ واستعمالها في المعاني الشرعيّة في عصر المتشرعة صيّر منها حقائق في تلك المعاني.

* * *

٢٩٩ ـ الحكم الإنشائي

يطلق الحكم الإنشائي على معنيين :

المعنى الأوّل : هو الحكم الصادر بداعي الامتحان أو التخويف أو التعجيز ، أو قل هو الحكم الصادر لغير داعي البعث والزجر.

والحكم الإنشائي بهذا المعنى ليس حكما شرعيا حقيقة ، إذ انّ الحكم الشرعي هو ما يترتّب عليه الأثر الشرعي لو اتّفق بلوغه مرتبة الفعليّة.

المعنى الثاني : هو الحكم المجعول على موضوعه المقدّر الوجود ، وهو المعبّر عنه بالحكم بمرتبة الجعل ، وذلك في مقابل الحكم بمرتبة المجعول المعبّر عنه بالحكم الفعلي.

والحكم الإنشائي بهذا المعنى يكون بداعي ابراز الاعتبار الشرعي الموجب لترتّب أو ترتيب الأثر المناسب لنحو المعتبر ، إذ قد يكون المعتبر الشرعي حكما تكليفيّا وقد يكون حكما وضعيا ، واقتضاؤه لترتّب الأثر ليس تاما بل انّ ترتّب الأثر منوط بالإضافة الى أصل الجعل ببلوغ الحكم مرتبة الفعليّة ، وذلك بتحقّق الموضوع المقدّر الوجود خارجا.


والحكم الإنشائي بهذا المعنى هو الذي ينشأ عن ملاك في متعلقه ، فحينما يقال : انّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها يكون المقصود من الأحكام هو الأحكام الإنشائيّة ، وقد أوضحنا كلّ ذلك تحت عنواني « الجعل الشرعي » و « شرائط الجعل والمجعول ».

* * *

٣٠٠ ـ الحكم الأولي

المراد من الحكم الأولي هو ما يثبت لموضوعه ابتداء وبقطع النظر عمّا يطرأ على الموضوع من عوارض تقتضي تبدّل الحكم الأولي بنحو يتناسب مع العنوان الطارئ على الموضوع ، فأكل الميتة ـ وبقطع النظر عن الاضطرار الى أكلها ـ حرام ، كما انّ الطهارة المائيّة ـ وبقطع النظر عن الحرج والضرر ـ شرط في صحّة الصلاة ، كما انّ الزواج ـ وبقطع النظر عن خوف الوقوع في المعصية ـ مستحبّ ، وهكذا.

ولعلّ منشأ التعبير عن هذا النحو من الأحكام الواقعيّة بالحكم الاولي هو انّه يثبت لموضوعه أوّلا وبالذات ، ويكون ثبوت حكم آخر لذات الموضوع منوطا بعروض عنوان اضافي عليه. وبهذا يقع التمييز بين تبدل الحكم الاولي الى حكم ثانوي وبين تفاوت الاحكام بتفاوت موضوعاتها.

فإنّ الاول معناه ثبوت الحكم لموضوعه ابتداء وبقطع النظر عمّا يطرؤه من عناوين ومع طرو العنوان يتبدل الحكم الاولي الى حكم يتناسب مع العنوان الطارئ ، وهذا ما يعني انّ العلاقة بين الحكمين طوليّة.

وأمّا الثاني فليس كذلك ، إذ ليس بينهما طوليّة وانّما هي أحكام تتفاوت بتفاوت القيود والحيثيّات المقرّرة من قبل الشارع ، فهي أحكام واقعيّة أوليّة ثابتة لموضوعاتها ابتداء وفي عرض واحد ، وتباينها ناشئ عن تباين الحيثيّات والقيود الملحوظة حين جعل الحكم لموضوعه المقدّر الوجود.

فالعصير العنبي غير المغلي حلال


والمغلي منه اذا لم يذهب ثلثاه حرام ، والميت المسلم يجب تجهيزه والصلاة عليه ، وأمّا الميت الكافر فلا يجب تجهيزه والصلاة عليه ، وهكذا.

* * *

٣٠١ ـ الحكم التكليفي

وهو الاعتبار الشرعي المتّصل بفعل المكلّف ابتداء ، كاعتبار الوجوب والحرمة على عهدة المكلّف ، فالوجوب يحرّك المكلّف ابتداء نحو متعلّقه ، كما انّ الحرمة تمنع المكلّف ـ وتحرمه من ارتكاب الفعل الواقع متعلقا لها ـ ابتداء.

والمتحصّل انّ كلّ اعتبار شرعي له توجيه مباشر للمكلّف فهو حكم تكليفي سواء كان ذلك الحكم إلزاميا كالوجوب والحرمة أو لم يكن إلزاميا كالاستحباب والكراهة والإباحة ، إذ انّها جميعا تشترك في انّها تتّصل بفعل المكلّف بخلاف الحكم الوضعي كما سيتّضح ذلك إن شاء الله تعالى.

نعم اطلاق عنوان التكليف على مثل « الإباحة » مجرّد اصطلاح ، لأنّ عنوان التكليف يستبطن معنى الكلفة والمشقّة ، وليس في الإباحة ما يقتضي ذلك ، إذ انّ المكلف في موردها مخير بين الفعل والترك ، بل قد يدعى ذلك في الاستحباب والكراهة أيضا إلاّ انّه قد ذكرنا تحت عنوان « التكليف » وجه المناسبة في اطلاق عنوان التكليف على المستحبّ والمكروه. والأمر سهل بعد ان كان ذلك مجرّد اصطلاح ، ولا مشاحة في الاصطلاح.

هذا وقد ذكر للحكم التكليفي تعريفات اخرى أقربها لما ذكرناه هو ما ذكره بعض الأعلام من انّ الحكم التكليفي عبارة عن « الاعتبار الصادر من المولى من حيث الاقتضاء أو التخيير ».

والمقصود من الاقتضاء هو الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة ، إذ هي التي تقتضي الانبعاث أو الانزجار عن الفعل. والمقصود من التخيير هو الاباحة بالمعنى الأخصّ.


على انّه يمكن أن يراد من التخيير ما يشمل الاستحباب والكراهة ، لأنّ المكلّف في سعة من جهة فعل أو ترك متعلّقهما.

* * *

٣٠٢ ـ الحكم الثانوي

وهو الحكم الواقعي الذي يثبت لموضوعه بسبب طروء بعض العوارض المقتضية لحمل هذا النحو من الحكم عليه ولو لا طروء هذه العوارض لكان الموضوع مقتضيا لحكم آخر هو المعبّر عنه بالحكم الاولي.

فأكل لحم الميتة بقطع النظر عن الطوارئ والعوارض يقتضي بنفسه ثبوت الحرمة له إلاّ انّه وبسبب طروء حالة الاضطرار لأكلها يتبدل الحكم الثابت لأكل الميتة الى حكم آخر يتناسب مع الحالة الطارئة ، هذا الحكم الذي ثبت للموضوع بسبب ما طرأ عليه من عنوان هو الذي يعبّر عنه بالحكم الثانوي.

وحتى يتميّز الحكم الثانوي عن الحكم الذي يثبت لموضوعه بشرط اكتنافه ببعض القيود نقول : انّ طبع القيود المعتبر تواجدها في ترتب الحكم الاولي على موضوعه تكون من سنخ الحيثيّات التقييديّة ، بمعنى انّ الحكم من أوّل الأمر ثابت لموضوعه المركّب منه ومن قيوده ، وهذا بخلاف ما يعتبر في ترتّب الحكم الثانوي على موضوعه فإنّ طبع القيود معه تكون من سنخ الحيثيّات التعليليّة ، بمعنى انّ الموضوع بنفسه يقتضي حكما خاصا إلاّ انّ العوارض تكون بمثابة المانع عن ان يؤثر مقتضي الحكم ـ وهو الموضوع ـ أثره ، كما انّها تكون بمثابة العلّة لعروض حكم آخر للموضوع لا يقتضيه نفس الموضوع.

ثمّ انّ في المقام أمرا لا بدّ من التنبيه عليه وهو انّ الحكم الثانوي لا يلزم أن يكون بنحو الرخصة والإباحة فقد يكون كذلك وقد لا يكون ، وذلك تابع لما يقتضيه العنوان الطارئ ، فقد يقتضي الإباحة وقد يقتضي الوجوب


كما قد يقتضي الحرمة ، فالحكم الثانوي لا يساوق الحكم الاضطراري.

وبهذا التقسيم للحكم الواقعي تتجلّى المرونة في الشريعة الإسلاميّة وان عوامل الزمان والمكان والطوارئ غير المنتظرة لم تخلّ عن معالجة الشريعة لها إلاّ انّ ذلك لا يبرّر تحكّم الأهواء والرؤى الضيّقة بل لا بدّ من الجري على وفق الاطر والضوابط المقرّرة من قبل الشريعة والمستفادة من منابعها المعتبرة والتي هي القرآن الكريم والسنّة الشريفة وهدي أهل البيت عليهم‌السلام ، وأيّ فهم للإسلام لا يتّصل بهذه المنابع لا يصحّ اعتماده والتعويل عليه في مقام التعرّف على الحكم الشرعي.

على انّ الوصول للنتائج الشرعيّة من منابعها لا يتيسّر لكلّ أحد إلاّ أن يتوفّر على آليّة الدخول لمصادر التشريع بنحو تام ، وهذا ما يقتضي التمحض لهذه المهمّة كما هو شأن كلّ فن من فنون العلم ، وتشتد الحاجة لذلك في علم الشريعة ، وذلك لتشعّب مباحثة ودقّتها وافتقاره لعنصر لا يكون معتبرا في سائر العلوم وهو الإخلاص لله جلّ وعلا ومراقبته والتجافي عن الدنيا والرغبة في رضوان الله تعالى والخشية الدائمة من سخطه بل ومن معاتبته.

* * *

٣٠٣ ـ الحكم الشرعي

هو الاعتبار الشرعي المجعول من قبل المولى جلّ وعلى وهو يتناسب دائما مع ما يقتضيه الملاك في نفس الأمر والواقع.

فهو إذن نحو من الافعال الاختياريّة ، غايته انّه لا ينشأ جزافا بل ينشأ عن ملاكات ومبادئ تقتضي هذا النحو من الاعتبار.

وبهذا يتّضح انّ الحكم الشرعي ليس هو الإنشاء والخطاب كما انّه ليس من قبيل الإرادة والكراهة ولا هو من قبيل المصلحة والمفسدة ، إذ انّ الاول ليس أكثر من ابراز الاعتبار


النفساني ، وواضح انّ الاعتبار قد يكون متقرّرا في نفس الأمر دون أن يكون مبرزا ، فالإنشاء ليس هو الحكم كما انّه ليس جزءه المقوم.

وأمّا الثاني فهو يمثّل مبادئ الحكم وعليه يكون الحكم متأخرا عنها ولو رتبة ، ودعوى انّ التعرّف على الملاك ـ لو اتّفق ـ يقتضي ثبوت العهدة على المكلّف ممّا يعبّر عن انّ الحكم ليس أكثر من الملاك التام ، غايته انّ معرفة الملاكات يتمّ غالبا بواسطة الشارع المقدّس.

هذه الدعوى لو تمّت فإنّها لا تعبّر عن انّ الملاك التامّ هو عينه الحكم الشرعي وانّما تعبّر عن انّ الملاك التام يكشف بطريق الإن عن وجود الاعتبار الشرعي وكيف كان فالحكم الشرعي ينقسم الى قسمين ، الأوّل يعبّر عنه بالحكم التكليفي ، والآخر يعبّر عنه بالحكم الوضعي ، وسيأتي ايضاح المراد منهما تحت عنوانيهما إن شاء الله تعالى.

* * *

٣٠٤ ـ الحكم الظاهري

وقد ذكر له اصطلاحان :

الأوّل : هو الحكم الذي اخذ في موضوعه الشك في الحكم الواقعي ، وبهذا يتمحّض الحكم الظاهري في الاصول العمليّة ، إذ هي التي اعتبر في جريانها الشك في الحكم الواقعي ، فموضوع البراءة الشرعيّة مثلا هو الشك في التكليف المتوجّه للمكلّف واقعا تجاه هذه الواقعة أو تلك ، وهكذا سائر الاصول العمليّة فإنّها جميعا قد أخذ في موضوعاتها الشك في الحكم الواقعي.

الثاني : هو الحكم المجعول في ظرف الجهل بالحكم الواقعي بقطع النظر عن أخذ الجهل والشك في الحكم الواقعي موضوعا في الحكم أو عدم أخذه في موضوعه.

وبهذا تكون تمام الأحكام المستفادة بواسطة الأدلّة الاجتهاديّة والمستفادة بواسطة الأدلّة الفقاهتيّة أحكاما ظاهريّة ، وذلك لأنّ الاحكام


المدلول عليها بالأدلّة الاجتهاديّة ، وان لم يؤخذ في موضوعها الشكّ في الحكم الواقعي إلاّ انّها مجعولة في ظرف الشك في الحكم الواقعي ، بمعنى انّ مدلول الدليل الاجتهادي لا يصحّ اللجوء اليه والتعبّد به إلاّ في ظرف الجهل بالحكم الواقعي ، أمّا في ظرف العلم بالحكم الواقعي فإنّ الحكم المفاد بواسطة الدليل الاجتهادي ليس بحجّة.

والمتحصّل انّ الحكم الظاهري ـ بناء على هذا المعنى ـ هو كلّ حكم اخذ في موضوعه الشك في الحكم الواقعي أو كان مورده الشك والجهل بالحكم الواقعي.

* * *

٣٠٥ ـ الحكم العدمي

قد يطلق الحكم العدمي ويراد منه الحكم الذي يكون متعلّقه أمرا عدميّا ، وذلك في مقابل الحكم الوجودي والذي يكون متعلّقه أمرا وجوديّا.

ومثال الأوّل الحكم بعدم الضمان والحكم بعدم اعتصام الماء القليل.

ومثال الثاني الحكم بحرمة شرب الخمر والحكم باعتصام الماء الكثير والحكم بوجوب الصلاة.

ولا إشكال في صحّة الجعل في القسم الثاني كما لا إشكال في صحّته في القسم الأوّل لأنّ مفاد الحكم العدمي بهذا المعنى هو اعتبار سلب الأثر المنتظر عن وجود الشيء ، فمعنى الحكم بعدم الضمان لما أتلفه المكلّف عن غير قصد مثلا هو اعتبار الاتلاف غير موجب للأثر المنتظر ( الضمان ) وهو أمر ممكن ، فكما أنّ لمن له حقّ الاعتبار أن يعتبر شيئا موجبا لأثر معيّن فإنّ له أن يعتبر شيئا غير موجب لأثر معيّن ، إذ أنّه إذا صحّ له اعتبار شيء أثرا لشيء صحّ له أن يعتبر عدم ترتّب الأثر المعيّن عن وجود شيء.

وقد يطلق الحكم العدمي ويراد منه عدم الحكم بمفاد ليس التامّة ، وذلك في مقابل إيجاد الحكم بمفاد كان التامّة ، فالفرق بين الحكم العدمي بالمعنى الأوّل والحكم العدمي بهذا


المعنى أنّه في المعنى الأوّل مفاده الحكم بالعدم وأمّا في المعنى الثاني فمفاده عدم الحكم أي عدم جعل الحكم.

ويمكن أن نمثّل له بعدم جعل القصاص على المخطئ ، وبعدم جعل الزكاة على الفقير ، وبعدم جعل الخمس في الميراث ، وهكذا.

هذا وقد وقع الخلاف بين الأعلام في الأحكام العدميّة من جهة أنّها أحكام مجعولة أو لا ، فقد ذهب المحقّق النائيني رحمه‌الله إلى أنّها ليست من الأحكام المجعولة ، وذلك لأنّ عدم الحكم ليس حكما مجعولا.

إلاّ أنّ السيّد الخوئي رحمه‌الله يرى بأنّ الأحكام العدميّة بالمعنى الثاني يمكن أن تطالها يد الجعل وذلك لأنّ عدم الجعل في موضع قابل للجعل يساوق جعل العدم أي يساوق الحكم بجعل العدم ، فالأحكام العدميّة بالمعنى الثاني مآلها للأحكام العدميّة بالمعنى الأوّل.

فحينما لا يجعل المولى القصاص على المخطئ ـ رغم قابليّة ذلك للجعل ـ فإنّ ذلك معناه جعل عدم القصاص وهكذا حينما لا يجعل الخمس في الميراث فإنّ معنى ذلك هو جعل عدم الخمس في الميراث.

* * *

٣٠٦ ـ الحكم المقابل للفتوى

المراد من الفتوى هي بيان الفقيه للحكم الكلّي بنحو القضيّة الحقيقيّة ، بحيث يكون الفقيه معها متصدّيا لتعيين الحكم المجعول من قبل الشريعة على موضوعه ومتعلّقه دون أن يكون له نظر الى موارد تطبيقه ، فيكون تحديد موارد التطبيق من شئون المقلّد لا من شئون المفتي.

وعليه لو اختلف في مورد وانّه من موارد تطبيق الفتوى أولا فإنّ المتعيّن هو نظر المقلّد لا نظر المفتي.

وأمّا الحكم المقابل للفتوى فهو بمعنى تصدّي الفقيه لإنشاء حكم جزئي في واقعة شخصيّة ، على أن تكون تلك الواقعة من سنخ أحد امور ثلاثة :


الاول : أن تكون من قبيل الخصومات والمنازعات الشخصيّة.

الثاني : أن لا تكون موردا للخصومات الشخصيّة إلاّ انّها عادة ما تكون موردا لاشتباه الناس وحيرتهم ، وذلك لصعوبة تشخيص تلك الواقعة من حيث الثبوت وعدمه وان كان الحكم الكلّي المجعول على نحو القضيّة الحقيقيّة مشخصا وواضحا.

ومثال هذا النحو من الوقائع الشخصيّة هو ثبوت الهلال أو انّ الخطر المحدق بالمسلمين من سنخ الاخطار المهدّدة لبيضة الإسلام.

الثالث : أن تكون من الوقائع التي جعل الشارع صلاحيّة البتّ فيها بيد الحاكم الشرعي ، كتحديد نوع التعزير وكمّيّته في بعض الموارد.

ففي هذا النحو من الوقائع اذا تصدّى الفقيه لتشخيص الموضوع وجعل الحكم ـ المناسب بنظره ـ عليه يكون هذا الحكم جزئيا أي مختصا بالواقعة التي تمّ تشخيصها من قبله ، فيكون أشبه بالحكم في القضايا الخارجيّة لا يمكن التعدّي منها الى ما يماثلها.

ويعبّر عن الحكم الجزئي إذا كان موضوعه من قبيل الخصومات والمنازعات الشخصيّة بالقضاء وفصل الخصومة. كما يعبّر عن الحكم إذا كان موضوعه من قبيل الوقائع التي جعل الشارع صلاحيّة البتّ فيها بيد الحاكم الشرعي يعبّر عنه بالحكم الابتدائي.

وأمّا إذا كان الموضوع من قبيل القسم الثاني من الوقائع فإنّ الفقيه في موردها لا يكون له عادة سوى دور البتّ في ثبوت الموضوع أو انتفائه ، ومعه يترتّب الحكم الكلّي الثابت ، فالحكم بثبوت الهلال ليس حكما شرعيّا جزئيا أو كليّا وإنّما هو حكم بثبوت موضوع خارجي يترتّب على ثبوته مجموعة من الأحكام الكليّة.

وهذا بخلاف الحكم في القسم الأوّل والثالث ، فإنّ القاضي في القسم الاول يحكم بأن حق الميراث شرعا لزيد دون عمرو وانّ هذه الزوجة والتي هي ذات ولد ترث من العقار ،


وهكذا في القسم الثالث فإن الحاكم الشرعي يحكم بأنّ هذا العاصي يستحقّ هذا النوع من التعزير.

ثمّ انّه لا ريب في نفوذ حكم القاضي على المتخاصمين حتى وان كان حكمه يتنافى مع فتوى من حكم عليه ، كما انّ المشهور هو نفوذ حكم الحاكم في القسم الثاني حتى على غير مقلديه ، إذا لم يعلم خطأ مدركه الذي اعتمد عليه ، وأمّا القسم الثالث فهو منوط بتحرير سعة الولاية المجعولة من قبل الشارع للفقيه.

* * *

٣٠٧ ـ الحكم الواقعي

وقد ذكر للحكم الواقعي معنيان :

المعنى الأوّل : هو انّه عبارة عن الحكم الشرعي المجعول على موضوعه ابتداء ، بمعنى عدم افتراض الشك في حكم آخر للموضوع ، كما انّ الشك لم يؤخذ جزء لموضوع الحكم.

فبالقيد الأوّل تخرج الأحكام المستفادة بواسطة الأمارات ، إذ انّ الحكم المستفاد منها قد افترض في مورده الشك في الحكم الواقعي ، وبالقيد الثاني تخرج الاصول العمليّة ، لأنّه قد اخذ في موضوعها الشك في الحكم الواقعي.

وبهذا يتّضح انّ الحكم الواقعي هو عبارة عن الحكم الثابت لموضوعه في نفس الأمر والواقع دون أن يكون للشك في حكم آخر للموضوع أي نحو من أنحاء الدخل في ثبوت الحكم لموضوعه بل انّ الموضوع بنفسه لما كان واجدا للملاك التام المتناسب مع الحكم اقتضى ذلك ان يعتبر الشارع الحكم على الموضوع.

فالمولى مثلا حينما يلحظ فعلا من أفعال المكلّفين مشتملا على مصلحة تامّة فإنّه يجعل له الوجوب باعتبار انّ ذلك الفعل مشتمل على تلك المصلحة التامّة ، وليس هناك واسطة لثبوت الحكم لموضوعه غير أهلية ذلك الموضوع لأن يجعل عليه الوجوب.

المعنى الثاني : هو عبارة عن الحكم الشرعي الذي لم يؤخذ في


موضوعه الشك في الحكم الواقعي ، فكلّ حكم ثبت لموضوعه دون أن يكون الشك في الحكم الواقعي جزء لذلك الموضوع فهو حكم واقعي ، سواء افترض في مورده الشك كما في الاحكام المستفادة بواسطة الأمارات أو لم يفترض كما في الاحكام المستفادة بواسطة الأدلّة القطعيّة.

وبهذا تخرج الاصول العمليّة ، لأنّها جميعا قد اخذ في موضوعها الشك في الحكم الواقعي ، فالبراءة مثلا موضوعها الجهل بالحكم الواقعي.

وقد ذكر بيان آخر للمعنى الثاني وهو انّه كلّما كان الحكم ثابتا بواسطة الدليل القطعي أو الدليل الاجتهادي فهو حكم واقعي إلاّ انّ ما ذكرناه أدقّ من هذا البيان.

* * *

٣٠٨ ـ الحكم الوضعي

قلنا انّ الحكم الشرعي اعتبار مولوي يتناسب مع ما يقتضيه الملاك في نفس الأمر والواقع ، وانّه ينقسم الى حكم تكليفي وحكم وضعي ، أمّا الحكم التكليفي فهو ما يتّصل بأفعال المكلّفين مباشرة وابتداء على وجه الاقتضاء أو التخيير.

ومنه يتّضح المراد من الحكم الوضعي ، فكلّ حكم لا يتّصل بأفعال المكلّفين ابتداء فهو حكم وضعي ، إذن فالحكم الوضعي لا يختلف عن الحكم التكليفي من جهة انّه اعتبار شرعي يتناسب مع ما يقتضيه الملاك في نفس الأمر والواقع وانّما يختلف عنه من جهة عدم اتّصاله بأفعال المكلّفين ابتداء على وجه الاقتضاء أو التخيير.

فكلّ اعتبار شرعي ليس من سنخ الأحكام التكليفيّة فهو حكم وضعي ، وذلك من قبيل الصّحة والفساد والجزئيّة والشرطيّة والزوجيّة والملكيّة والطهارة.

وهذا المقدار لا إشكال فيه وإنّما الإشكال من جهة انّ الحكم الوضعي مجعول بنحو الاستقلال كما هو الحال في جعل الوجوب والحرمة أو انّه منتزع من الحكم التكليفي أو انّ


الصحيح هو التفصيل ، أي انّ بعض الأحكام الوضعيّة مجعول استقلالا وبعضها منتزع عن الأحكام التكليفيّة. وهناك مبنى آخر تبنّاه صاحب الكفاية رحمه‌الله.

ونكتفي في المقام بتصوير المباني الأربعة :

المبنى الاوّل : ولعلّه المبنى المشهور كما يظهر من عبائر الشيخ الأنصاري رحمه‌الله ، وحاصله : انّ المشرع لاحظ حكما لا يتّصل بفعل المكلّف بنحو الاقتضاء أو التخيير وقدّر لهذا الحكم موضوعا ثمّ جعل ذلك الحكم وبنحو الاستقلال على موضوعه المقدّر ، فلم يكن ذلك الحكم منتزعا عن حكم تكليفي.

فلو كانت جميع الأحكام الوضعيّة مجعولة بهذا النحو من الجعل لكان ذلك مصحّحا لدعوى انّ الأحكام الوضعيّة كالأحكام التكليفيّة من جهة انّ جعلها تم بواسطة الشارع ابتداء واستقلالا ، بمعنى انّ الشارع لاحظ الحكم الوضعي وما يترتّب عليه من آثار ثمّ جعله ابتداء على موضوعه المقدّر الوجود كما هو الشأن في جعل الأحكام التكليفيّة على موضوعاتها المقدّرة الوجود.

فالزوجيّة مثلا من المعتبرات الشرعيّة الوضعيّة التي تمّ جعلها بواسطة الشارع استقلالا ، بمعنى انّ الشارع جعل الزوجيّة عند اتّفاق تحقّق موضوعها خارجا ، فهي وان كانت مستلزمة شرعا لمجموعة من الآثار والأحكام التكليفيّة إلاّ انّ الملحوظ أولا وبالذات هو الزوجيّة ، والاعتبار انّما انصبّ عليها ابتداء ، وترتب الآثار والأحكام التكليفيّة عليها انّما هو من باب ترتب الأحكام على موضوعاتها ، فالزوجيّة بعد جعلها واعتبارها تصبح موضوعا لمجموعة من الآثار والأحكام ، فالزوجيّة إذن ليست بمعنى وجوب التمكين على الزوجة ووجوب النفقة على الزوج بل انّ الزوجيّة تعني جعل العلقة الخاصة من قبل الشارع استقلالا عند ما يتّفق تحقّق موضوعها


خارجا. ووجوب التمكين مثلا انّما هو من آثار الزوجيّة المجعولة ابتداء.

وهكذا الكلام في الملكيّة مثلا فإنّها ليست بمعنى جواز التصرّف في المال وحرمة تصرّف الغير دون إذن المالك ، بل انّ الملكيّة تعني جعل العلقة الخاصّة بين المالك والمملوك والمعبّر عنها بالسلطنة. فهذه السلطنة مجعولة ابتداء من قبل الشارع متى ما اتّفق تحقّق موضوعها خارجا ، وجواز تصرّف المالك في ملكه وحرمة تصرّف غير المالك بغير إذنه انّما هي من آثار السلطنة المجعولة شرعا بنحو الاستقلال. وبهذا تتّضح الدعوى في سائر الاحكام الوضعيّة.

المبنى الثاني : وهو انّ الأحكام الوضعيّة منتزعة عن الأحكام التكليفيّة ، وحاصل المراد منه هو انّ الأحكام الوضعيّة مجعولة تبعا لجعل الأحكام التكليفيّة فاعتبارها من الأحكام الشرعيّة انّما هو لأجل انّ منشأ انتزاعها هو الأحكام التكليفيّة والتي هي أحكام شرعيّة.

وقد تنقح في محلّه انّ الامور الانتزاعيّة قد يكون منشأ انتزاعها امورا خارجيّة ، وقد يكون المنشأ لانتزاعها امورا اعتباريّة ـ وقد أوضحنا ذلك تحت عنوان « الاعتبار » ـ والدعوى انّ الأحكام الوضعيّة من الامور الانتزاعيّة وانّ منشأ انتزاعها امور اعتباريّة والتي هي الجعولات الشرعية أي الأحكام التكليفيّة ، فليس ثمّة شيء مجعول من قبل الشارع بنحو الاستقلال سوى الأحكام التكليفيّة ، أمّا الأحكام الوضعيّة فهي مجعولة تبعا لجعل منشأ انتزاعها وهو الأحكام التكليفيّة.

ومعنى انّها منتزعة هو انّه ليس لها ما بإزاء في عالم الاعتبار والذي هو وعاء المعتبرات ، فوجودها الاعتباري متمحّض في منشأ انتزاعها والتي هي الاحكام التكليفيّة. فالزوجيّة مثلا ليس لها ما بإزاء في عالم الاعتبار وانّما هي حكم وضعي منتزع عن مجموعة من الأحكام التكليفيّة ، مثل جواز الاستمتاع ووجوب


النفقة ، فالمعتبر أولا وبالذات هو جواز الاستمتاع ووجوب النفقة ، وأمّا الزوجيّة فهي عنوان منتزع عن هذين الحكمين ، وليس لها ما بإزاء في عالم الاعتبار ، فهي كعنوان الأكبر المنتزع من ملاحظة الشمس بالإضافة للقمر واللذين هما من الوجودات الخارجيّة المتأصّلة ، فالأكبريّة ليس لها ما بإزاء في الخارج ـ والذي هو وعاء الوجودات المتأصّلة ـ وكذلك الزوجيّة ليس لها ما بإزاء في عالم الاعتبار والذي هو وعاء المعتبرات الشرعيّة.

المبنى الثالث : والذي هو التفصيل بين الأحكام الوضعيّة ، فبعضها من قبيل الامور الانتزاعيّة والبعض الآخر مجعول بنحو الاستقلال ، فالزوجيّة والملكيّة مثلا من سنخ الأحكام الوضعيّة المجعولة بنحو الاستقلال بالتقريب المذكور في المبنى الاول. وأمّا الشرطيّة والمانعيّة مثلا فهما من سنخ الأحكام الوضعيّة المنتزعة عن الأحكام التكليفيّة.

وتقريب ذلك : انّ الشارع إذا اعتبر شيئا في موضوع التكليف أو اعتبر عدم شيء في موضوع التكليف فإنّ العقل ينتزع عن الاعتبار الاوّل الشرطيّة ، أي انّ فعليّة التكليف منوطة بتوفّر الموضوع على ذلك الشيء ، كما ينتزع العقل عن الثاني المانعيّة أي انّ فعليّة التكليف منتفية إذا كان موضوعه مشتملا على ما اعتبر عدمه في موضوعه ، فلو قال المولى « إذا بلغ الإنسان وجبت عليه الصلاة » فإنّ العقل ينتزع عن ذلك شرطيّة البلوغ ، ولو قال : « ليس على الحائض صلاة » فإنّ العقل ينتزع عن ذلك مانعيّة حدث الحيث لفعليّة التكليف بالصلاة.

كما انّ الشرطيّة والمانعيّة قد تنتزعان عن المكلّف به والذي هو متعلّق التكليف ، فحينما يعتبر الشارع وجود شيء في متعلّق التكليف فإنّ العقل ينتزع عن ذلك شرطيّة وجود ذلك الشيء في متعلّق التكليف كما انّه لو اعتبر عدم شيء في متعلّق التكليف


فإنّه ينتزع عن ذلك مانعيّة وجود ذلك الشيء في متعلّق التكليف.

فحينما يقول المولى : « صلّ عن طهارة » انتزع عن ذلك شرطيّة الطهارة في الصلاة والتي هي متعلّق الأمر بالصلاة ، ولو قال : « لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه » انتزع عن ذلك مانعيّة اللباس ـ المتّخذ من غير مأكول اللحم ـ لمتعلّق التكليف.

المبنى الرابع : وهو التفصيل الذي ذكره صاحب الكفاية رحمه‌الله ، وحاصله : انّ الأحكام الوضعيّة على ثلاثة أقسام :

القسم الأوّل : ما لا تنالها يد الجعل لا استقلالا ولا تبعا.

القسم الثاني : ما لا يمكن جعلها إلاّ بواسطة جعل منشأ انتزاعها.

القسم الثالث : ما يمكن جعلها استقلالا كما يمكن جعلها بواسطة جعل منشأ انتزاعها.

أمّا القسم الثاني والقسم الثالث فقد اتّضح المراد منهما ممّا تقدّم ، وأمّا القسم الاوّل وهو الحكم الوضعي الذي يستحيل جعله واعتباره مطلقا ـ أي سواء كان بنحو الجعل الاستقلالي أو التبعي ـ فهو كالسببيّة والشرطيّة والمانعيّة والرافعيّة ، فإنّ مثل هذه الأحكام منتزعة عن الخصوصيّة التكوينيّة الذاتيّة الناشئة عن مقام ذات السبب أو الشرط أو المانع.

فهذه الخصوصيّة هي الموجبة واقعا للربط بين السبب مثلا ومسبّبه ، ولو لا هذه الخصوصيّة لأثّر كلّ شيء في كلّ شيء ، وهو ما لا يمكن الالتزام به لوضوح فساده ، فكما انّ تأثير النار للحرارة ناشئ عن الخصوصيّة الذاتيّة القائمة بذات النار وانّه يستحيل جعل هذه الخصوصيّة واعتبارها ، إذ انّ اعتبار نفس الخصوصيّة الواقعيّة يكون من تحصيل الحاصل ، واعتبار غيرها لا يوجب انقلاب الواقع عمّا هو عليه وإلاّ لأثّر كلّ شيء في كلّ شيء بواسطة الاعتبار.

وهذا ما يعبّر عن انّ سببيّة دلوك الشمس مثلا لوجوب الصلاة ومانعيّة الحيض عن وجوب الصلاة ممّا لا يمكن جعله واعتباره ، بل انّ سببيّة


دلوك الشمس لوجوب الصلاة ناشئ عن الخصوصيّة التكوينيّة القائمة بذات الدلوك ، فالربط بينهما واقعي ناشئ عن مقام ذات السبب وإلاّ لزم تحصيل الحاصل أو انقلاب الشيء عمّا هو عليه واقعا وهذا ما يقتضي امكان ان يؤثّر كلّ شيء في كلّ شيء.

وهكذا الكلام في مانعيّة الحيض لوجوب الصلاة ، فإنّ هذه المانعيّة منتزعة عن مقام الذات للحيض ، فكما انّ ذات الرطوبة مانع عن تأثير النار للإحراق فكذلك يكون الحيض مانعا عن تأثير الدلوك مثلا لوجوب الصلاة.

وبهذا البيان تتّضح استحالة الجعل الاستقلالي لمثل السببيّة والمانعيّة ، وأمّا استحالة الجعل التبعي فلأنّ الجعل التبعي ـ كما أفاد الشيخ الأنصاري رحمه‌الله عبارة عن انتزاع السببيّة ـ مثلا ـ من التكليف الذي اخذ في موضوعه أمر من الامور ، وهذا ما يقتضي تأخّر السببيّة عن التكليف تأخر الامر الانتزاعي عن منشأ انتزاعه ، فلو كان التكليف هو منشأ انتزاع السببيّة فإنّ هذا معناه تأخر سبب التكليف عن التكليف وهو مستحيل لاستحالة تأخّر السبب عن مسبّبه ، وهذا بخلاف ما لو قلنا انّ السببيّة منتزعة عن سبب التكليف والذي هو السبب الواقعي المقتضي بذاته التأثير للتكليف فإنّ محذور تأخّر ما هو متقدّم واقعا لا يأتي ، إذ انّ السببيّة ـ بناء على هذه الدعوى ـ يكون منشأ انتزاعها هو السبب الذي هو متقدّم واقعا.

وبهذا البيان تتّضح استحالة جعل مثل السببيّة سواء بنحو الجعل الاستقلالي أو بنحو الجعل التبعي.

وقد أجاب السيّد الخوئي رحمه‌الله عن دعوى صاحب الكفاية رحمه‌الله بأنّه خلط بين الجعل والمجعول ، وانّ مثل سببيّة الدلوك لوجوب الصلاة انّما هي سببيّة في مرحلة المجعول ، أي انّ الدلوك سبب لفعليّة التكليف لا أنّه سبب لأصل جعله والذي يرتبط بالمصالح والمفاسد الواقعيّة. وبيان ذلك خارج عن الغرض.

* * *


٣٠٩ ـ الحكومة

قسم السيّد الخوئي رحمه‌الله الحكومة الى قسمين ، وجعل لكلّ واحد منهما ضابطا مستقلا ، فجعل ضابط الحكومة في القسم الأوّل هو نظر الدليل الحاكم للدليل المحكوم لغرض شرحه وتفسيره ، وضابط القسم الثاني : هو أن يكون أحد الدليلين رافعا لموضوع الدليل الآخر حتّى لو لم يكن في الدليل الرافع ما يدلّ على انّه في مقام الشرح والتفسير للدليل الآخر.

وكأنّ السيّد الخوئي رحمه‌الله بهذا التقسيم للحكومة يرى أنّه لا ضابط مشترك لقسمي الحكومة. وأمّا السيّد الصدر رحمه‌الله فقد ادّعى انّ الحكومة بتمام أقسامها متقوّمة بالنظر أي بنظر أحد الدليلين للآخر بنحو يكون الدليل الناظر مشتملا على قرينة خاصّة تعبّر عن انّ المتكلّم في مقام الشرح والتفسير وبيان المراد الجدّي والنهائي ، غايته انّ القرينة الخاصّة المعبّرة عن النظر تكون بأساليب متعدّدة ، فقد تكون بلسان التفسير والشرح ، وقد تكون بلسان التنزيل ، كما قد تكون قرينة النظر من نحو مناسبات الحكم والموضوع ، وقد تأتي بأساليب اخرى.

ومن هنا يتّضح الفرق بين الحكومة وبين سائر الجموع العرفيّة الاخرى ، فالحكومة لا تتمّ إلاّ بواسطة تصدّي المتكلّم نفسه للتعبير عن انّه في مقام الشرح والتفسير لكلامه الاول ، بمعنى انّه القرينة على الحكومة تكون قرينة شخصيّة تتمّ باعداد شخصي من المتكلّم بحيث لو لم يتصدّ هو بنفسه لاعداد هذه القرينة وابرازها لما كان لغيره ان يستعملها لغرض الكشف عن مراد المتكلّم ، وهذا بخلاف الجموع الاخرى والتي تكون بواسطة القرائن النوعيّة ، فإنّه يمكن للغير أن يجمع بين كلامي المتكلّم ويناسب بينهما ثمّ يخرج بنتيجة هي مراد المتكلّم جدا.

وبتعبير آخر : انّ التعرّف على المراد الجدّي للمتكلّم بواسطة القرائن


النوعيّة يكون بملاك انّ المتكلّم يجري في محاوراته وخطاباته على وفق ما تقتضيه الضوابط العرفيّة المعتمدة عند أهل المحاورة ، وهذا هو الذي يصحّح حمل كلامه على معنى معيّن باعتبار انّ هذا المعنى هو المتناسب مع الفهم العرفي لهذا النحو من الكلام وان لم يكن المتكلّم قد تصدّى للجمع بين كلاميه بنحو يتحصّل عنه المعنى الذي فهمه العرف إلاّ انّه وباعتبار أصالة متابعة كلّ متكلّم لما عليه أهل المحاورة في مقام أداء مراداتهم يحصل الاطمئنان بأن مراده الجدي هو ما تحصّل عن الجمع بين كلاميه.

وأمّا قرينة النظر والمعبّر عنها بالقرينة الشخصيّة فهي لا تكون إلاّ من المتكلّم نفسه ، بمعنى انّه لو لم يتصدّ للكشف عن انّه في مقام النظر والشرح لكلامه الاوّل لما كان من وسيلة للتعرّف على ذلك.

مثلا : عند ما يقول المتكلّم « أكرم العلماء » ثمّ يقول في مجلس آخر « لا تكرم العالم الفاسق » فإنّ العرف يجمعون بين الكلامين وينتهون بنتيجة هي انّ الذي يجب اكرامه هم العلماء العدول دون الفسّاق رغم انّ المتكلّم لم يتصدّ شخصيا لبيان مراده النهائي من الكلامين ، نعم هو قد أعدّ الكلامين بنحو يفهم معه العرف انّ مراده النهائي هو ما ينتج عن هذا الجمع.

وأمّا لو قال المتكلّم : « أكرم العلماء » ثمّ قال « أعني العدول منهم » فإنّ المتكلّم في المثال لم يتّكل في بيان مراده الجدّي والنهائي على القرائن النوعيّة وانّما تصدّى شخصيا للتعبير على انّه في مقام النظر للدليل الآخر لغرض شرحه وتفسيره ، وواضح انّ قرينة النظر لا تكون إلاّ من المتكلّم نفسه ، وهذا هو مبرّر التعبير عنها بالقرينة الشخصيّة أو بالإعداد الشخصي.

وبما ذكرناه يتّضح انّ ملاك تقديم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم هو عينه ملاك التقديم في سائر الجموع العرفيّة ، وهو انّ المتكلّم اذا كان بصدد إعداد ما يعبّر عن تحديد مراده الجدّي


من كلامه فإنّ السيرة العقلائيّة قاضية بأن ما أعدّه لذلك يكون هو المراد النهائي للمتكلّم ، ولا يختلف الحال في الآليّة التي استعملها لذلك ، أي سواء كان الإعداد تمّ بواسطة القرائن النوعيّة أو كان بواسطة القرينة الشخصيّة على النظر.

هذا هو حاصل ما أفاده السيّد الصدر رحمه‌الله في بيان ضابطة الحكومة بتمام أقسامها.

* * *

٣١٠ ـ الحكومة الانسداديّة

ونذكر لها معنيين :

المعنى الأوّل : وهو الذي تبنّاه صاحب الكفاية رحمه‌الله ، وحاصله : انّه اذا تمّت مقدّمات الانسداد الأربع أو الخمس ـ والتي منها عدم وجوب الاحتياط التامّ إمّا لتعذّره أو لأنّ الالتزام به يؤول الى اختلال النظام أو العسر والحرج ـ فإنّ العقل حينئذ يحكم بحجيّة الظنّ المطلق في مقابل المشكوكات والموهومات. ومعنى حكم العقل بحجيّة الظنّ المطلق هو حكمه بمنجزيّته ومعذريّته كما هو الحال في حكم العقل بحجيّة القطع ، فمعنى الحكومة ـ بناء على هذا المعنى ـ هو حكم العقل بمنجزيّة ومعذريّة الظن.

وقد تبنّى السيّد الصدر رحمه‌الله هذا المعنى وأصرّ على انّ مراد صاحب الكفاية رحمه‌الله من حكم العقل هو إدراك العقل لمنجزيّة ومعذريّة الظنّ عند تماميّة مقدّمات الانسداد ، فلا يرد عليه ما أورده السيّد الخوئي رحمه‌الله من انّه ليس للعقل شأنيّة الحكم والتشريع وانّ وظيفته متمحّضة في الإدراك.

وأمّا ما أورده المحقّق النائيني رحمه‌الله على صاحب الكفاية رحمه‌الله من انّ الحجيّة من ذاتيّات القطع لكونه كاشفا تاما ، وأمّا الظن فليست الحجيّة من ذاتيّاته ، ومن هنا يستحيل ثبوت الحجيّة له دون جعل ، فهو على أيّ تقدير ـ سواء تمّت مقدّمات الانسداد أو لم تتمّ ـ لا تثبت الحجيّة للظنّ إلاّ بواسطة الجعل ، فافتراض انّ الحجيّة تصبح من


ذاتيّات الظنّ عند تماميّة مقدّمات الانسداد غير معقول.

هذا الإيراد انّما يتمّ بناء على انّ الحجيّة من ذاتيّات القطع وليست من ذاتيّات حقّ المولويّة ، وأمّا بناء على انّ المنجزيّة والمعذريّة من اللوازم الذاتيّة لحقّ المولويّة فالقطع عندئذ لا يختلف عن الظنّ من جهة إمكان حكم العقل بثبوت الحجيّة له لو افترض دخوله في اطار حقّ المولويّة.

وبتعبير آخر : انّه لو افترض اتّساع حقّ المولويّة ـ ولو في بعض الحالات ـ ليشمل التكاليف المظنونة فإنّ العقل حينئذ يدرك ثبوت المنجزيّة والمعذريّة للظنّ عينا كما في إدراكه لثبوتها للقطع ، وذلك لافتراض انّ الحجيّة ليست من اللوازم الذاتيّة للقطع بما هو قطع وانّما لكونه كاشفا عن الاوامر المولويّة المقتضية ذاتا للمنجزيّة والمعذريّة. ومن أجل ذلك تبنى السيد الصدر رحمه‌الله ما أفاده صاحب الكفاية رحمه‌الله في معنى الحكومة.

المعنى الثاني : وهو الذي تبنّاه السيّد الخوئي رحمه‌الله ، وحاصله : انّه مع افتراض تماميّة مقدّمات الانسداد يستقل العقل بإدراك حجيّة الامتثال الإجمالي الظني ، وذلك لانعقاد العلم الإجمالي ـ كما هو الفرض ـ وعدم امكان الاحتياط التام ، بمعنى انّ العقل القاضي بلزوم الطاعة للمولى جلّ وعلا يدرك عند عدم امكان الاحتياط التام لزوم التبعيض في الاحتياط ، فيدور الأمر حينئذ بين الامتثال الإجمالي الشكي أو الوهمي وبين الامتثال الإجمالي الظني ، فلا محيص عندئذ عن الامتثال الاجمالي الظنّي بعد امكانه وعدم لزوم محذور اختلال النظام أو العسر والحرج.

وإدراك العقل للزوم الامتثال الإجمالي الظني يعني إدراكه لاستحقاق المكلّف للعقاب لو لم يلتزم بذلك واكتفى بالامتثال الاجمالي الشكّي أو الوهمي ، كما يعني إدراكه لمعذوريّة المكلّف عند اتّفاق مخالفة الواقع.

والمتحصّل انّ المراد من الحكومة هو التبعيض في الاحتياط بنحو


الامتثال الإجمالي الظني ، هذا لو لم تكن هذه المرتبة من الامتثال موجبة أيضا لمحذور اختلال النظام أو العسر والحرج وإلاّ فالمتنجّز عندئذ على المكلّف هو الامتثال الإجمالي الشكي إلاّ أن تكون هذه المرتبة مستوجبة أيضا لأحد المحذورين فانّ المتعيّن مع هذا الفرض هو الامتثال الإجمالي الوهمي.

والخلاصة انّه بعد تماميّة مقدّمات الانسداد وعدم امكان الاحتياط التام يكون المتنجّز بحكم العقل هو التبعيض في الاحتياط ، وتكون المرتبة المتنجّزة هي التي لا تستلزم أحد المحذورين.

* * *

٣١١ ـ الحكومة الواقعيّة والحكومة الظاهريّة

عند ما يتصدّى الدليل الشرعي للتضييق أو التوسعة من دائرة محمولات أو موضوعات الأحكام الواقعيّة بحيث لا يكون للشكّ في الحكم الواقعي دخل في اعتبار التوسعة أو التضييق بل إنّ الملحوظ عند اعتبار أحدهما هو الموضوع بما هو ، أو المحمول ( الحكم ) بما هو عند ما يكون الأمر كذلك فالحكومة واقعيّة.

ومثال ذلك قوله عليه‌السلام : « الطواف في البيت صلاة » فإنّ هذا الخطاب وسّع من دائرة الموضوع ( الصلاة ) اعتبارا فجعل الطواف فردا للصلاة.

وهذه التوسعة واقعيّة لأنّ الملحوظ حين اعتبار التوسعة هو الصلاة بما هي ، أي أنّ المولى لاحظ الصلاة واعتبر الطواف فردا منها ، ولم يكن حين اعتبار التوسعة قد لاحظ الصلاة بما هي مشكوكة الحكم. لذلك تكون هذه التوسعة ثابتة مطلقا أي بقطع النظر عن العلم بحكم الصلاة أو الجهل به. فلو اتّفق أن كان المكلّف جاهلا بحكم الصلاة ثمّ علم به فإنّ العلم بحكم الصلاة لا يؤثّر في سقوط التوسعة.

وهكذا الحال بالنسبة لقوله تعالى : ( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) بناء على أنّ معنى الآية هو نفي الحكم الحرجي ، أي أنّ الله لم يجعل حكما


حرجيّا ، فإنّ هذا الدليل بناء على هذا المعنى يوجب التضييق من دائرة محمولات الأدلّة على الأحكام الواقعيّة ، فكلّ دليل يقتضي ثبوت حكم لموضوع فإنّه يكون محكوما بهذا الدليل ، بمعنى أنّ هذا الدليل يضيّق من سعته بعد أن كان واسعا ، فبعد أن كان الوجوب ثابتا لمطلق الوضوء مثلا كما هو مقتضى دليله فإنّه يصبح بمقتضى الآية الشريفة منفيّا لو صادف أن كان حرجيّا.

فالتضييق من جانب المحمول ( الوجوب ) في الآية الشريفة إنّما كان من الحكومة الواقعيّة بسبب أنّ الملحوظ حين اعتبار التضييق هو الوجوب الثابت للوضوء مثلا ، أو قل إنّ الملحوظ هو مطلق الأحكام الواقعيّة الثابتة بأدلّتها.

ولهذا فكلّ حكم حرجي فهو منفي بهذه الآية رغم أنّ مقتضى دليله هو الثبوت ، فالوجوب الذي ينشأ عنه الحرج أو الذي لا ينشأ منه الحرج ثابت بدليله إلاّ أنّ الآية الشريفة جاءت لتضيّق من دائرة الوجوب وذلك بنفي الوجوب الذي ينشأ منه الحرج.

وأمّا الحكومة الظاهريّة فهو أن يتصدّى الدليل الشرعي للتوسعة أو التضييف من دائرة محمولات أو موضوعات الأحكام الواقعيّة ولكن في مرحلة الظاهر ومقام الإثبات ، وهذا معناه أنّ الواقع لو انكشف بعد ذلك على خلاف ما اقتضاه اعتبار التوسعة أو التضييق فإنّ هذا الاعتبار يكون ساقطا.

وكيفيّة التعرّف على أنّ الحكومة ظاهريّة يتمّ بملاحظة دليل التوسعة أو التضييق ، فإن افترض فيه الشكّ في الحكم الواقعي فالحكومة ظاهريّة ، ومن هنا كانت الحكومة الظاهريّة في طول الواقع فهي وسيلة لإحرازه وطريق لإثباته.

ومثال الحكومة الظاهريّة الموسّعة لدائرة الموضوع هو ما لو قامت البيّنة على خمريّة هذا المائع ، فإنّ جعل الحجّيّة للبيّنة معناه اعتبارها وسيلة


لإحراز الواقع ، وإذا كانت كذلك فهي مقتضية في المثال لاعتبار السائل المشكوك الخمريّة خمرا في مرحلة الظاهر ، فلو كان خمرا واقعا لما كان للبيّنة سوى دور الإحراز والوسطيّة في إثبات الواقع ، ولو لم يكن خمرا واقعا إلاّ أنّه لم ينكشف لنا خلافه فإنّ البيّنة أنتجت اعتباره خمرا في مرحلة الظاهر ، وهذا هو معنى التوسعة ، إذ أنّ البيّنة وسّعت دائرة الخمر الواقعي فاعتبرت مشكوك الخمريّة خمرا ولكن في مرحلة الظاهر أي في ظرف الشكّ.

وهذا يقتضي أنّ الواقع لو انكشف بعد ذلك وكان على خلاف ما اقتضته البيّنة فإنّ اعتبار خمريّة هذا السائل يصبح ساقطا.

وهكذا لو أخبر الثقة عن نجاسة عرق الجنب من الحرام فإنّ ذلك يكون من الحكومة الظاهريّة الموسّعة من دائرة المحمول ( الحكم ). وذلك لأنّ دليل الحجّيّة لخبر الثقة يقتضي اعتبار خبره وسيلة لإحراز الواقع ولمّا كان كذلك فهو يقتضي في المثال التوسعة من دائرة الحكم ، إذ أنّ ثبوت النجاسة لعرق الجنب إمّا أن يكون ثابتا واقعا فخبر الثقة عندئذ سوف لن يكون له سوى دور الوسطيّة في الإثبات والإحراز للواقع ، وإذا لم يكن عرق الجنب نجسا واقعا ولم يكن قد انكشف ذلك لنا فإنّ خبر الثقة يكون مقتضيا لاعتبار ثبوت النجاسة ولكن في مرحلة الظاهر ، ولذلك لو انكشف الواقع فإنّ هذا الاعتبار يكون ساقطا.

* * *

٣١٢ ـ الحكومة بملاك الرفع

والمقصود من هذا النحو من الحكومة هو ان يتكفّل أحد الدليلين لرفع الموضوع في الدليل الآخر من غير أن يكون للدليل ـ الرافع لموضوع الحكم في الدليل الآخر ـ نظر للدليل الآخر لغرض شرحه وتفسيره ، بمعنى انّ المناط في حاكميّة أحد الدليلين على الآخر هو كونه صالحا لنفي موضوع الدليل الآخر دون أن يناط ذلك


باشتمال الدليل الحاكم على قرينة النظر للدليل المحكوم.

وعليه لا يشترط في الدليل الحاكم أن يكون وجوده لاغيا لو لا وجود الدليل المحكوم ـ كما هو الحال في الحكومة بملاك النظر ـ فالدليل الحاكم هنا يتعقّل صدوره دون أن يكون الدليل المحكوم موجودا.

ومثال الحكومة بملاك الرفع هو ما يقال من حكومة الأمارات على الاصول العمليّة الشرعيّة ، فإنّ الأمارة تنفي موضوع الأصل الشرعي تعبدا ، وذلك لأنّ موضوع الأصل هو الشك ومع قيام الامارة ينتفي الشك تعبدا.

مثلا : لو وقع الشك في حرمة لحم الأرنب فإنّ مقتضى أصالة البراءة هو الحليّة الظاهريّة ، فلو اتّفق ان قام الدليل الاجتهادي « الامارة » على حرمة لحم الأرنب فإن موضوع الأصل وهو الشك في الحرمة ينتفي تعبدا.

ومن هنا كان دليل الأمارة حاكما على دليل الأصل بمعنى انّه ناف لموضوع دليل الأصل ، وتلاحظون انّ الحكومة هنا غير منوطة بوجود قرينة على نظر دليل الامارة لدليل الأصل ، فإنّ دليل الأمارة الذي جعل الحجيّة لها لا يكون لاغيا لو افترض عدم وجود دليل الأصل ، وبذلك تفترق الحكومة بملاك الرفع عن الحكومة بملاك النظر.

هذا بناء على التقسيم الذي ذكره السيّد الخوئي رحمه‌الله للحكومة ، وأمّا بناء على ما ذكره السيّد الصدر رحمه‌الله فإنّ الحكومة دائما تكون بملاك النظر ، فرفع أحد الدليلين لموضوع الدليل الآخر لا يكون من الحكومة لو لم يشتمل الدليل الرافع على قرينة النظر ، وحينئذ يكون الرفع امّا بمناط الورود أو بمناط التخصيص ، على انّه يمكن توجيه المثال المذكور بنحو يثبت معه انّ الامارة ناظر لدليل الأصل ، وحينئذ تكون الحكومة بملاك النظر إلاّ انّ ذلك خارج عن المقصود.

* * *


٣١٣ ـ الحكومة بملاك النظر

قلنا انّ هناك ضابطين للحكومة وباعتبارهما تمّ تقسيمها الى قسمين ، ونبيّن تحت هذا العنوان القسم الاوّل ، وهو الحكومة بملاك النظر.

وحاصله : انّ قوام الحكومة هو نظر الدليل الثاني للدليل الاول لغرض شرحه وتفسيره ، وهذا معناه وجود قرينة على انّ المتكلّم ناظر لكلامه الأوّل وقاصد لشرحه وبيانه ، ولذلك صورتان :

الصورة الاولى : أن تكون وسيلة التعبير عن النظر هي أحد أدوات الشرح والتفسير مثل كلمة « أي ـ أعني ـ أقصد » وما يؤدى مؤدى هذه الكلمات.

الصورة الثانية : أن تكون وسيلة التعبير عن النظر غير أدوات الشرح والتفسير ، كأن يتوسّل المتكلّم للتعبير عن النظر بواسطة التنزيل أو مناسبات الحكم والموضوع.

والسيّد لخوئي رحمه‌الله ذكر انّ الضابطة لهذه الصورة هي لغويّة الدليل الحاكم لو لم يكن هناك دليل آخر جاء الدليل الحاكم لغرض شرحه وبيانه.

ومثاله : قوله « لا شك لكثير الشك » ، فإنّ هذا التعبير لا يكون مبرّرا ومعقولا لو لم يكن هناك دليل آخر جاء هذا الدليل لغرض شرحه وبيان بعض حدوده ، فلو لم يكن للشك في الصلاة حكم خاص ورد في دليل آخر فما معنى نفي الشك أي حكمه بالنسبة لكثير الشك.

فلغوية الدليل الثاني مع افتراض عدم الدليل الاول هو المعبّر عن نظر الدليل الثاني للدليل الاول ، واذا ثبت النظر ثبتت الحاكميّة للدليل الثاني على الدليل الاول.

ثمّ انّ للحكومة بملاك النظر اسلوبين :

الاسلوب الاول : ويعبّر عنه بالنظر في عقد الوضع : وهو ان يتصدّى الدليل الحاكم لشرح الدليل الاول عن طريق التصرّف في موضوعه إمّا بنحو التضييق أو بنحو التوسيع ، ويكون


الغرض من ذلك نفي الحكم عما هو خارج عن حدود الدائرة المضيّقة بواسطة الدليل الحاكم في النحو الاوّل أو اثبات الحكم لما هو أوسع من دائرة موضوع الحكم في الدليل المحكوم في النحو الثاني ، ويعبّر عن النحو الاول بنفي الحكم بلسان نفي الموضوع وتكون الحكومة معه مضيّقة ، ويعبّر عن النحو الثاني باثبات الحكم بلسان اثبات الموضوع وتكون الحكومة معه موسعة.

ومثال الحكومة المضيّقة : ما لو قال المولى : « من شك بين الثلاث والأربع بنى على الأربع وتشهّد وسلّم ثمّ قام فجاء بركعة بفاتحة الكتاب وتشهّد بعدها وسلّم » ثمّ قال : « لا شكّ لكثير الشك » ، فإنّ الكلام الثاني ناظر الى الكلام الاوّل ، وذلك بقرينة انّ الكلام الثاني لا يكون له معنى محصّل ومعقول لو لا وجود كلام سابق يكون هذا الكلام مفسرا له ومبينا لحدوده ، إذ ما معنى أن يقال ابتداء « لا شك لكثير الشك » لو لا أن يكون للشك حكم ثابت بدليل آخر.

وأمّا انّه كيف يكون الكلام الثاني في المثال متصرّفا في موضوع الحكم في الكلام الاوّل فهو لأنّ المتكلّم استعمل موضوع الحكم في الدليل الاوّل كوسيلة لشرح وبيان حدود موضوع الحكم جدا وواقعا فنفى بعض أفراد الموضوع عن أن تكون مشمولة للموضوع المجعول عليه الحكم في الدليل الأوّل. ونفي الموضوعيّة عن هذه الأفراد معناه نفي الحكم عنها ، إذ انّ الاحكام تابعة لموضوعاتها ثبوتا وانتفاء ، ومن هنا قيل بانّ المنفي روحا في الدليل الحاكم هو الحكم ولكن بلسان نفي الموضوع أي بواسطة نفي موضوعيّة بعض الافراد عن موضوع الحكم في الدليل المحكوم ومعه ينتفي الحكم عن هذه الأفراد ولمزيد من التوضيح راجع عنوان « نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ».

وأمّا مثال الحكومة الموسّعة : فهو ما لو قال المولى « لا صلاة إلاّ بطهور »


ثمّ قال في كلام آخر « الطواف بالبيت صلاة » فإنّ هذا اللسان يعبّر عن النظر بنفس التقريب السابق ، والنظر هنا في عقد الوضع كما في المثال السابق ، أي انّ تصرّف الدليل الحاكم انّما هو في موضوع الدليل المحكوم إلاّ انّه بنحو التوسيع من دائرة موضوع الحكم في الدليل المحكوم ، فموضوع الحكم في الدليل المحكوم هو الصلاة والحكم المترتّب على هذا الموضوع هو شرطيّة الطهارة ، والدليل الحاكم جاء ليشرح المراد من الصلاة في الدليل المحكوم ويثبت انّ الطواف فرد من أفراد الصلاة ، وبذلك يترتّب الحكم المجعول ـ على الصلاة في الدليل المحكوم ـ على الطواف ، وذلك لأنّه ـ بمقتضى الدليل الحاكم ـ فرد من أفراد الصلاة ، وبهذا يتوسّع موضوع الحكم في الدليل الاوّل المحكوم وتصبح الطهارة شرطا للطواف كما هي شرط للصلاة. فهو إثبات لشرطيّة الطهارة ولكن عن طريق اعتبار الطواف فردا للصلاة ، وهذا هو معنى قولهم « إثبات الحكم بلسان إثبات الموضوع ».

الاسلوب الثاني : ويعبّر عنه بالنظر في عقد الحمل ، وهنا يتوسّل المتكلّم في مقام شرحه لكلامه الاول بالتصرّف في محمول القضيّة في الكلام الاوّل ، أي في التصرّف في نفس الحكم ابتداء دون توسيط الموضوع في ذلك كما في الاسلوب الاول.

ومثال ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « لا ضرر ولا ضرار » وقوله تعالى ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ، ) فإنّ هذين الدليلين ناظران الى الأحكام الشرعيّة الثابتة في الادلّة الاخرى ، حيث انّ مقتضى تلك الأدلّة هو ثبوت تلك الاحكام بنحو مطلق سواء كانت ضرريّة وحرجيّة أو لم تكن.

وحينئذ لو فهمنا من الرواية انّه لم يجعل الله تعالى حكما ضرريا وفهمنا من الآية المباركة انّ الله تعالى لم يجعل حكما حرجيا فإنّ الدليلين يكونان حاكمين على أدلّة الأحكام الشرعيّة الاوليّة وموجبين لتضييق دائرة تلك الاحكام.


وتلاحظون انّ هذين الدليلين قد تصرّفا في نفس الحكم في الأدلّة المحكومة حيث انّ المنفي في هذين الدليلين هو الحكم ، فقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « لا ضرر » معناه لا حكم ضرري مجعول على المكلفين وكذلك قوله لا حرج معناه لا حكم حرجي مجعول من المولى جلّ وعلا. ومن هنا كانت الحكومة في هذين المثالين من نحو الحكومة المتصرّفة في عقد الحمل.

واتّضح ممّا ذكرناه تقريب الضابطة التي ذكرها السيّد الخوئي رحمه‌الله للتعرّف على انّ الدليل الثاني ناظر للدليل الاول ، إذ لا معنى لتصدّي المولى لنفي الحكم الضرري والحرجي لو لم يكن هناك أدلّه تقتضي ثبوت الأحكام حتى في موارد الضرر والحرج.

* * *

٣١٤ ـ أصالة الحل

وهي من الأصول العمليّة المؤمّنة ، والتي تنفي المسئولية تجاه الفعل المشكوك الحرمة ، ويمكن تصوير جريانها في موارد الشك بنحو الشبهة الحكميّة كما يمكن تصوير جريانها في موارد الشك بنحو الشبهة الموضوعيّة.

أما تصوير جريانها في الشبهة الحكميّة فهو انّه متى ما وقع الشك في جعل الحرمة على شيء أو عدم جعلها له نتيجة فقدان الدليل الاجتهادي أو تعارض ما يدل على الحرمة مع ما يدل على الحليّة وعدم وجود المرجّح والبناء على التساقط في مثل هذا الفرض ، أو نتيجة اجمال الدليل ، ففي تمام هذه الفروض يكون المجرى هو أصالة الحلّ بمعنى انّ الحكم الظاهري الثابت للفعل المشكوك حكمه من حيث الحليّة والحرمة هو الحلية ، ومثاله ما لو وقع الشك في حكم أكل لحم الأرنب.

وأمّا تصوير جريانها في الشبهة الموضوعيّة فهو ما لو كان الشك ناشئا عن اشتباه الامور الخارجيّة ، كما لو شك المكلّف في شخص سائل وانّه سائل خمري أو هو خلّ ، فإنّ هذا النحو من الشك يؤول الى الشك في


حليّة هذا السائل أو حرمته. والاصل الجاري حينئذ هو أصالة الحل.

والاصوليّون لم يفردوا لهذا الأصل بحثا مستقلا ، وذلك لأنّه لو افترض تماميّة أدلته فإنّه يكون مشمولا لعنوان أصالة البراءة الشرعيّة ، ولهذا تجد انّ الاصوليّين يستعرضون روايات الحلّ في بحث البراءة الشرعيّة على انّها من أدلتها :

وتقريب مشموليّة أصالة الحلّ لأصالة البراءة الشرعيّة هو انّ أصالة البراءة الشرعيّة تنفي المسئوليّة عن كلّ تكليف إلزامي وقع الشك في ثبوته على عهدة المكلّف ، فموضوع البراءة الشرعيّة هو الشك في التكليف ، وعندئذ لو وقع الشك في ثبوت الحرمة لشيء ـ سواء بنحو الشبهة الحكميّة أو بنحو الشبهة الموضوعيّة ـ فهذا معناه الشك في التكليف وهو موضوع أصالة البراءة كما انّه موضوع لأصالة الحلّ باعتبار انّ متعلّق الشك هو الحرمة ، فالنسبة بين الأصلين هو العموم المطلق ، فأصالة الحلّ أخصّ مطلقا من أصالة البراءة الشرعيّة.

ثم انّ أصالة الحل قد تطلق في بعض الكلمات ويراد منها أصالة الاباحة العقليّة ، وهو ما أوضحنا المراد منه تحت عنوان « أصالة الإباحة » ، وحينئذ لا يكون مدرك أصالة الحل روايات الحل بل يكون مدركها هو مدرك أصالة الإباحة العقليّة.

على انّه يمكن اعتبار أصالة الحل مشمولة لأصالة البراءة العقليّة المستفادة من قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وذلك لأنّ الحرمة التي لم يقم عليها بيان مجرى لأصالة البراءة العقليّة كما هو مجرى لأصالة الحلّ إلاّ انّه لم يعهد من الاصوليين هذا الاستعمال حسب الظاهر.

* * *

٣١٥ ـ الحمل الأولي والحمل الشائع

الحمل الأولي هو ما كان فيه الاتّحاد بين الموضوع والمحمول من جهة المفهوم ، والحمل الشائع هو ما


كان الاتّحاد فيه بين الموضوع والمحمول من جهة الوجود.

وببيان أوضح وأدقّ : انّ الحمل الأولي هو ما يكون فيه المحمول ذاتيا للموضوع ، بمعنى انّه المقوم للذات أو جزء المقوّم ، فالمقصود من الذاتي هو الذاتي في باب الكليّات لا الذاتي في باب البرهان ، فكلما كان المحمول ذاتيا للموضوع فالحمل حينئذ يكون حملا أوليا.

ومن هنا قالوا انّ الحمل الأولي هو ما كان فيه المحمول حدّا للموضوع سواء كان حدّا تاما أو ناقصا. فتعريف الشيء بجنسه وفصله أو بجنسه أو بفصله يكون من الحمل الاولي لأنّه تعريف بنحو الحدّ التام أو الناقص.

وبتعبير آخر : عند ما يكون مؤلف القضيّة في مقام بيان حقيقة الموضوع وماهيّته فإنّه لا يصحّ بيان حقيقته إلاّ بواسطة حمل ذاتياته عليه ، وحينئذ يكون الحمل أوليا ذاتيا.

فحمل الحيوان الناطق أو الناطق أو الحيوان على الإنسان يكون حملا أوليّا ، وذلك لأنّ هذا الحمل مبيّن لماهيّة وحقيقة الإنسان.

وأمّا حمل الضاحك أو الماشي على الإنسان ، كأن يقال الإنسان ضاحك أو ماش فليس حملا أوليّا ، وذلك لأنّ المشي والضحك ليسا من ذاتيات الإنسان بل انّ الاول عرض عام والثاني عرض خاص ، ولذلك لا يحملون على الموضوع إذا كان الغرض بيان حقيقة وماهيّة الموضوع ، أي اذا ما كان الغرض بيان حدّ الموضوع.

وهكذا لو حملنا الزوجيّة على الأربعة فإنّ الحمل لا يكون أوليّا ، وذلك لأنّ الزوجيّة ليست من ذاتيّات الأربعة ، فلا هي مقوّم للاربعة ولا هي جزؤها المقوّم ، نعم هي ذاتي للاربعة بنحو الذاتي في باب البرهان ، وقد قلنا انّ الذاتي الذي يكون معه الحمل أوليا هو الذاتي في باب الكليّات.

وبما ذكرناه يتّضح انّ الحمل الاولي هو ما كان الموضوع ملحوظا بنحو صرف الذات ، أي انّ ماهية الموضوع


ملحوظة بما هي هي بقطع النظر عن وجودها الخارجي مثلا وبقطع النظر عن تمام آثارها وأحكامها ، وانّ المحمول فيه ـ وهي الذاتيّات ـ ملحوظة أيضا بنحو صرف كونها ذاتيات ، وانّ الغرض من الحمل هو بيان ماهية الموضوع وحقيقته.

ومنشأ التعبير عن هذا الحمل بالذاتي هو انّ المحمول فيه ذاتي للموضوع ، كما انّ منشأ التعبير عنه بالأولي هو انّ القضايا في هذا الحمل لا تكون إلاّ قضايا أوليّة بديهيّة والتي يكون فيها تصوّر الموضوع وتصوّر المحمول كافيا في التصديق بالنسبة.

وأمّا الحمل الشائع الصناعي فهو ما كان فيه المحمول أحد أحكام الموضوع الخارجة ذاتا عن ماهيّته والثابتة له بلحاظ وجوده.

فالموضوع بما هو موجود له مجموعة من الآثار والأحكام ، وحينما تحمل هذه الآثار والأحكام على الموضوع بما هو موجود فالحمل عندئذ يكون حملا شايعا صناعيا.

والتعبير عنه بالشائع باعتبار شيوع استعماله بين الناس ، وأمّا التعبير عنه بالصناعي فباعتبار تداول استعماله في الصناعات ، أي في العلوم.

وتلاحظون انّ الحمل الشائع لا صلة له ببيان حقيقة وماهيّة الموضوع ، وهذا ما يعبّر عن الفراغ عن معرفته وتشخصه ، إذ انّ حمل الآثار والأحكام عليه انما هو فرع تصوّره ووضوحه.

وبهذا يكون حمل العرض الخاص والعرض العام على موضوعه من الحمل الشائع ، وذلك لأنّ العرض الخاص وكذلك العام انّما هما من آثار الموضوع الوجوديّة ، فليس لهما بيان ماهيّة وحقيقة الموضوع ، فحمل المشي على الإنسان انّما هو باعتبار وجوده وإلاّ فليس المشي جزء من ماهية الإنسان بما هو ، إذ انّ الإنسانيّة ليست متقوّمة بالمشي كما هو واضح ، فالإنسان بما هو موجود يكون ماشيا ، وأمّا بما هو مفهوم فليس هو بماش. ولهذا يصحّ أن يقال « الإنسان ماش »


« والإنسان ليس بماش » ، وذلك لأنّ الإنسان في القضيّة الاولى لوحظ باعتباره موجودا خارجيا ، وأمّا في القضيّة الثانية فالملحوظ هو صرف الذات أي ماهيّة الإنسان بما هي.

وهكذا الكلام في حمل الحرارة على النار والزوجيّة على الأربعة فإنّ الحمل معهما حمل شايع صناعي ، لأنّ الحرارة انّما تثبت للنار الموجودة خارجا لا لمفهوم النار ، فحملها على النار انّما هو لبيان أثر من آثار وجودها.

ومنه اتّضح انّ حمل الذاتي في باب البرهان على موضوعه يكون من الحمل الشائع ، وذلك لأنّ الذاتي في باب البرهان خارج عن حقيقة الذات لازم لها ، وهذا التلازم انّما هو بلحاظ وجود الذات لا بلحاظ الذات بما هي ، فحمل الزوجيّة على الأربعة انّما هو بلحاظ وجود الأربعة لا بلحاظ صرف ماهيّتها وإلاّ فالزوجيّة ليست جنسا لذات الأربعة ولا هي فصلها وانّما هي من اللوازم الوجوديّة لذات الأربعة.

ويتّضح أيضا ممّا ذكرناه انّ المصحّح لحمل المغاير على مغايره انّما هو لأنّ المحمول أحد آثار الموضوع الوجوديّة ، فالمصحّح لحمل القيام على زيد هو انّ القيام عرض من أعراض وجود زيد.

والمتحصّل ممّا ذكرناه انّ الحمل الشائع هو ما يكون فيه المحمول أثرا من آثار الموضوع الوجوديّة.

* * *

٣١٦ ـ الحمل البسيط والحمل المركّب

والمراد من الحمل البسيط هو ما كان بمفاد كان التامّة والذي يكون المحمول معه هو الوجود ، فالحمل البسيط معناه ثبوت الشيء ، والتعبير عنه بالبساطة ناشئ عن انّ القضيّة لم تثبت شيئا لشيء وانّما أثبتت الشيء نفسه أي اثبت الوجود له والشيء « كالإنسان » ليس شيئا آخر غير وجوده.

والمراد من الحمل المركّب هو ما


كان بنحو مفاد كان الناقصة والتي يتمّ بها إثبات شيء لشيء. فالمحمول في الحمل المركّب يكون أثرا من آثار الموضوع الوجوديّة أو عرضا من أعراضه.

ويعبّر عن هذا الحمل بالحمل بنحو الهليّة المركبة في مقابل الحمل البسيط والذي يكون الحمل معه بنحو الهليّة البسيطة. ومثال الحمل المركب « الإنسان ماش » و « زيد قائم » ، حيث تمّ فيهما إثبات شيء لشيء ، وهذا هو منشأ التعبير عن هذا الحمل بالمركّب.



حرف الخاء


عناوين حرف الخاء

٣١٧ ـ الخارج المحمول

٣١٨ ـ الخاصّ

٣١٩ ـ الخبر بالواسطة

٣٢٠ ـ الخبر الحسن

٣٢١ ـ الخبر الحسّي والخبر الحدسي

٣٢٢ ـ الخبر الصحيح

٣٢٣ ـ الخبر الضعيف

٣٢٤ ـ الخبر المتواتر

٣٢٥ ـ الخبر المستفيض

٣٢٦ ـ الخبر الموثّق

٣٢٧ ـ الخبر الموثوق

٣٢٨ ـ خبر الواحد

٣٢٩ ـ الخطابات الشفاهيّة


حرف الخاء

٣١٧ ـ الخارج المحمول

المقصود من الخارج المحمول هو الذاتي في باب البرهان ، وقد أوضحنا المراد منه تحت عنوانه.

* * *

٣١٨ ـ الخاصّ

الخاصّ وصف للحكم يثبت له حينما تكون بعض أفراد موضوع الحكم أو متعلّقه خارجة عنه بواسطة التخصيص ، وذلك في مقابل العامّ والذي هو وصف للحكم الثابت لتمام أفراد موضوعه أو متعلّقه.

مثلا : حينما يقال للمكلّف ( يجب عليك إكرام العلماء إلاّ الفسّاق ) فإنّ الوجوب في المثال هو الموصوف بالخاصّ ، وذلك لأنّ موضوعه وهو العلماء قد تمّ إخراج بعضهم عن الحكم ( الوجوب ) بواسطة التخصيص بـ ( إلاّ ) ، ففسّاق العلماء وإن كانوا من أفراد العلماء موضوعا إلاّ أنّهم خارجون عن الحكم بالوجوب بواسطة التخصيص. لذلك كان الحكم بالوجوب خاصّا لاختصاصه ببعض أفراد موضوعه وهم العلماء غير الفسّاق.

أمّا لو قيل للمكلّف ( يجب إكرام العلماء ) فإنّ الوجوب يكون عامّا وذلك لشموله لتمام أفراد موضوعه.

* * *

٣١٩ ـ الخبر بالواسطة

والمراد من الخبر بالواسطة هو


الخبر الذي وصل إلينا بأكثر من واسطة كواسطتين أو ثلاث أو أكثر ، أمّا لو وصل إلينا الخبر بواسطة واحدة ـ كأن كان المتلقي للخبر قد تلقّاه عمّن يروي عن الإمام عليه‌السلام مباشرة ـ فهذا الفرض غير مشمول للعنوان المذكور.

والغرض من عرض هذا العنوان في كتب الاصول هو تقريب كيفيّة شمول أدلّة الحجيّة للخبر بالواسطة ، وذلك لتوهّم افتقاده لشرطين أساسيّين من شرائط ثبوت الحجيّة للخبر ، وهما إحراز الخبر واشتمال مدلوله على أثر شرعي ، فهنا إشكالان على ثبوت الحجيّة للخبر بالواسطة.

الإشكال الاول : انّه لا ريب انّ الحجيّة الثابتة للخبر منوطة بإحراز الخبر ، وذلك لأنّ الحجيّة بمثابة الحكم الثابت لموضوعه والذي هو الخبر ، واذا كان كذلك فلا بدّ من تقرّر الخبر واحرازه في رتبة سابقة عن ثبوت الحجيّة له وإلاّ لزم فعليّة الحكم قبل وجود موضوعه ، وهو باطل بلا ريب.

ومع اتّضاح هذه المقدّمة تتّضح استحالة ثبوت الحجيّة للخبر بالواسطة ، وذلك لأنّ الخبر بالواسطة ينحلّ الى أخبار طوليّة بعدد الوسائط ، والخبر المحرز من هذه الأخبار هو الذي نقله إلينا الراوي الواقع في آخر سلسلة السند من جهتنا ، وواضح انّ الذي يرويه الواقع في آخر سلسلة السند هو انّ شيخه نقل اليه عن شيخه ، فالخبر المحرز وجدانا هو ما أخبر به الواقع في آخر سلسلة السند ، ومضمون خبره هو انّ شيخه أخبره عن شيخه ، وأمّا خبر شيخ الواقع في آخر السلسلة عن شيخه فليس محرزا وجدانا ، نعم يمكن احرازه تعبدا بواسطة ثبوت الحجيّة لخبر الواقع في آخر السلسلة ، وهذا معناه انّ إحراز الخبر بالواسطة متأخّر عن ثبوت الحجيّة لخبر الواقع في آخر السلسلة ، وقد قلنا انّ ذلك مستحيل ، لأنّ الحجيّة فرع احراز الخبر في حين انّ المقام تكون الحجيّة هي المحرزة للخبر فيلزم تقدم الحكم على


موضوعه أو قل تقدّم فعلية الحكم على وجود موضوعه.

وحتّى يتّضح المطلب أكثر نذكر هذا المثال ، لو أخذنا رواية من كتاب الكافي مرويّة بهذا الطريق محمّد بن يعقوب الكليني رحمه‌الله عن علي بن إبراهيم القمّي عن أبيه إبراهيم بن هاشم عن ابن أبي عمير عن الإمام عليه‌السلام انّه قال كذا.

ففي الواقع انّ هذا الطريق يشتمل على خمسة اخبارات طوليّة ، والخبر المحرز لنا بالوجدان هو الخبر الاول والذي يرويه الكليني رحمه‌الله ، وأمّا الأخبار الأربعة فهي غير محرزة وجدانا ، ويتمّ احرازها بواسطة ثبوت الحجيّة لخبر الكليني ، وهذا معناه انّ الحجيّة تثبت قبل احراز الأخبار الأربعة والحال انّ الحجيّة متأخّرة رتبة عن احراز الخبر باعتباره هو موضوع الحجيّة ، واذا فرضنا انّ الحجيّة هي الموجبة لإحراز الموضوع كانت الحجيّة متقدّمة رتبة على الموضوع ، وقد قلنا انّ الحجيّة متأخرة رتبة عن الموضوع ، ثبت المطلوب ، وهو عدم امكان اثبات الحجيّة للخبر بالواسطة.

هذا وقد أجاب السيّد الخوئي رحمه‌الله عن هذا الإشكال بما حاصله : انّ الحجيّة الثابتة لخبر الكليني رحمه‌الله غير الحجيّة الثابتة لخبر القمي ، والحجيّة الثابتة لخبر القمي غير الحجيّة الثابتة لخبر إبراهيم بن هاشم وهكذا ، فعند ما أحرزنا خبر الكليني بالوجدان ثبتت له الحجيّة ، وبثبوت الحجيّة لخبر الكليني أحرزنا خبر القمي وعندها ثبتت لخبر القمي حجيّة اخرى ، بمعنى انّ الحجيّة الاولى أحرزت الخبر الثاني وباحراز الخبر الثاني ثبتت له حجيّة ثانية ، وهذه الحجيّة الثانية أحرزت الخبر الثالث وهكذا ، فليس في البين حجيّة شخصيّة واحدة ثبتت للخبر الاول فأحرزت الخبر الثاني وبعد ذلك حملت عليه حتى يقال انّها في الوقت الذي أحرزت الخبر الثاني أصبحت حكما للخبر الثاني فتكون متأخرة في حال كونها متقدّمة.


ومنشأ دعوى انّ الحجيّة الاولى غير الحجيّة الثانية وهكذا هو انّ الحجيّة للخبر مجعولة بنحو القضيّة الحقيقيّة ، بمعنى انّ الحجيّة ثابتة لموضوعها المقدر الوجود ، وهذا يعني انحلال الحجيّة الى حجيّات متعدّدة بتعدّد أفراد الخبر المحرز بقطع النظر عن وسيلة الإحراز وانّه تمّ بواسطة الوجدان أو بواسطة حجيّة اخرى ثابتة لفرد آخر من أفراد الخبر.

الإشكال الثاني : وحاصله انّه يشترط في حجيّة كلّ خبر ان يترتب على مضمونه أثر شرعي من وجوب أو حرمة أو صحّة أو فساد أو طهارة أو ما الى ذلك ، وأمّا إذا لم يكن للخبر أثر شرعي فإنّ أدلّة الحجيّة لخبر الواحد قاصرة عن الشمول لمثل هذا الخبر ، وذلك للغوية أن يجعل الشارع الحجيّة لخبر لا يتّصل بأغراضه.

ومع اتّضاح هذه المقدّمة يتّضح سقوط الخبر الواقع في آخر سلسلة السند وكذلك اخبارات سائر الوسائط ، لانها جميعا لا تخبر عن مضمون ذي أثر شرعي ، فمضمون خبر الكليني هو انّ شيخه القمي أخبره ، وهذا الخبر ليس له أثر شرعي كما هو واضح.

ودعوى انّ ثبوت الحجيّة لخبر الكليني له أثر شرعي ، وهو ثبوت الحجيّة لخبر القمي ، والحجيّة من الآثار الشرعيّة. هذه الدعوى ليست تامة ، وذلك لأنّنا ذكرنا انّ الأثر الشرعي شرط في ثبوت الحجيّة والشرط لا بدّ من تقدّمه على المشروط وهو ثبوت الحجيّة ، فإذا افترضنا انّ الأثر الشرعي هو نفس الحجيّة صارت الحجيّة هي المحقّقة لشرط نفسها ، بمعنى انّها شرط ومشروط في آن واحد ، أمّا انّها شرط فلأنّها الأثر الشرعي المصحّح لثبوت الحجيّة للخبر ، وأمّا انّها مشروط فلأنّ ثبوت الحجيّة للخبر متوقّف على اشتماله على الأثر الشرعي.

ولكي يتّضح الإشكال أكثر نأخذ الواسطة الواقعة بعد الراوي المباشر للإمام عليه‌السلام وهو في مثالنا « ابراهيم بن


هاشم » فإنّ مضمون خبر ابراهيم بن هاشم هو انّ ابن أبي عمير أخبر عن الإمام عليه‌السلام ، وهذا الخبر ليس له أثر شرعي إلاّ أنّ ثبوت الحجيّة له يوجب احراز خبر ابن ابي عمير وعندها تثبت الحجيّة لخبر ابن أبي عمير ، وذلك لإحراز موضوعه بواسطة ثبوت الحجيّة لخبر بن هاشم ، ومن هنا قد يدعى وجود أثر شرعي لخبر بن هاشم وهذا الأثر الشرعي هو الحجيّة التي تثبت لخبر بن أبي عمير بواسطة ثبوتها لخبر بن هاشم ، وخبر بن هاشم إذن ذو أثر شرعي ، إلاّ انّ هذه الدعوى غير تامة ، وذلك لاننا قد افترضنا انّ اشتمال الخبر على الأثر الشرعي شرط في ثبوت الحجيّة للخبر ، وهذا معناه لزوم ثبوت الأثر الشرعي بقطع النظر عن ثبوت الحجيّة له أي لا بدّ وان يكون الخبر واجدا للأثر الشرعي قبل ثبوت الحجيّة له ، فإذا كانت الحجيّة هي نفسها الأثر الشرعي المصحّح لثبوت الحجيّة للخبر كان الشرط متّحدا مع المشروط ، وهو محال.

وبهذا يتنقّح انّ الأثر الشرعي يجب أن لا يكون هو الحجيّة ، وعندها لا يكون لخبر ابن هاشم أثر شرعي ، فيكون فاقدا لشرط الحجيّة.

وقد اجيب عن هذا الإشكال بمجموعة من الأجوبة نكتفي بذكر اثنين منها بالإضافة الى صلاحية جواب الاشكال الاوّل لأن يجاب به عن هذا الإشكال.

الجواب الأوّل : انّه بناء على انّه المجعول في الأمارات هو الطريقيّة وتتميم الكشف لا يكون لهذا الإشكال محصل ، وذلك لأنّ أدلّة الحجيّة للخبر ـ بناء على هذا المبنى ـ متصدّية لتتميم ما نقص من كاشفيّة الإمارة « الخبر » ، وليس لها نظر الى مضمون الأمارة وانّها ذات أثر شرعي أو ليست ذات أثر شرعي ، ومن هنا لا معنى لاشتراط ثبوت الحجيّة للخبر باشتماله على أثر شرعي. وبذلك يسقط أساس الإشكال.

الجواب الثاني : وهو يناسب تمام


المباني المذكورة لما هو المجعول في الامارات ، وحاصله كما أفاد السيّد الخوئي رحمه‌الله انّه لا دليل من الكتاب والسنّة على اناطة ثبوت الحجيّة للخبر باشتمال مضمونه على أثر شرعي ، وانّما اشترط ذلك في الخبر باعتبار ما يدركه العقل من لغوية تصدّي الشارع لجعل الحجيّة الشرعيّة للخبر في حالة لا يكون للخبر أي أثر شرعي ، وواضح انّ هذا المقدار لا ينتج الإشكال المذكور ، لوضوح عدم لغوية جعل الحجيّة لسلسلة السند إذا كان سينتج عن ذلك ثبوت حكم شرعي بل انّ ذلك هو المناسب للحكمة.

والمتحصّل انّه يكفي في ثبوت الحجيّة للخبر مساهمته في إثبات الحكم الشرعي.

* * *

٣٢٠ ـ الخبر الحسن

وهو الخبر المروي عن الإمامي الممدوح ، هذا إذا كان قد وصل الى المتلقي بواسطة واحدة ، وأمّا إذا وصل عبر وسائط متعدّدة فهو يتّصف بالحسن اذا كان جميع الوسائط من الإماميّة المنصوص على مدحهم أو اشتملت الوسائط على امامي ممدوح وكان بقيّة من اشتمل عليه السند من الإماميّة العدول ، أمّا لو اشتمل السند على ثقات من غير الإماميّة فإنّ اتّصاف الخبر بالحسن حينئذ مبني على انّ الثقة المخالف أعلى رتبة من الإمامي الممدوح.

ثمّ انّ مدح الإمامي المصحّح لاتّصاف روايته بالحسن هل هو مطلق المدح بغير التوثيق أو المدح المقبول أو المدح بالصلاح أو المدح مطلقا بشرط أن لا يكون معارضا بذم مقبول؟

الظاهر من المنقول عن الشهيد رحمه‌الله في الذكرى هو الاوّل كما انّ الثاني هو ما تبنّاه الشهيد الثاني رحمه‌الله في كتابه الرعاية في علم الدراية ، ونسب ابن الشهيد الثاني رحمهما الله لوالده القول الرابع.

* * *


٣٢١ ـ الخبر الحسّي والخبر الحدسي

ينقسم الخبر بلحاظ مضمونه إلى ثلاثة أقسام :

القسم الأوّل : يعبّر عنه بالخبر الحسّي ، وهو الذي يكون مضمونه مدركا بواحد من أدوات الحسّ كالبصر والسمع على أن يتمّ إحراز تلقّي المخبر له بالوسائل الحسّيّة. فقد يكون مضمون الخبر قابلا لأن يدرك بالحسّ إلاّ أنّ المخبر لم يكن قد تلقّاه كذلك وإنّما حدسه حدسا.

ومثال ذلك الإخبار بموت زيد ، فإنّ هذا المضمون قابل لأن يدرك بالحسّ ، فلو أحرزنا حينئذ أنّ المخبر به قد تلقّاه بواسطة الحسّ فإنّ الخبر يصبح عندئذ حسّيّا ، وأمّا لو أحرزنا أنّه تلقّاه بغير ذلك ، كما لو سمع البكاء في بيت زيد فعلم أنّه قد مات ، فلو أخبر اعتمادا على ذلك فإنّ هذا الإخبار لا يكون حسّيّا.

القسم الثاني : ويعبّر عنه بالخبر الحدسي ، وهو الذي تمّ تحصيله للمخبر عن طريق إعمال الفكر واجتهاد الرأي ، فسواء كان مضمون الخبر قابلا لأن يدرك بالحسّ أو لم يكن كذلك فالخبر يكون حدسيّا إذا تمّ تحصيله عن طريق الاجتهاد والاستنباط.

ومثال ذلك الإخبار عن تمدّد مطلق الحديد بالحرارة فإنّ هذا المضمون لا يكون قابلا للإدراك الحسّي ، وذلك لأنّ مشاهدة تمدّد الحديد بالحرارة وإن كان متاحا في بعض الأفراد إلاّ أنّ ملاحظة جميع أفراد الحديد ، وهي تتمدّد بالحرارة غير ممكن خصوصا وأنّ الإطلاق في الخبر يقتضي الشمول لما تلف من الحديد في الزمان الماضي ولما سيكون في مستقبل الزمان ، وذلك غير ممكن عادة ، فلا بدّ وأن يكون الإطلاق قد اعتمد على مثل أنّ حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد ، أو على أنّ الصدفة لا تكون أكثريّة ، وهذا معناه اعتماد الاجتهاد وسيلة في تحصيل الخبر ، ولذلك يكون مثل هذا الخبر حدسيّا.


وهكذا يكون الخبر حدسيّا لو اعتمد المخبر طريق الاجتهاد في تحصيله حتّى وإن كان المضمون قابلا للإدراك الحسّي.

ومثال ذلك إخبار المسجون بدخول الشهر القمري فإنّ هذا المضمون وإن كان قابلا للإدراك الحسّي إلاّ أنّه لا بدّ من البناء على حدسيّته لإحراز أنّ المخبر قد حصّله بواسطة الحدس.

القسم الثالث : ويعبّر عنه بالخبر الحدسي القريب من الحسّ ، وهو الذي يكون مضمونه غير قابل للإدراك الحسّي إلاّ أنّ لوازمه وآثاره حسّيّة ، وبذلك يكون قريبا من الحسّ نظرا لعدم احتياج إدراكه لأكثر من ملاحظة الآثار واللوازم الحسّيّة ، وعندها يستنتج الذهن دون عناية زائدة وجود الملزوم والذي هو مضمون الخبر.

مثلا : الإخبار عن شجاعة زيد إخبار عن مضمون حدسي لأنّ الشجاعة أمر نفساني غير قابل للإدراك الحسّي إلاّ أنّ للشجاعة آثارا ولوازم حسّيّة ينتج عن ملاحظة صدورها من أحد إحراز اشتماله على ملكة الشجاعة. فعند ما نشاهد أحدا يقتحم ميادين الحروب دون اكتراث ويصارع أبطالها وفرسانها دون أن يتراجع أو يتلكّأ ، ويصدر ذلك منه مرارا وتكرارا فإنّ مثل هذه المشاهد تعبّر عن رباطة جأشه وشجاعة قلبه.

فالشجاعة وإن كانت غير قابلة للإدراك الحسّي نظرا لكونها من الملكات النفسانيّة إلاّ أنّها قريبة من المدركات الحسيّة باعتبار أنّ إدراكها ينتج عن الملاحظة الحسّيّة لآثارها.

وباتّضاح أقسام الخبر نتمكّن من توضيح موضوع الحجّيّة لخبر الثقة وأنّه يتمحّض في الخبر الحسّي ، وكذلك الخبر الحدسي القريب من الحسّ ، وأمّا الخبر الحدسي فلا تشمله أدلّة الحجّيّة لخبر الثقة ، وذلك لأنّ عمدة ما يستدلّ به على حجّيّة الخبر هو السيرة العقلائيّة والقدر المحرز من سيرتهم هو ذلك.


٣٢٢ ـ الخبر الصحيح

وهو الخبر المروي عن الإمامي العدل ، واذا كان وصوله تمّ بوسائط متعدّدة ـ كما هو الحال بالنسبة للروايات الواصلة إلينا ـ فهو يتّصف بالصحيح إذا كان جميع الوسائط من الإماميّة المنصوص على عدالتهم.

وذكر صاحب الوسائل رحمه‌الله وغيره من الأعلام انّ الخبر الصحيح يشمل مطلق الأخبار المعتمدة عند الطائفة سواء كان منشأ اعتماده هو وثاقة رواته أو تواتره أو احتفافه بالقرائن المصحّحة للاعتماد عليه ، وانّ تصنيف الأخبار الى الصحيح والحسن والموثّق والضعيف استحدث في زمن العلامة الحلّي رحمه‌الله أو شيخه أحمد بن طاوس رحمه‌الله وإلاّ فالأخبار قبل استحداث هذا التصنيف على قسمين :

إمّا صحيح وهو المعتمد عند الطائفة أو ضعيف وهو غير المعتمد عندهم.

* * *

٣٢٣ ـ الخبر الضعيف

وهو الخبر الذي اشتملت بعض وسائطه على راو مجروح أو مجهول أو مهمل ، أو كانت بعض حلقات سنده مفقودة.

وبتعبير أشمل : انّ الخبر الضعيف هو كلّ خبر لا يتوفر على شرائط أقسام الخبر الثلاثة « الصحيح ـ والحسن ـ والموثّق » ، ثمّ انّ الضعف تتفاوت درجاته بمقدار ما يبتعد عن الشرائط المعتبرة في الأقسام الثلاثة.

هذا بحسب اصطلاح المتأخّرين كالعلاّمة والشهيدين رحمهم‌الله ، وأمّا بحسب اصطلاح المتقدّمين فالضعيف هو مطلق الخبر غير المعتمد سواء كان منشأ عدم اعتماده هو ضعف رواته أو بعضهم ، أو كان منشأ ذلك هو عدم نقله عن الاصول المعتمدة أو كان غير ذلك من المناشئ.

على انّ عدم وثاقة رواة الخبر لا يلازم اتّصاف الخبر بالضعف في اصطلاح القدماء ، فقد يكون بعض


رواة الخبر ضعاف إلاّ انّه معتمد عند مشهور القدماء ومنقول في كتب الاصول المعتمدة ، وعندئذ يكون الخبر باصطلاحهم من قسم الصحيح.

* * *

٣٢٤ ـ الخبر المتواتر

وهو الخبر الذي بلغ رواته حدّا يمتنع معه تواطؤهم على الكذب أو اتّفاق خطئهم ، على أن تكون هذه الضابطة مطردة في جميع الطبقات ، كأن يروي الخبر جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب عن جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب وهكذا حتى تنتهي حلقات السند الى المعصوم عليه‌السلام.

وإلاّ فلو كان التواتر مختصا بالطبقة الاولى والثانية مثلا ثمّ وصل إلينا بطرق لا تبلغ حدّ التواتر فإنّ الخبر حينئذ لا يتّصف بالتواتر وانّما يكون وصفه بأحد أقسام الخبر تابع لادنى مرتبة اشتملت عليها حلقات السند.

نعم يمكن التعبير عنه في بعض الحالات بالخبر المنقول بالتواتر فيما لو أخبر الثقة عن جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب ، وقد يطلق الخبر المنقول بالتواتر في حالة تصريح المخبر الواحد الثقة بأنّ الخبر الذي ينقله متواتر.

وكيف كان فقد ادعى البعض انّ التواتر لا يحصل إلاّ أن يكون عدد المخبرين اثني عشر أو أكثر في كلّ طبقة ، وذلك بعدد النقباء ( وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً ) (١) ، وبعضهم ادعى اشتراط ان لا يقل العدد عن عشرين لقوله تعالى : ( إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ) (٢) ، وادعى بعض آخر اشتراط أن لا يقل العدد عن سبعين ، وذلك لقوله تعالى : ( وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا ) (٣) ، وترقى بعضهم وادعى اشتراط ان لا يقل العدد عن ثلاث مائة وثلاثة عشر ، عدد أهل بدر.

هذا وقد اكتفى البعض بالعشرة لقوله تعالى : ( تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ) (٤) ، وذهب بعض آخر الى انّه يحصل بالسبعة قياسا على غسل الإناء من ولوغ الكلب ، وتنزّل بعضهم الى


الخمسة قياسا على اللعان ، وبعضهم الى الاربعة بعدد شهود الزنا.

هذا وقد احتمل بعض العلماء انّ هذه الأقوال ملفقة ، إذ لم تنسب لأحد ولا نعرف أحدا يتبنّى واحدا منها ، فنقول : انّه لو اتّفق ان تبنّى أحد بعض هذه الأقوال فهو يعبّر عن حظّه من الفهم ، إذ لا تعدو عن كونها هلوسات يتفكّه بها الطلبة في مجالسهم ، ولو كان الأمر كذلك لأمكن أن نقول : انّ التواتر يحصل بالستّة أو الخمسة لقوله تعالى ( وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ ) (٥) أو انّه يحصل بتسعة عشر رجلا لقوله تعالى ( عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ ) (٦) أو بثلاثة عشر عدد زوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو انّ التواتر يحصل إذا كان عدد المخبرين ألفا لقوله تعالى ( لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) (٧).

هذا وقد فصلنا الحديث عن التواتر تحت عنوانه وبينا ما هي الضابطة التي متى توفّرت اتّصف الخبر بالمتواتر.

* * *

٣٢٥ ـ الخبر المستفيض

والمقصود منه الخبر الذي وصل الينا بطرق ثلاثة تامّة ، بمعنى أن لا تكون هذه الطرق متداخلة فيما بينها بل انّها مستقلّة من لدن المخبر عن الامام عليه‌السلام مباشرة الى ان وصلت الينا ، وبعضهم ذكر انّ الخبر المستفيض هو ما كان له طريقان مستقلاّن فأكثر.

وقد يعبّر عن الخبر المستفيض بالمشهور إلاّ انّ الشهيد الثاني رحمه‌الله احتمل انّ الخبر المشهور أعمّ مطلقا من الخبر المستفيض بأن يكون الخبر المشهور شاملا للمستفيض ولكلّ خبر تعدّدت طرقه ولو في وسط السلسلة السنديّة ، كما قد يطلق المشهور على الخبر المشتهر على الألسنة وان لم يكن له سوى طريق واحد.

ثمّ انّه قد يطلق المستفيض على الخبر المتظافر ، وان كان لا يبعد تباين المراد منهما كما هو مقتضى استعمالات الفقهاء ، وذلك لأنّ الخبر المتظافر


يطلق على الأخبار المتكثرة والمتعدّدة لفظا وسندا والمتّحدة مضمونا ، ويحتمل أن الخبر المتظافر أعمّ مطلقا من المستفيض.

* * *

٣٢٦ ـ الخبر الموثّق

والمقصود من الخبر الموثّق أو القوي هو ما يكون راويه ثقة ، وهذا التعريف انّما هو ناظر الى ما إذا كان المتلقي للخبر قد تلقاه عمن يخبر عن المعصوم عليه‌السلام مباشرة ، وأمّا اذا كان المتلقي للخبر قد وصل إليه عبر وسائط متعدّدة فإنّ هذا الخبر لا يكون موثقا إلاّ إذا كان جميع رواته ثقات أو كانت السلسلة السنديّة مشتملة على من هو ثقة وان كان سائر من اشتمل عليهم السند عدولا ، إذ انّ النتيجة تتّبع أخسّ المقدّمات ، وباعتبار انّ الثقة أقلّ رتبة من العدل فانّ الخبر يتّصف بسببه بالموثق.

أمّا لو اشتمل السند على الامامي الممدوح مع اشتماله على الثقة فهل يتّصف الخبر بالموثّق باعتبار انّ الثقة أقلّ رتبة من الإمامي الممدوح فتتبع النتيجة أخسّ المقدّمات ، أو انّ الخبر يتّصف بالحسن باعتبار انّ الإمامي الممدوح أقلّ رتبة من الثقة وان كان مخالفا.

الظاهر من العلماء هو الاوّل وانّ الخبر الحسن أقوى من الموثّق خصوصا مع القول بانّ الحسن هو ما كان رواية امامي ممدوح بمدح مقبول ، وأمّا مع عدم التقييد بالمقبوليّة فالظاهر منهم اتّصاف الخبر في الفرض المذكور بالحسن لا أقلّ في حالات عدم مقبوليّة المدح ، وحينئذ يكون الخبر الموثّق أقوى من الحسن ، ولهذا يتّصف الخبر بالحسن ، وذلك لأن الخبر يتّصف بأضعف من اشتمل عليه السند.

وبهذا يتّضح الحال فيما لو كان أحد الواقعين في سلسلة السند ضعيفا فإنّه لا ريب في اتّصاف الخبر بالضعيف وان اتّفق وثاقة بقيّة السند.

ثم انّ المراد من الثقة في اصطلاح


علماء الدراية هو من ثبتت وثاقته بطريق معتبر وكان فاسد العقيدة ، أي لم يكن اماميا اثني عشريا ، كأن كان مخالفا أو منتميا لاحدى الفرق المنسوبة للشيعة الاماميّة ، كالفطحيّة والواقفة.

* * *

٣٢٧ ـ الخبر الموثوق

وهو كلّ خبر اكتنف بما يوجب الوثوق بصدوره عند العقلاء ، وبهذا تكون النسبة بين الخبر الموثّق والخبر الموثوق هي العموم من وجه ، فقد يكون الخبر موثقا وموثوقا كما هو الحالة الغالبة ، ويكون منشأ الوثوق حينئذ هي وثاقة الراوي أو هي مع قرائن اخرى ، كأن يكون الموثّق مشهورا بالشهرة العمليّة أو الروائيّة.

وقد يكون موثقا إلاّ انّه غير موثوق بصدوره ، كما لو أعرض المشهور عنه بناء على انّ الإعراض موجب لسقوط الخبر عن الاعتبار وان منشأ السقوط هو عدم الوثوق بصدوره ، وهذا هو المبنى المعروف.

وقد يكون الخبر موثوقا إلاّ انّه غير موثّق ، كما في الخبر الضعيف الذي اشتهر العمل به بين القدماء ، وهذا هو منشأ دعوى انّ الشهرة جابرة لضعف الخبر السندي.

وهكذا الكلام في النسبة بين الخبر الموثوق والخبر الصحيح والحسن والضعيف ، وأمّا النسبة بين الخبر الموثوق وبين أقسام الخبر الأربعة من حيث الحجيّة فهي العموم المطلق ، فكلّ خبر موثوق فهو حجّة إلاّ انّه ليس كلّ خبر من الاقسام الأربعة حجّة إذ قد يكون حجّة ـ لو كان موثوقا ـ وقد لا يكون كذلك. إلاّ انّ هذه النسبة مبنيّة على انّ موضوع الحجيّة هو الوثوق ، وأمّا بناء على انّ موضوع الحجيّة هي وثاقة الراوي الشاملة للعدالة والحسن فإنّ النسبة تنعكس.

* * *


٣٢٨ ـ خبر الواحد

لخبر الواحد اصطلاحان في علم الاصول والدراية :

الأوّل : هو كلّ خبر لم يبلغ حدّ التواتر أو لم يكن محتفا بقرائن توجب القطع بصدوره ، وبناء على هذا المعنى يكون الخبر الواحد صادقا على الخبر الذي ليس له سوى راو واحد من كلّ طبقة بقطع النظر عن حال هذا الراوي. ويكون الخبر الواحد صادقا أيضا على الخبر المستفيض وغيره من الأقسام المذكورة للخبر عدا المتواتر والمحفوف بالقرائن القطعيّة.

الثاني : انّ خبر الواحد هو الخبر الضعيف الساقط عن الاعتبار إمّا لضعف رواته مع كونه غير مجبور بالشهرة أو لاشتمال متنه على ما يوجب سقوطه عن الاعتبار ، كأن مضطربا ، وبناء على هذا المعنى يكون الخبر الموثق قسيما له وكذلك المستفيض والمجبور بعمل المشهور وسائر أقسام الخبر المعتبرة. وهذا بخلاف المعنى الاول حيث يكون خبر الواحد مقسما لتمام هذه الأقسام بقطع النظر عن المعتبر منها والساقط عن الاعتبار.

ولمّا كان بيان أقسام الخبر الواحد من شئون علم الدراية ، وانّ الذي يتصدى له علم الاصول انّما هو البحث عن حجيّة خبر الواحد وما هو المقدار الذي قامت الأدلّة على ثبوت الحجيّة له لمّا كان كذلك فسوف لن نتعرض لبيان هذه الأقسام إلاّ بالمقدار المذكور في علم الاصول.

* * *

٣٢٩ ـ الخطابات الشفاهيّة

المقصود من الخطابات الشفاهيّة هو الخطابات المشتملة على أدوات الخطاب مثل حروف النداء أو يا المخاطبة أو تاء المخاطبة وهكذا. ويقع البحث تحت هذا العنوان عن انّ الخطابات الشفاهيّة هل هي مختصّة بالحاضرين مجلس الخطاب أو تعمّ الغائبين الأعم من الموجودين في زمن


الخطاب والمعدومين؟ ولو كان هذا هو محلّ النزاع لكانت الخطابات الغير المشتملة على أدوات الخطاب خارجة عن محل النزاع.

ولكي يتحرّر محلّ النزاع نقول : انّ الشيخ صاحب الكفاية رحمه‌الله أفاد بأنّ محلّ النزاع يمكن تصويره في ثلاثة مواطن :

الأوّل : انّ التكليف المستفاد من الخطابات الشرعيّة هل يمكن شموله للغائبين عن مجلس الخطاب الأعم من الموجودين في زمن الخطاب والمعدومين. وبناء على ذلك ينسحب النزاع الى الخطابات غير الشفاهيّة أيضا ، كما انّ البحث عندئذ يكون عقليّا.

الثاني : انّه هل يمكن توجيه الخطاب للغائبين والمعدومين أو لا؟

والبحث عندئذ يكون عقليا أيضا ، إذ انّ البحث عن امكان واستحالة مخاطبة غير الحاضرين مجلس الخطاب لا يمكن تحصيل الجواب عليه إلاّ بواسطة ما يدركه العقل.

الثالث : انّ أدوات الخطاب هل هي موضوعة لإفادة اختصاص الخطاب بالمشافهين بحيث يكون استعمالها لمخاطبة الغائبين أو المعدومين استعمالا في غير ما وضعت له أدوات الخطاب أو أنّها وضعت لمخاطبة الأعم من الحاضرين والغائبين والمعدومين.

هذا هو حاصل ما أفاده صاحب الكفاية رحمه‌الله ، وأمّا المحقّق النائيني رحمه‌الله فحصر محلّ النزاع في موردين ، وهما الثاني والثالث إلاّ انّ السيد الخوئي رحمه‌الله أفاد بأنّ ما ينبغي أن يكون محلا للنزاع هو الثالث فحسب ، وذلك لأنّ المورد الأوّل لا معنى لوقوع النزاع فيه ، إذ لو كان المراد من تكليف المعدومين هو التكليف الفعلي المقتضي للانبعاث عن الأمر والانزجار عن النهي والمستوجب للمسئوليّة وثبوت العهدة لكان ذلك مستحيلا بلا ريب ، إذ انّ فعليّة التكليف منوطة بتحقّق موضوع التكليف خارجا ، أي منوطة بوجود المكلّف العاقل القادر ، فافتراض انعدام المكلّف يساوق


افتراض انتفاء موضوع التكليف والذي هو مناط الفعليّة. وهكذا عند ما يكون المكلّف غائبا فإنّ ذلك يساوق عدم التفاته وهو ما يقتضي انتفاء الفعليّة عن ، إذ هي منوطة بالتفات المكلّف.

وأمّا لو كان المراد من التكليف هو الحكم بمرتبة الجعل والإنشاء فلا ريب في امكانه بعد أن كان الحكم بمرتبة الجعل والإنشاء مجعول على الموضوع المقدّر الوجود ، فأيّ محذور في أن يعتبر المولى الحكم على المكلّف المقدر الوجود والذي هو الموضوع ، وعندها تكون فعليّة التكليف منوطة بوجود المكلّف.

وأمّا المورد الثاني فكذلك لا معنى لوقوع النزاع فيه ، إذ لو كان المراد من توجيه الخطاب للغائبين والمعدومين هو مخاطبتهم حقيقة وبقصد التفهيم فهو مستحيل ، إذ انّ مخاطبة العاقل لغير الملتفت بقصد التفهيم غير معقولة لو كان ملتفتا الى غفلة المخاطب فتكون عدم معقوليّة مخاطبة الغائبين والمعدومين أوضح.

نعم لو كان الغرض من الخطاب هو قصد التفهيم ولكن حين وصول الخطاب للغائب أو المعدوم لا حين صدوره الخطاب من المتكلّم فإنّ ذلك ممكن بلا ريب ، فلا محذور في ان يقصد الكاتب من خطابه المكتوب تفهيم المخاطب بمضمونه حين وصول الخطاب اليه.

وأمّا لو كان المراد من مخاطبة الغائبين والمعدومين ابراز الحسرة والتأسف أو العجز أو أي قصد لا يتصل بقصد التفهيم فإمكانه أوضح من أن يخفى ، وبذلك يتعيّن مورد النزاع في الثالث.

وهو البحث عمّا وضعت له أدوات الخطاب ، فهل هي موضوعة لإفادة الخطاب الحقيقي والذي يعني توجيه الخطاب بقصد التفهيم ، أو هي موضوعة للخطاب الإنشائي والذي يعني إنشاء الخطاب بداع من الدواعي كما هو الحال في انشاء الاستفهام وانشاء التمنّي.


وبناء على الأول تكون الخطابات الشفاهيّة مختصّة بالحاضرين مجلس الخطاب ولا تشمل الغائبين والمعدومين ، بل بناء عليه تكون الخطابات الشفاهيّة مختصّة بالحاضرين مجلس الخطاب حال التفاتهم دون الغافلين منهم ، إذ لا يمكن توجيه الخطاب الحقيقي للغافل كما هو واضح.

وأمّا لو كانت الخطابات الشفاهيّة موضوعة للخطاب الإنشائي فإنّه لا مانع من شمولها للغائبين والمعدومين ، إذ لا محذور حينئذ من انشاء خطاب لمعدوم بعد افتراضه موجودا بداع من الدواعي كإبراز الحسرة أو الندامة أو غير ذلك.

ثم تبنّى السيّد الخوئي رحمه‌الله أن أدوات الخطاب موضوعة لإفادة الخطاب الإنشائي ، وادعى انّ ذلك هو المتفاهم العرفي من أدوات الخطاب ، إذ لا نشعر بأدنى مسامحة من مخاطبة الجمادات. ومن هنا تكون الخطابات الشفاهيّة ظاهرة في عموم مدخولها ، أي ليست مختصّة بالحاضرين مجلس الخطاب بل تشمل الغائبين والمعدومين في زمن الخطاب.


هوامش حرف الخاء

(١) سورة المائدة : ١٢.

(٢) سورة الأنفال : ٦٥.

(٣) سورة الأعراف : ١٥٥.

(٤) سورة البقرة : ١٩٦.

(٥) سورة الكهف : ٢٢.

(٦) سورة المدثر : ٣٠.

(٧) سورة القدر : ٣.


حرف الدال


عناوين حرف الدال

٣٣٠ ـ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة

٣٤٧ ـ دلالة فعل المعصوم (ع)

٣٣١ ـ الدلالة

٣٤٨ ـ الدليل الاجتهادي والدليل الفقاهتي

٣٣٢ ـ الدلالة الاستعماليّة

٣٤٩ ـ الدليل الإنّي والدليل اللمّي

٣٣٣ ـ دلالة الإشارة

٣٥٠ ـ الدليل الشرعي

٣٣٤ ـ دلالة الاقتضاء

٣٥١ ـ الدليل العقلي

٣٣٥ ـ الدلالة الالتزاميّة

٣٥٢ ـ الدليل اللبّي

٣٣٦ ـ دلالة الإيماء والتنبيه

٣٥٣ ـ الدليل المحرز

٣٣٧ ـ الدلالة التصديقيّة

٣٥٤ ـ دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين

٣٣٨ ـ الدلالة التصديقيّة الاولى

٣٥٥ ـ دوران الأمر بين الأقل والأكثر الاستقلاليّين

٣٣٩ ـ الدلالة التصوريّة

٣٥٦ ـ دوران الأمر بين التخصيص والنسخ

٣٤٠ ـ الدلالة التضمنيّة

٣٥٧ ـ دوران الأمر بين التعيين والتخيير

٣٤١ ـ الدلالة التفهيميّة

٣٥٨ ـ دوران الأمر بين الشرطيّة

٣٤٢ ـ الدلالة الجدّيّة

والجزئيّة وبين المانعيّة

٣٤٣ ـ دلالة السكوت والتقرير

٣٥٩ ـ دوران الأمر بين المتباينين

٣٤٤ ـ الدلالة المطابقيّة

٣٦٠ ـ دوران الأمر بين محذورين

٣٤٥ ـ الدلالة الوضعيّة

٣٤٧ ـ دلالة فعل المعصوم (ع)

٣٤٦ ـ الدلالة الوضعيّة تصوريّة أو تصديقيّة؟

٣٤٨ ـ الدليل الاجتهادي والدليل الفقاهتي


حرف الدال

٣٣٠ ـ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة

والمدعى انّ هذه القاعدة من القواعد العقلائية والتي يستكشف إمضاء الشارع لها بواسطة عدم الردع عنها رغم استحكامها في المرتكزات العقلائيّة والجري على وفقها في شئونهم اليوميّة ، فعدم التصدي للردع عنها لو لم تكن متناسبة مع المتبنيات الشرعية يهدّد بانسحابها الى الشئون الشرعيّة ، وهذا ما ينافي حكمة الشارع لو لم تكن متناسبه مع أغراضه ممّا يعبّر عدم الردع عن امضائه لهذه القاعدة ومناسبتها لأغراضه ومتبنياته ، وبهذا يصحّ الاستناد إليها في الشئون الشرعيّة.

هذا هو أقصى ما يمكن أن تقرّر به حجيّة هذه القاعدة ، وقبل التعرّف على تماميّة هذه الدعوى أو عدم تماميّتها لا بدّ من البحث عن حدود هذه القاعدة. وهنا مجموعة من الاحتمالات :

الاحتمال الاول : انّ هذه القاعدة مطردة في تمام الحالات التي يدور فيها الأمر بين دفع المفسدة وجلب المصلحة ، أي سواء كانت المفسدة أقوى من المصلحة أو كانت المصلحة هي الأقوى ، فدفع المفسدة دائما هو المقدّم مهما تعاظمت المصلحة المقابلة لها ومهما تضاءلت المفسدة المنافية لجلب المصلحة ، من غير فرق بين أن يكون متعلّق الدوران فعلا واحدا ، كما لو كان الفعل مشتملا على مصلحة


ومفسدة معا فإنّ المقدّم هو جانب المفسدة ، وعليه لا بدّ من ترك هذا الفعل دفعا للمفسدة وان كان سيؤدي ذلك الى فوات المصلحة الأهمّ أو الأقل أهميّة. أو كان متعلّق الدوران فعلين إلاّ انّه تضييق قدرة المكلّف عن التحفّظ عليهما ، وحينئذ يكون المقدّم هو ترك أو فعل ما يوجب دفع المفسدة وان أدى ذلك الى فوات المصلحة الأهمّ أو الأقلّ أهميّة.

الاحتمال الثاني : انّ القاعدة مطردة ولكن في خصوص المفسدة والمصلحة الخطيرتين ، بمعنى انّ دفع المفسدة الخطيرة مقدم على جلب المصلحة الخطيرة وان كانت أكثر أهميّة من دفع المفسدة المترتّبة.

الاحتمال الثالث : انّ مورد القاعدة هو ما لو دار الأمر بين دفع المفسدة أو جلب المصلحة في حالة تساويهما في الأهميّة ، فالمقدم هو دفع المفسدة من غير فرق بين أن يكون متعلّق الدوران فعلا واحدا أو فعلين.

الاحتمال الرابع : انّ مورد القاعدة هو حالة الدوران مع افتراض أهميّة دفع المفسدة.

الاحتمال الخامس : وهو أوسع من الأوّل بأن يفترض شمول القاعدة لحالات عدم العلم باشتمال الفعلين أو الفعل على المصلحة والمفسدة إلاّ انّه مع احتمال المفسدة واحتمال المصلحة يكون المقدم ما يحتمل معه المفسدة ، بمعنى الالتزام بما يوجب دفع المفسدة المحتملة.

ومثاله : ما لو قدّم لنا طعام نحتمل انّه نافع كما نحتمل انّه ضار ، فحينئذ يكون المقدم هو تركه ، لأنّ تركه يوجب دفع المفسدة المحتملة.

وهذا الاحتمال ينحل الى الاحتمالات الأربعة ، وهي امّا الاطلاق بمعنى ترجيح دفع المفسدة حتى لو كانت المفسدة المحتملة أضعف من المصلحة المحتملة أو اختصاصه بحالات كون المحتمل من المفسدة والمصلحة خطيرا لو اتّفق موافقته للواقع ، أو تقييد الترجيح بحالات التساوي ، أو تقييده بحالات أقوائية


المفسدة على المصلحة المحتملة.

هذه هي الاحتمالات الثبوتيّة المحتمل إرادتها من القاعدة ، ثمّ انّ الكلام يقع عمّا هو المراد من المصلحة والمفسدة ، وما هو المراد من الاولويّة في القاعدة.

أمّا ما هو المراد من المصلحة والمفسدة فنحتمل له ستّة احتمالات :

الاحتمال الاوّل : انّ المراد من المفسدة التي يلزم تقديمها على المصلحة هي المفسدة الشخصيّة بقطع النظر عن انّ المصلحة المقابلة لها مصلحة شخصيّة أو نوعيّة.

الاحتمال الثاني : انّ المراد من المفسدة هي المفسدة الشخصيّة إذا كان المقابل لها مصلحة شخصيّة. أمّا لو كان المقابل لها مصلحة نوعيّة فإنّ القاعدة غير متصدّية لهذا الفرض.

الاحتمال الثالث : انّ المراد من المفسدة هي المفسدة النوعيّة وكذلك هو المراد من المصلحة المقابلة لها ، فلا صلة لهذه القاعدة بالمصالح والمفاسد الشخصيّة.

الاحتمال الرابع : انّ المراد من المفسدة والمصلحة هو المفسدة الخطيرة المقابلة للمصلحة الخطيرة.

الاحتمال الخامس : انّ المراد من المفسدة والمصلحة هما الشخصيتان ولكن بشرط عدم منافاة التقديم لمصلحة نوعيّة.

الاحتمال السادس : انّ المراد من المفسدة والمصلحة هما ما يتمّ التعرّف عليهما بواسطة الشارع ، بأن يدعى انّ هذا المقدار هو المحرز امضاؤه من السيرة العقلائيّة ، وحينئذ اذا دار الأمر بين مفسدة مستكشفة عن الشارع ومصلحة مستكشفة عن الشارع أيضا فإنّ المقدم هو دفع المفسدة على جلب المصلحة.

هذه هي الاحتمالات المعقولة للمراد من المصلحة والمفسدة في القاعدة.

وأمّا المراد من الأولويّة في القاعدة فنحتمل له أربعة احتمالات :

الاحتمال الاول : انّ المراد من الاولويّة هو اللزوم العقلائي ، بمعنى انّ


العقلاء يذمون كلّ من أهمل دفع المفسدة في سبيل جلب المصلحة ويعتبرونه سفيها.

الاحتمال الثاني : انّ المراد من الاولوية هو اللزوم العقلي ، بمعنى انّ العقل يرى قبح اهمال دفع المفسدة في سبيل جلب المصلحة ، لأنّه من ترجيح المرجوح.

الاحتمال الثالث : انّ المراد من الأولويّة هي الراجحيّة ، بمعنى انّ الإنسان مخير بينهما ، غايته انّ الأفضل والأجدر هو ترجيح جانب المفسدة.

الاحتمال الرابع : انّ الاولوية في حالات دوران الأمر بين المصلحة والمفسدة النوعيتين الخطيرتين تعنى اللزوم العقلي أو العقلائي أو هما معا ، وأمّا في حالات دوران الأمر بين المصلحة والمفسدة الشخصيّتين فالأولويّة بمعنى الراجحيّة وانّه لا سبيل لذمّه ولا لتقبيح فعله لو اختار العكس في اموره الشخصيّة.

وبهذا تتّضح معالم القاعدة ، ولم يبق سوى أمر لا بدّ من التنبيه عليه ، وهو انّه قد يكون اهمال المصلحة المتنافية مع المفسدة يوجب الوقوع في مفسدة ، بمعنى انّ الدوران لا يكون دائما بين دفع المفسدة وجلب المصلحة الزائدة ، إذ قد يتّفق انّ عدم جلب المصلحة يوجب الوقوع في المفسدة ، وحينئذ يكون جلب المصلحة مساوقا لدفع المفسدة ، فيكون الدوران واقعا بين دفع مفسدة ودفع مفسدة أخرى.

والظاهر بل المطمئن به انّ هذا الفرض خارج عن موضوع القاعدة ، وانّ القاعدة متمحّضة لحالات دوران الأمر بين دفع المفسدة وجلب مصلحة لا يترتّب على تفويتها الوقوع في مفسدة.

وبهذا يتّضح انّ المراد من المفسدة على تمام الاحتمالات هي النقص والضرر والحرج أو ما يساوق ذلك ، وانّ المراد من المصلحة هي المنفعة والزيادة والتي لا يترتّب على عدم تحصيلها نقص أو حرج.

وبعد بيان المراد من القاعدة نستعرض بعض الموارد التي استفاد


بعض الأعلام تحديد الحكم الشرعي لها بواسطة القاعدة :

المورد الاول : حالات التزاحم بين الوجوب والحرمة ، بتقريب انّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها ، فالحرمة تعبّر عن مفسدة في متعلّقها كما انّ الوجوب يعبّر عن مصلحة في متعلّقه ، وحينئذ لو دار الأمر بين امتثال الوجوب وامتثال الحرمة فإنّ القاعدة تقتضي امتثال الحرمة ، لانّه بامتثالها تندفع المفسدة الكامنة في متعلّق الحرمة.

فلو دار الأمر بين انقاذ غريق وبين عبور الأرض المغصوبة فإنّ المقدّم هو ترك العبور باعتباره محرّم وذو مفسدة فيقدّم على جلب المصلحة وهي انقاذ الغريق الواجب.

إلاّ انّ هذا مبني على انّ المراد من المفسدة هي المفسدة المستكشفة بواسطة الشارع وإلاّ فلا مفسدة شخصيّة من عبور الأرض المغصوبة كما انّه لا مفسدة نوعيّة في بعض حالات عبور الأرض المغصوبة ، ومبني أيضا على انّ المراد من المفسدة المقدّمة هي الأعم من الخطيرة والحقيرة ، كما انّه مبني على اطلاق تقديم المفسدة وان كان مقابلها مصلحة نوعيّة كإنقاذ الغريق خصوصا لو كان من ذوي النفع العام.

ثمّ انّ الظاهر خروج هذا المثال عن موضوع القاعدة ، إذ انّ جلب المصلحة في هذا المثال يساوق دفع المفسدة ، وقد قلنا بخروج هذا الفرض عن موضوع القاعدة إلاّ أن يقال انّ الذي هو خارج عن موضوع القاعدة هو حالات مساوقة جلب المصلحة لدفع المفسدة الشخصيّة والمقام ليس من هذا القبيل ، إلاّ انّ هذا يستلزم ملاحظة الشارع للمصالح والمفاسد المتّصلة بكلّ مكلّف بقطع النظر عن سائر المكلّفين وهذا ينافي ما افترضناه من انّ المفسدة المترتّبة على عبور الأرض المغصوبة والمستكشفة عن الشارع انّما هي لملاحظة مالك الأرض وليس شخص المكلّف ، ولو كانت كذلك لكان المثال خارجا عن


موضوع القاعدة أيضا ، إذ لا مصلحة ولا مفسدة متّصلة بشخص المكلّف ، فلا معنى لإجراء القاعدة.

إلاّ أن يقال انّ المصلحة والمفسدة متّصلة بشخص المكلّف من جهة ان حرمة العبور ووجوب الإنقاذ تكليفان متوجهان لشخص المكلّف ، فعليه لا بدّ من دفع مفسدة عقوبة ارتكاب الحرام وان كان سيترتّب على ذلك عدم تحصيل الثواب ـ بامتثال الواجب ـ والذي هو جلب مصلحة. وهو كما ترى ، إذ انّ ترك الواجب ممّا يترتّب عليه العقوبة أيضا.

المورد الثاني : التمسّك بالقاعدة لإثبات انّ الاصل في الأشياء الحظر ، وذلك بتقريب انّ كلّ فعل لا تعلم حرمته أو إباحته فإنّ ارتكابه موجب لاحتمال العقوبة من المولى ، وهذا معناه انّ ارتكابه يكون موجبا لاحتمال الوقوع في المفسدة ، فيكون دفعها أولى من جلب المصلحة الشخصيّة أو النوعيّة المترتّبة على ارتكاب الفعل.

ومن الواضح انّ دخول هذا المورد في موضوع القاعدة مترتّب على تبني الاحتمال الخامس لمعنى القاعدة ، وهو انّ دفع المفسدة حتى وان كانت محتملة أولى من جلب المصلحة ، على انّه يمكن افتراض خروج المورد حتى من هذا الاحتمال ، وذلك لشمول المورد لحالات احراز المصلحة ، فيكون الأمر دائرا بين دفع المفسدة المحتملة وجلب المصلحة المحرزة. والظاهر بل المطمئن به عدم شمول القاعدة لهذا الفرض.

إلاّ أن يقال انّ المفسدة المحتملة لو اتّفقت لكانت أكثر أهميّة ، وهذا ما أوجب ترجيحها على جلب المصلحة المحرزة ، إلاّ انّ هذا يقتضي انّ المتعيّن من الاحتمالات لمعنى القاعدة هو الاحتمال الرابع وهو اختصاص تقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة بالحالات التي تكون فيها المفسدة أكثر أهميّة من المصلحة.

وهذا المقدار لو كان هو المراد من القاعدة لكان مآلها الى قاعدة قبح ترجيح المرجوح ، وذلك لأنّ فرض


الكلام هو دوران الأمر بين دفع المفسدة الأهمّ وجلب المصلحة المهمّة ، وليس ثمّة خيار ثالث ، فإمّا أن يختار دفع المفسدة أو جلب المصلحة ، وحينئذ يكون اختياره لجلب المصلحة ترجيح لما هو مرجوح ، على انّ المورد المذكور لا يطابق الاحتمال الخامس كما لا يطابق قاعدة قبح ترجيح المرجوح إذ انّ موردهما هو المفسدة المحرزة أو المحتملة لو كانت المصلحة محتملة أيضا.

نعم يمكن أن يكون مدرك أصالة الحظر هو ما عليه البناء العقلائي من ملاحظة قوة المحتمل وترجيحه على المصلحة المحرزة لو كانت أقلّ أهميّة من المفسدة المحتملة لو اتّفقت ، أو يكون مدركها هو ما يدركه العقل من لزوم دفع الضرر المحتمل إذا لم يكن له مؤمّن. والمتحصّل انّ الظاهر هو عدم شمول القاعدة على جميع احتمالاتها لهذا المورد.

المورد الثالث : تأييد دعوى جريان الاحتياط الشرعي في الشبهات التحريميّة بالقاعدة ، بتقريب انّ احتمال الحرمة معناه احتمال المفسدة ، فدفعها يكون لازما ، وان كان ذلك يقتضي تفويت المصلحة.

ويرد على هذا التقريب ما أوردناه على المورد الثاني.

المورد الرابع : التمسّك بالقاعدة لتقديم جانب الحرمة في حالات دوران الأمر بين المحذورين في التوصليات مع افتراض اتّحاد الواقعة ، أي مع افتراض كون متعلّق الدوران فعلا واحدا ، كما لو دار الأمر بين وجوب دفن الميّت أو حرمة دفنه ، فإنّ القاعدة تقتضي تقديم جانب الحرمة لان فيها دفعا للمفسدة المحتملة ، ومن هنا تقدم على جلب المصلحة المحتملة الكامنة في متعلّق الوجوب المحتمل.

وتماميّة هذه الدعوى مبني على اتّساع موضوع القاعدة لما هو مفترض في الاحتمال الخامس وان دفع المفسدة المحتملة مقدّم على جلب المصلحة المحتملة في حالات الدوران.


إلاّ انّه لا بدّ من احراز انّ تفويت المصلحة بترك جانب الوجوب لا يؤول الى الوقوع في المفسدة ، واحراز ذلك دونه خرط القتاد.

ثمّ انّه هناك موارد يمكن دعوى التمسّك بالقاعدة لتحديد الموقف الشرعي منها أوكلناها لمتابعة القارئ الكريم.

ثمّ انّ البحث عن تماميّة القاعدة أو عدم تماميتها يقع في مقامين :

المقام الأوّل : والبحث فيه صغروي ، أي البحث عن وجود بناء عقلائي قاض بهذه القاعدة ومع افتراض وجوده واقعا فما هي حدود هذا البناء العقلائي؟

المقام الثاني : والبحث فيه كبروي ، بمعنى انّ الشارع هل أمضى هذا البناء العقلائي ، وما هي حدود هذا الإمضاء؟

أمّا المقام الأوّل : فإجمال الحديث عنه هو انّ الذي عليه البناء العقلائي ينافي الاحتمال الاول لمعنى القاعدة ، فإنّ ما نراه بالوجدان انّ الترجيح في حالات الدوران ـ عند العقلاء ـ لا يعتمد هذه القاعدة بمجرّد اشتمال أحد الطرفين على المفسدة وان ذلك يؤهّله للتقديم ـ بنظرهم ـ حتى مع تضاؤل مستوى المفسدة المشتمل عليها خصوصا لو كان المراد من المصلحة والمفسدة في القاعدة هو الاحتمال الاول والذي يفترض انّ المفسدة المقصودة هي المفسدة الشخصيّة ، فإنّ من الواضح انّ المتبنّيات العقلائيّة لا تراعي المفاسد والمصالح الشخصيّة إذا كانت منافية للمصلحة النوعية.

ولغرض التنبيه على ذلك نذكر هذه الأمثلة :

المثال الأوّل : لو دار الأمر بين الدخول في معركة عادلة مضمونة النجاح ويترتّب عليها فوائد كثيرة وبين عدم الدخول في هذه المعركة لأنّها تستلزم الوقوع في بعض المفاسد المحدودة كجرح بعض الجنود أو قتلهم ، فهل انّ العقلاء يبنون في مثل هذا الفرض على التحفّظ عن الوقوع في المفسدة رغم اشتمال ما يقابلها على


مصلحة أقوى.

المثال الثاني : لو دار الأمر بين اطعام مجموعة من الجوعى المشرفين على الهلاك وبين التحفّظ على المال الشخصي من النقص بسبب الإطعام فأيّهما المقدّم بنظر العقلاء.

نعم النقض بما ذكرناه لا يكون ناقصا إلاّ بناء على الاحتمال الاول ومعه يتّضح سقوط الإطلاق في الاحتمال الخامس أيضا.

وأمّا الاحتمال الثاني فهو وان كان يضيّق من موضوع القاعدة إلاّ انّ اطلاق تقديم دفع المفسدة الخطيرة ـ حتى وان كان ما يقابلها من مصلحة أكثر خطورة وأهميّة ـ غير مسلّم لعين ما ذكرناه سابقا. فها نحن نشاهد العقلاء يبذلون الأموال الخطيرة بل يبذلون ما هو أعظم من الأموال في سبيل تحصيل مصالح أقوى وأشدّ وان كان يترتّب على تحصيلها الوقوع في مفاسد.

وبهذا يتعيّن ان يكون المراد من القاعدة أحد احتمالين أمّا الثالث أو الرابع ، والرابع والذي يفترض كون المفسدة أكثر أهميّة من المصلحة ـ هو القدر المتيقّن من القاعدة إلاّ انّه لو كان هو المتعيّن من القاعدة لكان من المحتمل قويا رجوع هذه القاعدة الى قاعدة قبح ترجيح المرجوح ، وحينئذ لا يكون لدفع المفسدة خصوصيّة تقتضي تقديمها في موارد الدوران بل انّ منشأ التقديم هو اتّفاق أهميّة المفسدة ، وبهذا لا يكون للقاعدة مورد مستقل عن قاعدة قبح ترجيح المرجوح إلاّ أن يدعى انّ المراد من المفسدة في القاعدة هي المفسدة الشخصيّة وان كان ما يقابلها مصلحة نوعيّة ، وعندها يكون لقاعدة دفع المفسدة مورد مستقلّ عن قاعدة ترجيح المرجوح. إلاّ انّ احتمال إرادة هذا المعنى من المفسدة في القاعدة بعيد جدا ، إذ انّ المتبنّيات العقلائيّة لا تراعي ـ كما قلنا ـ المصالح والمفاسد الشخصيّة إذا كانت منافية للمصالح والمفاسد النوعيّة.

وبهذا لا يبقى من الاحتمالات إلاّ


الاحتمال الثالث والذي يفترض تساوي المفسدة مع المصلحة في الأهميّة ، وهنا أيضا قد يقال انّ منشأ تقديم دفع المفسدة هو قاعدة الترجيح إلاّ انّه مع ذلك يكون لقاعدة دفع المفسدة دور تنقيح صغرى قاعدة الترجيح ، إذ انّ قاعدة الترجيح لا تقتضي أكثر من الحكم على ترجيح المرجوح بالقبح إلاّ انّها غير متصدّية لتشخيص ما هو المرجوح من الراجح ولذلك يتمّ التعرّف على ذلك بوسائل اخرى ، ومنها هذه القاعدة حيث تقتضي في ظرف التساوي راجحيّة دفع المفسدة على جلب المصلحة وعندها يتنقّح موضوع قاعدة قبح ترجيح المرجوح.

إلاّ انّه مع ذلك لا يمكن القطع بوجود بناء عقلائي على تقديم جانب المفسدة فى فرض التساوي في الأهميّة خصوصا لو افترضنا انّ المراد من الأولويّة هو اللزوم.

وأمّا المقام الثاني : وهو البحث عن كبرى هذه القاعدة وحجيّتها.

فنقول : انّه لا بدّ وان يتمّ البحث عن امضاء هذه القاعدة في حدود الاحتمال الثالث ، إذ لم يتّضح ـ لما تقدّم ـ وجود بناء عقلائي يتّسع للاحتمالات الاخرى.

وأمّا الاحتمال الثالث وهو ترجيح جانب المفسدة في ظرف التساوي في الأهميّة مع جلب المصلحة فإنّ دعوى الإمضاء لهذا المقدار انّما تمّ بواسطة عدم الردع ، وانّ عدم الردع يهدد بامتداد هذا البناء للشئون الشرعية ، فلو لم يكن مرضيا من الشارع ومع ذلك لم يردع عنه لكان ذلك منافيا للحكمة والتحفّظ على الأغراض.

إلاّ انّ هذا التقريب لا يمكن قبوله ، وذلك لعدم امكان امتداد هذا البناء ـ لو كان ـ للشئون الشرعيّة ، إذ انّ امتداده منوط باحراز العقلاء لحجم المصلحة المعتمدة للشارع وكذلك المفسدة وانّهما متساويان في الأهميّة ، وعندئذ يمكن القول بأنّ عدم الردع يساوق الإمضاء وإلاّ لكان نقضا للغرض.


وأمّا مع عدم إحراز ذلك فلا موضوع للقاعدة حتّى يبني العقلاء على تقديم جانب المفسدة ، وواضح انّ احراز العقلاء لحجم المصلحة والمفسدة الشرعيّتين ممّا لا سبيل له ، فحتّى لو صرّح الشارع بحرمة هذا الشيء وبوجوب الآخر فإنّ من غير الممكن التعرّف على انّ المفسدة الكامنة في متعلّق الحرمة أشد من المصلحة الموجودة في متعلّق الوجوب أو انّها أضعف أو انّ المصلحة والمفسدة متساويتان في الأهميّة ، وعليه لا يكون دوران الأمر بين الوجوب والحرمة مصحّحا لبناء العقلاء على تقديم جانب الحرمة ، لاحتمال انّ متعلق الوجوب أكثر أهميّة من متعلّق الحرمة ، فلا يكون هذا الفرض موردا للقاعدة ، ومن هنا لا يمكن استكشاف الإمضاء من عدم الردع ، إذ انّ عدم الردع لا يهدّد أغراض الشريعة.

نعم لو صرّح الشارع بحجم المصلحة المفسدة واتّضح من ذلك تساويهما في الأهميّة لكان من الممكن امتداد البناء العقلائي على القاعدة لهذا المورد إلاّ انّه مع ندرته لا يكون عدم الردع كاشفا عن الامضاء ، وذلك لأنّه لو كان البناء الشرعي قائما على التخيير في هذه الحالة لكان بناء العقلاء على ترجيح جانب المفسدة غير مضرّ بأغراض الشريعة ، إذ لا فرق في نظر الشارع ـ بناء على التخيير ـ بين تقديم جانب المصلحة أو تقديم جانب المفسدة.

نعم لو كان البناء الشرعي هو تقديم جانب المصلحة بنحو اللزوم لكان عدم الردع مضرا بالغرض الشرعي إلاّ انّ ندرة فرض التصريح بمستوى المصلحة والمفسدة واتّفاق تساويهما في الأهميّة تمنع من استكشاف الإمضاء من عدم الردع ، لأنّ ذلك لا يستوجب تهديدا بينا لأغراض الشارع ، فمن الصعب الجزم بالإمضاء ، نعم هو محتمل إلاّ انّ ذلك لا ينفع ، لأنّ الشك في الحجيّة مساوق للقطع بعدمها ، هذا أولا.


وثانيا : يمكن دعوى ردع الشارع عن هذا البناء العقلائي لو سلّمنا بوجوده ، وذلك يتّضح بملاحظة ما قرّره الشارع من أصول عملية في ظرف الجهل بالحكم الواقعي.

* * *

٣٣١ ـ الدلالة

الدلالة هي انتقال الذهن من معنى الى معنى آخر ويكون منشأ الانتقال الى المعنى الآخر هو المعنى الأوّل ، وقد عرفها المناطقة بقولهم « هو كون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر » ، وهذا ما يعبّر عن انّ الدلالة نحو علاقة ذهنيّة ببين الدال والمدلول ، بمعنى انّ ثبوت العلاقة بين الشيئين في نفس الأمر والواقع لا تنتج الدلالة بل لا بدّ من العلم بالعلاقة ، وحينئذ يكون العلم بأحدهما منتجا للعلم بالآخر.

ثمّ انّ الدلالة تارة تكون وضعيّة وتارة لا تكون كذلك ، والدلالة الوضعيّة هي التي تنشأ عن الوضع والتباني على جعل شيء دالا على شيء آخر ، ومن هنا قالوا انّ منشأ الدلالة الوضعيّة هو الاعتبار ، وهي تختلف باختلاف المعتبر ، فتارة يكون المعتبر هم العقلاء وتارة يكون المعتبر نظام من الأنظمة الاجتماعيّة كاعتبار الضوء الأحمر دالا على المنع ، وقد يكون الاعتبار خاصّ بفن من الفنون بأن يتبانى أهل ذلك الفن على دلالة شيء على شيء آخر.

ثمّ انّ الدلالة الوضعيّة تارة تكون لفظيّة وتارة تكون غير لفظيّة ، والاولى تنشأ عن اعتبار الواضع لفظا دالا على معنى ومنها الدلالات الثلاث « المطابقيّة والتضمنيّة والالتزاميّة » ، وأمّا الدلالة الوضعيّة غير اللفظيّة فمن قبيل النصب الموضوعة على الطرق للتعبير عن انّ الطريق سالك أو غير سالك.

وأمّا الدلالة التي لا تكون وضعيّة فهي الدلالة الطبعيّة والدلالة العقليّة ، والدلالة الطبعيّة تنشأ عمّا هو مقتضى الطبع ، وأمّا الدلالة العقليّة فتنشأ عن


علاقة ذاتيّة بين الدال والمدلول على أن تكون تلك العلاقة معلومة ، إذ لا يكفي ثبوت العلاقة بينهما في نفس الأمر والواقع ، وتفصيل ذلك في كتب المنطق ، فراجع.

* * *

٣٣٢ ـ الدلالة الاستعماليّة

وهي الدلالة التفهيميّة والتي تعني ظهور حال المتكلّم في إرادة تفهيم المعنى من لفظه ، وعبّر عنها بالدلالة الاستعماليّة باعتبار انّها تدلّ على انّ المتكلّم استعمل اللفظ لغرض اخطار معناه وتفهيمه. وقد شرحنا المراد من الدلالة الاستعماليّة تحت عنوان « الدلالة التفهيميّة ».

* * *

٣٣٣ ـ دلالة الإشارة

وهو الانتقال من مدلول اللفظ الى لازمه على أن لا يكون هذا اللازم من الوضوح بحيث يمكن استظهار إرادة المتكلّم له ، وبهذا تمتاز دلالة الإشارة عن دلالة الإيماء ، حيث قلنا انّ دلالة الإيماء لا تكون إلاّ في حالة تكون معها الملازمة عرفيّة بحيث يستظهر معها إرادة المتكلّم للمعنى اللازم. وأمّا دلالة الإشارة فمدلول اللفظ وان كان له لازم إلاّ انّ الملازمة بينه وبين مدلول اللفظ ليست من الوضوح بحيث يمكن استظهار إرادة المتكلّم للازم.

ومن هنا قالوا بسقوط هذه الدلالة عن الحجيّة باعتبار عدم افادتها الظهور في انّ المتكلّم مريد للازم ، وأقصى ما تقتضيه دلالة الإشارة هو الإشعار بذلك ، وهو غير نافع لإثبات الحجيّة لمدلول دلالة الإشارة.

ومثال ذلك : استفادة ايجاب المقدّمة من ايجاب ذيها ، إذ من الواضح انّ ايجاب ذي المقدّمة لا يوجب استظهار إرادة المولى لايجاب المقدّمة بنحو الوجوب الشرعي ، إذ من الممكن جدّا عدم جعل المولى للوجوب الشرعي للمقدّمة واستغناؤه عن ذلك بالوجوب العقلي.

* * *


٣٣٤ ـ دلالة الاقتضاء

والمقصود منها ظهور الكلام في معنى بواسطة ما تقتضيه المناسبات العقليّة أو العقلائيّة أو الشرعيّة أو العرفيّة أو اللغويّة ، بمعنى انّ الكلام بنفسه وبقطع النظر عن هذه المناسبات لا يقتضي الظهور في ذلك المعنى.

وبهذا يكون كلّ معنى استظهر من الكلام بواسطة احدى هذه المناسبات يكون مدلولا لدلالة الاقتضاء.

وبقولنا « ظهور الكلام » يتّضح انّه لا بدّ وان تكون هذه المناسبات بمستوى توجب انعقاد الظهور للكلام فيما يناسبها بحيث يكون المتفاهم العرفي من الكلام هو ما تقتضيه هذه المناسبات وانّ ما يقتضيه حاقّ اللفظ بقطع النظر عن هذه المناسبات غير مقصود للمتكلّم بنظر العرف.

ومثال ذلك قوله تعالى : ( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) (١) فإنّ العرف يفهم انّ المقصود من الآية الشريفة هو سؤال أهل القرية ، وذلك لمناسبة عقليّة وعقلائيّة.

أمّا المناسبة العقليّة فهي انّ الدور والأفنية والحيطان ـ والتي هي مدلول لفظ القرية ـ لا يمكن أن تسأل فتجيب وانّما الذي يمكن ان يسأل فيجيب هم القاطنون في تلك القرية من العقلاء ، وأمّا القرينة العقلائيّة فهي انّ المفترض كون المتكلّم من العقلاء ، وإذا كان كذلك فمن العبث ان تتعلّق إرادته الفعليّة بما يتعذّر وقوعه ولو عادة.

وهذه المناسبة العقليّة والعقلائيّة هي التي اقتضت ظهور الآية الشريفة في انّ المراد من سؤال القرية هو سؤال أهل القرية وإلاّ فألفاظ الآية الشريفة لا تساعد على هذا الظهور.

واتّضح ممّا ذكرناه انّ هذه المناسبة في الوقت الذي تقتضي المعنى المذكور تمنع من ظهور الآية في المعنى الآخر والذي هو مفاد المدلول اللفظي. وهذا هو معنى انّ دلالة الاقتضاء لا بدّ وان تكون بمستوى الظهور العرفي.

ولمزيد من التوضيح نذكر مثالا آخر وهو قوله تعالى : ( إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ ) (٢) فإنّ


العرف يفهم انّ مقصود الآية الشريفة هو طلاق الزوجات ، وذلك لمناسبة شرعيّة ، وهو انّ الطلاق لا يكون إلاّ للزوجة.

فهذه المناسبة الشرعيّة المعلومة بالضرورة هي التي اقتضت ظهور الآية الشريفة في إرادة الزوجات من لفظ النساء وإلاّ فمقتضى الجمود على المدلول اللفظي للآية الشريفة لا يعطي هذا المعنى.

* * *

٣٣٥ ـ الدلالة الالتزاميّة

وهي دلالة اللفظ على معنى خارج عن المعنى الموضوع له اللفظ إلاّ انّه لازم له ، على أن يكون هذا التلازم بين المعنى الموضوع له اللفظ وبين المعنى الخارج عن المعنى الموضوع له اللفظ بنحو اللزوم الذهني ، بمعنى أن يكون موطن التلازم بين المعنيين هو الذهن.

فلو كان التلازم في الخارج دون الذهن فإنّ الدلالة الالتزاميّة لا تحصل من ذكر أحد المتلازمين خارجا ، فلو افترضنا انّ شخصا لا يعلم انّ للنار خاصيّة هي الإحراق فإنّ الإحراق حينئذ لا يكون مدلولا التزاميّا للفظ النار.

كما انّه لا يلزم أن يكون بين المعنيين تلازم واقعي خارجا بل لو كان بينهما خارجا تمام التباين إلاّ انّ تصوّر أحدهما يلازم في عالم الذهن تصوّر الآخر فإنّ هذا يكفي في حصول الدلالة الالتزاميّة عند اطلاق اللفظ الموضوع للمعنى الملزوم.

فالعمى والبصر وان لم يكن بينها تلازم خارجا بل بينهما تمام المعاندة إلاّ انهما متلازمان ذهنا ، ولهذا يلزم من ذكر أحدهما تصوّر المعنى الآخر.

ولمزيد من التوضيح راجع تبعية الدلالة الالتزاميّة للدلالة المطابقيّة.

* * *

٣٣٦ ـ دلالة الإيماء والتنبيه

تطلق دلالة الإيماء والتنبيه على دلالة كلّ لفظ سيق لغرض التعبير به عن معنى ملازم عرفا للمعنى المدلول


عليه باللفظ ، فالمعنى الملازم عرفا لمعنى اللفظ هو مدلول دلالة الإيماء والتنبيه واللفظ المسوق لهذا الغرض هو الدال ، وأمّا دلالة الإيماء فهي الانتقال باللفظ الى المعنى الملازم عرفا لمدلول اللفظ.

وبهذا اتّضح انّ منشأ ظهور اللفظ في المعنى الملازم لمدلول اللفظ هو الملازمة العرفيّة بين مدلول اللفظ وبين المعنى الآخر بمستوى توجب هذه الملازمة استظهار العرف إرادة المتكلّم للمعنى الملازم من اللفظ.

ومثال ذلك ما لو قال المولى : « كلّ من صلّى في أرض مغصوبة فعليه إعادة الصلاة » فإنّ هذا التعبير وان كان مدلوله اللفظي هو لزوم اعادة الصلاة إلاّ انّ لهذا المدلول لازم عرفي وهو مانعيّة الغضب لصحّة الصلاة وإلاّ فلا معنى لاعادة الصلاة لو كانت الصلاة في الأرض المغصوبة صحيحة ، ومن هنا يستظهر العرف إرادة المولى بهذا التعبير الكشف عن المانعيّة ، وذلك لإحرازهم إدراك المولى للملازمة.

وهكذا لو قال المولى لمن أفطر في نهار شهر رمضان « كفّر » فإنّ العرف يستظهر من ذلك إرادة المولى للكشف عن سببيّة الإفطار للتكفير.

* * *

٣٣٧ ـ الدلالة التصديقيّة

ويعبّر عنها بالدلالة الجدّية وبالدلالة التصديقيّة الثانية ، والمقصود منها ظهور حال المتكلّم بأن ما أراد تفهيمه بكلامه مريد له جدا وواقعا.

وبتعبير آخر : انّ الدلالة التصديقيّة الثانية تعني الظهور في التطابق بين الإرادة التفهيميّة الاستعماليّة وبين الإرادة الجدّيّة وانّ المتكلّم قاصد الحكاية عن الواقع.

وبهذا تمتاز الدلالة التصديقيّة الثانية عن الدلالتين التصوريّة والتفهيميّة بأنّها لا تتعقل إلاّ في الجمل التركيبيّة التامة ، إذ انّ قصد الحكاية عن الواقع ـ والذي هو مدلول الدلالة التصديقيّة الجديّة ـ لا يكون إلاّ بجملة مشتملة على موضوع وحكم ، ويكون


الحكم فيها منتسبا للموضوع.

وأمّا الدلالة التصوريّة وكذلك التفهيميّة الاستعماليّة فإنّه يمكن تعقلهما في الجمل التركيبيّة التامّة كما يمكن تعقلهما في المفردات اللفظيّة الغير الواقعة في اطار جمل تركيبيّة تامة ، فلفظ الماء إذا صدر عن غير ملتفت فدلالته تكون تصوريّة وإذا صدر عن ملتفت فدلالته تفهيميّة استعماليّة ، وكذلك جملة « زيد قائم » فإنّها اذا صدرت من متكلّم نائم أو غافل فدلالتها تصوريّة وان صدرت من ملتفت قاصد لاخطار معنى الجملة إلاّ انّه غير جاد وغير قاصد الحكاية والإخبار عن الواقع فهذه دلالة تفهيميّة.

وبهذا يتّضح انّ الدلالة التصديقيّة الثانية دلالة حاليّة سياقيّة أي مستفادة من ملاحظة حال المتكلّم ، فهي وان كانت تشترك مع الدلالة التفهيميّة من هذه الجهة إلاّ انّ مدلول الدلالة التفهيميّة هو انّ المتكلّم مريد لتفهيم المعنى من اللفظ ، وأمّا مدلول الدلالة التصديقيّة الجديّة فهو انّ المتكلّم قاصد من كلامه الحكاية عن الواقع.

على انّ الدلالة التصديقيّة الثانية منوطة بتنقيح الدلالة التفهيميّة ، فما لم ينعقد ظهور في انّ المتكلّم مريد لاخطار المعنى وتفهيمه من كلامه فإنّه لا تصل النوبة للدلالة التصديقيّة الثانية. ومن هنا قلنا انّ الدلالة التصديقيّة هي الظهور في التطابق بين الإرادة التفهيميّة والإرادة الجديّة التصديقيّة.

ثمّ انّ ظهور حال المتكلّم في انّه قاصد الحكاية عن الواقع منوط بعدم نصبه لقرينة منفصلة على عدم إرادته الجديّة للواقع وإلاّ فمع نصب القرينة المنفصلة ينهدم الظهور الجدّي في قصد الحكاية عن الواقع ، وذلك لأنّ استظهار التطابق بين المدلولين الاستعمالي والجدّي انّما هو لبناء العقلاء على انّ كلّ متكلّم أراد تفهيم المعنى من كلامه فإنّه مريد واقعا لما أراد تفهيمه أي مريد لقصد الحكاية


عن الواقع بواسطة ما أخطره من معنى بكلامه ، وهذا البناء العقلائي مختصّ بحالة عدم نصب المتكلّم لقرينة منفصلة تعبّر عن عدم الإرادة الجدّية للحكاية عن الواقع.

والمتحصّل ممّا ذكرناه انّ الدلالة التصديقيّة منوطة بأربعة امور :

الاوّل : علم السامع بالوضع ، وهي الجهة المشتركة بين الدلالات الثلاث.

الثاني : احراز انّ المتكلّم عاقل وملتفت ، وهذه هي الجهة المشتركة بين الدلالة التصديقيّة الثانية والدلالة التفهيميّة.

الثالث : أن يكون الكلام من سنخ المركّبات التامّة.

الرابع : ان لا ينصب المتكلّم قرينة منفصلة على عدم الإرادة الجدّيّة للحكاية عن الواقع.

ومع توفر هذه الامور الأربعة ينعقد للكلام ظهور في الارادة الجديّة للحكاية عن الواقع.

* * *

٣٣٨ ـ الدلالة التصديقيّة الاولى

وهي الدلالة التفهيميّة ، وعبّر عنها بالتصديقيّة لأنّها توجب إذعان السامع بإرادة المتكلّم المعنى من لفظه ، وعبّر عنها بالاولى لتتميز عن الدلالة التصديقيّة الثانية.

وقد شرحنا مفصلا المراد من الدلالة التصديقيّة الاولى تحت عنوان « الدلالة التفهيميّة ».

* * *

٣٣٩ ـ الدلالة التصوريّة

وهي انخطار معنى اللفظ في الذهن بمجرّد اطلاق اللفظ ، وعبّر عنها بالدلالة التصوريّة باعتبار انّ اللفظ في موردها لا يوجب أكثر من تصور معناه في الذهن عند اطلاقه.

وهذا النحو من الدلالة منوط بالعلم بالوضع ، فغير العالم بالوضع لا ينقدح في ذهنه معنى اللفظ عند اطلاقه ، وأمّا العالم بالوضع فانقداح المعنى في ذهنه عند اطلاق اللفظ


قهري. ومن هنا كانت الدلالة التصوريّة غير منوطة بكون المتلفّظ ملتفتا ، فحتى لو صدر اللفظ من ذاهل أو نائم فإنّ صورة المعنى تنخطر في الذهن بمجرّد سماع اللفظ ، بل لو علم السامع انّ المتكلّم لم يكن مريدا للمعنى الحقيقي من اللفظ فإنّه مع ذلك تنتقل صورة المعنى الحقيقي لذهنه رغم علمه بعدم إرادة المتكلّم للمعنى الحقيقي.

وهكذا تحصل الدلالة التصوريّة عند ما لا يكون المتلفظ عاقلا كأن كان صدور اللفظ قد تمّ بواسطة ببغاء أو اصطكاك حجرين.

* * *

٣٤٠ ـ الدلالة التضمنيّة

والمراد منها دلالة اللفظ على معنى واقع في ضمن المعنى الموضوع له اللفظ كدلالة بيع الدار على بيع البيوتات والفناء المشتملة عليها الدار ، وذلك لأنّ البيوتات والفناء واقعة في ضمن المعنى الموضوع له لفظ الدار.

وبهذا اتّضح انّ الدلالة التضمنيّة تابعة للدلالة المطابقيّة ثبوتا وانتفاء ، فعند ما تقوم البيّنة على ملكيّة زيد للدار فإنّ هذه البيّنة كما تدلّ على ملكيّة زيد للدار كذلك تدلّ على ملكيّته لبيوتاتها وفنائها ، وهذا هو معنى تبعيّة الدلالة التضمنيّة للمطابقيّة ثبوتا ، وعند ما تسقط البيّنة للعلم بكذبها فإنّ الدلالة المطابقيّة تسقط وحينئذ تسقط بتبعها الدلالة التضمنيّة ، وهذا هو معنى التبعيّة انتفاء.

وما يقال من عدم تبعيّة الدلالة التضمنيّة للدلالة المطابقيّة في مرحلة السقوط يقصد منه حالات سقوط بعض الدلالات التضمنيّة عن المدلول المطابقي ، فإنّه لا يقتضي سقوط دلالة المدلول المطابقي عن بقيّة المدلولات التضمنيّة ، ولذلك يمكن التمسّك بالدلالة المطابقيّة لإثبات إرادة المدلولات التضمنيّة التي لم يقتض الدليل الخارجي سقوطها. ومنشأ ذلك هو عدم التلازم بين المدلولات


التضمنيّة فيما بينها ، فليس أحدها علّة للآخر كما انّه ليس معلولا له.

ومثال ذلك : العمومات المخصّصة ، فإنّ الأفراد الخارجة بالتخصيص مدلولات تضمنيّة إلاّ انّ سقوطها عن المدلول المطابقي « العام » بالتخصيص لا يوجب سقوط الدلالة المطابقيّة عن الدلالة على بقيّة المدلولات التضمنيّة.

* * *

٣٤١ ـ الدلالة التفهيميّة

والمقصود منها دلالة اللفظ على إرادة المتكلّم تفهيم معناه من اطلاقه ، فهي إذن تضيف معنى زائدا الى الدلالة التصوريّة وهو الدلالة على إرادة المتكلّم للمعنى من اللفظ في حين انّ الدلالة التصوريّة لا تدلّ على إرادة المتكلّم لتفهيم المعنى ، ولهذا قلنا انّ الدلالة التصوريّة تحصل حتى مع العلم بعدم إرادة المتكلّم لتفهيم المعنى الحقيقي وانها تحصل حتى في حالة تعذّر الإرادة من المتكلّم كما لو كان نائما أو كان من العقلاء.

وبهذا يتّضح الفرق بين الدلالتين وانّ الدلالة التفهيميّة منوطة ـ بالإضافة الى العلم بالوضع ـ بكون المتكلّم عاقلا ملتفتا لما يقول ، إذ لا يتعقّل إرادته للتفهيم لو لم يكن يدري ما يقول.

ثمّ انّ استظهار إرادة المتكلّم لتفهيم المعنى الحقيقي من اللفظ منوط أيضا بعدم نصبه لقرينة متصلة على عدم الإرادة وإلاّ فمع نصب القرينة المتّصلة على عدم الإرادة لا ينعقد لكلامه ظهور في إرادة تفهيم المعنى الحقيقي ، وهكذا لو احتف الكلام بما يصلح للقرينيّة فإنّه لا ينعقد حينئذ لكلامه ظهور في إرادة تفهيم المعنى الحقيقي ، نعم ، لو كانت القرينة منفصلة فإنّها لا تمنع من انعقاد الظهور في إرادة تفهيم المعنى الحقيقي بل ولا تهدم الظهور الاستعمالي بعد الاطّلاع عليها.

وبهذا اتّضح انّ الدلالة التفهيميّة دلالة حاليّة سياقيّة مستفادة من ملاحظة حال المتكلّم وانّه عاقل وملتفت.


والمتحصّل ممّا ذكرناه انّ الدلالة التفهيميّة منوطة بثلاثة أمور :

الاول : علم السامع بالوضع ، وهذه هي الجهة المشتركة بينها وبين الدلالة التصوريّة.

الثاني : أن يكون المتكلّم عاقلا وملتفتا لما يقول.

الثالث : أن لا يكون المتكلّم قد نصب قرينة متّصلة على عدم إرادة المعنى الحقيقي وأن لا يكون الكلام محتفا بما يصلح للقرينيّة على عدم إرادة التفهيم للمعنى الحقيقي.

وتسمى هذه الدلالة بالدلالة التصديقيّة الاولى ، لانّها توجب إذعان السامع بإرادة المتكلّم لتفهيم المعنى الحقيقي ، كما تسمى بالدلالة الاستعماليّة لانّها تعبّر عن انّ المتكلم قد استعمل اللفظ لغرض تفهيم المعنى.

* * *

٣٤٢ ـ الدلالة الجدّيّة

هي الدلالة التصديقيّة الثانية ، وهي لا تتعقّل إلاّ في الجمل التركيبيّة التامّة ، وأمّا الجمل التركيبيّة الناقصة فلا تكون الدلالة معها دلالة جديّة بل تتمحّض دلالتها بالدلالة التصوريّة والاستعماليّة ، فحتى لو كان المتكلّم جادا في اخطار المعنى وتفهيمه للسامع فإنّه لا يقال عن ذلك دلالة جديّة ، فإنّ كلّ مريد للتفهيم جاد في ذلك ، فالدلالة الاستعماليّة التفهيميّة دائما تكون بنحو الجد إلاّ انّه لا يعبّر عنها بالدلالة الجديّة وانّ هذا الاصطلاح مختصّ بالدلالة التصديقيّة الثانية ، وقد أوضحنا ذلك تحت عنوان « الدلالة التصديقيّة ».

* * *

٣٤٣ ـ دلالة السكوت والتقرير

البحث في المقام عمّا هو مدلول سكوت المعصوم عليه‌السلام أو تقريره ، وبيان ذلك :

إنّ المعصوم عليه‌السلام قد يشاهد أمامه موقفا عمليّا خاصّا أو عامّا فيصرّح برأي الشريعة في ذلك الموقف ، فهنا تكون الدلالة على الحكم الشرعي من


قبيل دلالة الدليل الشرعي اللفظي.

وقد يشاهد أمامه ذلك الموقف فلا يبدي تجاهه بأيّ تصريح لا سلبا ولا إيجابا بل يسكت عنه ، وهذا هو محلّ الكلام إذ يقع البحث عن دلالة سكوت الإمام عليه‌السلام عن ذلك الموقف على الإمضاء ، وأنّ ذلك الفعل يتناسب مع الغرض الشرعي أو لا ينافيه.

وقد استدلّ على ذلك بدليلين ، الأوّل منهما عقلي ، والآخر استظهاري :

أمّا الدليل العقلي :

فقد ذكر له تقريبان :

التقريب الأول : إنّ المعصوم عليه‌السلام لمّا كان واحدا من سائر المكلّفين ، فهذا يقتضي مسئوليّته عن النهي عن المنكر لو كان الفعل الذي شاهده منافيا للشريعة ، إذ أنّ النهي عن المنكر واجب على كلّ مكلّف ، والمعصوم عليه‌السلام لا يترك واجبا بمقتضى عصمته ، فعدم ردعه عن ذلك الفعل يستلزم عدم منافاة ذلك الفعل لما عليه الشريعة ، وهذا هو معنى دلالة السكوت عقلا على الإمضاء ، وكذلك يجب على المكلّفين تعليم الجاهل ، فلو لم يكن ما شاهده عليه‌السلام موافقا لما عليه الشارع المقدّس لنبّه على ذلك كما هو مقتضى عصمته ، إذ أنّ المعصوم عليه‌السلام لا يترك واجبا ، فعدم تنبيه الإمام عليه‌السلام على منافاة الفعل الذي شاهده لما عليه الشريعة يكشف عقلا عن عدم المنافاة.

وهذا التقريب ـ لو تمّ ـ فإنّه منوط بإحراز توفّر شرائط النهي عن المنكر حين مشاهدة المعصوم عليه‌السلام لذلك الموقف ، ويمكن التمثيل للصورتين بمثالين :

المثال الأوّل :

إنّ المعصوم عليه‌السلام لو شاهد رجلا يشرب العصير التمري ومع ذلك سكت ولم يردعه ، فإنّ ذلك يكشف عن عدم حرمته ، وإلاّ كان على الإمام عليه‌السلام بمقتضى وجوب النهي عن المنكر أن يردعه ، إذ أنّ عصمة الإمام عليه‌السلام تمنع من تركه للواجب.

المثال الثاني :

لو شاهد الإمام عليه‌السلام مكلّفا يمسح


رأسه في الوضوء نكسا ومع ذلك لم يتصدّ لتنبيهه على منافاة فعله لما هو المعتبر شرعا ، فهذا يقتضي عدم منافاة المسح نكسا لما هو المعتبر شرعا في الوضوء ، وإلاّ كان على الإمام عليه‌السلام بمقتضى وجوب تعليم الجاهل أن ينبّه المكلّف على منافاة فعله لما هو المطلوب شرعا ، وإلاّ كان عليه‌السلام مخالفا لفريضة من فرائض الدين ، وهذا لا يناسب العصمة.

التقريب الثاني : إنّ المعصوم لمّا كان مشرّعا ، فإنّ ذلك يقتضي عقلا عدم السماح بتفويت وتضييع أغراضه ، فسكوته عن الفعل إذا كان موجبا لتفويت أغراضه بما هو شارع يعني أنّ الإمام عليه‌السلام ينقض غرضه ويضيّعه بنفسه ، وهذا لا يتناسب مع عقلانيّته ، إذ أنّ الحكيم لا يضيّع غرضه بل يسعى للمحافظة على أغراضه ، وهذا التقريب ـ إذا تمّ ـ فإنّه منوط بإحراز ناقضيّة الفعل ـ على افتراض منافاته للشارع ـ لغرض الشارع إذ أنّ الفعل قد يكون منافيا لما عليه الشارع إلاّ أنّ ارتكابه لا يؤدي إلى تفويت أغراض الشارع.

ولمزيد من التوضيح نذكر لكلّ من الحالتين مثالا :

ونذكر أوّلا مثالا على كون السكوت لا يوجب نقض الغرض في بعض الحالات ، وهذا المثال هو : أنّ المعصوم عليه‌السلام قد يشاهد مكلّفا يمتنع عن ارتكاب فعل بتوهّم أنّه حرام شرعا وهو في واقعه مكروه ، فإنّ هذا الامتناع من المكلّف ينافي ما عليه الشارع إلاّ أنّ السكوت عنه لا يعدّ نقضا للغرض ، فلا يكون السكوت في حالة من هذا القبيل كاشفا عن الإمضاء.

وأمّا مثال ما يكون السكوت نقضا للغرض فهو مشاهدة المعصوم عليه‌السلام اعتماد المكلّفين على خبر الثقة في الوصول إلى الأحكام الشرعيّة ، فإنّ سكوته يكشف عن الإمضاء ، إذ أنّ ذلك لو كان منافيا لما عليه الشارع لكان السكوت نقضا للغرض ، فلو كان نظر الشارع هو عدم جواز


الاعتماد على أخبار الثقات ومع ذلك سكت ولم ينبّه على عدم الجواز مع أنّه يشاهد المكلّفين يعوّلون على خبر الثقة في مقام التعرّف على الأحكام الشرعيّة ، فهذا من أجلى مصاديق تفويت الغرض والذي هو مستحيل على العاقل الملتفت.

وكذلك لو كان العقلاء يرتّبون الأثر على خبر الثقة في شئونهم اليوميّة ، وكانت هذه الممارسة تنذر بالسريان إلى الشرعيّات ، فإنّ عدم تنبيه الشارع على عدم صحّة الاتّكال على خبر الثقة في معرفة الأحكام الشرعيّة يعدّ نقضا للغرض المنفي عن العاقل الملتفت.

وأمّا الدليل الاستظهاري :

على دليليّة السكوت على الإمضاء ، فهو أنّ المعصوم عليه‌السلام لمّا كان منصوبا من قبل الله عزّ وجلّ لغرض تبليغ الأحكام الشرعية وإرشاد الناس إلى الصواب في جميع سلوكيّاتهم وتقويم ما انحرف منها عن جادّة الحق اقتضى ذلك استظهار الإمضاء من سكوت المعصوم عليه‌السلام عن الردع عن ممارسة المكلّف لسلوك بمرأى منه عليه‌السلام.

ويمكن تنظير ذلك بالمشرف على عمل من الأعمال ، فإنّ العامل حينما يمارس وظيفته بمرأى من المشرف ومع ذلك يظلّ المشرف ساكتا رغم أنّه في مقام تقويم الأخطاء التي يرتكبها العامل ، فإنّ العرف حينئذ يستظهر من حال المشرف الإمضاء لعمل العامل ، وإلاّ كان عليه ـ بحكم كونه في مقام التقويم ـ أن ينبّه العامل على خطئه.

وإذا تمّ هذا الدليل الاستظهاري فهو لا يفتقر إلى إحراز شرائط النهي عن المنكر كما هو مقتضى التقريب الأوّل من الدليل العقلي ، كما لا يفتقر إلى إحراز ناقضيّة السكوت للغرض كما هو مقتضى التقريب الثاني من الدليل العقلي.

* * *

٣٤٤ ـ الدلالة المطابقيّة

والمراد منها دلالة اللفظ على تمام


المعنى على أن تكون دلالته على ذلك ناشئة عن الوضع وإلاّ فلو كانت دلالته ناشئة عن غير الوضع فإنّ الدلالة حينئذ لا تكون مطابقيّة ، كما في دلالة لفظ الأسد على طبيعة الرجل الشجاع فإنّها دلالة على تمام المعنى إلاّ انّ هذه الدلالة لمّا لم تكن ناشئة عن الوضع ـ بل ناشئة عن التناسب بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي ـ فإنّها لا تكون مطابقيّة بحسب الاصطلاح.

ومثال الدلالة المطابقيّة دلالة لفظ الإنسان على الحيوان الناطق ، فإنّ لفظ الإنسان يدلّ على تمام طبيعة الانسان والتي هي الحيوان الناطق كما انّ منشأ الدلالة على تمام المعنى هو الوضع.

* * *

٣٤٥ ـ الدلالة الوضعيّة

وهي الدلالة التصوريّة ، وعبّر عنها بالوضعيّة باعتبار نشوئها عن معرفة الاوضاع اللغويّة ، هذا بناء على مسلك الاعتبار في الوضع.

وأمّا بناء على مسلك السيّد الخوئي رحمه‌الله من انّ الوضع بمعنى التعهد فالدلالة لا تكون إلاّ تصديقيّة أي تصديقيّة اولى وذلك لأنّ التعهّد لا يكون إلاّ من المريد الملتفت ، وسيأتي ايضاح ذلك تحت عنوان « الدلالة الوضعيّة تصوريّة أو تصديقيّة؟ ».

* * *

٣٤٦ ـ الدلالة الوضعيّة تصوريّة أو تصديقيّة؟

الدلالة الوضعيّة هي الدلالة الناشئة عن الوضع ، وهذا المقدار لا إشكال فيه انّما الإشكال فيما هي الدلالة الناشئة عن الوضع وهل هي الدلالة التصوريّة والتي هي الانتقال من اللفظ الى المعنى أو قل حصول صورة المعنى في الذهن عند اطلاق اللفظ ، أو انّ الدلالة الناشئة عن الوضع هي الدلالة التصديقيّة التفهيميّة والتي تعبّر عن إرادة المتكلّم تفهيم المعنى من اللفظ ، أي انّ الدلالة الوضعيّة توجب انتقال صورة المعنى


الى الذهن وتكشف عن إرادة المتكلّم تفهيم هذا المعنى المنخطر في الذهن بواسطة اللفظ.

ذهب المشهور الى انّ الدلالة الوضعيّة دلالة تصوريّة لا توجب أكثر من انتقال صورة المعنى الى الذهن عند اطلاق اللفظ ، وانّ الدلالة على إرادة المتكلّم تفهيم المعنى من اللفظ انّما هو بدال آخر وأمّا حاق اللفظ فلا يقتضي عند اطلاقه الاّ انخطار معناه في ذهن السامع.

وذهب السيّد الخوئي رحمه‌الله الى انّ الدلالة الوضعيّة دلالة تصديقيّة تكشف عن إرادة المتكلّم إخطار المعنى من اللفظ ، وادعى رحمه‌الله انّ ذلك لا يختصّ بمسلكه في الوضع بل انّ هذه الدعوى تناسب مسلك المشهور في الوضع ، غايته انّه بناء على مسلكه تكون الدلالة الوضعيّة دلالة تصديقيّة حتما ، أمّا بناء على مسلك المشهور فليس كذلك بل يمكن دعوى انّ الدلالة الوضعيّة دلالة تصوريّة.

وبيان ذلك : انّه بناء على مسلك السيّد الخوئي رحمه‌الله في الوضع وهو انّه عبارة عن التعهّد والالتزام من كلّ متكلّم بأن لا يستعمل هذا اللفظ إلاّ حين إرادة تفهيم المعنى تكون الدلالة الوضعيّة دلالة تصديقيّة حتما ، وذلك لأنّ تصوّر المعنى من اللفظ عند ما لا يكون المتلفّظ عاقلا ملتفتا لا يكون هذا التصوّر مستندا الى الوضع ، لأنّه لا يتعقّل التعهّد والالتزام من غير العاقل الملتفت ، والمفترض انّ الوضع هو نفس التعهّد والالتزام مما يعبّر عن انّ هذا التصوّر لم يستند للوضع ، فلا تكون الدلالة التصوريّة ـ لو صحّ ان نعبّر عنها بالدلالة ـ لا تكون دلالة وضعيّة.

ومن هنا تكون الدلالة الوضعيّة متمحّضة في الدلالة التصديقيّة ، إذ هي المناسبة لمسلك التعهّد والذي يقتضي انّ كلّ متكلّم استعمل لفظا انّه يريد من استعمال هذا اللفظ اخطار المعنى وتفهيمه للسامع ، وهذه هي الدلالة التصديقيّة.

وأمّا بناء على مسلك المشهور في


الوضع وانّه عبارة عن اعتبار اللفظ دالا على المعنى فإنّ الدلالة الوضعيّة تصديقيّة أيضا ، وذلك لأنّ الاعتبار ليس جزافيا لافتراض انّ المعتبر حكيما ، وإذا كان كذلك فمن الواضح انّ الغرض من الوضع واعتبار اللفظ دالا على المعنى هو تفهيم المعنى ، أي انّ غرض الواضع جعل اللفظ وسيلة لتفهيم المعنى ، وحينئذ تتحدّد الدلالة بحدود الغرض من الوضع ، ولمّا كان الغرض هو إرادة تفهيم المعنى فإنّ الدلالة الوضعيّة لا تتّسع لأكثر من الغرض وإلاّ كان الاعتبار أوسع من الغرض ولا مبرّر عقلائي لذلك ، وحتى ننزّه الواضع عمّا ينافي الحكمة يلزم حمل اعتباره اللفظ دالا على المعنى على خصوص الحالة التي يكون فيها المتكلّم مريدا لتفهيم المعنى من اللفظ. وبهذا تكون الدلالة الوضعيّة مختصّة بحالة إرادة المتكلّم تفهيم المعنى من اللفظ ، وهذه هي الدلالة التصديقيّة التفهيميّة.

ومن هنا تكون الدلالة الوضعيّة دلالة تصديقيّة دائما سواء على مسلك التعهّد أو مسلك الاعتبار ، وما نشاهده من انخطار المعنى بمجرّد اطلاق اللفظ حتى من غير العاقل الملتفت لا يستند الى الدلالة الوضعيّة ، أي انّ ذلك التصوّر لم ينشأ عن الوضع وانّما هو ناشئ عن الانس الحاصل بين اللفظ والمعنى نتيجة كثرة استعمال اللفظ في هذا المعنى أو نتيجة منشأ آخر ، وعلى أيّ حال فإنّ هذا التصوّر ليس مستندا للوضع. هذا هو حاصل ما أفاده السيّد الخوئي رحمه‌الله في مقام إثبات دعوى انّ الدلالة الوضعيّة دلالة تصديقيّة.

وفي مقابل هذه الدعوى ذهب جمع من الأعلام الى انّ منشأ الدلالة على إرادة المتكلّم تفهيم المعنى من اللفظ انّما هو ظهور حاله في ذلك ، وهذا الاستظهار ناشئ عن امارة عقلائيّة وهي غلبة ان لا يستعمل المتكلّم الملتفت لفظا إلاّ أن يكون قاصدا تفهيم معناه ، فليس من دأب العاقل الملتفت أن يأتي بكلام لا يقصد منه سوى


تحريك لسانه وفتح فمه. ومن هذه الأمارة العقلائيّة ينشأ الظهور التصديقي لحال كلّ متكلّم في إرادة تفهيم المعنى من كلامه وإلاّ فليس لحاق اللفظ دلالة على الإرادة.

وأمّا دعوى انّ اعتبار اللفظ دالا على المعنى بنحو مطلق ـ حتى مع عدم إرادة التفهيم ـ خروج عن حدود الغرض ، هذه الدعوى لو سلّمت فإنّه يمكن تبريرها بدعوى انّ جعل اللفظ دالا على المعنى في ظرف إرادة التفهيم فحسب غير ممكن ، وهذا ما جعل الواضع يتخطّى حدود الغرض من الوضع ويعتبر اللفظ دالا على المعنى بنحو مطلق أي سواء كان المتكلّم مريدا لتفهيم المعنى أو لم يكن كأن كان المتلفّظ غير عاقل. ومن هنا تكون الدلالة الوضعيّة دلالة تصوريّة وليست تصديقيّة.

ولمزيد من التوضيح راجع عنوان « تبعيّة الدلالة للإرادة ».

* * *

٣٤٧ ـ دلالة فعل المعصوم (عليه‌السلام)

إنّ الفعل الصادر عن المعصوم عليه‌السلام تارة يكون مكتنفا بما يدلّ على أنّ المعصوم في مقام التعليم للمكلّفين ، كقول الإمام عليه‌السلام : « ألا أحكي لكم وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » ، ثمّ أخذ في بيان الوضوء عملا ، أو كما ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال قبل الشروع في مناسك الحج : « خذوا منّي مناسككم » ، وكقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « صلّوا كما رأيتموني أصلّي » ، وكذلك لو قامت القرينة الحاليّة على أنّ المعصوم عليه‌السلام في مقام التعليم العملي للمكلّفين ، فإنّه في حالة من هذا القبيل تكون دلالة فعل المعصوم على الحكم الشرعي تابعة لمقدار دلالة تلك القرينة اللفظية أو الحاليّة ، وهذا خارج عن محل الكلام.

إنّما الكلام فيما يكشف عنه الفعل المجرّد عن مثل هذه القرائن ، فنقول : إنّه تارة يراد استكشاف الحكم من فعل المعصوم وأخرى يراد استكشافه


من ترك الفعل ، وكلّ من الفعل والترك تارة يصدر عن المعصوم في مورد أو موردين وتارة يكون بنحو المداومة والالتزام ، فيمكن تقسيم الفعل وتركه إلى أربعة أقسام :

القسم الأوّل : صدور الفعل عن المعصوم في موارد محدودة ، وهنا لا يدلّ ذلك الفعل على أكثر من عدم حرمة ذلك الفعل الصادر عنه عليه‌السلام ، فإنّ هذا هو مقتضى عصمته ، إذ أنّ العصمة لا تتنافى مع ارتكاب المكروه في حالات نادرة كما أنّ العصمة لا تستلزم عدم صدور غير المستحبّ عنه ، نعم لو كان الفعل الصادر عنه فعلا عباديّا فإنّ صدوره عنه يستلزم كونه راجحا شرعا ، إذ أنّ الفعل العبادي لا يخلو عن أحد حالتين ، إمّا أن يكون محرّما أو يكون راجحا ، فإذا صدر عن المعصوم عليه‌السلام فإنّ ذلك يقتضي مشروعيّته ، ومشروعيّة الفعل العبادي هي عين راجحيّته شرعا ، ومن هنا يكون الفعل العبادي الصادر عن المعصوم يكشف عن راجحيّته ، إلاّ أنّ استكشاف الراجحيّة هنا لا تستفاد من حاقّ الفعل الصادر عنه عليه‌السلام ، إذ أنّ صدور الفعل عنه لا يكشف عن أكثر من عدم الحرمة ، غاية ما في الأمر أنّ عدم الحرمة هنا تستلزم الراجحيّة الشرعيّة.

وما ذكرناه من عدم دلالة الفعل على أكثر من عدم الحرمة مبنيّ على أنّ العصمة لا تقتضي عدم صدور الفعل المرجوح في موارد محدودة ، أمّا لو بنينا على أنّ المعصوم لا يصدر منه ما ينافي الأولى ولو في موارد محدودة فإنّ صدور الفعل عنه حينئذ يدلّ ـ بالإضافة على عدم الحرمة ـ على راجحيّة ذلك الفعل ، ولو لم يكن من قبيل الأفعال العباديّة.

القسم الثاني : ترك المعصوم لفعل من الأفعال في موارد محدودة ، فهنا لا يدلّ تركه عليه‌السلام على أكثر من عدم الوجوب ، ودلالته على ذلك هو مقتضى عصمته ، فإنّ العصمة لا تقتضي عدم ترك المستحبّ في حالات نادرة ، نعم بناء على أنّ العصمة تعني


عدم صدور مطلق المرجوح وعدم ترك مطلق الراجح ولو في موارد محدودة ، فإنّ ذلك يقتضي دلالة ترك الفعل على عدم راجحيّته.

القسم الثالث : صدور الفعل منه عليه‌السلام بنحو المداومة والالتزام ، وهذا يتصوّر على ثلاثة أنحاء :

النحو الأوّل : أن يكون الفعل من قبيل الأفعال العباديّة ، وهذا النحو من الأفعال لا إشكال في دلالتها على الرجحان إذ أنّ صدورها عن المعصوم عليه‌السلام يدلّ على عدم حرمتها ، وعدم الحرمة في الأفعال العباديّة يساوق الرجحان ـ كما قلنا ـ ، وهذا النحو من الأفعال يدلّ على الرجحان مطلقا حتى لو كان صدور الفعل منه عليه‌السلام في موارد محدودة.

النحو الثاني : أن يكون الفعل من قبيل الأفعال التي لا يقتضي الطبع العقلائي ممارسته بنحو المداومة والالتزام ، كالتحنّك في السفر ، أو الابتداء بالقدم اليسرى عند دخول بيت الخلاء ، فإنّ المداومة على فعل من هذا القبيل يكشف عن راجحيّته بناء على منافاة العصمة للمداومة على الفعل غير الراجح ، أما بناء على عدم اقتضاء العصمة لأكثر من عدم ارتكاب المحرّم فإنّ المداومة على الفعل كعدم المداومة عليه من حيث دلالته على خصوص نفي الحرمة عن الفعل الصادر.

النحو الثالث : أن يكون الفعل من قبيل الأفعال التي يقتضي الطبع العقلائي مزاولتها بنحو المداومة ، مثل البيع أو الذهاب إلى السوق ، فهذا النحو من الأفعال يدلّ على نفي الحرمة ، وهو يدلّ على نفي المرجوحيّة أيضا بناء على اقتضاء العصمة عدم ارتكاب المعصوم عليه‌السلام مخالفة الأولى ، ويدلّ على الراجحيّة بناء على اقتضاء العصمة لعدم المداومة على الفعل غير الراجح.

القسم الرابع : المداومة على ترك فعل من الأفعال ، فإنّ ذلك يدلّ على عدم وجوبه بلا إشكال ، وهو يدلّ على عدم راجحيّة الفعل بناء على


اقتضاء العصمة لعدم المداومة على ترك الراجح ، وكذلك يدلّ على عدم الراجحيّة بناء على اقتضاء العصمة لعدم ترك الراجح ولو في موارد محدودة ، أمّا بناء على عدم اقتضاء العصمة لأكثر من عدم ترك الواجب فإنّ المداومة على ترك الفعل كتركه في موارد محدودة من حيث أنّهما يشتركان في الدلالة على خصوص نفي الوجوب.

وما ذكرناه من دليليّة الفعل والترك على الحكم الشرعي إنّما هو في حالة عدم قيام الدليل الخاصّ على اختصاص المعصوم عليه‌السلام بذلك الفعل أو الترك ، كصلاة الليل ، وصوم الوصال ، والزواج بأكثر من أربع ، فإنّ الدليل الخاصّ دلّ على أنّها من مختصّات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

* * *

٣٤٨ ـ الدليل الاجتهادي والدليل الفقاهتي

والمقصود من الدليل الاجتهادي هو الدليل الذي يستكشف بواسطته الحكم الواقعي ، كالاستدلال بخبر الثقة أو بالإجماع أو الشهرة الفتوائية على حرمة شيء واقعا أو وجوب شيء واقعا.

وأمّا المقصود من الدليل الفقاهتي فهو الدليل العملي المعبّر عنه بالأصل العملي والذي يكون دوره الدلالة على الحكم الظاهري في ظرف الشك في الحكم الواقعي.

وبتعبير آخر : انّ كلّ دليل يكون له دور تحديد الوظيفة العمليّة للمكلّف في ظرف الشك في الحكم الواقعي يعبّر عنه بالدليل الفقاهتي ، وذلك مثل أصالة البراءة والاستصحاب والاحتياط.

ومنشأ التعبير عن الدليل الأوّل بالدليل الاجتهادي هو ما ذكروه في تعريف الاجتهاد وانّه « استفراغ الوسع لتحصيل الظن بالحكم الشرعي » ، ولا ريب انّ مقصودهم من الحكم الشرعي هو خصوص الحكم الواقعي ، إذ هو الذي يحصل


بواسطة الأدلّة الظنّ بثبوته وإلاّ فإنّ الحكم الظاهري ممّا يحصل العلم به للمجتهد بواسطة أدلّته ، فحينما يكون المورد مجرى لأصالة البراءة فإنّ المجتهد يقطع بأن الحكم الظاهري لهذا المورد هو البراءة ، وهذا ما يعبّر عن انّ المراد من الحكم الشرعي في تعريف الاجتهاد هو الحكم الواقعي ، إذ هو الذي يحصل الظن بثبوته بواسطة أدلّته.

ومن الواضح انّ طبيعة الأدلّة التي يستدل بها على الحكم الواقعي تختلف عن طبيعة الأدلّة التي يستدلّ بها على الحكم الظاهري ، فالأدلّة التي يستدل بها على الحكم الواقعي هي الأمارات المعتبرة وهي لا تعطي سوى الظنّ بثبوت الحكم الواقعي ، ومن هنا عبّر عنها بالدليل الاجتهادي باعتبارها دليلا على الحكم الواقعي والذي هو المقصود من الحكم الشرعي في تعريف الاجتهاد ، فنسبة الدليل على الحكم الواقعي الى الاجتهاد باعتبار انّه المقصود من تحصيل الظنّ في تعريف الاجتهاد ، فكأنّما التعبير عن الدليل بالاجتهادي لغرض الإشارة الى انّ المقصود من الدليل هو الدليل المذكور في تعريف الاجتهاد.

وأمّا منشأ التعبير عن الدليل الثاني بالدليل الفقاهتي فهو ما ذكروه في تعريف الفقه وانّه « العلم بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة » والمراد من الحكم الشرعي في هذا التعريف هو الأعم من الحكم الواقعي والظاهري.

ومن الواضح انّ الأدلّة التفصيليّة التي توجب العلم بالحكم الشرعي الفرعي هو خصوص الأدلّة العمليّة ، إذ انّها توجب القطع بالحكم الشرعي الظاهري ، وأمّا مثل الأمارات والتي تدلّ على الحكم الواقعي فهي لا توجب القطع بالحكم الواقعي فلا تكون متناسبة مع الأدلّة التفصيليّة المذكورة في تعريف الفقه ، إذ انّ الأدلّة التفصيليّة المذكورة في تعريف الفقه هي خصوص الأدلّة الموجبة للعلم بالحكم الشرعي الفرعي.


ومن هنا ناسب ان يقال للأدلّة العمليّة انّها أدلّة فقاهتيّة ، إذ انّها المتناسبة مع الأدلّة المذكورة في تعريف الفقه ، فالتعبير عن الأدلّة العمليّة بالفقاهتيّة انّما هو لغرض الإشارة الى الأدلّة المذكورة في تعريف الفقه.

هذا هو حاصل ما نسب الى الوحيد البهبهاني رحمه‌الله ، وقد تلقّاه الأعلام بالقبول باعتباره مجرّد اصطلاح.

* * *

٣٤٩ ـ الدليل الإنّي والدليل اللمّي

راجع البرهان الإنّي والبرهان اللمّي.

* * *

٣٥٠ ـ الدليل الشرعي

المراد من الدليل الشرعي هو كلّ طريق موصل للحكم الشرعي استفيد بواسطة الشارع المقدّس ، وذلك مثل النصّ القرآني وظواهر الكتاب والسنّة الشريفة سواء ما وصل منها عبر التواتر أو عن طريق أخبار الثقات أو السير العقلائيّة والمتشرّعيّة. ومنشأ انتساب الشرعي للدليل فيما ذكرناه من أمثلة هو أنّ هذه الطرق جاءت من عند الشارع المقدّس.

فالسيرة العقلائيّة وكذلك المتشرّعيّة من الأدلّة الشرعيّة باعتبار أنّ إيصالها للحكم الشرعي نشأ عن كاشفيّتها عن الإمضاء الصادر عن الشارع أو عن تقرير الشارع لها أو وجود نصّ وصل مضمونه بواسطتها.

والدليل الشرعي يقابل الدليل العقلي والذي يكشف هو أيضا عن الحكم الشرعي ولكنّه ليس دليلا شرعيّا باعتبار أنّ كاشفيّته عن الحكم الشرعي نشأت عن المدركات العقليّة.

ثمّ إنّ الدليل الشرعي ينقسم إلى قسمين :

القسم الأوّل : يعبّر عنه بالدليل الشرعي اللفظي ، وهو ما يكون من قبيل الخطابات الصادرة عن الشارع المقدّس كالقرآن الكريم والأحاديث


الواصلة إلينا عن المعصومين عليهم‌السلام.

القسم الثاني : يعبّر عنه بالدليل الشرعي غير اللفظي ، وهو ما يكون من قبيل السير العقلائيّة الممضاة من الشارع ومن قبيل الروايات الحاكية عن فعل المعصوم وتقريره. ولمزيد من التوضيح لاحظ ما ذكرناه تحت عنوان دلالة فعل المعصوم ، ودلالة السكوت والتقرير ، والسيرة العقلائيّة والسيرة المتشرّعيّة.

* * *

٣٥١ ـ الدليل العقلي

وقع النزاع بين الاصوليين والإخباريين رحمهم‌الله في شأن الدليل العقلي ، فذهب الاصوليون الى حجيّة الدليل العقلي القطعي وصلاحيّته للدليليّة على الحكم الشرعي ، وأمّا الأخباريون فقد اختلف في مركز نزاعهم مع الاصوليين ، وهل انّ اختلافهم مع الاصوليين كبروي أو صغروي.

ذهب الشيخ صاحب الكفاية رحمه‌الله الى انّ النزاع مع الإخباريين صغروي ، بمعنى انّهم لا ينكرون حجيّة الدليل العقلي لو كانت نتيجته قطعيّة إلاّ انّهم يدعون عدم امكانية حصول القطع بالنتائج العقليّة ، فالعقل قاصر دائما عن إدراك الحكم الشرعي.

وأمّا السيّد الخوئي رحمه‌الله وجمع كبير من الأعلام فقد ذهبوا الى انّ مركز النزاع بين الاصوليين والإخباريين كبروي ، بمعنى انّ الدليل العقلي ساقط عن الحجيّة انتج القطع أو لم ينتجه ، ولهذا قالوا بعدم حجيّة القطع الناشئ عن مقدمات عقليّة.

وكيف كان فلا بدّ من بيان المراد من الدليل العقلي الذي يرى الاصوليون صلاحيته لإثبات أو نفي الحكم الشرعي فنقول : انّ كلّ قضيّة يكون الواسطة في إثبات محمولها لموضوعها هو المدرك العقلي بحيث تتأهل تلك القضيّة بعد ذلك لأن تكون لها صلاحية الكشف عن حكم شرعي أو نفي حكم شرعي فهذه القضيّة يعبّر عنها بالدليل العقلي في اصطلاح الاصوليين.


مثلا : « الظلم قبيح » قضيّة ثبت فيها حكم لموضوع وذلك بواسطة إدراك العقل ، فهي إذن قضيّة عقليّة ، والتعبير عنها بالدليل باعتبارها صالحة للكشف عن حكم شرعي أو المساهمة في الكشف عنه ، فدليليّة هذه القضيّة باعتبار توسطها في اثبات حكم شرعي أو نفي حكم شرعي.

ثم انّ هنا أمورا أربعة يتحدد بها المراد من الدليل العقلي :

الأمر الأوّل : انّ المراد من المدركات العقليّة التي يرى الاصوليون انّ لها الدليليّة على الحكم الشرعي هي خصوص المدركات العقليّة القطعيّة ، وأمّا الظنيّة فهي خارجة عن مقصود الاصوليين أعني الاماميّة منهم.

وبهذا يتّضح انّ النزاع الواقع بين الاصوليين والاخباريين انّما هو في المدركات العقليّة القطعيّة ، وهو غير النزاع الواقع بين الإماميّة وبين أهل السنّة حيث ذهب كثير من أهل السنّة الى حجيّة الظنون العقليّة ، وهو ما يمنعه جميع الاماميّة دون استثناء ، وما وقع من بعض الإخباريين من نسبة القول بحجيّة الظنون العقليّة الى الاصوليين فهو ناشئ عن الغفلة عما هو مبنى الاصوليين في الدليل العقلي أو ناشئ عمّا وقع في بعض كلمات الاصوليين في مقام معالجة بعض المسائل الشرعيّة الفرعيّة ، إذ انّ بعض كلماتهم قد توهّم تبنّي الظنون العقليّة إلاّ انّ ذلك ناشئ عن الاشتباه في تطبيق كبرى حجيّة الدليل العقلي القطعي على صغرياته ، وليس ذلك بعزيز فقد يقع الاشتباه في تطبيق كبرى حجيّة الظهور مثلا إلاّ انّ ذلك لا يعني تبنّي القول بحجيّة المجمل.

وقد يكون منشأ هذه النسبة من بعض الإخباريين هو ما يراه بعضهم من تعذّر القطع بنتائج المدركات العقليّة وانّ أقصى ما ينتجه الدليل العقلي هو الظن بالحكم الشرعي إلاّ انّ ذلك بحث صغروي قد يتبنّاه بعض الاصوليّين أيضا.

الأمر الثاني : انّ المدركات العقليّة


التي لها الدليليّة على الحكم الشرعي هي الأعم من المدركات العقليّة العمليّة والمدركات العقليّة النظريّة ، فكلّ مدرك عقلي صالح لأن يستنبط منه حكم شرعي فهو مشمول للدليل العقلي الذي يقول الاصوليين بحجيّته.

مثلا : الاستلزامات العقليّة تدرك بواسطة العقل النظري فهي داخلة بلا ريب في المقصود من الدليل العقلي ، وهكذا الكلام في المستقلات العقليّة المدركة بواسطة العقل العملي.

وقد شرحنا المراد من الاستلزامات والمستقلاّت وكذلك العقل العملي والنظري كلّ واحد تحت عنوانه.

الأمر الثالث : انّ المدركات العقليّة التي هي محلّ البحث في علم الاصول هي التي يمكن ان يستفاد منها استكشاف حكم شرعي أو نفي حكم شرعي ، فهي إذن خصوص المدركات الواقعة في رتبة الكتاب والسنة الشريفين والتي لها نفس الدور الثابت لهما ، أي دور الدليليّة والكاشفيّة عن الأحكام الشرعيّة. وبذلك يتّضح خروج نحوين من المدركات العقليّة عن البحث الاصولي.

النحو الاول : وهي المدركات العقليّة التي تثبت بها حجيّة الكتاب والسنّة الشريفين ، فهي إذن ليست في رتبة الكتاب والسنّة بل هي الموجبة لحجيّتهما ، وذلك لأنّ ثبوت الحجيّة لهما لا يمكن أن يتمّ بواسطة نفس الكتاب والسنّة وإلاّ لزم الدور المستحيل ، كما انّ الاعتقاد بصدق الكتاب والسنّة من الاصول الاعتقاديّة والتي لا يكتفى فيها بالظن فلا سبيل لثبوت الحجيّة لهما إلاّ الأدلّة العقليّة القطعيّة ، وهذه الأدلّة ليست محلا للبحث الاصولي كما انّها لم تقع محلا للنزاع.

النحو الثاني : وهي المدركات العقليّة الواقعة في رتبة معلولات الأحكام الشرعيّة ، أي انّها متأخّرة عن الحكم الشرعي ويكون الحكم الشرعي بمثابة العلّة لوجودها ، فلو لا تقرّر الحكم الشرعي في رتبة سابقة لما


كان لذلك الإدراك وجود.

ومثال هذا النحو من المدركات العقليّة هو ما يدركه العقل من حسن الطاعة وقبح المعصية ، فإنّ هذا الإدراك مترتّب على وجود أوامر للمولى ، فالعقل لا يحكم بحسن الطاعة وقبح المعصية لو لم تكن أوامر للمولى جلّ وعلا ، فلو قطع المكلّف بعدم وجود تكليف إلزامي تجاه فعل معيّن فإنّ العقل لا يدرك حينئذ حسن الطاعة وقبح المعصية تجاه هذا الفعل ، ولمزيد من التوضيح راجع « الأمر الإرشادي ».

وبذلك يتّضح انّ المدركات العقليّة الواقعة محلا للبحث الاصولي هي خصوص المدركات الواقعة في رتبة الكتاب والسنّة والتي يمكن ان يستنبط منها حكم شرعي أي انّها واقعة في رتبة علل الاحكام الشرعيّة.

الأمر الرابع : انّ المقصود من الدليل العقلي هو الأعم من الصغرى والكبرى الواقعتين في القياس المنتج لدليليّة الدليل العقلي.

فدليليّة الصغرى باعتبار وقوعها صغرى في قياس نتيجته دليلية الدليل العقلي ، وهكذا الكلام في الكبرى ، فكلّ منهما يساهم في نتيجة القياس والتي هي دليليّة الدليل العقلي أي حجيّة المدرك العقلي المعيّن.

وبتعبير آخر : انّ البحث الاصولي عن الدليل العقلي يقع في مقامين :

الاول : صغروي وهو البحث عن اثبات القضايا العقليّة أو قل المدركات العقليّة مثل حسن العدل وقبح الظلم وانّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه وهكذا ، فهل انّ العقل يدرك هذه القضايا حقا وهل انّ ادراكه لها ـ لو كان ـ قطعي؟

الثاني : كبروي وهو البحث عن حجيّة المدركات العقليّة ، بمعنى انّ القضايا التي ثبت في البحث الصغروي انّها مدركات عقليّة هل لها الدليليّة على الحكم الشرعي وهل هي صالحة للتنجيز والتعذير أولا؟ إذ من الواضح انّ إدراك العقل لقضيّة من القضايا لا ينهى البحث ولا يثبت الدليليّة لما


أدركه العقل إلاّ أن يقوم الدليل على حجيّة هذه المدركات ، وهذا ما يتصدى له البحث الكبروي ، فلو تمّ في البحث الاصولي حجيّة كلّ ما يدركه العقل فحينئذ تثبت دليلية الدليل العقلي ، أي تثبت الحجيّة للقضيّة المدركة بواسطة العقل في البحث الصغروي.

* * *

٣٥٢ ـ الدليل اللبّي

وهو الدليل الذي لا لسان له تعرف بواسطته سعة دائرة مدلوله أو ضيقها ، ولهذا يطلق الدليل اللبّي في مقابل الدليل اللفظي والذي يمكن التعرّف بواسطة ألفاظه على حدود مدلوله من حيث السعة والضيق.

فالدليل اللبّي هو ما يكون من قبيل الإجماعات والسير العقلائيّة والمتشرعيّة ، فهي جميعا تشترك من جهة عدم امكان التعرّف على سعة مدلولها بأكثر ممّا هو القدر المتيقّن من مدلولها ، فحينما يقع الشك في اتّساع السيرة لمورد من الموارد فإنّه لا مجال لاستظهار شمولها له. فدليليّة الدليل اللبّي متمحّض في المقدار المتيقّن من مدلوله.

مثلا : قاعدة الصحّة في عمل الغير من القواعد المستندة حجيّتها الى السيرة العقلائيّة الممضاة ، والقدر المتيقّن من هذه السيرة هي موارد امكان صدور العمل الصحيح من الغير بنحو الإمكان العرفي ، وحينئذ لو وقع الشك في صحّة قراءة الأعجمي فإنّه لا يمكن التمسّك بأصالة الصّحة للبناء على صحّة قراءته ، وذلك لأنّ المقدار المتيقّن من مورد القاعدة هو إمكان صدور العمل الصحيح من الغير ، ومن الواضح انّ صدور القراءة الصحيحة من الأعجمي غير ممكن عرفا ، وعندئذ يقع الشك في شمول القاعدة لهذا المورد ، وباعتبار انّ مستند القاعدة هو السيرة والتي هي دليل لبّي تكون النتيجة هي عدم امكان التمسك بالقاعدة للبناء على صحّة قراءة الأعجمي رغم اننا نحتمل شمول


القاعدة لهذا المورد إلاّ انّه لا سبيل للتعرّف على انّ هذا الاحتمال مطابق للواقع بواسطة القاعدة.

وهذا بخلاف ما لو كان دليل القاعدة لفظي فإنّ من الممكن احراز حدود القاعدة بواسطته ، فإمّا ان ينفي الدليل اللفظي شمول مورد الشك للقاعدة أو يقتضي مشموليته لها كما لو كان ظاهرا في الإطلاق أو العموم.

وبما بينّاه يتّضح انّ الدليل العقلي القطعي ليس من الأدلّة اللبيّة ، وذلك لأن المدركات العقليّة القطعيّة دائما تكون موضوعاتها منقّحة ومحددة ، فلا موقع للشك في حدود موضوعاتها ، فإمّا أن يكون مورد البحث موضوعا للمدرك العقلي جزما أو انّه ليس موضوعا له جزما.

* * *

٣٥٣ ـ الدليل المحرز

المراد من الدليل المحرز هو كلّ طريق له صلاحيّة الكشف عن المجهول ، أو قل له صلاحيّة الكشف عن الحكم الشرعي ليناسب ذلك اهتمام الأصوليّين.

وبذلك يكون الدليل المحرز صادقا على مطلق الأدلّة القطعيّة الأعمّ من الشرعيّة والعقليّة وصادقا على الأدلّة الظنّيّة الأعمّ منهما.

ومنشأ التعبير عنه بالمحرز هو أنّه بواسطته يتمّ إحراز الواقع والتثبّت منه أو قل بواسطته يتمّ التعرّف على الحكم الشرعي وهو تعبير آخر عن الإحراز.

وبما ذكرناه يتبيّن أنّ الدليل المحرز ينقسم باعتبار مرتبة كشفه إلى قسمين :

القسم الأوّل : الدليل القطعي : وهو الذي يكشف عن الواقع كشفا تامّا بحيث لا يتطرّق الشكّ في واقعيّة منكشفة ، ولذلك فهو حجّة بلا إشكال ، ولا نحتاج لإثبات حجّيّته إلى دليل ، وذلك لأنّها ذاتيّة للقطع كما أوضحنا ذلك في محلّه.

القسم الثاني : الدليل الظنّي : ويعبّر عنه بالأمارات وهو لا يكشف عن


الواقع إلاّ كشفا ظنّيّا ، لذلك كانت حجّيّته مفتقرة إلى دليل قطعي ، فما لم تثبت حجّيّته بذلك فهو ساقط عن الدليليّة.

* * *

٣٥٤ ـ دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين

ويقع البحث هنا عمّا هو الأصل الجاري في حالات دوران المركّب الواجب مثلا بين الأقل والأكثر ، فهل الأصل الجاري في المقام هو البراءة عن الأكثر أو انّ الأصل الجاري هو الاشتغال ولزوم الإتيان بالأكثر بالإضافة للأقلّ.

ومنشأ التعبير عن الأقل والأكثر بالارتباطيين هو انّ الأكثر على فرض وجوبه مرتبط بالأقل في الطاعة والمعصية ، فلو كان الأكثر واجبا فإنّ الأقل لا يكون امتثاله إلاّ بامتثال الأكثر ، ويكون عدم امتثال الأكثر معصية لوجوب الأقلّ.

ومثاله ما لو علم المكلّف بوجوب الصلاة إلاّ انّ الشك وقع من جهة انّ الواجب « الصلاة » هل هو تسعة أجزاء أو عشرة ، فالوجوب الثابت للصلاة وجوب واحد ليس له سوى طاعة ومعصية واحدة ولا ينحل الى وجوبات استقلاليّة.

ثمّ انّ لدوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين قسمين :

القسم الأوّل : دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الإجزاء ، كما لو دار عدد أجزاء الواجب المعلوم بين تسعة أجزاء أو عشرة ، ويعبّر عن هذا القسم بدوران الأمر بين الأقل والأكثر في الأجزاء الخارجيّة ، وقد شرحنا المراد من الجزء الخارجي في محلّه.

القسم الثاني : دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الشرائط ، كما لو وقع الشك في شرطيّة شيء في الواجب ، فإنّ الشك حينئذ يكون بين الأقل والأكثر ، فالأقل هو أصل الواجب والأكثر هو تقيّده بالشرط.

ومثاله : ما لو وقع الشك في شرطيّة الاطمئنان في الصلاة ، وكذلك فيما لو


وقع الشك في شرطيّة الإيمان في الرقبة الواجبة العتق ، ويعبّر عن هذا القسم بدوران الأمر بين الأقل والأكثر في الأجزاء الذهنيّة التحليليّة ، وقد شرحنا المراد من الجزء التحليلي الذهني تحت عنوانه.

ثمّ انّ لهذا القسم ثلاثة أقسام باعتبار نوع الشرط المحتمل دخله في الواجب :

الأوّل : أن يكون الشرط من سنخ الشروط التي لو كانت معتبرة في الواجب لكان وجودها مستقلا عن وجود الواجب ، بمعنى انّها لا تكون مقوما للواجب ولا عرضا من أعراضه ، إذ لو كانت كذلك لكانت متّحدة وجودا مع الواجب وقد فرضنا استقلاليّتها في الوجود عنه ، نعم اعتبارها في الواجب يكون موجبا لتقيّد الواجب بها.

ومثال ذلك شرطيّة الطهارة أو الاطمئنان في الصلاة ، فإنّ وجود الطهارة مستقلّ عن وجود ذات الصلاة وغاية ما يقتضيه اشتراط الصلاة بالطهارة هو تقيّد الصلاة بالطهارة ، وهذا لا يقتضي اتّحادهما في الوجود ، إذ انّ التقيّد من شئون الشرطيّة لا من شئون نفس الشرط والتقسيم انّما هو باعتبار طبع الشرط ، وطبع هذا النحو من الشرط هو الاستقلاليّة في الوجود عن وجود ذات الواجب. ولا يختلف الحال في ذلك بين أن يكون هذا الشرط من قبيل الشروط المتأخّرة أو المتقدّمة أو ان يكون من قبيل الشروط المقارنة.

الثاني : أن يكون الشرط من سنخ الشروط التي لو كانت معتبرة في الواجب لكانت متّحدة وجودا مع الواجب ولكن بنحو اتّحاد العرض ومعروضه والوصف وموصوفه بحسب النظر العرفي.

ومثاله : اعتبار الإيمان في الرقبة التي يجب عتقها ، فإنّ ذلك لو كانت معتبرا لما كان له وجود مستقلّ عن وجود الرقبة.

الثالث : أن يكون الشرط من سنخ الشروط التي لو كانت معتبرة في


الواجب لكانت مقوّما له ، بأن تكون نسبتها الى الواجب نسبة الفصل للجنس ، كما لو كان المعتبر في وجوب اطعام الحيوان أن يكون ناطقا ، فإنّ الناطقيّة على فرض اعتبارها تكون مقوما للمشروط ومتحدة معه في الوجود.

وتصوير دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في هذه الأقسام الثلاثة بهذه الكيفيّة.

أمّا القسم الأوّل فكما لو احتملنا اعتبار الاطمئنان في الصلاة ، فيدور الأمر بين أن يكون الواجب هو أصل الصلاة أو هي بشرط التقيّد بالاطمئنان. فالأقل هو الصلاة والأكثر هو التقيّد بالاطمئنان.

وأمّا القسم الثاني فكما لو احتملنا اعتبار الإيمان في الرقبة الواجبة العتق ، فيدور الأمر بين أن يكون الواجب هو إعتاق طبيعي الرقبة أو هي بشرط التقيّد بالإيمان.

وأمّا القسم الثالث فكما لو احتملنا اعتبار الناطقيّة في وجوب اطعام الحيوان ، فيدور الأمر بين أن يكون الواجب هو اطعام مطلق الحيوان أو هو بشرط التقيّد بالناطقيّة.

وباتّضاح المراد من دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطين نقول : انّ منشأ الاختلاف فيما هو الأصل الجاري في مورده هو الاختلاف في تشخيص هذه الحالة ، وهل هي من حالات الشك في التكليف فيكون الأكثر مجرى لأصالة البراءة أو هو من حالات الشك في المكلّف به فيكون مجرى لأصالة الاشتغال ، وبيان ذلك لا يتّصل بغرضنا.

* * *

٣٥٥ ـ دوران الأمر بين الأقل والأكثر الاستقلاليّين

ويقع البحث تحت هذا العنوان عما هو الأصل الجاري في حالات دوران ما علم وجوبه مثلا بين الأقل والأكثر ، فلو علم المكلّف بأنّ ذمّته مشغولة بصلوات ثنائية إلاّ انّه شك في مقدار هذه الصلوات ، وهل انّ الواجب


عليه ثلاث صلوات ثنائية أو أربع ، فالثلاث هي الأقل والرابعة هي الأكثر.

ومنشأ التعبير عن الأقل والأكثر بالاستقلاليّين هو انّ هذه الوجوبات لا يتّصل بعضها ببعض ، فلكلّ واحد من هذه الوجوبات ـ على فرض وجوبه واقعا ـ طاعة ومعصية مستقلّة عن الطاعة والمعصية الثابتة للوجوب الآخر على فرض وجوبه.

ومن هنا لم يختلف أحد من الفقهاء في انّ الأصل الجاري في المقام هو البراءة عن الأكثر ، وذلك لأنّ الفرض المذكور يؤول روحا الى علم بوجوب الأقلّ وشك بدوي بوجوب الأكثر وهو مجرى لأصالة البراءة كما هو واضح.

مثلا : لو علم المكلّف باشتغال ذمّته لزيد بعشرة دراهم أو تسعة فإنّ واقع هذا الفرض هو انّ ثمّة تسعة وجوبات معلومة ـ متعلّق كلّ واحد منها بدرهم ـ وشك بدوي بوجوب عاشر متعلّق بدرهم ، فتجري البراءة عن الوجوب العاشر لانّه شك في التكليف الزائد.

* * *

٣٥٦ ـ دوران الأمر بين التخصيص والنسخ

والبحث فيه عمّا لو وقع الشك في الدليل المتأخّر من حيث انّه ناسخ للدليل المتقدّم أو مخصّص له ، أو انّ الدليل المتقدم مخصص للدليل المتأخر أو انّ الدليل المتأخّر ناسخ للدليل المتقدّم. فهنا حالتان :

الاولى : أن يكون الدليل المتقدّم عام والدليل المتأخّر أخصّ منه ، فالشك حينئذ يدور بين مخصصيّة الدليل المتأخّر للمتقدّم وبين ناسخيّة الدليل المتأخّر للمتقدم.

الثانية : أن يكون الدليل المتقدّم أخصّ من الدليل المتأخّر ، بمعنى انّ الدليل المتأخّر عام ، والشك حينئذ يدور بين تخصيص المتقدّم للمتأخّر باعتبار أخصيّته من الدليل المتأخّر وبين ناسخية الدليل المتأخّر ـ والذي هو العام ـ للدليل المتقدّم.

ويتمحّض البحث بحالات تأخّر أحد الدليلين عن الآخر زمانا وإلاّ فمع


اتحادهما زمانا لا يتعقّل النسخ ، إذ انّ الدليل الخاص إذا كان متصلا بالعام فإنّه لا ينعقد للدليل ظهور في العموم من أوّل الأمر فلا يأتي البحث عن انّ الخاص هل هو رافع لحكم العام أو مخصّص له ، على انّه من غير المعقول انّ الحكم في حال جعله يرفع وينسخ.

وبهذا تكون صور البحث أربعا إذا لاحظنا حضور وقت العمل بالدليل المتقدّم أو عدم حضوره. ولمزيد من التوضيح راجع « قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ».

* * *

٣٥٧ ـ دوران الأمر بين التعيين والتخيير

والمراد من هذا العنوان اجمالا قبل بيان أقسامه هو انّ المكلّف قد يقع منه الجزم بوجوب شيء إلاّ انّه يشك في نحو هذا الوجوب ، وهل هو وجوب تعييني بحيث لا يقوم غيره مقامه ولا يوجب الإتيان بغيره سقوطه عن العهدة ، أو انّ وجوبه تخييري ، بمعنى انّه وان كان محرز الوجوب إلاّ انّ طرفه المقابل يقوم مقامه.

ولو حللنا هذه الحالة لوجدنا انّ الطرف الأول محرز الوجوب على أيّ تقدير ، أي سواء كان نحو الوجوب هو التعيين أو التخيير ، وأمّا الطرف الآخر فلا يعدو عن كونه محتمل الوجوب فيمكن أن لا يكون واجبا واقعا.

ومع اتّضاح هذه المقدّمة التي أردنا بها جعل القارئ الكريم في الصورة فحسب نقول : انّ المحقّق النائيني رحمه‌الله قسم حالات دوران الأمر بين التعيين والتخيير الى ثلاثة أقسام :

القسم الأوّل : دوران الأمر بين التعيين والتخيير فيما هو المجعول له الحجيّة ، والمراد من هذا القسم هو انّه لو وقع الشك في انّ الشارع هل جعل الحجيّة لهذا الشيء بنحو التعيين بحيث لم يجعلها لطرفه المقابل أو انّه جعلها لهذا الشيء بنحو التخيير بينه وبين طرفه المقابل بحيث يمكنه الاعتماد والاستناد الى أيّ واحد منهما.

وبهذا يكون الطرف الاوّل ممّا يحرز


جعل الحجيّة له على أيّ تقدير ، أي سواء كان جعل الحجيّة له بنحو التعيين أو كان جعلها له بنحو التخيير ، وأمّا الطرف الثاني فلا احراز لجعل الشارع الحجيّة له ، لأنّه على تقدير جعل الحجيّة للطرف الاول بنحو التعيين لا تكون الحجيّة مجعولة للطرف الثاني.

ومثال ذلك ما لو أحرزنا انّ الشارع جعل الحجيّة لفتوى المجتهد الرجل إلاّ انّه وقع الشك من جهة انّ هذه الحجيّة المجعولة هل جعلت لفتوى المجتهد الرجل بنحو التعيين أو انّها بنحو التخيير بينها وبين فتوى المجتهد المرأة.

وبتعبير آخر : هل انّ المتعيّن على المكلّف هو العمل بفتوى المجتهد الرجل أو انّه مخير بين العمل بفتوى الرجل والمرأة. وفي هذا القسم لا ريب في لزوم الاحتياط ، وذلك لأنّ دوران الأمر بين التعيين والتخيير في الحجيّة معناه الشك في جعل الحجيّة للطرف المقابل ، والشك في الحجيّة مساوق للقطع بعدم الحجيّة فيتعيّن الطرف الاول ، للعلم بجعل الحجيّة له على أيّ تقدير.

القسم الثاني : دوران الأمر بين التعيين والتخيير في مرحلة الجعل للحكم الواقعي ، كما لو وقع الشك فيما هو المجعول لصلاة الجمعة وهل هو الوجوب التعييني أو هو الوجوب التخييري وان متعلّق الوجوب التخييري الآخر هو صلاة الظهر. وعلى الثاني يكون متعلّق الوجوب هو الجامع بين الطرفين ، وأمّا على الاول فمتعلّق الوجوب هو خصوص صلاة الجمعة ، ومن هنا يكون أصل الجعل للوجوب محرز إلاّ انّ الشك في كيفيّة الجعل للوجوب.

وفي هذا القسم ذهب جمع من الأعلام الى انّ مورده مجرى لأصالة الاشتغال المنتج لتعيّن الوجوب في صلاة الجمعة. وقرّب ذلك بمجموعة من التقريبات :

منها ما ذكره المحقّق النائيني رحمه‌الله من انّ مآل هذا القسم الى الشك في


حصول الامتثال ، وذلك لأنّ المكلّف لو جاء بصلاة الظهر فإنّه لا يحصل له الجزم بفراغ ذمّته من التكليف المقطوع تعلّقه بالعهدة ، وهذا بخلاف ما لو جاء بصلاة الجمعة فإنّه يحصل الجزم بفراغ الذمّة عن التكليف ، وذلك لأنّ صلاة الجمعة واجبة على أيّ تقدير أي سواء كان متعلّق التكليف هو الجمعة أو الجامع بينها وبين الظهر.

وذهب السيّد الخوئي رحمه‌الله الى جريان البراءة عن التعيين في هذا القسم ، وذلك بدعوى انّ مآل هذا القسم الى الشك في اطلاق التكليف وتقييده ، فبناء على انّ التكليف متعلّق بالجامع ، فهذا معناه اطلاق التكليف وانّه غير مقيّد بحصّة خاصّة هي صلاة الجمعة ، وبناء على انّ متعلّق التكليف هو خصوص صلاة الجمعة والذي هو عبارة ثانية عن التعيين فهذا يقتضي تقييد التكليف ، ولمّا كان التقييد محتاجا لمئونة زائدة فإنّ أصالة البراءة تنفي هذه المئونة الزائدة.

وبتعبير آخر : انّ الشك في تقييد التكليف معناه الشك في التكليف الزائد وهو منفي بأصالة البراءة ، والنتيجة حينئذ هي التخيير فيما لو دار الأمر بين جعل التكليف بنحو التعيين أو بنحو التخيير ، إذ انّ التعيين يقتضي افتراض جعل زائد على مقدار ما هو معلوم وهو منفي بأصالة البراءة.

القسم الثالث : دوران الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الفعليّة والامتثال ، أي مع احراز أصل الجعل للتكليفين إلاّ انّه وبسبب التزاحم في مقام الامتثال يقع الشك فيما هو الاهم من التكليفين مع احتمال أهميّة أحدهما ، وهذا هو السبب في دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، إذ انّ محتمل الأهميّة محرز الفعليّة على أيّ تقدير فاحتمال التعيين من جهته وامّا الطرف الآخر فهو غير محرز الفعليّة لاحتمال انّ المتعيّن واقعا هو التعيين.

ومثال هذا القسم ما لو دار الأمر بين الإنفاق على الزوجة والإنفاق على الولد ، فإنّ أصل وجوب الإنفاق عليهما محرز إلاّ انّه وبسبب ضيق قدرة


المكلّف عن امتثال كلا التكليفين يقع التزاحم بينهما ، فلو كنا نحرز أهميّة أحد التكليفين فلا كلام في تعيّنه ، كما انّه لو كنا نحرز تساويهما فإنّه لا إشكال في التخيير بينهما انّما الإشكال لو لم نحرز تساويهما إلاّ انّنا نحتمل أهميّة وجوب الانفاق على الزوجة ، وحينئذ يدور الأمر بين التعيين وهو وجوب الإنفاق على الزوجة بالخصوص أو التخيير بينه وبين وجوب الإنفاق على الولد.

والظاهر انّه لا خلاف في هذا القسم من حيث انّه مجرى لاصالة الاشتغال وقاعدة انّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، وذلك لأنّ امتثال محتمل الأهميّة يوجب القطع بفراغ الذمّة لأنّه على كلا التقديرين يكون امتثاله موجبا للخروج عن عهدة التكليف ، أمّا على تقدير أهميّته وبالتالي تعيّنه فواضح ، وأمّا على تقدير تساويه مع الطرف الآخر فلأنّ امتثاله يكون امتثالا للتكليف الواجب لافتراض انّ كلا التكليفين واجب بنحو التخيير.

وهذا بخلاف الإتيان بالطرف الآخر فإنّه لا يحرز معه الخروج عن العهدة ، وذلك لاحتمال أن يكون الطرف الاوّل هو المتعيّن ، وعندها لا يكون ثمّة مؤمّن عن العقاب ، وذلك لاستقلال العقل بلزوم الخروج عن عهدة التكليف المقطوع ، وهذا هو معنى قولهم « الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ».

* * *

٣٥٨ ـ دوران الأمر بين الشرطيّة والجزئيّة وبين المانعيّة

وتصوير هذه الفرضيّة هو انّه قد يتّفق العلم باعتبار شيء في مركب واجب إلاّ انّ متعلّق المعلوم اعتباره مردّد بين كونه شرطا أو جزء في الواجب وبين كونه مانعا عن صحّته ، أي يدور الأمر بين اعتبار تقيّد الواجب به أو تقيّد الواجب بعدمه.

ومثاله ما لو وقع الشك في انّ التحنّك شرط في صحّة الصلاة أو انّه


مانع عن صحّتها مع احراز انّ التحنّك بنحو ما معتبر في الصلاة ، فهنا علم إجمالي باعتبار التحنّك في الصلاة إلاّ انّ التردّد من جهة انّ المعتبر هل هو وجوده أو عدمه.

وكذلك لو وقع الشك في اعتبار وجود جلسة الاستراحة في الصلاة أو اعتبار عدمها فإنّ ذلك معناه وجود علم اجمالي بتقيّد الواجب إمّا بوجود الجلسة أو تقيّده بعدهما.

ومن هنا ذهب الشيخ الأنصاري رحمه‌الله الى انّ هذه الفرضيّة من موارد دوران الأمر بين المحذورين ، وعليه يكون الأصل الجاري هو التخيير إلاّ انّ السيد الخوئي رحمه‌الله أورد عليه بما حاصله :

انّ المقام ممّا يمكن معه الموافقة القطعيّة ولو بواسطة التكرار ، فيأتي تارة بالصلاة مع جلسة الاستراحة وتارة اخرى مع عدمها ، وبهذا تحصل الموافقة القطعيّة للمعلوم بالإجمال ، نعم لو لم تكن الموافقة القطعيّة ممكنة بسبب ضيق الوقت مثلا أو عجز المكلّف عن تكرار الصلاة فإنّ منجزيّة العلم الإجمالي من جهة الموافقة القطعيّة تسقط ، إلاّ انّ العلم الإجمالي يحتفظ بمنجزيّته من جهة حرمة المخالفة القطعيّة ، وبهذا تكون وظيفة المكلّف هي الموافقة الاحتماليّة والتي تقتضي الإتيان بالصلاة إمّا مع جلسة الاستراحة مثلا أو بدونها.

* * *

٣٥٩ ـ دوران الأمر بين المتباينين

وهذه الفرضيّة هي المعبّر عنها بالعلم الإجمالي ، ومنشأ التعبير عنه بدوران الأمر بين المتباينين هو انّ متعلّق العلم الإجمالي لا يخلو إمّا أن يكون الطرف الأوّل أو الطرف الثاني وهما أمران متباينان أي متغايران. وسوف نشرح المراد من العلم الإجمالي تحت عنوانه.

* * *

٣٦٠ ـ دوران الأمر بين محذورين

ويقع البحث فيه عن دوران الفعل


بين الوجوب والحرمة ، وذلك معناه انّ ثمّة علما اجماليا بجامع التكليف الإلزامي والشك انّما هو في ماهيّة ذلك التكليف الإلزامي وهل هو الوجوب أو الحرمة.

ومثاله : ما لو علم المكلّف بأنّ تكليفا إلزاميا متوجها اليه تجاه هذا الميت ، هذا التكليف هو إمّا وجوب تجهيزه أو حرمة تجهيزه ، فهنا ان قام بتجهيزه فإنّه يحتمل ارتكابه للحرمة لاحتمال انّ التكليف واقعا هو الحرمة ، وان ترك تجهيزه فإنّه يحتمل تركه للواجب لاحتمال انّ التكليف واقعا هو الوجوب ، فالمكلّف بين محذورين.

وبهذا يتّضح خروج دوران الأمر بين الوجوب والحرمة والكراهة مثلا أو الاستحباب عن محل البحث ، وذلك لأنّ هذا الفرض لا يرجع الى علم اجمالي بجامع التكليف الإلزامي ، إذ من المحتمل ان يكون الواقع هو الكراهة ، ولا ريب حينئذ في جريان البراءة عن الوجوب والحرمة. وبتعبير آخر انّ مآل هذا الفرض الى دوران الأمر بين التكليف الإلزامي والتكليف غير الإلزامي ، فلا يكون من العلم الإجمالي المنجّز.

وباتّضاح ذلك نقول انّهم ذكروا لدوران الأمر بين المحذورين ثلاثة أقسام :

القسم الاول : دوران الأمر بين المحذورين في التوصليات على أن يكون مورد الشك فعلا واحدا.

وهنا يستحيل على المكلّف الموافقة القطعيّة كما تستحيل المخالفة القطعيّة ، أمّا استحالة الموافقة القطعيّة فلأنّ المكلّف إمّا أن يمتثل الوجوب أو يمتثل الحرمة فلا يتمكّن من امتثالها معا لافتراض انّ مورد الشك فعل واحد وبامتثال أحدهما دون الآخر لا يحصل الجزم بموافقة الواقع ، وأمّا استحالة المخالفة القطعيّة فلأنّ المكلّف أما انّه سيقوم بالفعل أو سيتركه وعلى كلا التقديرين يحتمل مطابقة ما قام به للواقع ، وذلك لافتراض توصّلية التكليف ، فلو صدر منه الفعل فإنّ من المحتمل امتثاله للتكليف الواقعي حتى


مع عدم قصد الامتثال والقربة ، وهكذا لو ترك الفعل.

ومثال هذا القسم ما لو دار الأمر بين وجوب دفن هذا الميت أو حرمة دفنه ، فإنّ الدفن لو كان واجبا لكان توصليا غير منوط بقصد القربة ، فما هو الأصل الجاري في هذا الفرض؟

ذكر السيّد الخوئي رحمه‌الله انّ في الفرض المذكور خمسة أقوال :

الأوّل : لزوم تقديم جانب الحرمة ، وذلك لأنّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة.

الثاني : انّ الأصل الجاري في المقام هو التخيير الشرعي.

الثالث : انّ الأصل الجاري هو الإباحة الشرعيّة والتخيير العقلي ، وهو مختار صاحب الكفاية رحمه‌الله.

الرابع : انّ الأصل الجاري هو التخيير العقلي دون أن يكون لهذا الفرض أصل شرعي ، وهو مختار المحقّق النائيني رحمه‌الله.

الخامس : انّ الأصل الجاري هو البراءة الشرعيّة والعقليّة ، بمعنى جريان أصالة البراءة عن الوجوب والحرمة معا ، وهو مختار السيّد الخوئي رحمه‌الله.

القسم الثاني : دوران الأمر بين المحذورين في التعبديات على أن يكون مورد الشك فعلا واحدا ، كما لو دار الأمر بين وجوب الصلاة على المرأة أو حرمتها لاحتمال تحيّضها وطهرها ولم يكن من الممكن اجراء استصحاب أحدهما مع افتراض حرمة الصلاة من الحائض حتى مع عدم قصد القربة.

وهنا ذكر السيّد الخوئي رحمه‌الله امكان المخالفة القطعيّة واستحالة الموافقة القطعيّة ، أمّا امكان المخالفة القطعيّة فلأنّه يمكن للحائض ان تصلي بغير قصد القربة ، وحينئذ تكون قد خالفت التكليف المعلوم بالإجمال قطعا ، وذلك لأنّه لو كان الواقع هو وجوب الصلاة لكانت هذا المرأة قد خالفت الواقع لأنّ ما صدر عنها من صلاة لم يكن بقصد القربة ولو كان الواقع هو حرمة الصلاة لكانت قد خالفت الواقع لقيامها بصورة الصلاة ، وقد


افترضنا انّ الحرمة ثابتة لأصل القيام بالصلاة ولو من غير قصد القربة.

وأمّا استحالة الموافقة القطعيّة فواضح لأنّه من غير الممكن ان تقطع المرأة بأداء التكليف سواء أدّت الصلاة بقصد القربة أو تركتها أو صلتها بغير قصد القربة ، ففي تمام هذه الحالات يبقى احتمال منافاة فعلها للواقع.

وفي هذا الفرض ذهب السيّد الخوئي رحمه‌الله الى تنجّز العلم الإجمالي إلاّ انّه لما كانت الموافقة القطعيّة مستحيلة فيتعيّن على المكلّف حرمة المخالفة القطعيّة لا مكانها كما ذكرنا ، وذلك لأنّ منجزيّة العلم الإجمالي تعني وجوب الموافقة القطعيّة وحرمة المخالفة القطعيّة ، وتعذّر احداهما لا يبرّر سقوط الاخرى.

القسم الثالث : دوران الأمر بين المحذورين مع افتراض انّ متعلّق الوجوب غير متعلّق الحرمة ، وهذا القسم لا يختلف الحال فيه بين التعبديات والتوصليات ، وله صورتان :

الصورة الاولى : هي افتراض انّ زمان التكليفين واحد ، ومثاله ما لو حلف المكلّف بأن يطأ احدى زوجتيه المعيّنة يوم الجمعة وان يترك وطأ الأخرى المعينة يوم الجمعة أيضا إلاّ انّه شك بعد ذلك في أيّهما التي حلف ان يطأها الصغيرة أو الكبيرة ، وحينئذ يدور الأمر كذلك بين وجوب وطأ الكبيرة وحرمة وطئها ، وعندئذ قد يقال بالتخيير بين وطأ الصغيرة وعدم وطئها ، وكذلك التخيير بين وطأ الكبيرة وعدم وطئها ، وهذا القول ـ كما أفاد السيّد الخوئي رحمه‌الله ـ غير تام ، وذلك لاستلزامه الترخيص في المخالفة القطعيّة رغم امكان عدم المخالفة القطعيّة.

أمّا استلزامه للترخيص في المخالفة القطعيّة فلأنّه يمكن للمكلّف ـ بناء على التخيير ـ ان يترك وطأ كل من الصغيرة والكبيرة أو ان يطأهما معا ، وحينئذ يكون قد خالف الواقع جزما كما هو واضح.

وامّا امكان عدم المخالفة القطعيّة


فلأنّ هذا الفرض ينحل روحا الى علمين اجماليين ، الاول هو العلم بوجوب وطأ احدى الزوجتين ، والثاني هو العلم الإجمالي بحرمة وطأ احدى الزوجتين ، ومقتضى الاول هو وجوب وطأ الزوجتين ، كما انّ مقتضى الثاني هو حرمة وطأ الزوجتين ، ولمّا كان الجمع بين وطئهما معا وترك وطئهما معا مستحيل فحينئذ تكون الموافقة القطعيّة غير واجبة إلاّ انّ المخالفة القطعيّة لمّا كانت ممكنة بواسطة ترك كلا الوطأين أو فعلهما معا حينئذ يتنجّز العلم الإجمالي بمقدار عدم المخالفة القطعيّة فيلزم المكلّف عدم المخالفة القطعيّة ، وذلك عن طريق وطأ احداهما وترك الاخرى.

الصورة الثانية : هي افتراض الطوليّة بين التكليفين ، ومثاله ما لو حلف بأن يطأ زوجته في وقت وحلف بأن يترك وطأها في وقت آخر إلاّ انّه اختلط عليه الأمر من جهة أيّ الزمانين هو متعلّق الحلف بالوطء وأيّهما متعلّق الحلف بترك الوطء.

والاصل الجاري في هذا الفرض يبتني ـ كما أفاد السيّد الخوئي رحمه‌الله ـ على ما هو المبنى في العلم الإجمالي بالتدريجيات ، فبناء على منجزيّة العلم الإجمالي في التدريجيات تكون النتيجة متّحدة مع نتيجة الصورة الاولى بنفس التقريب ، بأن يقال انّ هذا الفرض ينحلّ الى علمين اجماليين ، الاول هو العلم بوجوب الوطء إمّا في الزمان الاول أو الثاني وهذا يقتضي وجوب الوطء في الزمانين ، والثاني هو العلم الإجمالي بحرمة الوطء إمّا في الزمان الاول أو الثاني وهو يقتضي الحرمة في الزمانين ، ولمّا كانت الموافقة القطعيّة مستحيلة كما هو واضح ، إذ لا يمكن الجمع بين الوطء وتركه في الزمانين معا تسقط المنجّزية عن العلم الإجمالي من جهة الموافقة القطعيّة ، ولمّا كانت المخالفة القطعيّة ممكنة بترك الوطء في الزمانين أو فعله في الزمانين من أجل ذلك يكون العلم الإجمالي منجزا من جهة المخالفة القطعيّة ، بمعنى انّ المكلّف ملزم بعدم المخالفة القطعيّة ، فإمّا أن


يترك الوطء في الزمان الاول ويفعله في الثاني أو العكس ، وعندها تنتفي المخالفة القطعيّة وتحصل الموافقة الاحتماليّة.

وأمّا بناء على عدم منجزيّة العلم الإجمالي في التدريجيّات فالنتيجة تكون هي ملاحظة كلّ زمن على حدة ، وعندئذ يدور أمر الوطء في الزمان الاول بين الوجوب والحرمة وكذلك في الزمن الثاني ، ويكون الأصل الجاري في الزمن الاول هو التخيير وكذلك الثاني.


هوامش حرف الدال

(١) سورة يوسف : ٨٢.

(٢) سورة الطلاق : ١.


حرف الذّال


عناوين حرف الذال

٣٦١ ـ الذاتي في باب البرهان

٣٦٢ ـ الذاتي في باب الكليّات

٣٦٣ ـ الذاتي لا يعلّل


حرف الذال

٣٦١ ـ الذاتي في باب البرهان

ويراد منه عادة المحمول الخارج عن ذات الموضوع اللازم له ، ويكون هذا اللزوم ناشئا عن مقام الذات للموضوع ، وليس ثمّة أمر خارج عن الذات هو الذي اقتضى ثبوت المحمول للموضوع.

ومثال ذلك الزوجيّة بالنسبة للأربعة فإنّها من الذاتي في باب البرهان ، وذلك لأنّها تحمل على الأربعة رغم انّها خارجة عن ذات الأربعة ، إذ ليست الزوجيّة جنسا للأربعة ولا هي فصل لها إلاّ انّها لازمة لذات الأربعة وهذا اللزوم تقتضيه ذات الأربعة نفسها.

وقد يطلق الذاتي في باب البرهان على مطلق العرض الذاتي ، وهذا ما أوضحناه مفصلا تحت عنوانه.

* * *

٣٦٢ ـ الذاتي في باب الكليّات

والمقصود منه الجزء المقوم للماهيّة ، كالناطقيّة المقوّمة للإنسان باعتبارها فصلة ، والحيوانية المقوّمة للإنسان باعتبارها جنسه.

وقد يطلق الذاتي على مطلق المقوم للذات بقطع النظر عن كونه تمام المقوم أو جزء المقوم ، وبهذا يكون كلّ محمول يمثّل جزء المقوّم أو تمام المقوّم فإنّ هذا المحمول يعبّر عنه بالذاتي في باب الكليّات.

وبتعبير آخر : الذاتي في باب الكليّات هو ما يكون وجود الموضوع


بوجوده وانعدامه يعني انعدام الموضوع.

* * *

٣٦٣ ـ الذاتي لا يعلّل

المراد من الذاتي في هذه القاعدة هو الذاتي في باب البرهان إلاّ انّه لا يختصّ بالمحمول الخارج عن الذات اللازم لها بل يشمل مطلق ما لا يمكن تخلّفه عن الذات ، أي سواء كان جزء الذات المقوّم لها وهو الذاتي في باب الكليّات ، أو كان المحمول خارج عن الذات لازم لها بنحو يكون هذا اللزوم ناشئا عن مقام الذات ، فإنّ الذاتي في باب البرهان قد يطلق على الأعمّ.

وأمّا المقصود من قولهم « لا يعلّل » فمعناه انّ وجوده لا يفتقر الى علّة ، وذلك لأنّ منشأ الافتقار الى العلّة هو الإمكان ، ومن هنا لا يكون الواجب محتاجا الى علّة في وجوده ، ولا يكون ممتنع الوجود محتاجا الى علة في امتناعه ، وذلك لأنّ الوجوب والامتناع معناه الضرورة وهي مستغنية عن العلة ، فثبوت الوجود للواجب لا يعلّل كما انّ العدم لممتنع الوجود لا يعلل.

وهكذا الكلام في ثبوت الناطقيّة للإنسان فإنّه لا يعلّل ، وذلك لاستغناء ثبوت الناطقيّة للإنسان عن الجعل ، فثبوتها للإنسان واجب ، وهو مناط الاستغناء عن العلّة ، فلا يقال لم كان الانسان ناطقا.

وليس المقصود من استغناء الناطقيّة عن العلّة هو انّ وجودها لا يفتقر الى علّة بل المقصود انّ علّة وجودها هو عينه علّة وجود الإنسان فلا يفتقر وجودها الى علّة مستقلّة عن علّة ايجاد الإنسان ، ولهذا قالوا بأن جعل الناطقيّة للإنسان من الجعل البسيط والذي هو جعل الشيء وافاضته لا جعل شيء لشيء ، فجعل الإنسان يساوق جعل الناطقيّة ، وهذا هو معنى انّ ثبوت الناطقيّة للإنسان لا يعلل ، أي انّه لا يفتقر في وجوده الى علّة غير علة ايجاد نفس الإنسان.

وهكذا الكلام في الزوجيّة بالنسبة


للأربعة فهي وان كانت خارجة عن ذات الأربعة إلاّ انّ ايجاد الأربعة إيجاد للزوجيّة ، فثبوت الزوجيّة للأربعة لا يعلّل ، فلا يقال لم ثبتت الزوجيّة للأربعة ، وذلك لأنّ ثبوت الزوجيّة لا يفتقر الى جعل مستقلّ عن جعل الأربعة.

وبتعبير آخر : انّ الزوجيّة ذاتي للأربعة والذاتي لا يعلّل أي انّ وجودها واجب بالنسبة للأربعة وهو مناط الاستغناء عن العلّة.

هذا حاصل ما أفاده السيّد الإمام رحمه‌الله في بيان المراد من القاعدة ، وذكر انّ الشيخ صاحب الكفاية رحمه‌الله استعمل هذه القاعدة في عدّة موارد في غير محلّها.

والظاهر انّ مقصوده هو عدم انطباق كبرى القاعدة على الموارد التي حاول صاحب الكفاية رحمه‌الله تطبيق القاعدة عليها وإلاّ فبحسب متابعتنا لتلك الموارد وجدنا انّ مقصود صاحب الكفاية رحمه‌الله من القاعدة هو عين ما ذكرناه هنا ، غايته انّ هذه الموارد ليست من صغريات هذه القاعدة.



حرف الرّاء


عناوين حرف الراء

٣٦٤ ـ الرافع والمانع

٣٦٥ ـ الرخصة والعزيمة

٣٦٦ ـ الرفع والدفع


حرف الراء

٣٦٤ ـ الرافع والمانع

ذكر المحقّق النائيني رحمه‌الله انّ الرافع يطلق على معنيين :

المعنى الأوّل : انّ الرافع هو ما يوجب انتفاء فاعليّة المقتضي في بقاء مقتضاه أو قل هو ما يحول دون تأثير المقتضي في بقاء أثره بعد ان أثّر في ايجاده واحداثه ، فبعد ، وجود المعلول واقتضاء علّته لبقائه واستمراره يكون دور الرافع هو الحيلولة دون تأثير المقتضي في استمرار البقاء لوجود المعلول. والمقصود من الرافع هنا هو الأعم من الرافع الوجودي والعدمي.

ومثال الرافع الوجودي هو الوضوء بالنسبة للحدث ، فإنّ الحدث عند ما يقع يكون مقتضيا للبقاء إلاّ انّ الوضوء يحول دون تأثيره في البقاء والاستمرار.

ومثال الرافع العدمي هو زوال التغيّر عن الماء ، إذ انّه يحول دون استمرار اتّصاف الماء بالنجاسة بعد أن كانت ملاقاته للنجاسة مقتضية لبقاء اتّصافه بالنجاسة.

وهذا المعنى للرافع هو مراد الشيخ الأنصاري رحمه‌الله من التفصيل في جريان الاستصحاب بين الشك في المقتضي والشك في الرافع ، فإنّ الشيخ الانصاري رحمه‌الله يبني على عدم جريان الاستصحاب إلاّ إذا كان الشك من قبيل الشك في الرافع.

المعنى الثاني : هو عبارة عن الأمر الوجودي الذي اخذ عدمه شرطا في بقاء تأثير المقتضي لبقاء


واستمرار أثره ، وهذا المعنى لا يختلف عن المعنى الأول إلاّ من جهة انّ الرافع هنا لا يكون إلاّ أمرا وجوديا ، فالنسبة بين المعنى الاول والثاني هو العموم المطلق ، فالمعنى الأول أعم مطلقا من المعنى الثاني ، إذ انّه لا يختصّ بالرافع الوجودي.

وأمّا المراد من المانع فهو ما يكون وجوده مانعا عن تأثير المقتضي للإيجاد والإحداث ، فالفرق بين المانع والرافع بمعنييه هو انّ الرافع يحول دون استمرار الوجود للمعلول ، وأمّا المانع فهو يحول دون ايجاد المعلول واحداثه ، فعدمه جزء علة في حدوث المعلول.

* * *

٣٦٥ ـ الرخصة والعزيمة

وقع البحث عن انّ الرخصة والعزيمة هل هما من الأحكام الوضعية أو من الأحكام التكليفيّة أو هما من خصوصيّات الحكم التكليفي؟

فهنا معان ثلاثة محتملة لواقع الرخصة والعزيمة :

المعنى الأوّل : انّ المراد من العزيمة هو الفريضة والحكم التكليفي الإلزامي المجعول على موضوعه ابتداء ، أي بنحو الحكم الاولي ، ومثاله ايجاب الصلاة وحرمة الربا.

وأمّا المراد من الرخصة فهي الاباحة المجعولة بملاك التخفيف والتسهيل على العباد ، ولكن في ظروف خاصّة ، كحالات الاضطرار والعسر والحرج والضرر ، ومثاله الترخيص في أكل الميتة في ظرف الاضطرار ، والترخيص في كشف العورة لغرض العلاج الذي يترتّب على عدمه الضرر أو الحرج.

وواضح انّ الرخصة والعزيمة بهذا المعنى يقتضي انسلاكهما في الأحكام التكليفيّة. والظاهر من المحقّق النائيني رحمه‌الله تبنّي هذا المعنى وان كان لم يفصح بذلك في أجود التقريرات.

وكيف كان فهذا المعنى هو المناسب للمفهوم اللغوي من اللفظين ، فقد ذكر الفيّومي في المصباح انّ عزيمة الله جلّ وعلا فريضته التي افترضها ، وعزائم


السجود ما امر بالسجود فيها ، وذكر انّ الرخصة هي التسهيل في الأمر والتيسير ، يقال رخص الشرع لنا في كذا إذا يسّره وسهّله.

المعنى الثاني : وهو الذي تبنّاه السيد الخوئي رحمه‌الله قال : « العزيمة عبارة عن سقوط الأمر بجميع مراتبه » والرخصة « عبارة عن سقوط الأمر ببعض مراتبه ».

وبيان ذلك : انّ الأمر اللزومي يتضمّن بحسب التحليل ثلاث مراتب والمرتبة الدنيا هي اباحة متعلّقه ، والمرتبة العليا منه هي محبوبيّة متعلّقه الشديدة المقتضية لإلزام المكلّف ، وأمّا المرتبة الوسطى فهي رجحانه.

فمتى ما أسقط المولى الأمر بتمام مراتبه الثلاث فهذا معناه انتفاء حتى الإباحة عن متعلّقه ، وهذا هو معنى العزيمة والتي تقتضي بهذا المعنى حرمة الإتيان بمتعلّق الأمر الساقط استنادا الى الأمر المولوي ، إذ لا أمر مولوي حينئذ ، فالإتيان بمتعلّق الأمر من التشريع المحرّم.

ومثال ذلك اسقاط الأمر بالركعتين الأخيرتين في السفر ، فإنّ سقوطهما عزيمة ، بمعنى انتفاء الأمر عن الركعتين من رأس ، ولذلك يكون الإتيان بهما تشريعا محرما.

وكذلك الكلام لو أسقط المولى الأمر الاستحبابي بجميع مراتبه ، فإنّ الذي يسقط بذلك ليس هو الرجحان فحسب بل هو الإباحة أيضا ، أي انّ الإتيان بمتعلّق الأمر ـ بعد ذلك ـ بقصد الأمر حرام لأنّه من التشريع ، ومن هنا يكون سقوط الأمر الاستحبابي عزيمة ، ومثاله إسقاط الأمر بالأذان والإقامة عن المأموم.

وأمّا لو أسقط المولى بعض مراتب الأمر ، كما لو أسقط عن الأمر مرتبة الإلزام أو أسقط عن الأمر الاستحبابي المؤكد مرتبة التأكّد فإنّ هذا النحو من الإسقاط هو معنى الرخصة. ويمكن التمثيل له بسقوط زكاة الفطرة عن الفقير ، فإن الساقط هو الأمر ببعض مراتبه وهو الإلزام ، فيبقى الرجحان على حاله ، وكذلك سقوط الأمر


الاستحبابي بالأذان عمّن سمعه فإنّ الساقط هنا ـ ظاهرا ـ مرتبة التأكيد ، ولذلك كان السقوط بمعنى الرخصة.

وبهذا تكون الرخصة والعزيمة من خصوصيّات الحكم التكليفي ، بمعنى انّها تحدّد الحالة التي يكون عليها الحكم التكليفي بعد سقوط الأمر بتمام مراتبه أو ببعضها.

المعنى الثالث : انّ المراد من العزيمة هو كلّ ما شرّعه الله تعالى وقنّنه لعباده بنحو لا يكون لأحد من عباده الخروج عن مقتضاه وترتيب غير آثاره.

ومن هنا تكون العزيمة شاملة للأحكام التكليفيّة والوضعيّة معا ، فكما انّ الوجوب والحرمة ممّا شرعه الله تعالى فكذلك الزوجيّة والملكيّة والطهارة والنجاسة ، فإنّه ليس للمكلّف الخروج عن مقتضى هذه الأحكام وترتيب غير آثارها ، وهكذا الكلام في حقّ الحضانة للام واستحقاق الذكر لمثل حظ الأنثيين والولاية على البكر ، كلّ ذلك يعبّر عنه بالعزيمة بقطع النظر عمّا هو سنخ ذلك الحكم وهل هو من سنخ الاحكام التكليفيّة أو الأحكام الوضعيّة.

وأمّا الرخصة فهي عبارة الاعتبارات والأحكام الشرعيّة التي يكون المكلّف معها في سعة من جهة عدم ترتيب آثارها ، من غير فرق بين أن تكون هذه الاعتبارات من سنخ الأحكام الوضعيّة أو من سنخ الاحكام التكليفيّة.

أمّا مثال الأحكام التكليفيّة فواضح ، وأمّا الأحكام الوضعيّة فيمكن التمثيل له بإجازة المالك في العقد الفضولي بناء على الكشف ، فإنّ العقد بناء عليه قد تمّ من حينه وترتب على ذلك النقل والانتقال إلاّ انّ للمالك عدم ترتيب آثار العقد ، كما يمكن التمثيل له بتزويج الولي للبكر ، فإنّ الزوجيّة تتحقّق بذلك إلاّ انّ البنت ليست ملزمة بترتيب آثار العقد والزوجيّة ، إذ انّ لها إلغاء العقد.

ولعلّ هذا المعنى هو الذي حدا


بالبعض لتبنّي انّ الرخصة والعزيمة من الأحكام الوضعيّة ، وان كنا لم نجد من تبنّى ذلك.

* * *

٣٦٦ ـ الرفع والدفع

أفاد المحقّق النائيني رحمه‌الله في مقام بيان الفرق بين الرفع والدفع ما حاصله :

أنّ الرفع بمعنى نفي الشيء وإعدامه بعد أن كان متقرّرا وموجودا في عالمه المناسب له ، فحينما يكون الشيء موجودا فعلا فإنّ إعدامه يكون رفعا لوجوده سواء كان هذا الشيء من قبيل الوجودات العينيّة المتأصّلة أو كان من قبيل الاعتبارات الشرعيّة.

فإعدام الشجرة بعد أن كانت موجودة يسمّى رفعا ، ونفي الوجوب عن الصلاة مثلا بعد أن كان ثابتا لها يسمّى رفعا أيضا ، غايته أنّ الرفع في كلّ منها يناسب وعاء وجوده.

وأمّا الدفع فهو بمعنى المنع عن تأثير المقتضي لأثره ، أي المنع عن وجود الشيء بعد أن كان واجدا لمقتضيه.

فحينما يكون الشيء مؤهّلا للوجود بعد تماميّة أجزاء علّته ـ سوى عدم المانع ـ فإنّ الحيلولة دون إيجاده يسمّى دفعا أي فإنّ الحيلولة دون تأثير علّته في إيجاده يسمّى دفعا.

فعند ما تهيّأ النار وتقرّب منها الخشبة فإنّ الاحتراق يصبح بذلك مؤهّلا للوجود إلاّ أنّه عند ما يوضع عازلا فوق الخشبة فإنّ ذلك يكون مانعا عن وجود الاحتراق ، هذا المانع يسمّى دفعا كما يسمّى مانعا.

وهكذا عند ما يكون الفعل واجدا للملاك المقتضي لجعل الوجوب عليه إلاّ أنّ ثمّة مانع منع من أن يؤثّر هذا المقتضي في إيجاد جعل الوجوب على الحكم كما لو افترضنا اشتمال صلاة الليل على الملاك المقتضي لجعل الوجوب عليها إلاّ أنّه منع من إيجابها ملاك التسهيل فإنّ هذا المانع يسمّى دفعا.

وبذلك اتّضح الفرق بين الرفع والدفع وأنّ الرفع ناف للوجود الثابت في زمان سابق أو رتبة سابقة ، وأنّ


الدفع مانع عن تحقّق الوجود في مورد يكون الشيء واجدا لمقتضي الوجود.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني رحمه‌الله بعد أن أفاد ما بينّاه عالج ما ينتجه هذا الفرق من إشكاليّة استعمال الرفع في معنى الدفع في حديث الرفع ـ والذي هو أحد أدلّة البراءة ـ حيث لا يبعد أن يكون المراد من الرفع هو الدفع بالمعنى المذكور ، فرفع ما لا يعلمون معناه أنّ المقتضي لجعل الأحكام على المكلّفين في ظرف الجهل ، وعدم العلم وإن كان موجودا إلاّ أنّ مصلحة البراءة منعت من أن يؤثّر هذا المقتضي أثره في جعل الحكم على المكلّفين في ظرف الجهل وعدم العلم.

فإذا كان الرفع قد استعمل في معنى الدفع فلا بدّ وأن يكون هذا الاستعمال مجازيّا ، وهو ما يفتقر إلى قرينة.

لذلك أفاد المحقّق النائيني رحمه‌الله أنّ الرفع قد استعمل في معناه وهو نفي الوجود بعد أن كان متقرّرا ، وذلك يتّضح بالالتفات إلى أنّ وجود الشيء كما يفتقر في أصل وجوده إلى علّة كذلك هو يفتقر في استمرار وجوده إلى علّة ، فحينما يكون ثمّة مانع من تأثير المقتضي لأثره في استمرار وجود الشيء فإنّ هذا المانع يكون في الحقيقة نافيا للوجود لأنّه يكون نافيا لاستمراره ، فوجود الشيء في عمود الزمان ينحلّ إلى وجودات متعدّدة بعدد آنات الزمان ، وكلّ وجود منها يحتاج إلى مفيض وعلّة ، فحينما يمنع مانع عن الوجود الثاني فهذا في واقع الأمر نفي وإعدام للوجود الثاني.

فالرفع إذن وإن كان بمعنى نفي الوجود وإعدامه إلاّ أنّه يتصادق مع الدفع بمعنى المنع ، لأنّ الرفع ـ بمعنى الإعدام ـ من جهة الاستمرار يكون بالمنع من تأثير المقتضي لاستمرار الوجود من أن يؤثر أثره في استمراره.

وبالنتيجة يكون استعمال الرفع بمعنى الدفع ليس مجازيا بعد اتّحاده معه من جهة أنّ الرفع وإعدام الوجود يكون بواسطة المنع من تأثير المقتضي لأثره في استمرار الموجود.


حرف الزّاي


عناوين حرف الزاي

٣٦٧ ـ الزمان والزمانيات

٣٦٨ ـ الزيادة في المركبات الاعتباريّة


حرف الزاي

٣٦٧ ـ الزمان والزمانيات

عرّف الزمان بأنّه كم متصل غير قار عارض للحركة ، فلأنّه من مقولة الكم كان قابلا للانقسام ، ولأنّه متّصل تحققت معه القبلية والبعديّة فالمتصرّم منه تكون له القبلية كما انّ الجزء الذي يلي المتصرّم تكون له البعديّة ، ولو لا ذلك لما كان بينهما اتّصال بل كانت الأجزاء منفصلة عن بعضها ، ولو كان قارا لأمكن اجتماع الجزء القبلي مع الجزء البعدي في عرض واحد.

ثمّ انّه لا يتعقل وجود الزمان دون الحركة ، إذ لو رفعنا الحركة عن هذا المقدار المتّصل لانتفى الزمان ، وهذا ما يعبّر عن انّ الزمان عارض للحركة والحركة هي معروضه وموضوعه ، فالزمان موجود في موضوع هو الحركة ، وماهيته انّه مقدار له اتّصال وليس له قرار. هذا حاصل ما استفدناه من العلاّمة الطباطبائي رحمه‌الله في نهاية الحكمة.

وأمّا المراد من الزمانيات فهي الوجودات غير القارة ، فهي متقوّمة بكون الجزء المتأخر منها منوط وجوده بانصرام المتقدم ، فالزمانيات وان كانت غير الزمان إلاّ انّها مثل الزمان من جهة انّها وجود متصرّم ليس له قرار ، ولهذا يعبّر عنها بالوجود السيّال في مقابل الوجود الذي تكون تمام أجزائه مجتمعة في عرض واحد.

ويمثلون للزمانيات بالحركة وجريان الماء وانصباب الدم من


الرحم والقراءة ، فهذه الأمثلة تشترك في تقوّم كلّ واحد منها بعدم اجتماع أجزائه في عرض واحد.

ثم انّ الاصوليين يطلقون عنوان الزمانيّات على نوع آخر من الوجودات وهو الوجود القار المقيّد بزمان ، ومنشأ اطلاق عنوان الزماني على هذا النحو من الوجودات هو تقيّده بالزمان.

ومثاله ما لو أمر المولى عبده بالكون في المسجد من شروق الشمس الى الغروب ، فإنّ الكون في المسجد ليس من الزمانيات في حدّ نفسه إلاّ انّ تقيده بالزمان صحّح اطلاق عنوان الزماني عليه.

* * *

٣٦٨ ـ الزيادة في المركبات الاعتباريّة

وبيان المراد من المركبات الاعتباريّة في محلّه ، والبحث في المقام عن امكان حصول الزيادة في المركبات الاعتباريّة مثل الصلاة والتي هي مركب اعتباري من مجموعة أجزاء.

فقد يقال بعدم امكان حصول الزيادة في المركبات الاعتباريّة ، وذلك لأنّ كلّ جزء معتبر في المركب إمّا ان يكون نحو اعتباره هو اللابشرط أو البشرطلا ، فإن كان نحو اعتباره هو الاول ـ والذي يعني الإطلاق وعدم تقييد الجزء بالوحدة أو التعدد ـ فهذا يقتضي عدم تحقّق الزيادة حتى مع تكرار الجزء ، إذ المفترض انّ الجزء اخذ بنحو اللابشرط أي بنحو الاطلاق ، وهذا معناه انّ كل فرد يؤتى به من أفراد الجزء يكون مصداقا للمأمور به وهو طبيعي الجزء ، ومن هنا كان تكرار الجزء في المركب غير محقق للزيادة بناء على هذا الفرض.

وأما لو كان نحو اعتباره هو البشرطلا ـ أي بشرط عدم تكرار الجزء ـ فهو أيضا يقتضي استحالة تحقق الزيادة في المركب الاعتباري ، وذلك لأنّ المكلّف لو جاء بالجزء مرة ثانية فهذا معناه عدم امتثال الجزء


الاول ، إذ المفترض انّ الجزء المأمور به هو الجزء المقيّد بعدم تكراره ، فعند تكراره يكون القيد منتفيا ، وانتفاء القيد معناه انتفاء المقيّد ، فالتكرار ـ بناء على هذا الفرض ـ يقتضي نقصان المركب لا زيادته.

وبهذا التقريب تصوّر استحالة الزيادة في المركب الاعتباري ، إلاّ انّ ذلك غير تام وانّ الصحيح هو امكان تصوير الزيادة في المركبات الاعتبارية ـ كما أفاد السيّد الخوئي رحمه‌الله ، وذلك بأن يقال انّ أخذ الجزء بنحو اللابشرط « الاطلاق » له صورتان :

الصورة الاولى : ان تكون طبيعة الجزء مأخوذة في المركب بقطع النظر عن التكرار والتعدد ، بمعنى انّ المطلوب هو ايجاد طبيعة الجزء في المركب ، وحينئذ لا يكون التكرار مقتضيا للزيادة ، فتمام الأفراد المكررة مصاديق للطبيعة المطلوبة ، فالتكرار لا يقتضي تحقق ما هو زائد على المقدار المطلوب.

الصورة الثانية : أن يكون الجزء المأخوذ بنحو الإطلاق واللابشرط مأخوذا بنحو صرف الوجود ، واذا كان كذلك فأوّل وجودات الطبيعة هو المأمور به ، وعليه يكون الإتيان بأفراد اخرى موجبا للزيادة في المركب الاعتباري ، إذ انها لا تكون مصداقا للمأمور به بعد ان كان الجزء المأمور به مأخوذا بنحو صرف الوجود وقد تحقّق بأول فرد للجزء الذي جاء به المكلّف ، نعم لا يكون الإتيان بأفراد اخرى ضائرا بالمطلوب ـ وذلك لافتراض انّ الجزء مأخوذ بنحو اللابشرط ـ إلاّ انّ ذلك لا يؤثر على ما هو المراد إثباته وهو امكان تحقق الزيادة في المركبات الاعتبارية ، هذا أولا.

وثانيا : انّ ما هو مذكور لإثبات استحالة تحقّق الزيادة في المركبات الاعتباريّة يناسب المداقة العقليّة والحال انّ الاحكام الشرعيّة لا تخضع لمثل هذه المداقات ، فلا بدّ من مراجعة ما هو المتفاهم العرفي وانّ الزيادة ـ بنظر العرف ـ هل يمكن تحقّقها في


المركبات الاعتباريّة أولا؟

وحين مراجعة العرف نرى امكانية ذلك دون أدنى غضاضة سواء كان اعتبار الجزء بنحو اللابشرط أو بنحو البشرطلا.

ثمّ انّه إذا كان البناء هو ما عليه العرف فإنّ ذلك يقتضي البناء على امكان تحقّق الزيادة حتى بالإجزاء غير المسانخة للأجزاء المأمور بها ، كأن يضاف الى المركب هيئة خاصة غير مسانخة لأحد أجزاء المركّب المأمور به.


حرف السّين


عناوين حرف السين

٣٦٩ ـ مسلك السببيّة

٣٧٠ ـ سدّ الذرائع

٣٧١ ـ السنّة الشريفة

٣٧٢ ـ السنّة في استعمالات الفقهاء

٣٧٣ ـ السيرة العقلائيّة

٣٧٤ ـ السيرة المتشرعيّة


حرف السين

٣٦٩ ـ مسلك السببيّة

وهي من النظريات التي تصدّت لتفسير ما هو المجعول في الأمارات ، ومجمل المراد من هذه النظريّة هو انّ الأمارة جعلت سببا لتدارك ما يفوت من مصلحة الواقع.

وقد عالج الشيخ الأنصاري رحمه‌الله بهذه النظريّة اشكال ابن قبة على التعبّد بالظن وانّه يستلزم تفويت مصلحة الواقع على المكلّف كما يوجب ايقاعه في مفسدة الواقع لو اتّفق منافاة مؤدى الأدلّة الظنيّة للواقع ، وقد تصدى الاعلام للإجابة عن هذه الشبهة ، ومن هذه الإجابات ما ذكره الشيخ الأنصاري رحمه‌الله من انّ المجعول في الأمارات هو السببيّة ، وذكر انّ لمسلك السببيّة اتجاهات ثلاثة :

الاتجاه الاول : هو السببيّة الأشعريّة ، وحاصل المراد منها هو انّه ليس لله جلّ وعلا أحكام وراء قيام الأمارات ، بمعنى انّه ليس ثمّة أحكام واقعيّة تابعة لملاكات في متعلقاتها ، والموجود انما هي أحكام مستفادة من مؤديات الأمارات وانّ قيامها يكون سببا في حدوث مصلحة في جعل الأحكام واعتبارها على طبق مؤديات تلك الامارات ، وقد شرحنا هذه النظريّة تحت عنوان « التصويب الأشعري » « التخطئة والتصويب ».

الإتجاه الثاني : هو السببية المعتزليّة ، وحاصل المراد منها هو التسليم بوجود أحكام واقعيّة تابعة لملاكات واقعيّة إلاّ انّه عند قيام


الأمارة تنشأ مصلحة في مؤداها أقوى من مصلحة الواقع فيقتضي ذلك تبدّل الحكم الواقعي الى حكم مطابق لمؤدى الأمارة ، فيكون ذلك من قبيل طرو العناوين الثانويّة المقتضية لتبدّل الحكم الاولي الى حكم يتناسب مع العنوان الثانوي الطارئ.

ومع انكشاف منافاة الأمارة للواقع تزول المصلحة عن مؤداها ويلزم التعبّد بما هو مقتضى الواقع إلاّ انّ تبدّل الحكم حينئذ يكون بسبب تبدّل الموضوع ، بمعنى انّه قبل انكشاف الواقع لا مصلحة في متعلّق الحكم الواقعي وانّ المصلحة متمحّضة في مؤدى الأمارة ، وأمّا بعد انكشاف منافاة الأمارة للواقع تنتفي المصلحة المتعلّقة بمؤدى الأمارة وتصبح المصلحة في متعلّق الواقع ، وهذا هو الذي يوجب تبدّل الحكم. وقد شرحنا هذه النظريّة بشيء من التفصيل تحت عنوان « التصويب المعتزلي ».

الاتّجاه الثالث : السببيّة بمعنى المصلحة السلوكيّة ـ بحسب تعبير المحقّق النائيني رحمه‌الله ـ وهي التي تبناها الشيخ الأنصاري رحمه‌الله ، وحاصل المراد منها انّ لله جلّ وعلا أحكاما واقعيّة تابعة لملاكات واقعيّة في متعلقاتها وانّ هذه الملاكات لا تنتفي بقيام الأمارات على خلاف الواقع ، غايته انّ قيام الأمارة يقتضي نشوء مصلحة في سلوك الأمارة والجري على وفقها ، هذه المصلحة يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقعة.

ولأنّ المصلحة في سلوك الأمارة ثبتت بواسطة مقدمتين الاولى هي أدلّة الحجيّة للأمارة ، والثانية هي قبح تفويت مصلحة الواقع ، إذ استفدنا من مجموعهما انّ الأمارة سبب في نشوء مصلحة في سلوكها والجري على وفق مؤداها فتكون هذه المصلحة جابرة للمصلحة الواقعيّة الفائتة ، فلأنّ المصلحة السلوكيّة نشأت عن ذلك تكون النتيجة هي اختصاص اشتمال السلوك على المصلحة بالمقدار الذي يفوته سلوك الأمارة من مصلحة الواقع.


فلو صلّى المكلّف صلاة الجمعة استنادا الى الأمارة ثمّ انكشف له انّ الواقع هو وجوب صلاة الظهر ، فتارة يكون الانكشاف بعد أوّل الوقت وحينئذ يكون ما تداركته المصلحة السلوكيّة بمقدار ما فات من مصلحة الواقع والذي هو في الفرض مصلحة الوقت الفضيلي لصلاة الظهر ، فلا تقتضي المصلحة السلوكيّة تدارك مصلحة أداء صلاة الظهر في الوقت ، ومن هنا يلزم المكلّف أداء صلاة الظهر في الوقت ، إذ لا يقتضي أداء صلاة الجمعة أكثر من تدارك ما فات من مصلحة أول الوقت.

أمّا لو انكشف الواقع بعد انتهاء وقت صلاة الظهر فإنّ المصلحة السلوكيّة تقتضي حينئذ تدارك ما فات من مصلحة الوقت ، ولا تقتضي تدارك مصلحة أصل الصلاة ، ولهذا يلزم المكلّف قضاء صلاة الظهر بعد الوقت ، نعم لو لم ينكشف الواقع فإنّ مصلحة سلوك الأمارة تقتضي تدارك ما فات من مصلحة أصل الصلاة.

ثم انّه لمّا لم تكن المصلحة في قيام الأمارة وانما هي في سلوكها بعد قيامها لمّا كان كذلك فإنّ المكلّف لو لم يعمل بمقتضى الأمارة ـ فلم يكن فوات الواقع مستندا لسلوك الامارة ـ فإنّ مصلحة الواقع لا تكون متداركة.

هذا هو حاصل المراد من السببيّة بنحو المصلحة السلوكيّة والتي تبناها الشيخ الأنصاري والمحقق النائيني رحمهما الله.

* * *

٣٧٠ ـ سدّ الذرائع

المراد من الذريعة هو الوسيلة التي يتوسّل بها للوصول للغرض ، ويعبّر عنها بالمقدّمة.

والمقصود من سدّ الذرائع هو تحريم الوسائل والمقدّمات المؤدية للوقوع في الحرام أو المفضية للوقوع في المفاسد.

وهذا الاصطلاح غير مستعمل في اصول الإماميّة ـ والمستعمل عندهم هو عنوان « مقدّمة الحرام » ـ فهو من مصطلحات أصول العامة ، والبحث


فيه يقع عمّا هو حكم مقدمة الحرام ، وهل انّ ثبوت الحرمة لذي المقدّمة يترشّح عنه حرمة للمقدّمة أو لا؟ وهذا ما سيأتي بيانه في محلّه.

وكيف كان فقد توسّع بعض أبناء العامة في سدّ الذرائع ورتّبوا عليها حرمة كثير من الأشياء بزعم انّها تفضي للوقوع في الحرام أو المفسدة والحال انّها مجرّد معدّات ومقدمات بعيدة ، وذلك استنادا الى الاستحسان.

* * *

٣٧١ ـ السنّة الشريفة

وهي المصدر الثاني من مصادر التشريع بعد الكتاب المجيد ، كما انّها من أهم مصادر التشريع ، وذلك لأنّ أكثر تفاصيل الأحكام الشرعيّة الفرعيّة تمّ التعرّف عليها بواسطة السنة الشريفة.

والمراد من السنة الشريفة هو « مطلق قول المعصوم وفعله وتقريره ». والتعبير بالإطلاق منشؤه ما يبني عليه الإماميّة من حجيّة كلّ ما يصدر عن المعصوم من قول وفعل وتقرير وانّ ذلك لا يختصّ بما اذا كان المعصوم عليه‌السلام في مقام التبليغ كما ذهب لذلك بعض العامّة ، إذ انّه ما من قول أو فعل أو تقرير يصدر عن المعصوم إلاّ وله دلالة على معنى وهذا المعنى لا بدّ وان يكون مناسبا للشريعة ، إذ هو مقتضى افتراض العصمة المطلقة.

ثمّ انّ الغرض من اطلاق السنة على ما يصدر من مطلق المعصوم هو الإشارة الى ما هو مبنى الاماميّة من حجيّة مطلق ما يصدر عن الإمام عليه‌السلام والذي ثبتت له العصمة بالدليل القطعي.

فالحجيّة لا تختص بما يصدر عن النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل هي شاملة لمن ثبتت له العصمة من أهل البيت عليهم‌السلام ، ولا نعني من ذلك انّ مرتبة أهل البيت عليهم‌السلام هي عين مرتبة النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل لأنّ مناط حجيّة كلّ ما يصدر عن النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّما هو العصمة وهي ثابتة لأهل بيته عليهم‌السلام وان كان ما يصدر عن أهل البيت عليهم‌السلام انّما


هو متلقى عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهم معصومون في التلقي كما انّهم معصومون في الامتثال والبيان.

ويبقى الكلام عما هو المراد من فعل المعصوم وتقريره وهذا ما سنوضّحه تحت عنوان « دلالة فعل المعصوم وتقريره » ان شاء الله تعالى.

* * *

٣٧٢ ـ السنّة في استعمالات الفقهاء

يطلق لفظ السنّة على مجموعة من المعاني :

منها : انّها تطلق على كلّ حكم شرعي تمّ التعرّف عليه بواسطة النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك في مقابل الحكم الشرعي الذي تصدى القرآن الكريم لبيانه ، ويعبّر عنه بالفرض.

وبهذا فهم يطلقون ـ وتبعا لبعض الروايات ـ على الوقوف بالمشعر الحرام عنوان الفرض ، وذلك لأنّ القرآن الكريم قد تصدّى لبيانه ، بينما يطلقون على الوقوف بعرفات عنوان « السنّة ».

ومنها : انّها تطلق على كلّ حكم شرعي مجعول من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتخويل من الله تعالى ، وذلك في مقابل ما هو مجعول ابتداء من الله جلّ وعلا فإنّهم يطلقون عليه عنوان « الفرض ».

ومثال ذلك الركعتين الأخيرتين في الصلوات الرباعيّة والركعة الثالثة في صلاة المغرب ، فإنّها من السنة لأنّها مجعولة من قبل النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتفويض من الله جلّ وعلا ، وفي مقابل ذلك الركعتين الاوليين في تمام الصلوات اليوميّة فإنّها فريضة باعتبارها مجعولة من الله تعالى ابتداء ، كما دلّت على ذلك مجموعة من الروايات ، وترتب على ذلك وعلى المعنى الاول مجموعة من الثمرات الفقهيّة.

ومنها : انّها تطلق على كلّ فعل ثبت استحبابه في الشريعة ، وذلك في مقابل ما ثبت وجوبه في الشريعة ، فيقال النافلة سنّة وصلاة الظهر فريضة.


ومنها : انّها تطلق على كلّ حكم ثبت عن الشريعة ، وذلك في مقابل البدعة وهو اسناد ما ليس من الشريعة اليها ، وقد شرحنا ذلك تحت عنوان « التشريع ».

* * *

٣٧٣ ـ السيرة العقلائيّة

والمقصود من السيرة العقلائيّة اجمالا هو تعارف العقلاء على سلوك معيّن في شأن من الشئون بحيث لا يشذّ عن هذا السلوك منهم أحد إلاّ وكان معرضا للنقد والتوبيخ ، وهذا لا يتّفق إلاّ في عند ما يكون السلوك مستندا الى نكتة عقلائيّة ولو لم تكن متبلورة بل كانت مركوزة في جبلتهم.

وهناك نوع آخر للسيرة العقلائيّة ذكره السيّد الصدر رحمه‌الله وهو تعارف العقلاء على سلوك معيّن إلاّ انّ الخروج عن مقتضاه لا يستوجب توبيخ العقلاء ، وذلك يعبّر عن عدم نشوء هذا السلوك عن نكتة عقلائيّة ولو لم تكن متبلورة ، بمعنى انّه ناشئ اتفاقا ولأغراض شخصيّة إلاّ انّها خلقت حالة عامة تستوجب استظهار أو حدس صدور ذلك السلوك عن كلّ أحد.

ويمكن التمثيل لهذا النوع من السيرة بتعارف العقلاء والذين هم في موقع المولويّة على اعتبار قول اللغوي حجة على عبيدهم بمعنى اعتبار قول اللغوي هو المعبّر عن مراداتهم فيما يصدر عنهم من أوامر ، وهذا النحو من السلوك انّما نشأ عن أغراض شخصيّة تتّصل بكلّ واحد من أفراد العقلاء اللذين هم في موقع المولويّة ، إذ انّهم ولغرض التحفظ على أغراضهم يصيغون أوامرهم بألفاظ متناسبة مع قول اللغوي ، وهذا هو الذي دعاهم للأمر باعتماد قول اللغوي في مقام التعرّف على مقاصدهم.

ومن الواضح انّه لو شذّ أحد عن هذه الطريقة واتخذ وسيلة اخرى للتحفظ على أغراضه مع عبيده لم يكن ذلك موجبا لتوبيخ العقلاء له ولومه على الخروج عن الطريقة المألوفة.


وفي كلا القسمين لا بدّ لإثبات صلاحيّة السيرة العقلائيّة للدليليّة على الحكم الشرعي من امضاء الشارع لهذه السيرة ، ولكي يثبت امضاء الشارع للسيرة لا بدّ من تنقيح أمرين :

الأمر الاول : هو معاصرة السيرة لزمن المعصوم عليه‌السلام ، إذ مع عدم احراز ذلك لا تكون ثمّة وسيلة لإثبات الإمضاء ، وذلك لأنّه غالبا ما يكون الإمضاء بواسطة السكوت وعدم الردع ، وهذا ما يستبطن معايشة المعصوم للسيرة وعندها يمكن الاستدلال بالسكوت وعدم الردع على التقرير والامضاء.

وهكذا لو كان الإمضاء بواسطة التصريح فإنّه لا يتعقل إلاّ مع معاصرة المعصوم عليه‌السلام للسيرة إلاّ انّه عندئذ يكون التصريح بالإمضاء أحد أمارات معاصرة المعصوم عليه‌السلام للسيرة ، نعم لو لم يكن لبيان الامام عليه‌السلام المناسب للإمضاء دلالة على وجود السيرة فإنّ معاصرة السيرة لا يثبت بذلك إلاّ انّه يمكن إثبات مناسبة ما عليه السيرة الفعليّة لنظر الشارع بذلك ، والحجيّة حينئذ لكلام المعصوم عليه‌السلام دون السيرة ، وهو خروج عن الفرض.

وبهذا يتنقح اعتبار معاصرة المعصوم عليه‌السلام للسيرة التي يكون لها الدليليّة والكاشفيّة عن الحكم الشرعي.

الأمر الثاني : أن يكون عدم الردع للسيرة المعاصرة للمعصوم عليه‌السلام كاشفا عن الامضاء ، وهذا لا يكون إلاّ إذا كان عدم الردع موجبا لامتداد السيرة للشئون الشرعيّة ، وعندها تكون أغراض الشريعة معرضا للخطر لو لم تكن متناسبة مع مقتضى السيرة ، ففي مثل هذا الفرض يكون عدم الردع معبّرا عن الإمضاء.

وهناك فرض آخر يكون معه عدم الردع معبّرا عن الإمضاء وهو ما لو كانت السيرة من الاستحكام والاستيثاق بحيث يحتمل امتدادها للشئون الشرعيّة ، وحينئذ يكون من


الحكمة الردع عنها لو لم تكن متناسبة مع نظر الشارع ، إذ انّ عدم الردع حينئذ ينافي الحكمة المقتضية للتحفّظ على الأغراض عن أن تكون في معرض الخطر.

على انّه لا بدّ من التنبيه على أمر يتّضح بالتأمّل فيما ذكرناه وهو انّه قد تكون السيرة منافية لنظر الشارع إلاّ انّ امتدادها للشئون الشرعيّة لا يمثل خطرا على الاغراض الشرعيّة ، وفي مثل هذا الفرض لا يكون عدم الردع معبّرا عن الإمضاء.

ومثال ذلك ما لو كان نظر الشارع هو التخيير في حالات التزاحم بين دفع المفسدة وجلب المصلحة المتساويين في الأهميّة وكانت السيرة جارية على تقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة في حالات التساوي في الأهميّة ، فإنّ عدم الردع عن هذه السيرة لا يشكّل خطرا على غرض الشارع بعد افتراض انّ نظره في مثل هذا الفرض هو التخيير.

ثمّ انّ هذين القسمين للسيرة هما اللذان لو ثبت امضاؤهما لكانا صالحين للكشف عن الحكم الشرعي أو الحجّة الشرعيّة ، وهناك قسمان آخران للسيرة ليس لهما هذه الصلاحيّة.

القسم الأوّل : هو السيرة العقلائيّة التي تنقّح موضوعات الأحكام الشرعيّة الثابتة بأدلتها ، وهي على نحوين :

النحو الأول : السيرة التي ينخلق بها موضوع الحكم الشرعي ويتحدّد بواسطتها كيفيّة امتثاله والخروج عن عهدته ، ومثال ذلك حكم الشارع بوجوب الإنفاق على الزوجة بالمعروف ، فلو قامت السيرة على انّ الإنفاق بالمعروف لا يتمّ إلاّ بمستوى معين من النفقة فإنّ هذه السيرة تقتضي صيرورة موضوع الوجوب هو خصوص المقدار المحدّد من قبلها وانّ المقدار الأقل ممّا حددته السيرة لا يكون من النفقة بالمعروف ، وحينئذ لا يكون لأحد الإنفاق بمستوى أقل وان كان يرى عدم تماميّة ما عليه السيرة ،


كما انّ وجود سيرة سابقة على غير ما هي عليه فعلا لا يصحّح إلغاء السيرة الفعليّة ، إذ انّ تحديد الموضوعات خاضع للظروف المزامنة لامتثال التكليف ، وبطبيعة الحال انّ ذلك مختصّ بالموضوعات التي يخضع تبلورها للظروف والملابسات الخارجيّة.

النحو الثاني : السيرة التي يكون لها دور الكشف عن تحقّق موضوع الحكم الشرعي خارجا ، ومثاله ما لو كانت سيرة العقلاء جارية على عدم الإقدام على المعاملة الغبنيّة وانّهم يجرون في معاملاتهم على أساس التحفّظ على مالية ما عندهم من أموال فحينئذ نستكشف من هذه السيرة وجود شرط ضمني في كلّ معاملة وهو التقارب بين مالية العوضين ، فلو اتّفق ان كانت المعاملة غبنيّة فإنّ للمغبون خيار الغبن باعتبار انّ عدم الغبن شرط ضمني في العقد كشفت عنه السيرة العقلائيّة.

وتلاحظون انّ السيرة هنا كشفت عن تحقّق موضوع الحكم الشرعي والذي هو وجود شرط ضمني بعدم الغبن ، ومن هنا ترتب الحكم الشرعي والذي هو ثبوت الخيار.

والفرق العملي بين النحو الاول والثاني هو انّ النحو الثاني من السيرة لا يتنقّح بها موضوع الحكم الشرعي لو أقدم المتعاقدان على المعاملة مع البناء على الالتزام بمقتضاها ولو اتّفق الغبن ، وذلك لأنّ السيرة في النحو الثاني انّما تكشف عن وجود شرط ضمني مثلا فلو ألغى المتعاملان هذا الشرط فلا كاشفيّة للسيرة حينئذ عن وجود الشرط ، وهذا بخلاف النحو الاول من السيرة فإنّها لا تخضع لإرادة أحد من العقلاء بل انّها موجبة لانخلاق موضوع الحكم الشرعي ، فليس دورها الكشف بل انّ دورها الإيجاد للموضوع.

وبما ذكرناه يتّضح انّ هذا القسم من السيرة بنحويه لا تناط فاعليته بمعاصرة السيرة للمعصوم عليه‌السلام بل انّه لو كانت السيرة في زمن المعصوم عليه‌السلام


على خلاف ما عليه السيرة الفعليّة فإنّ ذلك لا يؤثر على ما هي الوظيفة المناطة بهذا القسم من السير ، وهي تنقيح موضوع الحكم الشرعي.

القسم الثاني : هي السيرة العقلائيّة التي تساهم في فهم الدليل وتكشف عن حدود مدلوله ، إذ لا ريب انّ للمتبنّيات العقلائيّة والمرتكزات العرفيّة دورا في تبلور الظهور للأدلّة اللفظيّة ، وانّ الظهور لا يتحدّد بالمداليل اللغويّة فحسب بل انّ المتبنيات العقلائيّة تشكّل قرائن لبيّة متّصلة يتحدّد بواسطتها ما هو المراد الجدّي من الأدلة اللفظيّة.

وهذا القسم من السير منوط باحراز معاصرتها للمعصوم عليه‌السلام ، إذ انّ الظهور المعتمد للأدلّة اللفظيّة انّما هو الظهور المزامن لعصر صدور النصّ ، نعم يمكن الاستفادة من السيرة الفعليّة لإثبات أحد أمرين :

الأمر الأول : عدم امكان التمسّك بالمدلول اللغوي للدليل بقطع النظر عمّا هو مقتضى السيرة ، وذلك لأنّ السيرة الفعليّة توجب احتمال اكتناف الدليل بقرينة متّصلة مانعة عن ظهور الدليل فيما يناسب المدلول اللغوي ، وهذا الاحتمال لا نافي له ، فإمّا ان ننتهي الى القول باجمال الدليل وامّا ان نتمسّك بالدليل بالمقدار الذي تقتضيه السيرة.

الأمر الثاني : انّ هذه السيرة تساهم في الكشف عن انّ المستظهر من الدليل في عصر النصّ هو عينه الظهور الفعلي للدليل والمناسب لما تقتضيه السيرة ، وذلك لأنّ احراز السيرة الفعليّة موجب لإحراز الظهور الفعلي وعندئذ نتمسّك بأصالة عدم النقل المعبّر عنها بأصالة الثبات في اللغة ، فإنّ هذا الأصل لا يختصّ بالمدلول اللغوي ، بمعنى انّ هذا الأصل لا يثبت بقاء المدلول اللغوي وعدم تبدّله بتمادي الزمن فحسب بل يتّسع ليشمل حالات الشك في تبدّل الظهور المرتبط بالقرائن اللبيّة والمرتكزات العقلائيّة.

فإن كان الظهور المرتبط بالقرائن اللبيّة محرزا فعلا وشككنا في انّ هذا


الظهور هل هو عينه الذي كان في زمن صدور النصّ أو انّه تبدّل بتمادي الأزمنة فإنّ بالامكان التمسّك بأصالة عدم النقل ـ والمعبّر عنه بالاستصحاب القهقرائي ـ لإثبات معاصرة هذا الظهور لعصر النص.

هذا بعض ما استفدناه من كلمات السيد الصدر رحمه‌الله.

* * *

٣٧٤ ـ السيرة المتشرعيّة

المراد من السيرة المتشرعيّة هو تعارف المتشرعة ـ بما هم متدينون وملتزمون بما يمليه عليهم الشارع المقدس ـ على سلوك معيّن بقطع النظر عن كون هذا السلوك مناسبا لما يقتضيه الطبع العقلائي أو انّه غير مناسب لذلك ، فمحض التباني منهم على سلوك معيّن مصحح للتعبير عن هذا السلوك بالسيرة المتشرعيّة ، نعم اتفاق كون هذا السلوك منافيا لما هو مقتضى الطبع العقلائي يوجب اكتساب السيرة المتشرعيّة دلالة أوضح على تلقّي السلوك عن الشارع ، إذ لمّا كان هذا السلوك منافيا للطبع العقلائي أوجب انتفاء احتمال جريان المتشرعة على مقتضى طبعهم باعتبارهم عقلاء ، وبذلك يتعيّن تلقي المتشرعة لهذا السلوك عن الشارع وإلاّ فلا موجب لصدوره عنهم بعد افتراض منافاته للطبع العقلائي.

إلاّ انّه مع ذلك يمكن التعبير عن السلوك المتشرعي المناسب للطبع العقلائي بالسيرة المتشرعيّة ، ويمكن استكشاف تلقي ذلك السلوك عن الشارع المقدّس ، وذلك لافتراض تديّن المتشرعة والتزامهم بما يمليه عليهم الشارع وعدم خروجهم عن اطار الشريعة والتفاتهم الى انّ السيرة العقلائيّة وحدها لا تكفي لتصحيح السلوك ما لم يكن ذلك عن امضاء من الشارع.

واحتمال جريانهم على ما هو مقتضى طبعهم بما هم عقلاء غفلة دون مراجعة الشارع للتعرّف على رأيه في هذا السلوك ، هذا الاحتمال بعيد


غايته ، إذ لا يعقل ان يغفل جميع المتشرعة عن ذلك مع حرصهم باعتبارهم متشرعة على ان لا يخرجوا عن الإطار الشرعي في جميع شئونهم الحياتيّة.

ومع اتضاح المراد من السيرة المتشرعيّة يتّضح اناطة دليليتها وحجيّتها بمعاصرتها لزمن المعصوم عليه‌السلام ، بمعنى انّه لا بدّ من احراز انّ السيرة المتشرعيّة الفعليّة لها امتداد يتصل بعصر الظهور للمعصوم عليه‌السلام وإلاّ لم تكن صالحة للدليليّة والكاشفيّة عن الحكم الشرعي ، وذلك لأنّ التمسك بالسيرة المتشرعيّة انما هو لاستكشاف وجود دليل شرعي لم يصل الينا بواسطة الأخبار المنقولة عن المعصوم عليه‌السلام ، فإذا لم تكن السيرة معاصرة للمعصوم عليه‌السلام فكيف يتسنّى لنا احراز وجود دليل شرعي اعتمده المتشرعة إلاّ انّه لم يصل الينا نصه والحال انّ السيرة انعقدت بعد عصر المعصوم عليه‌السلام.

وبتعبير أدق : انّه مع افتراض معاصرة السيرة للمعصوم عليه‌السلام لا يكون ثمة احتمال لتلقيهم رأي الشارع بواسطة الحدس ولو كان لكان موهوما ، إذ انّ فرص التعرّف الرأي الشرعي بواسطة الحس أو ما يقرب منه متوفرة ومتكاثرة لقربهم من المعصوم عليه‌السلام أو ممن يسمع منه ويرى فعله ويشاهد تقريره ، فلو اتفق بعد البعض أو غفلتهم أو ضعف إدراكهم فإنّ ذلك لا يتفق للجميع كما هو مقتضى حساب الاحتمالات ، وهذا بخلاف السيرة المنعقدة بعد عصر النص فإنّ من المحتمل قويا اعتمادهم على الحدس وفتاوى الفقهاء والتي يكون أحسن حال يفترض لها هو الإجماع.

ثم انّه اتّضح مما بيناه أيضا انّ حجيّة السيرة المتشرعيّة غير منوطة باحراز عدم الردع ، إذ لا مبرّر لهذا الشرط بعد ان كانت السيرة المتشرعيّة كاشفة بنحو الإن عن وجود دليل شرعي هو واقعا مستند السيرة ، نعم لو كانت السيرة المتشرعيّة مناسبة لما يقتضيه


الطبع العقلائي فإنّها تكون منوطة باحراز الإمضاء من الشارع إلاّ انّ نفس السيرة المتشرعيّة ـ كما قلنا ـ محرزة للإمضاء ، إذ لو لم يمض الشارع هذا السلوك الذي يقتضيه الطبع لما سلكه المتشرعة بعد افتراض تدينهم والتفاتهم الى انّ اقتضاء الطبع العقلائي لهذا السلوك لا يبرّر صحة البناء عليه دون أن يكون ذلك عن امضاء من الشارع.

وبهذا يتّضح انّ دليلية السيرة العقلائيّة منوطة بالإمضاء المستكشف عن السكوت ، واما السيرة المتشرعيّة فهي بنفسها كاشفة بنحو الإن عن وجود الدليل الشرعي.



حرف الشّين


عناوين حرف الشين

٣٧٥ ـ شبهة ابن قبة

٣٩٣ ـ الشرط المسوق لبيان تحقّق الموضوع

٣٧٦ ـ شبهة الانفصال

٣٩٤ ـ الشرط من أجزاء العلّة

٣٧٧ ـ الشبهة البدويّة

٣٩٥ ـ الشرطية والسببيّة والمانعيّة

٣٧٨ ـ الشبهة التحريميّة

٣٩٦ ـ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني

٣٧٩ ـ الشبهة الحكميّة

٣٩٧ ـ الشك

٣٨٠ ـ الشبهة العبائيّة

٣٩٨ ـ الشك الساري والشك الطارئ

٣٨١ ـ شبهة الكثير في الكثير

٣٩٩ ـ الشك بين الجزئيّة والمانعيّة

٣٨٢ ـ شبهة الكعبي

٤٠٠ ـ الشك في التكليف

٣٨٣ ـ الشبهة المصداقيّة

٤٠١ ـ الشك في الحجيّة

٣٨٤ ـ الشبهة المفهوميّة

٤٠٢ ـ الشك في المحصّل

٣٨٥ ـ الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي

٤٠٣ ـ الشك في المكلّف به

٣٨٦ ـ الشبهة الموضوعيّة

٤٠٤ ـ شمول الأحكام للجاهل

٣٨٧ ـ الشبهة الوجوبيّة

٤٠٥ ـ الشهرة الروائيّة

٣٨٨ ـ الشبهة غير المحصورة

٤٠٦ ـ الشهرة العمليّة

٣٨٩ ـ شرائط الجعل والمجعول

٤٠٧ ـ الشهرة الفتوائيّة

٣٩٠ ـ شرط الاتّصاف

٣٩١ ـ شرط الترتّب

٣٩٢ ـ الشرط المتقدم والمتأخر والمقارن


حرف الشين

٣٧٥ ـ شبهة ابن قبة

وهي شبهة تتّصل بما عليه واقع التعبّد بالظن من حيث الإمكان والامتناع ، والغرض من إثارة هذه الشبهة هو إثبات استحالة التعبّد بالظن عقلا.

وحاصلها بحسب ما نقله الشيخ الانصاري رحمه‌الله عن ابن قبّة انّه يستحيل التعبّد بالظن كخبر الواحد ، وذلك لدليلين :

الاول : انّه لو صحّ التعبّد بالظن فيما ينقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لصحّ التعبّد بالظن فيما ينقل عن الله جلّ وعلا ، وهو مما لا يمكن الالتزام به لقيام الإجماع على ذلك ، أي لقيام الإجماع على عدم صحة التعويل على الظنون كخبر الواحد فيما لو كان الإخبار عن الله جلّ وعلا.

ولعلّه يشير الى عدم صحّة التعويل على الظنون في اصول العقيدة ، وانّه لا بدّ في موردها من القطع.

الثاني : انّ العمل بالأمارات الظنيّة قد يفضي الى الوقوع فيما هو حرام واقعا أو الى ترك ما هو حلال واقعا ، فلو تعبّدنا الشارع بالعمل بالظن لكان معنى ذلك ايقاع المكلف في محذور ارتكاب الحرام الواقعي لو كان مفاد الأمارة هو حلية ما هو حرام واقعا وكذلك العكس.

هذا هو حاصل ما هو منقول عن ابن قبّة في مقام الاستدلال على استحالة التعبّد بالظن ، وقد قرّرت هذه الشبهة بنحو أعمق مما أفاده ابن قبّة.


ونقرّر هنا ما أفاده السيّد الصدر رحمه‌الله في مقام بيان الإشكال على الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ، حيث أفاد انّ الإشكال على التعبّد بالظن من جهتين :

الجهة الاولى : تتّصل بما يدركه العقل النظري من استحالة التعبّد بالظن ، وذلك بتقريبين :

التقريب الاول : انّ التعبّد بالأمارات الظنيّة يلزم منه اجتماع الضدين أو المثلين ، وكلاهما مستحيل ، اما استلزامه لاجتماع الضدين فلأنّه لو كان مؤدى الأمارة الظنيّة هو الوجوب وكان الواقع هو الحرمة أو الاستحباب أو الكراهة أو الإباحة لكان معنى ذلك هو اجتماع حكمين متضادين على موضوع واحد ، إذ انّ الاحكام متضادة فيما بينها في عالم المبادئ والملاكات كما هو ثابت في محلّه.

وأما استلزامه لاجتماع المثلين فلأنّه لو كان مؤدى الأمارة هو الوجوب مثلا واتّفق ان كان الواقع هو الوجوب أيضا للزم من ذلك اجتماع حكمين متماثلين على موضوع واحد ، وهو مستحيل كما هو واضح.

وبتعبير آخر : انّ التعبّد بالأمارة يساوق جعل حكم ظاهري مناسب لمؤدى الأمارة ، وحينئذ ان كان الحكم المجعول ظاهرا مغايرا للحكم المجعول واقعا لزم من ذلك اجتماع الضدين ، وان كان الحكم الظاهري مسانخا للحكم الثابت واقعا لزم من ذلك اجتماع المثلين ، فاستحالة التعبّد بالامارة وجعل الحكم الظاهري ثابتة على أيّ تقدير.

التقريب الثاني : انّ التعبّد بالظن يلزم منه نقض الغرض ، وذلك لأنّ التعبّد بالظن قد يفوّت الغرض الواقعي للمولى لو كان مؤدى الامارة الظنيّة منافيا للواقع ، وحينئذ وبعد افتراض إدراك المولى لاستلزام التعبّد بالظن وجعل الحكم الظاهري لتفويت الغرض الواقعي فإنّ عدم ترك التعبّد بالظن معناه نقض الغرض ، وهو مستحيل من جهة انّ الغرض علة


تامة لما يناسبه من فعل أو ترك ، ومن الواضح انّ المناسب للغرض الواقعي هو ترك التعبّد بالظن ، فيكون ترك التعبّد بالظن معلولا للغرض الواقعي ، ويستحيل تخلّف المعلول عن علته التامّة.

وتلاحظون انّ الاستحالة بهذا التقريب من مدركات العقل النظري ، إذ انّ منشأ الاستحالة ـ بناء على هذا التقريب ـ هو استلزام التعبّد بالظن لتخلّف المعلول عن علته التامة.

الجهة الثانية : وهي تتّصل بما يدركه العقل العملي من استحالة التعبّد بالظن ، وحاصل الإشكال من هذه الجهة انّ الأحكام الواقعيّة تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها ، بمعنى انّه ما من حكم إلاّ وينشأ عن ملاك في متعلق ذلك الحكم ، فلو جعل الشارع الحجيّة للظن واتفق ان كان مؤدى الامارة الظنيّة منافيا للواقع لكان ذلك مفضيا إمّا لإيقاع المكلّف في مفسدة الواقع لو كان الواقع هو الحرمة وكان مؤدى الأمارة هو الوجوب أو الإباحة مثلا ، أو مفضيا لتفويت مصلحة الواقع على المكلّف لو كان الواقع هو الوجوب ـ المستلزم لاشتمال متعلقه على المصلحة ـ وكان مؤدى الامارة هو الحرمة أو الإباحة مثلا.

ومن الواضح انّ تفويت المصلحة على المكلف أو ايقاعه في المفسدة قبيح ، وهذا ما يوجب القطع باستحالة صدوره عن المولى جلّ وعلا.

هذا حاصل الشبهة التي أثارها ابن قبّة على امكان التعبّد بالظن بتقرير من الاصوليين ، وقد أسهب الاصوليون في الجواب عن هذه الشبهة.

* * *

٣٧٦ ـ شبهة الانفصال

راجع عنوان « اتصال زمان الشك باليقين ».

* * *

٣٧٧ ـ الشبهة البدويّة

وهي التي يكون أحد أطرافها غير لزومي كدوران الأمر بين الوجوب


وعدم الوجوب أو دوران الأمر بين الحرمة وعدمها أو دوران الأمر بين الوجوب والحرمة والإباحة أو الاستحباب أو الكراهة أو دوران الأمر بين النجاسة والطهارة ، فالضابطة في الشبهة البدويّة هو انّ أحد أطرافها لو كان هو المتعيّن واقعا لما كان منجّزا ، ومن هنا يخرج دوران الأمر بين المحذورين عن الشبهة البدوية ، إذ انّ طرفيه هو الوجوب والحرمة ، فلو كان الاول هو الواقع لكان منجّزا وكذلك لو كان الواقع هو الثاني.

ويخرج عن الشبهة البدويّة الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي كدوران الأمر بين وجوبين أو تحريمين ، كما لو دار الأمر بين وجوب الصلاة أو وجوب اطعام الفقير أو دار الأمر بين حرمة لحم الأرنب أو حرمة العصير العنبي ، لأن كلّ طرف من طرفي الشبهة لو كان هو المتعيّن واقعا لكان منجّزا.

وهكذا لو دار الأمر بين وجوب أحد الطرفين أو حرمة أحد الطعامين أو نجاسة أحد الإنائين أو فساد احدى الصلاتين أو العقدين بنفس التقريب.

* * *

٣٧٨ ـ الشبهة التحريميّة

وهي التي يكون متعلّق الشك فيها هو الحرمة ، كما لو وقع الشك في حرمة العصير العنبي. والشبهة التحريميّة تارة تكون شبهة حكمية واخرى تكون موضوعيّة.

أما الشبهة التحريميّة الحكميّة فهي ما لو كان متعلّق الشك هو الحرمة الكليّة ، بمعنى الشك في أصل الجعل للحرمة على طبيعة من الطبائع ، كما لو وقع الشك في جعل الحرمة لطبيعة العصير العنبي أو وقع الشك في جعل الحرمة لطبيعة لحم الأرنب.

وأمّا الشبهة التحريميّة الموضوعيّة فهي ما لو كان متعلّق الشك هو الحرمة الجزئيّة ، بمعنى اننا نحرز جعل الحرمة لطبيعة من الطبائع إلاّ انّ الشك في الحرمة نشأ عن الشك في مصداقيّة


مورد الشك للطبيعة المحرز حرمتها ، فلو كنا نحرز جعل الحرمة على طبيعة لحم الأرنب إلاّ اننا شككنا في حرمة هذا اللحم بسبب الشك في مصداقيته للحم الأرنب ، فالشك ليس من جهة ما هو المجعول لطبيعة لحم الأرنب وانّما من جهة انطباق الحكم الكلي المجعول على هذا المورد.

ولمزيد من التوضيح راجع « الشبهة الموضوعيّة ».

ثم انّه لم يقع خلاف بين الفقهاء في جريان أصالة البراءة أو الحل في الشبهة التحريميّة الموضوعيّة إذا كانت شبهة بدويّة ولم تكن لها حالة سابقة.

انّما الكلام في الشبهة التحريميّة الحكميّة فقد وقع النزاع بين الإخباريين والاصوليين فيما هو الأصل الجاري في موردها ، فقد ذهب الأخباريون الى انّ الأصل الجاري في موردها هو الاحتياط الشرعي ، وذهب الاصوليّون الى جريان أصالة البراءة والحل في موارد الشبهات التحريميّة إذا كانت الشبهة بدويّة ولم يكن لها حالة سابقة.

راجع « الشك في التكليف ».

* * *

٣٧٩ ـ الشبهة الحكميّة

المراد من الشبهة الحكميّة هو ما يكون متعلّق الشك والشبهة فيها حكم من الأحكام الشرعيّة الكليّة من غير فرق بين أن يكون الحكم المشكوك من سنخ الأحكام التكليفيّة أو الأحكام الوضعيّة.

وعادة ما يكون منشأ الشك في مورد الشبهات الحكميّة هو فقدان النصّ أو اجماله ـ لو كان ـ أو تعارضه مع نصّ آخر.

ومثال الشبهة في الأحكام التكليفيّة هو ما لو وقع الشك في وجوب صلاة الجمعة أو وقع الشك في حرمة العصير العنبي ، بمعنى وقوع الشك في جعل الشارع الوجوب لصلاة الجمعة والحرمة للعصير العنبي ، وأمّا مثال الشبهة في الأحكام الوضعيّة فهو ما لو وقع الشكّ في طهارة الكتابي


أو وقع الشك في شرطيّة الاطمئنان في الصلاة أو مانعيّة القران بين السور في الصلاة أو شرطية البلوغ في صحّة العقد.

والشبهة الحكميّة قد تكون بدويّة وقد تكون مقرونة بالعلم الإجمالي ، ولا ريب في منجزيتها في الفرض الثاني ، وأمّا في الفرض الاول فالمعروف هو جريان الاصول المؤمنة في موردها لو لم تكن لها حالة سابقة متيقّنة وإلاّ فهي مجرى لأصالة الاستصحاب على المبنى المعروف خلافا للسيّد الخوئي رحمه‌الله.

ولمزيد من التوضيح راجع « الشبهة الموضوعيّة ، والشك في التكليف ».

* * *

٣٨٠ ـ الشبهة العبائيّة

وهي شبهة أثارها السيّد اسماعيل الصدر رحمه‌الله ، وحاصل المراد منها انّه وبناء على طهارة الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة ، كما لو علمنا بنجاسة أحد الإنائين فإنّ هذه شبهة محصورة ، فلو وضع المكلّف يده في أحد الإنائين دون الآخر فإنّ معنى ذلك انّ المكلّف قد لاقى أحد أطراف الشبهة المحصورة ، وحينئذ نقول هل انّ يده محكومة بالنجاسة أولا؟

المعروف هو الحكم بعدم نجاسة الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة ، فبناء على هذا المبنى لو علمنا بوقوع النجاسة على أحد طرفي العباءة فقام المكلّف بتطهير أحد الطرفين دون الآخر ـ ولنفترضه الطرف الاول ـ فحينئذ يكون ملاقي الطرف الاول محكوم بالطهارة قطعا ، وذلك للقطع بطهارة ذلك الطرف أمّا من جهة انّه لم يكن متنجسا من أول الأمر واما من جهة تطهيره لو كان هو المتنجس واقعا.

وأما الطرف الثاني فبناء على عدم تنجّس الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة فلا بدّ من البناء على عدم تنجّس ما يلاقيه ، وهذا لا إشكال فيه لو اقتصر المكلّف على ملاقاته دون


ملاقات الطرف الاول ، أما لو لاقى كلا الطرفين ، الطرف المقطوع الطهارة والطرف الآخر المحتمل النجاسة فالمفروض هو البناء على عدم تنجّس الملاقي ، وذلك لأنّه لاقى ما هو مقطوع الطهارة وهو الطرف الاول وأحد طرفي الشبهة المحصورة والتي قلنا بعدم تنجّس الملاقي لها ، فلا بدّ وان تكون النتيجة هي الحكم بعدم تنجّس الملاقي لكلا الطرفين إلاّ انّ ذلك ينافي استصحاب النجاسة والذي يفترض انّه استصحاب كلّي من القسم الثاني ، لأننا كنا نحرز وقوع النجاسة على أحد الطرفين وهذا معناه العلم بوقوع كلّي النجاسة على العباءة فلو كان طرف النجاسة واقعا هو الطرف الاول لكانت النجاسة قد ارتفعت يقينا ، ولو كان طرف النجاسة هو الطرف الثاني لكانت باقية يقينا إلاّ انّه لما لم نكن نعلم بطرف النجاسة الواقعي ولم يكن بالإمكان استصحاب النجاسة في الطرف الاول أو الثاني لعدم احراز وقوعه في أحدهما تعيينا يتعيّن ان نستصحب كلّي النجاسة ، إذ انّ ذلك هو المعلوم سابقا والمشكوك لاحقا.

ومن الواضح انّ استصحاب النجاسة يقتضي البناء على تنجّس الملاقي لكلا الطرفين ، وهذا ما يوجب التنافي مع ما تقتضيه قاعدة عدم تنجّس الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة. فإمّا ان نتنازل عن قاعدة عدم تنجّس ملاقي أحد أطراف الشبهة أو نتنازل عما يقتضيه الاستصحاب الكلّي للنجاسة ، فالالتزام بالقاعدة والاستصحاب غير ممكن.

هذا هو حاصل المراد من الشبهة العبائية ، وقد تصدى الاعلام لعلاجها ، وبيان ذلك خارج عن الغرض.

* * *

٣٨١ ـ شبهة الكثير في الكثير

هذه الفرضية متصلة ببحث الشبهة غير المحصورة والبناء على عدم منجّزية العلم الإجمالي في موارد


الشبهات غير المحصورة ، وحاصل المراد من هذه الفرضيّة :

هو انّه لو افترض انعقاد علم اجمالي في أطراف كثيرة وكان المعلوم بالإجمال كثيرا أيضا ، فهل انّ كثرة الأطراف موجبة لسقوط العلم الإجمالي عن المنجّزية كما هو الحال في كلّ شبهة غير محصورة أو انّ لهذا الفرض خصوصيّة باعتبار انّه وان كانت اطراف العلم الإجمالي غير محصورة إلاّ انّ مقدار ما هو معلوم بالاجمال كثير أيضا.

وتلاحظون انّ هذه الفرضيّة مبنيّة على القول بسقوط المنجّزيّة عن العلم الإجمالي في موارد الشبهات غير المحصورة ، إذ انّه بناء على منجزيّة العلم الإجمالي في الشبهات غير المحصورة لا معنى للبحث عن ثبوت المنجّزيّة وعدم ثبوتها في هذه الفرضية بل ان ثبوت المنجّزية للعلم الإجمالي حينئذ أولى منه في الصور الاخرى للشبهة غير المحصورة ، فالبحث عن هذه الفرضيّة إذن مبني على القول بعدم منجّزية العلم الإجمالي في الشبهات غير المحصورة.

ومثال هذه الفرضيّة ما لو انعقد علم اجمالي بوطء مائة شاة في ضمن ألف شاة ، فأطراف العلم الإجمالي وان كانت كثيرة إلاّ انّ مقدار ما هو معلوم بالاجمال كثير أيضا ، إذ انّ نسبة ما هو معلوم بالإجمال الى أطراف العلم الإجمالي نسبة الواحد للعشرة ، بمعنى اننا لو قسمنا الألف الى عشرات لكان مقدار ما هو معلوم بالاجمال هو الواحد من عشرة.

هذا هو حاصل المراد من شبهة الكثير في الكثير ، فالكثير الاول معناه المعلوم بالاجمال ، والكثير الثاني هو أطراف العلم الإجمالي. والبحث هنا عن انّ افتراض كثرة ما هو معلوم بالإجمال في الشبهة غير المحصورة هل يقتضي منجّزية أطراف الشبهة غير المحصورة أو لا؟.

وقد أجاب السيد الخوئي رحمه‌الله عن ذلك بما حاصله : انّه بناء على مسلك الشيخ الأنصاري رحمه‌الله في تحديد ما هو


المراد من الشبهة غير المحصورة تكون الشبهة غير المحصورة في هذه الفرضيّة منجّزة لأطرافها ، وذلك لأنّ هذه الفرضيّة تقتضي خروج موردها عن الشبهة غير المحصورة ، إذ انّ مناط الشبهة غير المحصورة بنظره هو ان يكون احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على كلّ طرف عند ملاحظته موهوما بنحو لا يعتد العقلاء بمثله ، وفي هذه الفرضيّة لا يكون احتمال الانطباق موهوما بنظر العقلاء بل انّ احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على كل طرف عند ملاحظته معتد به لدى العقلاء ، وبهذا تكون الشبهة في هذه الفرضيّة شبهة محصورة.

وأمّا بناء على مسلك المحقق النائيني رحمه‌الله وانّ المناط في تحقّق الشبهة غير المحصورة هو عدم تمكن المكلّف من المخالفة القطعيّة فإنّ هذه الفرضيّة لا تحول دون صدق الشبهة غير المحصورة على المورد ، وذلك لبقاء عجز المكلّف عادة عن ارتكاب المخالفة القطعيّة. ومن هنا يكون العلم الاجمالي غير منجّز في هذه الفرضيّة باعتبارها من صور الشبهة غير المحصورة.

* * *

٣٨٢ ـ شبهة الكعبي

الكعبي من علماء المعتزلة ـ كما قيل ـ وعند ما يقال شبهة الكعبي في كتب الاصول فإنّه يراد منها الشبهة التي أراد بها إثبات انّ أفعال المكلّف الاختياريّة لا تخلو امّا أن تكون واجبة أو محرمة ، وليس ثمّة فعل اختياري للمكلّف يخلو عن هذين الحكمين ، ولهذا تعنون هذه الشبهة بشبهة انتفاء المباح ، والمقصود من الإباحة هي الإباحة بالمعنى الأعم الشاملة للكراهة والاستحباب.

وحاصل المراد من الشبهة انّ ترك الحرام يتوقف دائما على فعل من الأفعال المباحة بالمعنى الأعم فيكون ذلك الفعل واجبا باعتباره مقدمة لترك الحرام ، وقرّب هذه الدعوى بمقدّمتين ، كما أفاد السيّد الخوئي رحمه‌الله :


المقدّمة الاولى : انّ المكلّف لا يخلو حاله اما ان يترك الحرام أو ان يفعل الحرام ، والحالة الاولى وهي ترك الحرام لا بدّ وان تكون بواسطة القيام بفعل من الأفعال الاختياريّة ، وذلك لامتناع ان يخلو حال المكلّف من فعل من الأفعال ، وباعتبار افتراضه تاركا للحرام يتعيّن انّ ما عليه من فعل يكون واجبا ، لتوقف ترك الحرام على الفعل الذي هو عليه.

وبتعبير آخر : انّ المكلّف إمّا أن يشتغل بفعل الحرام وهذا لا كلام فيه ، واما ان لا يشتغل بالحرام ، وهذا لا يكون إلاّ بالاشتغال بفعل آخر ، إذ يستحيل أن يخلو حال المكلّف من فعل الحرام ومن فعل غير الحرام ، فإذا افترضنا عدم اشتغاله بالحرام فهذا معناه اشتغاله بغير الحرام ، وحينئذ يكون غير الحرام واجبا ، إذ انّه لو لم يفعله لفعل الحرام حيث لا برزخ بين الحالتين ، فالفعل غير المحرّم واجب باعتباره الوسيلة الوحيدة لترك الحرام.

المقدّمة الثانية : انّ كلّ فعل اختياري فهو محتاج الى علة ، واحتياجه الى علة لا يختص بحدوثه فحسب بل هو مفتقر الى العلة حدوثا وبقاء.

وبتماميّة هذه المقدّمة يتّضح انّ ما ذكر في المقدّمة الاولى من توقف ترك الحرام على فعل من الأفعال الاختياريّة لا يختص بترك الحرام ابتداء بل انّ ترك الحرام الممتد في عمود الزمان يحتاج دائما الى علة ، ومن هنا تكون الأفعال الاختياريّة الطوليّة الواقعة في عمود الزمان كلّها واجبة ، وذلك لأن ترك الحرام بقاء متوقف عليها.

وبهذا البيان يثبت بنظر الكعبي انّ أفعال المكلّفين لا تخلو من واحد من الحكمين الحرمة أو الوجوب ، فإذا لم يكن الفعل حراما فهو واجب حتما.

وقد أجاب السيد الخوئي رحمه‌الله عن هذه الشبهة بما ملخّصه : انّ ترك الضد « الحرام » ليس معلولا الى وجود ضده بل هو إمّا معلول لعدم إرادته


وعدم وجود الداعي الى فعله ، وهذا هو المعبّر عنه بعدم المقتضي للفعل أي لفعل الحرام ، فعدم فعل الحرام حين عدم إرادته ناشئ عدم المقتضي لوجود الحرام وليس ناشئا عن وجود ضده وهو الفعل الاختياري.

وأمّا ان يكون ترك الضد « الحرام » ناشئا عن وجود المقتضي لفعل ضده ، فترك الضد « الحرام » ليس ناشئا عن وجود الضدّ الآخر وانّما هو ناشئ عن وجود المقتضي لفعل الضد الآخر أي ناشئ عن إرادة فعل الضدّ الآخر.

ومن هنا لا يصحّ اسناد ترك الحرام الى وجود الفعل الاختياري بل انّ ترك الحرام مستند في هذا الفرض الى إرادة فعل الضدّ الآخر والذي هو الفعل الاختياري المضاد لفعل الحرام. وهذا ما ثبت في بحث مسألة الضدّ فراجع.

هذا لو كان الكعبي يقصد من التوقف معلوليّة ترك الحرام للفعل الاختياري المضاد ، وأمّا اذا كان يقصد من ذلك دعوى الملازمة بين حرمة شيء وجوب ضده المعاكسة لدعوى اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضده فجوابه مذكور في بحث مسألة الضدّ وانّ الحكم لا يسري من أحد المتلازمين الى الآخر.

* * *

٣٨٣ ـ الشبهة المصداقيّة

المراد من الشك بنحو الشبهة المصداقيّة هو الشك في مصداقيّة فرد لطبيعة ما على أن يكون منشأ الشك هو اشتباه الامور الخارجيّة لا أن يكون منشؤه إجمال المفهوم للطبيعة.

مثلا : لو قال المولى تصدّق على فقير وشككنا انّ زيدا فقير أو لا؟ فتارة يكون منشأ الشك هو اجمال المراد من مفهوم الفقير ، وانّه من لا يملك قوت سنته أو قوت يومه ، فنحن وان كنّا نحرز انّ زيدا يملك قوت يومه ولا يملك قوت سنته إلاّ انّه وبسبب إجمال مفهوم الفقير واحتمال اختصاصه بمن لا يملك قوت يومه يقع الشك في صدق مفهوم الفقير على زيد


لافتراض انّه يملك قوت يومه وان كان لا يملك قوت سنته إلاّ انّ الشك في مصداقيّة زيد لعنوان الفقير لما كان منشؤه اجمال المفهوم فإن الشبهة لا تكون مصداقيّة.

اما لو كان منشأ الشك في مصداقيّة زيد لعنوان الفقير هو الجهل بحاله فالشبهة حينئذ مصداقيّة ، بمعنى انّه لو كان المراد من مفهوم الفقير محددا إلاّ انّه وقع الشك في فقر زيد بسبب عدم الاطلاع على أحواله وظروفه فإنّ الشبهة تكون عندئذ مصداقيّة ، وذلك لأنّها نشأت عن اشتباه الامور الخارجيّة.

* * *

٣٨٤ ـ الشبهة المفهوميّة

المراد من الشبهة المفهوميّة هو الشك الناشئ عن اجمال مفهوم من المفاهيم الواقعة موضوعا أو متعلقا لحكم شرعي ، كما لو وقع الشك فيما هو المراد من مفهوم الفقير الواقع موضوعا لوجوب الصدقة أو فيما هو المراد من مفهوم الغناء الواقع متعلقا للحرمة أو وقع الشك في مفهوم الاستطاعة والتي هي شرط من شرائط وجوب الحجّ أو في مفهوم الساتر والذي هو شرط من شرائط الصحّة في الصلاة وهكذا.

والشبهة الناشئة عن اجمال المفهوم على قسمين :

الاول : هو أن يكون المفهوم دائرا بين معنيين أو معان متباينة.

ومثاله قوله تعالى : ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) (١) ، فإنّ لفظ « القرء » يحتمل معنيين متباينين هما الطهر والحيض.

الثاني : أن يكون المفهوم دائرا بين معنيين أحدهما أعم مطلقا من الآخر أي أحدهما أوسع دائرة من الآخر.

ومثاله قوله تعالى : ( فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً ) (٢) ، فإن مفهوم الصعيد يدور بين السعة والضيق ، إذ انّ المراد منه إما هو مطلق وجه الأرض أو هو خصوص التراب ، فبناء على الاول يكون مفهوم الصعيد أوسع دائرة ممّا لو


كان المراد من مفهوم الصعيد هو المعنى الثاني.

وهناك قسم ثالث يمكن إدخاله في القسم الثاني وهو ما لو دار أمر الشبهة بين معنيين بينهما عموم وخصوص من وجه ، فالتباين في مادتي الافتراق للمعنيين.

ويمكن التمثيل له بمفهوم الغناء ، فلو افترضنا اجماله ودورانه بين معنيين ، الاول هو ترجيع الصوت الموجب للطرب الفعلي ، والثاني هو الترجيع المناسب لمجالس اللهو وأهل الفسوق. فمورد الاجتماع بين هذين المعنيين هو ما لو أوجب ترجيع الصوت الطرب الفعلي مع مناسبته لمجالس اللهو وأهل الفسوق.

وأمّا مورد افتراق المعنى الاول عن الثاني فهو ما لو اتّفق عدم مناسبة ترجيع الصوت لمجالس اللهو رغم انّه موجب فعلا للطرب والخفّة ، وأمّا مورد افتراق المعنى الثاني عن الاول فهو ما لو اتّفق مناسبة الترجيع لمجالس اللهو وأهل الفسوق إلاّ انّه لم يكن موجبا للطرب الفعلي.

فلو كان المعنى الاول هو المتعيّن لكان المورد الثاني ليس غناء محرما ، ولو كان العكس لكان المورد الاول ليس محرما. وتلاحظون انّ منشأ الشك هو اشتباه المفهوم واجماله وانّ نحو الشك ليس هو السعة والضيق وان كان لهذين المفهومين قدرا متيقّنا وهو مورد الالتقاء.

* * *

٣٨٥ ـ الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي

تارة يقع الشكّ في شيء من جهة أنّه واجب أو ليس بواجب ، أو أنّه حرام أو ليس بحرام ، أو أنّه طاهر أو ليس بطاهر وهكذا. والشكّ بهذا النحو يعبّر عنه بالشبهة البدويّة ، وقد أوضحنا ضابطتها تحت عنوان الشبهة البدويّة.

وتارة يقع الشكّ في شيء أنّه واجب مثلا أو ليس بواجب ولكن يقترن بهذا الشكّ علم إمّا بوجوب هذا الشيء أو وجوب شيء آخر. فالشيء الأوّل


وإن كان مشكوك الوجوب إذا لوحظ بقطع النظر عن غيره ولكنّه إذا لوحظ منضما إلى الشيء الآخر تولّد من ملاحظتهما معا علم إجمالي بوجوب أحدهما ، هذه الفرضيّة هي المعبّر عنها بالشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي.

ومنشأ التعبير عنها بالشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي هو أنّ كلّ علم إجمالي منحلّ إلى حيثيّتين ؛ الأولى : هي الشكّ في أطرافه ، والثانية : هي العلم بالجامع بين الأطراف. فهي بلحاظ الحيثيّة الأولى شبهة ، وبلحاظ الحيثيّة الثانية علم. ولمزيد من التوضيح والتفصيل راجع عنوان العلم الإجمالي والتفصيلي.

* * *

٣٨٦ ـ الشبهة الموضوعيّة

المراد من الشبهة الموضوعيّة هي ما يكون متعلّق الشك في موردها عبارة عن انطباق الحكم الكلّي على واقعة شخصيّة ويكون منشأ الشك في مصداقيّة تلك الواقعة لموضوع الحكم الكلّي هو اشتباه الامور الخارجيّة ، فثبوت أصل الجعل للحكم الكلّي على موضوعه محرز والشك انّما هو من جهة مصداقيّة المورد لموضوع الحكم الكلّي نتيجة الجهل بحال المورد.

وبتعبير آخر : انّ متعلّق الشك في الشبهة الموضوعيّة هو الحكم ولكن بمرتبة المجعول والفعليّة وأمّا أصل الجعل فهو محرز ولا شبهة فيه ، وهذا بخلاف الشبهة الحكميّة ، فإنّ أصل الجعل في موردها غير محرز.

وبيان ذلك : انّ الشك قد يكون في أصل جعل الحكم على موضوعه الكلّي ، وهذا هو الشك في الحكم بمرتبة الجعل ، وهو مورد الشبهة الحكميّة ، ومثاله ما لو وقع الشك في جعل الحرمة للعصير العنبي أو جعل الوجوب لصلاة الجمعة ، ويعبّر عن الحكم في مرتبة الجعل بالحكم الكلّي ، وذلك تبعا لموضوعه ، لأنّه عادة ما يجعل على موضوع كلّي مقدر الوجود قابل للانطباق على أفراده الكثيرين ، ومن الواضح انّ كلّيّة القضايا وشخصيتها


تابع لموضوع القضيّة ، فإذا كان موضوعها كليا كان الحكم بتبعها كليا ، وأمّا لو كان شخصيّا فالحكم يكون عندئذ شخصيّا.

ومن هنا قالوا انّ الشك في الشبهات الحكميّة متعلّقه الحكم الكلي ، وذلك لاننا نشك في حكم طبيعة الصلاة والتي هي موضوع كلّي. فالشك في أصل الجعل شك في الحكم الكلي في مرتبة الجعل ، وهو مورد الشبهة الحكميّة.

وقد يكون الشك في الحكم بمرتبة الفعليّة والمجعول وان كان الحكم بمرتبة الجعل محرز ، والشك في الحكم بمرتبة المجعول والفعليّة هو مورد الشبهة الموضوعيّة ، وذلك لأنّ الشك في الفعليّة ينشأ عن الشك في تحقّق موضوع الحكم الكلّي ، فالشك في فعليّة الوجوب للحج على زيد ينشأ عن الشك في استطاعته أو عدمها أي الشك في تحقّق موضوع الوجوب ، وكذلك الشك في حرمة هذا المائع انّما ينشأ عن الشك في خمريته أو عدمها أي الشك في تحقق موضوع الحرمة للخمر ، إذ انّ الشك في مصداقية هذا المائع للخمر معناه الشك في انطباق طبيعة الخمر على هذا المائع.

وتلاحظون انّ الشك في الفعليّة يساوق الشك في الوقائع الخارجيّة الشخصيّة ، وهذا هو معنى انّ الشبهة الموضوعيّة عبارة عن الشك في الواقعة الجزئيّة. لأنّنا حينما نشك في خمريّة هذا المائع أو في دخول الوقت فإنّ معنى ذلك هو الشك في مورد شخصي جزئي راجع « الشكّ في التكليف ».

* * *

٣٨٧ ـ الشبهة الوجوبيّة

المراد من الشبهة الوجوبيّة هي الشبهة التي يكون متعلّقها الوجوب ، وهي تارة تكون حكمية واخرى تكون موضوعيّة.

أمّا الشبهة الوجوبيّة الحكميّة فهي ما لو كان متعلّق الشك هو الوجوب الكلّي ، بمعنى الشك في أصل جعل


الوجوب لطبيعة كليّة ، كما لو وقع الشك في جعل الوجوب لطبيعة صلاة الجمعة.

وأمّا الشبهة الوجوبيّة الموضوعيّة فهي ما لو كان متعلّق الشك هو الوجوب الجزئي ، بمعنى اننا نحرز جعل الوجوب لطبيعة من الطبائع إلاّ انّ الشك في الوجوب نشأ عن عدم احراز مصداقيّة مورد للطبيعة المحرز وجوبها ، فلو كنا نحرز جعل وجوب الصدقة على طبيعة الفقير إلاّ اننا شككنا في وجوب الصدقة على زيد للشك في مصداقيّته لطبيعة الفقير نتيجة الجهل بحالة مثلا ، فالشك ليس في جعل الحكم الكلّي للطبيعة وانّما في انطباق الحكم المعلوم على هذا المورد.

ثمّ انّ الظاهر عدم وقوع خلاف بين الفقهاء في انّ الأصل الجاري في الشبهات الوجوبيّة الأعم من الحكميّة أو الموضوعيّة هو البراءة الشرعية.

راجع « الشبهة الموضوعيّة » « الشك في التكليف » « الشك في المكلّف به ».

* * *

٣٨٨ ـ الشبهة غير المحصورة

العلم الإجمالي قد تكون أطرافه محصورة وقد لا تكون محصورة فمع انحصار أطراف العلم الإجمالي يكون منجّزا لتمام أطرافه ، وأمّا مع عدم الانحصار فقد قيل بسقوط العلم الإجمالي عن المنجّزية ، فالبحث عن العلم الإجمالي من جهتين :

الجهة الاولى : في تحديد ما هو المراد من الشبهة غير المحصورة.

الجهة الثانية : انّ عدم انحصار أطراف الشبهة هل يقتضي سقوط المنجّزية عن العلم الاجمالي؟

وما يدخل في الغرض انّما هو الجهة الاولى ، فنقول : اختلفت الأقوال في تحديد المراد من الشبهة غير المحصورة ، ونحن نستعرض ما عثرنا عليه من أقوال :

الأوّل : الشبهة غير المحصورة هي التي تكون أطرافها كثيرة جدا بحيث لو لاحظنا كل طرف من أطرافها على حدة لوجدنا انّ احتمال كونه هو منطبق


الجامع موهوما.

فالضابطة لكون الشبهة غير محصورة هو ان تكون كثرة الأطراف مؤدية لضعف احتمال مطابقة كلّ طرف عند ملاحظته للواقع ، على أن يكون هذا الاحتمال من الضعف بحيث لا يعتد العقلاء بمثله. وهذا المعنى هو الذي تبناه الشيخ الأنصاري رحمه‌الله.

الثاني : وهو المنسوب للشهيد الثاني والمحقق الثاني وصاحب المدارك رحمهم‌الله انّ ضابطة التعرّف على الشبهة غير المحصورة هو البناء العرفي وانّ كلما عسر عدّ أطرافه عادة فهو شبهة غير محصورة ، فالضابطة هي عسر العدّ والإحصاء لا امتناعه.

الثالث : انّ الشبهة غير المحصورة هي ما كانت موافقتها القطعيّة متعسّرة على المكلّف ، بمعنى انّ الامتثال القطعي الإجمالي بواسطة الإتيان بتمام الأطراف إذا كان متعسرا وكان منشأ العسر هو كثرة الأطراف فالشبهة غير محصورة.

الرابع : وهو المنسوب لكاشف اللثام رحمه‌الله وتبنّاه صاحب مفتاح الكرامة رحمه‌الله ، وحاصله : انّ ضابط الشبهة غير المحصورة هو ما يكون امتثال تمام أطرافها مؤديا لترك الصلاة غالبا ، أو كان امتثال تمام أطرافها مؤديا لترك أكل اللحم ولترك التزويج غالبا.

ولعله يشير بذلك الى انّ أطراف الشبهة إذا كانت من الكثرة بحيث يكون الامتثال لتمام الأطراف مفضيا عادة الى ترك ما ثبت وجوبه أو اباحته أو راجحيته بالضرورة فهي شبهة غير محصورة.

أو لعله يشير الى انّ ضابط التعرّف على الشبهة غير المحصورة هو افتراض اتصالها بشرط من شرائط الصلاة ، فلو كانت حين افتراضها وتنجّزها مؤدية لترك الصلاة غالبا فهي شبهة غير محصورة.

مثلا : لو كان المعلوم بالإجمال هو حرمة واحد من العصيرات الموجودة في البلاد فإنّ هذه الشبهة لا يكون امتثالها مؤديا لترك الصلاة ، فلو ترك


المكلّف تمام أفراد وأنواع العصير فإنّ ذلك لن يؤدي الى ترك الصلاة إلاّ انّه لو استبدلنا متعلّق الشبهة بشيء يتّصل بشرائط الصحّة في الصلاة فإن وجدنا انّ امتثالها يؤدي الى ترك الصلاة فهذه الشبهة تكون غير محصورة كما لو علمنا بغصبيّة بقعة من بقاع الأرض وكانت اطراف الشبهة في تمام بقاع الأرض.

الخامس : انّ الشبهة غير المحصورة هي ما كانت مخالفتها القطعيّة غير ممكنة عادة ، بمعنى انّ المكلّف لو أراد ارتكاب تمام الأطراف ليقطع بعد ذلك بمخالفة الواقع لما كان ذلك ممكنا.

وبهذا تكون الشبهة غير المحصورة مختصّة بالشبهات التحريميّة دون الوجوبيّة ، إذ من الممكن مخالفة الشبهة الوجوبيّة مهما بلغت أطرافها من الكثرة ، وذلك بترك مجموع الأطراف ، وأمّا الشبهة التحريميّة فمخالفتها لا تكون إلاّ بواسطة ارتكاب تمام الأطراف ، فلو كان ارتكابها جميعا ممكنا عادة فهى شبهة محصورة وان لم يكن ممكنا عادة فهي شبهة غير محصورة.

مثلا : لو علمنا بأن احدى أغنام البلد موطوءة للإنسان فإنّ الأكل من كلّ واحدة من أغنام البلد غير ممكن عادة ، ومن هنا تكون الشبهة غير محصورة ، وهذا بخلاف ما لو علمنا بوجوب اطعام واحد معين من فقراء البلد إلاّ انّه غير مشخّص فإنّ المخالفة القطعيّة في مثل هذه الصورة ممكن وذلك بواسطة ترك اطعام كلّ من هو واقع طرفا في الشبهة.

فالشبهة غير المحصورة بناء على هذه الضابطة تكون مختصّة بالشبهات التحريميّة ، إذ هي التي يتصوّر في موردها امكان المخالفة القطعيّة ، وهذا المعنى ذهب اليه المحقّق النائيني رحمه‌الله.

السادس : انّ الضابط في الشبهة غير المحصورة هو الصدق العرفي ، وهو يختلف باختلاف موارد الشبهة ، فقد تكون شبهة ذات أطراف كثيرة بحيث يعسر عدّها ومع ذلك لا يرى العرف انّها غير محصورة ، كما لو علمنا باشتمال


صبرة من رز على حبة مغصوبة ، وقد تكون شبهة لا يعسر عد أطرافها ومع ذلك تكون غير محصورة بنظر العرف.

* * *

٣٨٩ ـ شرائط الجعل والمجعول

شرائط الجعل هي الملاكات المقتضية لجعل الاحكام على موضوعاتها المقدرة الوجود ، وهذا معناه انّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها ، فجعل الحكم ينشأ عن ملاك في متعلقه ، هذا الملاك هو المعبّر عنه بشرط الجعل.

ومن هنا لا تكون شرائط الجعل قابلة للجعل والاعتبار ، إذ انّها عبارة عن المصلحة والمفسدة والشوق والإرادة والكراهة وهي امور واقعيّة تكوينيّة لا تخضع للجعل.

وأمّا شرائط المجعول فهي عبارة عن الموضوعات المجعول عليها الأحكام التكليفيّة والوضعيّة ولكن بوجوداتها الخارجيّة ، فوجود الموضوعات خارجا يؤثر في تحقق الفعليّة لهذه الأحكام فهو بمثابة العلة للحكم بمرتبة المجعول ، أي هو بمثابة العلة لوصول الحكم مرحلة الفعليّة.

ومثال ذلك البلوغ والعقل والاستطاعة بالنسبة للحج ، فإنّ وجوب الحج لا يكون فعليا إلاّ بذلك ، وهكذا الإيجاب والقبول بالنسبة للملكيّة والزوجيّة ، فإنهما وبوجودهما الخارجي يؤثران في تحقق الملكيّة والزوجيّة.

ثمّ انّه تعارف اطلاق شرائط المجعول على ما اعتبر وجوده مع الموضوع دخيلا في تحقق الفعليّة للحكم ، فكأنما شرائط المجعول خاصة بالقيود الدخيلة في تحقق الفعليّة للحكم ولا تشمل الموضوعات إلاّ انّ ذلك غير مراد منهم ، فشرائط المجعول هو كلّ ما يكون دخيلا في تحقّق الفعليّة للحكم ، فلا يختصّ بالقيود.

وبتعبير آخر : انّ شرائط المجعول هي موضوعات الأحكام بوجودها الخارجي ، والمقصود من الموضوعات هو كلّ ما اعتبر دخيلا في تحقق الفعليّة


للحكم ، فالقيد المعتبر دخيلا مع الموضوع في تحقق الفعليّة جزء الموضوع روحا وواقعا.

ولمزيد من التوضيح راجع عنوان « الشرطيّة والسببيّة والمانعيّة ».

* * *

٣٩٠ ـ شرط الاتّصاف

إذا كان الشيء دخيلا في اتّصاف الفعل بالملاك والمصلحة فهو من شروط الاتّصاف أيّ من شروط اتّصاف الفعل بالملاك.

فالدواء مثلا يكون نافعا للمريض دون غيره ، فحينما لا يكون الشخص مريضا فإنّ الدواء لا يكون نافعا له بل قد يكون ضارّا له ، فالمرض إذن دخيل في اتّصاف شرب الدواء بالمصلحة ، لذلك كان المرض شرط في الاتّصاف ، أي شرط في اتّصاف شرب الدواء بالمصلحة والملاك.

وكذلك بالنسبة للشراب المسكر فإنّ اتّصاف شربه بالمفسدة نشأ عن إسكاره ، فالإسكار إذن من شروط الاتّصاف بالملاك.

ولأنّ أحكام الله عزّ وجلّ تابعة للملاكات وجودا وعدما كان ذلك مقتضيا لأن تكون شروط الاتّصاف بالملاك دخيلة في ثبوت الحكم لموضوعه ، بمعنى أنّ الموضوع إذا انتفى عنه الملاك فإنّ ذلك ينتج انتفاء الحكم عنه.

ولأنّ إرادة جعل الحكم على موضوعه منوطة بإدراك اشتمال الموضوع على الملاك كان ذلك معناه أنّ شرط الاتّصاف دخيل بوجوده العلمي في انقداح الإرادة لجعل الحكم.

فما لم يعلم باتّصاف الموضوع بالملاك فإنّه لن تنقدح في نفسه إرادة جعل الحكم ، فشرط الاتّصاف دخيل في تحقّق الإرادة لجعل الحكم ولكن بوجوده العلمي ، بمعنى أنّ الشيء قد يكون واجدا للملاك إلاّ أنّه لا ينتج انقداح الإرادة للحكم لعدم العلم باتّصاف الموضوع بالملاك ، فشرط الاتّصاف دخيل في انقداح الإرادة ولكن لا بوجوده الخارجي بل وجوده العلمي.


ولذلك لا تحصل للمريض إرادة لشرب الدواء إذا لم يكن يعلم أنّه مريض وقد يريد شرب الدواء لا لأنّه مريض واقعا بل لتوهّمه بأنّه مريض.

ولأنّ شرط الاتّصاف دخيل بوجوده العلمي في انقداح الإرادة كان ذلك مقتضيا لأن يكون دخيلا في جعل الحكم على موضوعه لأنّ جعل الحكم على موضوع مقدّر لا يكون إلاّ عن إرادة الجعل وإرادة الجعل متوقّفة على إدراك اتّصاف الموضوع ـ المراد جعل الحكم عليه ـ بالملاك.

ولأنّ الحكم قد جعل على موضوع قدّر له أن يكون متّصفا بالملاك كان ذلك معناه توقّف فعليّة الحكم على وجود الموضوع المتّصف بالملاك خارجا.

فالنتيجة أنّ شرط الاتّصاف بالملاك دخيل في إرادة الحكم وجعله وفعليّته ، فهو دخيل بوجوده العلمي في الإرادة والجعل ودخيل بوجوده الخارجي في الحكم بمرتبة المجعول والفعليّة.

* * *

٣٩١ ـ شرط الترتّب

المراد من شرط الترتّب هو كلّ شرط يتوقّف استيفاء الملاك والمصلحة عليه.

فالمصلحة المشتمل عليها الموضوع والتي كانت سببا في جعل الحكم عليه قد لا يمكن تحصيلها واستيفاؤها إلاّ على تقدير خاصّ ، هذا التقدير الخاصّ والمعيّن هو الذي يعبّر عنه بشرط الترتّب أي شرط ترتّب المصلحة من الفعل.

فالدواء مثلا يكون واجدا للمصلحة بالنسبة لخصوص المريض ، لذلك كان المرض من شروط اتّصاف الدواء بالمصلحة إلاّ أنّ هذه المصلحة المشتمل عليها الدواء قد لا يمكن استيفاؤها منه إلاّ حينما يشربه المريض بكيفيّة خاصّة ، فحينما لا يلتزم المريض بهذه الكيفيّة فإنّ المنفعة المنتظرة من الدواء لا تترتّب ولا تتحقّق. وهذا لا يعني أنّ الدواء ليس ذا مصلحة ، فهو واجد لها بقطع النظر عن استعمال


المريض وعدم استعماله إلاّ أنّه إذا أراد الانتفاع منه لزمه استعماله بكيفيّة خاصّة كأن يشربه قبل النوم أو بعد الطعام ، هذه الكيفيّة هي المعبّر عنها بشرط الترتّب.

وبذلك يتّضح أنّ شرط الترتّب لا يكون دخيلا في وجود الملاك ، لأنّ اشتمال الموضوع على الملاك ثابت بقطع النظر عن شرط الترتّب ، أي اتّصاف الدواء بالمصلحة ثابت بقطع النظر عن استعمال المريض له بالكيفيّة الخاصّة أو عدم استعماله.

وكذلك لا يكون شرط الترتّب دخيلا في انقداح الإرادة في النفس للقيام بالفعل الواجد للملاك ، بل إنّ المريض أو المشرّع تحصل منه الإرادة بقطع النظر عن شروط الترتّب.

وهكذا الحال فيما يتّصل بالحكم بمرتبة الجعل ، فالمولى ينشئ جعل الحكم على الفعل الواجد للملاك دون تقييده بشروط الترتّب ، وإذا تحقّق موضوع الحكم خارجا أصبح الحكم فعليّا حتّى حينما تكون شروط الترتّب غير متحقّقة ، غايته أنّ الامتثال لا يكون إلاّ حينما يحصّل العبد شروط الترتّب.

وبذلك يتّضح أنّ شروط الترتّب هي المعبّر عنها بقيود الواجب. فالصلاة عند الزوال مثلا لمّا كانت واجدة للملاك كان ذلك سببا في إرادة جعل الوجوب عليها وسببا في إنشاء الوجوب ، وكان تحقّق الزوال خارجا سببا في صيرورة الوجوب فعليّا.

إلاّ أنّ استيفاء الملاك من الصلاة لا يتمّ إلاّ حينما يكون المكلّف متطهّرا ، فالطهارة هي شرط الترتّب لكن ذلك لا يعني كونها سببا في اشتمال الصلاة على المصلحة بل إنّ الصلاة واجدة للمصلحة بقطع النظر عن امتثال المكلّف وعدم امتثاله وبقطع النظر عن تحصيل المكلّف للطهارة وعدم تحصيله لها ، ولذلك فهي ليست سببا في إرادة إنشاء الجعل وليست سببا في الجعل كما أنّها ليست سببا في تحقّق الفعليّة لوجوب الصلاة ، فالمكلّف مسئول عن الصلاة عند تحقّق الزوال


بقطع النظر عن تحصيل الطهارة ، نعم هو إذا أراد الخروج عن عهدة التكليف فلا بدّ وأن يأتي بحصّة خاصّة للصلاة وهي الصلاة عن طهارة.

فشروط الترتّب تنتج تحصيص المطلوب بحصّة خاصّة وهي الحصّة الواجدة لتلك الشروط ، لذلك يجب على المكلّف ـ حين يصبح التكليف فعليّا ـ السعي لتحصيل شروط الترتّب حتّى يتمكّن من تحصيل المطلوب ( الواجب ).

وخلاصة الكلام أنّ شروط الترتّب هي قيود الواجب التي يلزم المكلّف تحصيلها.

* * *

٣٩٢ ـ الشرط المتقدم والمتأخر والمقارن

ذكروا انّ القيود أو قل المقدمات الخارجيّة تنقسم الى ثلاثة أقسام ، قيود مقارنة وقيود متقدّمة وقيود متأخرة ، ويعبّر عن الاولى بالشرط المقارن وعن الثانية بالشرط المتقدّم وعن الثالثة بالشرط المتأخّر ، وهذا التقسيم تقسيم لقيود الوجوب « الحكم » ولقيود الواجب أي متعلّق الحكم.

والمراد من الشرط المقارن هو القيد المأخوذ بنحو يكون متحدا زمانا مع المقيد ، وهو تارة يكون راجعا الى الحكم واخرى يكون راجعا الى متعلّق الحكم ، فالقيد أو الشرط الراجع للحكم هو القيد الذي يكون تحقّقه موجبا لتحقّق الفعليّة للحكم بحيث لا تكون ثمة فاصلة زمنيّة بين تحقّق القيد خارجا وبين تحقق الفعليّة للحكم.

ويمكن التمثيل لذلك بزوال الشمس بالنسبة لوجوب صلاة الظهر.

والشرط المقارن الراجع لمتعلّق الحكم هو القيد المأخوذ على نحو تكون صحة الواجب منوطة بتواجده في زمان أدائه بمعنى أن لا يكون الواجب فاقدا للشرط حين أدائه.

ويمكن التمثيل للشرط المقارن للواجب بالاستقبال والساتر والكون


على طهارة ، فإنّ كل هذه الشروط من الشروط المقارنة للصلاة والتي هي متعلّق الحكم بوجوب الصلاة.

وأمّا المراد من الشرط المتقدّم فهو القيد الذي أخذ بنحو يكون متقدّما على المقيّد ، أي يلزم أن يكون وجوده قبل وجود المقيّد به ، وهو أيضا تارة يكون راجعا الى الحكم واخرى يكون راجعا لمتعلّق الحكم.

فالقيد أو الشرط المتقدّم الراجع للحكم هو القيد الذي افترض على نحو تكون فعليّة الحكم متأخرة عنه. ومثاله الاستطاعة بناء على انّ الفعلية لوجوب الحج انّما تكون بعد تحقق أشهر الحج.

والشرط المتقدم الراجع لمتعلّق الحكم هو القيد الذي أخذ على نحو يكون متقدما على أداء الواجب بحيث لا يكون المتعلّق واجدا لشرط الصحة ما لم يتحقّق القيد أولا.

ومثاله الطهارات الثلاث بالنسبة للصلاة والطواف ، فإنّها اخذت متقدّمة عليهما.

وأمّا الشرط المتأخّر فهو القيد الذي أخذ على نحو يكون متأخرا عن زمان المقيّد.

فالشرط المتأخر الراجع للحكم هو القيد المتأخر زمانا عن الحكم والموجب لفعليّته من حين وقوع متعلّقه ، ويمكن التمثيل له بعقد الفضولي بناء على الكشف الحقيقي ، وذلك لأنّه بناء على الكشف تكون إجازة المالك موجبة لنفوذ العقد من حين وقوعه ، فتكون الإجازة المتأخرة شرطا في نفوذ ما وقع من عقد في زمن متقدم ، بمعنى انّ الشارع اعتبر نفوذ العقد متحققا من أول وقوع العقد متى ما تحققت الإجازة المتأخرة ، فتكون الإجازة من الشروط الراجعة للحكم.

وبتعبير آخر : تكون الإجازة من الشروط الراجعة للحكم بصحّة العقد والذي هو حكم وضعي ، والتي تعني اعتبار الشارع ترتب الأثر ، وقد قلنا في بحث الصحّة انّ الصّحة في المعاملات تعني اعتبار الشارع ترتب


الأثر على المعاملة.

أمّا الشرط المتأخّر الراجع لمتعلّق الحكم فهو القيد الذي اخذ على نحو يكون متعلّق الحكم منوطا أداؤه على الوجه المطلوب بتحقق ذلك القيد متأخرا عن تحقق المتعلّق « الواجب ».

ويمكن التمثيل له بغسل المستحاضة الليلي ، فإنّه شرط في صحّه الصوم الواقع في النهار المتقدّم ، والمراد من الصحّة هنا هو مطابقة المأتي به للمأمور به ، فلا تتحقّق مطابقة الصوم المأتي به للمأمور به ما لم تغتسل المستحاضة في الليل الذي صامت نهاره.

هذا هو حاصل المراد من الشروط المتقدّمة والمقارنة والمتأخّرة.

* * *

٣٩٣ ـ الشرط المسوق لبيان تحقّق الموضوع

يتمّ البحث في علم الأصول عن هذا العنوان عند التصدّي لبيان ما ينتج المفهوم في الجمل الشرطيّة ، وقد أفيد هناك أنّ الجملة الشرطيّة لا تكون ظاهرة في المفهوم إلاّ حينما يكون موضوع الحكم متقرّرا أو منحفظا بقطع النظر عن الشرط.

وبيان ذلك :

أنّ الشرط في الجملة الشرطيّة على قسمين :

القسم الأوّل : هو الشرط الذي يثبت لموضوع الحكم مع إمكان زواله عن الموضوع ورغم ذلك يبقى الموضوع منحفظا.

وبتعبير آخر : يكون الشرط واسطة في ثبوت الحكم للموضوع المتقرّر في مرحلة سابقة عن عروض الشرط عليه ، فلذلك لا يكون للشرط دخل في وجود الموضوع ، بل إنّه إذا اتفق عروضه على الموضوع يثبت الحكم للموضوع ، مثلا : « إذا كان زيد فقيرا فتصدّق عليه » فوجوب التصدّق ثبت لموضوعه وهو زيد بواسطة عروض الشرط عليه ، وهذا الموضوع متقرّر وثابت بقطع النظر عن


الشرط ، فهو لا يساوي الشرط وجودا وعدما ، فقد يوجد زيد ولا يكون فقيرا ، وقد يثبت له الفقر ثمّ يزول عنه.

فإذا كانت علاقة الشرط بموضوع الحكم من هذا القبيل فالجملة الشرطيّة لها مفهوم.

القسم الثاني : هو الشرط الذي يكون مساويا لموضوع الحكم وجودا وعدما ، فحيثما وجد الشرط وجد معه الموضوع ، وحيثما انعدم الشرط انعدم معه الموضوع ، فليس للموضوع تقرّر وثبوت في صورتي وجود الشرط وعدمه ، وهذا النحو من الشروط في الجمل الشرطيّة هو المعبّر عنه بالشرط المسوق لبيان تحقّق الموضوع ، وهو قد يكون غير الموضوع إلاّ أنّه مساو للموضوع في الوجود والعدم وقد يكون هو عين الموضوع ، وفي كلا الحالتين لا يكون للجملة الشرطيّة مفهوم وذلك لأنّ المفهوم ـ كما قلنا ـ هو انتفاء الحكم عن الموضوع عند انتفاء الشرط ، فإذا كان الموضوع منتفيا بانتفاء الشرط أو كان الشرط هو الموضوع فأيّ موضوع نبحث عن انتفاء الحكم عنه ، وهل هو إلاّ من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع.

وبعبارة أخرى : إنّ الثمرة التي نستفيدها من المفهوم هي أنّ الحكم في ظرف انتفاء الشرط منتف عن الموضوع فإذا لم يكن هناك موضوع في ظرف انتفاء الشرط فلا حاجة للمفهوم في إثبات انتفاء الحكم لأنّ الحكم في مثل هذه الحالة منتف حتما لتبعيّة الأحكام لموضوعاتها ثبوتا وانتفاء ، نعم لو كان للموضوع تقرّر وثبوت حتّى في ظرف انتفاء الشرط يكون للمفهوم فائدة إذ قد ينتفي الشرط ولا ينتفي الحكم عن الموضوع فيكون دور المفهوم هو إثبات انتفاء الحكم عن موضوعه في ظرف انتفاء الشرط.

ويمكن التمثيل للشرط المساوي للموضوع بهذا المثال : « إن رزقت ولدا فاختنه » فإنّ الموضوع مساو للشرط المعلّق عليه الأمر بالختن وهو


أن يرزق المكلّف ولدا.

فإنّ عدم رزق الله المكلّف للولد معناه عدم الولد أي عدم الموضوع ، وبهذا ينتفي الحكم وهو الأمر بالختن بانتفاء موضوعه وهو الولد ، وذلك لتبعيّة الأحكام لموضوعاتها وليس انتفاء الحكم بسبب المفهوم إذ أنّ المفهوم هو انتفاء الحكم عن الموضوع الموجود عند انتفاء الشرط.

* * *

٣٩٤ ـ الشرط من أجزاء العلّة

ذكروا انّ أجزاء العلّة أربعة ، المعد والشرط والمقتضي وعدم المانع ، ونبيّن في المقام المراد من الشرط.

ذكر الفلاسفة انّ الشرط عبارة عن الكيفيّة الخاصّة التي اذا توفّر عليها المقتضي أثّر أثره ، بمعنى انّ الشيء قد يكون له اقتضاء التأثير شأنا إلاّ انّ فعليّة تأثيره تكون منوطة بتكيفه بكيفيّة خاصة ، هذه الكيفيّة هي المعبّر عنها بالشرط.

ويمكن التمثيل لذلك بالفاعل المختار ، فإنّه بنفسه مقتض لصدور الفعل الاختياري عنه إلاّ انّ فعليّة صدور الفعل منه عن اختيار منوطة بالعلم ، فلا بدّ أولا من تصوّر الفعل وتصوّر فائدته ثم التصديق والإذعان بذلك ، وعندئذ يؤثر المقتضي ـ وهو فاعليّة الفاعل ـ أثره والذي هو الفعل الاختياري ، وكلّ فعل يصدر عن الإنسان لا يكون عن علم لا يكون فعلا اختياريا ، ولهذا لا يقال عن حركة النائم انّها اختياريّة.

كما انّ الشرط قد يطلق على الشيء الموجد للكيفيّة الخاصة المصحّحة لتأثير المقتضي لأثره ، فيطلق الشرط على تقريب الخشبة من النار حتى تؤثر النار أثرها ، وهو الإحراق.

ثم انّهم قد ذكروا للشرط قسمين :

القسم الأول : الشرط من جهة الفاعل ، وهو الموجب لفعليّة تأثير الفاعل أثره ، فالشيء الذي إذا توفر عليه الفاعل صار قادرا على إيجاد أثره هو المعبّر عنه بالشرط من جهة الفاعل أو شرط فاعليّة الفاعل.


ومثاله : الضوء بالنسبة للعين فإنّه شرط فاعليتها للرؤية ، فالعين لا تؤثر أثرها وهو الرؤية ما لم تكن ثمّة اضاءة ، ومن هنا قالوا انّ الشرط مكمل لفاعليّة الفاعل.

القسم الثاني : الشرط من جهة القابل ، والقابل هو المحل الذي يستقبل الفيض من العلّة. والشرط من جهة القابل هو الشيء الذي إذا توفر عليه القابل صار مؤهلا لاستقبال الفيض من العلة ، ويمكن التمثيل له بيبوسة الخشبة ، فالخشبة هي القابل للاحتراق واليبوسة شرط في تأهّل الخشبة للاحتراق.

والمتحصّل انّ الشرط هو المصحّح لفاعليّة الفاعل أو قابليّة القابل ، ولذلك لا يلزم أن يكون وجوده مزامنا لوجود المعلول ، فقد يتقدم الشرط زمانا على المعلول ، وهذا لا يعني تخلّف المعلول عن علته ، إذ انّ الذي يلزم أن يكون مزامنا لوجود المعلول ويكون تقدّمه زمانا على وجود المعلول موجبا لتخلّف المعلول عن علته هو الجزء الاخير من العلة كما أفاد ذلك السيد الخوئي رحمه‌الله.

* * *

٣٩٥ ـ الشرطية والسببيّة والمانعيّة

ذكر الشيخ صاحب الكفاية رحمه‌الله انّ الشرطية والسببيّة والمانعيّة الراجعة للتكليف غير قابلة للجعل لا بنحو الاستقلال ولا بالتبع ، ومن هنا لا تكون من الأحكام الوضعيّة.

وأورد عليه السيد الخوئي رحمه‌الله بأنّ ذلك انّما يتم في أسباب وشرائط وموانع الجعل فإنّها امور واقعيّة ثابتة في نفس الأمر ولا تخضع للجعل والاعتبار ، وذلك لأنّ أحكام الله جلّ وعلا تابعة للمصالح والمفاسد والملاكات الواقعيّة ، فاشتمال فعل على مصلحة واقعيّة يكون سببا في جعل حكم متناسب مع مستوى المصلحة المشتمل عليها ذلك الفعل على أن لا يكون ثمة مانع يزاحم تلك المصلحة المتعلّقة بالفعل ، ولو كانت تلك المصلحة منوطة بشرط واقعي فإنّ


جعل الحكم على ذلك الفعل منوط بتوفره على الشرط.

فإذن أسباب وموانع وشرائط الجعل امور تكوينيّة واقعيّة غير قابلة للجعل والاعتبار فلا تكون من سنخ الأحكام الوضعيّة إلاّ انّ دعوى صاحب الكفاية رحمه‌الله لا يمكن قبولها في أسباب وشرائط وموانع المجعول أي الحكم بمرتبة الفعليّة ، فإنّه لا ريب في كونها من المجعولات الشرعيّة.

وبيان ذلك : انّ فعليّة التكليف منوطة بتحقّق موضوعه خارجا ، وذلك مستفاد من جعل الأحكام على نهج القضايا الحقيقيّة ، بمعنى جعلها على موضوعاتها المقدرة الوجود ، وهذا يقتضي اعتبار الشارع الحكم على عهدة المكلف في ظرف تحقّق موضوعه خارجا ، إذ انّ الشارع لاحظ الموضوع وقدّره وجعل عليه الحكم واعتبر المكلّف مسئولا عن امتثال الحكم لو اتّفق تحقّق الموضوع ـ المقدر ـ خارجا.

فمسئوليّة المكلّف عن الحكم في ظرف تحقّق الموضوع خارجا انّما نشأ عن اعتبار الشارع ، وحينئذ نقول : ان الشارع قد يعتبر الحكم بمجرّد تحقق الموضوع خارجا ، وهذا هو معنى اطلاق الحكم والتكليف ، وقد يعتبر الحكم على المكلّف في ظرف اشتمال الموضوع على قيد زائد ، وهذا القيد هو المعبّر عنه بالشرط والذي يقتضي أن يكون الحكم مقيدا بعد أن كان مطلقا في الفرض السابق. وقد يعتبر الحكم على المكلّف في ظرف انعدام شيء عن الموضوع ، أي في ظرف عدم اتّصاف الموضوع بشيء ، وهذا هو المانع الموجب لكون الحكم مقيدا بعدم وجود ذلك الشيء مع الموضوع.

فالمتصف بالإطلاق والتقييد بالشرط أو المانع هو الحكم في مرتبة الفعليّة ، ولاحظتم انّ ذلك انّما نشأ عن اعتبار الشارع ، وهذا هو المصحّح لدعوى انّ الشرطيّة والمانعيّة من المجعولات الشرعيّة حيث اتّضح ممّا تقدم انّ الشرطيّة والمانعيّة ليستا أكثر من اعتبار فعليّة التكليف مقيّدة


بوجود شيء مع الموضوع أو بانعدام شيء عن الموضوع.

فالشرطيّة والمانعيّة منتزعتان عن اعتبار الشارع فعليّة الحكم منوطة بوجود شيء مع الموضوع أو عدم شيء عن الموضوع ، فحينما يقول الشارع « المكلّف المستطيع يجب عليه الحج » ينتزع العقل عن ذلك شرطيّة الاستطاعة لتحقّق الفعليّة للحج ، فالشرطيّة انتزعت عن اعتبار الفعليّة لوجوب الحجّ منوطة باتّصاف الموضوع « المكلّف » بالاستطاعة.

وحينما يقول الشارع « المرأة الحائض لا تجب عليها الصلاة » ننتزع عن ذلك مانعيّة الحيض لفعليّة الوجوب للصلاة ، فالمانعيّة انتزعت عن اعتبار الشارع الفعليّة لوجوب الصلاة منوطة بعدم التحيض للمرأة والتي هي موضوع التكليف.

ثم انّه لا فرق بين الشرطيّة والسببيّة فكلاهما يعبّران عن معنى واحد ، غايته انّ الفقهاء يستعملون الشرطيّة في القيود المأخوذة في الأحكام التكليفيّة ويستعملون السببيّة في القيود المأخوذة في الأحكام الوضعيّة ، بمعنى انّ الحكم اذا كان من سنخ الأحكام التكليفيّة فكلّ شيء اعتبر دخيلا في تحقق الفعليّة لذلك الحكم يعبّر عنه بالشرط ، ولهذا يعبرون عن الاستطاعة ودخول الوقت بالشرط.

أما لو كان الحكم من سنخ الأحكام الوضعيّة فكلّ شيء اعتبر دخيلا في تحقق الفعليّة لذلك الحكم يعبّر عنه بالسبب ، ولهذا يعبّرون عن الحيازة بأنّها سبب للملكيّة وبأنّ موت المورّث سبب لاستحقاق الوارث للميراث وانّ غسل الأخباث سبب في التطهير وهكذا.

والمتحصّل انّ السببيّة والشرطيّة والمانعيّة الراجعة للحكم بمرتبة المجعول أحكام وضعيّة ، والأول والثاني منتزعان عن اعتبار الشارع التكليف منوطا بوجود شيء في الموضوع ، والمانعيّة منتزعة عن اعتبار التكليف منوطا بعدم شيء مع الموضوع.


هذا بالنسبة للشرطيّة والسببيّة والمانعيّة الراجعة للحكم ، وأمّا ما هو الراجع منها للمكلّف به « متعلّق الحكم » فهي منتزعة عن اعتبار شيء في المكلّف به أو اعتبار عدمه فيه ، فحينما يقول الشارع « صلّ عن ساتر واستقبال » فإنّ العقل ينتزع عن ذلك شرطيّة الاستقبال للصلاة ، فالشرطيّة انتزعت عن اعتبار شيء في المأمور به وهي الصلاة.

وحينما يقول الشارع « لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه » ينتزع العقل عن ذلك مانعيّة الاشتمال على ما لا يؤكل لحمه للمأمور به.

* * *

٣٩٦ ـ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني

المراد من الشغل اليقيني هو العلم باشتغال الذمة بالتكليف ، وهذا لا يكون إلاّ في حالات العلم بوصول التكليف مرحلة الفعليّة ، إذ انّ العلم بالتكليف بمرتبة الجعل لا يقتضي العلم باشتغال الذمّة ، وذلك لأنّ العلم بالتكليف بمرتبة الجعل معناه العلم بجعل التكليف على موضوعه المقدّر الوجود ، والموضوع بوجوده العلمي التصوري لا يستوجب اشتغال الذمّة بالحكم المجعول عليه ، فالاشتغال اليقيني منوط بالعلم بوصول التكليف لمرحلة الفعليّة ، ولا يصل التكليف لمرحلة الفعليّة ما لم يعلم المكلّف بتحقّق موضوع التكليف خارجا.

والمقصود من العلم بالتكليف والعلم بوصوله لمرحلة الفعليّة هو الأعم من العلم التفصيلي والعلم الإجمالي ، فلو علم المكلّف بالتكليف وعلم بوجود موضوعه خارجا إلاّ انّ الموضوع تردد بين طرفين أو أكثر فإنّ التكليف حينئذ يكون فعليا ، إذ لا يعتبر في فعليّة التكليف تشخيص الموضوع بل يكفي العلم بوجوده خارجا ولو لم يكن متشخصا لدى المكلّف.

فلو علم المكلّف بوجوب اطعام الفقير وعلم بوجود الفقير خارجا إلاّ


انّه مردد بين خمسة أشخاص فإنّه لا ريب في تحقق الفعليّة لوجوب الإطعام ، وذلك للعلم بتحقّق موضوعه خارجا وهو وحده مناط الفعليّة.

وبهذا يتّضح انّ المراد من الشغل اليقيني هو العلم باشتغال الذمة من غير فرق بين أن يكون العلم تفصيليّا أو اجماليا.

وأمّا المراد من قولهم « يستدعي الفراغ اليقيني » فهو اقتضاء الشغل اليقيني للخروج عن عهدة التكليف يقينا ، بمعنى انّ اشتغال الذمّة بالتكليف يقينا يقتضي عقلا الامتثال القطعي ، فلا مخرج عن التكليف اليقيني إلاّ الامتثال اليقيني.

وأمّا منشأ الاستدعاء والاقتضاء فهو ما يدركه العقل من منجزية التكليف المحتمل إذا لم يكن ثمّة مؤمن عقلي أو شرعي عنه ، ومن الواضح انّ الاصول المؤمنة كالبراءة الشرعيّة والعقليّة لا تجري في مورد القطع بفعليّة التكليف والشك في الخروج عهدته.

وأمّا مورد القاعدة فهو ما لو كان الشك من جهة تحقّق الامتثال مع القطع بأصل التكليف وفعليّته أو ما يقوم مقام القطع من أمارات معتبرة ، والمراد من القطع بأصل التكليف هو الأعم من القطع التفصيلي والقطع الإجمالي. ويتّضح ذلك بملاحظة ما ذكرناه تحت عنوان « الشك في المكلّف به ».

* * *

٣٩٧ ـ الشك

يستعمل الأصوليين عنوان الشك في مطلق الاحتمال الذي لم يرق لمستوى الظن المعتبر ، وبذلك يكون الشك في استعمالاتهم صادقا على الشك المنطقي والذي تتساوى فيه كفتا الاحتمال ، كما هو صادق على الاحتمال المنطقي والذي هو الطرف الأضعف من الاحتمالين المتقابلين ، كما أنه يصدق على بعض أفراد الظن المنطقي والذي هو الطرف الأقوى من الاحتمالين المتقابلين ، نعم الشك الأصولي متباين


للظن المعتبر أعني الظن الذي قام الدليل القطعي على حجّيته ومنجزيّته واعتباره كاشفا عن الواقع.

وفي كل مورد استعمل فيه الأصوليين الشك في مقابل الظن المنطقي فإنه يكون مكتنفا بقرينة تدل على ذلك وإلاّ فالمتعارف في استعمالاتهم هو إطلاق عنوان الشك على مطلق الاحتمال الذي لم يرق لمستوى الظن المعتبر.

* * *

٣٩٨ ـ الشك الساري والشك الطارئ

وقد أوضحنا المراد منهما تحت عنوان « قاعدة اليقين » وعنوان « اليقين والشك ».

* * *

٣٩٩ ـ الشك بين الجزئيّة والمانعيّة

وتصوير هذه الحالة هو انّه قد يتّفق العلم باعتبار شيء في مركب واجب إلاّ انّ الشكّ يقع من جهة انّ المعتبر هل هو وجوده أو انّ المعتبر هو عدمه ، فهنا علم اجمالي جامعه هو اعتبار ذلك الشيء ، ومتعلّقه مردد بين طرفين ، إمّا اعتبار الوجود وامّا اعتبار العدم ، فلو كان المعتبر واقعا هو الوجود فهذا معناه جزئيّة ذلك الشيء للمركب الواجب ، ولو كان المعتبر هو العدم فهذا معناه مانعيّة وجود ذلك للواجب ، ومن هنا عبّر عن هذه الحالة بالشك بين الجزئيّة والمانعيّة.

ومثاله : ما لو علم المكلّف باعتبار السورة في الصلاة إلاّ انّه شكّ من جهة انّ المعتبر هل هو وجود السورة في الصلاة أو انّ المعتبر هو عدم السورة في الصلاة فيكون وجودها مانعا عن صحّة الصلاة ، وقد تعرضنا لهذا البحث تحت عنوان « دوران الأمر بين الشرطيّة والجزئيّة والمانعيّة ».

وكيف كان فلا إشكال في عدم وجوب الموافقة القطعيّة لو اتّفق ان كان للواجب حصّة واحدة ، أي ليس ثمّة حصّة اخرى للواجب لا في طولها ولا في عرضها ، كما لو اتّفق ضيق


الوقت بحيث لا يسع إلاّ لصلاة واحدة ، فالمتعيّن في مثل هذه الصورة هو الموافقة الاحتماليّة بلا إشكال.

انّما الإشكال فيما لو كان للواجب أكثر من حصّة كأن كان الوقت يتّسع لأكثر من صلاة ، فهل المتعيّن على المكلّف حينئذ هو الموافقة القطعيّة بواسطة تكرار الصلاة مرّتين وتكون احداهما مشتملة على السورة والاخرى فاقدة لها ، أو انّ وظيفته في مثل هذه الحالة هي الموافقة الاحتماليّة أيضا؟

ذهب السيّد الخوئي رحمه‌الله الى لزوم الاحتياط بتكرار العمل ، وذلك لتمكن المكلّف في هذا الفرض من الموافقة القطعيّة ومن المخالفة القطعيّة ، أمّا الموافقة القطعيّة فتحصل بتكرار العمل ، وأمّا المخالفة القطعيّة فتحصل بترك العمل رأسا ، وعندئذ تكون أركان منجّزيّة العلم الإجمالي تامّة.

وفي مقابل هذا الدعوى ذهب بعض الاعلام رحمه‌الله الى عدم منجّزية العلم الإجمالي في المقام ، وذلك لعدم قدرة المكلف على المخالفة القطعيّة لافتراض انّ متعلّق العلم الإجمالي مردد بين الوجود والعدم ، وهذا معناه التردد بين وجوب الفعل أو وجوب الترك ، ومن الواضح انّ المكلّف لا يتمكّن معه من المخالفة القطعيّة ، فإمّا ان يفعل وامّا لا يفعل ، وإذا كان كذلك فالأصل الجاري في المقام هو البراءة.

* * *

٤٠٠ ـ الشك في التكليف

المراد من الشك في التكليف هو الشك في الحكم الشرعي ، غايته انّ الشك في الحكم الشرعي تارة يكون شكا في أصل الجعل واخرى يكون الشك في المجعول ، بمعنى انّ الشك تارة يكون شكا في جعل الشارع حكما لموضوع وهو مورد الشبهة الحكميّة ، واخرى يكون شكا في تحقق موضوع الحكم خارجا مع احراز جعله لموضوعه ، وهذا معناه الشك في بلوغ الحكم ـ المعلوم جعله ـ مرحلة الفعليّة ، وهذا لا يكون إلاّ من جهة


الجهل بحال مورد الشك وانّه مصداق لموضوع الحكم أولا ، كالشك في خمريّة هذا السائل ، فإنّه وان كان الحكم بحرمة الخمر محرزا إلاّ انّ الشك في حرمة هذا السائل نشأ عن الشك في مصداقيّة هذا السائل للخمر. ومن هنا كان الشك في حرمة هذا السائل شكا في فعليّة حرمة الخمر ، وهذا هو مورد الشبهة الموضوعيّة.

فمتعلّق الشك في الشبهة الحكميّة والموضوعيّة هو الحكم والتكليف ، غايته انّ الشك في مورد الشبهة الحكميّة هو الحكم بمرتبة الجعل ، والشك في مورد الشبهة الموضوعيّة هو الحكم بمرتبة المجعول.

وبتعبير آخر : الشك في مورد الشبهة الحكميّة شك في الكبرى المجعولة شرعا ، والشك في مورد الشبهة الموضوعيّة شك في تحقّق صغرى الحكم الشرعي بعد إحراز كبراه.

وبيان ذلك : انّ الأحكام مجعولة على نهج القضايا الحقيقيّة والتي يكون فيها الحكم مجعولا على موضوعه المقدر الوجود ، ومن هنا لا تكون متصدّية لبيان تحقق الموضوع خارجا وانّما هي متصدية لتأسيس كبرى كلية مفادها ثبوت الحكم لموضوعه المقدّر ، ومن الواضح انّ ذلك وحده لا ينتج فعليّة الحكم المجعول ، إذ انّ الفعليّة منوطة بتحقّق موضوع الحكم خارجا ، والقضايا الحقيقيّة لا تنقّح موضوعاتها والكبرى لا تحرز صغراها ، ومن هنا نحتاج لإحراز تحقّق الموضوع خارجا بالإضافة لإحراز أصل الجعل ، وبذلك يصل الحكم لمرحلة الفعليّة.

وببيان آخر : انّ الأحكام لمّا كانت مجعولة على نهج القضايا الحقيقيّة فهذا معناه انّ جعل الأحكام يكون بمثابة الكبريات التي ينتج عن ضمّها الى صغرياتها ثبوت الفعليّة للحكم المجعول ، إذ انّ احراز أصل الجعل على موضوعه المقدّر لا ينتج الفعليّة بعد عدم تصدي القضايا المثبّتة لأصل الجعل لهذه المهمّة لافتراضها قضايا


حقيقيّة لا تقتضي أكثر من إثبات الحكم للموضوع المقدّر الوجود والحال انّ الفعليّة منوطة باحراز تحقّق الوجود للموضوع ، ومن هنا نكون بحاجة الى احراز الموضوع من خارج القضيّة المتضمّنة لجعل الحكم ، وهذا الإحراز هو المقصود من احراز صغرى القياس الذي تكون نتيجته فعليّة الحكم المجعول.

وباتّضاح ذلك نقول : انّ الشك إذا كان متعلّقه الكبرى المجعولة شرعا فالشبهة حكميّة ، أي إذا كان الشك في ثبوت القضيّة الحقيقيّة المتصدية لجعل الحكم على موضوعه المقدّر فالشبهة حكميّة ، وتلاحظون انّ الشك هنا في أصل الجعل وفي ثبوت الحكم الكلّي ، ومثاله الشك في جعل الشارع الحرمة للعصير العنبي.

وأمّا إذا كان متعلّق الشك هو صغرى الحكم الشرعي فالشبهة موضوعيّة ، أي إذا كان متعلّق الشك هو تحقّق موضوع الحكم الشرعي خارجا وبالتالي يكون مآله الى الشك في فعليّة الحكم فهذه شبهة موضوعيّة.

وتلاحظون انّ متعلّق الشك في الشبهة الحكميّة والموضوعيّة هو الحكم والتكليف ، غايته انّ الشك في الحكم في الشبهة الحكميّة يكون من جهة الشك في أصل الجعل وفي أصل ثبوت القضيّة الحقيقيّة المتضمّنة للحكم الشرعي المعبّر عنها بالكبرى المجعولة شرعا.

وأمّا الشك في الحكم والتكليف في مورد الشبهة الموضوعيّة فهو شك في الحكم والتكليف من جهة فعليّته ، والتعبير عنها بالشبهة الموضوعيّة ناشئ عن انّ مرجع الشك في فعليّة التكليف هو الشك في تحقّق موضوع التكليف خارجا أو قل الشك في مصداقيّة المورد لموضوع الحكم الشرعي المحرز جعله ، والشك بهذا المعنى يكون ناتجا عن الجهل بحال الموضوع المعبّر عنه باشتباه الامور الخارجيّة.

وأمّا منشأ الشك في أصل الجعل


والذي هو مورد الشبهة الحكميّة فهو إجمال النصّ أو تعارضه مع نصّ آخر أو فقدانه.

وبهذا البيان اتّضح المراد من الشك في التكليف والذي هو مجرى لأصالة البراءة الشرعيّة والعقليّة بحسب مبنى المشهور ، طبعا إذا لم تكن للتكليف أو فعليّته حالة سابقة متيقّنة.

* * *

٤٠١ ـ الشك في الحجيّة

راجع تأسيس الأصل عند الشك في الحجيّة.

* * *

٤٠٢ ـ الشكّ في المحصّل

المراد من الشكّ في المحصّل هو الشكّ فيما يحقّق امتثال التكليف بعد إحراز ثبوت أصل التكليف فحينما يكون متعلّق الشكّ هو ما يحصّل الامتثال ويحقّقه فذلك من الشكّ في المحصّل.

ومثاله الأمر بدفع صدقة لفقير على نحو العموم البدلي ، فلو شكّ المكلّف أنّ زيدا فقير أو لا فهذا من الشكّ في المحصّل أي من الشكّ في أنّ الصدقة على زيد هل تحقّق امتثال التكليف المعلوم أم لا؟

وبتعبير آخر : هل يحصل بإعطاء زيد الصدقة امتثال التكليف بوجوب الصدقة على الفقير أو لا يحصل الامتثال بذلك؟

وهنا لا يسع المكلّف الاجتزاء في مقام الامتثال بالصدقة على زيد المشكوك فقره ، لأنّ المكلّف لا يحرز بذلك الخروج عن عهدة التكليف المعلوم ، وهذا هو معنى جريان أصالة الاشتغال في هذا الفرض لأنّه من صغريات قاعدة أنّ الشغل اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني ، فالمكلّف مشغول الذمّة يقينا بالصدقة على فقير ومع تسليم الصدقة لزيد لا يحصل القطع بفراغ ذمّته عن التكليف.

وبذلك يتّضح أنّ الشكّ في المحصّل من أنحاء الشكّ في المكلّف به ، وقد فصّلنا ذلك تحت عنوان الشكّ في المكلّف به.


٤٠٣ ـ الشكّ في المكلّف به

المراد من الشك في المكلّف به والذي هو مجرى لأصالة الاشتغال العقلي هو الشك في امتثال التكليف ، وبه يعرف المائز اجمالا بين الشك في التكليف والذي هو مجرى لأصالة البراءة والشك في المكلّف به ، إذ انّ الشك في التكليف ـ كما قلنا ـ يكون من جهتين إمّا أن يكون شكا في أصل الجعل وامّا أن يكون شكا في تحقق الفعليّة للحكم بسبب الشك في تحقق موضوعه خارجا ، وكلا الجهتين تئولان الى الشك في التكليف كما أوضحنا ذلك.

وأمّا الشك في المكلّف به فليس كذلك إذ هو شك في الامتثال ، وهذا ما يحتاج الى بيان فنقول : انّ الشك في الامتثال على أنحاء :

النحو الأوّل : أن يكون الشك من جهة صدور متعلّق التكليف بعد احراز أصل الجعل للتكليف وبعد احراز تحقّق موضوعه خارجا.

ومثاله : العلم بجعل الشارع الوجوب لصلاة الظهر والعلم بدخول الوقت والذي هو موضوع الوجوب إلاّ انّ الشك وقع من جهة صدور متعلّق الوجوب والذي هو الصلاة ، بمعنى انّ المكلّف شك في انّه هل جاء بالصلاة وبالتالي يكون قد امتثل الوجوب أو انّه لم يأت بالصلاة فلم يقع الامتثال منه ، فالشك هنا في المكلّف به ، أي في متعلّق الوجوب « الصلاة » من حيث امتثال الأمر به أو عدم امتثاله.

النحو الثاني : أن يكون الشك في فصل المتعلّق من جهة تردده بين أمرين أو أكثر مع العلم بجنسه والفراغ عن ثبوت أصل الجعل للتكليف بجنسه وفصله.

وبيان ذلك : انّ المكلّف قد يعلم بثبوت الوجوب للصلاة في يوم الجمعة ، وهذا معناه العلم بالجعل للتكليف من جهة جنسه وهو الإلزام وفصله وهو الوجوب. ومعناه أيضا العلم بمتعلّق التكليف ولكن من جهة


جنسه والتي هي الصلاة ، فالصلاة هي متعلّق التكليف إلاّ انّها جنس ، بمعنى انها تصدق على حقائق متعدّدة مثل الجمعة والظهر والآيات ، وهذه الحقائق فصول الصلاة ، وهي مورد الشك في الفرض ، فالمكلّف وان كان عالما بجنس المتعلّق للتكليف ، وهي الصلاة إلاّ انّ الشك من جهة فصلها ، وهل هي صلاة الظهر في المثال أو صلاة الجمعة ، فالشك في متعلّق التكليف نشأ عن التردد فيما هو فصله فهو إذن شك في المكلّف به ، ومن هنا يكون الفرض مجرى لأصالة الاشتغال ، وذلك بعد تنقيح انّ الشك في المكلّف به.

وأمّا تصوير انّ الشك في هذا الفرض شك في الامتثال فلأنّ المكلّف لو اقتصر في الامتثال على صلاة الظهر لما أحرز الفراغ عن عهدة التكليف المعلوم ولظلّ شاكا في الامتثال ، وبذلك يتّضح انّ دوران المتعلّق بين المتباينين ـ والذي هو علم اجمالي ـ مجرى لأصالة الاشتغال.

النحو الثالث : أن يكون الشك والتردد من جهة جنس المتعلّق مع احراز أصل الجعل للتكليف جنسا وفصلا.

وبيانه : انّ المكلّف قد يحرز ثبوت الوجوب إلاّ انّه مردد بين وجوب قضاء صلاة الآيات أو وجوب الغسل ، فهنا يكون المكلّف عالما بجنس التكليف وهو الإلزام وعالما بفصله وهو الوجوب ، والشك انّما هو من جهة المتعلّق ، إذ انّ متعلّق الوجوب المعلوم مردد بين قضاء صلاة الآيات الفائتة أو الغسل ، فهنا يكون الشك في المتعلّق من جهة جنسه ، إذ انّ الصلاة جنس والغسل جنس آخر كما هو واضح.

والشك في جنس متعلّق التكليف معناه الشك في المكلّف به ، ومن هنا كان مجرى لأصالة الاشتغال. وأمّا انّه شكّ في الامتثال فلعين ما ذكرناه في النحو الثاني. وهذا الفرض من فروض دوران الأمر بين المتباينين أيضا والذي هو علم اجمالي ، إذ انّ


المكلّف يعلم اجمالا بالوجوب ويشك في جنس متعلّقه وهو الصلاة أو الغسل.

النحو الرابع : أن يكون الشك والتردّد من جهة فصل التكليف مع احراز أصل الجعل لجنس التكليف والعلم بمتعلّق التكليف جنسا وفصلا.

وبيان ذلك : انّه قد يعلم المكلّف بجنس الإلزام لصلاة الجمعة إلاّ انّه يشك في فصل هذا الإلزام وهل هو الوجوب أو الحرمة ، فجنس التكليف معلوم وهو الإلزام كما انّ متعلّق التكليف معلوم أيضا بجنسه وهو الصلاة وفصله وهو الجمعة إلاّ انّ الشك من جهة فصل التكليف وهل هو الوجوب أو هو الحرمة.

والشك في هذا الفرض شك في المكلّف به والذي هو المتعلّق رغم العلم بجنسه وفصله ، وذلك لأنّ مآل الشك في فصل التكليف ودورانه بين الوجوب والحرمة هو الشك في انّ متعلّق التكليف هل هو فعل صلاة الجمعة أو تركها ، فلو كان فصل التكليف واقعا هو الوجوب لكان متعلّق التكليف هو الفعل ، ولو كان فصل التكليف هو الحرمة لكان متعلّق التكليف هو ترك الفعل ، ومن هنا كان مآل الشك في فصل التكليف الى الشك في متعلّق التكليف ، أي في المكلّف به إلاّ انّ جهة الشك والتردّد ليس هو جنس المتعلّق أو فصله كما في الفرض الثاني والثالث بل من جهة انّ المطلوب لزوما هل هو الفعل أو الترك.

وأمّا تصوير انّ الشك في هذا الفرض شك في الامتثال فلأنّ المكلّف لو جاء بصلاة الجمعة لما أحرز الامتثال لاحتمال انّ المطلوب واقعا هو الترك وهكذا الكلام لو ترك صلاة الجمعة.

وبهذا يتّضح انّ دوران الأمر بين المحذورين إذا كان منشؤه الشكّ في فصل التكليف يكون من موارد الشك في المكلّف به ، والمانع في المقام عن جريان أصالة الاشتغال انّما هو عدم القدرة على الموافقة القطعيّة.

النحو الخامس : أن يقع الشك في


فصل التكليف مع العلم بأصل الجعل لجنس التكليف كالفرض السابق إلاّ انّه في هذا الفرض يكون فصل المتعلّق مشكوكا.

وبيان ذلك : انّ قد يعلم المكلّف بجعل جامع التكليف الإلزامي أي بجنس التكليف ، كأن يعلم بأصل جعل الإلزام إلاّ انّه متردّد في انّ الإلزام هل هو بنحو الوجوب أو الحرمة ، وهذا هو معنى الشك في فصل التكليف ، ويفترض أيضا العلم بجنس متعلّق التكليف وهو الصلاة مثلا إلاّ انّ فصل المتعلّق مشكوكا وهل هو صلاة الآيات أو صلاة الضحى.

ففي هذا الفرض نعلم بأمرين ، وهما جنس التكليف والذي هو الإلزام وجنس متعلّق التكليف والذي هو الصلاة ، ونشك في أمرين ، وهما فصل التكليف وهل هو الوجوب أو الحرمة وفصل المتعلّق وهل هو الآيات أو الضحى؟

فالنتيجة هي انّ المكلّف يعلم بتوجّه تكليف إلزامي إليه متعلّق بالصلاة إلاّ انّه متردد من جهة انّ التكليف الإلزامي هل هو وجوب صلاة الآيات أو حرمة صلاة الضحى ، ومآل الشك هنا الى الشك في متعلّق التكليف من جهة انّ المطلوب على المكلّف هل هو فعل صلاة الآيات أو هو ترك صلاة الضحى وهو شك في المكلّف به.

وأمّا تصوير انّ هذا الشكّ شكّ في في الامتثال فلأنّه لو جاء المكلّف بصلاة الآيات ولم يترك صلاة الضحى لكان ذلك موجبا للشك في امتثال التكليف المعلوم وهو الإلزام ، إذ لعلّ المطلوب هو ترك صلاة الضحى ، ولو ترك صلاة الضحى ولم يأت بصلاة الآيات لكان ذلك موجبا للشك في امتثال جامع التكليف وهو الإلزام ، إذ لعلّ المطلوب واقعا هو فعل صلاة الآيات. ومن هنا يكون المكلّف ملزما بالامتثال القطعي أي الموافقة القطعيّة ، وذلك بفعل صلاة الآيات وترك صلاة الضحى.


النحو السادس : نفس الفرض الخامس إلاّ انّه في هذا الفرض يكون متعلّق التكليف مشكوكا جنسا وفصلا.

وبيان ذلك : انّه لو علم المكلّف بجامع التكليف الإلزامي إلاّ انّه شك في فصله ، وهل هو الوجوب أو الحرمة ، كما انّه تردد في متعلّق التكليف وهل هو الصوم أو الغيبة ، ومآل الشك هنا الى الشك في متعلّق التكليف من جهة انّ المطلوب لزوما هل هو فعل الصوم أو ترك الغيبة ، وهو شك في المكلّف به. وتصوير انّ الشك في هذا الفرض شك في الامتثال يتّضح ممّا تقدّم.

ثمّ انّ هذه الأنحاء الستّة التي ذكرناها لا غموض من جهة انّ الشك في موردها يرجع الى الشك في المكلّف به ، وانّما الغموض في حالات كون الشك في المكلّف به ناشئا عن الشك في متعلّق المتعلّق والذي هو موضوع التكليف ، وقبل بيان ذلك ننبّه على ما نبّه عليه المحقّق النائيني رحمه‌الله بعد بيانه الأنحاء الستّة التي أوضحناها ، وهو انّ الشك في جنس التكليف ليس من أقسام الشك في المكلّف به بأيّ فرض فرضته ، وذلك لأنّ معنى الشك في جنس التكليف هو الشكّ في التكليف الإلزامي أو غير الإلزامي ، وهذا يؤول الى التردد بين الوجوب وعدم الحرمة أو الى التردّد بين الحرمة وعدم الوجوب أو الى التردّد بين الوجوب والحرمة والإباحة أو الكراهة أو الاستحباب ، وتمام هذه الأقسام يكون الشك فيها شكا في جعل التكليف الإلزامي وهو مجرى لأصالة البراءة بلا ريب.

ثمّ انّ البحث يقع عن الشك في المكلّف به لو كان ناشئا عن الشكّ في متعلّق المتعلّق وهو الموضوع الخارجي للتكليف ، فإنّ تميّزه عن الشك بنحو الشبهة الموضوعيّة والذي هو مجرى لأصالة البراءة يحتاج الى شيء من التأمّل ، وذلك لأنّ الشك بنحو الشبهة الموضوعيّة ينشأ أيضا عن الشك في متعلّق المتعلّق.

واجمال الفرق بين الشك بنحو


الشبهة الموضوعيّة والشك في المكلّف به عند ما يكون ناشئا عن الشك في الموضوع الخارجي للحكم « متعلّق المتعلّق » هو انّ الشكّ إذا كان يؤول الى الشكّ في فعليّة الحكم ، فالشبهة موضوعيّة والأصل الجاري في موردها هو البراءة ، وأمّا إذا لم يرجع الشك في الموضوع الى الشك في فعليّة الحكم فالشكّ حينئذ يكون شكا في المكلّف به.

وبيان ذلك يتّضح من استعراض فروض الشك في الموضوع :

الفرض الاول : أن يقع الشك في تحقّق الموضوع للحكم خارجا ، وفي هذا الفرض يؤول الشك في الموضوع الى الشك في تحقّق الفعليّة للحكم ، وذلك لأنّ تحقّق الفعليّة للحكم منوط بتحقّق موضوعه خارجا فمع الشك في وجود الموضوع وتحقّقه خارجا يكون مآل الشك الى الشك في بلوغ الحكم ـ المعلوم جعله ـ مرحلة الفعليّة.

ومثاله : الشك في حلول شهر رمضان المبارك ، فإنّ هذا الشك يؤول الى الشك في فعليّة التكليف بوجوب الصوم ، إذ انّ الفعليّة لوجوب الصوم منوطة بتحقّق موضوع الوجوب خارجا وهو حلول شهر رمضان ، فإذا وقع الشك في حلوله فإنّ ذلك يعني وقوع الشك في تحقّق الفعليّة لوجوب الصوم. وبرجوع الشك في الموضوع الى الشك في الفعليّة يتعيّن كون الشبهة في هذا الفرض موضوعيّة ، ومن هنا يكون الأصل الجاري في المقام هو البراءة.

الفرض الثاني : أن يكون تحقّق الموضوع خارجا محرزا إلاّ انّ الشكّ والتردّد من جهة تعيينه ، كما لو كان الموضوع مردّدا بين طرفين أو أكثر.

ومثاله : وجوب الصلاة على الميّت المسلم ، فلو علم المكلّف بموت المسلم والذي هو موضوع الوجوب إلاّ انّ الميّت المسلم تردّد بين اثنين أحدهما مسلم والآخر غير مسلم ، فهنا لا شك من جهة تحقّق موضوع الوجوب خارجا وانّما الشك من جهة تردّد الموضوع بين طرفين ، ولذلك لا يكون


الشك في الموضوع راجعا الى الشك في فعليّة الوجوب ، إذ انّ الفعليّة في الفرض المذكور محرزة التحقّق ، والشك انّما هو في الامتثال لو صلّى على أحد الميتين دون الآخر ، ومن هنا كان الأصل الجاري في الفرض المذكور هو الاشتغال العقلي والمقتضي للصلاة على كلا الميتين.

وتصوير انّ هذا الشك شك في المكلّف به هو انّ مآل الشك في الفرض المذكور الى الشك فيما هو المطلوب واقعا ، وهل المطلوب هو فعل الصلاة على هذا الميت أو ذاك.

ثمّ انّ هذا الفرض لا يختلف الحال فيه بين أن يكون المعلوم بالإجمال هو الوجوب أو الحرمة ، كما لو علمنا بحرمة شرب النجس ، فالنجس هو موضوع الحرمة ، واتّفق انّ علمنا بتحقّق النجاسة في أحد الإنائين ، فالعلم بتحقّق الموضوع محرز ، ومن هنا لا يؤول الشك في الموضوع الى الشك في فعليّة الحرمة بل انّ فعليّة الحرمة محرزة بعد احراز تحقّق موضوع الحكم وواضح انّ الفعليّة ليست منوطة بتشخيص الموضوع بل يكفي في تحققها احراز تحقّق الموضوع خارجا وان كان مردّدا بين طرفين أو أكثر ، ومن هنا كان الأصل الجاري هو الاشتغال المقتضي لترك كلا الإنائين.

ثمّ انّ هذين القسمين ينقسمان الى قسمين ، إذ قد تكون الأطراف التي يتردّد الموضوع بينهما محصورة وقد تكون غير محصورة ، وسقوط أصالة الاشتغال في حالات عدم انحصار الأطراف ـ على المبنى المشهور ـ انّما هو لمانع مذكور في محلّه.

الفرض الثالث : ان يعلم بتحقّق الموضوع خارجا في بعض الأفراد ويقع الشك في تحقّقه في أفراد اخرى ، ولهذا الفرض صورتان :

الصورة الاولى : أن يكون الحكم شموليا ، أي انّه منحل الى أحكام بعدد أفراد الطبيعة « الموضوع » المجعول عليها الحكم المعبّر عنها بالطبيعة السارية المقتضية لانحلال الحكم على أفرادها.


ومثال ذلك : « لا تشرب الخمر » و « أكرم العلماء » ، فإنّ الإطلاق في المثالين شمولي ويقتضي انحلال الحكم الى أحكام بعدد أفراد الطبيعة المجعول عليها الحكم ، فلو أحرزنا انّ هذا السائل وذلك السائل والسائل الثالث خمر ، وأحرزنا انّ زيدا وخالدا وبكرا علماء فلا ريب في ثبوت الحرمة للأفراد الثلاثة وثبوت الوجوب للعلماء الثلاثة ، ولو اتّفق ان وقع الشك في خصوص الفرد الرابع من السائل وهل هو خمر أو لا ، واتّفق ان وقع الشك في عمرو وهل هو من العلماء أو لا ، فهل يؤول هذا الشك الى الشك في الفعليّة أو الى الشك في المكلّف به؟

والجواب : انّه لا إشكال في انّ مآل الشك في المثال الاول الى الشك في الفعليّة ، وذلك لأنّ الشك في خمريّة السائل الرابع معناه الشك في تحقّق موضوع الحرمة في ضمن هذا السائل ، ومعنى ذلك هو الشك في فعليّة الحرمة لهذا السائل.

وبتعبير آخر : انّ الشك في خمريّة هذا السائل يساوق الشك في التكليف الزائد ، وذلك لما ذكرناه من انّ ثبوت الحرمة ينحلّ الى حرمات بعدد أفراد طبيعة الخمر ، فلو أحرزنا خمريّة ثلاثة أفراد من السائل ، فهذا معناه احراز فعليّة ثلاث حرمات ولو شككنا في خمرية السائل الرابع فإنّ معنى ذلك هو الشك في تحقّق حرمة رابعة بإزاء الفرد المشكوك الخمريّة ، فهو إذن شك في تكليف زائد على التكاليف الثلاثة ، ولهذا يكون الأصل الجاري هو البراءة.

وبهذا يتّضح انّ الحكم إذا كان مجعولا على الطبيعة السارية أي بنحو الإطلاق الشمولي ، ووقع الشك في فرديّة فرد للطبيعة فإنّ مآل الشك في الفرديّة الى الشك في التكاليف الزائد أو قل الى الشك في فعليّة الحكم بالنسبة للفرد المشكوك من غير فرق بين أن تكون هناك أفراد نحرز مصداقيتها للطبيعة أو لم تكن.

الصورة الثانية : أن يكون ثبوت الحكم للطبيعة « الموضوع » بدليا ، أي


أن يكون الحكم متعلّقا بالطبيعة بنحو صرف الوجود ، وصرف الوجود يتحقّق بايجاد فرد من أفراد الطبيعة ، فالمكلّف في سعة من جهة اختيار أيّ واحد من أفراد الطبيعة على نحو البدل.

وحينئذ إذا وقع الشك في مصداقيّة فرد للطبيعة فإنّه لا يكون كالشك في الصورة الاولى ، وذلك لأنّ الشك في هذه الصورة لا يساوق الشك في التكليف الزائد.

ومثال ذلك : ما لو قال المولى : « أكرم عالما » وكنا نحرز انّ زيدا عالم إلاّ انّنا نشك في عالميّة عمرو ، فإنّ الشك في عالميّة عمرو لا يساوق الشك في التكليف الزائد ، لأنّ المفترض انّ التكليف واحد ولا ينحلّ الى تكاليف بعدد أفراد الطبيعة بعد ان كان تعلّق الحكم بالطبيعة بنحو صرف الوجود ، والإطلاق انّما هو من جهة سعة البدائل التي يمكن للمكلّف الامتثال بواسطة واحد منها ، فحينما نشك في فردية فرد فإنّ هذا الشك يساوق الشك في امكان امتثال الامر بالطبيعة بواسطة هذا الفرد المشكوك في مصداقيته للطبيعة ، وحينئذ لو اقتصر المكلّف على هذا الفرد في مقام امتثال الأمر بالطبيعة لظلّ شاكا في امتثال التكليف المعلوم.

ومن هنا فالأصل الجاري في المقام هو الاشتغال العقلي ، بمعنى عدم صحّة الاكتفاء ـ بهذا المشكوك ـ في مقام الامتثال ولزوم امتثال التكليف بواسطة الإتيان بفرد يحرز انّه من أفراد الطبيعة.

ثمّ لا يخفى عليك انّ جريان أصالة الاشتغال في الفرد المشكوك انّما هو باعتبار افتراض وجود فرد آخر نحرز مصداقيته للطبيعة المأمور بها بنحو صرف الوجود ، أما لو لم يكن سوى هذا الفرد المشكوك مصداقيته للطبيعة فإنّ الأصل الجاري في هذا الفرد هو البراءة ، وذلك لأنّ الشك في مصداقيته للطبيعة معناه الشك في تحقّق موضوع الحكم ، وهو يساوق الشك في تحقق الفعليّة والتي هي مجرى لأصالة البراءة.


وهذا بخلاف الفرض السابق والذي افترضنا فيه احراز وجود موضوع الحكم في ضمن الفرد الأول وهو زيد في المثال ، غايته انّنا شككنا في مصداقيّة فرد آخر للطبيعة ، ففي مثل هذا الفرض لا شك من جهة تحقّق الفعليّة للحكم وانّ وجوب اكرام العالم فعلي وانّما الشك من جهة صحّه امتثال الوجوب باكرام العالم في ضمن الفرد الآخر وهو عمرو ، ومن هنا كان الأصل الجاري هو أصالة الاشتغال.

وبهذا يتّضح انّ التكليف إذا كان متعلّقا بالطبيعة بنحو صرف الوجود وكنّا نحرز تحقّق الفعليّة للتكليف بسبب العلم بتحقّق موضوعه في ضمن فرد من الأفراد فإنّ الأصل الجاري في الأفراد الاخرى المشكوك مصداقيتها للطبيعة هو أصالة الاشتغال.

ونكتفي بهذا المقدار ، إذ انّه كاف في اعطاء صورة شبه تفصيليّة عن معنى الشك في المكلّف به.

* * *

٤٠٤ ـ شمول الأحكام للجاهل

الظاهر انّه لم يختلف أحد من الإماميّة « أعزّهم الله تعالى » في انّ أحكام الله تعالى شاملة للعالم والجاهل ، وقد ادعي تواتر أو استفاضة الروايات على ذلك ، ولعلّ الروايات المشار اليها هي اطلاقات الأدلّة المتصدّية لبيان الأحكام ، وقد اضيف الى دليلي الإجماع والروايات دليل ثالث حاصله :

انّ الالتزام باختصاص الأحكام بالعالمين بها يلزم منه محذور عقلي لا يمكن الالتزام به ، وهو أخذ العلم بالحكم في موضوع نفس ذلك الحكم ، وهو محال ، وقد أوضحنا ذلك تحت عنوان « أخذ القطع بالحكم في موضوع نفس ذلك الحكم » فراجع.

وكيف كان فشمول الاحكام للعالم والجاهل ليس موردا للنزاع ، ومن هنا كانت الأمارات والاصول العمليّة مصيبة تارة للواقع ومخطئة تارة اخرى ، خلافا لمذهب الأشاعرة


والمعتزلة حيث ذهبوا للتصويب على خلاف بين الفرقتين في تقريره ، وقد أوضحنا كلّ ذلك تحت عنوان « التخطئة والتصويب » و « التصويب الأشعري » و « التصويب المعتزلي » وتحت عنوان « مسلك السببيّة ».

* * *

٤٠٥ ـ الشهرة الروائيّة

والمقصود منها اشتهار نقل الرواية في المجاميع الروائيّة كالكتب الأربعة وكتاب قرب الاسناد ومسائل علي بن جعفر وغيرها من الكتب المتصدّية لنقل الروايات ، بل لو اشتهر نقل الرواية في الكتب الفقهيّة الاستدلاليّة أو كان الاشتهار ناشئا عن التلفيق بين الكتب الروائيّة والكتب الفقهيّة الاستدلاليّة لأمكن وصف الرواية بالمشهورة روائيا ، على أن لا تكون تلك الرواية منقولة عن الكتب الروائيّة التي تحصل عن نقلها فيها وفي الكتب الاستدلاليّة عنوان الاتّصاف بالشهرة.

وهذا النحو من الشهرة هو الذي تعارف بين الفقهاء عدها من المرجّحات في باب التعارض اعتمادا على مقبولة عمر بن حنظلة ومرفوعة زرارة ، فلو ورد خبران معتبران سندا وكان أحدهما مشهورا روائيا والآخر ليس كذلك فإنّ الشهرة الروائيّة المتّصف بها أحد الخبرين تكون موجبة لترجيح الخبر المشهور على الخبر الآخر خلافا لمبنى السيّد الخوئي رحمه‌الله. راجع « الترجيح بالشهرة ».

* * *

٤٠٦ ـ الشهرة العمليّة

والمقصود منها اشتهار العمل برواية ، أي الاستناد إليها في مقام التعرّف على الحكم الشرعي ، وهذه الشهرة هي التي ذهب المشهور الى انّها توجب انجبار الضعف السندي للرواية ولكن بشرطين :

الاول : أن تكون الشهرة العمليّة واقعة بين قدماء الأصحاب كالسيد


المرتضى والصدوقين والمفيد وسلار والشيخ الطوسي رحمهم‌الله.

الثاني : هو إحراز استناد الفقهاء إليها في مقام الإفتاء وانّه لا مدرك آخر لهم غير هذه الرواية الضعيفة وإلاّ فمع احتمال وجود مستند آخر وانّ ذكر هذه الرواية في مقام الاستدلال انّما هو من باب التأييد فإنّ هذه الشهرة لا تكون جابرة ، إذ لا نحرز حينئذ انّ هذه الرواية مشتهرة عملا وانّما نحتمل ذلك ، فالتعبير عنها بأنّها مشهورة عملا تسامحي. راجع عنوان « انجبار ضعف الخبر بعمل المشهور » وعنوان « اعراض المشهور ».

* * *

٤٠٧ ـ الشهرة الفتوائيّة

والمقصود منها اشتهار الفتوى بحكم من الأحكام دون أن يكون ثمّة مستند لهذه الفتوى ولو كان ضعيفا إلاّ انّه يحتمل اعتمادهم عليه ، وحينئذ لا تكون الشهرة فتوائيّة.

فضابطة الشهرة الفتوائيّة هو عدم وجدان مدرك يحتمل اعتماد المشهور عليه ، ولهذا لو وجد مدرك يصلح لأن يعتمد عليه إلاّ اننا نقطع بعدم اعتمادهم عليه فإنّ ذلك لا ينفي اتّصاف الشهرة بالفتوائيّة.

وقد اختلف الاصوليون في حجيّة هذه الشهرة ، فمنهم من ذهب الى حجيتها بنحو مطلق ، أي سواء كانت الشهرة واقعة بين قدماء الفقهاء أو كانت واقعة بين المتأخّرين ، ومنهم من نفى عنها الحجيّة بنحو مطلق ، ومنهم من فصّل بين الشهرة الفتوائيّة الواقعة بين القدماء ـ أو بتعبير بعضهم الواقعة بين القدماء ـ أو بتعبير بعضهم الواقعة بين أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام ـ وبين الشهرة الواقعة بين المتأخّرين ، فالاولى منها حجّة دون الثانية ، وهذا هو مبنى المحقّق البروجردي وجمع من تلامذته والسيد الامام رحمهم‌الله.


هوامش حرف الشين

(١) سورة البقرة : ٢٢٨.

(٢) سورة النساء : ٤٣.


حرف الصّاد


عناوين حرف الصاد

٤٠٨ ـ قاعدة الصحّة

٤٠٩ ـ الصحّة التأهّليّة

٤١٠ ـ الصحّة والفساد

٤١١ ـ الصحيح والأعم

٤١٢ ـ الصحيح والفاسد

٤١٣ ـ الصدق في القضايا الحمليّة

٤١٤ ـ الصدق في القضايا الشرطيّة


حرف الصاد

٤٠٨ ـ قاعدة الصحّة

والمراد من قاعدة الصحّة في المقام هو حمل عمل الغير على الصحّة لا حمل عمل النفس على الصحّة كما هو مقتضى قاعدة الفراغ والتجاوز والتي يعبّر عنها في بعض الأحيان بقاعدة الصحّة.

والصحّة المقصودة في القاعدة تحتمل أحد معنيين :

المعنى الاول : هو الصحّة المقابلة للمساءة والقبح ، فقاعدة الصحّة بهذا المعنى تعني حمل عمل الغير على ما هو حسن ومباح ، فلو وقع الشكّ في انّ ما صدر عن المؤمن هل هو معصية أو هو عمل مباح فإنّ مقتضى قاعدة الصحّة هو حمل فعله على ما هو مباح.

وقد دلّت على هذا المعنى مجموعة من الآيات والروايات ، منها قوله تعالى : ( اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِ ) (١) ، ومنها قوله عليه‌السلام « انّ المؤمن لا يتّهم أخاه المؤمن » ، ومنها قوله عليه‌السلام : « كذّب سمعك وبصرك عن أخيك فإنّ شهد عندك خمسون قسامة انّه قال ، وقال لم أقله فصدقه وكذبهم ».

واستظهر السيد الخوئي رحمه‌الله من هذه الرواية إرادة الإمام عليه‌السلام حمل قول المؤمن على الصدق لا انّه بمعنى ترتيب آثار الواقع على قوله ، إذ من غير المعقول ترتيب آثار الواقع على قول محتف بما يوجب الوثوق بعدم مطابقته للواقع ، كما انّ تكذيب القسامة لا يعني حملهم على الكذب والافتراء بل بمعنى


حملهم على الاشتباه ، وذلك لافتراض ايمانهم واخوتهم.

إلاّ انّه قد يقال انّ الخمسين القسامة المفترضة هم من غير الاخوة المؤمنين ، فيكون تكذيبهم بمعنى عدم الاعتناء بقسمهم وعدم ترتيب الأثر عليه وإلاّ فلو أورث قسمهم الاطمئنان كما هو الغالب إذا كانوا مؤمنين فإنّه لا بدّ من ترتيب الأثر على قولهم واعتبار ذلك المؤمن فاسقا ، نعم يكون حمله على الصدق بمعنى عدم مواجهته بالتكذيب والتفسيق ، هذا إذا لم يكن المكلّف في موقع القضاء.

وكيف كان فقاعدة الصحة بهذا المعنى خارجة عن محلّ الكلام.

المعنى الثاني : هو الصحّة المقابلة للفساد ، وأصالة الصّحة بهذا المعنى تعني اعتبار العمل الصادر عن الغير صحيحا ، وهذا يقتضي ترتيب آثار الصحّة المرتبطة بنفس المكلّف المجري لقاعدة الصحّة ، فلو شك المكلّف في صحّة قراءة الامام أو عدم صحّتها فإنّ قاعدة الصحّة تقتضي حمل قراءته على الصحة ، وعليه يصحّ الائتمام به ، وهكذا لو شك في صحّه طلاق المسلم فإنّ قاعدة الصحّة بهذا المعنى تقتضي حمل طلاقه على الصحيح ، وهذا يقتضي صحّة الزواج من مطلقته.

وهذه القاعدة لا تختصّ بعمل المؤمن كما هو الحال في قاعدة الصحّة بالمعنى الاول ، فهي تشمل عمل مطلق المسلم بل تشمل عمل الكفّار في بعض المعاملات الصادرة عنهم.

وقد استدلّ لحجيّة هذه القاعدة بمجموعة من الأدلّة عمدتها هو الاستدلال بالسيرة العقلائيّة الممضاة من قبل الشارع ، ومعقد هذه السيرة هو ترتيب آثار الصحّة على الاعمال الصادرة عن الغير في ظرف الشك في صحتها مع احراز علم العامل بضوابط الصحّة والفساد واحراز انّ ما يبني عليه العامل من ضوابط الصّحة والفساد مطابقة لما يبني عليه الحامل على الصّحة اجتهادا أو تقليدا ، هذا هو القدر المتيقّن من معقد السيرة ، إلاّ انّه لا يبعد قيام السيرة على ترتيب


آثار الصحّة في حالات احراز علم العامل بالصحّة والفساد واحتمال انّ ما يبني عليه من ضوابط الصحّة والفساد موافقا لما يبني عليه الحامل ، أي انّ اجراء قاعدة الصحّة غير منوط باحراز التوافق في المبنى اجتهادا أو تقليدا وانّ احتمال التوافق كاف في جريان القاعدة.

فالقاعدة تجري في حالات احراز التوافق واحتماله ، وهل تجري في حالات العلم بالاختلاف في المبنى؟

ذهب السيّد الخوئي رحمه‌الله الى عدم جريانها مطلقا أي سواء كان الاختلاف بنحو التباين ـ بحيث يبنى الحامل على فساد العمل ويبني العامل على انّه صحيح ومتعيّن ـ كما لو كان الحامل يرى مانعيّة التكفير لصحّة الصلاة ويرى العامل شرطيّة التكفير في صحّة الصلاة ، أو كان الاختلاف بنحو لا يصل حدّ التباين ، كما لو كان الحامل يرى شرطيّة الاستقبال بالذبيحة ويرى العامل جواز ذلك أو استحبابه ، فعلى كلا التقديرين لا تجري القاعدة ، وذلك للشك في شمول معقد السيرة لهذا الفرض ، إلاّ انّ المنسوب للشيخ الأنصاري رحمه‌الله هو التفصيل بين الصورتين والبناء على جريان القاعدة في الصورة الثانية.

ثمّ انّه هل تجري القاعدة في حالات عدم احراز علم العامل بالصحّة والفساد ، بمعنى احتمال علمه بضوابط الصّحة والفساد واحتمال جهله بها.

الظاهر ـ كما أفاد السيّد الخوئي رحمه‌الله ـ جريان القاعدة في هذا الفرض ، وذلك لشمول معقد السيرة له بل هو الحالة الشائعة من موارد الحمل على الصّحة لصعوبة احراز علم العامل بضوابط الصحّة والفساد ، ولذلك يكفي احتمال مطابقة عمل الغير للواقع لو كان الاحتمال متعارفا ، ومن هنا قالوا بعدم جريان القاعدة في حالات العلم بجهل العامل ، وذلك لأنّ احتمال اتّفاق المطابقة مع الواقع مع افتراض جهل العامل بالصحّة والفساد ضئيل ان لم يكن موهوما.

* * *


٤٠٩ ـ الصحّة التأهّليّة

الصحّة التأهّليّة وصف للشيء الواقع جزءا ضمن مركّب من المركّبات ، ولا تصدق على جزء إلاّ حينما يكون واجدا للخصوصيّة المقتضية لتأهّله وصلاحيّته لأن تنضمّ إليه بقيّة أجزاء المركّب.

وتوضيح ذلك : إنّ بعض المركّبات قد لا يتحقّق الأثر المنتظر منها إلاّ حينما يكون الجزء اللاحق واجدا لشرط هو صحّة الجزء الذي سبقه ، أمّا حينما لا يكون الجزء السابق واجدا لذلك فإنّ الجزء اللاحق وإن كان واجدا لخصوصيّته فإنّه لا ينتج الأثر المنتظر منه وبذلك لا يتحقّق الأثر المنتظر من مجموع المركّب.

إذن عند ما لا يكون الجزء السابق صحيحا فإنّه لا يكون مؤهّلا لأن تلحقه وتنضمّ إليه الأجزاء اللاحقة فهو في قوّة العدم ، وحينئذ لا يكون الجزء اللاحق لاحقا لأنّه لم يكن مسبوقا بالجزء الذي اقتضى أثر المركّب أن يكون موجودا قبله ، وهذا معناه أن يكون الجزء اللاحق قد وقع في غير موقعه ، وهو ما يمنع من أن يؤثّر المركّب أثره المنتظر منه.

ونذكر مثالا للتوضيح فقط : وهو الخبز فإنّ الأثر المنتظر منه هو صلاحيّته لأن يأكل ، وهذا يقتضي أن تؤلّف أجزاؤه بكيفيّة خاصّة وهو أن يؤتى بالطحين أوّلا ثمّ يعجن بمقدار معيّن من الماء ثمّ يحوّر وبعد ذلك يوضع في النار.

فلو جئنا بطحين فاسد وعجنّاه بالماء متحفّظين على مقداره بالدقّة ثمّ حوّرناه ثمّ وضعناه في النار فإنّ ذلك لن يجعل من الخبز صالحا للأكل رغم أنّ أجزاءه اللاحقة واجدة لخصوصيّاتها ، ذلك لأنّ الجزء السابق لم يكن واجدا للصحّة ، وهذا ما اقتضى المنع من تأهّله لأن تلحق به الأجزاء اللاحقة فتؤثّر أثرها.

وبذلك يتّضح أنّ المراد من الصحّة التأهّليّة هي واجديّة الجزء السابق في المركّب للخصوصيّة المقتضية لتأهّله


وصلاحيّته لأن تنضمّ إليه الأجزاء اللاحقة فيؤثّر مجموعها الأثر المنتظر من المركّب.

ويمكن أن نمثّل لذلك بأجزاء الصلاة فإنّه قد اعتبر في صحّة اللاحق منها صحّة الجزء السابق فصحّة الجزء السابق وإن كان لا ينتج وحده الأثر المنتظر من الصلاة إلاّ أنّ صحّته تؤهّله لأن ينضمّ إليه الجزء الذي يليه.

فتكبيرة الإحرام حينما لا تكون صحيحة فإنّ القراءة بعدها لن تكون صحيحة ، وإن كانت واجدة لشرائط صحّتها في نفسها ، ذلك لأنّه اعتبر في صحّتها بالإضافة إلى شرائطها الخاصّة أن تكون لاحقة لتكبيرة الإحرام الصحيحة.

وبذلك يصحّ أنّ نصف كلّ جزء سابق واجد لشرائطه المعتبرة فيه بالصحّة التأهّليّة.

ثمّ إنّ وصف الجزء السابق ـ الواجد لخصائصه المعتبرة فيه ـ بالصحّة التأهّليّة لا يزول عن الجزء حتّى لو اتّفق عدم الاتيان بالجزء اللاحق أو اتّفق عدم صحّة الجزء اللاحق ، وذلك لأنّ المناط في صحّة إطلاق عنوان الصحّة التأهّليّة على الجزء السابق هو واجديّته لخصائصه المعتبرة فيه بحيث يكون بذلك متأهّلا لأن تنضمّ إليه الأجزاء اللاحقة ، فسواء لحقت به أو لم تلحق به فهو مؤهّل لأن تلحق به وهذا وحده كاف لصحّة إطلاق عنوان الصحّة التأهّليّة عليه.

وهذا بخلاف الصحّة الموصوف بها الجزء السابق بلحاظ صحّة الجزء اللاحق ، فإنّها لا تثبت للجزء السابق إلاّ بعد إحراز صحّة الجزء اللاحق ، فهي ليست منوطة بواجديّة الجزء السابق لخصائصه المعتبرة فيه وحسب ، بل هي منوطة بأمر آخر وهو صحّة الجزء اللاحق.

* * *

٤١٠ ـ الصحّة والفساد

ونبيّن هنا معنى الصحّة والفساد من جهة انّهما حكمان وضعيّان أو ليسا حكمين وضعيين ، فنقول انّ المحقّق


النائيني رحمه‌الله ذكر انّ اعتبار الصحّة والفساد من الأحكام الوضعيّة لا يستقيم إلاّ بناء على انّ المراد منهما أحد معنيين :

المعنى الاوّل : انّ الصحيح هو ما كان واجدا للخصوصيّة التي ينتظر منه التوفّر عليها بحسب طبعه ، فعند ما يقال انّ هذا الطعام صحيح فمعناه انّه واجد للخصوصيّة التي ينتظر منه الاشتمال عليها ، أمّا لو كان فاقدا لهذه الخصوصيّة فإنّه يكون طعاما فاسدا ، فالتمر مثلا والذي شأنه الحلاوة والليونة بحسب طبعه لو كان فاقدا لهما ـ كأن كان مرا أو حشفا ـ لكان فاسدا ، ولو كان متوفرا عليهما لكان صحيحا ، وهكذا الكلام في مثل الصلاة ، فالصلاة الواجدة للخصوصيّة المقتضية للأمر بها وهي المصلحة والملاك تكون صحيحة ، وأمّا الصلاة التي لا تتوفّر على هذه الخصوصيّة تكون فاسدة.

والصحّة بهذا المعنى انّما تكون من دواعي الأمر وعلل جعله ، إذ انّها انّما تنتزع عن مقام ذات الشيء بقطع النظر عن تعلّق الأمر بذلك الشيء ، غايته انّ توفّر الشيء على الخصوصيّة التي يقتضيها طبعه يكون هو الداعي والسبب لأن يتعلّق به الأمر والمتحصّل انّ الصحّة والفساد بهذا المعنى لا يكونان من الأحكام الوضعيّة.

المعنى الثاني : انّ الصحيح هو مطابقة المأتي به للمأمور به أو مطابقة المأتي به للطبيعة المعتبرة ، والفاسد هو ما لا يكون كذلك ، فالصلاة الصحيحة هي الفرد المحقّق أو المقدّر والذي يكون مطابقا للمأمور به ، أي للطبيعة المجعولة ، والعقد الصحيح هو الفرد الخارجي الموافق للعقد الذي اعتبرت معه الملكيّة مثلا ، فالملكيّة هي الحكم وموضوعها طبيعة العقد ، فمتى ما كان الفرد الخارجي مصداقا لطبيعة العقد فإنّه يكون صحيحا ، وأمّا لو لم يكن مصداقا لطبيعة العقد فإنّه يكون فاسدا ، هذا ما أفاده المحقّق النائيني والسيّد الخوئي رحمهما الله.

إلاّ انّ صاحب الكفاية رحمه‌الله ادعى انّ الصحّة في العبادات تكون بمعنى


مطابقة المأتي به للمأمور به ، وأمّا في المعاملات فليس كذلك بل انّ الصحّة في المعاملات تعني ترتيب الأثر على المعاملة ، فمتى ما كان أثر المعاملة مترتبا فإنّها تكون صحيحة أمّا إذا لم يترتّب الأثر على المعاملة فإنّها تكون فاسدة.

وبناء على هذا الاختلاف في معنى الصحّة كانت النتيجة هي انّ الصحّة في العبادات ليست من الأحكام الوضعيّة ، إذ انّها لا ترتبط بالجعل الشرعي ، وذلك لأنّ مطابقة المأتي به للمأمور به وعدم المطابقة انّما هو من الامور التكوينيّة القهريّة والتي لا تفتقر للجعل ، إذ لا يمكن أن يقال عن مصداق الطبيعة انّه ليس مصداقا لها ، كما انّ اعتباره مصداقا لها تحصيل للحاصل. وهكذا الكلام في الفساد فإنّ عدم مطابقة المأتي به للمأمور به لا يحتاج الى جعل بل هو ثابت في نفس الأمر بقطع النظر عن الجعل والاعتبار.

وأمّا الصحّة في المعاملات فلأنّ معناها هو ترتب الأثر على المعاملات افتقرت للجعل ، فما لم يعتبر الشارع ترتب الأثر على المعاملة فإنّها لا تترتب ، وهكذا الكلام في الفساد فإنّه منوط باعتبار الشارع عدم ترتب الأثر على المعاملة.

إلاّ انّ السيّد الخوئي رحمه‌الله حيث لم يقبل بدعوى الفرق بين معنى الصّحة في العبادات ومعنى الصحّة في المعاملات وذهب الى انّ لهما معنى واحد في العبادات والمعاملات معا وهو المطابقة وعدم المطابقة لأجل ذلك بنى على انّ الصحّة والفساد وفي المعاملات ليسا من الأحكام الوضعيّة بل هما من الامور التكوينيّة الغير المفتقرة للجعل والاعتبار إلاّ انّه فصّل بين الصحّة والفساد الواقعيّتين والصحّة والفساد الظاهريتين.

وأفاد بأنّ الصحة والفساد الواقعيّتين ليستا من الأحكام الوضعيّة ، وأمّا الصحّة والفساد الظاهريتين فباعتبار انّ موضوعهما هو الفرد المشكوك فإنّ للشارع الحكم بترتب الأثر عليه وعدم ترتيب الأثر ،


وبهذا تكون الصحّة والفساد الظاهريّتين من الأحكام الوضعيّة.

مثلا : الصلاة التي وقع الشك فيها بعد الفراغ منها نشك في مصداقيّتها للمأمور به ، فعند ما يحكم الشارع بصحّتها فإنّ هذه الصحّة تكون ظاهريّة ، وعليه يكون حكمه بالصحة معناه الحكم بترتّب الأثر على هذه الصلاة ، وهكذا لو حكم بالفساد فإنّه يكون فسادا ظاهريا باعتبار انّ موضوعه الفرد المشكوك في مصداقيته للمأمور به.

وعند ما نجري عقدا باللغة الفارسيّة فإنّنا نشك في مصداقيته للعقد ، فلو كان قد حكم الشارع بصحّته فإنّ الصحّة تكون حينئذ ظاهريّة وتعني الحكم بترتّب الأثر على العقد.

والمتحصل انّ معنى الصحّة والفساد الواقعيتين يختلف عن معنى الصحة والفساد الظاهريتين ، وان الأول يقتضي أن تكون الصحّة والفساد من الامور التكوينيّة بخلاف الثاني فإنّه يقتضي أن تكون الصحة والفساد من الأحكام الوضعيّة.

هذا وقد عدل السيّد الخوئي رحمه‌الله عن هذا المبنى في المحاضرات وذهب الى انّ الصحّة تعني امضاء الشارع للمعاملة والفساد يعني عدم الإمضاء ، فكلّ معاملة شخصيّة مشمولة لأدلّة الامضاء الشرعي فهي معاملة صحيحة وإلاّ فهي معاملة فاسدة.

وبتعبير آخر : انّ الصحّة في المعاملة تعني اعتبار الشارع ترتّب الأثر المترقّب على المعاملة ، والفساد يعني عدم اعتبار الشارع لترتّب الأثر على المعاملة ، وبهذا تكون الصحّة والفساد من الأحكام الوضعيّة وليستا من الامور الواقعيّة التكوينيّة كما هو الحال في العبادات.

ووجه العدول عن المبنى الاول هو ما أفاده رحمه‌الله من انّ نسبة المعاملات للإمضاء الشرعي نسبة الموضوع للحكم لا نسبة المتعلّق للحكم كما هو الحال في العبادات.

* * *


٤١١ ـ الصحيح والأعم

والبحث هنا عن انّ ألفاظ العبادات ـ كالصلاة والصوم والحجّ ـ وألفاظ المعاملات كالبيع والإجارة والنكاح هل هي مستعملة في لسان الشارع لخصوص الصحيح منها أو للأعم من الصحيح والفاسد؟

وتحرير محل النزاع يتمّ بأحد صياغات :

الصياغة الاولى : انّه بناء على ثبوت الحقيقة الشرعيّة وانّ الشارع وضع ألفاظ العبادات وألفاظ المعاملات لمعان خاصة تختلف سعة وضيقا وتبيانا عن المعاني اللغويّة بناء على ذلك يكون تصوير محلّ النزاع بهذه الصياغة : وهي انّ ألفاظ العبادات وألفاظ المعاملات هل هي حقيقة في خصوص الصحيح منها أو هي حقيقة في الأعم من الصحيح والفاسد.

وبتعبير آخر : هل هي موضوعة للصحيح أو هي موضوعة للأعم ، فلو كانت موضوعة للصحيح يكون استعمالها في الأعم مفتقرا الى قرينة وهكذا العكس ، فيكون الأصل عند عدم القرينة هو الاستعمال فيما وضع له شرعا.

الصياغة الثانية : انّه بناء على انكار الحقيقة الشرعيّة يكون تصوير محلّ النزاع بهذه الصياغة وهي انّ استعمالات الشارع لألفاظ العبادات والمعاملات هل هي في خصوص الصحيح منها باعتبار مناسبتها مع المعاني اللغويّة لهذه الألفاظ أو انّ استعمالاته لها انّما هو في الأعم باعتبارها هي المتناسبة مع المعاني اللغويّة لهذه الألفاظ ، فلو كان الأوّل كان الاستعمال في الثاني مفتقرا الى قرينة وكذلك العكس ، فيكون الأصل عند عدم القرينة هو الاستعمال المتعارف عن الشارع والمناسب لمداليل الألفاظ في اللغة.

الصياغة الثالثة : انّه بناء على انّ ألفاظ العبادات والمعاملات استعملها الشارع في معانيها اللغويّة إلاّ انّ


التعرف على إرادة المعنى الشرعي منها بواسطة نصب قرينة عامة بنحو تعدّد الدال والمدلول ، فالدال الاول هو واحد من ألفاظ العبادات أو المعاملات ومدلوله هو المعنى اللغوي ، والدال الثاني هو القرينة العامة ومدلوله هو المعنى الشرعي ، فبناء على هذا المبنى يكون تحرير محل النزاع بهذه الصياغة وهي انّ القرينة العامة التي جعلها الشارع دالا على المعنى الشرعي هل جعلها على المعاني الصحيحة أو جعلها على الأعم من الصحيحة والفاسدة ، فبناء على الأول تكون إرادة الأعم مفتقرة الى قرينة خاصة وهكذا العكس ، فالأصل عند عدم القرينة الخاصة هو الاستعمال في المعنى المناسب للقرينة العامة.

وأمّا ما هو المراد من الصحيح والفاسد فسوف نشرحه تحت عنوان الصحيح والفاسد ، وأمّا تصوير الجامع الوحداني بناء على الصحيح وبناء على الأعمّ فهو خروج عن الغرض.

* * *

٤١٢ ـ الصحيح والفاسد

ذكرت للصحيح والفاسد مجموعة من المعاني :

المعنى الاوّل : انّ الصحيح هو ما يقتضي الإتيان به سقوط الاعادة والقضاء ، والفاسد هو الذي ليس له هذا الاقتضاء ، وهذا المعنى هو المنسوب للفقهاء.

المعنى الثاني : انّ الصحيح هو الموافق للشريعة ، بمعنى انّ الصحيح هو ما يكون منطبقا للأمر الشرعي ، والفاسد هو ما لا يكون كذلك ، وهذا المعنى منسوب للمتكلّمين.

المعنى الثالث : انّ الصحيح هو ما يحصّل الغرض ويحقّقه ، والفاسد ما لا يكون كذلك.

وقد أورد على هذه المعاني الثلاثة بأنّها تعريفات للصحيح بلوازمه وللفاسد كذلك وإلاّ فليست هذه التعريفات معان للصحيح والفاسد بل انّ للصحيح معنى يلزم من هذا المعنى اللوازم المذكورة فالفعل اذا كان


صحيحا لزم عن الإتيان به سقوط الإعادة في الوقت والقضاء في خارجه ولزم من صحّته موافقة الشريعة وصيرورته منطبقا للأمر الشرعي وترتّب على صحّته حصول الغرض ، وهكذا الكلام في الفساد حيث يترتب عليه عدم سقوط الإعادة والقضاء وعدم موافقة الشريعة وعدم حصول الغرض.

المعنى الرابع : انّ الصحيح هو الواجد لتمام الأجزاء والشرائط والفاسد ما لا يكون كذلك ، وقد تبنّى هذا المعنى جمع من الأعلام ، ورتّب السيد الخوئي رحمه‌الله على ذلك انّ الصحة والفساد وصفان مختصان بالمركبات دون البسائط وانّ الذي يتّصف به المعنى البسيط هو الوجود والعدم.

الاّ انّ السيّد الصدر رحمه‌الله لم يقبل بهذا التعريف وذهب ـ تبعا للمحقّق العراقي رحمه‌الله الى انّ الصحيح هو الواجد للحيثيّة المرغوبة منه ، ولهذا لا تكون التعريفات الثلاثة للصحيح لوازم له بل هي مقومة له ، وذلك لأنّ واجديّة الشيء للحيثيّة المطلوبة تتفاوت بتفاوت الجهات الملحوظة ، وبهذا المعنى لا يكون وصف الصحّة والفساد مختصا بالمركبات كما أفاد السيّد الخوئي رحمه‌الله بل يكون وصف المعنى البسيط بالصحّة والفساد بلحاظ واجديّته للحيثيّة المرغوبة منه وعدم واجديّته لذلك.

* * *

٤١٣ ـ الصدق في القضايا الحمليّة

اختلف العلماء فيما هو مناط الصدق في الخبر ، فهنا أربعة مبان :

المبنى الأوّل : وهو مبنى المشهور ، وحاصله انّ مناط الصدق في الخبر هو مطابقة الخبر للواقع ، والكذب هو عدم مطابقته للواقع.

وبتعبير آخر : انّ الصدق هو مطابقة النسبة الخبريّة للنسبة الخارجيّة بقطع النظر عن كون النسبة ثبوتيّة أو سلبيّة ، والمراد من النسبة الخارجيّة هي النسبة الثابتة في نفس الأمر والواقع. وليس المقصود من


المطابقة للنسبة الخارجيّة هو المطابقة لما هو ثابت في الوجود الخارجي بل المقصود منه المطابقة لما هو الثابت في نفس الأمر ، ومن هنا تكون ضابطة الصدق شاملة للقضايا التي لا يكون ثبوت النسبة فيها خارجيا كما في قضيّة « شريك الباري ممتنع الوجود » و « النقيضان لا يجتمعان » ، فإنّ مناط الصدق في هذه القضايا هو مطابقة النسبة في القضيّة مع النسبة الثابتة في نفس الأمر والواقع.

المبنى الثاني : وهو الذي ذهب اليه السيد الخوئي رحمه‌الله ، وحاصله انّ مناط الصدق هو مطابقة مراده للواقع ، فالمطابق ـ بصيغة الفاعل ـ هو المراد ، والمطابق ـ بصيغة المفعول ـ هو الواقع ونفس الأمر ، وليس المناط في الصدق هو مطابقة ظهور كلام المتكلّم للواقع حتى وان كان هذا الظهور منافيا للمراد الجدّي ، نعم قد يتّفق ـ كما هو الغالب ـ اتّحاد الظهور مع المراد إلاّ انّ ذلك لا يسوّغ أن يكون المناط هو مطابقة ظهور الكلام للواقع كما هو مبنى المشهور ، ومن هنا يكون المتّصف بالصدق والكذب هو مؤدى الخبر لا نفس الخبر كما هو مبنى المشهور ، وقد بينّا ذلك تحت عنوان « الجملة الخبريّة ».

المبنى الثالث : وهو الذي ذهب اليه النّظام ، وحاصله انّ مناط الصدق في الخبر هو مطابقته لاعتقاد المخبر حتى وان كان الاعتقاد منافيا للواقع ، ومناط الكذب هو عدم مطابقة الخبر لاعتقاد المخبر حتى وان كان مطابقا للواقع ، فلو قال المخبر « محمّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » ولم يكن معتقدا بهذه النسبة فإنّ هذا الخبر يكون كاذبا رغم مطابقته للواقع ، ولو أخبر بوجود شريك الباري وكان معتقدا لذلك فإنّ خبره يكون صادقا رغم منافاته للواقع.

المبنى الرابع : وهو الذي ذهب اليه الجاحظ ، وحاصله انّ مناط الصدق في الخبر هو مطابقته للواقع والاعتقاد معا ، والكذب هو عدم مطابقة الخبر لهما معا ، وأمّا لو كان


الخبر متوفرا على أحد الأمرين دون الآخر فإنّه لا يتّصف بالصدق ولا بالكذب ، فلو كان الخبر مطابقا للواقع ومنافيا للاعتقاد أو منافيا للواقع ومطابقا للاعتقاد فإنّه لا يكون كاذبا ولا صادقا.

* * *

٤١٤ ـ الصدق في القضايا الشرطيّة

انّ مناط الصدق في القضايا الشرطيّة هو صحّة الملازمة وواقعيّتها ، ومناط الكذب فيها هو فساد الملازمة وعدم واقعيّتها ، وذلك لأنّ مؤلف القضيّة الشرطيّة يدعي ثبوت الملازمة بين المقدّم والتالي في القضيّة الشرطيّة فلو لم تكن هذه الملازمة ثابتة في نفس الأمر فإنّ القضيّة أو مؤداها يكون كاذبا وان كان ثابتا في نفس الأمر فالقضيّة أو مؤداها يكون صادقا.

مثلا : قضيّة « إذا اطّلعت الشمس فالنهار موجود » صادقة وذلك لصحّة الملازمة وثبوتها في الواقع ، أمّا لو قيل « إذا طلعت الشمس فالليل موجود » فإنّ القضيّة تكون كاذبة لعدم صحّة الملازمة ومنافاتها للواقع ونفس الأمر.


هوامش حرف الصاد

(١) سورة الحجرات : ١٢.


حرف الضّاد


عناوين حرف الضاد

٤١٥ ـ مسألة الضدّ

٤١٦ ـ الضدّ العام والضدّ الخاص

٤١٧ ـ الضرر والضرار

٤١٨ ـ الضرورة بشرط المحمول


حرف الضاد

٤١٥ ـ مسألة الضدّ

ويقع البحث في مسألة الضدّ عن الملازمة بين وجوب الشيء وحرمة ضده ، وانّ العقل هل يدرك ثبوت هذه الملازمة أولا ، وبذلك يتّضح انّ مسألة الضدّ من المسائل العقليّة من قسم الاستلزامات ، إذ انّ القاضي بثبوت الملازمة وعدم ثبوتها هو العقل ، وانّ التعبير عن عنوان المسألة بقولهم « الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضدّه » لا يراد منه اختصاص البحث بالوجوب المفاد بواسطة الأدلّة اللفظيّة بل لأنّ الوجوب غالبا ما يستفاد بواسطة اللفظ ، فهذا ما برّر التعبير عن عنوان المسألة بذلك وإلاّ فالبحث يشمل مطلق الوجوب وانّه يقتضي حرمة ضدّه أولا.

هذا ولكن البعض حرّر المسألة على أساس انّها من المباحث اللفظيّة وانّ الأمر هل يدلّ بالإضافة الى البعث نحو متعلّقه هل يدل بإحدى الدلالات الثلاث ـ المطابقيّة والتضمنيّة والالتزاميّة ـ على النهي عن ضده أو انّه ليس للأمر أيّ دلالة على النهي عمّا يضاد متعلّقه.

وكيف كان فالبحث عن الاقتضاء في عنوان المسألة لا يختصّ بالبحث عن الملازمة بل يشمل الاقتضاء بنحو العينيّة والاقتضاء بنحو التضمن ، كما انّ المقصود من الملازمة يشمل اللزوم البيّن بالمعنى الأخص واللزوم البيّن بالمعنى الأعمّ وقد بيّنّا المراد من


الاقتضاء في عنوان المسألة تحت عنوان « الاقتضاء في مسألة الضد » ، وأمّا ما هو المراد من الضدّ فهذا ما سيأتي بيانه.

ويبقى الكلام في الثمرة المترتّبة على مسألة الضدّ ، فإنّه بناء على القول باقتضاء الوجوب لحرمة الضدّ الخاصّ تكون النتيجة هي حرمة الواجب المضاد للواجب الأهمّ ملاكا ، فلو اتّفق وجود واجبين تضييق قدرة المكلّف عن امتثالها معا وكان أحدهما أهمّ ملاكا من الآخر فإنّ مقتضى القول بأنّ وجوب الشيء يقتضي النهي عن ضدّه هو حرمة الواجب المضاد لما هو أهمّ ملاكا ، ولهذا لو كان هذا الضدّ عباديا لما صحّ التقرّب به.

وأمّا لو كان البناء هو القول بعدم الاقتضاء لكانت النتيجة هي انّ وجوب الضدّ لا يكون مانعا عن ثبوت الوجوب للضدّ الآخر ، نعم لمّا كان الفرض هو ضيق قدرة المكلّف عن امتثال كلا الوجوبين فهذا يقتضي أن يكون الضدّ الآخر الأقلّ أهميّة مقيدا بعدم امتثال الضدّ الأهمّ فتكون فعليّة الوجوب للأقلّ أهميّة منوطة بعصيان أو بترك الضدّ الأهمّ ، وبهذا يكون الضدّ الأقل أهميّة واجبا ولكن بنحو الترتّب ، بمعنى انّه لو عصى المكلّف الضدّ الأهمّ فإنّه ملزم بالاتيان بالضدّ المهمّ ويكون عندئذ ممتثلا للضدّ المهمّ وعاصيا للضد الأهمّ. ولمزيد من التوضيح راجع عنوان « الترتّب ».

* * *

٤١٦ ـ الضدّ العام والضدّ الخاص

المراد من الضدّ في عنوان مسألة الضدّ هو الأعمّ من الضدّ المنطقي ، وذلك لشموله للنقيض المنطقي ، ويعبّر عن الضدّ الذي بمعنى النقيض بالضدّ العام وعن الضدّ المنطقي بالضدّ الخاصّ ، وبهذا يكون المراد من الضدّ في عنوان المسألة هو مطلق المعاند والذي تارة يكون من قبيل الأمر الوجودي المنافي وجوده لوجود الضدّ الواجب ، وتارة يكون من قبيل الأمر العدمي والذي هو نقيض وجود الواجب.


والمتحصّل انّ المراد من الضدّ العام : هو ترك الفعل الذي ثبت له الوجوب ، والبحث فيه يقع عن انّ ترك الفعل الذي ثبت له الوجوب هل هو حرام أو لا ، أي انّ ثبوت الوجوب للفعل هل يقتضي حرمة تركه أو انّه لا يقتضي ذلك؟

وقد يطلق الضدّ العام ـ كما أفاد المحقّق النائيني رحمه‌الله ـ على الأعم من النقيض والأضداد الوجوديّة المتعدّدة ، ففي حالة وجود أضداد متعدّدة للواجب يعبّر عن هذه الأضداد المتعدّدة بالضدّ العام ، وذلك في مقابل ما اذا كان للواجب ضدّ واحد ، إلاّ انّ هذا التعبير غير سائد كما أفاد المحقّق النائيني رحمه‌الله وانّ ما هو السائد هو اطلاق الضدّ العام على خصوص النقيض.

وأمّا المراد من الضدّ الخاصّ فهو الأمر الوجودي الذي يعاند وجوده وجود الواجب بحيث يستحيل اجتماعهما ، أي يستحيل صدورهما عن المكلّف ، فحينما يأتي المكلّف بالفعل الوجودي المضاد فإنّ ذلك يستوجب العجز عن الإتيان بالفعل الواجب.

مثلا : حينما يكون انقاذ الغريق واجبا فإنّ الصلاة أو النوم يكون من الضدّ الخاصّ للواجب.

والبحث فيه يقع عن انّ فعل الضدّ الخاص مثل النوم أو الصلاة هل هو حرام أو لا ، بمعنى انّ وجوب الإنقاذ هل يقتضي حرمة ضدّه الخاص.

* * *

٤١٧ ـ الضرر والضرار

ذكر المحقّق صاحب الكفاية رحمه‌الله انّ المراد من الضرر هو النقص الذي يعرض النفس أو الطرف أو العرض أو المال وانّه يقابل النفع تقابل العدم والملكة.

وقد وجّه السيّد الحكيم رحمه‌الله دعوى صاحب الكفاية رحمه‌الله بأنّ التقابل بين الضرر والنفع تقابل العدم والملكة بما حاصله انّ النفع عبارة عن اتّصاف موضوع بوصف له شأنية الاتّصاف به ، ويكون عدم الاتّصاف به من قبيل


انتفاء وصف عن موضوع له شأنيّة أن يتّصف بذلك الوصف ، فالبصر للإنسان نفع وعدمه ضرر ، وذلك لأنّ الانسان له شأنيّة الاتّصاف بالبصر ، فيكون انتفاء البصر عنه انتفاء الوصف عن موضوع له شأنيّة الاتّصاف به.

ووجّه السيّد الصدر دعوى صاحب الكفاية رحمه‌الله بما حاصله : انّ من المحتمل إرادة صاحب الكفاية رحمه‌الله اشتمال النفع والضرر على نكتة تقابل العدم والملكة لا أنّ مراده هو انّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، إذ لا بدّ في المتقابلين بنحو العدم والملكة أن يؤخذ في موضوع عدم الملكة قابليّته « الموضوع » للملكة ، والضرر والذي يفترض أن يكون هو عدم الملكة لا يتوفّر على هذه الخصوصيّة ، إذ لم يؤخذ في موضوع الضرر قابليّته للنفع ، ومع ذلك يمكن ان يدعى اشتمال النفع والضرر على نكتة التقابل بنحو العدم والملكة ، وذلك بأن يقال انّ تحقّق الضرر لا يكون إلاّ في مورد له قابليّة الاتّصاف بالنفع ، فالمال مثلا المملوك لشخص له قابليّة الاتّصاف بالنفع وذلك فيما اذا زاد فعند ما ينقص يكون ذلك النقص عبارة عن انسلاب وصف عن موضوع له قابليّة الاتّصاف به ، وهذا هو الضرر ، إذ الضرر هو النقص وهو عبارة عن عدم النفع لموضوع « مال شخص » له شأنيّة الاتّصاف بالنفع ، وهذا بخلاف النقص الذي يعرض المال غير المملوك فإنّه لا يكون ضررا ، وذلك لأنّ المال ليس له شأنيّة النفع حتى مع زيادته فلا يكون نقصه ضررا.

هذا ولكنّ السيّد الخوئي رحمه‌الله لم يقبل بدعوى صاحب الكفاية رحمه‌الله من انّ الضرر مقابل للنفع ، وادعى انّ الضرر يقابل المنفعة ، وذلك لأنّ النفع مصدر فالمناسب ان يقابله « الضرّ » والذي هو مصدر أيضا.

والفرق بين المصدر واسم المصدر انّ المصدر هو نفس الفعل الصادر من الفاعل ، فحينما يقال « ضربه ضربا » فإنّ « الضرب » هو نفس الفعل


الصادر عن الفاعل ، وأمّا اسم المصدر فهو ينشأ عن معنى المصدر ، ولهذا يعبّر عنه باسم المصدر ، إذ انّه اسم للمعنى المصدري ، فحينما يقال « ضرّ زيد عمروا ضررا » فإنّ معنى ذلك انّه حصل لعمرو الضرر ، فالضرر هو ما حصل لعمرو من نقص بسبب ضرّ زيد له ، وهكذا حينما يقال : « نفع زيد عمروا نفعا ومنفعة » فإنّ النفع هو نفس الفعل الصادر عن زيد ، وأمّا المنفعة فهي الزيادة التي حصلت لعمرو بسبب نفع زيد له.

وبهذا يتّضح انّ الضرر مقابل للمنفعة ، ولمّا كانت المنفعة بمعنى الزيادة العارضة للموضوع التام فالضرر هو النقص العارض للموضوع التام ، وبهذا يكون التقابل بينهما تقابل التضادّ وانّ هناك حالة ثالثة لا يكون معها ضرر ولا منفعة كما لو لم يضرب الإنسان ولم يعظّم.

وجاء السيّد الصدر رحمه‌الله ببيان آخر لمعنى الضرر ، وحاصله : انّ اللغويّين اختلفوا في تعريف الضرر ، فمنهم من عرّف الضرر بالنقص في المال والنفس أو الطرف أو العرض ، ومنهم من عرّفه بالشدّة والحرج والضيق. والصحيح انّ الحيثيّتين مأخوذتان في معنى الضرر وانّه عنوان منتزع عن النقص الموجب للوقوع في الشدّة والضيق.

فحيثيّة النقص وحدها ليست كافية في تحقّق الضرر ، كما انّ حيثيّة الشدّة والحرج لا تحقّق وحدها عنوان الضرر ، نعم لا يعتبر في صدق الضرر فعليّة الحرج والضيق النفساني بل يكفي أن يكون للنقص شأنيّة الإيقاع في الحرج والضيق النفساني ، فلو تلف مال زيد دون علمه فإنّه لا يقع في الضيق النفساني لغفلته عن ذلك إلاّ انّ هذا النحو من التلف له شأنيّة الإيقاع في الضيق والحرج وهو كاف في صدق الضرر.

وأمّا المراد من الضرار فقد ذكرت له احتمالات :

الاحتمال الأوّل : انّه مصدر للفعل المجرّد « ضرّ » فيكون من قبيل قام قياما وحاسبه حسابا ، وقد منع السيّد


الخوئي رحمه‌الله هذا الاحتمال لأنّ الضرار حينئذ سوف يكون بمعنى الضرر ، فيلزم التكرار في الرواية بلا مبرّر.

إلاّ انّ السيّد الصدر رحمه‌الله أفاد بأنّ هذا الاحتمال لا يستلزم التكرار لو كان معنى الضرار مستبطنا لمعنى الشدّة وتأكّد الضرر أو كان مستبطنا لمعنى الضرر عن قصد وتعمّد ، فيكون تكرار المصدر لغرض إفادة أحد هذين المعنيين اللذين قد لا يكون لفظ الضرر مفيدا لهما.

ثمّ استظهر المعنى الثاني منهما وقال انّه المناسب للمتفاهم العرفي للفظ الضرار ، فيكون اللفظ الاول وهو « الضرر » نافيا للحكم الضرري إلاّ انّه يبقى الحكم الذي ليس ضرريا بطبعه إلاّ انّه يمكن الاستفادة منه لإيقاع الضرر بالغير كما في حكم الشارع بسلطنة الناس على أموالهم ، فإنّه ليس حكما ضرريا بطبعه إلاّ انّه قد يستفاد منه لإيقاع الضرر بالغير ، كما لو استفاد منه أحد الشريكين لايقاع الضرر على شريكه بأن يمنعه من التصرّف في المال المشترك فلا يأذن ببيعه كما لا يأذن بتقسيمه ولا بإجارته والاستفادة من منفعته ، ومن الواضح انّ الشريك الآخر ليس له التصرّف في المال المشترك دون إذن شريكه ، فهذا الحكم والذي هو ليس ضرريا بطبعه إذا استفاد منه المكلّف لإيقاع الضرر على الغير فإنّه منفي بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا ضرار » (١).

ثم أيّد هذه الدعوى بتمسّك الفقهاء بقاعدة « لا ضرر ولا ضرار » لنفي بعض الأحكام التي ليست ضرريّة بطبعها ، فلا يصلح نفي الضرر لنفيها ، نعم كلمة « الضرار » هي المصحّحة لنفي هذه الأحكام باعتبارها تستبطن معنى الاستقلال والتعمّد لإيقاع الضرر على الغير ، وذلك مثل استفادة الزوج من اختصاصه بحقّ الطلاق لإيقاع الزوجة في الضرر فإنّه لا معنى للتمسّك بالقاعدة إلاّ من جهة نفيها للضرار.

وبهذا يثبت انّ اختيار الاحتمال الاوّل وهو انّ الضرار مصدر الفعل


الثلاثي المجرّد « ضرّ » لا يستلزم التكرار.

الاحتمال الثاني : انّ الضرار مصدر باب المفاعلة المزيد فيه والمأخوذ من الفعل الثلاثي المجرّد « ضرّ » ، فيكون الضرار مصدرا للفعل « ضارّ ».

واختار السيّد الخوئي رحمه‌الله هذا الاحتمال وأيّده بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لسمرة : « انّك رجل مضار » (٢) إلاّ انّه لم يقبل بما هو معروف عند النحاة والصرفيين من انّ باب المفاعلة يدلّ على نسبتين ، أي صدور الفعل من الاثنين ، فحينما يقال « ضارب زيد عمروا » فإنّه يدلّ على انتساب ضرب عمرو لزيد وانتساب ضرب زيد لعمرو.

وذهب تبعا للمحقّق الأصفهاني رحمه‌الله الى انّ هيئة المفاعلة موضوعة للدلالة على ايجاد الفاعل للفعل ، أي خلقه لمادة الفعل ، فقوله تعالى : ( يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ ) (٣) ، فمعنى يخادعون هو ايجاد المنافقين للخدعة ، ولا يعني ذلك انّ الله تعالى والمنافقين يتبادلون ايجاد الخدعة ، وهكذا كلّ الآيات التي استعملت هيئة باب المفاعلة ، فإنّه وبعد التتبع ـ كما أفاد المحقّق الأصفهاني رحمه‌الله ـ لم نجد في الآيات التي استعملت هذه الهيئة ما يدلّ على إفادتها لنسبتين وصدور الفعل من الاثنين.

وبهذا يكون معنى الضرار هو ايجاد الضرر.

* * *

٤١٨ ـ الضرورة بشرط المحمول

والمقصود منها القضايا التي اخذ المحمول جزء أو شرطا في موضوعها ، فهي ضرورية باعتبار انّ المحمول جزء للموضوع ، أي انّ صيرورة القضايا الممكنة في نفسها ضروريّة يكون بشرط أخذ المحمول جزء أو شرطا في موضوعها ، وعندئذ يكون ثبوت المحمول للموضوع من قبيل ثبوت الشيء لنفسه ، وهو ضروري كما هو واضح.


فعند ما يقال : « زيد عالم » فإنّ هذه القضية ممكنة ، إذ انّ المحمول كما يمكن ثبوته للموضوع يمكن انتفاؤه عنه ، أما حينما يقال : « زيد العالم عالم » فإنّ القضية تصبح ضرورية ، وذلك لأنّ العالم اخذ جزء في الموضوع ، فيكون ثبوت العالميّة لزيد العالم من ثبوت الشيء لنفسه.

وذلك في مقابل الامتناع بشرط المحمول حيث انّ المقصود منه القضايا التي اخذ في موضوعها عدم المحمول ، وعندئذ يكون ثبوت المحمول للموضوع ممتنعا.

ومثال ذلك : أن يقال : « زيد غير العالم عالم » ، فامتناع هذه القضية نشأ عن أخذ عدم المحمول جزء في الموضوع ، فهي ممتنعة بشرط المحمول.


هوامش حرف الضاد

(١) الوسائل : باب ١ من أبواب موانع الإرث الحديث ٩ و ١٠.

(٢) الوسائل : باب ١٢ من أبواب احياء الموات الحديث ٤.

(٣) سورة البقرة : ٩.



حرف الطّاء


عناوين حرف الطاء

٤١٩ ـ الطبيعي الاصولي

٤٢٠ ـ الطبيعي المعقولي

٤٢١ ـ مسلك الطريقيّة

٤٢٢ ـ الطلب والإرادة

٤٢٣ ـ أصالة الطهارة

٤٢٤ ـ الطهارة والنجاسة


حرف الطاء

٤١٩ ـ الطبيعي الاصولي

والمراد من الطبيعي الاصولي هو الكلّي الطبيعي وهو امّا الماهيّة المهملة أو الماهيّة اللابشرط القسمي ، وقد أوضحنا ذلك تحت عنوان « الكلّي الطبيعي ».

* * *

٤٢٠ ـ الطبيعي المعقولي

المراد من الطبيعي المعقولي هو الكلّي العقلي المعبّر عنه بالماهيّة المجرّدة والماهيّة بشرط لا ، وبتعبير المناطقة هو الطبيعة الملحوظة بوصف الكلّيّة ، وقد أوضحنا ذلك تحت عنوان « الكلّي العقلي » وقلنا انّ موطن الكلّي العقلي لا يكون إلاّ الذهن ، ولهذا لا يسري الحكم المجعول على الطبيعة بوصفها كليّة الى الأفراد الخارجيّة ، فحينما يقال : « الإنسان نوع » فإنّ الحكم على الإنسان بأنّه نوع لا يصحّح الحكم على زيد بأنّه نوع ، إذ انّ الإنسان المحمول عليه « النوع » انّما هو الإنسان الكلّي المأخوذ بشرط لا من جهة العوارض التي يمكن أن تعرض الماهيّة في الخارج ، ومن الواضح انّ لحاظ الإنسان بهذا النحو من اللحاظ لا يصدق على الأفراد الخارجيّة فلا يكون الحكم الثابت له ثابتا للأفراد الخارجيّة.

* * *

٤٢١ ـ مسلك الطريقيّة

وهو الملك الذي تبنّاه المحقّق


النائيني والسيّد الخوئي رحمهما الله فيما هو المجعول في الأمارات حيث تبنيا انّ المجعول في الأمارات هو الطريقيّة ، بمعنى انّ الشارع أعطى للأمارة دور الطريقيّة والكاشفيّة والمحرزيّة للواقع ، فهي وان لم تكن محرزة وكاشفة عن الواقع بذاتها إلاّ انها بواسطة الجعل الشرعي تأهّلت لهذا الدور.

وبيان ذلك : هو انّ الذي له دور الكشف والمحرزية للواقع حقيقة انّما هو القطع ، فهو بمقتضى ذاته يكشف عن متعلّقه ويحرزه وأما الأمارات فليست لها هذه الخاصيّة بمقتضى ذاتها ، وذلك لأنّ كاشفيتها غير تامّة ، ومن هنا كان ثبوت هذه الخاصيّة للأمارة منوط بالجعل والاعتبار.

وبهذا يتضح انّ المراد من مسلك الطريقيّة في الأمارات هو اعتبار الشارع الأمارة كاشفة ومحرزة للواقع كإحراز القطع للواقع ، غايته انّ محرزيّة القطع للواقع ذاتيّة للقطع فلا تخضع للجعل والاعتبار ، وأما محرزيّة الأمارة للواقع فيكون بواسطة الجعل ، ودور الجعل الشرعي هو تتميم كاشفيّة الامارة واعتبارها علما ، فيكون لها نفس الدور الثابت للقطع وهو الوسطيّة في الإثبات والكاشفيّة عن الواقع ، وهذا لا يعني انّ الشارع قد تصرّف في الواقع وجعل مؤدى الأمارة وما تكشف عنه واقعا تنزيلا بل يظل الواقع على ما هو عليه فلا تقتضي الأمارة تبدله كما لا تقتضي صيرورة مؤدى الأمارة واقعا تنزيلا ، فغاية ما يقتضيه جعل الطريقيّة للأمارة هو تتميم ما نقص من كاشفيتها ويبقى الواقع على حاله قد تصادفه الأمارة وقد لا تصادفه ، فالتوسع انّما هو في خاصيّة الكشف التام ، فبعد ان كانت مختصّة بالقطع تصبح بواسطة الجعل ثابتة للأمارة ، فكأنّما الشارع وسع من دائرة العلم وجعل الأمارة فردا منه ، ولذلك صار للأمارة دور الوسطيّة في الإثبات كما هو شأن القطع فيكون ثبوت المنجّزية والمعذريّة للأمارة غير مفتقر للجعل بعد ان وسّع الشارع من موضوع


المنجزيّة والمعذرية بواسطة جعل الطريقيّة للأمارة ، أي انّ المنجّزيّة والمعذريّة من اللوازم الذاتيّة للقطع لكونه كاشفا تاما عن متعلّقه وباعتبار انّ الشارع تمّم كاشفية الأمارة فإنّ هذا يقتضي أن تكون الأمارة موضوعا حقيقة للمنجّزيّة والمعذريّة ، غايته انّ موضوعيّة القطع للمنجّزيّة والمعذريّة ثابتة بالوجدان وأمّا موضوعيّة الأمارة لهما فثابتة بالتعبّد ، وهذا هو الورود.

* * *

٤٢٢ ـ الطلب والإرادة

وقع الخلاف بين الأعلام في الطلب والإرادة وهل انّهما متّحدان مفهوما ومصداقا أو انّهما متغايران مفهوما ومتّحدان مصداقا أو انّهما متباينان مفهوما ومصداقا؟

ذهب صاحب الكفاية رحمه‌الله إلى الأول ، أي انّ الطلب والإرادة متّحدان مفهوما وانشاء ومصداقا. وحاصل ما أفاده رحمه‌الله :

انّ الطلب والإرادة موضوعان لمعنى واحد ، فهما لفظان مترادفان يعبّران عن مدلول واحد ، فليس بينهما تفاوت من جهة المفهوم ، وهذا هو معنى الاتّحاد المفهومي بينهما ، غايته انّ الطلب تارة يكون حقيقيا واخرى يكون انشائيا ، فما هو مرادف للطلب الحقيقي هو الإرادة الحقيقيّة وما هو مرادف للطلب الإنشائي هو الإرادة الإنشائيّة ، وأمّا الطلب الإنشائي فهو مغاير للإرادة الحقيقيّة ، كما انّ الإرادة الإنشائيّة مغايرة للطلب الحقيقي ، نعم المنصرف عند اطلاق الطلب هو الطلب الإنشائي كما انّ المنصرف من لفظ الإرادة هو الإرادة الحقيقيّة إلاّ انّ الوجدان قاض بأنّ الإرادة الحقيقيّة والطلب الحقيقي شيء واحد ، كما انّ الطلب الإنشائي والإرادة الإنشائيّة شيء واحد ، وهذا هو معنى اتّحاد الطلب والإرادة انشاء ، أي انّ الطلب الإنشائي ليس شيئا آخر غير الإرادة الإنشائيّة.

وأمّا الاتّحاد المصداقي بينهما فهو


بمعنى انّ واقع الطلب هو عينه واقع الإرادة ، فواقع الإرادة الحقيقيّة هو واقع الطلب الحقيقي كما انّ واقع الطلب الإنشائي هو واقع الإرادة الإنشائيّة.

والمتحصّل انّ معنى الإرادة الحقيقيّة هو الشوق المؤكد القائم بالنفس والناشئ عن تصوّر الشيء وتصوّر فائدة والتصديق بها ، وهذا هو معنى الطلب الحقيقي. وان معنى الطلب الإنشائي هو ما ينشأ بالصيغة أو ما يساوقها ، وهذا هو معنى الإرادة الإنشائية. ثم انّ واقع الإرادة أي الإرادة بالحمل الشائع هو عينه واقع الطلب.

وذهب آخرون الى الثاني وانّ الطلب والإرادة متغايران مفهوما إلاّ انّهما متحدان مصداقا ، فكما انّ مفهوم الناطق ومفهوم الضاحك متباينان من حيث المفهوم إلاّ انّ بينهما علاقة التساوي خارجا ، فلا شيء من الناطق إلاّ وهو ضاحك وكذلك العكس ، فهكذا الحال في الطلب والإرادة.

وأمّا المبنى الثالث وهو الذي ذهب اليه السيّد الخوئي رحمه‌الله وجمع من الأعلام فهو التغاير بين الطلب والإرادة مفهوما ومصداقا ، وانّ الطلب هو التصدّي لتحصيل ما هو مرغوب ومطلوب ، فهو فعل اختياري صادر عن الإنسان بالإرادة ، ولهذا لا يقال لمن رغب في تحصيل العلم إلاّ انّه لم يتصدّ لتحصيله انّه طالب علم ، فمحض الشوق والرغبة في ذلك لا يصحّح اطلاق عنوان الطالب عليه. وأمّا الإرادة فهي صفة نفسانيّة أو فعل نفساني قائم بالنفس ، وقد أوضحنا المراد من الإرادة تحت عنوانها.

وبهذا اتّضح انّ الطلب والإرادة متغايران مفهوما ومصداقا وانشاء ، أما التغاير المفهومي بينهما فواضح بعد ان قلنا انّ الطلب وضع للدلالة على التصدّي لتحصيل المرغوب والمحبوب وانّ الإرادة وضعت للدلالة على الصفة أو الفعل النفساني.

وأمّا التغاير المصداقي فلأنّ واقع الطلب لا يكون إلاّ عند تصدّي المريد


لتحصيل مراده ، وأمّا فعليّة الشوق والرغبة فهي إرادة بالحمل الشائع وليست طلبا ، على انّ الطلب المنشأ بالصيغة أو ما يساوقها لا يقال له إرادة نعم هو يعبّر عن وجود إرادة وشوق إلاّ انّ وجود الإرادة والشوق ليس هو وحده المصحّح لاطلاق الطلب الإنشائي على ما انشأ بالصيغة مثلا بل الذي صحّح اطلاق الطلب عليه بالاضافة الى الإرادة والشوق هو انّه نحو من التصدي لتحصيل المطلوب.

* * *

٤٢٣ ـ أصالة الطهارة

والمقصود منها حكم الشارع بالطهارة الظاهريّة في حالات الشك بقطع النظر عن كون متعلّق الشك هو الحكم أو الموضوع أو قل سواء كان الشك بنحو الشبهة الحكميّة أو كان بنحو الشبهة الموضوعيّة ، فلو وقع الشك في نجاسة الكتابي وطهارته فإنّ أصالة الطهارة تقتضي الحكم بالطهارة الظاهريّة وهكذا لو وقع الشك في خمريّة هذا المائع فيكون نجسا أو عدم خمريته فيكون طاهرا فإنّ أصالة الطهارة تقتضي الحكم بطهارة هذا المائع المشكوك الخمرية.

ثم انّ أصالة الطهارة لم تبحث في علم الاصول ، وعلّل صاحب الكفاية رحمه‌الله ذلك بأنّ أصالة الطهارة ليست مطردة في تمام أبواب الفقه بل هي مختصّة بباب الطهارة خلافا لسائر المسائل الاصوليّة والتي تقع نتيجتها في استنباط الحكم الشرعي بقطع النظر عن موقع هذا الحكم في الفقه ، أي انّ نتيجة المسألة الاصوليّة لا تختصّ بباب من أبواب الفقه دون باب.

وأورد السيّد الخوئي رحمه‌الله على ذلك بأنّ ضابطة المسألة الاصوليّة هو وقوع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الشرعي ولا يعتبر في اصوليّة المسألة ان تكون نتيجتها مطردة في جميع أبواب الفقه. ثمّ ذكر ان منشأ عدم تعرض الاصوليين لأصالة الطهارة في علم الاصول هو وضوحها وعدم وقوع الخلاف في حجيّتها وانّها


من الاصول العمليّة المقرّرة لوظيفة المكلّف في ظرف الشك.

* * *

٤٢٤ ـ الطهارة والنجاسة

ذهب الشيخ الأنصاري رحمه‌الله الى انّ الطهارة والنجاسة من الامور الواقعيّة وليستا من المجعولات الشرعيّة ، وذلك لأنّ الأحكام الوضعيّة لا تنالها يد الجعل أصالة بل هي امّا أن تكون منتزعة عن الأحكام التكليفيّة مثل الزوجيّة والملكيّة أو انّها من الامور الواقعيّة كالطهارة والنجاسة.

ووقع الكلام فيما هو مراد الشيخ رحمه‌الله من دعوى انّ الطهارة والنجاسة من الامور الواقعيّة ، وقد ذكر لذلك ثلاثة احتمالات :

الاحتمال الأوّل : انّ الطهارة هي النظافة الواقعيّة والنجاسة هي القذارة الواقعيّة فليستا من المعتبرات الشرعيّة ، وانّ وظيفة الشارع انّما هي الكشف عنهما وعن مواردهما عينا كما هو الحال في كشف أهل الخبرة عن خواص بعض الأدوية والتي لا يمكن التعرف عليها إلاّ عن طريقهم.

الاحتمال الثاني : انّ مناط جعل الشارع للطهارة والنجاسة انّما هو لاشتمال متعلّقهما على النظافة والقذارة المعنويتين الواقعيتين.

والظاهر انّ هذا المعنى غير مراد للشيخ رحمه‌الله ، إذ انّ معناه انّ الطهارة والنجاسة من المجعولات الشرعيّة ، وهو مناف لمبنى الشيخ رحمه‌الله في الأحكام الوضعيّة غير الانتزاعيّة كما اتّضح مما تقدم.

الاحتمال الثالث : انّ مناط الطهارة والنجاسة انّما هو النظافة والقذارة العرفيّتان وهي تعتمد على مبرّرات ومرتكزات عرفيّة ، وليس ذلك مرتبطا بالجعل والاعتبار ، غايته انّ النظافة والقذارة قد لا تكونان محسوستين للعرف فيكشف الشارع عنهما بواسطة الحكم بطهارة بعض الأشياء ونجاسة أشياء اخرى ويكون المنكشف هو النظافة والقذارة العرفيّتان ، بمعنى انّ العرف لو اطّلع


على واقع هذه الأشياء لبنى على طهارة ما كشف الشارع عن طهارته ونجاسة ما كشف الشارع عن نجاسته ، بل قد يبنى العرف على قذارة بعض الأشياء ونظافة أشياء اخرى نتيجة الجهل باشتمال ما بنى على نظافته على مناط القذارة العرفيّة وهكذا العكس ، فتكون وظيفة الشارع هي تصحيح هذا البناء بواسطة الكشف عن واقع ما تشتمل عليه هذه الأشياء من مناط القذارة والنظافة العرفيتين.

والمتحصل انّ الطهارة والنجاسة ليستا من الجعولات الشرعيّة بل هما من الاعتبارات العرفيّة ، وتكون مهمّة الشارع هي الكشف عنها ، فإمّا أن يتطابق ما كشف عنه مع ما هو البناء العرفي خارجا ، وامّا أن يكون ما كشف عنه هو المطابق لمناط المتبنيات العرفيّة وان كان البناء العملي العرفي على خلافة نتيجة الجهل بواقع اشتمال هذه الأشياء على ما هو مناط المتبنّيات العرفيّة.

وكيف كان فما ذهب إليه الشيخ الأنصاري رحمه‌الله لم يقع موقع القبول عند كثير من الأعلام لمنافاة دعواه مع ظواهر الأدلّة المقتضية لكون الطهارة والنجاسة من الجعولات الشرعيّة.

ونقض عليه السيّد الخوئي رحمه‌الله بالطهارة الظاهريّة والتي يمكن أن يكون متعلّقها نجسا واقعا ، فلا يتعقل معها إلاّ الجعل الشرعي.



حرف الظّاء


عناوين حرف الظاء

٤٢٥ ـ الظن

٤٢٦ ـ الظن الخاص

٤٢٧ ـ الظنّ الطريقي والظنّ الموضوعي

٤٢٨ ـ الظن المطلق

٤٢٩ ـ الظنّ النوعي

٤٣٠ ـ الظهور

٤٣١ ـ أصالة الظهور

٤٣٢ ـ الظهور الاقتضائي والفعلي

٤٣٣ ـ الظهور التصوري والتصديقي

٤٣٤ ـ الظهور التضمني

٤٣٥ ـ الظهور الحالي

٤٣٦ ـ الظهور الذاتي والموضوعي


حرف الظاء

٤٢٥ ـ الظن

يطلق الظن في اصطلاح الاصوليين على الأعم من الظن المنطقي والشك والاحتمال المنطقيين ، فمطلق ما ليس بيقين يعبّر عنه عندهم بالظن ، نعم ، الاطمئنان والذي يكون معه احتمال الخلاف موهوما لا يعبّر عنه عندهم بالظن كما هو كذلك في الاستعمالات العرفيّة بل قد يعبّرون عن الاطمئنان باليقين وان كانوا يسلّمون بأنّ الاطمئنان لا يساوق اليقين الرياضي والذي لا يكون معه احتمال الخلاف واردا ولو كان بمستوى الوهم أو ما هو أدنى من ذلك لو كان ثمّة مستوى أدنى من الوهم.

ثم انّ الأصل هو عدم حجيّة مطلق الظن على اختلاف مراتبه وتفاوت مناشئه إلاّ مع قيام الدليل القطعي على جعل الحجيّة له امّا مطلقا أو في موارد خاصة عند ما ينشأ عن مناشئ معينة.

راجع عنوان « الحجيّة المجعولة ».

* * *

٤٢٦ ـ الظن الخاص

والمراد من الظنّ الخاصّ هو الظنّ الناشئ عن الأمارات التي قام الدليل القطعي على حجيّتها كالظن الناشئ عن خبر الثقة أو الخبر الموثوق.

ومنشأ التعبير عنه بالظنّ الخاصّ هو الاحتراز عن الظنون الناشئة عن الامارات التي لم يقم الدليل القطعي على حجيتها.

* * *


٤٢٧ ـ الظنّ الطريقي والظنّ الموضوعي

والفرق بينهما يتّضح من ملاحظة الفرق بين القطع الطريقي والقطع الموضوعي وانّ الطريقي هو ما يتمحّض دوره في الكشف عن متعلّقه دون أن تكون له دخالة في ترتّب الحكم على موضوعه ، وانّ الموضوعي هو ما يكون دخيلا في ترتّب الحكم على موضوعه ، فالأوّل يكون كاشفا عن ثبوت الحكم للموضوع ، والثاني يكون مولّدا للحكم باعتباره موضوعا له أو جزء موضوع له.

ثم انّ الظن الموضوعي ينقسم الى ما ينقسم عليه القطع الموضوعي ، حيث قلنا انّ القطع تارة يؤخذ في الموضوع بنحو الصفتية واخرى بنحو الطريقيّة ، وكلا القسمين تارة يؤخذان بنحو جزء الموضوع واخرى بنحو تمام الموضوع.

ثمّ انّ الظنّ المأخوذ في الموضوع تارة يكون من الظنون المعتبرة واخرى يكون من الظنون غير المعتبرة ، على انّ اعتبار الظنّ في موضوع الحكم تارة يكون بلحاظ تعلّق الظنّ بحكم شرعي واخرى يكون بلحاظ تعلّقه بموضوع خارجي.

وبملاحظة ما ذكرناه في أقسام القطع الموضوعي وما ذكرناه تحت عنوان « أخذ القطع حكم في موضوع حكم آخر » يتّضح المراد من هذه الأقسام.

ثم انّ السيّد الخوئي رحمه‌الله ذكر انّ الأقسام المذكورة للظنّ الموضوعي انّما هي لشحذ الذهن ، إذ لا يوجد في الفقه ولا مورد واحد اخذ الظن بنحو الموضوعيّة ، نعم توجد موارد كثيرة في الفقه اعتبر فيها الظنّ بنحو الطريقيّة المحضة ، كاعتبار الظنّ في عدد الركعات وفي تحديد القبلة عند عدم التمكّن من احرازها.

* * *

٤٢٨ ـ الظن المطلق

والمقصود من الظنّ في هذا العنوان هو خصوص الظنّ المنطقي ، والمقصود


من الإطلاق هو الإطلاق من جهة منشأ الظن فمنشأ الظن ملحوظ بنحو اللابشرط ، أي سواء نشأ عن مبرّرات عقلائيّة كخبر الثقة أو الإجماع أو الشهرات أو نشأ عن مبرّرات شخصيّة.

ويبحثون تحت هذا العنوان حجيّة الظنّ المطلق وما هي الأدلّة التي يمكن أن يستدل بها على حجيّته. وقد ذكروا لذلك أربعة أدلّة :

الأول : انّ الظن بالتكليف معناه الظنّ بالضرر عند عدم امتثال التكليف المظنون ، والعقل حاكم بلزوم دفع الضرر المظنون.

الثاني : انّ عدم العمل بما هو مقتضى الظنّ بالتكليف معناه ترجيح للمرجوح على الراجح وهو قبيح عقلا.

الثالث : هو وجود علم اجمالي بثبوت تكاليف الزاميّة وجوبيّة وتحريميّة ، وهذا ما يقتضي الاحتياط التام إلاّ انّه لمّا كان الاحتياط التام موجبا للوقوع في العسر والحرج يتعيّن التبعيض في الاحتياط وهو يقتضي الأخذ بالمظنونات دون المحتملات ، إذ انّ الأخذ بالمحتملات دون المظنونات يكون من ترجيح المرجوح. وهذا الدليل هو أحد مقدّمات دليل الانسداد.

الرابع : هو دليل الانسداد ، وهو مكون من أربع أو خمس مقدمات ، وقد أوضحناها تحت عنوان الانسداد ».

* * *

٤٢٩ ـ الظنّ النوعي

المراد من الظنّ هنا هو الظنّ المنطقي المقابل للشكّ والاحتمال المنطقيّين ، ووصفه بالنوعي لغرض التمييز بينه وبين الظنّ الشخصي.

فحينما ينشأ الظنّ عن مبرّرات عقلائيّة منتجة للظنّ عند نوع العقلاء لو اتّفق وقوفهم على تلك المبرّرات فإنّ هذا النحو من الظنّ يعبّر عنه بالظنّ النوعي ، أمّا حينما ينشأ الظنّ بواسطة الحدس أو لأسباب لا تنتج


الظنّ عند نوع العقلاء فإنّ هذا النحو من الظنّ يعبّر عنه بالظنّ الشخصي.

* * *

٤٣٠ ـ الظهور

الظهور في اللغة هو البروز والبيان ، ووصف الشيء بالظاهر يعني وصفه بالبارز والبيّن ، وهذا المعنى لا يبتعد كثيرا عما هو متداول في استعمالات الاصوليين ، فهم يقصدون من الظهور تعيّن أحد المعاني المحتملة للكلام مثلا تصورا وتصديقا أو تصورا دون التصديق ، وذلك في مقابل النصّ والمجمل ، إذ لا ينقدح في الذهن مع النصّ سوى معنى واحد فلا يكون معه أي احتمال بالخلاف ولو بمستوى الوهم ، وأمّا المجمل فهو يحتمل أكثر من معنى دون أن يتعين معه واحد من المعاني المحتملة.

ولكي يتبلور المراد من الظهور في اصطلاح الاصوليين نذكر مجموعة من الامور :

الأمر الأوّل : تنقسم الدلالات اللفظيّة من جهة مدلولها الى ثلاث مراتب :

الاولى : أن يكون مدلولها متعينا وواضحا بنحو يحصل الجزم بارادته ولا يكون ثمة احتمال بإرادة خلافه ولو بمستوى الوهم ، وهذا هو المعبّر عنه بالنص في مرحلة المدلول التصديقي ، وقد تكون النصوصيّة مختصّة بمرحلة المدلول التصوري كما لو كان هو المعنى والمدلول المتعين من الدلالة الوضعيّة اللغويّة إلاّ انّه في مرحلة المدلول التصديقي يحتمل أكثر من معنى بسبب وجود القرينة او احتمالها.

الثانية : أن تكون للدلالة اللفظيّة أكثر من معنى محتمل وتكون هذه المعاني المحتملة اما متكافئة من حيث مستوى الاحتمال أو يكون بعضها أرجح من بعض إلاّ انّ هذا الرجحان لا يصل بالمعنى الراجح الى مستوى الوثوق بكونه هو المعنى المتعين أو المراد وذلك لاعتبارات لغوية أو مقاميّة أو عقلائيّة أو ما الى ذلك ، وفي كلا الصورتين يعبّر عن الدليل أو المدلول بالمجمل.


الثالثة : ان للدلالة اللفظيّة أكثر من معنى محتمل ويكون أحد المعاني المحتملة هو المتعيّن من تلك المعاني إلاّ انّ تعينه لا يصل لمستوى القطع بل يظلّ احتمال الخلاف واردا ، على أن يكون منشأ التعيّن هو الاعتبارات النوعيّة المتصلة بالضوابط اللغويّة والمناسبات العرفيّة والعقلائيّة ، وهذا هو المعبّر عنه بالظهور.

الأمر الثاني : ينقسم الظهور الى قسمين :

القسم الأوّل : الظهور التصوري وهو تعيّن وانسباق أحد المعاني المحتملة الى الذهن من اطلاق اللفظ على أن يكون منشأ ذلك الانسباق والتعيّن هو الاوضاع اللغويّة فهو المنشأ لاستقرار المعنى في الذهن وركون النفس بتعيّنه دون سائر المحتملات ، إذ انّ لانسباقه واستقراره مبرّر وهو الوضع ، وأمّا المحتملات الاخرى فلو كان لها مبرر فهو غير منتظم ولا مطرد.

والظهور التصوري يظلّ منحفظا حتى مع قيام القرينة المتصلة على عدم إرادته ، كما أوضحنا ذلك تحت عنوان « الدلالة التصوريّة ».

القسم الثاني : الظهور التصديقي ، وهو الظهور الحالي السياقي والذي يتعيّن بواسطته المراد الجدّي من كلام المتكلّم ، وهو لا ينشأ عن الاوضاع اللغويّة كما هو الحال في الظهور التصوري وان كان قد يساهم في انعقاد الظهور التصديقي.

فالظهور التصديقي إذن هو ما يكشف عن مراد المتكلم من خلال ملاحظة حاله ، وهو أيضا لا ينافي وجود محتملات اخرى وانّها هي المراد واقعا إلاّ انّ هذه المحتملات لا اعتداد بها عند العقلاء بعد ان لم يكن لها مبرّر سوى انّ الظهور لا ينتج العلم بالمراد.

ثمّ انّ الظهور التصديقي ـ والذي يتعيّن معه المراد الجدّي للكلام ـ لا ينعقد إلاّ مع عدم القرينة المتصلة على الخلاف ، بمعنى انّ الظهور في التطابق بين المدلول التصوري الوضعي وبين


المدلول الجدّي منوط بعدم قيام القرينة المتصلة على عدم إرادة المدلول التصوري ، وأما قيام القرينة المنفصلة فلا تمنع من انعقاد الظهور التصديقي ، بمعنى انّ الظهور التصديقي يظلّ منحفظا حتى مع قيام القرينة المنفصلة على خلافه ، نعم في مثل هذه الحالة لا يصح الاعتماد على الظهور التصديقي ، فوظيفة القرينة المنفصلة هي سلب الحجيّة عن الظهور التصديقي ، وأمّا وظيفة القرينة المتصلة فهي المنع عن انعقاد الظهور التصديقي.

الأمر الثالث : انّه يمكن تقسيم الظهور التصوري والتصديقي الى قسمين بلحاظ من ينعقد عنده الظهور :

القسم الأوّل : الظهور الذاتي أو قل الظهور الشخصي ، وهو الظهور الذي ينعقد نتيجة ملابسات ومبررات شخصيّة غير مطردة ، فهو يخضع لعوامل تتصل بخصوص من انعقد عنده الظهور ولا يطرد لنوع المتلقي للكلام.

وهذا النحو من الظهور لا اعتداد به ، فلا يصحّ ترتيب الأثر عليه كما لا يصحّ الاحتجاج به على المتكلم ، إذ لم تنعقد السيرة العقلائيّة ـ والتي هي مدرك ثبوت الحجيّة للظهور ـ على صلاحيته للكشف عن الوضع وعن المراد الاستعمالي والجدّي للمتكلم.

القسم الثاني : الظهور الموضوعي أو قل الظهور النوعي ، وهو الذي ينشأ عن مبرّرات عقلائيّة تعتمد الضوابط اللغويّة والطرق المتبعة عند أهل المحاورة في بيان المراد وتلقي الخطاب.

وهذا النحو من الظهور هو الذي انعقدت السيرة العقلائيّة على ترتيب الأثر على مؤداه والاحتجاج به على المتكلم ، فهو الذي يكشف عن إرادة المتكلّم للمعنى المستظهر ، إذ انّ المستظهر من حال المتكلّم العرفي هو اعتماد الاساليبب العرفيّة في أداء مراداته ، وهذا هو الذي يبرر استظهار إراداته للمعنى المناسب للضوابط اللغويّة والمناسب للأساليب المتبعة


عند أهل المحاورة وإلاّ لكان المتكلم ـ والذي يفترض حرصه على التحفظ على أغراضه ـ مجازفا بأغراضه ، إذ لو استعمل اسلوبا غير متعارف عند نوع المتلقي لكان من القريب جدا عدم التعرّف على مراده بل قد يكون ذلك مؤديا إلى حمل كلامه على خلاف ما يريد ، وهو ما يحرص المتكلّم على عدم وقوعه.

الأمر الرابع : انّ الظهور الموضوعي النوعي له مرتبتان بلحاظ من انعقد عنده الظهور.

المرتبة الاولى : ويعبّر عنها بالظهور الاقتضائي ، وهو الظهور المناسب لمقتضيات الضوابط اللغويّة وأساليب أهل المحاورة ، ولهذا فهو يقتضي حصول الظنّ بموافقته لمراد المتكلم كما يقتضي المنع عن حصول الظنّ بمنافاته لمراد المتكلم إلاّ انّ هذا الاقتضاء قد لا يؤثر أثره لمزاحم خارجي هذا المزاحم قد يوجب حصول الظنّ بمنافاة الظهور الاقتضائي لمراد المتكلم كما قد يوجب انتفاء الظنّ بموافقة الظهور الاقتضائي لمراد المتكلم.

المرتبة الثانية : ويعبّر عنها بالظهور الفعلي ، وهو الظهور المناسب أيضا لمقتضيات الضوابط اللغويّة وأساليب أهل المحاورة إلاّ انّه يكون مع فعليّة الظنّ بمطابقة ما يقتضيه الظهور الاقتضائي مع مراد المتكلم.

وباتضاح مرتبتي الظهور الموضوعي نقول : انّه قد وقع البحث بين الأعلام عن أيّ المرتبتين من الظهور انعقدت السيرة العقلائيّة على ترتيب الأثر عليه ، فهل هو الظهور الاقتضائي أو هو الظهور الفعلي ، فبناء على كفاية الظهور الاقتضائي يكون الأثر مترتبا على مجرّد مناسبة الظهور لمقتضيات الاوضاع اللغويّة والمناسبات العرفيّة دون أن يناط ترتّب الأثر بأكثر من ذلك ، بمعنى انّه لو لم يحصل الظن بمطابقة ما يقتضيه الظهور مع مراد المتكلّم بل لو حصل الظنّ بمخالفة ما يقتضيه الظهور لمراد المتكلّم فإنّ ذلك لا يستوجب إلغاء أثر الظهور ، وهذا هو معنى القول بحجيّة


الظهور مطلقا سواء حصل الظنّ بالوفاق أو لم يحصل بل وحتى لو حصل الظنّ بالخلاف ، أي كان الظنّ منافيا لما يناسب الظهور الاقتضائي.

وأمّا بناء على اناطة ترتيب الأثر على الظهور الفعلي فإنّ عدم الظنّ بالوفاق ـ أي الظن بمطابقة الظهور الاقتضائي لمراد المتكلم ـ فضلا عن الظن بالخلاف يكون مانعا عن ترتيب الأثر على الظهور.

وهناك مبنى ثالث حاصله : عدم اناطة ترتيب الأثر على فعليّة الظنّ بموافقة الظهور الاقتضائي لمراد المتكلّم إلاّ انّ الأثر لا يترتب على الظهور لو اتفق حصول الظنّ بمنافاة مقتضى الظهور لمراد المتكلّم.

والمعروف بين الأعلام هو المبنى الأول والذي هو كفاية الظهور الاقتضائي ، أي بقطع النظر عن حصول الظنّ بمخالفة مقتضى الظهور مع مراد المتكلّم فضلا عن حصول الظنّ بموافقة مقتضى الظهور لمراد المتكلّم ، وذلك لقيام السيرة العقلائيّة على العمل بالظهور بمجرّد مناسبته مع مقتضيات الاوضاع اللغويّة وأساليب أهل المحاورة دون ملاحظة فعليّة الظنّ بالوفاق أو عدم الظن بالخلاف.

إلاّ انّه قد يقال بأنّ الصحيح هو المبنى الثاني ، وذلك لأنّ ترتيب الأثر على الظهور نشأ عن كاشفيّة الظهور عن مراد المتكلّم فإذا لم يحصل الظنّ بموافقة الظهور لمراد المتكلّم فلا يكون الظهور صالحا للكشف عن المراد ، فليس ترتيب الأثر على الظهور حكما تعبديا وانّما هو ناشئ عن نكتة عقلائيّة ، وهي أهلية الظهور للكشف عن المراد ، وهذه الأهليّة لا تتفق للظهور في حالات عدم حصول الظنّ بموافقة مقتضاه لمراد المتكلّم.

وأما المبنى الثالث فمدركه انّ الظهور الاقتضائي وان كان أمارة على إرادة المتكلم العرفي لما يقتضيه الظهور إلاّ انّه مع حصول الظنّ بالخلاف تكون هذه الأمارة مزاحمة بأمارة اخرى ، وحينئذ لا مبرّر لاعتماد هذا النحو من الظهور.


هذا وقد جاء المحقّق النائيني رحمه‌الله في المقام بتفصيل وتبعه في ذلك السيد الخوئي رحمه‌الله ، وحاصل هذا التفصيل انّ الظهور قد يكون الغرض منه ـ بالإضافة الى الكشف عن الواقع ـ الاستفادة منه في مقام الاحتجاج كالاوامر والنواهي ومطلق ما يتّصل بعلاقات الموالي بعبيدهم وكذلك الاقرار والوصيّة وما الى ذلك.

وهذا النحو من الظهور هو الذي انعقدت السيرة العقلائيّة على ترتيب الأثر عليه بمجرّد نشوئه عن مقتضيات الضوابط اللغويّة والمناسبات العرفيّة حتى عند حصول الظنّ بالخلاف فضلا عن عدم حصول الظنّ بالوفاق ، ولهذا لا يصححون اعتذار العبد عن مخالفة مقتضى الظهور بعدم حصول الظنّ بالوفاق أو حصول الظنّ بالخلاف.

وقد يكون الغرض من الظهور هو الكشف واستكشاف الواقع فحسب دون أن يكون الغرض منه الاحتجاج به على المتكلّم أو احتجاج المتكلّم به على المخاطب كالظهورات المتصلة بالمعاملات التجاريّة أو ما يتّصل بالإرشادات الطبيّة ، فإنّ هذا النحو من الظهور لا يرتّب العقلاء عليه الأثر ما لم يحصل الظنّ بمطابقة الظهور مع المراد فصلا عما لو حصل الظنّ بمخالفة مقتضى الظهور لمراد المتكلم.

وبملاحظة هذه الأمور الأربعة يتّضح المراد من الظهور.

* * *

٤٣١ ـ أصالة الظهور

وهي من الاصول اللفظيّة المقتضية للبناء على انّ الظهور اللفظي الوضعي هو المراد جدا للمتكلم ، فموضوع أصالة الظهور هو الشك في مراد المتكلم بعد انعقاد الظهور اللفظي الوضعي ، بمعنى انه قد ينعقد للكلام ظهور في معنى ومع ذلك يقع الشك في انّ المعنى المستظهر من الكلام هل هو مراد جدا للمتكلم أو انّه أراد معنى آخر غير المعنى المستظهر من كلامه ، وحينئذ يكون دور أصالة الظهور هو


البناء على انّ مراده الجدّي هو نفس المعنى المستظهر من كلامه.

وبيان ذلك : انّ الشك في مراد المتكلّم قد يكون بسبب عدم انعقاد ظهور للكلام ولو بمستوى الظهور التصوري كما في حالات الجهل بأصل الوضع أو الجهل بما هو المتفاهم العرفي من هذا التعبير أو ما الى ذلك ، ففي حالة من هذا القبيل لا سبيل للتمسّك بأصالة الظهور.

وقد يحصل الشك في مراد المتكلم رغم انعقاد الظهور اللفظي لكلامه ، ومنشأ الشك حينئذ أحد امور :

الأمر الأول : هو احتمال غفلة المتكلّم عن نصب قرينة على مراده الجدّي ، فيحتمل انّه واقعا لا يريد المعنى الظاهر من كلامه بل يريد معنى آخر إلاّ انّه غفل عن نصب القرينة على عدم إرادة المعنى الظاهر وانّه مريد لمعنى آخر.

الأمر الثاني : هو احتمال تعمّد المتكلّم في اخفاء القرينة المعبّرة عن مراده الجدّي ، وذلك لغرض يراه مصححا لإخفاء القرينة وعدم التصريح بها.

الأمر الثالث : هو احتمال انّ المتكلّم قد نصب القرينة على مراده الجدّي المنافي للظهور اللفظي إلاّ انّ المتلقي لم يطلع على هذه القرينة.

وتلاحظون انّ مجموع هذه المناشئ لا تنافي انعقاد الظهور اللفظي ، وذلك لأنّه لو كان ثمة قرينة على إرادة خلاف ما هو الظهور اللفظي لكانت قرينة منفصلة ، وقد قلنا في بحث الظهور انّ القرينة المنفصلة لا تهدم الظهور حال وجودها فضلا عن احتمال وجودها ، نعم مع قيام القرينة المنفصلة ينكشف انّ الظهور غير مراد جدا للمتكلم وبهذا تسقط الحجيّة عن الظهور اللفظي ، أما حينما تكون القرينة المنفصلة محتملة فإنّ هذا الاحتمال بمناشئة الثلاثة لا اعتداد به في نظر العقلاء بل يكون البناء حينئذ على ما يقتضيه الظهور اللفظي ، وهذا هو معنى أصالة الظهور ، نعم وقع الخلاف بين الأعلام في انّ التمسّك بأصالة الظهور


هل يكون ابتدائيا بمعنى انّ مجرّد احتمال القرينة المنفصلة مصحّح للتمسك بأصالة الظهور أو انّ التمسّك بأصالة الظهور يكون بعد نفي احتمال القرينة بأصالة عدم القرينة.

ذهب الشيخ الأنصاري رحمه‌الله لذلك ، وذهب جمع من الأعلام كالسيّد الخوئي والسيّد الصدر رحمهما الله الى عدم الحاجة لتنقيح أصالة الظهور بواسطة أصالة عدم القرينة ، وهذا ما سيأتي ايضاحه تحت عنوان « أصالة عدم القرينة ».

ثمّ انّ هنا أمرا لا بدّ من التنبيه عليه وان كان قد اتّضح ممّا تقدّم وهو انّ التمسّك بأصالة الظهور ابتداء انّما يكون في حالات انعقاد الظهور اللفظي للكلام ، وأمّا إذا لم ينعقد ظهور للكلام فإنّ أصالة الظهور لا يمكن التمسّك بها ابتداء بل قد لا يصحّ التمسّك بها تبعا في بعض الحالات ، كما قد اتّضح ممّا تقدّم انّ الظهور اللفظي لا ينعقد مع وجود القرينة المتّصلة ، وهذا لا إشكال فيه.

انّما الإشكال في حالات احتمال القرينة المتصلة ، فهل يمكن التمسّك بأصالة الظهور لنفي القرينة المتصلة المحتملة أو لا بدّ من اجراء أصالة عدم القرينة أولا وبها يمكن التمسّك بأصالة الظهور أو انّه لا مجال للتمسّك بالاصلين بل يكون الكلام في حالة من هذا القبيل مجملا أو انّ الصحيح هو التفصيل.

وبيان ذلك : ذكر السيّد الخوئي رحمه‌الله انّ منشأ احتمال القرينة المتصلة على قسمين ، فتارة يكون مرتبطا بغفلة المتكلّم أو السامع ، كما لو احتملنا غفلة المتكلّم عن نصب القرينة المتّصلة رغم إرادتها أو احتملنا اتفاق غفلة السامع عنها رغم انّ المتكلّم قد نصبها. وتارة يكون الاحتمال غير مرتبط بغفلة المتكلّم أو السامع كما لو عرض على الكتاب المشتمل على كلام المتكلّم تلف واحتمل المتلقي اشتمال ما تلف منه على قرينة متّصلة توجب صرف الكلام عن ظهوره الاولي.

ففي القسم الأوّل لا سبيل للتمسك بأصالة الظهور ابتداء كما ذهب لذلك


صاحب الكفاية رحمه‌الله ، وذلك لأنّ احتمال وجود القرينة يقتضي اجمال الكلام ، إذ لا يتحرّر ظهور لكلام متكلّم ما لم يحرز انّه في مقام تفهيم المعنى الظاهر بدوا ، ولا سبيل لإحراز ذلك مع احتمال القرينة المتّصلة ، نعم يمكن استظهار إرادة المعنى الظاهر بدوا بواسطة أصالة عدم القرينة كما ذكر الشيخ الأنصاري رحمه‌الله ، إذ مع نفي القرينة بواسطة هذا الأصل اللفظي العقلائي يتنقح الظهور ، ولعلّ هذا هو منشأ بناء المشهور على التمسّك بمقتضى الظهور رغم احتمال القرينة المتصلة.

وأمّا القسم الثاني فلا سبيل معه للتمسّك بأصالة الظهور كما لا سبيل لنفي احتمال القرينة وان كان المعروف بين الاصوليين هو امكان التمسّك بأصالة الظهور بعد اجراء أصالة عدم القرينة.

وعلّل السيّد الخوئي رحمه‌الله ذلك بأنّ احتمال القرينة يوجب عدم انعقاد ظهور للكلام للزوم احراز عدم القرينة المتّصلة في انعقاد الظهور ولا سبيل لاحراز ذلك حتى بواسطة أصالة عدم القرينة ، إذ انّ مدركها هو البناء العقلائي ، وليس ثمّة بناء عقلائي على نفي القرينة المحتملة في هذا الفرض ، فما هو ملاحظ بالوجدان انّ العقلاء حينما يعرض عليهم كتاب قد مزّقت بعض أوراقه ونشأ عن ذلك احتمال وجود قرينة متّصلة قد سقطت مع الأوراق الساقطة فإنّهم لا يرتبون الأثر على ما هو مستظهر من الكتاب بقطع النظر عن القرينة المحتملة ، ولا ينفون القرينة المحتملة بأصالة عدم القرينة بل يعتبرون الكلام مجملا.

وعمّق السيّد الصدر رحمه‌الله الإشكال بما حاصله انّ اجراء أصالة عدم القرينة المتصلة من العقلاء ليس تعبديا بل ينشأ عن مبرّر هو أصالة عدم الغفلة باعتبار انّ الغفلة حالة اتفاقيّة تنافي مقتضى الطبع الإنساني ، وهذا هو السبب في عدم امكانيّة تنقيح الظهور فيما هو مفترض بأصالة عدم القرينة ، إذ انّ أصالة عدم القرينة ترتكز كما قلنا على أصالة عدم الغفلة ،


واجراء أصالة عدم الغفلة فيما هو مفترض غير ممكن بعد ان لم يكن عدم وجود القرينة ناشئا عن احتمال غفلة المتكلّم أو السامع.

وبهذا اتّضح السبب في امكان التمسّك بأصالة عدم القرينة المتصلة لتنقيح الظهور في القسم الأوّل وعدم امكان ذلك في القسم الثاني ، إذ انّ احتمال القرينة في القسم الأوّل نشأ عن احتمال غفلة المتكلّم أو السامع ، وأمّا احتمال القرينة المتّصلة في القسم الثاني فعدم الغفلة لا ينفع في دفع احتمال القرينة حتى لو كنّا نقطع بعدم الغفلة ، إذ انّ الاحتمال لم ينشأ عن الغفلة او احتمالها وانّما نشأ عن عارض آخر كتمزّق بعض أوراق الكتاب أو خروج السامع عن مجلس الخطاب قبل اكمال المتكلّم لكلامه أو عروض النوم على السامع أو اتّفاق ابتلائه بثقل السمع ، فإنّ احتمال القرينة المتّصلة الناشئ عن هذه المناشئ لا يندفع بأصالة عدم القرينة المتّصلة لارتكازها على أصالة عدم الغفلة وهي غير نافعة في مثل هذا الفرض وذلك لأنّ احتمال القرينة غير مرتبط باحتمال الغفلة.

* * *

٤٣٢ ـ الظهور الاقتضائي والفعلي

قد أوضحنا المراد منهما في الأمر الرابع تحت عنوان « الظهور ».

* * *

٤٣٣ ـ الظهور التصوري والتصديقي

اتّضح من الأمر الثاني من عنوان « الظهور » الفرق بين الظهور التصوري والظهور التصديقي ، ويبقى الكلام فيما ينقسم عليه الظهور التصديقي ، فقد ذكر انّ للظهور التصديقي قسمين :

القسم الأوّل : الظهور التصديقي الاولي ويعبّر عنه بالدلالة الاستعماليّة ، وقد أوضحنا المراد منها تحت عنوانها.

القسم الثاني : الظهور التصديقي الثاني ، ويعبّر عنها بالدلالة التصديقيّة


الثانية أو بالدلالة الجدّيّة ، وقد بينا المراد منها في محلّها ، فراجع.

وقد اتّضح ممّا تقدّم انّ كلا القسمين منوطان بعدم القرينة المتّصلة على الخلاف ، وأمّا القرينة المنفصلة فلا يؤثر وجودها في انهدام الظهور التصديقي بكلا قسميه ، نعم قيام القرينة المنفصلة يوجب سقوط الظهور التصديقي الثاني عن الحجيّة.

والمتحصّل انّ القرينة المنفصلة تمنع عن الحجيّة وأمّا القرينة المتّصلة فتمنع عن انعقاد الظهور التصديقي الاولي والثاني.

* * *

٤٣٤ ـ الظهور التضمني

المراد من الظهور التضمني هو ظهور الكلام في بعض المعنى تبعا لظهوره في تمام المعنى ، فعند ما يكون الكلام في ظاهرا في معنى مركب مثلا فإنّ هذا الظهور يستتبع ظهورا آخر في جزء المعنى المركب ، وهذا الظهور هو المعبّر عنه بالظهور التضمني ، فلو أقرّ شخص ببيع داره فإنّ ظهور كلامه في بيع تمام الدار يعبّر عنه بالظهور الاستقلالي ، وهذا الظهور يستتبع ظهورات اخرى ، كظهور الكلام في بيع حجرات الدار وبيع فناء الدار وهكذا ، وهذه الظهورات هي المعبّر عنها بالظهورات التضمنيّة.

ولا تخفى تبعيتها للظهور الاستقلالي ثبوتا انّما البحث عن تبعيّة الظهور التضمني للظهور الاستقلالي في السقوط ، بمعنى انّه لو ثبت عدم إرادة الظهور الاستقلالي وانّ ما ظهر بدوا من إرادة تمام المعنى غير مراد جدا وانّ بعض المعنى غير مراد من الكلام فحينئذ هل يقتضي ذلك سقوط الظهور التضمني في المعاني الجزئيّة الاخرى ، بمعنى انّ ذلك هل يوجب سقوط الحجيّة عن الظهورات التضمنيّة التي لم تقم القرينة على عدم إرادتها أو لا؟

ذهب جمع من الأعلام الى عدم تبعيّة الظهور التضمني للظهور الاستقلالي في السقوط عن الحجيّة ،


وعلل السيّد الخوئي رحمه‌الله ذلك بأنّ الظهور الاستقلالي في تمام المعنى ينحلّ الى ظهورات تضمنيّة بلحاظ كلّ جزء من أجزاء المعنى ، فلو سقطت بعض الظهورات التضمنيّة فإنّ ذلك لا يوجب سقوط الظهورات التضمنيّة الاخرى بعد انعقاد الظهور لها وعدم تبعيّة بعضها لبعض فليس بعضها علّة لوجود الآخر ولا هو معلول له ، بمعنى انّ انعقاد الظهور في جزء المعنى لا ينشأ عن انعقاده في جزء المعنى الآخر حتى يكون سقوط أحد الظهورات التضمنيّة موجبا لسقوط تمام الظهورات التضمنيّة ، فالظهورات التضمنيّة وان كانت منحلّة عن الظهور الاستقلالي إلاّ انّ ذلك لا يعني ترابط الظهورات التضمنيّة فيما بينها بل انّ كلّ واحد من الظهورات التضمنيّة ناشئ عن نكتة مستقلّة عن الظهور التضمني الآخر.

* * *

٤٣٥ ـ الظهور الحالي

من الواضح انّه كما تكون للألفاظ مدلولات يمكن استظهارها اعتمادا على ما تقتضيه الاوضاع اللغويّة والمناسبات العرفيّة المتّبعة عند أهل المحاورة كذلك يمكن أن يكون للسلوك العملي مدلولات متعيّنة أو محتملة ، فلو كان للسلوك العملي مدلول متعين تركن اليه النفس اعتمادا على ما يقتضيه المتفاهم العرفي في مقام التعرف على ما توحيه المواقف العمليّة واعتمادا على الأساليب المتّبعة عقلائيا عند إرادة التعبير عن المراد بواسطة السلوك العملي.

ففي حالة من هذا القبيل يعبّر عن المدلول المتعيّن من الموقف العملي بالظهور الحالي ، ومنشأ التعبير عن هذا النحو من الظهور بالظهور الحالي هو انّ استفادته تتمّ بواسطة ملاحظة الحالة التي عليها ذو الموقف العملي والحالة العمليّة التي صدرت عنه.

ثمّ انّه ليس المقصود من المتعيّن هو ما يأبى احتمال إرادة مدلول آخر بل المقصود منه انسباق أحد المعاني المحتملة بنحو يكون هذا الانسباق


مبررا عرفا لاعتماده على ما هو المتفاهم العرفي في مقام التعرف على ما توحيه المواقف الصادرة عن العقلاء.

* * *

٤٣٦ ـ الظهور الذاتي والموضوعي

قد أوضحنا المراد منهما في الأمر الثالث من عنوان « الظهور » وقلنا انّ الظهور الذاتي لا اعتداد به فلا يصحّ ترتيب الأثر عليه كما لا يصلح للاحتجاج به ، نعم قد يستفاد من الظهور الذاتي ـ كما أفاد السيّد الصدر رحمه‌الله لاستكشاف انعقاد الظهور الموضوعي ، وذلك في حالات انسباق الظهور الذاتي لذهن المخاطب نتيجة انسه بالتناسب بين المعنى المنسبق وبين كلام المتكلّم دون أن يجد المخاطب لهذا الانس مبرّر شخصي رغم فحصه وتأمّله ، فحينئذ يكون ذلك دليلا على انّ استظهاره الذاتي نشأ عن الظهور الموضوعي ، غايته انّه كان مرتكزا بنحو الإجمال وصار الظهور الذاتي منشئا لتبلوره وبروزه كما يقال ذلك في التبادر.

والمتحصل انّ الظهور الذاتي بهذا النحو يكون معبّرا عن الظهور الموضوعي.


حرف العين


عناوين حرف العين

٤٣٧ ـ العام الاصولي

٤٥٥ ـ العلّة الانحصاريّة

٤٣٨ ـ العدم الأزلي

٤٥٦ ـ العلّة والحكمة

٤٣٩ ـ العدم المحمولي

٤٥٧ ـ العموم

٤٤٠ ـ العدم النعتي

٤٥٨ ـ العموم الاستغراقي

٤٤١ ـ العرض الذاتي

٤٥٩ ـ العموم البدلي

٤٤٢ ـ العرض الغريب

٤٦٠ ـ العموم الزماني

٤٤٣ ـ العرض والعرضي

٤٦١ ـ العموم السياقي

٤٤٤ ـ العرف

٤٦٢ ـ العموم الفوقاني

٤٤٥ ـ العزيمة

٤٦٣ ـ العموم المجموعي

٤٤٦ ـ العقل العملي

٤٤٧ ـ العقل النظري

٤٤٨ ـ علامات الحقيقة والمجاز

٤٤٩ ـ مسلك العلاميّة

٤٥٠ ـ علل الأحكام

٤٥١ ـ العلم الإجمالي في التدريجيّات

٤٥٢ ـ العلم الإجمالي والتفصيلي

٤٥٣ ـ علم الاصول

٤٥٤ ـ علم الجنس


حرف العين

٤٣٧ ـ العام الاصولي

المراد من العام الاصولي هو الشمول والاستيعاب المفاد بواسطة الوضع ، وذلك في مقابل العام اللغوي فإنّه لا يختصّ بالعموم المستفاد بواسطة الوضع بل يشمل العموم المستفاد من دوال اخرى كقرينة الحكمة ، وقد يطلق العام الاصولي على خصوص العموم الافرادي اي الاستغراقي في مقابل العموم المجموعي كما يظهر ذلك من عبائر المحقّق النائيني رحمه‌الله.

لاحظ عنوان « العموم » وأقسامه.

* * *

٤٣٨ ـ العدم الأزلي

والمراد من العدم الأزلي هو العدم الثابت من الأزل والذي لم يطرأ عليه الوجود في زمن ما ثم انعدم ، وهذا التعبير وان لم يكن دقيقا ـ لضيق الخناق ـ إلاّ انّه يفي بالغرض.

فعدم زيد الذي لم يطرأ عليه الوجود في زمن ما عدم أزلي ، ومن هنا لو وقع الشك في ارتفاع العدم بعد اليقين به فإنّه لا ريب في جريان استصحاب العدم الثابت من الأزل.

وهذا المقدار لا إشكال فيه انّما الإشكال في انّه لو كان ثمّة موضوع مركب من جزءين أحدهما متعنون بعنوان وجودي والآخر متعنون بعنوان عدمي وكنّا نحرز عدمهما معا ثم علمنا بتحقق العنوان الوجودي بعد اليقين بعدمه ووقع الشك في ارتفاع العدم عن العنوان العدمي ، هل يمكن


استصحاب العدم الثابت من الأزل ، وبهذا يتحقّق الموضوع المركب بواسطة الوجدان والأصل ، فالجزء الاول والذي هو العنوان الوجودي أحرزناه بالوجدان والجزء العدمي أحرزناه بواسطة الاستصحاب ، أو انّ الاستصحاب لا يجري؟

نقول : انّ ما يساهم في ايضاح المطلب فرضيتان :

الفرضيّة الاولى : ان يفترض كون الموضوع المركّب مركبا من معروض وعدم عرضه مع افتراض عدم وجود ملازمة بين وجود المعروض ووجود عرضه.

ومثاله : ما لو كان الموضوع مركبا من الرجل غير الفاسق ، فإنّ المعروض هو الرجل وعدم عرضه هو غير الفاسق ، وواضح انّه لا ملازمة ببين وجود الرجل واتّصافه بالفسق ، وحينئذ لو كنّا على يقين من عدم الرجل وعدم فسقه ثمّ أحرزنا وجود الرجل إلاّ انّه وقع الشك في ارتفاع عدم الفسق ، بمعنى انّه وقع الشك في تحقّق الفسق للرجل ، فهل يمكن استصحاب عدم الفسق الثابت للرجل قبل وجوده أو لا؟

فلو قلنا بامكان جريان الاستصحاب لكان ذلك يقتضي تنقّح الموضوع المركّب ، وذلك بواسطة الوجدان والأصل ، أما ما ثبت بالوجدان فهو وجود الرجل ، وأمّا ما ثبت بالأصل ـ وهو الاستصحاب ـ فهو عدم فسق الرجل الثابت من الأزل ، فبواسطة استصحاب العدم الأزلي تنقح الموضوع المركّب من العنوان الوجودي والعنوان العدمي.

ثمّ انّ هذه الفرضيّة لم تقع موردا للإشكال ، وذلك حتى لو لم نقل بامكان استصحاب عدم الفسق الثابت من الأزل فإنّ بالإمكان استصحاب عدم الفسق الثابت عند ما لم يكن الرجل بالغا ، وبذلك يتنقّح الموضوع المركب بلا ريب ، غايته انّ المستصحب هل هو عدم الفسق الثابت من الأزل أو هو عدم الفسق الثابت عند ما لم يكن الرجل


بالغا ، فلا تظهر ثمرة في هذه الفرضيّة بين القائلين باستصحاب العدم الأزلي وبين النافين لهذا الاستصحاب.

الفرضيّة الثانية : ان يفترض انّ الموضوع مركب من معروض وعدم عرضه مع افتراض الملازمة بين وجود المعروض ووجود عرضه وبين عدم العرض وعدم معروضه.

ومثاله ما لو كان الموضوع مركبا من وجود المرأة وعدم كونها قرشيّة ، فإنّ ذلك هو موضوع عدم حيضيّة الدم الذي تراه المرأة بعد الخمسين ، وواضح انّ المرأة لو كانت قرشيّة فإنّ اتّصافها بالقرشيّة ملازم لها من حين وجودها ، فلا يتّفق وجود المرأة أولا ثمّ عروض عنوان القرشيّة عليها ، وحينئذ لو كنا على يقين بعدم المرأة وبالتالي عدم قرشيّتها ثمّ أحرزنا وجود المرأة إلاّ انّه وقع الشك في قرشيتها أي في انتفاء عدم القرشيّة عنها الثابت من الأزل ، فهل يمكن استصحاب عدم القرشيّة وبالتالي يتنقّح الموضوع المركّب من وجود المرأة وعدم كونها قرشيّة أو انّه لا يمكن استصحاب عدم القرشيّة.

وهذا هو محلّ النزاع بين الأعلام ، فبناء على جريان استصحاب العدم الأزلي يمكن تنقيح الموضوع المركّب بواسطة الوجدان والأصل ، فما يثبت بالوجدان هو وجود المرأة ، وما يثبت بالأصل هو عدم اتّصافها بالقرشيّة ، وأمّا مع عدم جريان استصحاب العدم الأزلي فلا سبيل لإحراز الموضوع المركّب بهذه الوسيلة.

والفرق بين هذه الفرضيّة والفرضيّة الاولى انّه في الفرضيّة لو لم نقل بجريان استصحاب العدم الأزلي فإنّه يمكن احراز الموضوع بواسطة استصحاب آخر ، وأما في الفرضيّة الثانية فلا يتمّ احراز الموضوع إلاّ بواسطة استصحاب العدم الأزلي ، ولهذا اختصّ استصحاب العدم الأزلي بهذا الفرض ، وهو ما لو كان العرض ملازما في وجوده لوجود المعروض بحيث لا يكون ثمّة حالة أو زمن يفترض فيها وجود المعروض دون أن


يكون العرض موجودا معه ، ولهذا لا تكون لعدم العرض حالة سابقة متيقّنة إلاّ حالة عدم وجود المعروض.

وكيف كان فقد اختلف الأعلام في جريان استصحاب العدم الأزلي بالنحو الذي ذكرناه في الفرض الثاني ، فذهب المحقّق النائيني رحمه‌الله إلى عدم جريانه وذهب جمع من الأعلام كالشيخ الآخوند والسيّد الخوئي رحمهما الله الى جريانه.

والخلاف بين السيّد الخوئي والمحقّق النائيني رحمهما الله صغروي كما أفاد السيّد الصدر رحمه‌الله حيث انّهما يتّفقان على عدم امكان جريان استصحاب العدم النعتي لإحراز الموضوع المركب من المعروض وعدم عرضه إذا كان عدم عرضه مأخوذا بنحو العدم النعتي ولم تكن للعدم النعتي حالة سابقة متيقّنة ، فلو كان موضوع عدم حيضيّة الدم الذي تراه المرأة بعد الخمسين هو المرأة المتّصفة بعدم القرشيّة فإنّ استصحاب اتّصاف المرأة بعدم القرشيّة غير ممكن ، وذلك لما ذكرناه في العدم النعتي من انّه منوط بوجود موضوعه في رتبة سابقة على اتّصافه بالعدم النعتي ، فلا يمكن أن يتّصف الموضوع بعدم وصف ما لم يكن موجودا ، ومن هنا يكون اتّصاف المرأة بعدم القرشيّة ليس له حالة سابقة حتى تستصحب ، إذ انّه قبل وجود المرأة لا يمكن اتّصافها بعدم القرشيّة وبعد وجودها نشك في اتّصافها بالقرشيّة أو عدم القرشيّة ، والمفروض انّ الاتّصاف بالقرشيّة لو كان ثابتا لكان ملازما لأول وجودها ، وعليه لا تكون هناك حالة يمكن ان توجد فيها المرأة ولا تكون متّصفة بالقرشيّة أو عدمها.

كما انّ المحقّق النائيني والسيّد الخوئي رحمهما الله يتّفقان على انّه لو كان الموضوع مركبا من جزءين وكان أحدهما معنون بعنوان وجودي والآخر معنون بعنوان عدمي إلاّ انّ المعنون بالعنوان العدمي ليس مأخوذا بنحو يكون صفة ونعتا للعنوان الوجودي بل هو عدم محمولي ، فيكون الموضوع مركبا من عنوانين


ليس أحدهما وصفا للآخر وانّما أحدهما واقع بحيال الآخر فهنا لا ريب عند العلمين في امكان احراز الموضوع المركّب بواسطة الوجدان والأصل ، فنحرز العنوان الوجودي بالوجدان كما نحرز العنوان العدمي بالاستصحاب الثابت من الأزل.

فلو كان موضوع عدم حيضيّة الدم الذي تراه المرأة بعد الخمسين هو المرأة وعدم الانتساب لقريش وليس الموضوع هو اتّصاف المرأة بعدم الانتساب لقريش ، وعدم الانتساب لقريش له حالة سابقة متيقّنة فيمكن استصحابه ، وبهذا يكون أحد الجزءين محرزا بالوجدان والآخر وهو عدم الانتساب لقريش ـ وهو العدم المحمولي ـ محرز بالأصل.

فحال هذا الفرض نظير ما لو كان الموضوع المركّب هو وجود زيد وعدم وجود عمرو فإنّ عدم وجود عمرو عدم محمولي له حالة سابقة متيقّنة ، ولهذا يمكن احراز الموضوع المركّب بواسطة الوجدان والاستصحاب بأن نحرز وجود زيد بالوجدان ونحرز عدم وجود عمرو بالاستصحاب الثابت من الأزل.

فالمتحصل انّ العدم المحمولي لو كان هو الجزء الآخر للموضوع المركّب لكان بالإمكان احرازه بواسطة استصحاب العدم الثابت من الأزل بلا ريب.

انّما الخلاف بين المحقّق النائيني والسيّد الخوئي رحمهما الله هو انّ المحقق النائيني رحمه‌الله يدّعي انّ الموضوع إذا كان مركبا من العرض ومحلّه أي من المعروض وعرضه فلا بدّ أن يكون العرض قد اخذ بنحو النعتيّة لمعروضه ، وهكذا إذا كان الموضوع مركبا من المعروض وعدم عرضه فإنه ظاهر في كون عدم العرض مأخوذا بنحو النعتيّة ، أي بنحو العدم النعتي للمعروض ، فالقرشيّة عرض والمرأة معروضه ، فإذا كان الموضوع مركبا من المرأة وعدم القرشيّة فلا بدّ من أن يكون عدم القرشيّة مأخوذا على انّه نعت للمرأة أي مأخوذ بنحو العدم


النعتي ، وإذا كان كذلك فلا يمكن احراز الموضوع بواسطة استصحاب عدم القرشيّة ، لأنّه عدم نعتي ليس له حالة سابقة متيقّنة.

وأمّا السيّد الخوئي رحمه‌الله فيدعي خلاف ذلك وانّ عدم العرض المأخوذ في الموضوع ظاهر في العدم المحمولي أي بنحو مفاد كان التامة ، وذلك لأنّ أخذ عدم الوصف بنحو النعتيّة يحتاج الى مئونة زائدة وهي خلاف الظاهر.

ومن هنا كان الظاهر عند ما يكون الموضوع مركبا من عنوان وجودي وعنوان عدمي هو انّ العنوان العدمي ليس مأخوذا بنحو النعتيّة للعنوان الوجودي بل هو جزء بحيال الجزء الاول ، كما هو الحال لو كان الموضوع مركبا من جوهر وعدم جوهر آخر.

وعليه لا مانع من احراز موضوع عدم حيضيّة الدم بعد الخمسين بواسطة الوجدان والاستصحاب ، بأن نحرز وجود المرأة وجدانا ونستصحب عدم قرشيّتها ، ولا محذور في ذلك بعد ان كان عدم قرشيتها عدما محموليّا.

هذا هو المقدار الذي نراه مناسبا لوضع الطالب الكريم في الصورة. ثم انّه لو قلنا بجريان الاستصحاب في الأعدام الأزليّة فإنّه يمكن الاستفادة منه في ثلاثة موارد :

المورد الاول : تنقيح موضوع العام المخصّص بمخصّص مشتبه بنحو الشبهة المصداقيّة.

وبيان ذلك : انّه لا ريب في عدم جواز التمسّك بالعام في الشبهات المصداقيّة ، فلو ورد عام مفاده « أكرم العلماء إلاّ العالم الاموي » أو ورد دليل منفصل مفاده « لا يجب اكرام العالم الاموي » ، فلو سلمنا انّ ذلك يوجب تقييد العام بعنوان عدمي ، فيكون حاصل موضوع حكم العام هو العالم غير الاموي ، فهنا لو أحرزنا انّ زيدا عالم غير اموي فلا ريب في دخوله تحت حكم العام ، أمّا لو وقع الشك في انّ زيدا العالم هل هو اموي فيكون داخلا تحت المخصّص أو انّه غير اموي فيكون داخلا تحت العام ، فهنا لا ريب في عدم جواز التمسّك بالعام لإدخال


زيد تحت حكم العام إلاّ انّه يمكن اثبات انّ زيدا من أفراد العام بواسطة استصحاب عدم كونه امويا ، بمعنى ان نحرز موضوع العام المركب بواسطة الوجدان والاستصحاب ، فاحراز عالميّة زيد يثبت بالوجدان واحراز عدم امويّته يثبت بواسطة استصحاب العدم الأزلي ، وبذلك يتنقّح انّ زيدا موضوع لحكم العام.

المورد الثاني : هو تنقيح انّ هذا الفرد المشتبه ليس موضوعا للخاص لو افترضنا انّ حكم الخاص كان إلزاميا ولم يكن من الممكن احراز انّ هذا الفرد موضوع للعام.

مثلا : لو ورد عام مفاده « أكرم العلماء » و « يحرم عليك اكرام العالم الاموي » واشتبه الحال في شأن زيد فلو افترضنا اننا لم نحرز عالميّة زيد ، فهنا لا يكون استصحاب عدم أمويّته نافعا في تنقيح انّه من أفراد العام إلاّ انّ استصحاب عدم امويّة زيد الثابت من الأزل ينفع لنفي حرمة الإكرام ، لأنّ المفترض انّ الذي يحرم اكرامه انّما هو العالم الاموي ، وبواسطة استصحاب عدم امويّة زيد ينتفي كونه موضوعا لحكم الخاص ، فلا يكون مشمولا لحرمة الإكرام.

المورد الثالث : ان لا يفترض ثمّة عام مخصّص بمخصّص مشتبه بنحو الشبهة المصداقيّة بل انّ هناك حكما مجعولا على موضوع ، هذا الموضوع مسبوق بالعدم الأزلي ، فهنا نتوسل باستصحاب العدم الأزلي لنفي الموضوع ، وعندئذ ينتفي الحكم المرتّب عليه.

ومثاله : ما لو قال المولى : « لا تتزوج المرأة النبطيّة » فلو شككنا في نبطيّة هذه المرأة فإنّ بالإمكان نفي نبطيّتها بواسطة استصحاب العدم الأزلي ، وعليه ينتفي الحكم المرتب على ذلك العنوان.

* * *

٤٣٩ ـ العدم المحمولي

هو العدم بمفاد ليس التامة النافية للوجود عن الشيء ، فالعدم المحمولي


يعني سلب الوجود عن الماهيّة ، فحينما يقال « زيد معدوم » فهذا العدم محمولي.

والتعبير عنه بالعدم المحمولي ناشئ عن حمل العدم على الماهيّة ، وذلك في مقابل الوجود المحمولي والذي يكون فيه المحمول على الماهيّة هو الوجود.

* * *

٤٤٠ ـ العدم النعتي

هو العدم بمفاد ليس الناقصة النافية لاتّصاف الموضوع بنعت من النعوت ، فالعدم النعتي هو العدم الخاص المضاف لموضوع من الموضوعات ، وذلك في مقابل العدم المطلق المعبّر عنه بالعدم المحمولي.

وبتعبير آخر : انّه تارة يحمل العدم على ماهيّة من الماهيات ، كأن يقال « زيد معدوم » فهذا العدم محمولي ، وذلك لكونه محمولا على الماهيّة ومفيدا لسلب الوجود عنها ، وتارة اخرى يكون العدم بمعنى نفي العرض عن معروضه ونفي النعت عن موضوع ، كأن يقال « زيد ليس بعالم » فالعدم هنا نعتي لأنّه يعني نفي اتّصاف الموضوع بنعت ما أو قل نفي اتّصاف المعروض بالعرض وهو مفاد ليس الناقصة ، وذلك في مقابل الوجود النعتي والذي يعني اتصاف الموضوع بنعت من النعوت بمفاد كان الناقصة ، كأن يقال : « كان زيد عالما ».

ثمّ انّ العدم النعتي كالوجود النعتي منوط بالفراغ عن وجود موضوعه خارجا ، فكما إنّه لا يمكن حمل الوجود النعتي على موضوع إلاّ بعد تحقّقه خارجا لأنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له فكذلك حمل العدم النعتي على شيء فرع وجود الموضوع المحمول عليه العدم النعتي.

والوجه في ذلك ـ كما أفاد المحقّق النائيني رحمه‌الله ـ انّ العدم النعتي والوجود النعتي كالعدم والملكة من حيث افتقارهما للموضوع ، فكما انّ التقابل بين العدم والملكة مفتقر الى وجود محلّ يتبادلان الحلول فيه فكذلك المقام ، وكما انّ العدم والملكة يمكن ان يرتفعا


دون أن يلزم من ذلك ارتفاع النقيضين فكذلك المقام ، فالعمى مثلا ـ وهو عدم البصر ـ والبصر يتبادلان على موضوع هو الإنسان ، ويستحيل تحققهما بلا مورد قابل للاتّصاف بالبصر.

والمقام كذلك ، فالوجود النعتي والعدم النعتي يتبادلان على موضوع مفروغ عن وجوده في رتبة سابقة ، كما انّه يمكن ان يرتفعا دون أن يلزم من ذلك ارتفاع النقيضين كما لو كان موضوعهما معدوما ، فإنّه لا يتّصف بالوجود النعتي كما لا يتّصف بالعدم النعتي.

امّا عدم اتّصافه بالوجود النعتي فلأنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له ، وأمّا عدم اتّصافه بالعدم النعتي فلأنّ العدم ليس هو العدم المطلق المعبّر عنه بالعدم المحمولي بل هو عدم خاص مضاف الى موضوع خاص ، وهذا يقتضي الفراغ عن وجود الموضوع الذي يراد اضافة العدم النعتي اليه ، فمع افتراض انعدام الموضوع لا يكون قابلا للاتّصاف بالعدم النعتي كما لا يكون قابلا للاتّصاف بالوجود النعتي والذي هو اشبه بالملكة.

فالوجود النعتي والعدم النعتي يمكن ارتفاعهما دون أن يلزم من ذلك ارتفاع النقيضين ، وهذا بخلاف الوجود المحمولي والعدم المحمولي فإنّ ارتفاعهما معا معناه ارتفاع النقيضين ، وذلك لأنّ الماهيّة إذا قيست الى الوجود فإمّا أن تكون موجودة أو لا تكون موجودة ، أمّا افتراضها موجودة ولا موجودة فهذا معناه ارتفاع النقيضين ، وهو مستحيل.

فالمتحصّل انّ العدم النعتي كالوجود النعتي منوط بوجود موضوعه خارجا.

* * *

٤٤١ ـ العرض الذاتي

اختلف الأعلام في تفسير العرض الذاتي من حيث سعة مفهومه وضيقه ، وقد أحصينا ستّة اتّجاهات في ذلك :


الاتّجاه الأوّل : انّ المراد من العرض الذاتي هو المحمول المنتزع عن مقام الذات للموضوع أو قل هو المحمول الذي تقتضيه نفس ذات الموضوع ، فليس ثمّة واسطة غير ذات الموضوع سبّبت حمل العرض على معروضه « الموضوع ».

ومثاله : أن يقال : « العقل مدرك للكليّات » فإنّ إدراك الكليّات ناشئ عن مقام الذات للعقل ومنتزع عن هويّته وماهيته ، ولم تكن ثمّة واسطة غير ذات العقل سبّبت حمل إدراك الكليات على العقل ، وسيتّضح هذا الاتّجاه أكثر من ملاحظة ما سنذكره ان شاء الله تعالى.

الإتجاه الثاني : انّ المراد من العرض الذاتي هو المحمول الذي يعرض الموضوع باقتضاء ذات الموضوع أو باقتضاء أمر يساوي ذات الموضوع ، فهو إمّا ناشئ عن مقام الذات أو ناشئ عن أمر مساو للذات.

وبتعبير آخر : امّا أن يكون عروض المحمول على موضوعه بلا واسطة أصلا غير الذات أو يكون بواسطة أمر خارج عن الذات إلاّ انّه مساو للذات ، فالمحمول الذي يكون منشأ عروضه على موضوعه أحد هذين الأمرين يعبّر عنه بالعرض الذاتي. والظاهر انّ هذا هو المعنى المشهور للعرض الذاتي.

ومثال عروض المحمول على موضوعه باقتضاء نفس ذات الموضوع هو ما ذكرناه في الاتّجاه الأوّل وبنفس التقريب ، وأمّا مثال عروض المحمول على موضوعه بواسطة أمر مساو للذات فهو كما قيل « الإنسان ضاحك » ، فالضحك عرض ذاتي للإنسان باعتبار انّ منشأ عروضه على ذات الإنسان هو شيء خارج عن ذات الإنسان إلاّ انّه مساو لها وهو التعجّب ، فالتعجّب وان كان خارجا عن ذات الإنسان إلاّ انّه مساو لها ، وهذا ما أوجب تعنون المحمول الثابت للموضوع بواسطته بعنوان العرض الذاتي للموضوع.


الاتّجاه الثالث : انّ المراد من العرض الذاتي هو المحمول الذي يعرض الموضوع إمّا باقتضاء ذات الموضوع أو باقتضاء أمر خارج عن الموضوع مساو لذات الموضوع أو يكون العروض باقتضاء جزء ذات الموضوع المساوي للموضوع أو باقتضاء جزء ذات الموضوع الأخصّ من الموضوع أو باقتضاء جزء ذات الموضوع الأعم من الموضوع.

فالعرض الذاتي بناء على هذا الإتجاه تكون له خمسة أقسام :

القسم الأوّل والثاني : ذكرناهما في الإتجاه الثاني.

القسم الثالث : هو أن يتمّ عروض المحمول على الموضوع بواسطة جزء ذات الموضوع والذي يكون مساويا لذات الموضوع ، هذا الجزء هو الذي سبّب عروض المحمول على الموضوع.

ومثاله : أن يقال : « الإنسان متكلّم » ، فإنّ عروض التكلّم على الإنسان تمّ بواسطة الناطقيّة والتي هي جزء ذات الإنسان إلاّ انّ هذا الجزء ليس أخصّ من الإنسان ولا هو أعمّ منه بل هو مساو للانسان ، فالإنسان مساو للناطق خارجا وان لم يكن هو تمام ذاته ، إذ انّ الإنسان مركّب تحليلا من حيوان وناطق.

فباعتبار انّ عروض التكلّم على الإنسان كان مسببا عن جزء الذات للإنسان فإنّ ذلك يقتضي ـ بناء على هذا الاتّجاه ـ أن يكون التكلّم عرضا ذاتيا للإنسان ، وهكذا الكلام في تمام العوارض التي تعرض النوع بسبب الفصل ، أي انّ العوارض التي تعرض الفصل أولا وبالذات إذا عرضت على نوع ذلك الفصل فإنّها تكون عرضا ذاتيا للنوع ، فالتكلّم يعرض على الناطق باقتضاء نفس ذات الناطق دون واسطة أصلا وهذا ما يبرّر اعتبار التكلّم عرضا ذاتيا للإنسان باعتباره هو النوع الذي تكون الناطقيّة فصله وجزؤه المساوي ، وقد قلنا انّ عوارض الفصل الناشئة عن مقام ذاته تكون أعراضا ذاتيّة لنوعه.

القسم الرابع : هو ان يتمّ عروض


المحمول على الموضوع بواسطة جزء ذات الموضوع الأخص ، فهذا الجزء الداخلي الأخصّ إذا كان هو الموجب لعروض المحمول على الموضوع فإنّ المحمول حينئذ يكون عرضا ذاتيا للموضوع.

ومثاله : أن يقال : « الكلمة مرفوعة » ، فإنّ عروض الرفع على الكلمة تمّ بواسطة جزء الكلمة الاخصّ وهو الفاعليّة ، إذ انّ الفاعليّة أخصّ من الكلمة كما هو واضح ، واعتبار انّ الرفع عرض ذاتي للكلمة ناشئ عن انّ عروض الرفع على الكلمة تمّ بواسطة جزء الكلمة الأخصّ.

وهكذا الكلام في تمام الحالات التي تعرض فيها عوارض النوع أو الفصل على الجنس باعتبار انّ النوع أو الفصل هو الجزء الداخلي الأخصّ للجنس ، فكلّ محمول على الجنس بواسطة نوعه أو فصله يكون عرضا ذاتيا.

القسم الخامس : هو أن يتمّ عروض المحمول على الموضوع بواسطة جزء ذات الموضوع الأعم ، فهذا الجزء الداخلي الأعمّ إذا كان هو الموجب لعروض المحمول على الموضوع فإنّ المحمول يكون حينئذ عرضا ذاتيا للموضوع.

ومثاله : أن يقال : « الإنسان ماش » ، فإنّ الإنسان مركب من جزءين تحليلين هما الحيوانيّة والناطقيّة ، والحيوانيّة هي جزؤه الأعم ، فإذا كان عروض المحمول على الإنسان باقتضاء جزئه الأعم فإنّ ذلك المحمول يكون عرضا ذاتيا للانسان.

وهكذا الكلام في كلّ محمول يكون من عوارض الجنس باقتضاء ذاته ، فإنّ ذلك المحمول إذا عرض على نوع ذلك الجنس أو فصله يكون عرضا ذاتيا للنوع والفصل ، والسبب في ذلك هو انّ منشأ العروض هو جزء ذات النوع أو الفصل.

الإتجاه الرابع : هو نفس الإتجاه الثالث ولكن مع إلغاء القسم الرابع


وهو أن يتمّ عروض المحمول على الموضوع بواسطة الجزء الأخص لذات الموضوع ، ولذلك قالوا انّ عوارض النوع والفصل ليست ذاتيّة للجنس ، فإدراك الكليّات ليس عرضا ذاتيا للحيوان.

الاتّجاه الخامس : هو نفس الاتّجاه الرابع ولكن مع إلغاء القسم الخامس أيضا ، وهو أن يتمّ عروض المحمول على الموضوع بواسطة الجزء الأعمّ لذات الموضوع ، ولذلك قالوا انّ عوارض الجنس ليست ذاتيّة للنوع ، فالماشي ليس عرضا ذاتيا للإنسان ، وعليه تكون الأعراض الذاتيّة ـ بناء على هذا الاتّجاه ـ ثلاثة ، الأوّل والثاني والثالث.

الإتجاه السادس : انّ المراد من العرض الذاتي هو المحمول الذي يعرض الموضوع بلا واسطة في العروض وان كان بواسطة في الثبوت ، وهذا هو الذي تبنّاه صاحب الكفاية رحمه‌الله تبعا للحكيم السبزواري رحمه‌الله.

وقبل إيضاح المراد من هذا الاتّجاه نقول ـ إجمالا وسيأتي ايضاحه في محلّه ـ انّ الفرق بين الواسطة في العروض والواسطة في الثبوت انّ الواسطة في الثبوت هي العلّة الحقيقيّة الموجبة لعروض المحمول على الموضوع واقعا ، كالنار التي هي علة حقيقيّة لثبوت الاحتراق لزيد ، فحينما يقال « زيد محترق » فإنّ النار هي الواسطة في ثبوت الاحتراق لزيد.

وأمّا الواسطة في العروض فهي المصحّح لاسناد المحمول للموضوع بحيث لو لا هذه الواسطة لكان اسناد المحمول للموضوع غلطا أو كذبا.

وبتعبير آخر : الواسطة في العروض هي المصحّح للإسناد المجازي ، كما لو قيل : « الميزاب جار » فإنّ المصحّح لهذه النسبة هو كون الميزاب محلا لجريان الماء ، فالماء هو الجاري ، والميزاب انّما هو ظرفه ومحله ، وهذه الظرفيّة هي المصحّحة لحمل الجريان على الميزاب ، فاسناد الجريان للميزاب مجازي ، والواسطة


في هذا الإسناد هي الظرفيّة ، ولهذا تكون واسطة في العروض.

وباتّضاح هذه المقدمة نقول : انّ مقصود صاحب الكفاية رحمه‌الله من انّ العرض الذاتي هو المحمول الذي يعرض على الذات بلا واسطة في العروض انّ مقصوده من ذلك هو انّ المحمول إذا كان عروضه على الموضوع بنحو الحقيقة لا بنحو المجاز أو الكذب ، فالمحمول حينئذ يكون عرضا ذاتيا ، وعلى هذا يكون المحمول العارض على الموضوع باقتضاء ذات الموضوع أو باقتضاء الواسطة في الثبوت والتي هي العلّة الحقيقيّة لثبوت المحمول للموضوع يكون عرضا ذاتيا.

ومن هنا يكون المحمول العارض للموضوع إذا كان منشأ العروض أمرا مباينا لذات الموضوع إلاّ انّه علّة تامّة لثبوت المحمول للموضوع فإنّ المحمول يكون عرضا ذاتيا للموضوع ، كما في الاحتراق العارض على زيد بواسطة النار ، فإنّ الاحتراق يكون عرضا ذاتيا لزيد ، وذلك لأنّ الواسطة التي أوجبت عروض الاحتراق على زيد علّة حقيقيّة لثبوت الاحتراق لزيد.

وبهذا تكون ضابطة العرض الذاتي ـ بناء على هذا الإتجاه ـ هي كلّ محمول يكون ثبوته لموضوعه حقيقيّا ويمتنع سلبه عنه بقطع النظر عن انّ منشأ الثبوت هو اقتضاء الذات أو انّه بواسطة جزء الموضوع الأعمّ أو المساوي الداخلي أو المساوي الخارجي أو المباين إذا كان علّة تامّة لثبوت المحمول للموضوع.

وأمّا إذا كان عروض المحمول للموضوع بواسطة جزء الموضوع الأخصّ فإنّه يكون عرضا ذاتيا للموضوع لو كان الموضوع قد اخذ بنحو اللابشرط ، فإدراك الكليّات يكون عرضا ذاتيا للحيوان إذا اخذ الحيوان بنحو اللابشرط من جهة فصوله ، فيكون حينئذ حمل الإدراك للكليّات على الحيوان عرضا ذاتيا ، أمّا إذا اخذ الحيوان بشرط الصاهليّة أو الافتراس مثلا فإنّ حمل الإدراك


للكليّات عليه يكون عرضا غريبا. وذلك لأنّ عروض الإدراك للكليّات على الحيوان بهذا اللحاظ لا يكون حقيقيّا.

* * *

٤٤٢ ـ العرض الغريب

والمراد من العرض الغريب هو كلّ ما لا يكون عرضا ذاتيا ، ولذلك تتّسع دائرته وتضيق بحسب اختلاف الإتجاهات في تعريف العرض الذاتي.

إلاّ انّ القدر المتيقّن من العرض الغريب ـ بناء على الإتجاهات الخمسة ـ هو المحمول العارض للموضوع بواسطة أمر مباين لذات الموضوع كعروض الحرارة للماء ، فإنّ هذا العروض تمّ بواسطة أمر مباين لذات المعروض « الماء » ، وهذه الواسطة هي النار ، فإنّ النار مباينة لذات الماء.

أو المحمول العارض لذات الموضوع بواسطة أمر خارج أعمّ من المعروض ، مثل عروض الحركة على الأبيض ، فإنّ هذا العروض تمّ بواسطة انّ الأبيض جسم ، والجسم أعمّ من الأبيض ، إذ انّ الجسم يكون أبيضا ويكون أسودا ويكون غير ذلك ، فلأنّ عروض الحركة على الأبيض كان بواسطة شيء أعمّ من الأبيض كان المحمول وهو الحركة عرضا غريبا.

وأمّا القدر المتيقّن ـ بناء على الإتجاه السادس ـ فهو المحمول الذي يكون عروضه للموضوع مجازيا باحدى العلائق المصحّحة للمجاز في الاسناد.

* * *

٤٤٣ ـ العرض والعرضي

العرض في مصطلح الفلاسفة هو ما يقابل الجوهر ، ويقصدون منه المقولات التسع والتي هي الكم والكيف والإضافة والأين والملك والفعل والانفعال والوضع والمتى ، وضابطها كما قالوا هو انها لا توجد إلاّ في موضوع ، وذلك في مقابل الجوهر وهو الموجود لا في موضوع.


وأمّا العرض باصطلاح المناطقة فهي المحمولات العارضة على موضوعاتها بقطع النظر عن كونها من قبيل الجواهر أو الأعراض باصطلاح الفلاسفة ، ومن هنا يكون مثل الناطق عرض باصطلاح المناطقة إذا حمل على الحيوان وإن كان جوهرا باصطلاح الفلاسفة حتى في ظرف حمله على موضوع.

والاصوليّون عادة ما يستعملون العرض في مطلق ما يحمل على الشيء بقطع النظر عن كون المحمول من الجواهر أو من قبيل الأعراض. فاستعمالهم للعرض كاستعمال المناطقة له.

وأمّا العرضي فهو في مصطلح الفلاسفة يطلق على المحمول الخارج عن ذات الموضوع العارض عليه بقطع النظر عن كون المحمول من مقولة الجوهر أو من مقولة العرض الفلسفي ، فالماشي والضاحك وان كانا من مقولة الجوهر إلاّ انّ كلّ واحد بالنسبة للحيوان عرضي ، لأنّه خارج عن ذات الحيوان محمول عليه ، كما انّه لا فرق في العرضي بين أن يكون ذاتيا للموضوع أو غير ذاتي.

وأمّا العرضي في مصطلح المناطقة فهو يطلق على المحمول الخارج عن ذات الموضوع على أن لا يكون ذاتي باب الكليات الخمس فلا يكون جنسا ولا فصلا ولا نوعا له ، نعم قد يكون ذاتيا في باب البرهان ـ كما أوضحنا المراد منه في محلّه ـ ولهذا فهم يقسمون العرضي الى قسمين ، الاول هو الخاصة والثاني هو العرض العام.

ومثال الأوّل : هو الضاحك المحمول على الإنسان ، فإنّ الضاحك ليس جنسا ولا نوعا ولا فصلا للإنسان ولكنه عرض ذاتي للإنسان بنحو الذاتي في باب البرهان.

ومثال الثاني : الماشي المحمول على الإنسان فهو امّا عرض ذاتي أو عرض غريب على اختلاف المباني في تشخيص العرض الذاتي كما أوضحنا ذلك.

وبما ذكرناه يتّضح انّ العرضي في


مصطلح الفلاسفة يستعمل في مطلق المحمول بقطع النظر عن كونه من مقوّمات الموضوع أي انّه ذاتي باب الكليّات أو ليس من مقوماته سواء كان المحمول الغير المقوّم للموضوع ذاتي باب البرهان أو لم يكن كذلك ، فالأوّل مثل الضاحك العارض على الإنسان ، فإنّه ذاتي باب البرهان وهو عرضي للانسان باصطلاح الفلاسفة. والثاني مثل الأبيض والأسود العارضين على الإنسان ، فإنّ كلا منهما عرضي للإنسان وليس من ذاتي باب البرهان كما هو ليس ذاتي باب الكليات.

وأمّا العرضي في مصطلح المناطقة فهو يستعمل في خصوص المحمول الذي لا يكون من مقوّمات الموضوع ، أي الذي لا يكون ذاتي باب الكليات إلاّ انّه لا يختصّ بذاتي باب البرهان ، ولهذا يكون الأبيض والأسود عرضي في مصطلح المناطقة.

واتّضح أيضا ممّا ذكرناه انّ الاصوليين يستعملون العرض فيما يشمل العرض الفلسفي والعرضي الفلسفي ، بمعنى انّ العرض عندهم هو مطلق المحمول العارض على الموضوع سواء كان من مقولة الجوهر أو العرض الفلسفي وسواء كان ذاتي باب الكليّات أو ذاتي باب البرهان أو لم يكن كذلك.

* * *

٤٤٤ ـ العرف

المراد من العرف هو الأمر المألوف والمأنوس نتيجة تباني الناس على سلوكه بقطع النظر عن منشأ ذلك التباني فإنّ كلّ ما هو مألوف ومتعارف يعبّر عنه بالعرف سواء كان ناشئا عن نكتة عقلائيّة مقتضية لذلك للتباني أو كان ناشئا عن ظروف موضوعيّة أو عوامل تربويّة أو بيئيّة أو ما إلى ذلك.

ومن هنا تتفاوت الأعراف ، فهناك أعراف لا تختلف باختلاف المجتمعات والأزمنة ، وهناك أعراف تختلف من مجتمع لآخر ويطرأ عليها التغيير بتمادي الزمان ، كما انّ هناك أعراف تتّصل بشريحة اجتماعيّة خاصة ، وكلّ


ذلك ناشئ عن النكتة المقتضية للتعارف والتباني.

والبحث في المقام عن صلاحيّة العرف للكشف عن مجموعة من الأمور :

الأمر الأوّل : صلاحيته للكشف عن الحكم الشرعي.

الأمر الثاني : صلاحيته لتحديد موضوعات الحكم الشرعي.

الأمر الثالث : صلاحيته لتحديد المراد من الخطابات الشرعيّة.

أما الأمر الأول : فالبحث عنه من جهتين :

الجهة الاولى : هي انّه هل يكون التعارف والتباني على شيء ولو من قبل جميع العقلاء مناطا لجعل الشارع حكما مناسبا لذلك التعارف والتباني بحيث يكون التعارف معبّرا دائما عن موافقة الشارع لما عليه العرف أو لا؟

المستظهر من كلمات بعض العامة انّ الامور المتعارفة من مناطات الأحكام ، بمعنى انّ نفس التعارف على شيء يكون ملاكا لجعل الشارع الحكم على طبقة ، وهذا هو مبرّر استكشاف حكم الشارع بواسطة الامور العرفيّة.

واستدلوا لذلك بمقطوعة ابن مسعود « بأنّ ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن » (١) بتقريب انّ استحسان المسلمين لفعل وتعارف البناء عليه بينهم يكون مناطا لقبول الشارع لذلك الفعل وجعل الحكم على ما يتناسب مع المتعارف عندهم.

واستدلّوا أيضا بمجموعة من الموارد التي تطابق فيها حكم الشارع مع ما هو متعارف عند العرب كوضع الدية على العاقلة وتحديد مقدار الدية بما هو محدّد عند العرب.

إلاّ انّ كلا الدليلين لا يصلحان لإثبات الدعوى.

أما الدليل الاول : فبالإضافة إلى عدم احراز انّها رواية واحتمال انّها من كلام ابن مسعود رحمه‌الله ؛ وذلك لكونها مقطوعة وغير منسوبة للنبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإضافة لذلك فهي غير ظاهرة في الدعوى بل هي تحتمل أكثر من معنى :


الاحتمال الاول : انّها تشير الى حجيّة المدركات العقليّة العمليّة والتي هي من قبيل ما يدركه العقل من حسن العدل وقبح الظلم ، وهذا ما يمكن أن يستظهر من قرينة التعبير بالرؤية والذي يعطي بأنّ استحسانهم الذي يكون مقبولا عند الله تعالى انّما هو الاستحسان المدرك بواسطة العقل لا الاستحسان الذي يكون ناشئا عن الانس والألفة والاسترسال كما يتّفق كثيرا.

والمانع عن هذا الاستظهار هو نسبة الرؤية للمسلمين والحال انّ المناسب لهذا الاستظهار هو نسبة الرؤية للعقلاء.

إلاّ انّه قد يجاب عن ذلك بأنّ نسبة الرؤية للمسلمين انّما هو باعتبار سلامة فطرتهم ، إذ غالبا ما يكون عدم التديّن مانعا عن اللجوء الى ما يقتضيه المدرك العقلي ومقتضيا لملاحظة المصالح الخاصة أو المصالح المتّصلة بالانتماءات ، فيكون ذلك حائلا دون إدراك الحقائق أو موجبا للالتفاف عليها لو اتفق إدراكهم لها ، وحينئذ لا يكون من المناسب تصريح الشارع بقبول ما يدركه العقلاء ليست لأنّ ما يدركونه بمحض عقولهم ليس مقبولا بل انّ عدم التصريح ناشئ عن حيثيّة خارجيّة هي عدم توسّل غير المتديّنين غالبا بالعقل للتعرف على الحقائق.

والمتحصّل انّه من الممكن أن يكون منشأ نسبة الرؤية لخصوص المسلمين هو ما عليه الواقع الخارجي لغير المسلمين خصوصا فيما يتّصل بالسلوك العملي والذي غالبا ما يكون الرجوع فيه لمقتضيات العقل العملي منافيا للمصالح الشخصيّة أو الفئويّة.

الاحتمال الثاني : انّها تشير الى انّ الله تعالى شأنه غرس في جبلّة الإنسان ما يتعرف به على موارد الفضيلة والرذيلة والخير والشرّ ، فإذا أراد أن يتعرّف الإنسان على ما هو مرضي عند الله تعالى فليرجع الى ضميره فإنّه دليل الخير والصلاح ، وأمّا نسبة ذلك لخصوص المسلمين فلأنّ ضمائرهم


على الفطرة لم تتغلّق بحجب المعصية والضلال.

فالرواية ليست متصدّية للكشف عن انّ أحكام الله تابعة لرؤى المسلمين بل من المحتمل انّها متصدّية للتعبير عن انّ الضمائر التي هي على الفطرة صالحة للكشف عن مواطن رضا الله عزّ وجلّ ، فهي إذن من الروايات الاخلاقية. وقد تعرضنا لهذه الرواية في بحث « الاستحسان » وذكرنا لها احتمالات اخرى.

وكيف كان فالرواية لا صلة لها بالدعوى حتى لو لم يقبل ما احتملناه ، وذلك لأنّ التعبير بالرؤية لا يساوق معنى العرف والألفة والعادة ، إذ كثيرا ما تكون الألفة ناشئة عن مبرّرات تتّصل بالظروف الموضوعيّة ، فليست الرؤى والأفكار هي الخلاقة دائما للأعراف بل كثيرا ما تنشأ الأعراف عن ظروف قاهرة تقتضيها الأجواء البيئيّة والتركيبة الاجتماعيّة والثقافات الموروثة أو التي فرضتها ظروف الحياة والمتغيّرات الناشئة عن التداخل بين الامم مثلا ، وليس شيء من ذلك يتّصل بالرؤية والفكر وإذا كان لها دخل فليس هي العامل الأساسي أو الدائمي لانخلاق العادات والأعراف.

وعليه لو كانت رؤى المسلمين هي ملاكات الأحكام فإنّ ذلك لا يساوق انّ ما عليه المسلمون من أعراف هي ملاكات الأحكام ، إذ انّ معنى الرؤية لا يساوق معنى العادة والألفة.

وأما دعوى تبعيّة الأحكام الشرعيّة لرؤى المسلمين أو لاجتهاد المجتهد ـ كما قالوا ـ فهو خارج عن محل الكلام ، وقد ثبت فساده عندنا لاستلزامه التصويب.

وأمّا الدليل الثاني : فيمكن النقض عليه بموارد كثيرة خالف الشارع فيها ما هو متعارف عند العرب ، وأمّا اتّفاق مطابقة بعض الأحكام الشرعيّة لما هو متعارف عند العرب فهذا لا يعبّر عن انّ الأعراف هي مناط الأحكام الشرعيّة ، إذ لا مانع من اتّفاق ما عليه العرف للواقع إلاّ انّ ذلك لا يلازم انّ كلّ ما عليه العرف فهو مطابق للواقع.


ثمّ انّه بناء على ذلك يلزم أن يكون للشارع في الواقعة الواحدة أكثر من حكم ، وذلك لاختلاف الأعراف من مجتمع لآخر بل انّ الأعراف العربيّة تختلف في بعض الأحيان باختلاف قبائلهم ، على انّه ما معنى ان يناط الحكم الشرعي بالعرف وما هو المصحّح لذلك!!

فإن كان المصحّح هو الملازمة بين ما هو متعارف وبين المصالح والمفاسد الواقعيّة فهذا معناه عصمة الأعراف عن الخطأ ، ولا أظنّ أحدا يلتزم بذلك.

وان كان المصحّح هو انّ الأعراف دائما تكون ناشئة عن المدركات العقليّة القطعيّة فهذا ما اتّضح فساده ممّا تقدم ، ولو اتّفق ذلك في بعض الاحيان فهو لا يبرّر اناطة الأحكام الشرعيّة بكلّ ما هو متعارف ، على انّ ذلك لو كان هو المصحّح لما كانت الأعراف هي مناط الأحكام وانّما هي كاشفة عن اشتمال متعلقاتها على مناطات الأحكام وهو خروج عن الدعوى.

وأمّا لو كان المصحّح هو محض كون الشيء متعارفا ومألوفا فهو ما لا يقبل العقلاء الالتزام به فضلا عن الشارع المقدّس ، إذ كيف يكون محض التعارف والألفة مبرّرا لجعل الحكم على وفقه. على انّ كلّ هذه المحتملات منقوضة بموارد كثيرة حكم الشارع فيها على خلاف ما هو متعارف.

فقد كان من المتعارف الزواج بأكثر من أربع ، وعدم استحقاق المرأة للميراث ، والزواج بزوجات الآباء وتبني غير الاولاد ، والحاق أولاد الزنا بآبائهم العرفيّين ، والتوارث بالولاية وبضمان الجريرة حتى مع وجود الطبقات.

كلّ ذلك كان مألوفا ومتعارفا ، فلو كان محض كون الشيء متعارفا هو مناط الحكم فما معنى أن تكون الأحكام الشرعيّة الثابتة بالضرورة منافية لهذه الأعراف.

وأمّا احتمال انّ الشارع لاحظ الأعراف فوجد انّ غالبيتها مطابقة


للشارع فهو بالإضافة الى منافاته للدعوى ، إذ انّ ذلك يعبّر عن انّ مناط الأحكام ليس هو العرف ، وانّ انما هو كاشف ، بالإضافة لذلك فهو منقوض بالموارد الكثيرة التي لو ادعينا انّ أكثر الأعراف التي كانت متداولة قد ردع عنها الشارع لما كان في هذه الدعوى مجازفة.

إلاّ ان يقال انّ المقصود هو الأعراف الناشئة بعد أن أصبح للمسلمين كيان. إلاّ انّ ذلك أيضا لا ينفع ، لأنّ الأعراف التي نشأت بعد ذلك لو كانت متلقاة عن الشارع فهو خروج عن الفرض ، ولو لم تكن كذلك فإنّه يرد عليها ما ذكرناه آنفا ، بالإضافة الى ما نشاهده من منافاة كثير من الأعراف الطارئة ـ بعد ان أصبح للمسلمين كيان ـ للأحكام الثابتة بالكتاب والسنة.

على انّ الأعراف لو كانت من مناطات الأحكام لما كان ثمّة معنى لتصدى الشارع لبيان أحكام كثير من المعاملات التي كانت متداولة ومتعارفة ، فنلاحظ انّ الشارع ألغى بعض الشروط المتعارفة وقال انّ كلّ شرط حلّل حراما أو حرّم حلالا فهو باطل وانّ كلّ شرط ينافي كتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو باطل ، وأضاف شروطا لم تكن متعارفة ، وألغى بعض العقود والإيقاعات التي كانت متداولة بين الناس.

كما نلاحظ انّ سيرة المتشرّعة والمتديّنين بل جميع المسلمين جارية على مراجعة الشارع في كلّ شيء حتى في الامور المتّصلة بما هو متعارف ومألوف ، فلو كانت الأعراف من مناطات الأحكام لكان على الشارع أن يحيل الناس عليها ، ولما كان من مبرّر لتصدّيه لبيان تفاصيلها ، ولكان ذلك من الوضوح بحيث لا يخفى على أحد لشدّة اتّصال الدعوى لو كانت ثابتة بعامة المكلّفين.

الجهة الثانية : هي انّه هل يكون التعارف والتباني على شيء كاشفا عن الحكم الشرعي أو لا؟

نقول : انّ هذا التعارف ان كان


بمستوى يصحّح صدق السيرة العقلائيّة عليه فإنّه يصلح للكشف عن الحكم الشرعي إذا أمكن اثبات معاصرة هذا التعارف لزمن المعصوم عليه‌السلام وكان بمرأى منه ومسمع ولم يكن ثمّة مانع عن الردع لو كان منافيا للشارع ، على انّه لا بدّ من افتراضه سنخ تعارف لو كان واقعا منافيا لما عليه الشارع لكان مهددا لأغراضه ، كما لو كان التعارف جاريا على فعل شيء وافترض بناء الشارع على حرمته.

إذا تمّت هذه المقدّمات أمكن القول بأنّ الشارع لم يردع عن هذا التعارف ، وبعدم ردعه نستكشف الإمضاء.

ومن هنا يتّضح انّ الاعراف التي انخلقت بعد زمن المعصوم عليه‌السلام لا تصلح للكشف عن الحكم الشرعي كما انّ الاعراف لو كانت من قبيل الالتزام بفعل فإنّ ذلك لا يعبّر عن بناء الشارع على وجوبه لاحتمال انّ الشارع يبنى على راجحيّته أو اباحته ، فعدم ردعه عن هذا التعارف لا يهدّد أغراضه ، نعم يمكن استكشاف عدم حرمة هذا الفعل الذي تعارف العقلاء على الالتزام به بواسطة عدم ردع الشارع عنه إذا تمّت بقيّة المقدّمات.

أما لو لم يكن التعارف بمستوى السيرة العقلائيّة فكاشفيّته عن الحكم الشرعي منوطة أيضا باحراز امضاء الشارع لهذا التعارف ، وكيف كان فالتعارف بأي شكل افترض لا يكون مصدرا من مصادر التشريع بل تكون دليليته على الحكم الشرعي راجعة لكشفه عن تقرير الشارع وامضائه.

ولمزيد من التوضيح راجع عنوان « السيرة العقلائيّة ».

الأمر الثاني : وهو صلاحيّة العرف لتحديد موضوعات الأحكام ، بمعنى انّ الشارع هل جعل العرف مرجعا لتشخيص موضوعات الأحكام ومرجعا للتعرف على تحقّق الموضوعات خارجا أو انّ الشارع لم يجعل للعرف هذه الصلاحيّة؟

فهنا جهتان :

أمّا الجهة الاولى : وهو البحث عن


مرجعيّته لتشخيص الموضوعات ، فنقول : انّ الشارع تارة يجعل الأحكام على موضوعات مخترعة ، واخرى يجعلها على موضوعات عرفيّة إلاّ انّ الشارع تصدى لبيان حدودها بنفسه ، وثالثة يجعل الحكم على موضوع عرفي دون ان يتصدى لبيان حدوده.

أمّا الأوّل : وهو ما لو كانت موضوعات الأحكام مخترعة من الشارع مثل كيفيّة الصلاة والوضوء والتيمّم فلا ريب في هذا الفرض انّ المرجع لتشخيص موضوعات الأحكام هو الشارع نفسه ، إذ من غير المعقول ان يخترع الشارع موضوعا ثمّ يحيل تشخيصه للعرف أو غيره ، فلا سبيل إذن للتعرف على مثل هذه الموضوعات إلاّ مراجعة الشارع ، وهذا واضح.

وأمّا الثاني : وهو ما لو كانت موضوعات الأحكام عرفيّة ، بمعنى انّ للعرف مفاهيم محدّدة لهذه الموضوعات إلاّ انّ الشارع تصدى بنفسه لبيان حدودها ، وذلك مثل مفهوم الحيض والسفر والاستطاعة.

وفي مثل هذا الفرض لا مرجعيّة للعرف أيضا في تشخيص موضوعات الأحكام بعد أن تصدى الشارع لتشخيصها وبيان حدودها ، إذ انّ نفس تصدي الشارع لذلك إلغاء لمرجعيّة العرف وانّ المفاهيم التي هي محدّدة عند العرف على سعتها أو ضيقها ليست هي موضوعات الأحكام ، نعم لو كان تصدي الشارع لتشخيص الموضوع انّما هو بنحو إضافة بعض القيود على الموضوع العرفي أو إلغاء بعض القيود فإنّ ذلك لا يلغي مرجعيّة العرف في المقدار الذي لم يتصد الشارع لتهذيبه لو استظهرنا من الأدلّة انّه ليس للشارع مفهوما مباينا للمفهوم العرفي ، غايته انّه لم يجعل الحكم على الموضوع العرفي على سعته أو ضيقه ، ففي مثل هذا الفرض يكون المرجع في تشخيص الموضوع هو العرف إلاّ في المقدار الذي تصدّى الشارع لبيانه وتهذيبه إمّا بالغاء بعض القيود أو الإجزاء أو باضافة قيود


ليست دخيلة بحسب المتفاهم العرفي.

وأمّا الثالث : وهو ما لو كانت موضوعات الأحكام عرفيّة ولم يتصد الشارع لتشخيصها وبيان حدودها ، وهنا لا ريب في مرجعيّة العرف في تشخيص موضوعات الأحكام ، إذ انّ ذلك هو المستظهر من عدم تصدي الشارع لتشخيص الموضوعات ، إذ لا معنى لأن يجعل الشارع حكما على موضوع له مفهوم محدّد عند العرف ويكون الشارع مريدا لمفهوم آخر غير ما يفهمه العرف ومع ذلك لا يتصدى لبيانه رغم انّ الخطاب الذي جعل فيه الحكم على موضوعه كان ملقى لغرض ترتيب الأثر عليه والتحرك عنه ، وذلك ما يعبّر عن انّ موضوع الحكم الشرعي انّما هو ذلك المفهوم المحدّد لدى العرف.

وأما الجهة الثانية : وهي مرجعيّة العرف لإثبات أو نفي تحقّق الموضوع خارجا ، وهي تختلف عن الجهة الاولى من حيث انّه حتى لو لم نقل بمرجعيّة العرف في تشخيص مفاهيم الموضوعات فإنّ من الممكن القول بمرجعيّة العرف لإثبات أو نفي تحقّق الموضوع الشرعي خارجا ، فلو افترضنا انّ الشارع هو الذي حدّد مفهوم الفقير وانّه الذي لا يملك قوت سنته فإنّ من الممكن ان يحيل المكلفين الى العرف للتحقّق من انّ زيدا يملك قوت سنته أو لا يملك ، وهذا هو معنى مرجعيّة العرف لإثبات أو نفي تحقّق الموضوع الشرعي خارجا.

وكيف كان فلا ريب في انّ للعرف هذه الصلاحيّة ، وذلك بعد ان كانت الاحكام الشرعيّة مجعولة على نهج القضايا الحقيقيّة ، أي مجعولة على موضوعاتها المقدرة الوجود ، فإنّ ذلك يعطي انّ الشارع ليس بصدد التحقّق من وجود موضوعات الأحكام خارجا أو عدم وجودها ، إذ انّ ذلك انّما هو شأن القضايا الخارجيّة ، وعليه يكون التحقّق من وجود الموضوع أو عدم وجوده انّما هو من وظيفة المكلّفين ، ومن الواضح ان لا سبيل للمكلّف لإحراز تحقّق


الموضوع خارجا أو عدم تحقّقه إلاّ الرجوع الى العرف ، إذ انّه الوسيلة العقلائيّة للتحقّق من ذلك ، ولمّا لم يخترع الشارع وسيلة اخرى لإحراز موضوعاته فإنّ ذلك يعبّر عن امضائه لهذه الوسيلة العقلائيّة راجع عنوان « السيرة العقلائيّة » القسم الثالث والرابع.

ثم انّ الملاحظ انّ اثبات تحقّق الموضوع او نفيه عند العرف يختلف باختلاف المجتمعات والازمنة والحالات ، فهل انّ ذلك مانع عن الرجوع الى العرف في التحقّق من وجود موضوع الحكم أو عدم وجوده؟

الظاهر انّ ذلك لا يمنع عن الرجوع اليه ، إذ انّ هذا الاختلاف لا يعبّر عن التباين في ضابطة التحقّق من وجود الموضوع عند العرف.

فمثلا : لو كان الفقير بحسب نظر الشريعة هو من لا ملك مئونة سنته له ولعياله فإنّ ضابطة تحقّق هذا الموضوع خارجا بنظر العرف لا تختلف باختلاف الظروف والمجتمعات ، إذ انّ غاية ما تقتضيه الظروف والمتغيرات هو تبدل مصاديق الموضوع ذي المفهوم المحدّد والمطرد ، فالمؤنة التي كان يملكها الشخص كانت تكفيه لسنة كاملة ، وذلك لقلّة عياله أو لعدم طرو ما يوجب النفقة الزائدة إلاّ انّه لو اتّفق ما يوجب النفقة الزائدة كما لو طرأ عليه أو على أحد عياله مرض أو اتّفق ارتفاع قيم الأجناس فأصبحت النقود التي بحوزته قاصرة عن استيعاب مئونته ومئونة عياله في حين انّ مقدارها في العام السابق كاف لتغطية مئونته ومئونة عياله ، وهكذا حينما يختلف المجتمع أو تكثر الحاجات والضرورات.

وهذا المعنى مطرد في تمام الموارد التي يتوهم اختلاف الضوابط العرفيّة فيما هو المحقّق لوجود الموضوع وعدم وجوده فإنّ الواقع انّ الضوابط لا تختلف وانّ الذي يختلف هو مصاديق الموضوعات ، فإنّ الشيء الواحد قد


يكون مصداقا للموضوع في زمن ولا يكون مصداقا له في زمن آخر أو في مجتمع آخر أو في حالة اخرى.

ولمزيد من التوضيح نذكر مثالا آخر وهو لباس الشهرة فإنّ له معنى منضبطا عرفا وانّ تحققه خارجا معناه انطباق ذلك الضابط العرفي على لباس معين ، وهذا المقدار لا يختلف باختلاف المجتمعات والأزمنة ، والاختلاف انّما ينشأ من جهة اختلاف الظروف الموضوعيّة من مجتمع لآخر ، وهذه الظروف هي التي تستوجب الاستيحاش من لباس معين واستهجان لبسه ، فيكون بذلك من لباس الشهرة في حين انّ هذا اللباس نفسه قد يكون مألوفا في مجتمع آخر نتيجة ظروفه الموضوعيّة المختصّة به ، وهذا ما يستوجب انتفاء أن يكون هذا اللباس مصداقا للباس الشهرة في ذلك المجتمع.

وبهذا يتّضح انّ منشأ الاختلاف في حكم العرف بتحقّق الموضوع وعدم تحقّقه انّما ينشأ عن انّ الأفراد الخارجيّة قد تكون منطبقا لمفهوم موضوع الحكم الشرعي وقد لا تكون منطبقا لذلك المفهوم بسبب انتفاء الخصوصيّات المأخوذة في المفهوم عن ذلك الفرد ، وانتفاء الخصوصيات أو وجودها يخضع في كثير من الأحيان للظروف الموضوعيّة ، وهذا هو السرّ في اختلاف حكم العرف بتحقّق الموضوع أو عدم تحقّقه. وقد ذكرنا ما يتّصل بالمقام في بحث « السيرة العقلائيّة ».

وأمّا الأمر الثالث : وهو مرجعيّة العرف لتحديد المراد من الخطابات الشرعيّة فلا ريب في ثبوت هذا الدور للعرف ، إذ هو الوسيلة العقلائيّة المتّبعة في مقام التعرّف على مرادات المتكلّمين ، وقد أمضى الشارع هذه الوسيلة ، وبذلك تثبت دليليتها وكاشفيتها عن مرادات الشارع من خطاباته ، وأمّا ما هو الدليل على امضاء الشارع لذلك وما هو حدود ذلك الإمضاء فهذا ما تتصدّى لإثباته مباحث الظهور ، فراجع.

* * *


٤٤٥ ـ العزيمة

قد أوضحنا المراد من العزيمة تحت عنوان « الرخصة والعزيمة ».

* * *

٤٤٦ ـ العقل العملي

العقل العملي باصطلاح المناطقة هو المعبّر عنه بالحسن والقبح عند المتكلّمين ، والمعبّر عنه بالخير والشرّ عند الفلاسفة ، والمعبّر عنه بالفضيلة والرذيلة في اصطلاح علماء الأخلاق.

والمراد من العقل العملي هو المدرك لما ينبغي فعله وايقاعه أو تركه والتحفّظ عن ايقاعه ، فالعدل مثلا ممّا يدرك العقل حسنه وانبغاء فعله والظلم مما يدرك العقل قبحه وانبغاء تركه ، وهذا ما يعبّر عن انّ حسن العدل وقبح الظلم من مدركات العقل العملي ، وذلك لأنّ المميز للعقل العملي هو نوع المدرك فلمّا كان المدرك من قبيل ما ينبغي فعله أو تركه فهذا يعني انّه مدرك بالعقل العملي.

هذا ما هو متداول في تعريف العقل العملي ، وقد جاء السيّد الصدر رحمه‌الله بصياغة اخرى لتعريف العقل العملي ، وحاصلها انّ العقل العملي هو ما يكون لمدركه تأثير عملي مباشر دون الحاجة لتوسّط مقدّمة خارجيّة.

وبتعبير آخر : انّ العقل العملي هو ما تكون مدركاته مستتبعة لموقف عملي ابتداء دون الحاجة لتوسط مقدّمة اخرى ، وذلك مثل إدراك العقل لحسن العدل وقبح الظلم ، فإنّ هذا المدرك يقتضي تأثيرا مباشرا دون الحاجة الى ضمّ مقدّمة اخرى إلاّ انّ ذلك لا يعني استغناؤه عن مقدّمات اخرى لو كان الغرض استنباط حكم شرعي منه ، فاقتضاؤه للتأثير العملي هو المستغني عن المقدّمة الاجنبيّة ، وأمّا استنباط الحكم الشرعي منه فهو مفتقر الى انضمام مقدمات من خارج المدرك العملي. كما سنوضح ذلك تحت عنوان « المستقلاّت العقليّة ».

* * *


٤٤٧ ـ العقل النظري

المراد من العقل النظري هو العقل المدرك للواقعيات التي ليس لها تأثير في مقام العمل إلاّ بتوسّط مقدمة اخرى ، كإدراك العقل لوجود الله جلّ وعلا ، فإنّ هذا الإدراك لا يستتبع أثرا عمليا دون توسّط مقدّمة اخرى كإدراك حقّ المولويّة وانّ الله جلّ وعلا هو المولى الحقيق بالطاعة ، وحينئذ يكون إدراك العقل لوجود الله جلّ وعلا مستتبعا لأثر عملي.

وبذلك يتّضح انّ ما يدركه العقل النظري وكذلك العقل العملي هو الواقع ، غايته انّ سنخ المدركات النظريّة لا تستتبع أثرا عمليّا مباشرا وهذا بخلاف المدركات العقليّة العمليّة ، فالفرق بين العقل العملي والنظري هو نوع المدرك بصيغة المفعول.

وبهذا يتّضح الخلل في التعبير عن العقل النظري بأنّه المدرك للواقع وانّ العقل العملي هو المدرك لما ينبغي فعله ، إذ انّ ذلك موهم بأنّ مدرك العقل العملي لا يكون الواقع ، وهذا غير مراد قطعا.

ولمزيد من التوضيح لاحظ الاستلزامات العقليّة.

* * *

٤٤٨ ـ علامات الحقيقة والمجاز

وهي العلامات التي يتعرّف بواسطتها على ما هو الموضوع له اللفظ في ظرف الشك فيما هو الموضوع له اللّفظ.

والبحث عن هذه العلامات انّما هو بحث عن صلاحيتها للكشف عن الوضع.

ولاتّضاح محلّ البحث نقول : انّ المتلقي للّفظ تارة يشك فيما هو الموضوع له هذا اللفظ من قبل واضع اللغة ، وتارة يشك في مراد المتكلّم مع العلم بما هو الموضوع له اللفظ ، ومحل البحث انّما هو الجهة الاولى من الشك ، وهو الشك في أصل الوضع للفظ ، وهل هو موضوع لهذا المعنى أو لمعنى آخر ، وأمّا الجهة الثانية فمرجعها الاصول اللفظيّة.


وكيف كان فهنا مجموعة من العلامات والطرق ذكرت كوسائل للتعرّف على ما هو الموضوع له اللفظ ، وأهمها التبادر وصحّة الحمل والإطراد ، وقد أوضحنا المراد من هذه العلامات في محلّها.

* * *

٤٤٩ ـ مسلك العلاميّة

وهي احدى النظريّات المتصدّية لتفسير العلاقة الوضعيّة الواقعة بين اللفظ والمعنى ، وحاصل المراد من مسلك العلاميّة هو دعوى انّ الواضع اعتبر اللفظ علامة على المعنى وهذا هو المبرّر لخطور المعنى في الذهن عند اطلاق اللفظ ، فكما انّ العلامة تعبّر عن ذي العلامة فكذلك اللفظ بعد ما اعتبره الواضع علامة على المعنى أصبح عند اطلاقه معبّرا عن المعنى.

وبهذا يتّضح منشأ التعبير عن هذا المسلك بمسلك العلاميّة ، فمنشأ التعبير عنه بذلك هو دعوى انّ الوسيلة التي توسّل بها الواضع لإنشاء العلاقة بين اللفظ والمعنى هو اعتبار اللفظ علامة على المعنى ، فهو نظير جعل العلامات المخصوصة على الطرق لغرض التعبير بواسطتها عن معان معينة كالكشف عن انّ الطريق سالك أو مغلق ، غايته انّ وضع العلامات الخارجيّة يكون حقيقيا وأمّا وضع اللفظ علامة على المعنى فهو اعتباري.

ففي وضع العلامات على الطرق يكون هناك موضوع عليه خارجي ، وأمّا في الوضع اللغوي فليس ثمّة شيء خارجي موضوع عليه اللفظ وانّما هو اعتبار وادعاء للوضع ، بل قد يقال انّه لا يوجد موضوع عليه في الاوضاع اللغويّة وانّما الموجود هو خصوص الموضوع والذي هو اللفظ والموضوع له وهو المعنى وعمليّة الوضع والتي هي عمليّة ادعائيّة اعتباريّة.

* * *

٤٥٠ ـ علل الأحكام

والمقصود من علل الأحكام هي ملاكات الأحكام الكامنة في متعلّقاتها


والمنتجة لجعل الأحكام واعتبارها على المكلّفين إذا اتّفق تحقق موضوعاتها خارجا ، وهذا هو معنى تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها.

فإذا كان ثمّة فعل مشتمل على مصلحة تامّة غير مزاحمة فهذه المصلحة هي علّة جعل الحكم ، وهكذا لو كان هناك فعل مشتمل على مفسدة تامّة وغير مزاحمة فإنّ هذه المفسدة تكون علّة لجعل الحكم على ذلك الفعل.

وهذه العلل هي التي يقول الاصوليون بصلاحيتها للكشف عن الحكم الشرعي لو اتّفق ادراك وجودها في موضوع من الموضوعات ، وذلك لما ثبت من انّ الأحكام الشرعيّة تابعة لملاكاتها وجودا وعدما.

وهذا المقدار لا إشكال فيه كبرويا انّما الإشكال من جهة عجز العقل عن الإحاطة بوجوه المصالح والمفاسد ، فإنّه حتى لو اتفق إدراك العقل لاشتمال فعل على مصلحة أو مفسدة فإنّ من الصعب القطع بأنّ هذه المصلحة تامة وغير مزاحمة بما يمنع عن تأثير اقتضاء المصلحة لأثرها.

ومن هنا جاءت الروايات لتعبّر عن هذا المعنى « وانّ دين الله لا يصاب بالعقول » وانّ عقول الرجال أبعد ما تكون عن إدراك دين الله جلّ وعلا ، فالإشكال في هذه الجهة صغروي لا كبروي ، إذ لا إشكال كبرويا في انّ العقل لو أدرك المصلحة التامّة ولو بكشف الشارع لكان ذلك صالحا للكشف عن ثبوت الحكم الشرعي بعد البناء على تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد.

* * *

٤٥١ ـ العلم الإجمالي في التدريجيّات

والمقصود منه أن تكون أطراف الجامع للعلم الإجمالي طوليّة بأن يكون الطرف الاوّل المحتمل انطباق الجامع عليه في الزمن الاوّل ويكون


الطرف الثاني المحتمل انطباق الجامع عليه في الزمن الثاني وهكذا ، وذلك في مقابل العلم الإجمالي في الامور الدفعيّة العرضيّة والتي تكون معه أطراف الجامع التي يحتمل انطباقه على واحد منها في زمن واحد ، كالعلم بوجود النجاسة في أحد الإنائين ، فإنّ النجاسة ممّا يعلم انطباقها فعلا على واحد من هذين الإنائين الموجودين فعلا.

ومثال العلم الإجمالي في الامور التدريجيّة هو ما لو علمت المرأة بأنّها امّا أن تكون حائضا في هذا الوقت وامّا ان تكون حائضا غدا ، فطرفا العلم الإجمالي واقع كلّ واحد منهما في طول الآخر. ومعنى انعقاد العلم الإجمالي بأنّها حائض الآن أو غدا هو العلم بحرمة مكثها في المسجد اليوم أو غدا.

وباتّضاح المراد من العلم الإجمالي في التدريجيّات نقول : انّ مورد البحث هو ما لو كان أحد الأطراف مقيّدا بزمان متأخّر عن زمان الطرف الاول لو كان هو الواقع ، أو يكون مقيّدا بقيد زماني متأخّر عن زمان الطرف الاول.

ومثال الاوّل لو انعقد علم اجمالي بوجوب صلاة إمّا الآن أو يوم الجمعة بمعنى امّا أن تكون واجبة فعلا أو تكون مقيّدة بيوم الجمعة ، وهذا هو معنى تقيّد الطرف الآخر بزمان متأخّر وهو يوم الجمعة.

ومثال الثاني هو انعقاد علم اجمالي بوجوب اكرام زيد امّا الآن أو عند مجيء عمرو ، وعمرو لا يأتي إلاّ غدا ، فالطرف الآخر مقيّد بقيد زماني وهو مجيء عمرو الواقع في الزمان الاستقبالي.

وعلى كلا التقديرين فتارة يكون التكليف معلوم الفعليّة سواء كان متعلّقه فعليا أو استقباليّا ، وتارة يكون التكليف فعليّا على تقدير دون تقدير ، فعليّا تقدير انّ متعلّقه هو الطرف الأوّل مثلا فهو فعلي ، وعلى تقدير انّ متعلّقه هو الطرف الآخر فهو استقبالي.

ومثال الاول ما لو نذر المكلّف ان


يصلّي لله عزّ وجل ركعتين إذا رزق ولدا ، فلو رزق ولدا فإنّ التكليف بوجوب الوفاء بالنذر يكون فعليا إلاّ انّه لو شكّ في انّ الواجب هو الإتيان بركعتين اليوم أو يوم الجمعة ـ بناء على امكان الواجب المعلّق ـ فهنا وان كان التكليف بوجوب الوفاء بالنذر فعليّا على أيّ تقدير إلاّ انّ الواجب مردّد بين الزمان الاول والزمان الثاني ، فالتدريجيّة إذن من جهة متعلّق التكليف المحرز تنجّزه.

والظاهر انّه لم يختلف أحد في منجّزية العلم الإجمالي في هذه الصورة وانّ المكلّف ملزم بالصلاة مرّتين الآن ويوم الجمعة ، وذلك للعلم بفعليّة التكليف والذي هو مناط المنجزيّة ولزوم الخروج عن العهدة عقلا.

ومثال الثاني ما لو علمت المرأة بحرمة مكثها في المسجد أمّا اليوم أو غدا ، وذلك لعلمها بتحيّضها إمّا اليوم أو غدا ، فهنا لا يكون التكليف بحرمة المكث فعليا على أيّ تقدير ، إذ انّه على تقدير انّ الواقع هو تحيّض المرأة غدا لا يكون التكليف فعليا في هذا اليوم ، وذلك لأنّ حرمة المكث في المسجد منوط بتحيّضها والمفترض انّ الواقع هو تحيّضها غدا ، ففعليّة التكليف بحرمة المكث ليست ثابتة على أيّ تقدير بل هي على تقدير دون تقدير.

ويمكن تشقيق هذا الفرض الى صورتين :

الصورة الاولى : ان يفترض انّ التكليف وان لم يكن فعليا لو كان الواقع هو الطرف الاستقبالي إلاّ انّ ملاكه ثابت من الآن ، كما لو افترضنا استحالة الواجب المعلّق ، وعليه تتأخر فعلية التكليف الى زمان الواجب.

ومثاله : لو علم المكلّف اجمالا بوجوب الوفاء بالنذر إمّا الآن أو غدا مع افتراض انّ الواقع لو كان هو الطرف الثاني لما كانت الفعليّة متحقّقة في هذا اليوم ، وذلك لاستحالة الواجب المعلّق وانّ الواجب يستحيل تأخّره عن زمان الوجوب إلاّ انّ الوجوب وان افترضنا تأخّر فعليّته


لكنّ ملاكه موجود الآن ، أي من حين ان رزقه الله تعالى ولدا.

ومثال آخر : لو علم المكلّف انّه سيقدم اليه شراب محرم الآن أو غدا ، فعلى فرض انّ المحرّم هو الشراب الذي سيقدم اليه غدا فإنّ فعليّة التكليف لا تكون متحقّقة في هذا الوقت إلاّ انّه نعلم بأنّ ملاك التكليف متحقّق من الآن وان كانت فعليّته متأخّرة الى حين تقديم الشراب له غدا.

الصورة الثانية : هو افتراض عدم فعليّة التكليف لو كان الواقع هو الطرف الاستقبالي كما انّ ملاكه لا يتحقّق إلاّ حين تحقّق الفعليّة للتكليف ، فكل من الفعليّة والملاك متأخران لو كان الطرف الواقعي هو الطرف الاستقبالي.

ومثاله ما لو علم المكلّف بوجوب صلاة إمّا الآن وامّا عند كسوف الشمس ، فهنا لا تكون الفعليّة متحقّقة من الآن لو كان الواقع هو الطرف الاستقبالي ، كما انّ الملاك لا يكون متحقّقا من الآن لو كان الطرف الواقعي هو الطرف الاستقبالي.

وباتّضاح هاتين الصورتين للفرضيّة الثانية نقول : انّه وقع النزاع بينهم في هذه الفرضيّة بصورتيها ، فذهب الشيخ الأنصاري رحمه‌الله إلى المنجّزيّة في الصورة الاولى دون الثانية ، وذهب صاحب الكفاية رحمه‌الله الى عدم المنجّزية مطلقا في الصورتين ، وذهب السيّد الخوئي والمحقّق النائيني رحمهما الله الى المنجّزية في الصورتين ، وبيان ذلك خارج عن الغرض.

* * *

٤٥٢ ـ العلم الإجمالي والتفصيلي

المراد من العلم الإجمالي هو العلم بوجود جامع في ضمن طرف من أطراف متعدّدة مع الجهل بالطرف الذي يقع الجامع واقعا في ضمنه.

وبتعبير آخر : هو العلم بالجامع بين أطراف متعدّدة مع الشك فيما هو الطرف الواقع منطبقا لذلك الجامع واقعا.


فالعلم الإجمالي مشتمل على حيثيّتين :

الحيثيّة الاولى : هي العلم بالجامع بين الأطراف.

الحيثيّة الثانية : هي الشك في أيّ الأطراف هي منطبق الجامع.

والمراد من الجامع هو الكلّي المعلوم القابل للانطباق على كلّ واحد من أطرافه بقطع النظر عن كون هذا الجامع الكلّي جامعا ماهويا أو جامعا انتزاعيا منتزع من ملاحظة تمام الأطراف.

فالاول مثل العلم بوجوب صلاة ، فإنّ الصلاة جامع ماهوي لأطرافها مثل صلاة الظهر والجمعة والمغرب ، فالصلاة هي الحقيقة المشتركة القابلة للصدق على كلّ واحد من أطرافها ، بمعنى انّ أطراف العلم الإجمالي تشترك من حيث انّها أفراد لماهيّة واحدة هي طبيعة الصلاة.

والثاني مثل العلم بنجاسة أحد الشيئين امّا الماء أو الثوب فإنّ عنوان أحد الشيئين جامع انتزاعي انتزع من ملاحظة الماء بالإضافة الى الثوب.

وأمّا المراد من أطراف الجامع فهي الأفراد التي لو لوحظ كلّ واحد منها على حدة لكان من المحتمل انطباق الجامع عليه ، أمّا لو لوحظت بنحو المجموع فمن المقطوع عدم كونها جميعا منطبقا للجامع المعلوم ، وذلك لأنّ المعلوم بالإجمال أقلّ من أطراف العلم الإجمالي دائما. وبهذا يتّضح خروج الأطراف الغير محتمل انطباق الجامع عليها عن أطراف العلم الإجمالي.

ثمّ انّ هنا واقعا متقرّرا في نفسه ومتشخّصا في حدّ ذاته إلاّ انّه مشكوك عند المكلّف ، أي انّ المكلّف يجهل موضع استقراره ، وهل هو الطرف الاول أو الثاني أو الثالث وهكذا ، وهذا هو المعبّر عنه بالمعلوم بالإجمال ، وهو غير الجامع ، إذ الجامع معلوم تفصيلا ، فالمعلوم بالاجمال هو متعلّق الجامع ، أمّا انّه معلوم فلأنّنا نقطع بوجوده ، وأمّا انّه معلوم بالإجمال فلأننا نجهل موضع استقراره ، فجهة الغموض في المعلوم بالإجمال هي


مشخّصاته الثابتة في نفس الأمر والواقع والمجهولة عند المكلّف.

والمتحصّل انّ العلم الإجمالي مشتمل على حيثيّتين الاولى : هي العلم بالجامع ، وهذه الحيثيّة معلومة تفصيلا للعالم بالاجمال ، والحيثيّة الثانية هي الشك في الأطراف وهذه هي جهة الجهل والغموض في موارد العلم الإجمالي.

وأمّا المعلوم بالإجمال فهو الطرف الواقع منطبقا للجامع في نفس الأمر والواقع ، وكونه معلوما بالإجمال باعتبار انّ موضع استقراره مجهول للمكلّف العالم بالإجمال.

هذا هو حاصل المراد من العلم الإجمالي ، وقد ذكرت بيانات اخرى له :

منها : ما ذكره صاحب الكفاية رحمه‌الله من انّ العلم الإجمالي عبارة عن العلم بالفرد المردّد.

وأورد عليه باستحالة الفرد المردّد كما أوضحنا ذلك تحت عنوان « استصحاب الفرد المردّد ».

ومنها : ما ذهب إليه المحقّق العراقي رحمه‌الله من انّ العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي متعلّق بالواقع ، بمعنى انّ منكشف العلمين هو الواقع من غير فرق بينهما أصلا من هذه الجهة ، وانّما الفرق بينهما من جهة نفس العلم والانكشاف ، فقد لا يكون في الانكشاف أي غموض وضبابيّة ، وهذا هو العلم التفصيلي ، وقد يكون الانكشاف محاطا بالتشويش والغموض ، وهذا هو العلم الإجمالي.

وبتعبير آخر : انّ العلم وان كان يتعلّق بالواقع إلاّ انّه تارة يكون من الوضوح بحيث لا تكون معه جهة غموض أصلا ، وتارة يكون هذا العلم مشوشا ، بمعنى انّ الصورة المدركة ليست صافية بحيث يكون مرئيها واضحا إلاّ انّ ذلك لا ينفي انّ المرئي بهذه الصورة المشوشة هو الواقع.

ويمكن تنظير ذلك ـ كما أفاد السيّد الصدر رحمه‌الله ـ بشخصين ينظران الى جسم إلاّ انّ أحدهما أقرب الى الجسم من الآخر ، فالقريب من الجسم تكون الصورة لديه واضحة ، ولذلك يكون


المرئي « الجسم » متشخصا عنده ، وأمّا البعيد عن الجسم فهو وان كان يرى نفس الجسم إلاّ انّه ولبعده عنه لا يشخص هوية الجسم ، وهل هو حيوان أو انسان أو شجرة.

وتلاحظون انّ كلا النظرين متعلّقهما واحد وهو الواقع المتعيّن ، غايته انّ الاول ولقربه من المرئي يكون المرئي لديه واضحا ومتشخّصا بتمام مشخصاته ، وأمّا الثاني فلبعده عن المرئي تكون الصورة بالنسبة له مشوشة.

والمتحصل انّ العلم الإجمالي ليس علما تفصيليّا بالجامع دون منطبقه بخلاف العلم التفصيلي فإنّه علم بمنطبق الجامع بل انّ العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي متعلّقهما هو الواقع المعبّر عنه بالمنطبق الواقعي ، غايته انّ الصورة المدركة « العلم » تارة تكون واضحة وحينئذ يكون العلم تفصيليّا ، واخرى تكون مشوشة ومعها يكون العلم اجماليّا.

وعلّق السيّد الصدر رحمه‌الله على مجموع التعريفات بما حاصله : انّ المراد من العلم الإجمالي واضح ووجداني لكلّ أحد ، ولهذا لا يبعد ان يكون الاختلاف بين هذه التعريفات ناشئ عن اختلاف الجهة المنظورة عند التعريف ، فكلّ واحد قد لاحظ جهة وعرّف العلم الإجمالي على ضوئها.

وأمّا المراد من العلم التفصيلي فهو العلم بالجامع مع العلم بموضع استقراره ، أي العلم بالجامع مع تشخيص متعلّقه ، فليس في العلم التفصيلي جهة غموض أصلا ، فالعالم بالعلم التفصيلي يعلم بوجوب الصلاة مثلا كما يعلم بأنّ الصلاة الواجبة هي الظهر مثلا.

ولكي يتّضح الفرق بين العلمين نذكر هذا المثال ، لو قطعنا بوجوب صلاة إلاّ انّه وقع الشك في هوية هذه الصلاة الواجبة ، وهل هي الظهر أو الجمعة ، فالجامع الصالح للانطباق على الطرفين هو عنوان الصلاة ، وهذا الجامع معلوم وجوبه تفصيلا ، فالعلم بوجود الجامع الكلي علم تفصيلي ، غايته انّ منطبقه غير متشخّص لنا إلاّ


انّ ذلك لا يوجب غموضا من ناحية وجود الكلي ، مثلا لو كنّا نعلم بوجود فرد من الإنسان فإنّ هذا يساوق العلم بوجود كلي الإنسان ، ولذلك نستطيع أن نقول انّنا عالمون بوجود الإنسان في الخارج ، غايته انّنا نشك في هوية ذلك الفرد إلاّ انّه غير الشك في وجود الكلّي كما هو واضح ، فالعلم بالجامع وهو الكلّي علم تفصيلي.

وأمّا المعلوم بالاجمال فهو الصلاة التي وقعت متعلقا للوجوب واقعا ، وهي متقرّرة ومتشخّصة في نفس الأمر والواقع غايته انّنا نجعل بمشخّصاتها ، وهذا ما سبب اتّصافها بالإجمال.

وأمّا لو كنّا نعلم بوجوب الصلاة وانّها صلاة الجمعة ، فالجامع وهي الصلاة معلومة الوجوب تفصيلا ، كما انّ منطبق الجامع الواقعي وهي صلاة الجمعة معلومة تفصيلا أيضا. وبذلك يكون العلم تفصيليّا في الجامع ومنطبقه ، وهذا هو العلم التفصيلي.

* * *

٤٥٣ ـ علم الاصول

ذكرت لعلم الاصول مجموعة من التعريفات نذكر ثلاثة منها مع شرحها اجمالا دون بيان ما اورد عليها :

التعريف الاول : هو انّ علم الاصول عبارة عن « العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الحكم الشرعي الفرعي » ، وهذا هو التعريف المشهور.

فضابطة المسألة الاصوليّة ـ بناء على هذا التعريف ـ هو تمهيدها لاستنباط حكم شرعي ، فحجيّة خبر الواحد مثلا من القواعد التي تمهّد وتساهم في استنباط واستخراج الحكم الشرعي ، وذلك لوقوع حجيّة خبر الواحد كبرى في قياس نتيجته الحكم الشرعي ، فلو لا وقوع حجيّة خبر الواحد مقدّمة في القياس الذي يراد بواسطته التعرّف على الحكم الشرعي لما أمكن الوصول الى النتيجة الشرعيّة ، فحجيّة خبر الواحد إذن تمهّد للوصول الى النتيجة الشرعيّة ،


وهذا هو المبرّر لاعتبارها من القواعد الممهّدة لاستنباط الحكم الشرعي.

وبهذا يتّضح انّ القواعد المرادة في التعريف لا بدّ وان يكون لها دور المساهمة في الكشف عن الحكم الشرعي ، ومن هنا عبّر عنها بالممهّدة للاستنباط ، أمّا لو كان دور القاعدة هو تشخيص موارد الحكم الشرعي المعلوم قبل بل ذلك فهذه ليست قاعدة اصوليّة بل هي قاعدة فقهيّة ، فالقاعدة الفقهيّة لا تمهّد للكشف عن الحكم الشرعي وانّما يتحدّد بواسطة ملاحظة مفادها موارد تطبيقها.

والمتحصّل انّ علم الاصول عبارة عن العلم بمجموعة من الضوابط التي تساهم في الكشف عن الحكم الشرعي ، هذا هو التفسير اللفظي لهذا التعريف.

التعريف الثاني : انّ علم الاصول عبارة عن « العلم بالكبريات التي لو انضمّت اليها صغرياتها لاستنتج منها حكم فرعي كلّي » ، وهذا هو الذي تبناه المحقّق النائيني رحمه‌الله.

وحاصل المراد من هذا التعريف انّه ليس كلّ ما يساهم في استنباط الحكم الشرعي فهو مسألة اصوليّة ، فالوصول الى الحكم الشرعي يكون منوطا بمجموعة من المقدّمات بعضها يتّصل بعلم النحو والصرف والآخر يتّصل بعلم اللغة كما انّ بعضها يتّصل بعلم الرجال ، وكلّ ذلك ليس من مسائل علم الاصول وان كان يمهّد لاستنباط الحكم الشرعي ، بل وان كان يقع كبرى في القياس إلاّ انّه ليس القياس الذي ينتج عنه الحكم الشرعي بل الأقيسة التي ينتج عنها القياس المنتج للحكم الشرعي.

إذن فضابطة المسألة الاصوليّة هي كلّ مسألة تقع كبرى في القياس المنتج للحكم الشرعي لا الأقيسة التي تسبق القياس المنتج للحكم الشرعي.

هذا هو معنى قوله : « انّ علم الاصول هو العلم بالكبريات التي لو انضمّت اليها صغرياتها لأنتجت الحكم الشرعي » ، إذ انّ الكبريات الاخرى المساهمة في استنباط الحكم الشرعي لا تنتج الحكم الشرعي


ابتداء وانّما تساهم في استنباط الحكم الشرعي بواسطة تمهيدها لمقدّمات القياس المنتج للحكم الشرعي.

فالقياس الأخير والذي ينتج عنه الحكم الشرعي هو الذي تكون كبراه مسألة اصوليّة.

ولتوضيح ذلك نذكر هذا المثال ، لو أردنا مثلا التعرّف على حكم لحم الأرنب فوجدنا رواية عن زرارة مفادها حرمة لحم الأرنب فإنّ الوصول الى النتيجة الشرعيّة يحتاج إلى مجموعة من الأقيسة نذكر منها قياسين :

الأوّل : انّ النجاشي قد وثّق زرارة.

وكلّ من وثّقه النجاشي فهو ثقة.

النتيجة : انّ زرارة ثقة.

الثاني : انّ زرارة الثقة أخبر بحرمة لحم الأرنب.

وكلّ شيء دلّ على حرمته خبر الثقة فهو حرام.

النتيجة : هي حرمة لحم الأرنب التي دلّ عليها خبر الثقة.

وتلاحظون انّ الكبرى في القياس الاول لم تنتج الحكم الشرعي وان كانت قد ساهمت في الوصول إليه بواسطة تمهيدها للنتيجة التي وقعت حدا أصغر في صغرى القياس المنتج للحكم الشرعي.

كما تلاحظون انّ الكبرى في القياس الثاني والتي هي عبارة عن حجيّة خبر الثقة نتج عن انضمامها لصغراها الحكم الشرعي ، ولهذا فهي مسألة اصوليّة. وهذا التعريف قريب الى حدّ كبير من تعريف السيّد الخوئي رحمه‌الله.

التعريف الثالث : انّ علم الاصول عبارة عن « العلم بالعناصر المشتركة في الاستدلال الفقهي والتي يستعملها الفقيه كدليل على الجعل الشرعي الكلّي » ، وهذا هو تعريف السيّد الصدر رحمه‌الله.

* * *

٤٥٤ ـ علم الجنس

إنّ بعض أسماء الأجناس تأخذ سمة العلميّة في كلام العرب ويترتّب عليها أحكام الأعلام الشخصيّة من قبيل عدم دخول الألف واللام عليها ومجيء


الحال بعدها وامتناعها من الصرف ، وهذه هي المعبّر عنها بأعلام الاجناس ، وذلك مثل اسامة وثعالة وذؤالة.

والبحث في المقام عمّا هو الموضوع له علم الجنس ، وفي ذلك اتّجاهان :

الاتّجاه الأوّل : وهو ما ذهب إليه المشهور ، وحاصله انّ علم الجنس لا يختلف فيما هو الموضوع له عن اسم الجنس ، فكلاهما موضوع للطبيعة أو قل الماهيّة المهملة إلاّ انّ الفرق بينهما انّ علم الجنس ليس موضوعا للماهيّة المهملة من تمام الجهات كما هو الحال في اسم الجنس بل هو موضوع للماهيّة المتعيّنة بالتعيّن الذهني ، أي للماهيّة المهملة بشرط تعيّنها في الذهن ، فالتعيّن مأخوذ فيما هو الموضوع له علم الجنس.

والمقصود من انّ علم الجنس موضوع للماهيّة المتعيّنة في الذهن أحد احتمالين :

الاحتمال الاول : انّ علم الجنس موضوع لمعنى اسمي موجود في الذهن ، وعلى حدّ تعبير بعضهم انّه موضوع للحقيقة الذهنيّة ، وعلى هذا يكون علم الجنس موضوعا لمعقول من المعقولات الثانويّة ـ كمفهوم الكلّي ومفهوم العليّة ـ والذي ليس له ما بإزاء في الخارج.

وبتعبير آخر : انّ علم الجنس موضوع للصورة الذهنيّة المتعيّنة في وعاء الذهن ، إذ انّ الصورة الذهنيّة إذا اخذ التعيّن الذهني قيدا أو جزء فيها فهذا معناه أن تكون ملحوظة بما هي موجودة في الذهن ، وهذا ما فهمه صاحب الكفاية رحمه‌الله من كلام المشهور.

وأورد عليه بأن ذلك يلزم منه عدم امكان حملها وانطباقها على الأفراد الخارجيّة ، إذ انّ المفهوم إذا لوحظ على انّه موجود في الذهن لا يمكن انطباقه على ما في الخارج إلاّ بنحو العناية ، بأن يجرّد عن خصوصيّاته الذهنيّة ، وهو خلاف ما نجده من عدم بذل هذه العناية عند حمل علم الجنس على أفراده الخارجيّة.

الاحتمال الثاني : انّ علم الجنس موضوع للإشارة الى ما هو متعيّن ومتحدّد في الذهن في مرتبة سابقة ، كما


هو الحال في اللام الداخلة على اسم الجنس ، فإنّها تشير الى المعنى المتعيّن والحاضر في الذهن ، فعلم الجنس موضوع لنفس الحيثيّة الموضوعة لها لام الجنس ، كما أوضحنا ذلك تحت عنوان اللام الداخلة على اسم الجنس.

وعلى هذا المعنى لا يرد اشكال صاحب الكفاية رحمه‌الله ، إذ انّ التعيّن الذهني على هذا لن يكون مأخوذا في المعنى الموضوع له اسم الجنس حتى يمتنع صدقه وحكايته عن الخارج وانّما هو موضوع للإشارة الى الصورة الذهنيّة الحاكية عن الخارج.

الإتجاه الثاني : وهو الذي ذهب اليه صاحب الكفاية والسيد الخوئي رحمهما الله من انّه لا فرق بين علم الجنس واسم الجنس فكلاهما موضوعان للطبيعة المهملة من تمام الجهات ، غايته انّ العرب تتعامل مع علم الجنس معاملة المعارف إلاّ انّ ذلك لا يقتضي انّه موضوع لغير ما وضع له اسم الجنس ، إذ انّ التعريف في علم الجنس لا يعدو عن كونه لفظيا كما هو الحال في معاملة العرب بعض الاسماء معاملة الأسماء المؤنثة رغم انّها ليست مؤنّثة حقيقة.

والمتحصّل انّ ترتيب أحكام المعارف على علم الجنس ناشئ عن السماع وإلاّ فما هو الموضوع له علم الجنس هو عينه الموضوع له اسم الجنس.

* * *

٤٥٥ ـ العلّة الانحصاريّة

يتمّ التطرّق لهذا العنوان في بحث المفاهيم ، والمقصود منه يتّضح من هذا البيان :

وهو أنّ العلّة التي يترتّب عن وجودها وجود المعلول على قسمين :

القسم الأوّل : هو العلّة ذات البديل ويعبّر عنها بالعلّة غير المنحصرة ، وهي التي يكون وجودها موجبا لوجود المعلول على أن يكون للمعلول علّة مستقلّة أخرى لو اتّفق وجودها لأنتجت وجود المعلول نفسه.

فحينما يكون للمعلول علّتان مستقلّتان كلّ واحدة منهما كافية في


إيجاد المعلول فإنّ مثل هذه العلّة يعبّر عنها بالعلّة ذات البديل.

ومثال ذلك الشمس بالنسبة للضوء فإنّها علّة مستقلّة لإيجاده إلاّ أنّها ليست منحصرة ، وذلك لوجود علّة مستقلّة أخرى توجب إيجاد الضوء لو اتّفق وجودها وهي المصباح مثلا فإنّه علّة لوجود الضوء.

القسم الثاني : هو العلّة الانحصاريّة ، وهي التي يكون وجودها موجبا لوجود المعلول على أن لا يكون للمعلول علّة أخرى.

ويمكن التمثيل لذلك بالنار بالنسبة للاحتراق ، فالنار علّة لوجود الاحتراق ، وليس ثمّة من شيء يترتّب عن وجوده الاحتراق سوى وجود النار ، لذلك كانت النار علّة انحصاريّة لوجود الاحتراق.

* * *

٤٥٦ ـ العلّة والحكمة

المراد من العلّة هي ما يدور الحكم مدارها وجودا وعدما بحيث لا تكون ثمّة حالة يكون الحكم فيها ثابتا مع انتفاء العلّة أو تكون العلّة فيها ثابتة مع انتفاء الحكم.

وهذا النحو من العلّة هو المصحّح للتعدّي من الموضوع الثابت له الحكم الى موضوع آخر متوفّر على العلّة التي بها ثبت الحكم للموضوع الاوّل المنصوص.

ثمّ انّ العلّة التي يدور الحكم مدارها تارة تكون بمعنى مناط الحكم وملاك جعله وتارة تكون بمعنى العلامة التي متى ما توفّرت في موضوع كشفت عن ثبوت حكم موردها له.

وهذا المعنى الثاني للعلّة قد يجتمع مصداقه مع المعنى الاول وقد يفترق ، وذلك لأنّه قد تكون العلامة هي نفسها مناط الحكم وملاك جعله ، وقد لا تكون كذلك بل تكون مجرّد ضابطة جعلت وسيلة للتعرّف على موارد ثبوت الحكم.

ويمكن التمثيل لمورد اجتماع العلّة بالمعنى الاوّل والعلّة بالمعنى الثاني بالإسكار ، فهو المناط ـ ظاهرا ـ من


جعل الحرمة على الخمر مثلا ، كما انّ الشارع جعله علامة على ثبوت حكم الحرمة لكلّ موضوع توفّر على خاصيّة الإسكار ، وذلك بواسطة الخطاب الصادر عنه والذي اشتمل على التصريح بأنّ علامة ثبوت الحرمة هو الإسكار.

فالإسكار في الوقت الذي هو مناط جعل الحرمة على الخمر هو علامة على ثبوت الحرمة لنظائر الخمر.

وأمّا مورد افتراق العلّة بالمعنى الثاني عن العلّة بالمعنى الأوّل فمثاله ما لو سأل أحد الامام عليه‌السلام عن انّه نام حتى خرج الوقت فقال : « اقض الصلاة لأنّها فاتتك » فإنّ الفوت ليس هو مناط جعل القضاء على المكلّف بل انّ ملاك القضاء أمر آخر لم يصرّح به في الخطاب ، فالفوت علامة قد جعلها الشارع وسيلة للتعرّف على موارد وجوب القضاء.

وباتّضاح المراد من العلّة نقول : انّ العلّة بالمعنى الأوّل يعبّر عنها بشرائط الجعل وبمبادئ الحكم ويعبّر عنها أيضا بالملاك ، وهي المقصود من قولهم انّ الأحكام تابعة لعللها وملاكاتها وانّ هذه الملاكات كامنة في متعلّقات الأحكام.

ولا ريب في ثبوت الملازمة بين العلّة بهذا المعنى وبين الحكم المعلول لها كما أوضحنا ذلك تحت عنوان « علل الأحكام » ، انّما الكلام فيما هو السبيل لإحراز ثبوت العلّة.

فنقول : انّ الشارع قد يصرّح بعلة الحكم ومناط جعله وعندئذ يمكن الاستفادة من هذه العلّة لإحراز موارد ثبوت الحكم ، وهذا هو أحد موردي العلّة المنصوصة ، وقد لا يصرّح بذلك ، وعندئذ يكون من المتعذّر على المكلّف معرفة ملاكات الحكم بالمعنى المذكور ، إذ لا سبيل لاستقلال العقل بإدراك ملاكات الأحكام بعد عدم احاطته بأوجه المصالح والمفاسد ، نعم قد يدرك العقل اشتمال فعل على مصلحة إلاّ انّ ذلك وحده غير كاف للجزم بترتب الحكم المناسب للمصلحة المدركة على ذلك الفعل لاحتمال أن يكون للمصلحة المدركة ما يمنع عن تأثيرها أثرها ، وحصول


القطع بكون المصلحة المدركة تامّة لا يكون عقلائيا بعد الالتفات لهذا الاحتمال.

وأمّا العلّة بالمعنى الثاني فمع التصريح بها في الخطاب واحراز انّها مدار الحكم وجودا وعدما يكون ذلك مصحّحا للتعدي من موردها الى كلّ مورد يكون متوفرا عليها ، وهذا هو المورد الثاني من موردي قياس منصوص العلّة.

وبذلك يتضح انّ العلّة بالمعنى الثاني لو لم تكن صريحة ولم يحرز انّها مدار الحكم وجودا وعدما فإنّه لا يصحّ التعويل عليها لغرض التعدّي من موردها الى موضوعات اخرى ، ولمزيد من التوضيح راجع « قياس مستنبط العلّة ».

وأمّا المراد من الحكمة فهي جزء العلّة لجعل الحكم على موضوعه ، ولذلك لا يدور الحكم مدارها ، كما لا تصلح أن تكون أمارة وعلامة على موارد الحكم الثابت لموردها ، فلا يتعدّى من موردها لموارد اخرى وان كانت تلك الموارد واجدة لتلك الحكمة.

فالحكمة غالبا ما تذكر لغرض الإقناع أو ليكون الحكم مأنوسا عند المكلّف أو لرفع استيحاشه من الحكم.

ثمّ انّ البحث بعد ذلك عن الضابطة التي بها تتميز العلّة عن الحكمة في الخطابات الشرعيّة وهذا ما يكون مرجعه هو ملاحظة لسان الدليل وما يقتضيه من ظهور.

* * *

٤٥٧ ـ العموم

العموم في اللغة بمعنى الشمول والاستيعاب والسريان لكلّ فرد يكون مفهوم العام صالحا للانطباق عليه ، وأمّا المراد من العموم في اصطلاح الاصوليين فهو الشمول والاستيعاب المستفاد بواسطة المدلول اللفظي ، وذلك في مقابل الاطلاق والمفيد لمعنى الشمول والاستيعاب أيضا إلاّ انّ استفادة ذلك منه تتمّ بواسطة قرينة الحكمة. فالفرق بين الاطلاق والعموم انّما هو من جهة الدال على الشمول والاستيعاب ، فلو


كان الدال هو الاوضاع اللغويّة فهذا باصطلاح الاصوليين عموم وان كان الدال على ذلك هو قرينة الحكمة فهو الإطلاق باصطلاحهم.

ثمّ انّ العموم ينقسم إلى عموم استغراقي وعموم بدلي وعموم مجموعي ، وسنوضح ذلك في محلّه ، هذا وقد ذكرت للعموم مجموعة من الصيغ في لغة العرب ، منها كلمة « كلّ » و « جميع » و « قاطبة » ، وهذا ما سنوضحه ان شاء الله تحت عنوان « كلّ » ، كما انّه قيل انّ النكرة في سياق النفي أو النهي وضعت للعموم ، وكذلك الجمع المعرف بالألف واللام ، وقد أوضحنا ذلك تحت عنوانيهما.

وبقي في المقام بحث لا بدّ من الإشارة اليه ، وهو انّه بعد ان اتّضح انّ معنى العموم هو استيعاب الحكم لجميع أفراد الطبيعة المدخولة لأداة العموم وانّ ذلك استفيد بواسطة ما وضعت له أدوات العموم من معنى الاستيعاب والشمول نقول : انّه إذا كان معنى العموم هو ذلك فإنّه يقتضي دخول اسماء الاعداد كلفظ عشرة تحت ضابطة العموم المذكورة ، لأنّ اسماء الأعداد كلفظ عشرة تدل أيضا على استيعاب الحكم المجعول عليها لجميع وحدات العدد ، فحينما يقال « أكرم عشرة رجال » فإنّ لفظ عشرة يدلّ على استيعاب الحكم لجميع وحدات العدد عشرة ، وهذا هو معنى العموم ، إذ انّه حينما يقال « أكرم كلّ عالم » فإنّ لفظ العموم يدلّ على استيعاب الحكم لكلّ واحد من أفراد الطبيعة المدخولة للفظ « كلّ » ، وبهذا تكون اسماء الأعداد من اسماء العموم.

إلاّ انّه يقال انّ اسماء الأعداد وان كانت تدل على استيعاب الحكم لوحداتها إلاّ انّ ذلك هو مقتضى طبع اسم العدد ، فليس الاستيعاب مستفادا من وضع اسم العدد لذلك ، وانّما هو موضوع لمعناه وهو طبيعة العشرة المهملة مثلا ، والاستيعاب انّما هو أثر تكويني له أو قل لازم ذاتي له ، فكما انّ الزوجية والفردية أثر تكويني ولازم ذاتي لاسم العدد فكذلك


الاستيعاب لوحداته ، فالزوجيّة مثلا ليست موضوعة للفظ العدد عشرة بل انّ اسم العدد عشرة بطبعه التكويني يقتضي الزوجيّة ، وهكذا الكلام في استيعاب العشرة لوحداته فإنّه مقتضى طبع اسم العدد عشرة.

وبتعبير آخر : انّ لفظ عشرة مثلا يدلّ بواسطة الوضع على مرتبة من مراتب الأعداد ، هذه المرتبة هي المتكونة من مجموعة من الأعداد الفرديّة تساوي عشر وحدات ، فهذا ما وضع له لفظ العشرة ، وأمّا انقسامه الى متساويين ووقوعه بين مرتبتين من مراتب العدد ، وكذلك استحالة انقسامه على الثلاثة دون كسر فهذا ما يقتضيه واقع العدد عشرة وليس هو من المدلولات اللفظيّة للفظ العشرة.

وبهذا يتّضح انّ استيعاب اسم العدد لوحداته ليس من المدلولات الوضعيّة للفظ اسم العدد وانّما هو من مقتضيات واقع اسم العدد ، وهذا بخلاف لفظ « كلّ » فإنّها موضوعة لإفادة الاستيعاب والشمول.

٤٥٨ ـ العموم الاستغراقي

العموم الاستغراقي هو العموم الذي يكون مفاده استيعاب الحكم لجميع أفراد الطبيعة المدخولة لأداة العموم في عرض واحد ، فيكون الحكم ثابتا لكلّ فرد فرد من أفراد الطبيعة على سبيل العطف بالواو.

فالحكم في العموم الاستقراقي ينحل روحا الى أحكام استقلاليّة بعدد أفراد الطبيعة المدخولة للأداة ، فالحكم في هذا النحو من العموم وان كان في مقام الإبراز والإنشاء حكم واحد إلاّ انّه منحل واقعا الى أحكام متعدّدة بعدد أفراد الطبيعة ، فكأنّ القضيّة التي جعل فيها الحكم على كلّي الطبيعة قضايا متعدّدة ، موضوع كلّ واحد منها فرد من أفراد الطبيعة ومحمولها الحكم المذكور.

ومن هنا لا يكون امتثال الحكم في فرد مسقط للحكم في الفرد الآخر بل يكون لكل طاعة ومعصية مستقلّة ، وهذا هو معنى انحلال الحكم في العموم


الاستغراقي الى أحكام استقلاليّة.

* * *

٤٥٩ ـ العموم البدلي

المراد من العموم البدلي هو العموم الذي يكون مفاده شمول الحكم لجميع أفراد الطبيعة المدخولة لأداة العموم ولكن بنحو البدليّة والعطف بأو.

ففي الواقع يكون الحكم في العموم البدلي واقعا على صرف الوجود للطبيعة ، وواضح انّ صرف الوجود يتحقّق بأوّل وجودات الطبيعة ، ومن هنا يكون المطلوب هو ايجاد الطبيعة في ضمن فرد واحد إلاّ انّه لا خصوصيّة لفرد على آخر.

ومثال العموم البدلي ما لو قال المولى « أكرم أيّ رجل شئت ».

* * *

٤٦٠ ـ العموم الزماني

لا يختلف العموم الزماني عن العموم الاستغراقي إلاّ من جهة أنّ المستغرق والمستوعب في العموم الزماني هو آنات الزمان بخلاف العموم الاستغراقي فإنّه يطلق على الأعمّ من كون المستغرق هو آنات الزمان أو الأفراد.

ولا بأس هنا أن نشير إلى أمر له ثمرات مهمّة :

وهو أنّ العموم الزماني تارة يكون بلحاظ متعلّق الحكم ، وتارة يكون بلحاظ نفس الحكم.

أمّا الأوّل : فهو ما لو كان العموم الزماني وقع قيدا لمتعلّق الحكم ، كما لو قال المولى : ( يحرم شرب الخمر في كلّ زمان ) و ( يجب البرّ بالوالدين دائما ) و ( عليك بالصدق في كلّ آن ) فالعموم الزماني في كلّ هذه الخطابات وقع قيدا لمتعلّقات الأحكام ، أي لشرب الخمر في المثال الأوّل ولبرّ الوالدين في المثال الثاني وللصدق في المثال الثالث.

وأمّا الثاني : فهو ما لو كان العموم الزماني وقع قيدا لنفس الحكم ، كما لو قال المولى : ( الكذب حرام ) و ( الحرمة ثابتة في كلّ زمان ) فالعموم الزماني وقع قيدا للحكم بالحرمة وليس


لمتعلّق الحرمة وهو الكذب.

وفي كلا الفرضين يكون الحكم دائميّا أي سواء كان العموم الزماني قيدا لمتعلّق الحكم أو للحكم نفسه ، فإنّ النتيجة هي استمرار ثبوت الحكم ، فلا ثمرة بين الفرضين من هذه الجهة وإنّما تظهر الثمرة من جهة أخرى.

فقد أفاد المحقّق النائيني رحمه‌الله أنّ العموم الزماني إذا كان قيدا لمتعلّق الحكم فإنّ ذلك يقتضي التمسّك بالعموم الزماني في ظرف الشكّ في التخصيص وخروج بعض آنات الزمان عن العموم ، فلو قال المولى : ( يجب عليك الصدق في كلّ زمان ) ثمّ وقع الشكّ في وجوب الصدق في بعض آنات الزمان فإنّ المرجع حينئذ هو العموم الزماني ، وبذلك يكون الوجوب للصدق ثابت في الزمان المشكوك عينا كما لو وقع الشكّ في التخصيص في العموم الأفرادي فإنّ المرجع هو العموم الأفرادي.

فلا يصحّ الرجوع في الفرض المذكور للاستصحاب لأنّ العموم الزماني قد تكفّل بيان حكم المتعلّق في كلّ زمان ، فالقطعة الزمانيّة التي وقعت موردا للشكّ كان قد تصدّى العموم الزماني لبيان حكمها فلا معنى للرجوع للاستصحاب بل لو اتّفق أن لم يكن العموم الزماني متصدّيا لبيان حكم القطعة الزمانيّة المشكوكة فإنّه لا يصحّ الرجوع إلى الاستصحاب بل يكون المرجع هو الأصول العمليّة مثل البراءة أو الاشتغال ولا يسوغ الرجوع إلى استصحاب الحكم الثابت للأزمنة السابقة.

أمّا لو كان العموم الزماني قيدا لنفس الحكم فإنّ المرجع في ظرف الشكّ في التخصيص هو الاستصحاب دون العموم الزماني لأنّ الشكّ في تخصيص نفس الحكم يساوق الشكّ في ثبوت جعل نفس الحكم في الزمان المشكوك ، وذلك لأنّ العموم الزماني إذا كان قيدا للحكم فالشكّ فيه يساوق الشكّ في ثبوت الحكم فنحتاج لثبوت الحكم في الزمان المشكوك إلى العموم الزماني


والمفترض أنّه مشكوك فيه فلا يصحّ التمسّك به لإثبات عموم الحكم إلاّ أن نتمسّك بعموم الحكم لإثبات العموم الزماني ، وهذا معناه افتراض الحكم متقدّما على موضوعه وهو خلف ، لأنّ المفترض أنّ العموم الزماني قيد للحكم ، وكونه قيدا له يعني أنّ العموم الزماني هو موضوع الحكم ، وإذا كان كذلك فلا يصحّ التمسّك بعموم الحكم لإثبات العموم الزماني لأنّ ذلك يستلزم إثبات الحكم لموضوعه.

فالمتعيّن في مثل الفرض هو الرجوع إلى استصحاب الحكم العامّ في القطعة الزمانيّة المشكوكة وإذا لم نقل بصحّة الرجوع إلى الاستصحاب فالمرجع هو الأصول العمليّة الأخرى.

* * *

٤٦١ ـ العموم السياقي

يطلق العموم السياقي على العموم المستفاد من سياق الجملة كما في النكرة في سياق النفي مثل قوله تعالى : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ، ) والنكرة في سياق النهي مثل : ( لا تنهر يتيما ).

ولمزيد من التوضيح راجع عنوان ( النكرة في سياق النفي والنهي ).

* * *

٤٦٢ ـ العموم الفوقاني

عند ما تستقرّ المعارضة بين دليلين اجتهاديّين ولم يكن ثمّة مرجّح من المرجّحات المنصوصة أو غير المنصوصة لو كنّا نقول باعتبارها وكنّا نقول بعدم التخيير أو التوقّف إمّا مطلقا أو حينما لا يكون التعارض بين الأخبار فإنّ القاعدة العقليّة تقتضي التساقط أي سقوط كلا الدليلين المتعارضين عن الحجيّة ، وحينئذ لو كان في البين عموم أو إطلاق من الآيات أو الروايات ولم يكن ذلك العموم أو الإطلاق طرفا في المعارضة فإنّه يكون مرجعا في تحديد الحكم الشرعي.

وهذا العموم أو الإطلاق هو المعبّر


عنه بالعموم الفوقاني ، فالمقصود من العموم هو الأعمّ من العامّ الاصطلاحي والإطلاق ، ومنشأ التعبير عنه بالفوقاني هو مرجعيّته بعد سقوط طرفي التعارض عن الحجيّة ، فكأنّه في رتبة الفوقيّة بالنسبة لهما ، فحين لا يجدي الرجوع إليهما نظرا لتعارضهما يكون هو المرجع.

ومثال ذلك لو ورد دليلان أحدهما يقتضي لزوم التكفير بشاة عند استعمال المحرم للطيب والآخر يقتضي عدم لزوم التكفير واستحكمت المعارضة بينهما وليس من مرجح لأحدهما ، فإنّ القاعدة تقتضي سقوطهما عن الحجّيّة ، وحينئذ لو وردت رواية معتبرة مفادها أنّ كلّ من ارتكب واحدا من تروكات الإحرام فإنّه يكون ملزما بالتكفير بشاة. فإنّ هذه الرواية تكون عموما فوقانيّا لأنّها لم تقع طرفا في المعارضة ، وهو ما يبرّر عدم سقوطها عن الحجّيّة وبذلك تكون هي المرجع في تحديد حكم من استعمل الطيب حال الإحرام.

٤٦٣ ـ العموم المجموعي

هو العموم الذي يكون مفاده ثبوت الحكم لجميع أفراد الطبيعة المدخولة لأداة العموم على أن يكون المجموع بما هو مجموع هو موضوع الحكم ، وهذا ما يعني أن يكون كلّ فرد من أفراد الطبيعة جزء لموضوع الحكم ويكون مجموع أفراد الطبيعة موضوع واحد مركب من تمام أفراد الطبيعة المدخولة للأداة.

وبذلك يتّضح الفرق بين العموم المجموعي والعموم الاستغراقي حيث لا ينحلّ الحكم هنا الى أحكام بعدد أفراد الطبيعة بل ليس ثمّة سوى حكم واحد موضوعه تمام الأفراد ، ولذلك يكون للحكم في العموم المجموعي امتثال واحد ومعصية واحدة ، ولا يكون المكلّف مطيعا إلاّ بالإتيان بتمام الأفراد وعند ما يترك بعض الأفراد يكون قد عصى الحكم وان كان قد جاء ببعض الأفراد ، ويمكن التمثيل له بما لو قيل « اقرأ كلّ الكتاب ».


هوامش حرف العين

(١) مسند أحمد : مسند المكثرين من الصحابة الحديث ٣٤١٨.


حرف الغين


عناوين حرف الغين

٤٦٤ ـ الغاية

٤٦٥ ـ مفهوم الغاية

٤٦٦ ـ الغاية داخلة في المغيّى أو خارجة؟

٤٦٧ ـ غير المستقلات العقليّة


حرف الغين

٤٦٤ ـ الغاية

المراد من الغاية كما ذكر اللغويون هو « المدى » بمعنى الأمد الأعم من الزماني والمكاني أو قل الغاية هي المنتهى ، وبحسب التعريف المدرسي انّ الغاية هي التي تقع بعد احدى أدوات الغاية مثل « الى ، حتى ».

فالغاية في قوله تعالى : ( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) (١) هي « الليل » ، والغاية في قوله تعالى ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ ) هو « التبيّن ».

ثم انّ الغاية قد ترجع الى موضوع الحكم كما لو قيل : « اشرب ماء الكأس حتى الثمالة » ، فالغاية وهي مدخول « حتى » راجعة الى موضوع الأمر بالشرب وهو « ماء الكأس » ، وبهذا يكون معنى هذه الجملة هو انّ الحدّ الأخير للموضوع الذي تعلّق به الأمر بالشرب هو الثمالة.

وقد ترجع الغاية الى متعلّق الحكم كما في قوله تعالى : ( فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ) (٢) ، فإنّ الغاية وهي مدخول حتى راجعة الى متعلّق النهي وهو « المقاربة » ، فيكون معنى الآية الشريفة انّ منتهى ما هو منهي عنه ـ أي مقاربة النساء ـ هو الطهر.

وقد ترجع الغاية الى الحكم كما في قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » (٣) ، فإنّ الغاية في الرواية الشريفة راجعة الى الحكم وهو الإطلاق والإباحة.

وقد ترجع الى الحكم المستفاد من


الهيئة كصيغة الأمر أو النهي كما في قوله تعالى : ( وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ) (٤) ، فإنّ الغاية راجعة الى الحكم المستفاد من صيغة النهي ، فيكون مفاد الآية الشريفة هو انّ حرمة حلق الرأس تنتهي عند بلوغ الهدي محلّه.

* * *

٤٦٥ ـ مفهوم الغاية

راجعة تحت عنوان « مفهوم الغاية » في باب الميم.

* * *

٤٦٦ ـ الغاية داخلة في المغيّى أو خارجة؟

المراد من المغيّى هو مرجع الغاية أي المحدّد مداه بالغاية ، فلو كانت الغاية راجعة الى الموضوع ، فالموضوع هو المغيّى وهكذا لو كانت الغاية راجعة الى المتعلّق دون الحكم ، إذ النزاع غير متصوّر في مورده.

والمقصود من دخول الغاية في المغيّى هو شمول حكم المغيّى للغاية ، كما انّ المقصود من خروج الغاية عن المغيّى هو انتفاء حكم المغيّى عن الغاية ، فلو قيل « اشرب ماء الكأس حتى الثمالة » فهل انّ الثمالة والتي هي الغاية مشمولة لحكم المغيّى ، أي هل يلزم شرب الثمالة كما يلزم شرب الماء قبل حدّ الثمالة أو انّ الحكم بلزوم الشرب ينتهي عند بلوغ حدّ الثمالة فتكون الثمالة غير مشمولة للأمر ، وهذا هو معنى خروج الغاية عن حكم المغيّى.

وقع الخلاف بين الأعلام في ذلك ، وذكرت في المقام أربعة أقوال :

الأوّل : هو دخول الغاية في حكم المغيّى مطلقا.

الثاني : عدم دخول الغاية في حكم المغيّى مطلقا.

الثالث : هو التفصيل بين ما إذا كانت الغاية من جنس المغيّى وبين ما إذا لم تكن كذلك ، فلو كانت الغاية من جنس المغيّى فإنّ الغاية حينئذ داخلة في حكم المغيّى وإذا لم تكن كذلك فإنّ


الغاية تكون خارجة عن حكم المغيّى.

مثلا : قوله تعالى : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) (٥) ، فإنّه لما كان المرفق من جنس اليد فإنّ الغاية « المرفق » داخلة في حكم المغيّى « اليد » ، ومن هنا يجب غسل المرفق كما يجب غسل اليد.

وهذا بخلاف ما لو قيل « كلّ اللحم حتى العظم » فإنّ الغاية « العظم » خارجة عن حكم المغيّى « اللحم » ، فلا يجب أكل العظم لكونه من غير جنس اللحم.

الرابع : التفصيل بين مدخول « حتى » ومدخول « الى » ، فإذا كانت الغاية مدخولة لحتى فإنّها داخلة في حكم المغيّى ، وأمّا إذا كانت الغاية مدخولة لكلمة « الى » فإنّ الغاية تكون خارجة عن حكم المغيّى.

فلو قيل « لا تشرب الخمر حتى النبيذ » فإنّ النبيذ يكون داخلا في حكم الخمر وهو الحرمة ، وأمّا قوله تعالى : ( أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) فإنّ الليل ليس داخلا في حكم المغيّى.

هذا هو حاصل الأقوال الأربعة ، وقد نسب السيّد الخوئي الى المحقّق النائيني رحمهما الله الميل الى القول الرابع إلاّ انّ ذلك ينافي ما هو مذكور في تقريرات بحثه « فوائد الاصول » فانّه قال : « انّ ظهور الأداة في الدخول أو الخروج أو التفصيل دعوى بلا برهان » ثمّ أفاد انّه لا بدّ من الرجوع الى الأصل العملي عند عدم قيام القرينة الخاصّة على الدخول أو الخروج.

واستدلّ للقول الاول بأنّ الغاية تعني النهاية وإذا كان كذلك فهي داخلة في حكم المغيّى ، فكما انّ الحدّ الابتدائي مشمول لحكم المغيّى فكذلك الحدّ النهائي والذي هو الغاية.

وبتعبير آخر : انّ الغاية هي الجزء الأخير من المغيّى ، والجزء الأخير كالجزء الأوّل داخل في حدود المغيّى.

وذهب السيّد الخوئي رحمه‌الله الى القول الثاني واستدلّ له بدعوى انّ هذا القول هو المناسب لما هو المتفاهم العرفي إلاّ


مع قيام القرينة على الخلاف.

* * *

٤٦٧ ـ غير المستقلات العقليّة

وهي القضايا المدركة بالعقل وتكون صلاحيتها لأن يستنبط منها حكم شرعي منوطا بانضمام مقدمة شرعية اليها ، وهذا هو منشأ التعبير عنها بغير المستقلات ، ولمزيد من التوضيح راجع عنوان « المستقلات العقليّة » و « الاستلزامات العقليّة ».


هوامش حرف الغين

(١) سورة البقرة : ١٨٧.

(٢) سورة البقرة : ٢٢٢.

(٣) الوسائل : باب ١٢ من أبواب صفات القاضي الحديث ٦٧.

(٤) سورة البقرة : ١٩٦.

(٥) سورة المائدة : ٦.



حرف الفاء


عناوين حرف الفاء

٤٦٨ ـ فتح الذرائع

٤٦٩ ـ فحوى الحطاب

٤٧٠ ـ الفرد المردد


حرف الفاء

٤٦٨ ـ فتح الذرائع

الذريعة هي الوسيلة التي يتوسّل بها للوصول إلى الغرض ، والمراد من فتح الذرائع هو ايجاب الوسيلة التي يتوسّل بها لامتثال الوجوب ، وجعل الاستحباب لها لو كان المراد التوسّل بها لامتثال المستحبّ ، وأمّا لو كان حكم الفعل هو الإباحة ففتح الذرائع معناه اباحة الوسيلة التي يتوسّل بها لما هو مباح.

فالوسيلة تأخذ حكم ذيها من الوجوب والاستحباب والإباحة الاّ انّ ذا الوسيلة إذا كان محرما يكون تحريم الوسيلة من سدّ الذرائع لا من فتحها ، كما أوضحنا ذلك تحت عنوان « سد الذرائع ».

وهذا الاصطلاح غير مستعمل في اصول الإماميّة ، وما هو مستعمل عندهم هو المقدّمة ، فتارة تكون مقدّمة للحرام واخرى مقدّمة للواجب ، وقد تكون مقدّمة للمستحبّ والمكروه والمباح.

على انّ دعوى انّ الوسيلة تأخذ حكم ذي الوسيلة مطلقا ليس مقبولا عند الإماميّة ، نعم لا يمكن أن يكون ذو الوسيلة محرما ووسيلته المنحصرة واجبة أو يكون ذو الوسيلة واجبا والوسيلة المنحصرة لتحصيله محرّمة ، ولو كان كذلك فإنّ المسألة تكون من صغريات باب التزاحم ، فلو كان الوجوب أهمّ ملاكا فإنّ فعلية الحرمة الثابتة لذي الوسيلة أو للوسيلة منتفية ، وأمّا لو كانت الحرمة أهمّ


ملاكا فإنّ فعلية الوجوب لذي الوسيلة أو للوسيلة هي التي تكون منتفية.

وسوف نتعرّض لذلك بشيء من التفصيل في بحث المقدّمات ان شاء الله تعالى.

* * *

٤٦٩ ـ فحوى الخطاب

وهو تعبير آخر عن مفهوم الموافقة ، وقيل انّ منشأ التعبير عنه بالفحوى هو انّ انفهامه من مدلول الخطاب يكون قطعيا ، وقد أوضحناه بنحو التفصيل تحت عنوان « مفهوم الموافقة ».

* * *

٤٧٠ ـ الفرد المردد

قد شرحنا المراد منه تحت عنوان « استصحاب الفرد المردد ».


حرف القاف


عناوين حرف القاف

٤٧١ ـ القاطع والمانع

٤٨٨ ـ القطع الموضوعي الصفتي

٤٧٢ ـ قبح العقاب بلا بيان

٤٨٩ ـ القطع الموضوعي الطريقي

٤٧٣ ـ القبح الفعلي والقبح الفاعلي

٤٩٠ ـ القطع النوعي

٤٧٤ ـ القدر المتيقّن في مقام التخاطب

٤٩١ ـ القول بعدم الفصل

٤٧٥ ـ القدرة التكوينيّة بالمعنى الأعم

٤٩٢ ـ قول اللغوي

٤٧٦ ـ القدرة العقليّة والشرعيّة

٤٩٣ ـ القياس الاصولي

٤٧٧ ـ قرينة الحكمة

٤٩٤ ـ قياس مستنبط العلّة

٤٧٨ ـ القرينة اللبيّة

٤٩٥ ـ قياس منصوص العلّة

٤٧٩ ـ القرينة المتّصلة

٤٩٦ ـ قيام الاصول مقام القطع

٤٨٠ ـ القرينة المنفصلة

٤٩٧ ـ قيام الأمارة مقام القطع الطريقي

٤٨١ ـ القضايا الخارجيّة والقضايا الحقيقيّة

٤٩٨ ـ قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الصفتي

٤٨٢ ـ القطع

٤٩٩ ـ قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي

٤٨٣ ـ القطع الشخصي

٤٨٤ ـ القطع الطريقي

٤٨٥ ـ قطع القطّاع

٤٨٦ ـ القطع من الصفات الحقيقيّة ذات الإضافة

٤٨٧ ـ القطع الموضوعي


حرف القاف

٤٧١ ـ القاطع والمانع

تنقسم المركبات الأعم من الخارجيّة والاعتباريّة الى قسمين ، فتارة تكون للمركب هيئة اتصاليّة وتارة لا تكون له هيئة اتصاليّة ، بمعنى انّ المركبات لا تكون مقتضية للأثر المنتظر من وجودها إلاّ حين ايجادها على هيئة وصورة متصلة ، فمع اتفاق ايجاد المركب بتمام أجزائه على غير تلك الصورة الاتصاليّة لا يكون الأثر المنتظر منه مترتبا ، ومن هنا يعبّر عن الهيئة الدخيلة في واجدية المركب للملاك واقتضائه لترتب الأثر يعبّر عنها بالجزء الصوري ، وهذا ما يعني انّ عدم تحصيله أو حصوله يساوق عدم وجود المركب التام.

وفي مقابل ذلك قد لا يكون للهيئة الاتصاليّة دخل في ترتّب الأثر المنتظر من وجود المركب وانّ واجدية المركب للملاك واقتضائه لترتب الأثر لا يناط بأكثر من وجود أجزاء المركب الأعم من الأجزاء الخارجيّة والتحليليّة.

وباتضاح هذه المقدّمة نقول : انّ القاطع لا يتصور إلاّ في المركبات ذات الهيئة الاتصاليّة ، وذلك لأنّ المراد من القاطع هو ما يوجب إزالة الهيئة الاتصاليّة والحيلولة دون وجود الجزء الصوري للمركب.

وهذا وان كان واضحا في المركبات الخارجيّة إلاّ انّ ثبوته في المركبات الاعتباريّة يحتاج الى دليل إثباتي ، بمعنى انّ الأمر بالمركب واعتباره على عهدة المكلّف لا يساوق اعتبار الهيئة


الاتصاليّة للمركب.

وكيف كان فالتعبير بالقاطع لا يستعمل في كلمات الفقهاء إلاّ في خصوص الصلاة ، وذلك لاستظهار بعضهم اعتبار الهيئة الاتصالية في صحتها فيطلقون عنوان القاطع على كلّ ما يوجب فساد الصلاة اذا كان ايجابه للفساد مطلقا ، أي سواء اتّفق وقوعه حال الاشتغال بجزء من أجزاء الصلاة أو كان وقوعه في الأكوان المتخللة بين الأجزاء ، وذلك مثل الحدث والاستدبار فإنّ وقوعهما أثناء الصلاة موجب لفسادها مطلقا حتى لو اتفق وقوعهما أثناء الهوي للسجود والذي هو ليس من أجزاء الواجب.

وأمّا المانع فهو ما يكون مانعا عن صحة الصلاة لو اتفق وقوعه حين الاشتغال بأحد أجزاء الصلاة ، وذلك مثل لبس الذهب أو الحرير للرجل حين الاشتغال بالركوع أو السجود ، أما لو اتفق ذلك حين عدم الاشتغال بواحد من أجزاء الصلاة فإنّه لا يضرّ بصحة الصلاة.

٤٧٢ ـ قبح العقاب بلا بيان

قاعدة قبح العقاب بلا بيان من القواعد العقليّة المدركة بواسطة العقل العملي ، وهي مستند المشهور في البناء على جريان البراءة العقليّة ، وقد ذكر السيّد الصدر رحمه‌الله انّ هذه القاعدة تشكّل أحد الركنين الاساسيين للدليل العقلي في الفكر الاصولي ، والركن الثاني هو حجيّة القطع الناشئ عمّا يدركه العقل من حسن العقاب مع البيان ، وهي قاعدة عقليّة مضايفة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وكيف كان فلم تكن قاعدة قبح العقاب بلا بيان مطروحة بالمستوى الذي هي عليه الآن من النضوج والتبلور بل انّها كانت تتّجه اتّجاه لغويا حتى بعد ان عرضها الوحيد البهبهاني رحمه‌الله كما أفاد السيّد الصدر رحمه‌الله ، فقد كان صاحب الحاشية على المعالم وشريف العلماء رحمهما الله بل وحتى الشيخ الانصاري رحمه‌الله في بعض كلماته كانوا يعالجون القاعدة على أساس لغوي ،


وقد تحدّثنا عن القاعدة ومراحل تطورها تحت عنوان « البراءة العقليّة ». وما يهمّنا في المقام هو بيان المراد من القاعدة وما هو منشأ الالتزام بها.

أمّا ما هو المراد من القاعدة فهو عبارة عن دعوى إدراك العقل لمحدوديّة حقّ الطاعة للمولى جلّ وعلا وانّها لا تتّسع لحالات عدم العلم بالتكليف ، ومنشأ إدراك العقل لذلك هو ما يدركه من قبح الإدانة والمؤاخذة على عدم امتثال العبد لتكليف غير معلوم ممّا يعبّر عن انّ حدود حقّ الطاعة للمولى تختصّ بموارد العلم بالتكليف.

فالبيان هو العلم ، والإدانة والمؤاخذة عند عدمه ممّا يستقل العقل بقبحه ، ومن هنا يكون المكلّف في سعة من جهة التكليف الواقعي غير المعلوم ، وهذا هو معنى البراءة العقليّة.

وقد ذكر الشيخ الأنصاري رحمه‌الله وكذلك بعض من سبقه كشريف العلماء رحمه‌الله وهكذا صاحب الحاشية على المعالم وغيرهم رحمهم‌الله ذكروا منبها على صحّة هذه الدعوى ، وحاصله :

انّ الرجوع الى ما عليه الأعراف العقلائيّة يؤكّد صحّة هذه الدعوى ، فإنّ الملاحظ من سيرتهم وما هو المركوز في جبلتهم فيما تقتضيه العلاقة بين الموالي والعبيد العرفيين هو عدم استحقاق الموالي للطاعة في موارد عدم علم العبد بأوامر أسيادهم ، فلو لم يمتثل العبد أوامر سيّده بسبب الجهل بها فإنّه ليس للسيّد مساءلته عن عدم الامتثال ، فلو سأله فاعتذر العبد عن عدم الامتثال بعدم العلم فأجابه السيّد بأنّه كان عليك الاحتياط لكان للعبد أن يقول لم أكن أعلم بايجابك الاحتياط ، وحينئذ تنقطع حجّة السيّد ، ممّا يعبّر عن عدم استحقاق السيّد للطاعة في حالات جهل العبد بالتكليف ، وحينئذ تكون معاقبته لعبده ممارسة بغير حقّ وهو الظلم القبيح ، هذا ما يدركه العقلاء ويعبّرون عنه بقبح العقاب بلا بيان.

ثمّ انّ المحقّق النائيني رحمه‌الله برهن على


صوابية هذه القاعدة بما حاصله : انّ التكليف الإلزامي ما دام مجهولا لا مقتضي للانبعاث نحو امتثاله ، إذ الباعث نحو امتثال التكليف انّما هو التكليف بوجوده العلمي لا بوجوده الواقعي ، بمعنى انّ وجود التكليف في نفس الأمر والواقع لا يقتضي التحريك والبعث نحو امتثاله ، والذي يقتضي ذلك انّما هو العلم بالتكليف ، كما هو شأن سائر المنجّزات العقلائيّة مثل الأخطار ، فإنّها انّما توجب التحفّظ عن الوقوع فيها إذا كانت معلومة ، أمّا لو كان الخطر موجودا إلاّ انّه غير معلوم فإنّه لا يكون ثمّة مقتض للفرار منه والتحفّظ عن الوقوع فيه بل قد يقع في الخطر عن محض اختيار بتوهّم صلاحه وفائدته ، وهذا ما يكشف عن انّ الوجود الواقعي للخطر ليس موجبا للتحفّظ عنه وانّما الموجب لذلك هو العلم به ، ولهذا تجد الإنسان العاقل واقفا لا يحرّك ساكنا والذئب من ورائه وما ذلك إلاّ لعدم علمه بوجوده ، وذلك ما يعبّر عن انّ المحرّك للانبعاث أو الانزجار انّما هو العلم وليس الوجود الواقعي ، واذا كان كذلك فالتكليف لمّا كان مجهولا فلا شيء يقتضي التحرك والانبعاث نحو امتثاله.

وبتعبير آخر : امتثال التكليف لمّا كان من الأفعال الاختياريّة فهذا ما يقتضي نشوؤه عن الإرادة ، ومن الواضح تقوّم الإرادة بالعلم ، فمع افتراض عدم العلم لا يكون ثمّة محرّك وإرادة نحو امتثال التكليف ، وحينئذ تكون إدانته على ترك امتثال التكليف إدانة على ترك تكليف لم يكن ما يقتضي التحرّك عنه وهو قبيح.

* * *

٤٧٣ ـ القبح الفعلي والقبح الفاعلي

ذهب المحقّق النائيني رحمه‌الله الى انّ قبح التجرّي قبح فاعلي لا قبح فعلي ، وللفرق بين القبح الفعلي والقبح الفاعلي عدّة احتمالات :

الاحتمال الأوّل : انّ الفعل إذا قبيحا في نفسه وبعنوانه الأوّلي فقبحه


فعلي ، ويمكن التمثيل له بسفك دم المؤمن بغير حقّ ، فإنّ قبح هذا الفعل غير مرتبط بقصد الفاعل بل هو بنفسه وبعنوانه الأولي قبيح ، ولهذا يمكن التعبير عن هذا القبح بالقبح الفعلي.

وأمّا القبح الفاعلي فهو صدور الفعل ممّن يعتقد قبحه ، فالمتّصف بالقبح هو الفعل أيضا ولكن لا بعنوانه الاولي فقد يكون الفعل بعنوانه الاولي ليس قبيحا ولكن باعتبار انّه صدر ممّن يعتقد قبحه أوجب ذلك ان يتّصف الفعل بالقبح الفاعلي.

فالقبح الفعلي والقبح الفاعلي كلاهما وصفان للفعل إلاّ انّ الاول وصف للفعل بعنوانه الاولي والثاني وصف للفعل بعنوانه الثانوي ، وبهذا يتّضح انّ القبح الفاعلي قد يجتمع مع القبح الفعلي وقد يفترق عنه ، فلو كان الفعل قبيحا في نفسه وكان صدوره من الفاعل باعتقاد قبحه فإنّ الفعل حينئذ يكون قبيحا بالقبح الفعلي والقبح الفاعلي ، وقد لا يكون الفعل بعنوانه الاولي قبيحا إلاّ انّه صدر ممّن يعتقد قبحه فإنّ ذلك يوجب اتّصاف الفعل بعنوانه الثانوي بالقبح الفاعلي.

ومثاله : ما لو أقدم شخص على قتل رجل باعتقاد انّه محقون الدم فاتّفق ان كان الرجل مهدور الدم ، فإنّ القتل ليس قبيحا بالقبح الفعلي إلاّ انّه قبيح بالقبح الفاعلي.

الاحتمال الثاني : انّ المتّصف بالقبح الفعلي هو ذات الفعل القبيح واقعا ، وأمّا المتّصف بالقبح الفاعلي فهو النسبة الواقعة بين الفعل والفاعل المعتقد بقبح الفعل ، والفرق بين هذا الاحتمال والاحتمال الاوّل هو انّ القبح الفاعلي هنا ليس وصفا للفعل وانّما هو وصف للنسبة الصدوريّة بخلاف الاحتمال الأوّل فإنّ القبح الفاعلي وصف للفعل بعنوانه الثانوي.

وبتعبير آخر : انّ الفعل عند ما يصدر عن الشخص باعتقاد انّه قبيح فإنّ ذلك لا يستوجب اتّصاف الفعل بالقبح وانّما الذي يتّصف بالقبح هو النسبة الصدوريّة المنتزعة عن قيام الفعل بالفاعل ، فإذا أمكن الإشارة الى


هذه النسبة فإنّه يمكن وصفها بالقبح الفاعلي كما نصف العلّية بالانحصاريّة وعدم الانحصاريّة رغم انّه لا وجود لها والموجود خارجا انّما هو منشأ انتزاعها.

الاحتمال الثالث : انّ المتّصف بالقبح الفعلي هو ذات الفعل القبيح واقعا ، وأمّا المتّصف بالقبح الفاعلي فهو سريرة العبد ، فالقبح إذا وقع وصفا للسريرة يعبّر عنه بالقبح الفاعلي.

وبيان ذلك : انّ واقع الفعل لا ينقلب عمّا هو عليه ، فإذا لم يكن قبيحا واقعا فإنّه لا يتّصف بالقبح بمجرّد انّ صدوره عن المكلّف كان باعتقاد قبحه ، وانّما الذي يتّصف بالقبح هو ما يكشف عنه صدور الفعل ـ في هذه الحالة ـ وهو خبث السريرة ، فإنّ صدور الفعل باعتقاد قبحه يكشف عن خبث سريرة الفاعل ، فالمنكشف وهو خبث السريرة هو المتّصف بالقبح الفاعلي ، والمصحّح لوصف السريرة الخبيثة بالقبح الفاعلي هو قيامها بنفس الفاعل.

الاحتمال الرابع : انّ المتّصف بالقبح الفعلي هو ذات الفعل القبيح واقعا ، وأمّا المتّصف بالقبح الفاعلي فهو الفعل أيضا ولكن بعنوان صدوره عن شخصيّة ذات هويّة معيّنة تستوجب اكتساب الفعل الصادر عنها صفة القبح ، فاتّصاف الفعل بالقبح الفاعلي لا يتّصل بقصد الفاعل كما هو في الاحتمال الاول بل يتّصل بالسمة التي عليها الفاعل بقطع النظر عن قصده.

ويمكن التمثيل له بالأكل في الطرقات بمرأى من الناس فإنّه ليس قبيحا ذاتا كما انّ صدوره من سوقة الناس ليس قبيحا أيضا إلاّ انّ صدوره من العالم الوجيه قبيح ، وقبح هذا الفعل لا يتّصل بغرض الفاعل بل يتّصل بشخصه وعنوانه.

هذه هي المحتملات المذكورة للفرق بين القبح الفعلي والقبح الفاعلي ، والاحتمال الاول هو المستظهر من عبائر المحقّق النائيني رحمه‌الله في الفوائد ،


والثالث هو المستظهر من تقريرات السيّد الخوئي رحمه‌الله ، والاحتمال الثاني ذهب إليه السيّد الصدر رحمه‌الله ، وأمّا الاحتمال الرابع فقد ذكر السيّد الصدر رحمه‌الله بأنّه معقول ثبوتا.

* * *

٤٧٤ ـ القدر المتيقّن في مقام التخاطب

ذهب صاحب الكفاية رحمه‌الله إلى انّه لا ينعقد الإطلاق لاسم الجنس لو كان ثمّة قدر متيقّن مستفاد من مقام التخاطب ، ومن هنا يكون عدم وجود قدر متيقّن في مقام التخاطب من مقدّمات الحكمة التي لا ينعقد لاسم الجنس ظهور في الإطلاق إلاّ مع توفرها.

والمراد من القدر المتيقن في مقام التخاطب يتّضح بهذا البيان : انّ القدر المتيقّن معناه المقدار المقطوع إرادته للمتكلّم ، بمعنى ان لا نحتمل إرادة المتكلّم لغيره مع كونه غير مراد له وان كان العكس محتملا ، بمعنى ان نحتمل إرادة المتكلّم لهذا المقدار دون غيره.

والقدر المتيقّن تارة يستفاد من خارج الخطاب ، أي لعوامل ومبرّرات لا ترتبط بالخطاب الصادر عن المتكلّم بل انّ الحصص المتيقّنة من الخارج لو لوحظت من جهة ما تقتضيه الضوابط الدلاليّة للخطاب لكانت متساوية مع الحصص الاخرى من حيث دلالة الخطاب عليها.

ومثال ذلك ما لو قال المولى « أعتق رقبة » فإنّ القدر المتيقّن من الرقبة المأمور بعتقها هي الرقبة المؤمنة المتّصفة بالصلاح والعلم إلاّ انّ ذلك ليس مستفادا من الخطاب وانّما هو مستفاد من انّ هذه الصفات تقتضي شرعا وعقلائيا ترجيح المشتمل عليها وإلاّ فهذه الحصص كسائر الحصص الاخرى من جهة ما تقتضيه الدلالة اللغويّة والعرفيّة للفظ الرقبة.

وهذا النحو من القدر المتيقّن ليس هو المقصود من كلام صاحب الكفاية رحمه‌الله ، إذ لا يخلو عنوان من قدر متيقّن مستفاد من الخارج ، فلو كان


هذا القدر المتيقّن مانعا عن انعقاد الإطلاق لكان معنى ذلك عدم انعقاد اطلاق أصلا ، والعمدة انّ العرف لا يرى مثل هذا القدر المتيقّن مانعا عن انعقاد الإطلاق لاسم الجنس لو تمّت مقدّمات الحكمة.

والنحو الثاني من القدر المتيقّن هو ما تتمّ استفادته من مقام التخاطب ، بمعنى أن يكون التخاطب الواقع بين المتكلّم والمتلقي يقتضي إرادة المتكلّم جزما لحصص معيّنة مع بقاء احتمال إرادة المتكلّم لسائر حصص اسم الجنس المستعمل في الخطاب.

وبتعبير آخر : لو كان الخطاب مشتملا على بعض الخصوصيّات المقتضية عرفا لإرادة بعض أفراد اسم الجنس جزما لكان ذلك مانعا عن انعقاد الظهور في الإطلاق وإن كان لا ينعقد مع هذا الفرض ظهور في إرادة التقييد وإلاّ لم تفترق هذه المقدّمة عن المقدّمة الثانية من مقدّمات الحكمة بحسب ترتيب صاحب الكفاية رحمه‌الله والتي هي عدم وجود قرينة متّصلة على التقييد.

وبهذا يتّضح انّ منشأ عدم انعقاد الظهور في الإطلاق عند وجود قدر متيقّن في مقام التخاطب هو اشتمال الكلام على ما يصلح للقرينيّة وهو مانع عن انعقاد الظهور ، إذ من المحتمل قويا اعتماد المتكلّم على ذلك لبيان مراده الجدّي ، ومن هنا لا يمكن استظهار إرادته الجدّيّة للإطلاق بعد ان كان الكلام مكتنفا بما يصلح للقرينيّة على التقييد.

وببيان آخر : انّ القدر المتيقّن في مقام التخاطب لو كان هو تمام المراد الجدّي للمتكلّم دون غيره لكان قد بيّنه ، لأنّ المفترض انّ المتلقي استفاد إرادة المتكلّم لهذا المقدار من نفس الخطاب ، نعم لو كان المتكلّم في مقام بيان تمام مراده بالإضافة الى انّه في مقام بيان انّ ما يذكره هو تمام مراده لكان القدر المتيقّن في مقام التخاطب غير كاف للتعبير عن انّ القدر المتيقّن هو تمام مراده ، وبذلك ينعقد الظهور في الإطلاق لكلامه ، إذ انّه لو كان في مقام


بيان انّ ما يذكره هو تمام مراده فهذا معناه انّه عند ما لا يذكر القيد في كلامه فهو غير مريد له وإلاّ لكان مخلا بغرضه ، وهذا ما يبرّر انعقاد الإطلاق لكلامه.

ومثال ذلك : لو سأل رجل الامام عليه‌السلام عن الصلاة في جلد السنجاب فأجابه الإمام عليه‌السلام عن ذلك بقوله : لا تصلّ في جلد الحيوان المحرم ، فإنّ القدر المتيقّن من الحيوان المحرم المستفاد من الخطاب هو السنجاب ، فإنّ الامام عليه‌السلام لو كان غرضه هو القدر المتيقّن وهو السنجاب لكان قد حقّق غرضه ، إذ المفترض انّ السائل فهم انّ السنجاب مراد قطعا من قوله : لا تصلّ في جلد الحيوان المحرّم ، نعم لو كان الامام عليه‌السلام بصدد بيان تمام مراده وانّ ما يذكره هو تمام مراده لكان القدر غير مانع عن انعقاد الظهور في إرادة مطلق الحيوان المحرّم ، إذ لو كان هو مراده لكان قد أخلّ بغرضه بعد ان لم يذكر انّه تمام مراده ، وهذا ما يعبّر عن انّ تمام مراده هو مطلق الحيوان المحرّم.

هذا ولم يقبل مشهور المحقّقين بدعوى المحقّق صاحب الكفاية رحمه‌الله وانّ عدم وجود قدر متيقّن في مقام التخاطب من مقدمات الحكمة.

* * *

٤٧٥ ـ القدرة التكوينيّة بالمعنى الأعم

ويتّضح المراد منها بهذا البيان :

وهو انّ كلّ تكليف فهو مشروط بالقدرة التكوينيّة على متعلّقه ، إذ يستحيل ان يكلّف المولى جلّ وعلا عبده بما لا يقدر على أدائه ، فلو كان المكلّف قادرا تكوينا على متعلّق التكليف فهل انّ هذا المقدار كاف في تصحيح جعل المولى ذلك التكليف على عبده أو لا؟.

من الواضح انّ ذلك وحده غير كاف لتصحيح جعل التكليف على العبد بل لا بدّ من أن لا يكون ذلك التكليف مزاحما بتكليف آخر يعجز المكلّف عن الجمع بينهما وإن كان قادرا تكوينا على امتثال كلّ واحد


منهما بقطع النظر عن الآخر ، فالقدرة التكوينيّة على أداء كلّ واحد من التكليفين لا تصحّح التكليف بالجمع بين التكليفين.

فلو افترضنا انّ المكلّف قادر على أداء الصلاة تكوينا كما انّه قادر على انقاذ الغريق تكوينا إلاّ انّه كان عاجزا عن امتثال كلا التكليفين ، فهنا يستحيل تكليفه بالصلاة بنحو مطلق وتكليفه بالإنقاذ بنحو مطلق ، بمعنى تكليفه بالصلاة مع فعليّة تكليفه بالإنقاذ ، وكذلك العكس ، وذلك لاستلزامه التكليف بالجمع والمفترض انّه عاجز عن الجمع بين امتثال كلا التكليفين.

ومن هنا يتنقح انّ كلّ تكليف فهو مشروط بالقدرة على امتثال متعلّقه تكوينا كما هو مشروط بعدم وجود تكليف فعلي مضاد ، ومجموع هذين الشرطين يعبّر عنهما بالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ. فالقدرة التكوينيّة بالمعنى الأعمّ تعني القدرة على متعلّق التكليف مع عدم ما يزاحمه من تكاليف اخرى بالغة مرحلة الفعليّة.

ثمّ انّ القيد الثاني له صياغتان :

الصياغة الاولى : هو أن لا يكون التكليف مزاحما بتكليف آخر ، بمعنى أن لا يكون المكلّف مأمورا بتكليف آخر مضاد.

الصياغة الثانية : هو أن لا يكون المكلّف مشغولا بامتثال تكليف آخر مضاد.

والثمرة التي تظهر من الفرق بين الصياغتين واضحة ، فبناء على الصياغة الاولى يكون التكليف مشروطا ـ بالإضافة إلى القدرة التكوينيّة ـ مشروطا بعدم وجود تكليف فعلي أصلا سواء كان المكلّف بانيا على امتثاله أو لم يكن بانيا على امتثاله ، فالمعتبر في صحة التكليف بفعل هو أن لا يكون ثمّة تكليف فعلي بشيء آخر مضاد.

وأمّا بناء على الصياغة الثانية فالتكليف ليس مشروطا بعدم وجود تكليف فعلي آخر مضاد وانّما هو مشروط بعدم تصدّي المكلّف لامتثال


تكليف آخر ، أمّا لو كان بانيا على المعصية فلا مانع من تكليفه بتكليف آخر مضاد.

وقد تبنّى المحقّق صاحب الكفاية رحمه‌الله الصياغة الاولى ، وفي مقابل ذلك ذهب جمع منا لاعلام الى الصياغة الثانية.

* * *

٤٧٦ ـ القدرة العقليّة والشرعيّة

تطلق القدرة العقليّة والقدرة الشرعيّة على أكثر من معنى :

المعنى الأوّل : وبيانه منوط بتقديم مقدّمة : وهي انّه لا ريب في إدراك العقل لقبح الإدانة والمؤاخذة على ترك التكليف غير المقدور تكوينا ، كما لا ريب في استحالة جعل التكليف واعتباره بداعي البعث والتحريك نحو المكلّف به إذا كان متعلّق التكليف غير مقدور للمكلّف.

وأمّا مبادئ التكليف ـ والتي هي المصلحة والمفسدة والمحبوبيّة والمبغوضيّة ـ فوجودها غير منوط بالقدرة إذ من الممكن جدا أن يكون الفعل واجدا للمصلحة أو المفسدة ومع ذلك لا يكون مقدورا ، كما انّه من الممكن أن يكون الفعل محبوبا أو مبغوضا للمولى رغم عدم قدرة المكلّف على تحصيله أو تركه كما انّه من الممكن أن لا يكون الفعل ذا مصلحة أو مفسدة ما لم يكن مقدورا.

بمعنى انّ القدرة واقعا شرط في توفّر الفعل على المصلحة أو المفسدة وهكذا الكلام في المحبوبيّة والمبغوضيّة ، فقد تكون محبوبيّة الفعل للمولى منوطة بقدرة المكلّف على تحصيل الفعل ، فإذا ما كان الفعل غير مقدور للمكلّف فإنّه لا يكون محبوبا للمولى.

ويمكن التمثيل للفرض الأوّل بالصلاة وقتل النفس المحترمة ، فإنّ مصلحة الصلاة ومحبوبيّتها وكذلك مفسدة قتل النفس المحترمة ومبغوضيّته غير منوط بالقدرة على فعل الأوّل وترك الثاني ، فسواء كان المكلّف قادرا على فعل الأوّل وترك


الثاني أو لم يكن قادرا على ذلك فإنّ الصلاة تظلّ محتفظة بالمصلحة والمحبوبيّة ويبقى قتل النفس المحترمة على ما هو عليه من مفسدة ومبغوضيّة.

كما يمكن التمثيل للفرض الثاني ـ احتمالا ـ بردّ السلام وأكل الميتة ، فإنّ الأوّل انّما يكون ذا مصلحة ومحبوبا لو كان مقدورا على تحصيله ، أما مع عدم القدرة فلا مقتضى للمصلحة والمحبوبيّة ، وهكذا الكلام في الثاني فإنّه انّما يكون ذا مفسدة ومبغوضا لو كان مقدورا أما مع عدم القدرة على تركه فإنّه لا مقتضي لاشتماله على المفسدة والمبغوضيّة.

وباتّضاح هذه المقدّمة نقول :

أمّا الفرض الأوّل : والذي افترضنا فيه انّ مبادئ التكليف مطلقة من حيث القدرة وعدمها ، بمعنى انّ مبادئ التكليف غير منوطة بالقدرة على متعلّقها بل هي ثابتة حتى في ظرف عدم القدرة ، في هذا الفرض يكون اشتراط التكليف بالقدرة عقليا ، ويعبّر عن القدرة التي يكون التكليف منوطا بها بالقدرة العقليّة.

وذلك لأنّه لا منشأ لاشتراط التكليف بالقدرة حينئذ إلاّ ما يدركه العقل من استحالة التكليف بغير المقدور ، إذ انّنا افترضنا انّ الملاك والإرادة مطلقان وغير منوطين بالقدرة ، فمنشأ اشتراط القدرة لا يكون من جهة عدم المقتضي للتكليف بل المقتضي ـ وهو الملاك والإرادة ـ موجود ، غايته انّ التكليف غير مقدور ، ومن هنا لا منشأ لاشتراط القدرة سوى ما يدركه العقل من استحالة التكليف بغير المقدور.

وأمّا الفرض الثاني : والذي افترضنا فيه انّ مبادئ التكليف لا وجود لها في ظرف عدم القدرة ، فاشتراط التكليف بالقدرة يكون شرعيا ، ويعبّر عن القدرة التي يكون التكليف منوطا بها يعبّر عنها بالقدرة الشرعيّة.

وذلك لأنّ هذا الفرض معناه ـ كما ذكرنا ـ ان لا مقتضي للتكليف في


ظرف عدم القدرة ، لا انّ مقتضي التكليف موجود إلاّ انّ المانع عنه هو الاستحالة العقليّة كما في الفرض الأوّل ، ومن هنا اصطلح على هذه القدرة بالقدرة الشرعيّة.

والمتحصّل ممّا ذكرناه انّ المراد من القدرة العقليّة هي القدرة المأخوذة في التكليف الواجد لمبادئه مطلقا ، وأمّا القدرة الشرعيّة فهي القدرة المأخوذة في التكليف الذي تكون مبادئه مختصّة بحال القدرة.

فتميّز القدرة العقليّة عن الشرعيّة يكون بملاحظة التكليف من حيث مبادئه ، فإن كانت مبادئه مطلقة فالقدرة المعتبرة في مورده عقليّة وان كانت مبادئه مختصّة بحال القدرة فالقدرة المعتبرة في مورده شرعيّة.

وبتعبير آخر : انّ القدرة التي يكون لها دخل في ترتّب الملاك والإرادة بحيث لا يكون ثمّة ملاك وإرادة للتكليف لو لا وجودها فهذه قدرة شرعيّة ، وذلك يستكشف ـ كما أفاد المحقّق النائيني رحمه‌الله من أخذ القدرة في الخطاب الشرعي ، وأمّا القدرة التي لا تكون دخيلة في ترتّب الملاك بل انّ الملاك يكون ثابتا حتّى مع عدمها فهذه قدرة شرعيّة.

المعنى الثاني : ويتّضح بهذه المقدّمة وهي انّ كلّ تكليف فهو مشروط بالقدرة التكوينيّة ، وهذا ما يستقل العقل بإدراكه ، فلو اتّفق ان كان التكليف مشروطا أيضا بعدم وجود مانع شرعي ، بمعنى اشتراطه بعدم وجود تكليف آخر مضادّ له فإنّ هذا التكليف يكون مشروطا بالقدرة الشرعيّة ، أمّا لو كان التكليف مطلقا من هذه الجهة ، بمعنى انّه وان كان مشروطا بالقدرة التكوينيّة إلاّ انّه ليس مشروطا بعدم وجود تكليف آخر مضاد له فإنّ هذا التكليف يكون حينئذ مشروطا بالقدرة العقليّة.

ومثال الفرض الأوّل وجوب الوفاء بالشرط فإنّه مشروط بالقدرة التكوينيّة على الوفاء ومشروط بشرط آخر وهو أن لا يكون الوفاء بالشرط مزاحما بتكليف آخر ، ومن


هنا كانت القدرة المنوط بها وجوب الوفاء بالشرط شرعيّة.

وأمّا مثال الفرض الثاني فهو وجوب الصلاة فإنّه غير منوط بأكثر من القدرة التكوينيّة على متعلّقه وهي الصلاة ، ومن هنا كانت القدرة المنوط وجوب الصلاة بها عقليّة.

وبهذا يتّضح انّ الفرق بين القدرة الشرعيّة والقدرة العقليّة هو انّ القدرة الشرعيّة عبارة عن القدرة التي يستقل العقل بإدراك اناطة التكليف بها مع إضافة قيد عدم وجود مانع شرعي عن التكليف ، فمجموع القيدين يعبّر عنهما بالقدرة الشرعيّة.

وأمّا القدرة العقليّة فهي القدرة التي يستقلّ العقل باناطة التكليف بها ، وهذه هي القدرة التكوينيّة.

* * *

٤٧٧ ـ قرينة الحكمة

وهي قرينة عامّة يتعرّف بواسطتها على إرادة المتكلّم للإطلاق من اسم الجنس ، وذلك لأنّ الإطلاق كالتقييد خارجان عمّا هو الموضوع له اسم الجنس كما هو المعروف بين الاصوليين بعد سلطان العلماء رحمه‌الله.

وكيف كان فقد ذكر لقرينة الحكمة مجموعة من المقدّمات متى ما توفّرت عرفنا انّ المتكلّم أراد الإطلاق من اسم الجنس ، ومتى ما اختلّت بعض هذه المقدّمات لا يكون استظهار إرادة الإطلاق من اسم الجنس ممكنا.

المقدّمة الاولى : هي احراز أن لا يكون ثمّة مانع يمنع المتكلّم عن بيان تمام مراده من تقيّة أو نحوها ، إذ لو كان ثمّة مانع لكان من المحتمل إرادة التقييد إلاّ انّه لم يتمكّن من بيانه بسبب وجود المانع.

المقدّمة الثانية : هي إحراز كون المتكلّم في مقام البيان لا أن يكون في مقام الإهمال والإجمال ، إذ لو كان كذلك لم يكن من الممكن استظهار إرادة الإطلاق بعد ان لم يكن بصدد البيان من هذه الجهة.

والمراد من لزوم إحراز انّ المتكلّم في مقام البيان هو احراز انّه بصدد بيان


تمام مراده في الجهة التي هو متصدّ لبيانها ، فليس المراد من ذلك هو لزوم إحراز انّه بصدد البيان من تمام الجهات ، إذ انّ ذلك قد لا يتّفق لمتكلّم ، كما انّ عدم كونه في مقام البيان لا يعني انّه ليس بصدد التفهيم ولو في الجملة بل يعني انّه ليس بصدد بيان تمام مراده في الجهة المفترض تصدّيه لبيانها أو قل انّه أجمل وأهمل ما يفترض تصدّيه لبيانه.

وأمّا كيفيّة احراز انّه في مقام البيان ، فالمعروف بينهم انّ احراز ذلك يتمّ بواسطة الأصل العقلائي والقاضي بأنّ الأصل انّ كلّ متكلّم متصدّ لبيان تمام مراده وبيان ذلك خارج عن الغرض.

المقدّمة الثالثة : أن لا ينصبّ المتكلّم قرينة على التقييد. ثمّ انّهم اختلفوا في حدود هذه المقدّمة ، فصاحب الكفاية رحمه‌الله أفاد بأنّ الذي يمنع عن انعقاد الظهور في الإطلاق انّما هو نصب المتكلّم قرينة متّصلة على التقييد ، وأمّا القرينة المنفصلة فلا تمنع من انعقاد الظهر وفي الإطلاق.

أمّا المحقّق النائيني والسيّد الخوئي رحمهما الله فأفادا أنّ الذي يمنع عن انعقاد الظهور في الإطلاق هو الأعم من القرينة المتّصلة والمنفصلة ، بمعنى انّ القرينة المنفصلة تكشف عن عدم الإرادة الجدّيّة للإطلاق وان كان الإطلاق مع كون القرينة على التقييد منفصلة ـ منعقدا في مرحلة المدلول الاستعمالي ، بمعنى انّ القرينة المنفصلة لا تمنع من استكشاف إرادة الإطلاق بنحو الإرادة الاستعماليّة.

المقدّمة الرابعة : وقد تبنّاها المحقّق صاحب الكفاية رحمه‌الله وهي أن لا يكون ثمّة قدر متيقّن في مقام التخاطب ، فمعه لا ينعقد ظهور في الإطلاق ، وسنوضّح المراد من ذلك تحت عنوان « القدر المتيقّن في مقام التخاطب ».

هذا هو حاصل المقدّمات المعبّر عنها بمقدّمات الحكمة والتي يكون وجودها معبّرا عن إرادة الإطلاق من اسم الجنس ، فإنّه عند تواجدها يمكن استظهار انّ المتكلّم أراد الإطلاق من


اسم الجنس ، إذ لو كان مريدا للتقييد لنصب لذلك قرينة ، فعدم نصبه قرينة على التقييد رغم افتراضه قادرا على ذلك يعبّر عن عدم إرادته له ، إذ لو كان مريدا له ولم يذكره لكان ناقضا لغرضه والذي هو متصدّ لبيانه كما هو الفرض ، ونقض الغرض خلف افتراض حكمة المتكلّم. ومن مجموع ذلك يتمّ استظهار إرادة الإطلاق.

* * *

٤٧٨ ـ القرينة اللبيّة

المراد من القرينة اللبيّة هو كلّ ما يساهم في تحديد المراد الجدّي للكلام من غير الألفاظ ، فهي في مقابل القرينة اللفظيّة المتّصلة والمنفصلة ، وعليه يكون الإجماع والضرورة العقليّة والمناسبات العرفيّة وفعل الإمام وتقريره والسير العقلائيّة والمتشرّعيّة كلّها قرائن لبيّة إذا أضيفت لخطاب شرعي فساهمت في تحديد مفاده إمّا من جهة تخصيصه أو تعميمه أو صرف ظهوره الأوّلي من الوجوب مثلا إلى الاستحباب أو من الحرمة إلى الكراهة.

ويمكن التمثيل للقرينة اللبيّة بما لو قال الإمام « اغتسل كلّ يوم جمعة » فإنّ ظاهر هذا الخطاب هو الوجوب إلاّ أنّه لو قام إجماع على عدم الوجوب فإنّه يكون قرينة لبيّة على عدم إرادة الوجوب من الأمر الوارد في الخطاب.

ثمّ إنّ القرينة اللبيّة قد تكون متّصلة وقد تكون منفصلة وقد أوضحنا ذلك تحت عنواني القرينة المتّصلة والقرينة المنفصلة.

* * *

٤٧٩ ـ القرينة المتّصلة

المراد من القرينة المتّصلة هو كلّ ما يتّصل بالكلام من لفظ أو غيره فيتحدّد به المراد الجدّي للمتكلّم.

ومثاله قول المتكلّم « أكرم كلّ عالم إلاّ أن يكون فاسقا » فالقرينة هي الاستثناء ولولاها لكان ظاهر كلام المتكلّم هو وجوب إكرام جميع العلماء إلاّ أن مجيئها أنتج تحديد المراد الجدّي


للمتكلّم وأنّه لا يقصد العموم رغم استعماله للفظ يعبّر عن العموم وهو لفظ « كلّ ». ومنشأ التعبير عن هذه القرينة بالمتّصلة هو وقوعها في سياق كلام المتكلّم واتّصالها به.

وبما ذكرناه يتّضح أنّ مجيء القرينة المتّصلة يمنع من التمسّك بالظهور الأوّلي للكلام حيث أنّ الظهور الأوّلي للكلام ـ لو لا القرينة ـ يقتضي لزوم إكرام جميع العلماء إلاّ أنّ هذا الظهور ينتهي بمجرّد مجيء القرينة المتّصلة ، وينعقد فيما يناسب القرينة وذي القرينة أي ملاحظة مجموع المستثنى والمستثنى منه في المثال.

ويمكن أن نمثّل للقرينة المتّصلة غير اللفظيّة بما لو قال المولى لعبده « أطعم كلّ أولادي من اللحم » فإنّ هذا الكلام ظاهر في إيجاب إطعام الأولاد غير الرضّع منهم إذ من الواضح أنّ الرضيع لا يسعه أو لا يناسبه عرفا تناول اللحم.

فالمتكلّم وإن لم يكن قد صرّح بالاستثناء إلاّ أنّ المناسبة العرفيّة أو العقليّة أعطت نتيجة التصريح بالاستثناء المتّصل ، ولذلك لا يكون للمولى في المثال مساءلة عبده عن عدم إطعام الرضّع لحما وإن كان لكلامه ظهور أوّلي في العموم.

* * *

٤٨٠ ـ القرينة المنفصلة

المراد من القرينة المنفصلة هو كلّ لفظ أو فعل وقع في خطاب أو مقام آخر إلاّ أنّه لو فرض متّصلا بالكلام الأوّل لأوجب انصراف الكلام الأوّل عن ظهوره الأوّلي إلى ظهور آخر متناسب مع مجموع الخطابين أو مجموع الخطاب الأوّل والفعل في المقام الثاني.

ومثاله قول المتكلّم « أكرم كلّ العلماء » ثمّ يقول في خطاب آخر « لا تكرم فسّاق العلماء » فالخطاب الثاني يكون قرينة منفصلة يتحدّد بها المراد الجدّي من الخطاب الأوّل ، ذلك لأنّه لو فرض الخطاب الثاني متّصلا بالخطاب الأوّل لصرف ظهوره في


إرادة العموم إلى الظهور في إرادة ما عدا الفسّاق من العلماء.

فالقرينة المنفصلة وإن لم تكن مانعة عن انعقاد الظهور في العموم إلاّ أنّها منتجة لعدم حجّيّة هذا الظهور ، ذلك لأنّ الظهور الحجّة هو المعبّر عن المراد الجدّي للمتكلّم ، ومن الواضح أنّ المراد الجدّي بعد ملاحظة الخطاب الثاني متعيّن في إرادة ما عدا الفسّاق.

ويمكن التمثيل للقرينة المنفصلة غير اللفظيّة بما لو قال الإمام عليه‌السلام « صلّ المكتوبة جماعة » فإنّ الظهور الأوّلي لهذا الخطاب هو وجوب أداء المكتوبة جماعة وإنّ ذلك لازم في مطلق الحالات إلاّ أنّنا حين نجد أنّ الإمام يصلّي بعض الأحيان المكتوبة فرادى دون عذر قاهر نعرف أنّ مراده من الخطاب الأوّل لم يكن الوجوب ولو كان مراده الوجوب فإنّه لا يريد الإطلاق المستظهر بدوا من الخطاب الأوّل.

فأداء الإمام الصلاة فرادى هو القرينة المنفصلة غير اللفظيّة التي يلزم ملاحظتها عند إرادة استظهار المراد الجدّي لخطابه الأوّل.

* * *

٤٨١ ـ القضايا الخارجيّة والقضايا الحقيقيّة

المراد من القضيّة الخارجيّة هي القضيّة التي يكون الحكم فيها واقعا على أفراد محقّقة الوجود بنظر مؤلّف القضيّة ، وهذا ما يستوجب التحقّق من وجود الأفراد أولا وقبل الحكم عليها.

ثمّ انّ الحكم في القضيّة الخارجيّة مجعول على الأفراد ابتداء ، وجعله على الجامع انّما هو لغرض التعبير عن الأفراد ، وليس له دور آخر غير هذا الدور بخلاف القضيّة الحقيقيّة كما سيتّضح ان شاء الله تعالى.

فحينما يقال : « هلك كلّ من في العسكر » يراد منه جعل الحكم ابتداء على كلّ فرد فرد من أفراد العسكر إلاّ انّه توسّل لذلك بصيغة كلّيّة هي قوله « كلّ من في العسكر » وإلاّ فمراده هو


انّ زيدا هلك وانّ عمروا هلك وهكذا.

ولهذا لا فرق في القضيّة الخارجيّة بين أن يكون موضوعها متحدا في شخص واحد أو أن يكون موضوعها كليّا صورة ، ففي تمام الحالات يكون موضوع القضيّة الخارجيّة هو الفرد. ثم انّ هنا أمرا تتميّز به القضايا الخارجيّة وهو انّ اتّحاد موضوعاتها في الحكم لا يعبّر عن وحدة المناط بل انّ مناط ثبوت الحكم لموضوع في هذه القضيّة يختلف عن مناط ثبوت الحكم في القضيّة الاخرى ، فالاتّحاد بين بعض القضايا الخارجيّة من حيث الحكم انّما هو اتفاقي ، ولا يعبّر عن وجود جامع مناطي اقتضى اتّحاد القضايا الخارجيّة في الحكم.

وهذا الكلام لا يختلف الحال فيه بين أن تكون صيغ القضايا متعدّدة كأن يقال : « مات زيد ، مات عمرو » « ومات خالد » وبين أن تكون القضايا مؤلّفة في قضيّة خارجيّة واحدة صورة ، كأن يقال : « مات كلّ من في الدار » ، إذ انّ هذه القضيّة تنحلّ روحا الى قضايا بعدد أفراد من في الدار ، والجامع الكلّي انّما اريد منه التعبير عن الأفراد.

وكيف كان فاتّحاد الأفراد في الحكم انّما هو اتّفاقي وليس ناشئا عن جامع مناطي اقتضى اتّحادهم في الحكم ، فمناط ثبوت الموت لزيد ليس هو مناط ثبوت الموت لعمرو وهكذا ، ولهذا لا يكون ثبوت الموت لزيد كاشفا عن ثبوته لعمرو ، وذلك لعدم وجود جامع مناطي لهما يقتضي استكشاف ثبوته لمن توفر على ذلك المناط ، وهذا بخلاف القضيّة الحقيقيّة.

ومن هنا قالوا بأنّ القضايا الخارجيّة لا تصلح لأن تكون كبرى في القياس المنطقي حتى لو كانت القضيّة الخارجيّة كليّة ، وذلك لسببين :

الأوّل : انّ كبرى القياس المنطقي لا بدّ وأن تكون صالحة لأن يستنتج عنها ثبوت الحكم الثابت في الكبرى للمجهول التصديقي ، ومن الواضح انّ


ذلك يتوقّف على أن يكون المناط الموجب لثبوت الحكم في الكبرى متوفرا في المجهول التصديقي حتّى يمكن استنتاج ثبوت الحكم للمجهول التصديقي ، وقد قلنا انّ اتّحاد الحكم في القضايا الخارجيّة لا يعبّر عن وحدة المناط ، ومن هنا لا يمكن استنتاج ثبوت نفس الحكم للمجهول التصديقي بواسطة ثبوته لموضوع القضيّة الخارجيّة.

الثاني : انّ القضيّة الخارجيّة الكليّة لا تكون ـ كما ذكرنا ـ إلاّ بعد احراز تمام الأفراد المجعول عليها الحكم ، فلا يفترض في موردها الجهل بحال فرد من أفراد القضيّة الخارجيّة الكليّة ، ولو اتّفق الجهل بحال فرد فإنّه لا يصحّ جعل الحكم على تمام الأفراد ، ومن هنا لا يكون هناك معنى لتشكيل قياس لغرض استكشاف حال فرد ، وذلك لأنّ تمام الأفراد لا بدّ وأن تكون معلومة حين جعل الحكم على موضوع كلّي.

فحينما يقال : « هلك كلّ من في الدار » فإنّ هذا يقتضي لزوم العلم بتمام الأفراد الموجودين في الدار وإلاّ لم يصحّ الحكم على كلّ من في الدار بالهلاك ، ومع علمه بذلك لا معنى لافتراض الجهل بحال واحد من أفراد من في الدار ، ولو اتّفق الجهل فإنّه لا يصحّ جعل القضيّة الخارجيّة كليّة ، ولو صيغت والحال هذه فإنّها لا تكشف عن حال الأفراد المجهولة الحال ، لأنّ أصل الكليّة مجهول ، والمجهول لا ينتج معلوما كما هو واضح.

ومن هنا لو شكّل قياسا كبراه قضيّة خارجيّة لما كان نافعا بعد افتراض العلم بحال تمام الأفراد ، فلا نجهل بحال فرد حتى ندفعه بواسطة القياس ومع افتراض الجهل بحال بعض الأفراد لا تكون القضيّة الخارجيّة الكليّة منتجة بعد افتراض انّها مجهولة وغير محرزة.

ثمّ انّ كلّ ما ذكرناه لا يختلف الحال فيه بين القضايا الخبريّة والقضايا الإنشائيّة مثل : « أكرم كلّ


من في الدار » فإنّ خارجيّة هذه القضيّة منوط بالتحقّق من كلّ من في الدار ثمّ جعل الحكم بالوجوب ، كما انّ اتّحادهم في الحكم لا يعبّر عن وحدة المناط ، كما لا يثبت الحكم لمن دخل في الدار بعد ذلك ، إذ انّ هذا الحكم منحل روحا على الأفراد المحقّقة الوجود حين صدور الخطاب فلا يشمل غيرهم.

وأمّا المراد من القضيّة الحقيقيّة فهو القضيّة التي يكون الحكم فيها مجعولا على موضوعها المقدّر الوجود.

وبتعبير آخر : القضيّة الحقيقيّة هي القضيّة التي يكون فيها الحكم واقعا على الطبيعة باعتبارها مرآة لافرادها على أن يكون جعل الحكم على الطبيعة بغرض التعبير عن انّ الطبيعة هي مناط الحكم في القضيّة ، وهذا ما يقتضي انّ الحكم ليس مجعولا على الأفراد ابتداء كما في القضيّة الخارجيّة بل هو مجعول على الطبيعة ابتداء ولكن من حيث انّها مرآة لأفرادها ، وهو ما يصحّح اتّحاد أفراد الطبيعة في المناط الموجب لثبوت الحكم لها ، إذ انّ افتراض جعل الحكم على الطبيعة باعتبارها مرآة لافرادها المقدّرة الوجود معناه اتّحاد أفراد الطبيعة في المناط الموجب لجعل الحكم عليها.

ومن هنا صحّ وقوع القضايا الحقيقيّة كبرى في القياس المنطقي لغرض التعرّف على حال مجهول تصديقي ، فيقال مثلا : زيد مستطيع ، والحجّ واجب على كلّ مستطيع ، فالنتيجة هي انّ الحجّ واجب على زيد ، فالقضيّة الحقيقيّة وهي وجوب الحجّ على كلّ مستطيع انتجت بواسطة وقوعها كبرى في القياس انتجت وجوب الحجّ على زيد.

وبما ذكرناه يتّضح عدم اعتبار وجود أفراد خارجيّة للقضيّة الحقيقيّة حين تأليفها بل يمكن أن لا يتّفق تحقّق أفراد خارجيّة لها أبدا ، وذلك لأنّ موضوع القضيّة الحقيقيّة انّما هو الطبيعة المقدّرة الوجود ، نعم تحقّق الفعليّة للقضيّة الحقيقيّة منوط بتحقّق الطبيعة في ضمن فرد خارجي ، وذلك


لأنّ الحكم في القضيّة الحقيقيّة انّما رتّب على الطبيعة المقدّر وجودها في ضمن فرد لها في الخارج ، وهذا ما يستوجب عدم الفعليّة لو لم يقدر الوجود للطبيعة في ضمن واحد من أفرادها باعتبار انّ وجودها انّما هو بوجود أفرادها خارجا.

ويتّضح أيضا انّ انشاء الحكم في القضيّة الحقيقيّة لا يساوق فعليّته بل قد يتّفق تأخّر الفعليّة عن زمن الإنشاء ، وهذا بخلاف القضيّة الخارجيّة فإنّ إنشاءها يساوق فعليّتها ، فحينما يقال : « أكرم من في الدار » فإنّ الفعليّة تترتّب من حين إنشاء الحكم ، وذلك لأنّ موضوع القضيّة الخارجيّة هي الأفراد المحقّقة الوجود.

وباتّضاح المراد من القضيّة الخارجيّة والقضيّة الحقيقيّة يمكن استنتاج مجموعة من الفوارق بين القضيّتين تعرف بالتأمّل فيما ذكرناه ، نذكر بعضها :

الأوّل : انّ القضيّة الخارجيّة تكون دائما في قوّة الجزئيّة وانّ كليّتها انّما هي صوريّة بمعنى انّها اتخذت وسيلة للتعبير عن أفراد معيّنة محقّقة الوجود.

وهذا بخلاف القضيّة الحقيقيّة فإنّ موضوعها دائما يكون كليّا.

الثاني : انّ المتصدّي لتنقيح الموضوع في القضايا الخارجيّة هو نفس المؤلّف للقضيّة ، فهو بنفسه يتحقّق من وجود الموضوع ثمّ يجعل عليه الحكم.

وأمّا القضايا الحقيقيّة فالمتصدّي لتنقيح موضوعها هو المتلقّي للخطاب ، وأمّا المؤلّف للقضيّة فهو يجعل الحكم على الموضوع المقدّر الوجود ، فيبقى التحقّق من وجود الموضوع لغرض ترتيب الحكم من وظيفة المتلقّي للخطاب بالقضيّة الحقيقيّة.

وهناك فوارق اخرى أوضحناها فلا معنى للإعادة.

* * *

٤٨٢ ـ القطع

المراد من القطع هو الانكشاف التام


والرؤية الواضحة لمتعلّقه والتي لا يشوبها أدنى شكّ مهما تضاءل ، وهو تعبير آخر عن الجزم والعلم واليقين ، فليس للاصوليين معنى خاصّ يختلف عن المعنى المتعارف للفظ القطع في اللغة وفي المتفاهم العرفي ، فهو الجزم الذي لا يشوبه احتمال الخلاف بقطع النظر عن منشأ الجزم وانّه نشأ عن برهان أو عن مبرّرات عقلائيّة أو شخصيّة.

نعم القطع المنطقي يختلف عن القطع الاصولي بنحو ما ، وقد أوضحنا الفرق بينهما تحت عنوان اليقين المنطقي واليقين الاصولي.

ثمّ انّ القول بأنّ القطع هو الرؤية التامّة لمتعلّقه لا يستوجب خروج العلم الإجمالي عن أقسام القطع ، وذلك لتوفّره هو أيضا على هذه الحيثيّة ، إذ انّ متعلّق العلم الإجمالي هو الجامع ، والجامع المعلوم ليس محلا للشك والتردّد ، والذي هو محلّ للتردّد في حالات العلم الإجمالي انّما هو منطبق الجامع ، وأمّا الجامع والذي هو متعلّق العلم الإجمالي فهو معلوم تفصيلا للعالم بالإجمال.

فحينما يعلم المكلّف بوقوع النجاسة في أحد الإنائين فهو يعلم تفصيلا بالجامع وهو وقوع النجاسة في أحد الإنائين والتردّد انّما هو في متعلّق الجامع المعبّر عنه بمنطبق الجامع ، فمنطبق الجامع مردّد بين الإناء الأوّل والإناء الثاني.

وبهذا يتّضح انّ العلم الإجمالي متوفّر على الحيثيّة المذكورة للقطع ولمزيد من التوضيح راجع عنوان « العلم الإجمالي والتفصيلي ».

وأمّا أقسام القطع فقد شرحناها تحت عناوينها ، وكذلك الحديث عن حجيّة القطع ذكرناه تحت عنوانه.

* * *

٤٨٣ ـ القطع الشخصي

وهو القطع الذي ينشأ عن مبرّرات غير عقلائيّة ، بمعنى انّ العقلاء لو اطّلعوا على مبرّرات هذا القطع لما أوجبت لهم القطع ، فالقطع الشخصي


تعبير آخر عن قطع القطاع ، وقد أوضحنا ذلك تحت عنوان « قطع القطاع ».

* * *

٤٨٤ ـ القطع الطريقي

المراد من طريقيّة القطع هو كاشفيّته عن متعلّقه ، فهو وسيلة من الوسائل الإثباتيّة والتي يكون لها دور الكشف عن الواقع الثابت في نفس الأمر بقطع النظر عن انكشافه وعدم انكشافه.

فالقطع كسائر الوسائل الإثباتيّة لا دخل له في واقع الأشياء الثابتة في نفس الأمر ، بمعنى انّ وجودها وعدم وجودها ليس منوطا بتعلّق القطع بها ، فدور القطع الطريقي يتمحّض في الكشف عنها دون أن يكون له تأثير عليها وجودا أو عدما ، كما هو الحال في المرآة ، فكما انّ المرآة لا تغيّر من واقع الأشياء ولا تولّد واقعا ليس موجودا ولا تضفي على الواقع شيئا زائدا عمّا هو عليه وانّما يتمحّض دورها في عكس الواقع فكذلك القطع الطريقي فإنّه لا يثبت الوجود لشيء كما لا يثبت شيئا لشيء ولا ينفي شيئا عن شيء وانّما يكشف عن ثبوت الشيء أو عن ثبوت شيء لشيء أو انتفاء شيء عن شيء.

ثمّ انّه قد ذكرنا في بحث الحجيّة الذاتيّة انّ حجيّة القطع لو كان المراد منها الطريقيّة والوسطيّة في الإثبات فإنّه لا ريب في ذاتيّة الحجيّة للقطع وانّ ذلك ليس محلا للنزاع بين الأعلام ، وذلك لأنّ المراد من القطع هو الانكشاف التام والإراءة التامّة ، فالقطع هو عين الكشف والإراءة والطريقيّة وليس شيئا ثبت له الكشف والطريقيّة ، ولمزيد من التوضيح راجع عنوان « الحجيّة الذاتيّة ».

والمتحصّل انّ القطع الطريقي هو ما يكون وسيلة للكشف عن الواقع ، وهذا ما يقتضي تأخّره عن متعلّقه ، إذ انّ الكشف عن الواقع فرع وجود المنكشف في مرتبة سابقة ، ومن هنا قالوا انّ القطع من العناوين ذات


الإضافة كما سيتّضح ذلك تحت عنوان « القطع من الصفات ذات الإضافة ».

* * *

٤٨٥ ـ قطع القطّاع

المراد من القطع في عنوان قطع القطّاع هو عينه المراد من القطع ، وانتساب القطع الى القطّاع انّما هو بلحاظ موضوع القطع والذي هو القاطع ، فالقاطع قد يتّصف بكونه قطّاعا إذا كانت قطوعاته تنشأ عن مبرّرات غير عقلائيّة ؛ بمعنى انّ العقلاء لو اطلعوا على مبرّرات قطعه لما حصل لهم القطع بسببها.

ومن هنا يتّضح انّ المراد من القطّاع هو من يحصل له القطع باسباب لا تورث القطع عند نوع العقلاء ، وهذا ما يحصل عادة عند سوقة الناس واللذين لا يفرقون بين البرهان والمغالطة وبين الدليل والخطابة ، فالقطع ينشأ عندهم نتيجة عوامل نفسية أو نتيجة الانبهار بالشخصيّات أو الكلمات المسيجة.

وبهذا تعرف انّه ليس المراد من القطّاع هو كثير القطع لو كانت قطوعاته ناشئة عن مبرّرات عقلائيّة توجب القطع لهم لو اتّفق اطّلاعهم عليها بل المراد من القطّاع هو من يحصل له القطع بأسباب لا تورث بطبعها القطع عند نوع العقلاء.

ثمّ انّ البحث هنا عن انّ الحجيّة الثابتة للقطع هل هي ثابتة لقطع القطّاع أو لا؟

نسب الى الشيخ الكبير كاشف الغطاء رحمه‌الله القول بعدم حجيّة قطع القطّاع إلاّ انّ المعروف بين الاصوليين هو عدم التفصيل في حجيّة القطع ، فالقطع حجّة مطلقا سواء نشأ عن عوامل شخصيّة أو نوعيّة ، وذلك لأنّ حجيّة القطع ذاتيّة ، فكما انّ ثبوت الحجيّة للقطع لا تخضع للجعل فكذلك المنع عن الحجيّة ، إذ لا يمكن نفي الذاتي عن ذاته ، كما انّه لا يمكن منع القاطع عن العمل بقطعه لأنّه يرى خطأ كلّ ما ينافي قطعه ، والتفاته لكونه قطاعا وانّ مجموعة من قطوعاته منافية للواقع إذا


لم تؤثر في انهدام قطعه فإنّ هذا العلم الإجمالي بمنافاة بعض قطوعاته للواقع لا يصلح لتوجيه القطاع الى انّ هذا القطع بخصوصه باطل ، فهو حينما يتوجّه لكلّ قطع بخصوصه فإنّه يقطع بمطابقته للواقع وانّ العلم الإجمالي بمنافاة بعض قطوعاته للواقع لا يشمل هذا القطع الذي هو محلّ التوجّه فعلا وبهذا لا يمكن منعه عن العمل بقطعه.

إلاّ انّ البحث عن انّ هذا القطع هل ينفي عنه عقوبة مخالفة الواقع أو لا؟ وعلى فرض صلاحيّته لنفي العقوبة على مخالفة الواقع فهل انّ القطّاع يعاقب على تعريض نفسه للقطوعات التي يعلم اجمالا بمنافاة بعضها للواقع أو لا؟

أمّا البحث الأوّل : فإنّه يقال انّ القطع لا ينفي عقوبة المخالفة للواقع ، وذلك بناء على ما هو مذكور من انّ الامتناع بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقابا وان كان ينافيه خطابا ، بمعنى انّ العجز عن امتثال التكليف وان كان يمنع عن مخاطبة المكلّف بالتكليف وبعثه نحو امتثاله ـ لأنّه لغو لافتراض عجزه عن الامتثال وان كان العجز ناشئا عن سوء الاختيار ، بمعنى انّه ناشئ عن تعجيز المكلّف نفسه إلاّ انّ ذلك لا ينفي عن المكلّف عقوبة مخالفة الواقع ، وذلك لأنّ العجز عن امتثال التكليف انّما نشأ عن سوء اختياره ، فتوسّط المكلّف في الأرض المغصوبة عن اختيار يصيّره عاجزا عن الخروج منها دون التصرّف الزائد وهو التصرّف الخروجي إلاّ انّ عجزه لا يبرّر سقوط العقوبة عنه ، بمعنى انّه يستحقّ العقاب حتّى على تصرّفه الزائد والذي يكون وسيلة للخروج من الأرض المغصوبة ، وذلك لأنّ فقد القدرة على الخروج دون التصرّف الزائد انّما نشأ عن سوء اختياره فقد كان بإمكانه ان لا يدخل فلا يضطرّ للتصرّف الخروجي بعد ذلك. وقد بحثنا هذه القاعدة تحت عنوان « الامتناع بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار ».

وكيف كان فالمقام من هذا القبيل


فإنّ القطع نتيجة قهريّة لاسبابه ، فمتى اتّفق حصول أسباب وعلل القطع فإنّ حصول القطع يكون حتميّا إلاّ انّ أسباب القطع غالبا ما تكون اختياريّة للمكلّف ، ومن هنا يمكن للمكلّف ان لا يتعرّض لموجبات القطع ، وحينئذ لا يحصل له القطع.

وإذا اتّضح ذلك نقول : انّ القطاع لو كان يعلم إجمالا بأنّ بعض قطوعاته منافية للواقع ، وذلك لمعرفته بأنّ قطعه غالبا ما ينشأ عن مبرّرات لا تورث القطع عند نوع العقلاء ، فهو إذن مبتل بضعف في مداركه واضطراب في نفسه ، ومن هنا لا يجوز له التعرّض لأسباب القطع ، وذلك لمنجزيّة العلم الإجمالي بفساد بعض قطوعاته ، فلو عرّض نفسه لأسباب القطع وترتّب على ذلك حصول القطع فإنّ هذا القطع أمر قهري لا يمكن المنع عنه لعدم توجّه القاطع حينئذ للمنع ، لأنّه يرى انّ كلّ ما ينافي قطعه فهو باطل إلاّ انّ هذه الحالة القهريّة التي يكون عليها القاطع نشأت عن سوء اختياره ، إذ كان بامكانه عدم التعرّض لأسباب القطع فلا يقع بعد ذلك تحت هيمنته إلاّ انّه وبسوء اختياره أقدم على أسباب القطع فوقع تحت سلطانه.

ومن هنا يكون القاطع مستحقّا للعقاب لو اتّفق أن كان قطعه منافيا للواقع ، أي منافيا للتكاليف الإلزاميّة الأعم من الجوارحيّة من الجوارحيّة والجوانحيّة ، وذلك لأنّ وقوعه تحت سلطان القطع انّما نشأ عن سوء اختياره ، والاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقابا.

هذا اذا كان التسبيب للوقوع في مخالفة الواقع حصل في زمان الواجب ، كما لو عرّض القطّاع نفسه لأسباب القطع بعد دخول وقت الصلاة فنشأ عن ذلك القطع بعدم وجوبها أو عرّض نفسه للشبهات المثارة من قبل المضلّين مع معرفته بضعف مداركه وانّه يحصل له القطع بما يناسبها لو اطّلع عليها ، فإنّ حصول القطع انّما نشأ في زمان الواجب ، إذ انّ الإيمان باصول العقائد ليس من


الواجبات الموقّتة ، ومن هنا يكون التعرّض لما يوجب القطع بما ينافيها واقعا دائما في زمان الواجب.

وأمّا لو كان التعرّض لأسباب القطع حصل قبل زمان الواجب فإنّ هنا تقريب آخر يمكن بواسطته إثبات استحقاق القطاع للعقوبة على مخالفة الواقع ، وحاصله :

انّه بناء على وجوب المقدّمات المفوتة والتي يكون عدم التحفّظ عليها مقتضيا لتفويت القدرة على امتثال الواجب في وقته كما لو كان للمكلّف ماء قبل دخول الوقت وكان يعلم انّه إذا أتلفه لم يتمكّن من الصلاة عن طهارة مائيّة في وقتها ، فهنا لو قلنا بوجوب المقدّمات المفوّتة وذلك للتحفّظ على أغراض المولى اللزوميّة في وقتها وعدم تعريضها للضياع بواسطة التسبيب لانتفاء مناط فعليّتها لو قلنا بذلك فإنّه يمكن سحب الكلام إلى محلّ البحث وهو تعريض النفس لأسباب القطع رغم العلم الإجمالي بأنّ بعض القطوعات التي يقع فيها منافية للواقع وموجبة لتفويت أغراض المولى اللزوميّة.

وهنا يستقلّ العقل بحرمة تعريض النفس لأسباب القطع خصوصا في الموارد التي تكون الأغراض المولويّة بالغة الأهميّة في نظر المولى والتي لا يرضى بتفويتها في حال من الأحوال ، وذلك مثل ما لو علم بأن تعريض نفسه لأسباب القطع سيؤدي الى القطع بما ينافي اصول العقائد والضرورات الدينيّة ، فلا فرق بين هذه الصورة وبين ما لو علم المكلّف بأنّ بيضة الاسلام سوف تتعرّض للخطر وانّه لو عجّز نفسه قبل تحقّق هذا المحذور فإنّه لن يتمكّن من الدفاع عن بيضة الإسلام فإنّ العقل حينئذ يستقل بلزوم التحفّظ على القدرة حتّى يتمكّن من امتثال الواجب في حينه ، وتبحث هذه المسألة تحت عنوان وجوب التعلّم ، وهي من ذيول مسألة « المقدّمة المفوّتة ».

وأمّا البحث الثاني : فلا يكون له موقع بناء على انّ القطّاع مستحقّ


للعقوبة على مخالفة الواقع إلاّ انّه لو افترضنا عدم تماميّة ما تقدّم في البحث الأوّل فإنّه مع ذلك يكون المكلّف مستحقا للعقاب على أصل تعريض نفسه لأسباب القطع المفوت لأغراض المولى اللزوميّة ، وذلك بناء على اتّساع حقّ الطاعة وشمولها لحالات تعريض النفس للوقوع في منافاة الواقع وانّ حقّ الطاعة لا يختصّ بالتكليف الواصل بل يقتضي عدم القيام بما يوجب سقوط التكليف بواسطة تعريض النفس للقطع بخلافه ، ومن هنا يكون حقّ الطاعة موجبا للزوم التحرّز عن أسباب القطع.

لا يقال : انّه وان كانت البراءة العقليّة غير جارية في المقام بناء على هذا المبنى إلاّ انّ البراءة الشرعيّة جارية باعتبار انّ هذا الحقّ كما هو ثابت في محلّه معلّق على عدم الترخيص الشرعي ، وأدلّة البراءة الشرعيّة قاضية بذلك.

فإنّه يقال : انّ المقصود من شمول حقّ الطاعة لهذا المورد هو انّ التعرّض لأسباب القطع المنافي لأغراض المولى مناف لحقّ الطاعة ، أي انّه خروج عن حدود العبوديّة بمقتضى الوجدان والعقل العملي ، وليس له اتّصال بأصالة الاشتغال العقلي في التكاليف المحتملة ، بمعنى انّ التعرّض لمناقضة أغراض المولى حرام قطعا باستقلال ما يدركه العقل العملي.

ويمكن تأييد ذلك بالروايات الناهية عن الولوج في بعض المطالب كالقضاء والقدر ، وكذلك ما دلّ على لزوم اتلاف كتب الضلال.

* * *

٤٨٦ ـ القطع من الصفات الحقيقيّة ذات الإضافة

أمّا معنى انّه من الصفات الحقيقيّة فهو انّه من الامور الواقعيّة المتأصّلة والثابتة في نفس الأمر والواقع ، أي انّه من الامور التي لها ما بإزاء في الواقع ، وذلك في مقابل الامور الانتزاعيّة والتي لا وجود لها والموجود انّما هو


منشأ انتزاعها ، وفي مقابل الامور الاعتباريّة والتي يكون وعاء وجودها هو الاعتبار وليس لها وراء اعتبار المعتبر وجود ، كما أوضحنا ذلك تحت وعنوان « الاعتبار ».

فالقطع من قبيل الجواهر والأعراض والتي هي من الامور المتأصّلة والواقعيّة ، غايته انّ الامور المتأصّلة تارة تكون من الأعيان الخارجيّة وتارة تكون من الوجودات النفسانيّة ، والقطع من النحو الثاني مثل البغض والحبّ والخوف ، فإنّها من الامور الواقعيّة ، نعم القطع وان كان من الامور المتأصّلة إلاّ انّه ليس من قبيل الجواهر ، وذلك لافتقاره الى المحلّ « الموضوع » بخلاف الجوهر ، فإنّه كما قيل موجود لا في موضوع ، فالقطع من قبيل الأعراض والمفتقرة الى محلّ وموضوع.

فكما انّ البياض والسواد لا يوجد إلاّ في موضوع فكذلك القطع فإنّه لا يوجد إلاّ في موضوع وهو القاطع ، فالقطع صفة واقعيّة قائمة بالنفس كما هو الحال في الحبّ والبغض فإنّهما من الصفات الواقعيّة والمتقرّرة في نفس الأمر والقائمة بالنفس.

وأمّا معنى انّه من الصفات ذات الإضافة فلأنّ وجودها مفتقر الى متعلّق ، وهذه هي الجهة المميزة لها عن الأعراض الغير المفتقرة الى متعلّق مثل البياض والسواد ، فإنّهما وان كانا يفتقران الى موضوع باعتبارهما من الأعراض إلاّ انّهما لا يفتقران الى متعلّق ، وأمّا القطع فهو صفة قائمة بالنفس ـ فنفس القاطع هي موضوع القطع ـ وصفة مفتقرة الى متعلّق وهو المقطوع ، وهذا هو معنى انّه من الصفات ذات الإضافة ، إذ لا يتصوّر قطع دون أن يكون له مقطوع قد تعلّق القطع به ، فكما انّ القدرة لا تتعقّل دون أن يكون ثمّة مقدور ، والظنّ لا يكون إلاّ أن يكون هناك مظنون به ، والإدراك والتصوّر لا يتعقلان إلاّ أن يكون لهما مدرك ومتصور ، فكذلك القطع إذ القطع معناه الكشف وهذا متوقّف على أن يكون ثمّة منكشف.


فالصفات ذات الإضافة هي الصفات المنوط تحقّقها بوجود متعلّق لها.

* * *

٤٨٧ ـ القطع الموضوعي

المراد من القطع الموضوعي هو القطع الواقع موضوعا لحكم من الأحكام بنحو يكون ترتّب الحكم منوطا بتحقّق القطع خارجا ، كما لو قيل : « إذا قطعت بنجاسة المائع حرم عليك بيعة » فهنا اعتبر القطع موضوعا لحرمة البيع ، ومن هنا كان ترتّب الحكم بالحرمة منوطا بتحقّق القطع خارجا ، فالقطع هنا مؤثر في توليد الحكم شأنه شأن سائر الموضوعات بالنسبة للأحكام المجعولة عليها ، فكما انّ الحرمة المجعولة على الخمر مترتّبة على تحقّق الخمر خارجا فكذلك القطع إذا اعتبر موضوعا لحكم من الأحكام.

وبهذا نستنتج انّ القطع الموضوعي يختلف عن القطع الطريقي من جهتين :

الجهة الاولى : انّ القطع الطريقي ليس له دخل في ترتّب الحكم على موضوعه وانّما له دور الكشف عن ثبوت الحكم لموضوعه شأنه شأن سائر الوسائل الإثباتيّة.

وأمّا القطع الموضوعي فإنّه مؤثر في ترتّب الحكم ومولّد له شأنه شأن سائر موضوعات الأحكام ، فهو لا يكشف عن ثبوت الحكم لموضوعه وانّما يولّد الحكم ويحقّقه ، ولهذا لو لم يتحقّق القطع بنجاسة المائع في المثال المذكور لا يكون بيعه حراما وذلك لافتراض اناطة الحرمة بالقطع بالنجاسة ، والأحكام تابعة لموضوعاتها ثبوتا وانتفاء.

الجهة الثانية : انّ القطع الطريقي يكون متأخرا عن ثبوت الحكم لموضوعه ، وذلك لأنّه كاشف عن الثبوت ولا يمكن أن يكون الكاشف متقدّما عن منكشفه.

وأمّا القطع الموضوعي فهو متقدّم دائما ـ ولو رتبة ـ على ترتب الحكم ، إذ هو المؤثر في توليد الحكم فأولا يتقرّر الموضوع خارجا وعندئذ يترتّب الحكم.


والمتحصّل انّ القطع الموضوعي هو القطع المعتبر موضوعا أو جزء موضوع لحكم من الأحكام.

ثم انّ هنا تنبيها ذكره السيّد الخوئي رحمه‌الله لا بدّ من بيانه : وهو انّ القطع الموضوعي هو ما كان دخيلا في ترتّب الحكم واقعا ، وليس القطع الموضوعي هو ما اخذ موضوعا في لسان الدليل ولو لم يكن موضوعا واقعا ، أي ليس له دخالة في ترتّب الحكم ، إذ قد يؤخذ القطع موضوعا في لسان الدليل ولا يكون الغرض من ذلك سوى التعبير عن انّه الوسيلة في الكشف عن ثبوت الحكم لموضوعه كما في قوله تعالى : ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ) (١) ، فإنّ التبيّن وهو القطع أخذ موضوعا في وجوب الإمساك إلاّ انّ موضوعيّته غير مرادة ظاهرا بل انّ الغرض من ذكر التبيّن هو التعبير عن وسيلة التعرّف على تحقّق طلوع الفجر والذي هو موضوع وجوب الإمساك ، فموضوع وجوب الإمساك متمحّض في طلوع الفجر والتبيّن انّما هو وسيلة الكشف والتحقّق من طلوع الفجر.

وبتعبير آخر : انّ وجوب الإمساك مترتّب على واقع طلوع الفجر والتبيّن انّما هو طريق للتحقّق من طلوع الفجر أو أحد الطرق لذلك ، وذكره دون غيره باعتباره أجلى الوسائل وأوضحها.

وهذا بخلاف القطع بعدد الركعات في صلاتي المغرب والصبح فإنّه قطع قد اخذ واقعا في موضوع الصحّة لصلاتي المغرب والصبح ، ولهذا لو شك المكلّف في عدد ركعات صلاة الصبح كما لو شكّ بين الاولى والثانية فبنى على الثانية برجاء أن يكون ذلك هو الواقع وانكشف له بعد الانتهاء من الصلاة انّه كان في الثانية واقعا وانّ ما بنى عليه هو المطابق للواقع فإن ذلك لا يصحّح الصلاة ، لأنّ صحّة صلاة الصبح ليس موضوعها الإتيان بركعتين واقعا فحسب بل موضوعها هو القطع بالإتيان بالركعتين ، والمفترض انّ


جزء الموضوع وهو القطع لم يكن متحقّقا فلا يترتّب الحكم وهو الصحّة.

وبما ذكرناه يتّضح انّ القطع الموضوعي مؤثر واقعا في ترتب الحكم ، وهذا ما يعني انّ موضوعيّته للحكم واقعيّة لا أنّ موضوعيّته تنشأ من مجرّد أخذه في لسان الدليل.

ثمّ انّ القطع الموضوعي ينقسم الى قسمين ، الاوّل يعبّر عنه بالقطع الموضوعي الصفتي ، والثاني يعبّر عنه بالقطع الموضوعي الطريقي ، وبيان المراد من هذين القسمين وما ينقسمان عليه يتمّ تحت عنوان كلّ من القسمين.

* * *

٤٨٨ ـ القطع الموضوعي الصفتي

ذكرنا تحت عنوان « القطع من الصفات الحقيقيّة ذات الإضافة » انّ للقطع حيثيّتين :

الحيثيّة الاولى : انّه من الصفات الواقعيّة المتأصّلة والقائمة بالنفس.

الحيثيّة الثانية : هي حيثيّة كشفه عن متعلّقه ، وهذا هو مبرّر التعبير عنه بأنّه من الصفات ذات الإضافة.

والقطع الموضوعي الصفتي هو القطع المأخوذ في موضوع الحكم بلحاظ انّه صفة حقيقيّة قائمة بالنفس لا بلحاظ انّه كاشف عن متعلّقه ، فالكاشفيّة ليست ملحوظة في القطع المأخوذ في الموضوع باعتباره صفة نفسانيّة ، فأخذ القطع بنحو الصفتيّة كأخذ الخوف في موضوع حكم ، فكما انّ الخوف قد يؤخذ في موضوع حكم فيكون الحكم مترتّبا على تحقّق الخوف في النفس فكذلك أخذ القطع في الموضوع بنحو الصفتيّة فإنّ الحكم حينئذ يكون مترتبا على تحققه في النفس بقطع النظر عن صلاحيّته للكشف عن متعلّقه.

ثمّ انّ القطع الموضوعي الصفتي ينقسم كما ذكر صاحب الكفاية رحمه‌الله الى قسمين ، إذ تارة يكون القطع الصفتي مأخوذا على انّه تمام الموضوع للحكم وتارة يؤخذ على انّه جزء الموضوع للحكم.


ومعنى أن يكون القطع الصفتي تمام الموضوع للحكم هو انّ الحكم لا يناط ترتّبه بغير تحقّق القطع في النفس سواء طابق القطع الواقع أو لم يطابقه فانّ تمام الموضوع هو حصول القطع في النفس ، والمفترض حصوله.

فمثلا : عند ما يقال : إذا قطعت بكسوف الشمس وجبت عليك صلاة الآيات ، وافترضنا انّ هذا القطع هو تمام الموضوع لوجوب صلاة الآيات ، فحينئذ يجب على المكلّف أداء الصلاة بمجرّد القطع بكسوف الشمس سواء كانت الشمس منكسفة واقعا أو لا.

وأمّا معنى أن يكون القطع الصفتي جزء الموضوع للحكم فهو انّ الحكم وان كان مترتبا على تحقّق القطع إلاّ انّه ليس مترتبا عليه وحده بل هو مترتّب عليه وعلى مطابقة القطع للواقع ، بمعنى انّه لو تحقّق القطع واتّفق عدم مطابقته للواقع فإنّ الحكم لا يكون مترتّبا واقعا ، كما انّ العكس كذلك ، فلو كان متعلّق القطع متحقّقا واقعا إلاّ انّ المكلّف غير قاطع بذلك فإنّ الحكم أيضا لا يكون مترتّبا.

مثلا : لو قال المولى : إذا قطعت بدخول الوقت وجبت عليك الصلاة ، وعلمنا انّ القطع اخذ في الموضوع على انّه جزء له وكان الجزء الآخر هو دخول الوقت واقعا ، فإنّ المكلّف لو قطع بدخول الوقت ولم يكن الوقت قد دخل واقعا فإنّ وجوب الصلاة لا يكون فعليا ، فلذلك لو صلّى فإنّ عليه اعادة الصلاة بعد دخول الوقت.

* * *

٤٨٩ ـ القطع الموضوعي الطريقي

قلنا انّ للقطع حيثيتين : الاولى انّه من الصفات الواقعيّة القائمة بالنفس ، والحيثيّة الثانية انّه كاشف عن متعلّقه ، والقطع الموضوعي الطريقي هو القطع المأخوذ في موضوع الحكم بلحاظ انّه كاشف عن متعلّقه وطريق للتحقّق من وجوده ، وهذا ما يقتضي أن يكون الواقع المنكشف دخيلا في ترتّب الحكم بالإضافة الى القطع ، فالقطع الموضوعي الطريقي هو ما يكون


الكاشف والمنكشف دخيلين في ترتّب الحكم.

ومن هنا أورد السيّد الخوئي رحمه‌الله على صاحب الكفاية رحمه‌الله في تقسيمه للقطع الموضوعي الطريقي الى القطع الموضوعي الطريقي المأخوذ على انّه تمام الموضوع والقطع الموضوعي الطريقي المأخوذ جزء الموضوع ، أورد عليه بأن ذلك مستحيل ، فالقطع الموضوعي الطريقي دائما يكون مأخوذا بنحو جزء الموضوع ، وذلك لأنّ معنى القطع الموضوعي الطريقي هو القطع المأخوذ في موضوع الحكم على انّه طريق للواقع.

وهذا ما يستوجب أن يكون الواقع دخيلا بالإضافة للقطع في ترتّب الحكم ، وإذا كان شيء آخر غير القطع دخيلا في ترتّب الحكم فهذا معناه انّ القطع ليس تمام الموضوع للحكم بل انّه جزء الموضوع والجزء الآخر هو الواقع.

وافتراض انّ القطع الموضوعي الطريقي تمام الموضوع معناه انّ الحكم يترتّب بمجرّد تحقّق القطع سواء طابق الواقع أو لم يطابقه ، وهذا يقتضي عدم أخذ القطع في الموضوع بنحو الطريقيّة ، إذ معنى أخذه بنحو الطريقيّة أخذه بما هو كاشف عن متعلّقه ، فمتعلّقه وهو الواقع دخيل في ترتب الحكم ، ومن هنا كان افتراض أخذه بنحو الطريقيّة وانّه تمام الموضوع من الجمع بين المتنافيين.

وذلك لما ذكرناه من انّ أخذه بنحو الطريقيّة معناه ملاحظته بما هو كاشف وطريق للواقع ، فالواقع إذن معتبر في موضوع الحكم ، وهذا ما يقتضي انّ القطع انّما يكون جزء الموضوع ، فإذا افترضناه تمام الموضوع كان ذلك مؤدّيا إمّا للتنازل عن أخذه بنحو الطريقيّة وأمّا الجمع بين المتنافيين وهو أخذ القطع تمام الموضوع وأخذه جزء الموضوع.

ومثال ذلك لو قال المولى : إذا قطعت بدخول الوقت وجبت عليك الصلاة ، وافترضنا انّ القطع هنا أخذ في الموضوع بنحو الطريقيّة والكاشفيّة عن متعلّقه « الواقع ».

فهذا يقتضي انّ وجوب الصلاة


يكون مترتبا على أمرين ، الأوّل هو القطع بدخول الوقت ، والثاني هو دخول الوقت واقعا ، فلو قطع المكلّف بدخول الوقت إلاّ انّ الوقت لم يدخل واقعا فإنّ الوجوب لا يترتّب ، وذلك لأنّ القطع انّما اخذ طريقا للواقع ، ومعنى أخذه طريقا للواقع هو انّ المولى لاحظ القطع واعتبره في الموضوع باعتباره الوسيلة للوقوف على الواقع ، فالواقع في حالات أخذ القطع بنحو الطريقيّة محلّ لاهتمام المولى ، وإذا كان كذلك فالقطع لا يكون تمام الموضوع.

وبهذا يتّضح انّ القطع الموضوعي الطريقي لا يكون له إلاّ فرض واحد وهو أخذه جزء في موضوع الحكم ، ويكون الجزء الآخر هو متعلّق القطع والذي هو الواقع.

* * *

٤٩٠ ـ القطع النوعي

وهو القطع الذي ينشأ عن مبرّرات عقلائيّة ، بمعنى انّ العقلاء لو اطّلعوا على مبرّرات هذا القطع لأوجبت هذه المبرّرات لهم القطع أيضا ، واتّفاق عدم حصول القطع لهم انّما ينشأ عن عدم اطلاعهم على مبرّراته.

وبهذا يتّضح انّ المبرّرات لو كانت تقتضي بنظر العقلاء حصول الاطمئنان أو الظنّ القوي فإنّ حصول القطع معها لا يكون نوعيا بل يكون من القطع الشخصي ، فلا بدّ في القطع النوعي من أن تكون مبرّراته علة تامة لحصول القطع أو قل انّ القطع النوعي لا بدّ وأن يكون نتيجة واقعيّة حتميّة للمبرّرات المتاحة وإلاّ لا يكون نوعيا ، وهذا هو أحد معاني اصابة القطع للواقع.

فإنّ اصابة القطع للواقع تارة يكون بمعنى مطابقة متعلّق القطع للواقع ، وتارة يكون بمعنى انّ القطع نتيجة حتميّة لمبرّراته.

* * *

٤٩١ ـ القول بعدم الفصل

حينما يكون لمسألة من المسائل


قولان مثلا ، والعلماء إمّا أنّهم قائلون بالأوّل أو أنّهم قائلون بالثاني ، وليس ثمّة من يذهب إلى قول ثالث في تلك المسألة فإنّ معنى ذلك هو إجماعهم على عدم صوابيّة غير القولين ، وهذا هو معنى القول بعدم الفصل.

فالقائلون بالرأي الأوّل وإن كانوا يرون عدم صوابيّة الرأي الثاني وهكذا العكس أيضا إلاّ أنّهم جميعا يتّفقون على عدم صوابيّة القول الثالث لأنّ لازم التبنّي للقول الأوّل هو عدم صحّة القول الثالث ، ولازم القول الثاني هو عدم صوابيّة القول الثالث أيضا.

وبذلك يتبيّن أنّ القول بعدم الفصل لا يتحقّق إلاّ حينما يكون الانحصار بين القولين الأوّلين محرزا ، أمّا حينما لا يكون الأمر كذلك وكان من المحتمل وجود قول ثالث للمسألة فإنّ من غير الممكن دعوى الإجماع على عدم القول الثالث لمجرّد عدم الوقوف عليه ، وهذا هو ما يعبّر عنه بعدم القول بالفصل.

ويمكن التمثيل للفرضين بالعصير العنبي إذا غلا ولم يذهب ثلثاه ، فبعض الفقهاء ذهب إلى نجاسته وبعضهم قال بطهارته ولم يذهب أحد إلى نجاسته مع عدم سراية نجاسته للملاقي.

وعليه يمكن دعوى قيام الإجماع على نفي القول الثالث ، وذلك لانحصار الأقوال في المسألة بالقولين الأوّلين ، وذلك هو ما يصحّح القول بعدم الفصل أي القول بقيام الإجماع على نفي غير القولين الأوّلين.

وأمّا مثال الفرض الثاني فهو ما لو ذهب بعض الفقهاء إلى حرمة العصير العنبي وذهب البعض الآخر إلى إباحته بالمعنى الأخصّ ولم نقف على قول بكراهة شربه إلاّ أنّنا لا نحرز عدم وجود من يقول بالكراهة ، لذلك لا يكون البناء على الكراهة قولا بالفصل ، وذلك لعدم القول بالفصل ، أي عدم وجود إجماع على نفي غير القولين الأوّلين.

* * *

٤٩٢ ـ قول اللغوي

عادة ما يقع البحث تحت هذا


العنوان عن حجّيّة قول اللغويّين فيما يتّصل بمعاني المفردات اللغويّة التي يذكرونها في كتبهم ، وأمّا ما يتّصل بمعاني الاشتقاقات المفردة كهيئة اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبّهة ـ والتي يتصدّى لتبيانها علماء الصرف عادة ـ فهي خارجة عن مورد اهتمامهم في هذا البحث ، وكذلك ما يتّصل بمعاني هيئات الجمل الاسميّة والفعليّة والشرطيّة وغيرها وهيئة فعل الأمر والنهي والتي يتصدّى لتبيانها علماء المعاني فإنّها خارجة أيضا عن مورد اهتمامهم في هذا البحث وإن كانوا قد بحثوها مفصّلا في موارد أخرى من علم الأصول صغرويّا وكبرويّا.

فمورد البحث إذن يتمحّض فيما يذكره علماء اللغة من معان للمفردات الاسميّة وموادّ الأفعال.

وجهة البحث عن ذلك هي في صحّة الاعتماد على ما يدّعونه من أنّ الألفاظ حقيقة في المعاني التي يذكرونها أو أنّه لا يصحّ في ذلك الاعتماد على قولهم.

وبتعبير آخر :

هل أنّ الشارع تعبّدنا بحجّيّة قول اللغوي بحيث يمكن الاعتماد عليه في إثبات أنّ هذا اللفظ حقيقة في هذا المعنى أم أنّ الأمر ليس كذلك؟

وهنا أمر لا بدّ من التنبيه عليه وهو أنّ البحث عن حجّيّة قول اللغوي إنّما يكون في ظرف الشكّ فيما هو الموضوع له اللفظ. فالبحث بتعبير آخر عن مرجعيّة قول اللغوي في تحديد الأوضاع اللغويّة عند الشكّ وعدم العلم بما هو الموضوع للألفاظ ، وأمّا في ظرف العلم أو الاطمئنان بالوضع اللغوي للفظ معيّن فإنّه لا معنى للرجوع إلى قول اللغويّين.

هذا وقد ذهب أساطين الأصوليّين إلى عدم حجّيّة قول اللغوي إلاّ أنّ ذلك لا يلغي فائدة الرجوع إليه لغرض اتّخاذه واحدا من الوسائل المنتج مجموعها استظهار المعاني والمرادات الجدّيّة للكلام.

وبتعبير آخر : إنّ عدم القدرة على الوصول إلى المعنى الموضوع له اللفظ


لا يساوق عدم القدرة على الوصول إلى المرادات الجدّيّة للمتكلّم ، فثمّة وسائل وضوابط يعتمدها العرف وأهل المحاورة في مقام استظهار المعاني المرادة للمتكلّم ومنها الرجوع إلى قول اللغوي إمّا للاستئناس بقوله أو للتعرّف على ما يستعمله العرب من ألفاظ عند إرادة إيصال بعض المعاني.

* * *

٤٩٣ ـ القياس الاصولي

يطلق القياس عند من يقول به على معنيين :

المعنى الأوّل : وهو المعنى الذي استقرّت عليه آراء المجتهدين من أبناء العامّة ، وهو ان كانت كلماتهم في تعريفه وضبطه مشوشة جدا إلاّ انّ حاصلها هو ما سنذكره ، وهو انّ القياس عبارة عن استنباط حكم موضوع مجهول الحكم بواسطة حكم موضوع معلوم.

وبتعبير آخر : هو تعدية حكم ثابت لموضوع الى موضوع آخر ، وهذا الاستنباط وهذه التعدية تخضع لمبرّر يعبّر عنه بالعلّة ، والتعرّف على العلّة يتمّ بواسطة مجموعة من الوسائل ، منها النصّ على علّة جعل الحكم لموضوعه ، وهو المعبّر عنه بقياس منصوص العلّة ، ومنها السبر والتقسيم ، ومنها تنقيح المناط ، ومنها الحدس والاستحسان ، ومنها تخريج المناط والدوران ويعبّر عن مجموع هذه الطرق بقياس مستنبط العلّة.

ثمّ انّهم ذكروا انّ القياس بهذا المعنى يشتمل على أركان أربعة :

الأوّل : هو الأصل ، وهو عبارة عن الموضوع المعلوم الحكم ويعبّر عنه بالمقيس عليه.

الثاني : هو الفرع ، وهو الموضوع المجهول الحكم والذي يراد تعدية الحكم الثابت للموضوع الأوّل له ، ويعبّر عنه بالمقيس.

الثالث : الحكم الثابت للأصل والذي يراد تعديته للفرع.

الرابع : العلّة والتي تكون واسطة في تعدية الحكم من الموضوع الاوّل


« الأصل » الى الموضوع المجهول الحكم « الفرع » باعتبار انّ الموضوع الثاني إذا كان واجدا لنفس علّة ثبوت الحكم للموضوع الاوّل فهذا يقتضي اشتراكهما في الحكم.

وبهذا يتّضح انّ القياس يتقوّم بموضوعين وحكم وعلّة. هذا هو حاصل المراد من المعنى الاوّل ، وأمّا بيان المراد من قياس منصوص العلّة وقياس مستنبط العلّة وما ينقسمان عليه فسنفرد لكلّ واحد منهما بحثا مستقلا.

المعنى الثاني : انّ المراد من القياس هو علل الأحكام الواقعيّة المدركة بالعقل ، فهي المقياس الذي يجب اخضاع تمام النصوص الشرعيّة وكذلك الأحكام الثابتة بوسائل اخرى غير النصوص مثل الإجماع والسير العقلائيّة والمتشرعيّة والشهرات الفتوائيّة يجب اخضاعها وعرضها جميعا على هذه العلل فما كان منها مناسبا لمقتضيات هذه العلل عبّر ذلك عن صوابيتها ومطابقتها للشريعة ، وما كان منها منافيا لمقتضياتها فهي ليست من الشريعة ، فلا يكون العمل بها سائغا.

وهذا المعنى كان رائجا في القرن الثاني الهجري ، وقد حملت لواءه مدرسة الرأي والتي يتزعمها أبو حنيفة ، فهو وان كانت له جذور متّصلة بزمن الخلافة الاولى ، حيث تبنّى مجموعة من الصحابة هذا المسلك فأخضعوا النصوص لهذا المقياس إلاّ انّه تبلور وأخذ طابع المنهجيّة في القرن الثاني الهجري ، وأدّى ذلك الى تحكيم الرأي في تفسير القرآن الكريم ، كما نشأ عنه اسقاط كثير من الروايات على أساس انّها منافية لمقتضيات العلل المدركة بالعقل ، كما انّه ابتكرت كثير من الأحكام ونسبت للشريعة باعتبار دعوى مناسبتها لمقتضيات العلل الواقعيّة المستوحاة من العقل ، كما هي الدعوى.

وقد تصدى أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام لهذه المدرسة التي استقطبت قطاعات كبيرة من علماء العامّة وذلك بواسطة المناظرات مع أقطاب هذه المدرسة


وبواسطة الأحاديث الابتدائيّة والأجوبة على المسائل.

وقد توسّل أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام لذلك بعرض الأدلّة والنقوض والمنبهات المعبّرة عن فساد هذه المنهجيّة وما يترتّب عليها من مضاعفات خطيرة ، وقد اسهم ذلك مساهمة بليغة في تضاؤل هذه المدرسة ومحاصرتها وعدم انسحابها الى الفكر الأصولي الشيعي.

إلاّ انّها أخذت في البروز في العصر الراهن ولكنّها اكتست ثوبا جديدا يخيل اليهم من جهلهم انّها تسعى ، فيعبّر عنها تارة بعقلنة الفقه واخرى بروح الشريعة كما يعبّر عنها بغايات الدين ، وكأنّهم من حضّار المجلس التشريعي الذي عقده الله تعالى حينما أراد جعل الأحكام ، فلا حول ولا قوّة إلاّ بالله.

( ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ) (٢).

* * *

٤٩٤ ـ قياس مستنبط العلّة

اتّضح ممّا ذكرناه تحت عنوان « القياس الاصولي » انّ المعنى الأوّل هو المعنى الرائج بينهم وانّه يعني تعدية حكم ثابت لموضوع الى موضوع آخر ، وذلك للإتّحاد بين الموضوعين في العلّة.

والمقصود من العلّة اجمالا ـ وقد أوضحنا المراد منها تحت عنوان « العلّة والحكمة » ـ والمقصود منها الملاك الذي ينشأ عنه جعل الحكم لموضوعه أو العلامة التي جعلها الشارع وسيلة لاستكشاف موارد ثبوت الحكم دون أن تكون هذه العلامة هي المناط لجعل الحكم.

وباتّضاح المراد من العلّة نقول انّها تارة تكون منصوصة ، بمعنى انّ الشارع قد نصّ على انّها المناط من جعل الحكم على موضوعه أو نصّ على انّها العلامة والضابطة لاستكشاف موارد الحكم ، وتارة لا تكون منصوصة فيتعيّن انّها مستنبطة ،


أي متصيدة باحدى الوسائل المنتجة للظنّ أو القطع بكون هذا الشيء هو العلّة بالمعنى الاول أو الثاني.

وبذلك يتّضح انّ قياس مستنبط العلّة هو الذي يتمّ فيه تعدية حكم ثابت لموضوعه الى موضوع آخر ، وذلك لاتّحادهما في العلّة المستنبطة.

وبهذا تعرف انّ هذا النحو من القياس تبذل فيه عنايتان ، الاولى هي التحرّي عن العلّة ، والثانية هي تعدية الحكم المعلوم من موضوعه الى الموضوع المجهول الحكم ، وتمام الأقسام المذكورة لهذا النحو من القياس انّما هي بلحاظ الاولى.

وقبل استعراض هذه الأقسام نذكر هذا التطبيق ليتّضح به معنى استنباط العلّة ، مثلا : عند ما نقف على هذا الحكم وهو حرمة التصرّف في مال اليتيم المستفاد من قوله تعالى : ( وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ ) ، فإنّه لم تذكر العلّة صريحا في الآية المباركة لا بالمعنى الاول ولا بالمعنى الثاني ، وعلينا هنا ان نستنبط العلّة من حرمة التصرّف في مال اليتيم.

فإذا تعلّق الغرض باستنباط العلّة بالمعنى الأوّل فهذا يقتضي البحث عن ملاك جعل الشارع الحرمة على التصرّف في مال اليتيم ، فنقول : انّ التصرّف في مال اليتيم ظلم ، إذن العلّة والملاك من جعل الحرمة على التصرّف في مال اليتيم هو الظلم ، وبهذا نتمكّن من نفي الحرمة عن التصرّف في أمواله لو لم يكن في ذلك التصرّف ظلم ، كما نتمكّن من إثبات الحرمة للتصرّف في أيّ مال إذا كان في ذلك التصرّف ظلم.

أمّا إذا تعلّق الغرض بالمعنى الثاني فهذا يقتضي مثلا تجريد لفظ اليتيم من مضمونه الدلالي ليكتسب وصف الضابطة الكاشفة عن موارد الحكم ، كأن يقال انّ المراد جدّا من اليتيم هو كلّ من لا يستطيع التصرّف في أمواله بصورة تعود بالنفع عليه.

وبهذا التجريد نتمكّن من اثبات الحرمة لمجموعة من الموضوعات مثل السفيه والمجنون والمغلوب على أمره


لاستضعاف أو قهر أما الى ذلك.

ثمّ انّ لاستنباط العلّة مجموعة من الطرق ، وهذه الطرق هي المعبّر عنها بأقسام قياس مستنبط العلّة.

القسم الاول : استنباط العلّة بواسطة الدوران ، بمعنى أن نجد انّ الحكم يدور مدار شيء وجودا وعدما دون التصريح بأنّ ذلك هو مدار الحكم ، وحينئذ نستكشف انّ علّة ثبوت الحكم لموضوعه انّما هو ذلك الشيء ، إمّا لأنّه مناط الحكم وعلّة جعله أو لأنّه الضابطة التي يتعرف بها على موارد ثبوت الحكم ، إذ لا معنى للدوران غير أحد هذين الأمرين.

ومثاله : وجوب الإعتداد على المرأة ، فنلاحظ انّ الشارع أوجب الإعتداد على المرأة لو طلقت بعد الدخول بها ونفى عنها وجوب الإعتداد لو طلّقت ولم يكن زوجها قد دخل بها أو كانت صغيرة أو يائسا ، وهذا معناه انّ وجوب الإعتداد يدور مدار أهليّتها للحمل.

وهذه هي العلّة المستنبطة ، وهي من العلل بالمعنى الثاني ، وبها نتمكّن من نفي وجوب الإعتداد على المطلقة لو كانت مقلوعة الرحم مثلا ، إذ انّها منطبق لهذه الضابطة المستنبطة ، وكذلك لو قطعنا بواسطة الوسائل العلميّة انّها عقيمة أو انّ زوجها كان عقيما أو انّها أو زوجها كان يستعملان موانع الحمل أو كان زوجها قد دخل بها في وقت أثبت العلم انّه لا يمكن معه الإخصاب ، فإنّ تمام هذه الموارد منطبق لهذه الضابطة المستنبطة.

والملاحظة التي ترد على هذه الوسيلة هو انّ الدوران يرجع دائما الى الاستقراء والتتبّع ، فنحن انّما نصل للدوران بواسطة تتبع واستقراء موارد ثبوت الحكم واستقراء موارد انتفاء الحكم وبواسطته نتمكّن من احراز دوران الثبوت والانتفاء مدار شيء معيّن ، وواضح انّنا لا نتمكّن من احراز الدوران إلاّ مع الاستقراء التام ، أما مع افتراض كون الاستقراء ناقصا فلا يمكن معه احراز الدوران.


وبهذا لا يتأهّل الدوران الناشئ عن الاستقراء الناقص للكشف عن علّة ثبوت الحكم وانتفائه ، إذ لعلّ بعض الموارد التي لم نتحصّل عليها بالاستقراء تكون مانعة عن تحقّق الدوران ، ومن الواضح جدّا انّ الاستقراء في الشرعيّات دائما يكون ناقصا ، لأنّ المفترض هو الجهل بحكم هذه الموضوعات والتي يراد بواسطة الدوران الناشئ عن الاستقراء التعرّف على حكمها.

ففي المثال المذكور عثرنا بواسطة الاستقراء على بعض الموارد التي ثبت فيها وجوب الإعتداد وعثرنا كذلك على بعض الموارد التي كان وجوب الإعتداد منفيّا عنها وبقيت موارد لا ندري ما هو حكم الله تعالى فيها ، وحينئذ كيف نحرز الدوران مع احتمال انّه لو وصل إلينا حكم الله لكان مانعا عن ثبوت دوران وجوب الإعتداد وعدمه مدار الأهلية للحمل ، فلا سبيل لإحراز الدوران بعد اناطته بالاستقراء التام والمفترض عدمه ، إذ مع تماميّة الاستقراء لا تكون ثمّة فائدة للدوران واستنباط العلّة.

نعم مع الاستقراء الناقص يحصل الظنّ بالدوران إلاّ انّ الظنّ ساقط عن الاعتبار بلا ريب إلاّ أن يقوم دليل قطعي على اعتبار هذا النحو من الظنّ وإلاّ فالأصل في الظنّ هو عدم الحجيّة كما هو ثابت بالآيات والروايات والدليل العقلي القطعي ، إذ انّ نسبة فعل أو قول لأحد بمجرّد الظنّ قبيح ويشتد القبح حينما يكون الإسناد بغير علم للشارع المقدّس.

القسم الثاني : استنباط العلّة بواسطة المناسبات العقليّة ويعبّر عنها بتخريج المناط أي تعيينه ، ومورد هذا القسم هو أن نجد انّ الشارع جعل حكما على موضوع ولم يصرّح بالعلّة إلاّ انّ المناسبات العقليّة تقتضي أن تكون العلّة من ثبوت الحكم لموضوعه شيئا معيّنا ، وحينئذ يكون هذا الشيء المستنبط بواسطة المناسبات العقليّة صالحا لأن يستكشف به حكم موضوعات اخرى


متوفّرة على هذه المناسبة العقليّة.

ومعنى المناسبة العقليّة هو إدراك العقل لوجه التناسب بين الحكم وموضوعه ، وهذا الوجه هو المعبّر عنه بالعلّة والمناط المستنبط والمستخرج.

ومثاله : ان يجعل الشارع وجوب الزكاة في النقدين المضروبين بسكّة المعاملة ، فإنّه لم يصرّح في خطاب الوجوب بالعلّة إلاّ انّ العقل يستنبط من ملاحظة نحو التناسب بين الحكم والموضوع انّ العلّة من ايجاب الزكاة في النقدين هو انّهما مدار المعاملات التجاريّة كالبيع والإجارة والمضاربة وغيرها ، ومن هنا نتمكّن من تعميم الحكم بالإيجاب ليشمل كلّ مال اتّفق ان صار مدار المعاملات التجاريّة ، كالأوراق النقديّة ، كما نتمكّن من نفي الوجوب للزكاة عن النقدين لو أصبح التعامل بهما ثانويا فلم يكونا مدارا في المعاملات رغم بقائهما مضروبين بسكّة المعاملة ، وذلك لأنّ الأحكام تابعة لموضوعاتها وجودا وعدما والمفترض انّ موضوع وجوب الزكاة ليس هو النقدين المضروبين بسكّة المعاملة بل هو المال الواقع مدارا في المعاملات كما هو مقتضى العلّة المستنبطة بواسطة المناسبات العقليّة.

والإشكال على هذا القسم من أقسام العلّة المستنبطة انّه وسيلة عائمة لا تخضع لضوابط علميّة معرفية فإنّ مدركات العقل لا تخلو امّا أن تكون من قبيل مدركات العقل النظري أو انّها من قبيل مدركات العقل العملي فلا بدّ من إثبات انّ هذه المناسبة العقليّة راجعة لأحد هذين المدركين العقليين وإلاّ فلا تعدو الوهم أو الظن.

وبتعبير آخر : انّ المدركات العقليّة بقسميها لا تكون إلاّ قطعيّة فليس للعقل أحكام أو قل مدركات ظنيّة ، فالعقل إمّا أن يدرك الشيء بنحو قطعي أو لا يدركه أم ان يحتمله أو يظنّه فهذا يساوق عدم الإدراك والحكم.

وحينئذ نقول : انّ المولى جعل الوجوب على موضوع ولم يصرّح


بشيء آخر فهنا كيف يمكن للعقل أن يحور في ذلك ويقفز الى ما وراء الغيب ليتعرّف على واقع الموضوع وانّه أوسع ممّا هو مذكور أو أضيق رغم افتراض انّ الموضوع المذكور في الخطاب لا يعبّر لا بمدلوله اللغوي ولا العرفي عن ذلك فليس ثمّة سوى الحدس والظنّ والذي لا يغني عن الحقّ شيئا ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً ) فهل يقبل أحد من المقننين ان تتصرّف الرعيّة في موضوعات أحكامه لتوسّع منها أو تضيق اعتمادا على الحدس والظنّ ، وهل يقبل العقلاء اعتذار من اعتذر بالمناسبات العقليّة لذلك رغم انّه لا سبيل للتعرّف على أغراض أحد إلاّ بواسطة ما يعبّر عنه بكلامه أو سلوكه ، وهذا ما يتّصل بالاستظهار لا بالمناسبات العقليّة.

القسم الثالث والرابع : قد أوضحناهما تحت عنواني « السبر والتقسيم » و « تنقيح المناط ».

* * *

٤٩٥ ـ قياس منصوص العلّة

والمراد منه تعدية حكم ثابت لموضوع الى موضوع آخر ، وذلك لاتّحادهما في العلّة المنصوصة. والمراد من العلّة المنصوصة هي العلّة ـ بقسميها ـ التي تمّ استكشافها بواسطة ظواهر الكتاب والسنّة.

وليعلم انّ العلّة المنصوصة التي تصحّح تعدية الحكم من موضوع الى آخر يشترك معه في العلّة لا بدّ وان تكون هي مدار الحكم ثبوتا وعدما ، ولا بدّ وان يستكشف ذلك بواسطة الاستظهارات التي تخضع للضوابط المقرّرة عند أهل المحاورة والمتفاهم العرفي ، وأمّا إذا لم يكن من الممكن استظهار ذلك فإنّ ما هو مذكور في النصّ لا يعدو عن كونه حكمة ، وحينئذ لا يصحّ تعدية الحكم الى موضوعات اخرى بواسطتها.

على انّ التعدية التي تتمّ بواسطة العلّة يجب أن لا تأخذ مساحة أوسع ممّا يقتضيه الظهور العرفي للعلّة المذكورة ،


ومع عدم الالتزام بهذين الشرطين تكون العلّة مستنبطة لا منصوصة.

ومع الالتزام بما ذكرناه يكون التعبير عن هذا الفرض بالقياس مجرّد اصطلاح وإلاّ فهو من الاجتهاد في فهم النصّ المعتمد على الضوابط العرفيّة التي تكون واسطة في فهم مرادات المتكلّم.

وهذا النحو من القياس ـ لو صحّ اطلاق عنوان القياس عليه ـ مورد قبول مشهور الاصوليين من الاماميّة.

* * *

٤٩٦ ـ قيام الاصول مقام القطع

الأصول تارة تكون محرزة وتارة لا تكون كذلك ، والاصول المحرزة هي ما يكون لها نحو كشف عن الواقع ، وأمّا الاصول غير المحرزة فتتمحّض في انّها وظائف مقرّرة في ظرف الشكّ كما أوضحنا ذلك في محلّه.

والبحث هنا في انّها هل تقوم مقام القطع الطريقي ومقام القطع الموضوعي الطريقي والصفتي أو لا؟

وتصوير قيامها مقامه بنفس التقريب الذي ذكرناه في قيام الأمارات مقامه ، فراجع.

* * *

٤٩٧ ـ قيام الأمارة مقام القطع الطريقي

المراد من قيام الأمارة مقام القطع الطريقي هو انّها تأخذ نفس الدور الذي يقوم به القطع الطريقي وهو تنجيز مؤدّاها لو اتّفق مطابقته للواقع وتعذير المكلّف عند العمل بمؤداها لو اتّفق منافاة المؤدى للواقع ، وهذا الدور هو الذي يقوم به القطع الطريقي.

وبتعبير آخر : لو قام الدليل القطعي على ثبوت الوجوب لشيء فإنّ هذا الدليل القطعي يقتضي تنجيز متعلّقه على المكلّف لو اتّفق مطابقة متعلّق القطع وهو وجوب الشيء للواقع ، ولو قام الدليل القطعي على اباحة شيء فإنّ هذا الدليل القطعي يقتضي تعذير المكلّف لو ارتكب ذلك الشيء واتّفق منافاته للواقع وانّ الواقع هو الحرمة. وهذا هو معنى منجزيّة ومعذريّة


القطع ، ومعنى قيام الأمارة مقام القطع الطريقي هو انّها تقوم بنفس الدور الذي يقوم به القطع الطريقي.

فلو قام الدليل الظنّي المعتبر على وجوب شيء فإنّ هذا الوجوب يكون منجّز لو اتّفق مطابقته للواقع ، ولو قام الدليل الظني على اباحة شيء واتّفق ان كان ذلك الشيء حراما واقعا فإنّ المكلّف معذور في ارتكابه اعتمادا على الأمارة ، فتكون الأمارة كالقطع منجّزة ومعذرة.

والظاهر تسالم الاصوليين على ثبوت هذا الدور للأمارة المعتبرة ، وذلك لقيام الأدلّة القطعيّة على حجيّتها ، والذي هو معنى ثان لثبوت هذا الدور لها.

٤٩٨ ـ قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الصفتي

أي انّه لو أخذ القطع في موضوع حكم باعتباره صفة نفسانيّة لا باعتباره كاشفا عن متعلّقه ، فهل انّ قيام الأمارة يغني عن القطع المأخوذ في الموضوع بنحو الصفتيّة ، بمعنى انّه كما يترتّب الحكم المأخوذ في موضوعه القطع الصفتي كما يترتّب عند تحقّق القطع فهل يترتّب عند تحقّق الأمارة أو انّ الأمارة لا يؤدي قيامها الى ترتب الحكم المأخوذ في موضوعه القطع الصفتي.

الظاهر انّ المتسالم عليه بين الأعلام هو البناء على عدم قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الصفتي ، وذلك لأنّ الملحوظ في القطع الموضوعي الصفتي انّما هو حيثيّة كونه صفة قائمة بالنفس لا حيثيّة كشفه عن متعلّقه ، وهذا ما يصيّر القطع متمحّضا في كونه واحدا من الصفات النفسانيّة المأخوذة في موضوع حكم من الأحكام كالحبّ والبغض والعدالة بناء على انّها ملكة ، ومن الواضح انّ فرض قيام الأمارات مقام القطع انّما هو على أساس انّ للأمارات كاشفيّة عن الواقع غايته انّها كاشفيّة ناقصة فيكون دور الشارع هو تتميم هذه الكاشفيّة أو جعل المنجزيّة والمعذريّة الثابتة للقطع للأمارة أو ان ينزّل مؤداها منزلة


الواقع ، وكلّ ذلك انّما يتّصل بالقطع من جهة كشفه عن متعلّقه ، والمفروض انّ القطع المأخوذ في الموضوع لم يلحظ هذه الجهة وانّما لاحظ القطع من جهة انّه صفة قائمة بالنفس.

* * *

٤٩٩ ـ قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي

عرفنا من بحث القطع الموضوعي الطريقي انّه عبارة عن أخذ القطع في موضوع حكم من الأحكام باعتباره طريقا وكاشفا عن متعلّقه ، وحينئذ لو حصل القطع الطريقي المأخوذ في موضوع الحكم فإنّه لا ريب في ترتب الحكم.

وانّما الكلام فيما لو لم يحصل القطع وقام الدليل المعتبر على تحقّق متعلّق القطع ، فهل يترتّب الحكم المناط بالقطع الموضوعي الطريقي أو لا؟ فلو كنّا نقول بقيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي فإنّ قيام الدليل الظنّي يغني عن القطع الموضوعي الطريقي ويؤدي الى ترتّب الحكم ، ولو كنّا نقول بعدم قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي فإنّ قيام الدليل الظنّي لا ينفع في ترتّب الحكم المأخوذ في موضوعه القطع بنحو الطريقيّة.

مثلا : لو قال المولى إذا قطعت بدخول الوقت وجبت عليك الصلاة ، فحينئذ لو قطع المكلّف بدخول الوقت فإنّه يترتّب على ذلك وجوب الصلاة ، أمّا لو لم يقطع بذلك إلاّ انّه قامت الأمارة المعتبرة على دخول الوقت فهل انّ ذلك يوجب ترتّب الحكم وهو وجوب الصلاة أو لا؟

فقيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي معناه هنا ترتب الحكم وهو وجوب الصلاة بقيام الأمارة على دخول الوقت.

والمعروف بين الأعلام هو قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي خلافا لصاحب الكفاية رحمه‌الله ، ومستندهم في ذلك هو انّ أدلّة الحجيّة للأمارة قاضية بذلك ، وتقريب ذلك يختلف باختلاف المباني فيما هو المجعول في الأمارة ، وبيانه خارج عن الغرض.


هوامش حرف القاف

(١) سورة البقرة : ١٨٧.

(٢) سورة الكهف : ٥١.


حرف الكاف


عناوين حرف الكاف

٥٠٠ ـ كان التامّة والناقصة

٥٠١ ـ الكراهة

٥٠٢ ـ الكشف الانسدادي

٥٠٣ ـ الكلّي الطبيعي

٥٠٤ ـ الكلّي العقلي

٥٠٥ ـ الكلّي المنطقي


حرف الكاف

٥٠٠ ـ كان التامّة والناقصة

المراد من كان التامّة هي المفيدة لمعنى الوجود ، واسنادها لمعمولها يفيد ثبوت الوجود له ، فحينما يقال « كان زيد » فإنّ معناه وجد زيد.

ولذلك قلنا في الحمل البسيط انّه ما كان بنحو مفاد كان التامّة ، وقلنا في الجعل البسيط انّه ما كان بنحو مفاد كان التامّة ، وذلك لأنّ المحمول في الحمل البسيط هو الوجود والمجعول في الجعل البسيط هو الوجود ، والوجود هو تعبير آخر عن كان التامّة.

ومنشأ التعبير عن كان بالتامّة هو انّها تكتفي بمرفوعها ويكون فاعلا لها شأنها شأن سائر الأفعال اللازمة التامّة.

وأمّا المراد من كان الناقصة فهي ما أفادت ثبوت شيء لشيء بعد الفراغ عن ثبوت المثبت له وهو الموضوع ، أي بعد الفراغ عن ثبوت الموضوع وتقرّره في عالم الوجود ، فحينما يقال : « كان زيد عالما » فإنّ معناه ثبوت العالميّة لزيد بعد تقرّر وجود زيد خارجا.

ومن هنا قلنا في الحمل المركّب انّه ما كان بمفاد كان الناقصة والتي يتمّ بها إثبات شيء لشيء ، فالمحمول في الحمل المركّب يكون أثرا من آثار الموضوع أو عرضا من أعراضه.

وقلنا في الجعل التأليفي انّه ما كان بمفاد كان الناقصة والذي هو جعل شيء لشيء أو جعل شيء شيئا ، فالحمل المركّب والجعل التأليفي


يشتركان في انّ واقعهما هو ثبوت شيء لشيء بعد الفراغ عن ثبوت المثبت له.

ومنشأ التعبير عن كان بالناقصة هو انّها لا تكتفي بمرفوعها والذي يكون اسما لها بل انّ الجملة المشتملة عليها لا تكون تامّة إلا معمول آخر يكون خبرا لها ومنصوبا بها ، وهو الأثر أو العرض الذي يثبت للموضوع الواقع اسما لكان الناقصة.

* * *

٥٠١ ـ الكراهة

الكراهة حكم تكليفي من الأحكام الخمسة ومعناه طلب ترك الفعل لا على نحو الإلزام أو قل هو الزجر عن الفعل مع الترخيص في ارتكابه.

والتعبير عنه بالكراهة إشارة إلى ملاك جعله واعتباره ، إذ أنّ الملاك من جعل الحكم الكراهتي هو اشتمال متعلّقه على مرتبة من المبغوضيّة والكراهة.

وأمّا المكروه فهو الفعل الذي وقع متعلّقا للحكم بالكراهة ، فالمكروه وصف للفعل المطلوب تركه طلبا غير إلزامي.

* * *

٥٠٢ ـ الكشف الانسدادي

المراد من الكشف الانسدادي ـ والذي هو في مقابل الحكومة ـ انّ العقل بعد تماميّة مقدّمات الانسداد يكشف عن جعل الشارع الحجيّة لمطلق الظنّ ، فدور العقل بناء على الكشف هو دور الواسطة في الإثبات ، أي إثبات جعل الشارع الحجيّة للظنّ المطلق.

ثمّ انّ تماميّة مسلك الكشف منوط بأمرين أساسيّين :

الأوّل : هو تماميّة دعوى الإجماع على عدم وجوب الاحتياط سواء كان معقد الإجماع هو حرمة الاحتياط أو كان معقده هو عدم تعيّن الاحتياط ، فإنّه على كلا التقديرين يكون صالحا للمساهمة في كشف العقل عن جعل الشارع الحجيّة للظنّ المطلق.

الثاني : أن تكون المظنونات


متنجّزة بمنجّز سابق على منجزيّة مطلق الظنّ ، كما لو كانت هذه المظنونات واقعة طرفا للعلم الإجمالي وإلاّ لو ثبت انّ هذه المظنونات مجرى للاصول المؤمنة فإنّه لا سبيل لكشف العقل عن جعل الشارع الحجيّة للظنّ المطلق.

* * *

٥٠٣ ـ الكلّي الطبيعي

اختلف الأعلام في تفسير الكلّي الطبيعي :

التفسير الأوّل : وهو الذي ذهب إليه الحكيم السبزواري رحمه‌الله في منظومته من انّ الكلّي الطبيعي هو الماهيّة اللابشرط المقسمي ، والمراد من الماهيّة اللابشرط المقسمي هي الماهيّة الملحوظ معها عنوان مقسميّتها لأقسام الماهيّة مثل الماهيّة المجرّدة والماهيّة المطلقة والماهيّة المخلوطة.

وبتعبير آخر : انّ الماهيّة مثل مفهوم الإنسان قد تلاحظ بما هي هي أي لا يلحظ معها سوى الذات والذاتيات ، كأن نلاحظ الإنسان بما هو إنسان أو بما هو حيوان ناطق ، ولا يلاحظ مع ماهيّة الإنسان شيء آخر خارج عن ذات الإنسان وذاتياته حتّى ملاحظة اختصاص النظر بذات الإنسان وذاتياته غير ملحوظ ، وهذه هي الماهيّة المهملة ، وحينئذ ان لاحظنا مع هذه الماهيّة شيئا خارجا عن ذاتها وذاتيّتها وهو كونها مقسما للماهيّة المجرّدة والمخلوطة والمطلقة فعندئذ تصبح هذه الماهيّة ماهيّة لا بشرط المقسمي ، أي انّه لاحظنا ماهيّة الإنسان باعتباره مقسما للإنسان بشرط تجرّده عن تمام العوارض وللإنسان بشرط اتّصافه بخصوصيّة خارجة عن ذاته وللإنسان بشرط الإطلاق والإرسال ان لاحظناها مقسما لهذا الأقسام فهذه هي الماهيّة اللابشرط المقسمي ، وهي الكلّي الطبيعي بنظر المحقّق السبزواري رحمه‌الله.

التفسير الثاني : وهو الذي ذهب اليه المحقّق النائيني رحمه‌الله من انّ الكلّي


الطبيعي هو الماهيّة اللابشرط القسمي ، وعلل ذلك بقوله انّ الكلّي الطبيعي هو حقيقة الشيء الذي يقال في جواب ما هو والجامع بين الأفراد الخارجيّة والمفترضة المتّفقة في الحقيقة.

ومن هنا يكون الكلّي الطبيعي هو الماهيّة اللابشرط القسمي ، إذ انّ الماهيّة اللابشرط القسمي تعني ملاحظة الماهيّة مع خصوصيّة هذه الخصوصيّة هي الإطلاق والإرسال ، ومن هنا تكون هذه الماهية صادقة على تمام الأفراد الموجودة والمقدرة باعتبارها الحقيقة المشتركة بين هذه الأفراد ، وهذا هو الكلّي الطبيعي بنظر المحقّق النائيني رحمه‌الله ، وهو الذي تبنّاه السيّد الصدر رحمه‌الله ، كما انّ هذا التفسير هو المستظهر من عبائر بعض المناطقة ، وسنوضّح هذا التفسير بما يناسب صياغة المناطقة ، في التفسير الرابع للكلي الطبيعي.

التفسير الثالث : وهو الذي ذهب إليه السيّد الخوئي رحمه‌الله وحاصله انّ الكلّي الطبيعي هو الماهيّة المهملة والتي يكون النظر لها مقصورا على الذات والذاتيّات ، فلا يلحظ معها حتى عنوان اهمالها وعنوان صلاحتها لأن تكون مقسما لأقسام الماهيّة ، والتعبير عنها بالمهملة انّما هو من جهة واقعها لا من جهة أخذ الإهمال في مفهومها.

وعلّل ذلك بأنّ الكلّي الطبيعي هو ما كان قابلا للانطباق على أفراده الخارجيّة ، وبهذا لا يكون الكلّي الطبيعي هو الماهيّة اللابشرط المقسمي ولا الماهية اللابشرط القسمي.

أمّا انّ الكلّي الطبيعي ليس هو الماهيّة اللابشرط المقسمي فلأنّ أخذ عنوان المقسميّة في الماهيّة يمنع عن قابليتها للانطباق على ما في الخارج ، وذلك لأنّ واقع الماهيّة اللابشرط المقسمي هو انّها عنوان منتزع عن عروض الأقسام الثلاثة على الماهيّة والتي هي المجرّدة والمخلوطة والمطلقة ، فمن عروض هذه التقسيمات على الماهيّة ينتزع العقل عنوان الماهيّة اللابشرط


المقسمي ، فهو عنوان منتزع في رتبة متأخّرة عن عروض هذه التقسيمات على الماهيّة فهي إذن معقول ثانوي.

ومع اتّضاح ذلك يتّضح انّ الماهيّة اللابشرط المقسمي لا يمكن أن تكون كليّا طبيعيّا ، إذ لا قابليّة لها للانطباق على ما في الخارج حيث لا وجود لها إلاّ في الذهن بعد أن كانت معقولا ثانويا منتزعا عن عروض الأقسام الثلاثة على الماهيّة.

وأمّا انّ الكلّي الطبيعي ليس هو الماهيّة اللابشرط القسمي فلأننا قلنا انّ الماهيّة اللابشرط القسمي تعني الماهيّة الملحوظة بشرط السريان والإطلاق ، وهذا معناه انّ انطباقها على أفرادها ومصاديقها فعلي في حين انّ الكلّي الطبيعي لا يعني أكثر من القابليّة للانطباق على أفراده ، وأمّا فعليّة الانطباق فهي غير معتبرة في الكلّي الطبيعي.

وبتعبير آخر : انّ الماهيّة الملحوظة بشرط الإطلاق والسريان تعني الماهيّة الفانية فعلا في تمام أفرادها ومصاديقها ، وهذا غير الكلّي الطبيعي ، إذ انّه الماهيّة القابلة للصدق على أفرادها ومصاديقها.

وبهذا يتنقّح انّ المراد من الكلّي الطبيعي هو الماهيّة المهملة والمقصور فيها اللحاظ على الذات والذاتيات ، فهي القابلة للصدق على أفرادها الخارجيّة دون أن تكون فانية في أفرادها.

وبما ذكرناه يتّضح الفرق بين الماهيّة اللابشرط القسمي والكلّي الطبيعي ، إذ انّ الماهيّة اللابشرط القسمي عبارة عن لحاظ الطبيعة سارية ومطلقة تستوجب فناء الماهيّة في أفرادها الخارجيّة فعلا ، بحيث تلغى معها تمام الخصوصيات الفرديّة فلو قيل « أكرم العالم » وكانت طبيعة العالم ملحوظة بنحو السريان والإطلاق فإنّ هذه الطبيعة تكون صادقة على تمام أفرادها فعلا فكأنّه قيل « أكرم كلّ عالم » الفاسق منه والعادل والأعجمي والعربي والكبير والصغير.


وأمّا الكلّي الطبيعي والذي هو الماهيّة المهملة فلا يعتبر فيه أكثر من القابليّة للصدق على أفراده ، وذلك لأنّ مصبّ اللحاظ هو الماهيّة بما هي هي ، فالملاحظ لا يرى إلاّ الطبيعة دون الأفراد ، نعم هذه الطبيعة لمّا كانت هي الحقيقة المشتركة بين الأفراد فإنّ ذلك هو الذي برّر القابليّة للصدق على هذه الأفراد.

التفسير الرابع : وهو الذي ذهب إليه السيّد الصدر رحمه‌الله وهو المناسب لبعض عبائر المناطقة ، وحاصله انّ الكلّي الطبيعي عبارة عن المفهوم الموجود في ضمن افراده الخارجيّة ، فالعقل انّما ينتزع هذا المفهوم من الخارج ابتداء ، بمعنى انّ العقل حينما يلحظ هذه الأفراد يجرّدها عن تمام خصوصيّاتها الشخصيّة ، فيتبلور عن ذلك مفهوم كلّي جامع صادق على تمام أفراده ، هذا المفهوم الكلّي الجامع هو المعبّر عنه بالكلّي الطبيعي وهو الماهيّة اللابشرط القسمي.

* * *

٥٠٤ ـ الكلّي العقلي

المقصود من الكلّي العقلي هو الماهيّة المجرّدة ، وهي الماهيّة الملحوظة مع خصوصيّة خارجة عن ذات الماهيّة وذاتياتها على أن تكون هذه الخصوصيّة الملحوظة هي عنوان التجرّد عن تمام العوارض الطارئة والتي يمكن أن تعرض الماهيّة خارجا.

مثلا : حينما يلاحظ مفهوم الإنسان بقيد التجرّد عن تمام ما يمكن أن يطرأ على طبيعة الإنسان خارجا فهذه الطبيعة الملحوظة بهذا اللحاظ يعبّر عنها بالماهيّة المجرّدة وبالماهيّة بشرط لا ، وهي الكلّي العقلي.

ومنشأ التعبير عنها بالكلّي العقلي هو انّ وعاء تقرر وجود هذه الماهيّة هو العقل فلا يمكن أن يكون لها وجود في الخارج ، ولهذا لا تحمل عليها إلاّ المعقولات الثانويّة كأن يقال : الإنسان نوع والحيوان جنس.

وقد عرف المناطقة الكلّي العقلي بتعريف أشبه بالتعريف المدرسي إلاّ


انّه يرجع لما ذكرناه من تعريف ، وحاصله : انّ الكلّي العقلي هو ملاحظة الطبيعة بوصفها كليّة ، فالملحوظ في الكلّي العقلي هو المركّب من الطبيعة والكلّي ، كأن نلاحظ الإنسان بوصفه كليّا.

ومن الواضح انّ الماهيّة إذا لوحظت بوصفها كليّة فإنّ ذلك يعني عدم تعقّل وجودها في الخارج ، إذ لا وجود للطبيعة بقيد الكليّة في الخارج. ثمّ انّ الطبيعة إذا لوحظت بقيد الكليّة فإنّ هذا يعني لحاظها متجرّدة عن تمام العوارض التي يمكن ان تطرأ على الماهيّة في الخارج.

وبهذا يتّضح انّ الكلّي العقلي في اصطلاح الاصوليين هو عينه في اصطلاح المناطقة وانّ الطبيعة بقيد الكليّة لا يحمل عليها إلاّ ما هو معقول ثانوي كالجنس والفصل.

* * *

٥٠٥ ـ الكلّي المنطقي

هو ملاحظة مفهوم الكلّي بقطع النظر عن عروضه على أيّ طبيعة أو ماهيّة ، بمعنى أن يلاحظ العقل مفهوم قابليّة الصدق على كثيرين وبهذا يكون موطن الكلّي المنطقي هو العقل أيضا.

ومنشأ التعبير عنه بالكلّي المنطقي هو انّ المنطقي عند ما يبحث عن الكلّي يبحث عنه بما هو وبقطع النظر عن عروضه على ماهيّة من الماهيّات ، أي انّ الضوابط والأحكام التي يجعلها على الكلّي انّما يجعلها للكلّي بهذا المعنى ، فيقال : مثلا : « انّ الكلّي هو في مقابل الجزئي » « وانّ الكلّي موطنه العقل » وهكذا.



حرف اللاّم


عناوين حرف اللاّم

٥٠٦ ـ اللابشرط القسمي

٥٠٧ ـ اللابشرط المقسمي

٥٠٨ ـ قاعدة لا ضرر ولا ضرار

٥٠٩ ـ لا النافية للجنس

٥١٠ ـ لحن الخطاب

٥١١ ـ اللزوم البيّن وغير البيّن

٥١٢ ـ لوازم الأدلّة

٥١٣ ـ ليس التامّة والناقصة

٥١٤ ـ اللوازم الذاتيّة


حرف اللام

٥٠٦ ـ اللابشرط القسمي

الماهية اللابشرط القسمي هي الماهيّة المطلقة ويعبّر عنها بالماهيّة المرسلة ، وقد ذكر لها معنيان :

المعنى الأوّل : انّ الماهيّة اللابشرط القسمي عبارة عن الماهيّة الملحوظة مع خصوصيّة خارجة عن ذاتها وذاتياتها ، وهذه الخصوصيّة هي عنوان الإطلاق والإرسال والانطباق على مصاديقها خارجا.

وبتعبير آخر : الماهيّة اللابشرط القسمي هي الماهيّة التي لوحظت فانية في أفرادها الخارجيّة ، أي لوحظ معها الانطباق على أفرادها الخارجيّة ، فحينما يقال : « أكرم الإنسان » فإنّ ماهيّة الإنسان لوحظت فانية في أفرادها ، بمعنى إلغاء الخصوصيّات الخارجيّة الثابتة للأفراد ، وهذا ما يصحّح فعليّة انطباق الحكم الثابت للماهيّة على تمام أفرادها.

فمعنى اللابشرط القسمي هو نفي القيود الخارجيّة المانعة عن انطباق الماهيّة على أفرادها ، ومن هنا يكون وجوب الإكرام ثابتا للعالم والجاهل والكبير والصغير والعربي والأعجمي وهكذا ، لأنّ تمام هذه الخصوصيّات غير ملحوظة في الماهيّة التي ثبت لها الوجوب ، وما هو ملحوظ مع هذه الماهيّة هو فعليّة الانطباق والسريان.

هذا ما ذهب إليه جمع من الأعلام كالمحقّق النائيني والسيّد الخوئي رحمهما الله وجمع من الفلاسفة.

المعنى الثاني : وهو ما تبنّاه جمع


من الأعلام كالحكيم السبزواري وصاحب الكفاية رحمهما الله والشيخ الأنصاري رحمه‌الله على ما نسبه إليه بعض الأعلام ، وحاصله : انّ الماهيّة اللابشرط القسمي هي الماهيّة التي لوحظت معها خصوصيّة خارجة عن ذاتها وذاتياتها ، وهذه الخصوصيّة هي التقييد بالإطلاق ، فالماهيّة المطلقة هي الماهيّة المقيّدة بالإطلاق والإرسال ، وهي الماهيّة المقيّدة باللابشرطية ، فاللابشرطية قيد اخذ في الماهيّة اللابشرط القسمي.

والفرق بين هذا المعنى والمعنى الاول واضح ، إذ انّ المعنى الثاني اعتبر اللابشرطيّة والإرسال قيدا في الماهيّة اللابشرط القسمي ، وأمّا المعنى الأوّل فلم يعتبر ذلك فيها ، غايته انّ الماهيّة اللابشرط القسمي ـ بناء عليه ـ ملحوظ معها عنوان الإرسال واللابشرطيّة وليس مأخوذا بنحو القيديّة فيها ، ومعنى ذلك هو لحاظ الماهيّة فانية في أفرادها ومنطبقة عليها فعلا باعتبار انّ هذا اللحاظ يقتضي الغاء تمام الخصوصيّات والقيود المانعة عن انطباق الماهيّة على أفرادها.

والثمرة التي تظهر بين المعنيين هي انّ الماهيّة اللابشرط القسمي ـ بناء على المعنى الأوّل ـ موجودة في الخارج بوجود أفرادها ، وأمّا بناء على المعنى الثاني فلا موطن لها إلاّ الذهن ، وذلك لأنّ الماهيّة المقيّدة بالإطلاق لا وجود لها في الخارج ، فليس ثمّة فرد في الخارج يمكن أن تصدق عليه الماهيّة المقيّدة بالإطلاق ، فزيد لا يكون إنسانا بقيد الإطلاق.

* * *

٥٠٧ ـ اللابشرط المقسمي

الماهيّة اللابشرط المقسمي هي الماهيّة الملحوظ معها شيء خارج عن ذاتها وذاتياتها وهو لحاظها مقسما للأقسام الثلاثة ، وهي الماهيّة اللابشرط القسمي والماهيّة البشرطشيء والماهيّة البشرطلا ، والقسم الأوّل هو المعبّر عنه بالماهيّة المطلقة ، والثاني هو الماهيّة المخلوطة ، والثالث


هو الماهيّة المجرّدة ، فإذا لوحظت الماهيّة باعتبارها مقسما لهذه الأقسام الثلاثة فهي الماهيّة اللابشرط المقسمي.

مثلا : لو لاحظنا مفهوم الإنسان باعتباره مقسما للإنسان بلحاظ الإرسال والإطلاق ، وللإنسان بلحاظ تجرّده عن تمام العوارض والطوارئ ، وللإنسان باعتبار اتّصافه بخصوصيّة خارجيّة ، إذا لاحظنا ماهيّة الإنسان باعتبارها مقسما لهذه الأقسام فهذه هي الماهيّة اللابشرط المقسمي ، وهي الكلّي الطبيعي بنظر الحكيم السبزواري رحمه‌الله خلافا لكثير من الأعلام. لاحظ عنوان « الكلّي الطبيعي » وعنوان « اعتبارات الماهيّة ».

* * *

٥٠٨ ـ قاعدة لا ضرر ولا ضرار

أما المراد من لفظي الضرر والضرار فقد أوضحناه في حرف الضاد ، وأمّا ما هو المراد من هذه الجملة المنفيّة بلا النافية للجنس فقد ذكر له عدّة احتمالات :

الاحتمال الأوّل : وهو الذي تبناه شيخ الشريعة الأصفهاني رحمه‌الله وهو انّ النفي اريد منه النهي ، فيكون مفاد الرواية الشريفة هو مفاد قوله تعالى : ( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ ) (١) ، وحينئذ يكون معنى الرواية الشريفة هو حرمة الإضرار بالغير وحرمة الضرار بالمعنى الذي ذكرناه في محلّه.

وقد ذكرنا في بحث لا النافية للجنس انّ استعمال النفي لغرض إنشاء النهي ممكن وواقع في الاستعمالات العربيّة ، كما في قوله تعالى : ( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ ) إلاّ انّه لا بدّ من ابراز قرينة على إرادة الإنشاء والنهي من النفي كما في الآية الشريفة ، إذ لا يتعقّل ـ كما قلنا ـ أن تكون الآية متصدّية للإخبار عن انتفاء وقوع الرفث في الخارج.

الاحتمال الثاني : أن تكون الرواية الشريفة من موارد استعمال الجمل المنفيّة في نفي الحكم بلسان نفي


الموضوع ، فالمنفي وان كان هو الضرر إلاّ انّ الغرض منه نفي الحكم الثابت في ظرف الضرر ، فهي نفي للحكم الضرري بواسطة نفي الضرر ، فيكون مؤدى الرواية الشريفة هو نفي الأحكام الثابتة لموضوعاتها لو اتّفق اشتمال هذه الموضوعات على الضرر ، فالوجوب الثابت للوضوء مثلا منفي لو اتّفق ضرريّة الوضوء.

إلاّ انّ هذا الاستعمال لا يتناسب مع ما ذكرناه في المورد الثاني من موارد استعمال الجمل المنفيّة بلا النافية ، حيث قلنا انّ نفي الحكم بلسان نفي الموضوع معناه نفي الطبيعة عن أن تكون متحقّقة في ضمن فرد ، وقلنا انّ الغرض من ذلك هو نفي الحكم الثابت للطبيعة عن بعض أفرادها ، وهذا معناه انّ الطبيعة المنفيّة قد ثبت لها حكم في مرحلة سابقة ويكون مفاد هذه الصياغة هو نفي ذلك الحكم عن فرد من أفراد الطبيعة كما هو في قوله عليه‌السلام : « لا ربا بين الوالد وولده » ، فإنّ طبيعة الربا قد ثبت لها حكم سابق هو الحرمة وهذه الرواية تصدّت لنفي انطباق طبيعة الربا على فرد هو الربا الواقع بين الوالد وولده ، وبانتفاء الطبيعة عن هذا الفرد ينتفي حكم الطبيعة عنه ، ولو لا هذه الرواية لكان حكم الطبيعة شاملا لهذا الفرد باعتباره فردا من أفرادها حقيقة.

وهذا البيان لا يمكن تطبيقه على رواية « لا ضرر ولا ضرار » ، وذلك لوضوح انّها ليست بصدد نفي انطباق طبيعة الضرر على فرد من أفرادها فيكون معنى ذلك هو نفي الحكم الثابت لطبيعة الضرر عن ذلك الفرد بل انّ ما يفهمه صاحب هذا المسلك هو انّ الرواية بصدد نفي الحكم الثابت للموضوعات الاخرى في ظرف تلبسها بالضرر ، وهذا لا يناسب دخول النفي على عنوان الضرر ، إذ المناسب لدخول النفي على عنوان الضرر هو نفي الحكم الثابت للضرر بلسان نفي الضرر ، وهذا معناه نفي الحرمة عن الضرر بلسان نفي الضرر وهو غير مراد قطعا.


هذا حاصل بعض ما أورده السيّد الخوئي رحمه‌الله على هذا الاحتمال الذي تبنّاه صاحب الكفاية رحمه‌الله.

الاحتمال الثالث : أن يكون المنفي في الرواية الشريفة هو الحكم الضرري ابتداء ، فيكون مؤدى الرواية هو نفي وجود الحكم الذي ينشأ عن امتثاله الضرر في الشريعة ، وهذا معناه عدم جعل الشارع حكما يكون امتثاله موجبا للوقوع في الضرر.

والمصحّح لنفي الضرر رغم إرادة نفي الحكم الضرري هو انّ الضرر انّما ينشأ عن الحكم ، أي عن امتثاله ، فهو معلول للحكم ، فيكون مساق الرواية الشريفة هو نفي العلّة بواسطة نفي معلولها ، إذ لا يتعقّل انتفاء المعلول « الضرر » ما لم تكن علته منتفية والتي هي الحكم.

وتوضيح ذلك : انّ الوضوء في حالات المرض ليس هو المنشأ للوقوع في الضرر ، إذ للمكلّف ان لا يتوضّأ فلا يقع في الضرر إلاّ انّه حينما يجعل الشارع الوجوب على الوضوء في حالات المرض فإنّ المكلّف حينئذ يكون ملزما بامتثاله وبامتثاله يقع في الضرر ، فالضرر إذن معلول للحكم بوجوب الوضوء في حالات المرض ، وذلك لأنّ الحكم بالوجوب يكون علّة للزوم الامتثال ، والامتثال موجب للوقوع في الضرر ، فتكون النتيجة هي انّ الضرر انّما ينشأ عن الحكم ، وهذا هو المصحّح لدخول النفي على عنوان الضرر رغم إرادة نفي الحكم ، إذ انّه حينما ينفي الضرر فهذا يلازم عرفا نفي العلّة الموجبة له ، وليس من علّة للوقوع في الضرر سوى جعل الحكم الضرري على المكلّف ولزوم امتثاله له.

وبهذا يكون النفي واردا على الحكم الضرري ابتداء ، فيكون مؤدى الرواية الشريفة هو انّ الشارع لم يجعل حكما يلزم منه الضرر ، وهذا الاحتمال تبنّاه الشيخ الأنصاري رحمه‌الله وتبعه في ذلك السيّد الخوئي رحمه‌الله.

* * *


٥٠٩ ـ لا النافية للجنس

والبحث المتّصل بغرض الاصولي عن لا النافية للجنس من جهتين :

الجهة الاولى : افادتها للعموم أو الإطلاق ، وهذا ما سوف نبينه تحت عنوان « النكرة في سياق النفي » انّ شاء الله تعالى.

الجهة الثانية : هو بيان موارد استعمالها ، وهذا ما سوف نبيّنه في المقام ، فنقول : انّ السيّد الخوئي رحمه‌الله ذكر انّ موارد استعمال الجمل المنفيّة بلا النافية للجنس ثلاثة :

المورد الأوّل : أن تكون مستعملة لغرض الإنشاء ، والتعبير عن مبغوضيّة مدخولها ، فهي وان كان مساقها الإخبار إلاّ انّ الغرض منها الإنشاء والنهي التحريمي.

ومثاله قوله تعالى : ( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ ) (٢) فالجمل المنفيّة بلا النافية في هذه الآية المباركة سيقت لغرض الإنشاء والنهي التحريمي ، وذلك بقرينة عدم تعقّل تصدّي الآية المباركة لنفي الوجود والتحقّق جدّا وواقعا ، وهذا ما يعبّر عن انّ نفي التحقّق انّما هو لغرض التعبير عن الإنشاء والنهي.

وأمّا ما هو المصحّح لاستعمال النفي في إنشاء النهي فقد ذكرت لذلك مجموعة من التقريبات تذكر عادة تحت عنوان الجمل الخبريّة المستعملة في الطلب.

ومن هذه التقريبات هو انّ المصحّح للإخبار عن النفي هو الكناية عن الملزوم بواسطة الإخبار عن اللازم ، فهو وان كان يريد الملزوم إلاّ انّه توسّل في الكشف عن إرادته بواسطة الإخبار عن اللازم ، كما يقال : « زيد كثير الرماد » فإنّ الإخبار عن زيد بكثير الرماد انّما استعمل لغرض الكناية عن كرمه ، إذ انّ لازم الكرم هو كثرة الرماد في داره لكثرة طبخه للطعام ، فالمتكلّم أراد الإخبار عن الملزوم وهو الكرم بواسطة الإخبار عن اللازم وهو كثرة الرماد في دار زيد.


والمقام من هذا القبيل ، إذ انّ الغرض من الإخبار عن انتفاء الرفث في الحجّ هو الكناية عن الإنشاء والنهي ، فالإخبار عن عدم وقوع الرفث من المتدين في الحجّ لازم لمطلوبيّة ذلك شرعا ، فالشارع أراد انشاء مطلوبيّة عدم ايقاع الرفث في الحجّ بواسطة الإخبار عن اللازم وهو عدم وقوع ذلك من المتدين ، إذ لا معنى لعدم صدور الرفث في الحجّ من المتدين إلاّ مطلوبيّة ذلك شرعا ، إذ مع عدم مطلوبيته لا يكون عدم وقوعه من المتدين ـ وبالتالي الإخبار عنه ـ مبرّرا.

وصدور ذلك من المؤمن أحيانا لا يلزم منه كذب الإخبار بعدم الوقوع ، وذلك لأنّ الإخبار لم يكن بقصد الحكاية وانّما هو بقصد الإنشاء ، والإخبار انّما هو وسيلة للتعبير عن الإنشاء.

كما انّ الثابت في بحث الكناية انّ مناط الصدق والكذب في الإخبارات المستعملة لغرض الكناية انّما هو مطابقة الملزوم للواقع وعدم مطابقته ، لا مطابقة اللازم ـ المخبر به ابتداء ـ للواقع وعدم مطابقته.

فقولنا « زيد كثير الرماد » لا يكون كذبا لو لم يكن في داره رماد أصلا إلاّ انّه كان كريما ، وذلك لأنّ المخبر عنه في هذه الجملة انّما هو كرم زيد ، والمفترض ثبوته واقعا ، هذا إذا كان ملزوم الجملة الكنائيّة هو الإخبار ، وأمّا إذا كان ملزومها الإنشاء فلا يتعقّل في موردها الكذب كما هو واضح.

المورد الثاني : أن يكون مساقها الإخبار عن انتفاء تحقّق الطبيعة في ضمن فرد ، ولكن لغرض نفي الحكم الثابت للطبيعة عن ذلك الفرد ، فليس الغرض من نفي شمول الطبيعة لفرد هو انتفاء ذلك الفرد عن الطبيعة تكوينا بل الغرض هو بيان انتفاء الحكم الثابت للطبيعة عن ذلك الفرد.

والمبرّر للتصدي لهذا النفي هو صدق الطبيعة على ذلك الفرد تكوينا ، فلو لا النفي لكان الحكم الثابت للطبيعة


ثابتا لذلك الفرد باعتبار فرديّته لها واقعا.

ومثاله : قوله عليه‌السلام : « « لا ربا بين الوالد وولده » (٣) و « لا شك لكثير الشك » ، فنفي طبيعة الربا عن أن تكون منطبقة على الحصّة من الربا الواقع بين الوالد والولد انّما سيق لغرض نفي الحكم الثابت للطبيعة ـ وهو الحرمة ـ عن هذه الحصّة ، وهذا هو المعبّر عنه بنفي الحكم بلسان نفي الموضع كما أوضحنا ذلك تحت هذا العنوان.

المورد الثالث : أن يكون مساقها الإخبار عن انتفاء مدخول لا النافية عن أن يكون موجودا في الشريعة المقدّسة ، فيكون مفادها نفي المشروعيّة التشريع عن مدخول النفي ، ولهذا المورد صورتان :

الصورة الاولى : أن يكون النفي عن الشريعة موضوعا من الموضوعات الثابتة في شريعة من الشرائع أو الثابتة في مجتمع من المجتمعات أو أن يكون المنفي من المتبنيات العقلائيّة ، وحينئذ يكون مفاد الجملة المنفيّة هو نفي المشروعيّة عن الموضوع المنفي وجوده في الشريعة.

ومثاله قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « لا رهبانيّة في الإسلام » (٤) ، وقوله عليه‌السلام : « لا مناجشة في الإسلام » (٥) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا قياس في الدين » (٦) ، فإنّ الرواية الاولى تنفي مشروعيّة الرهبانيّة والتي كانت مشروعة في بعض الشرائع السابقة ، والرواية الثانية تنفي مشروعيّة ظاهرة اجتماعيّة والتي هي المناجشة ، إذ انّ هذه الظاهرة كانت سائدة ، وأمّا الرواية الثالثة فهي تنفي مشروعيّة القياس في الدين والذي هو من المرتكزات العقلائيّة ، فلو خلّي العقلاء وطبعهم لحكّموا القياس في الدين.

الصورة الثانية : أن يكون مدخول النفي هو الحكم الشرعي ابتداء فيكون ذلك معبّرا عن عدم تشريع ذلك الحكم في الدين ، ومثاله قوله تعالى : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (٧) ، فالآية الكريمة تنفي أن يكون الشارع


قد جعل حكما حرجيّا ، أي حكما يلزم من امتثاله الحرج.

* * *

٥١٠ ـ لحن الخطاب

وهو اصطلاح آخر لمفهوم الموافقة ، والتعبير عنه بلحن الخطاب ناشئ ـ كما قيل ـ عن انّ المتكلّم توسّل في بيان مراده بالتلويح بدلا عن التصريح ، وهذا ما يناسب المعنى اللغوي للفظ اللحن ، إذ انّ اللحن في اللغة يعني الفطنة وسرعة الفهم ، فكأنّما المتكلّم اعتمد على فطنة المخاطب فلم يصرّح بمراده واستعاض عن ذلك بالتلويح.

كما انّه قد يستعمل لفظ لحن الخطاب ويراد منه دلالة الاقتضاء ، ووجه المناسبة يتضح بملاحظة ما ذكرناه تحت عنوان « دلالة الاقتضاء ».

* * *

٥١١ ـ اللزوم البيّن وغير البيّن

تنقسم اللوازم الذاتيّة الى قسمين :

القسم الأوّل : هو اللزوم البيّن ، وهو الذي لا يحتاج إدراكه الى برهان تثبت بواسطته الملازمة بين الملزوم ولازمه ، وهو ينقسم الى قسمين :

الأوّل : اللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ : وهو الذي يكون معه تصوّر الملزوم كافيا في تصوّر اللازم والجزم بالملازمة بينهما ، بمعنى انّ إدراك اللازم لا يحتاج لأكثر من تصوّر الملزوم ، ويمكن التمثيل بالنار والحرارة ، فإنّ النار هي الملزوم والحرارة هي لازم النار ، وتصوّر الحرارة والإذعان بكونها لازما للنار لا يحتاج لأكثر من تصوّر معنى النار.

الثاني : اللزوم البيّن بالمعنى الأعمّ : وهو ما يكون معه اللزوم مفتقرا تصوّره الى تصوّر الملزوم وتصوّر اللازم وتصوّر النسبة بينهما ، وحينئذ يتحقّق إدراك اللازم والجزم بالملازمة بينه وبين ملزومه.

ويمكن التمثيل له بالفرديّة والعدد سبعة ، فإنّ إدراك الملازمة بين العدد سبعة وبين الفرديّة يحتاج الى تصوّر


معنى العدد سبعة والذي هو الملزوم وتصوّر معنى الفردية والتي يفترض انّها اللازم ثمّ تصوّر الملازمة بينهما بأن يجمع بين التصورين ويناسب بينهما ، وحينئذ يتحقّق الإدراك والجزم بالملازمة وانّ الفرديّة لازم للسبعة.

وتلاحظون انّ إدراك اللازم والملازمة في القسمين لم يفتقر الى مقدّمة خارجيّة ، نعم اللازم البيّن بالمعنى الأعمّ يحتاج الى مئونة زائدة ، فما لم تبذل لا يتحقّق الإدراك بمجرّد تصوّر الملزوم إلاّ انّ هذه المئونة لا تخرج عن اطار الملزوم واللازم والنسبة بينهما.

القسم الثاني : اللزوم غير البيّن وهو من اللوازم الذاتيّة أيضا إلاّ انّ إدراك اللازم في مورده والجزم بالملازمة بينه وبين ملزومه لا يكون إلاّ بواسطة البرهنة على الملازمة ، والمقصود من البرهنة هو مطلق ما يكون خارجا عن اطار تصوّر الملزوم واللازم والنسبة بينهما ، بمعنى انّ وضوح البرهان لا يبرّر اعتبار اللزوم بيّنا ، ولذلك عدل السيّد الخوئي رحمه‌الله عن التعبير بالبرهان والدليل الى التعبير بالمقدّمة الخارجيّة ، أي انّ اللزوم غير البيّن هو ما يكون إدراكه والجزم به مفتقرا الى مقدّمة خارجة عن إطار تصوّر اللازم والملزوم والنسبة بينهما.

وذكر رحمه‌الله انّ اعتبار المحقّق النائيني رحمه‌الله وجوب مقدّمة الواجب من اللوازم البيّنة بالمعنى الأعمّ يعدّ خلطا بين اللازم البيّن واللازم غير البيّن ، وذلك لأنّ إدراك الملازمة بين وجوب ذي المقدّمة ووجوب المقدّمة يحتاج الى مقدّمة خارجيّة وهي ما يدركه العقل من انّ ايجاب شيء يستلزم ايجاب مقدّماته ، ووضوح هذا البرهان على الملازمة لا يبرّر اعتبار هذا النحو من الملازمة لزوما بيّنا بالمعنى الأعمّ.

ثمّ انّ هنا أمرا لا بدّ من التنبيه عليه ، وهو انّ افتقار اللزوم غير البيّن الى البرهان لا ينافي ما ذكرناه من انّ اللازم الذاتي لا يتخلّف عن ملزومه


وانّه ناشئ عن مقام الذات للملزوم وانّه لا يعلّل.

وذلك لأنّ البرهان انّما هو لغرض الكشف عن ثبوت الملازمة ، فليس هو علّة لثبوت الملازمة ، إذ قد يكون بين الشيئين تلازم ذاتي إلاّ انّ هذا التلازم غير مدرك فتكون وظيفة البرهان هو الكشف عن التلازم الذاتي ، ولو لم نعثر على دليل الملازمة فإنّ ذلك لا يقتضي انتفاؤها لو كانت ثابتة في نفس الأمر والواقع.

فوظيفة البرهان على الملازمة كوظيفة الأمارة على الحكم الشرعي ، فإنّ الأمارة لا تكون علّة لثبوت الحكم الشرعي واقعا ، وانّما دورها الكشف عنه ، ولهذا لو لم تقم الأمارة على الحكم الشرعي فإنّ هذا لا يعني عدم وجوده بل قد يكون الحكم الشرعي ثابتا في نفس الأمر والواقع غايته انّ المكلّف يجهله.

* * *

٥١٢ ـ لوازم الأدلّة

ومن أجل أن يتّضح هذا المطلب لا بدّ من بيان مقدّمة.

كلّ دليل سواء كان قطعيّا أو غير قطعي ، وسواء كان محرزا أو أصلا عمليّا يمكن أن يكون له مدلول التزامي إضافة إلى مدلوله المطابقي ، ولكي تتّضح هذه الدعوى نذكر مثالا يناسب الدليل المحرز بكلا قسميه : القطعي ، وغير القطعي ؛ ومثالا يناسب الأدلّة العمليّة المعبّر عنها بالأصول العمليّة.

أمّا ما يناسب الدليل المحرز ، فمثاله : لو أخبر مخبر عن غرق زيد فإنّ هذا الخبر له مدلولان :

الأوّل : هو أنّ زيدا قد غرق في الماء ، وهذا ما يسمّى بالمدلول المطابقي.

الثاني : هو إنّ زيدا قد مات ، وهذا هو المدلول الالتزامي للخبر ، إذ أنّ الخبر وبحسب المدلول اللغوي لألفاظه لا يدلّ على أكثر من غرق زيد في


الماء ، نعم ثبوت غرق زيد ـ وبواسطة مقدّمة خارجيّة وهي أنّ الغرق موجب للموت ـ قد دلّ على موت زيد.

إذن ثبوت موت زيد نشأ عن مقدّمتين الأولى إخبار المخبر بغرقه والثانية هي العلم الخارجي بأنّ الغرق من موجبات الموت.

وأمّا ما يناسب الأصل العملي ، فنذكر له مثالا في الاستصحاب ، فنقول : لو كنّا على يقين سابق بحياة زيد ثمّ شككنا في بقائه على قيد الحياة فإنّ مقتضي الاستصحاب هو أنّ زيدا لا زال حيّا ، وهذا هو المدلول المطابقي للاستصحاب ، وللاستصحاب مدلول آخر وهو « أنّ زيدا يأكل ويشرب » وهذا هو المدلول الالتزامي للاستصحاب وهو لا يقتضيه الاستصحاب بنفسه إذ أنّ الاستصحاب لا يعني أكثر من إسراء الحالة السابقة المتيقّنة إلى ظرف الشكّ ، ومن الواضح أنّ كون زيد يأكل ويشرب الآن ليس مستفادا من حاق المستصحب « حياة زيد » ، نعم هو مستفاد من الاستصحاب باعتبار أنّه صار واسطة في إثبات موضوع الملازمة ، فالاستصحاب أثبت حياة زيد فترتّب اللازم من حياة زيد وهو أنّه يأكل ويشرب.

وبعد اتّضاح هذه المقدّمة ، يقع البحث حول الدلالة الالتزاميّة من حيث ثبوت الحجّيّة بالإضافة إلى المدلول المطابقي وعدم ثبوت الحجّيّة ، وهل أنّه كلّما ثبتت الحجّيّة لدليل فإنّها تثبت لكلا مدلوليه المطابقي والالتزامي أو لا؟

ويمكن تصنيف البحث إلى موارد أربعة نذكرها تباعا :

المورد الأول : ما إذا كان الدليل من قبيل الأدلّة المحرزة القطعيّة ، كما لو قام الدليل القطعي على غرق زيد في الماء ، وفي مثل هذا المورد لا إشكال في ثبوت الحجّيّة لكلا مدلوليه المطابقي والالتزامي ، وذلك لأنّ القطع بالمدلول المطابقي قطع بالمدلول الالتزامي ، ولذلك قالوا « إنّ العلم بشيء علم بلوازمه ».


إذن المنشأ لثبوت الحجّيّة للمدلول الالتزامي هو العلم بالملازمة ، إذ هو الذي يؤدّي إلى العلم باللازم بعد العلم بتحقّق الملزوم ـ وهو المدلول المطابقي ـ وفي المثال المذكور يكون القطع بغرق زيد قطع بموته ، ولذا يمكن ترتيب جميع الآثار المترتّبة على موت زيد كاعتداد زوجته وتقسيم تركته.

المورد الثاني : ما إذا كان الدليل من قبيل الأدلّة المحرزة الظنّيّة ، والذي قام الدليل القطعي على حجيّته بكلا مدلوليه المطابقي والالتزامي بأن كان موضوع الحجّيّة الثابت لهذا الدليل هو كلا المدلولين ، فهنا لا إشكال أيضا في ثبوت الحجّيّة للمدلول الالتزامي وذلك لأنّه وقع موضوعا للحجيّة بمعنى أنّ الدليل المثبت للحجيّة قد أثبتها لكلا المدلولين على حدّ سواء.

ومثال ذلك : خبر الثقة لو استظهرنا من الأدلة التي دلّت على حجيّته أنّها في مقام إثبات الحجّيّة لكلا مدلولي الخبر المطابقي والالتزامي فإنّ خبر الثقة في مثل هذه الحالة يكون حجّة في المدلول الالتزامي كما هو حجّة في المطابقي ، فلو أخبر الثقة بغرق زيد فإنّ هذا الخبر يكون حجّة في إثبات موت زيد.

المورد الثالث : لو كان الدليل من الأدلّة المحرزة الظنّيّة إلاّ أنّ الدليل الذي دلّ على حجّيّته دلّ على حجّيّة المدلول المطابقي دون أن تكون له دلالة على حجّيّة المدلول الالتزامي.

ومثال ذلك : الإجماع ، فإنّ الدليل الذي دلّ على حجّيّته لم يدل على أكثر من حجية معقد الإجماع ـ والذي هو المدلول المطابقي ـ فلا يكون المدلول الالتزامي لمعقد الإجماع مشمولا لدليل الحجّيّة ، فلو قام الإجماع مثلا على وجوب صلاة الجمعة فإنّ وجوب صلاة الجمعة هي معقد الإجماع إلاّ أنّ لذلك مدلول التزامي وهو عدم وجوب صلاة الظهر في يوم الجمعة ، وهذا المدلول الالتزامي خارج عن موضوع الحجّيّة ، إذ أنّ موضوع الحجّيّة ـ كما قلنا ـ هو معقد الإجماع ـ والذي هو في المثال وجوب


صلاة الجمعة ـ.

ومن هنا قد يقال بعدم حجّيّة المدلول الالتزامي ، فلو كان له آثار فإنّها لا تترتّب ، وذلك لأنّ موضوع الحجّيّة ليس شاملا لها ، نعم من الممكن ثبوتا ان تكون الحجّيّة شاملة للمدلول الالتزامي ، ولكنّ ذلك لا ينفع لإثبات الحجّيّة له إذ أنّ إمكان ثبوت الحجّيّة له لا يسوّغ الاعتماد عليه ما لم يقم دليل إثباتي على الحجّيّة ، وفرض الكلام عدم شمول الحجّيّة للمدلول الالتزامي ، وكوننا نعلم أنّ ثبوت المدلول المطابقي يلازم خارجا ثبوت المدلول الالتزامي لا يسوّغ أيضا ثبوت الحجّيّة للمدلول الالتزامي ، وذلك لأنّ فرض الكلام أنّ الدليل المحرز دليل ظنّي يفتقر في ثبوت الحجّيّة له إلى التعبّد الشرعي ، ومن الممكن جدّا أن يتعبّدنا الشارع بحجّيّة المدلول المطابقي دون أن يتعبّدنا بحجّيّة المدلول الالتزامي ، فيقول مثلا : إنّ الزوج إذا كان مفقودا ولم يعرف له خبر فإنّه قد مات تعبّدا ولكن مع ذلك لا تنفصل عنه زوجته إلا بطلاق الحاكم الشرعي في حين أنّ موت الزوج يلازم شرعا عدم الحاجة إلى الطلاق.

ومن هنا ذهب السيّد الخوئي رحمه‌الله إلى عدم حجّيّة المدلول الالتزامي في هذا المورد ، وفي مقابل هذا القول ذهب المشهور إلى حجّيّته وأنّه لا فرق في الحجّيّة بين المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي إذا كان المدلول المطابقي من قبيل الأدلّة الظنّيّة المحرزة « الأمارة » ، ولذلك قالوا : « إنّ مثبتات الأمارة مطلقا حجّة » أي أنّ المدلولات الالتزامي للأمارة مطلقا تكون حجّة وهذا هو ما ذهب إليه السيّد الصدر رحمه‌الله واستدلّ له بما حاصله :

إنّ الدليل الظنّي المحرز ـ الذي قام الدليل القطعي على حجّيّته ـ هو ما كان منشأ جعله الكاشفيّة عن متعلّقه وليس له منشأ وسبب غير كاشفيّته عن متعلّقه وبالتالي تكون حجّيّة هذا الدليل ثابتة لكلّ ما كشف عنه هذا الدليل ، ومن الواضح أنّ كاشفيّة


الدليل الظنّي المحرز على المدلول الالتزامي بمستوى كاشفيّته عن المدلول المطابقي ، فلا مبرّر للتفريق بينهما من حيث الحجّيّة ، إذ أنّ الحجّيّة ثابتة لكلّ ما كشف عنه الدليل.

ويمكن صياغة الدليل بشكل آخر ، بأن يقال : إنّنا فرغنا في بحث سابق عن أنّ السبب الوحيد في جعل الحجّيّة للأمارة هو أنّ الأمارة كاشفة عن مفادها وليس للمولى أي ملاحظة لنوع الحكم الذي تكشف عنه الأمارة بل أنّ نظره مقتصر ـ في مقام جعل الحجّيّة للأمارة ـ على ما للأمارة من كاشفيّة عن الواقع.

ومن هنا يمكن أن نستظهر أنّ المولى حينما جعل الحجّيّة للأمارة جعلها لكلّ ما تكشف عنه الأمارة فلمّا كانت تكشف عن المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي معا فهذا يعني أنّ المولى قد جعل الحجّيّة لكلا المدلولين إذ أنّ كلاّ منهما قد كشفت عنه الأمارة ، وبهذا يتّضح منشأ ذهاب المشهور إلى حجّيّة المدلولات الالتزاميّة لمطلق الأمارات.

المورد الرابع : ما إذا كان الدليل من قبيل الأدلة العمليّة المقرّرة لوظيفة المكلّف في ظرف الجهل بالحكم الواقعي. وهنا ذهب المشهور إلى عدم حجّيّة مدلولاتها الالتزامية ، فلذلك اشتهر عنهم « إنّ مثبتات الأصول ليست بحجّة » ويمكن أن نمثّل لذلك بقاعدة الفراغ المثبتة لصحّة العبادة في ظرف الشكّ في الصحّة إذا كان الشكّ قد وقع بعد الفراغ عن العبادة ، فإنّ هذه القاعدة لا تقتضي أكثر من الحكم بصحّة الصلاة مثلا المفروغ عنها ، إذ أنّ هذا هو مدلولها المطابقي ، ولقاعدة الفراغ في بعض الموارد مدلول التزامي ، فلو فرغ المكلّف من الصلاة ثمّ شكّ في صحتها من جهة أنّه هل كان متطهّرا عند ما دخل في الصلاة أم لا؟ فإنّ مقتضى قاعدة الفراغ هو الحكم بصحّة هذه الصلاة ، وهذا هو مدلول القاعدة المطابقي ، وللحكم بصحّة الصلاة مدلول التزامي وهو أنّه كان على طهارة حين دخل الصلاة إلاّ أنّ هذا المدلول الالتزامي غير حجّة ،


فلو أراد الدخول في صلاة أخرى فإنّه ملزم بالإتيان بوضوء جديد لها ولا تكون قاعدة الفراغ التي أجراها لغرض تصحيح الصلاة صالحة لإثبات طهارته الحدثيّة.

ويمكن الاستدلال على ذلك بأنّ المجعول في الأصول العمليّة هو الجري العملي على طبق الأصل إذ أنّ الملحوظ حين جعل الحجّيّة للأصل هو نوع الحكم المشكوك وأهميته بنظر المولى دون أن يكون للمولى ملاحظة لكاشفيّة الأصل حتّى لمدلوله المطابقي فضلا عن الالتزامي ، إذ أنّ الأصل لا يكشف عن أنّ مؤدّاه هو الواقع ، وقد تكون للمولى ـ كما في موارد الأصول المحرزة ـ ملاحظة لكاشفيّة الأصل عن الواقع إلاّ أنّ الكاشفيّة ليست هي الملاك التامّ في جعل الحجّيّة للأصل بل إنّ الملاك هو الكاشفيّة مع ملاحظة نوع الحكم المشكوك وأهميّته بنظر المولى.

وبهذا البيان يتّضح ما هو المنشأ لمبنى المشهور في عدم حجّيّة المدلولات الالتزامية للأصول ، إذ أنّه لمّا كانت الحجّيّة مجعولة على الأصل العملي بوصف كونه وظيفة مقرّرة في ظرف الشكّ واهتمام المولى بهذه الوظيفة وأهميتها على سائر الوظائف دون أن يكون المنشأ لجعل هذه الوظيفة هو كاشفيّة الوظيفة العمليّة عن الواقع ، فإنّه لا يمكن في مثل هذه الحالة تعدية الحجّيّة الثابتة للوظيفة العمليّة لمدلولاتها الالتزامية إذ أنّه من أين لنا العلم أنّ الشارع جعل الحجّيّة للمدلول الالتزامي بالإضافة إلى المدلول المطابقي ، وهل هذا إلاّ « من حلب الدم » والتخرّص على المولى جلّ وعلا بغير علم ، نعم لو كان دليل جعل الحجّيّة صادقا عرفا على كلا المدلولين لكان ذلك مسوّغا للتمسّك بالمدلول الالتزامي كما هو الحال في بعض المدلولات الالتزاميّة للاستصحاب والبحث في محلّه.

وبهذا البيان اتّضح عدم حجية المدلولات الالتزاميّة للأصول العمليّة.


والمتحصّل من كلّ ما ذكرناه في الموارد الأربعة أنّ الموردين الأوّل والثاني تكون فيهما المدلولات الالتزاميّة حجّة ، وفي المورد الثالث وقع الخلاف وذهب المشهور إلى الحجّيّة ، وأمّا المورد الرابع فلا إشكال في عدم الحجّيّة.

* * *

٥١٣ ـ ليس التامّة والناقصة

المقصود من ليس التامّة هي التي تنفي الوجود عن الشيء ، وذلك في مقابل مفاد كان التامّة والتي يكون مفادها ثبوت الوجود لشيء ، ويعبّر عن مفاد ليس التامّة بالعدم المحمولي ، كما يعبّر عن مفاد كان التامّة بالوجود المحمولي.

فحينما يقال : « ليس زيد » فهذا معناه نفي الوجود عنه وهو العدم المحمولي ، كما انّه حينما يقال « كان زيد » فإنّ معناه « وجد زيد » ، وهو المعبّر عنه بالوجود المحمولي.

وأمّا المقصود من ليس الناقصة فهي التي تستعمل لنفي الصفات عن الشيء ، وذلك في مقابل كان الناقصة وهي التي تثبت صفة لشيء بعد الفراغ عن أصل وجوده ، ويعبّر عن مفاد ليس الناقصة بالعدم النعتي ، لأنّ الذي ينفى بها هو الوجود النعتي عن الشيء ، كما يعبّر عن كان الناقصة بالوجود النعتي ، فحينما يقال ليس زيد قائما فإنّ المنفي عن زيد هو القيام ، كما انّه حينما يقال « كان زيد قائما » يكون المثبت لزيد هو القيام والذي هو وجود نعتي لزيد.

ولا ريب انّ ثبوت الوجود النعتي لزيد منوط بأصل الوجود لزيد ، وهذا هو معنى انّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له. انّما الكلام عن انّ نفي شيء بمفاد ليس الناقصة هل هو فرع ثبوت المنفي عنه ، فلا يمكن نعت زيد بعدم القيام إلاّ حينما يكون زيد موجودا أو انّ نفي شيء عن شيء غير منوط بوجود المنفي عنه ، فيمكن نفي القيام عن زيد رغم عدم وجوده ، وتحقيق هذه المسألة في بحث العدم


الأزلي وقد أوضحناها في بحث « استصحاب مجهولي التاريخ ».

* * *

٥١٤ ـ اللوازم الذاتيّة

اللازم الذاتي هو المحمول الخارج عن الذات اللازم لها ، ومنشأ التعبير عن هذا اللازم بالذاتي هو انّ اللزوم بين اللازم وملزومه ينشأ عن مقام الذات للملزوم ، فالزوجيّة والتي هي لازم ذاتي للأربعة وان كانت خارجة عن ذات الأربعة إلاّ انّ لزومها للأربعة نشأ عن مقام الذات للأربعة ، بمعنى انّه لم يتوسّط شىء خارج عن ذات الأربعة لغرض صيرورة الزوجيّة لازما للأربعة ، فثبوت الزوجيّة للأربعة ضروري ، ولهذا قالوا انّ الذاتي لا يعلّل ، بمعنى انّه ليس ثمّة علة أوجبت ثبوت اللازم الذاتي لملزومه بل انّ العلّة المفيضة للملزوم هي عينها العلّة المفيضة للازم. ولمزيد من التوضيح راجع عنوان « الذاتي لا يعلّل » « وذاتي باب البرهان » و « العرض الذاتي ».


هوامش حرف اللاّم

(١) سورة البقرة : ١٩٧.

(٢) سورة البقرة : ١٩٧.

(٣) الوسائل : باب ٧ من أبواب الربا الديث ١ و ٣.

(٤) الوسائل : باب ٥ من أبواب الصوم المحرم والمكروه الحديث ٤ و ١١.

(٥) الوسائل : باب ٤٩ من أبواب آداب التجارة الحديث ٤.

(٦) لم نجد هذا اللسان في كتب الأخبار ، نعم الموجود هو « ليس في دين الله قياس ».

(٧) سورة الحج : ٧٨.



حرف الميم


عناوين حرف الميم

٥١٥ ـ المانع الشرعي

٥٣٣ ـ المخالفة القطعيّة والاحتماليّة

٥١٦ ـ الماهية المجرّدة

٥٣٤ ـ المخصّص والمقيّد

٥١٧ ـ الماهية المخلوطة

٥٣٥ ـ المسألة الاصوليّة

٥١٨ ـ الماهيّة المطلقة والمرسلة

٥٣٦ ـ مسألة مقدّمة الواجب

٥١٩ ـ الماهيّة المهملة

٥٣٧ ـ المستقلات العقليّة

٥٢٠ ـ المبادئ الأحكاميّة

٥٣٨ ـ مسقطات التكليف

٥٢١ ـ المبادئ التصديقيّة

٥٣٩ ـ المشتقّ

٥٢٢ ـ المبادئ التصوريّة

٥٤٠ ـ المصالح المرسلة

٥٢٣ ـ مبادئ الحكم

٥٤١ ـ المعاني الحرفيّة والمعاني الاسميّة

٥٢٤ ـ متعلّق الحكم

٥٤٢ ـ المعقولات الأوليّة

٥٢٥ ـ مثبتات الأمارة والأصل

٥٤٣ ـ المعقولات الثانية

٥٢٦ ـ المجاز

٥٤٤ ـ المفاهيم الأدويّة

٥٢٧ ـ المجاز العقلي

٥٤٥ ـ المفاهيم الإفراديّة

٥٢٨ ـ المجمل والمبين

٥٤٦ ـ المفهوم

٥٢٩ ـ المحصّلات الشرعيّة

٥٤٧ ـ مفهوم الاستثناء

٥٣٠ ـ المحصّلات العقليّة والعاديّة

٥٤٨ ـ مفهوم الحصر

٥٣١ ـ المحمولات الأوّليّة والثانويّة

٥٤٩ ـ مفهوم الشرط

٥٣٢ ـ المحمول بالضميمة

٥٥٠ ـ مفهوم العدد


٥٥١ ـ مفهوم الغاية

٥٧٣ ـ مناسبات الحكم والموضوع

٥٥٢ ـ مفهوم اللقب

٥٧٤ ـ المنطوق

٥٥٣ ـ مفهوم المخالفة

٥٧٥ ـ الموافقة الاحتماليّة

٥٥٤ ـ مفهوم الموافقة

٥٧٦ ـ الموافقة الالتزاميّة

٥٥٥ ـ مفهوم الوصف

٥٧٧ ـ الموافقة القطعيّة

٥٥٦ ـ قاعدة المقتضي والمانع

٥٧٨ ـ موضوع الحكم

٥٥٧ ـ مقدمات الحكمة

٥٧٩ ـ الموضوعات المركّبة

٥٥٨ ـ المقدّمة التوليديّة

٥٨٠ ـ الموضوعات المستنبطة

٥٥٩ ـ مقدّمة الحرام

٥٦٠ ـ المقدّمة الخارجيّة

٥٦١ ـ المقدّمة الداخليّة

٥٦٢ ـ مقدّمة الصحّة

٥٦٣ ـ المقدّمة العقليّة والشرعيّة والعاديّة

٥٦٤ ـ المقدّمة العلميّة

٥٦٥ ـ مقدّمة المستحبّ والمكروه

٥٦٦ ـ المقدّمة المفوتة

٥٦٧ ـ المقدّمة الموصلة

٥٦٨ ـ المقدّمة الوجوبيّة

٥٦٩ ـ المقدّمة الوجوديّة

٥٧٠ ـ الملاك الاقتضائي

٥٧١ ـ الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع

٥٧٢ ـ ملاك الحمل



حرف الميم

٥١٥ ـ المانع الشرعي

عند ما تكون المانعيّة مستفادة بواسطة الدليل الشرعي فإنّ ذلك يكون مصحّحا لإضافة المنع إلى الشرع.

ثمّ إنّ الشيء قد يكون عدمه قيدا للحكم وقد يكون عدمه قيدا لمتعلّق الحكم.

ومثال الأوّل الحيض بالنسبة لوجوب الصلاة فإنّ عدمه أخذ قيدا لوجوب الصلاة ، من هنا يكون الحيض مانعا عن وجوب الصلاة ، فالمكلّف لا يكون مخاطبا بالصلاة عند ما يكون مبتليا بحدث الحيض. وبذلك يتّضح المراد من المانع الشرعي حينما يكون متعلّقا بالوجوب مثلا وأنّه عبارة عن الشيء الذي أخذ عدمه قيدا في الوجوب.

ومثال الثاني لبس الحرير بالنسبة للصلاة ـ والتي هي متعلّق الوجوب ـ فإنّ عدمه أخذ قيدا في صحّة الصلاة ، ولذلك يكون لبس الحرير أثناء الصلاة مانعا من صحّتها.

وهذا ما يقتضي أن يكون المانع الشرعي عبارة عن الشيء الذي أخذ عدمه قيدا في صحّة متعلّق الحكم فيكون المتعلّق فاقدا للصحّة عند ما يكون واجدا للمانع الشرعي.

* * *

٥١٦ ـ الماهية المجرّدة

وهي الماهية بشرط لا ويعبّر عنها بالكلّي العقلي ، وقد أوضحنا المراد


منها تحت عنوان « الكلي العقلي » وكذلك تحت عنوان « اعتبارات الماهية » في القسم الثاني.

* * *

٥١٧ ـ الماهية المخلوطة

وهي الماهية بشرط شيء ، وقد أوضحنا المراد منها في القسم الثالث من « اعتبارات الماهية » وقلنا انّها تنقسم الى قسمين : الماهية الملحوظة معها قيد وجودي ، والماهية الملحوظ معها قيد عدمي ، وكلاهما يعبّر عنه بالماهيّة بشرط شيء إلاّ انّ الاصوليين قد يطلقون على القسم الثاني من الماهية المخلوطة عنوان الماهية بشرط لا.

* * *

٥١٨ ـ الماهيّة المطلقة والمرسلة

وهي الماهيّة اللابشرط القسمي ، وقد ذكرنا لها معنيين تحت عنوان « اللابشرط القسمي ».

* * *

٥١٩ ـ الماهيّة المهملة

قد أوضحنا المراد منها تحت عنوان « اعتبارات الماهيّة » ، وهي الكلّي الطبيعي بنظر السيّد الخوئي رحمه‌الله كما ذكرنا ذلك تحت عنوانه.

* * *

٥٢٠ ـ المبادئ الأحكاميّة

لم نجد في كتب المنطق في حدود اطلاعنا ذكرا للمبادئ الأحكاميّة والتي يفترض أن تكون من أجزاء العلوم مثل المبادئ التصوّريّة والتصديقيّة.

إلاّ انّه ذكر البعض أو احتمل انّ مثل مقدّمة الواجب من المبادئ الأحكاميّة لعلم الاصول ، وقد انكر السيّد الخوئي رحمه‌الله أن تكون ثمّة مبادئ يعبّر عنها بالمبادئ الأحكاميّة إلاّ أن يكون المقصود منها المبادئ التصوّريّة أو التصديقيّة.

إلاّ انّه نسب للسيّد البروجردي رحمه‌الله انّ القدماء يبحثون عن أحكام


المسائل من جهة ما يعاندها ويضادها ومن جهة ما يلازمها ويعبّرون عن البحث من هذه الجهة بالمبادئ الأحكاميّة. فالمبادئ الأحكاميّة بناء على هذا المعنى تكون عبارة عن البحث عن أحكام المسائل من جهة استلزاماتها ومن جهة ما يعاندها ويضادها.

وباعتبار انّ البحث عن مقدّمة الواجب بحث عن الملازمة بين وجوب الشيء والذي هو حكم وبين وجوب مقدّمته باعتبار ذلك تكون مسألة مقدّمة الواجب من المبادئ الأحكاميّة لعلم الاصول ، وبناء على ذلك يكون البحث في مسألة الضدّ بحثا عن المبادئ الأحكاميّة لعلم الاصول ، وذلك لأنّ البحث في مسألة الضدّ بحث عن الملازمة بين وجوب شيء وحرمة ضدّه ، أي هل هناك ملازمة بين ثبوت الوجوب لشيء والذي هو حكم وبين حرمة ضدّه ، وهكذا البحث عن التضادّ بين الأحكام والبحث عن امتناع اجتماع الأمر والنهي فإنّه يمكن اعتبارها بوجه من الوجوه من المبادئ الأحكاميّة.

إلاّ انّه قد يقال انّ المبادئ الأحكاميّة لا تخلو إمّا أن تكون تصديقيّة أو تصوريّة. أمّا انّ المبادئ الأحكاميّة مبادئ تصوريّة فباعتبار انّ البحث عن ملازمات الأحكام ومعانداتها بحث عمّا يتّصل بمحمولات المسائل من جهة بيان حدود المسائل وعوارضها الذاتيّة ويكون البحث عن معاندتها لغرض اعطاء صورة واضحة عنها ، لأنّ بيان المعاند وحدوده يساهم بشكل ما في تصوّر ما يعانده.

وأمّا انّ المبادئ الأحكاميّة مبادئ تصديقيّة فلأنّها قضايا مثبّتة بالدليل في علم آخر وانّها قضايا يقينيّة يستفاد منها كمقدّمات في أقيسة علم من العلوم. فمثلا : الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته مبدأ تصديقي لعلم الفقه ، وذلك لوقوعه كبرى في القياس المنتج للمسألة الفقهيّة.

* * *


٥٢١ ـ المبادئ التصديقيّة

المبادئ التصديقيّة من كلّ علم هي عبارة عن القضايا الثابتة في مرتبة سابقة والمبرهن عليها في علم آخر ويعتمدها علم من العلوم كمقدّمات لأقيسته التي يريد بواسطتها الوصول للنتائج المتّصلة بغرضه.

فالمبادئ التصديقيّة كالمبادئ التصوريّة ليست من مسائل العلم بل هي من مسائل علم آخر ، فمسألة حجيّة خبر الثقة مثلا ليست من مسائل علم الفقه وانّما هي من المبادئ التصديقيّة لعلم الفقه ، وذلك لأنّ علم الفقه يعتمدها كمقدّمة يتوسّل بواسطتها للوصول للنتيجة الفقهيّة.

وبتعبير آخر : انّ مسألة حجيّة خبر الثقة مسألة اصوليّة ، إلاّ انّها مبدأ تصديقي لعلم الفقه ، وذلك لوقوعها كبرى في الأقيسة التي يتوسّل بها علم الفقه للوصول للنتيجة الفقهيّة.

وكذلك مسألة انّ الصعيد هو مطلق وجه الأرض فإنّها مسألة لغويّة إلاّ انّها مبدأ تصديقي لعلم الفقه ، وذلك لوقوعها صغرى للقياس المنتج للمسألة الفقهيّة.

وبذلك يتّضح انّ المبادئ التصديقيّة لكلّ علم يتمّ إثبات حقانيتها في علم آخر ويتلقاها العلم الذي تكون بالنسبة له مبادئ تصديقيّة كأصل موضوعي أو كمصادرة أو كعلم متعارف كما ذكر المناطقة.

فإن كانت المسألة الواقعة مبدأ تصديقيّا لهذا العلم بيّنة وواضحة عبّر عنها بالعلم المتعارف ، وإن لم تكن كذلك فإن اخذت مأخذ التسليم عبّر عنها بالأصل الموضوعي وإلاّ فهي مصادرة.

ثمّ انّه قد يتصدّى العلم لإثبات بعض مبادئه التصديقيّة كمقدّمة لذلك العلم ، وذلك فيما إذا لم تكن المسألة منقّحة ومبرهنة في العلم الذي ينبغي له التصدّي لتنقيحها والبرهنة عليها إلاّ انّ بحثها في هذا العلم لا يصيّرها من مسائله. راجع « المسألة الاصوليّة ».

* * *


٥٢٢ ـ المبادئ التصوريّة

المبادئ التصوريّة من كلّ علم هي المباحث المتصدّية لبيان حدود موضوعات مسائل ذلك العلم وأجزائها وأعراضها الذاتيّة بل كلّ ما يوجب تصوّر تلك الموضوعات.

إلاّ انّ جمعا من الأعلام أفادوا انّ المبادئ التصوريّة لا تختصّ ببيان موضوعات المسائل بل انّها تشمل البحث عن حدود المحمولات وأجزائها وأعراضها وكلّ ما يتّصل بتصوّرها.

وعليه فالبحث مثلا عن معنى الصلاة والحيض والصعيد والكعب والفقير وكذلك البحث عن معنى الوجوب والإباحة والطهارة والنجاسة البحث عن هذه العناوين من هذه الجهة بحث في المبادئ التصوّريّة لعلم الفقه ، وذلك لأنّ مثل الصلاة والحيض من موضوعات مسائل علم الفقه كما انّ الوجوب والإباحة من محمولات مسائل هذا العلم ، فالبحث عن حدودها وأجزائها وأقسامها ولوازمها وكلّ ما يتّصل بتصوّرها بحث في المبادئ التصوريّة لعلم الفقه.

* * *

٥٢٣ ـ مبادئ الحكم

قد أوضحنا المراد منها تحت عنوان « الجعل الشرعي » و « شرائط الجعل والمجعول ».

* * *

٥٢٤ ـ متعلّق الحكم

المراد من متعلّق الحكم هو الفعل الذي وقع مصبّا للحكم ، فمتعلّق الوجوب هو الفعل المطلوب تحصيله ، ومتعلّق الحرمة هو الفعل المطلوب تركه أو قل هو الفعل المزجور عنه ، ومتعلّق الإباحة هو الفعل الذي يكون للمكلّف تركه أو ارتكابه.

ويمكن التمثيل لمتعلّق الوجوب بالصلاة ولمتعلّق الحرمة بشرب الخمر ولمتعلّق الإباحة بشرب الماء ولمتعلّق


الاستحباب بالنافلة ولمتعلّق الكراهة بالنوم بين الطلوعين.

وبذلك يتبيّن أنّ الواجب هو متعلّق الوجوب والحرام هو متعلّق الحرمة والمباح هو متعلّق الإباحة وهكذا.

ويتبيّن أيضا أنّ متعلّق الحكم ينشأ عن الحكم ، بمعنى أنّ الفعل لا يكون واجبا إلاّ حينما يكون مصبّا للوجوب كما لا يكون الفعل حراما إلاّ حينما يكون مصبّا للحكم بالحرمة ، ومعنى ذلك أنّ متعلّق الحكم يقع في طول الحكم خلافا لموضوع الحكم والذي تناط فعليّة الحكم به.

فهو ـ أي الموضوع ـ لا يلزم تحصيله إلاّ أنّه لو اتّفق وجوده فإنّ الوجوب مثلا يصبح بذلك فعليّا وعندها يكون متعلّقه لازم التحصيل.

فوجود الموضوع تنشأ عنه فعليّة الوجوب وحين يصبح الوجوب فعليّا يصبح متعلّقه لازم التحصيل ، هو معنى وقوع المتعلّق في طول الحكم.

هذا فيما يتّصل بالأحكام التكليفيّة ، وأمّا ما يتّصل بالأحكام الوضعيّة فكذلك تجري عليه نفس الضابطة المذكورة وهي كلّ شيء كان مصبّا للحكم وناشئا عنه فهو متعلّق الحكم.

فالصحيح هو متعلّق الحكم بالصحّة والطاهر هو متعلّق الحكم بالطهارة ، وهكذا.

* * *

٥٢٥ ـ مثبتات الأمارة والأصل

قد أوضحنا المراد من ذلك تحت عنوان لوازم الأدلّة.

* * *

٥٢٦ ـ المجاز

يعرّف المجاز عادة : بأنّه استعمال اللفظ في غير ما وضع له ، أي : في معنى ليس ذلك اللفظ موضوعا للدلالة عليه بل إنّ اللفظ الموضوع للدلالة عليه غيره ، كاستعمال لفظ الأسد في الرجل الشجاع ، فإنّ الرجل الشجاع ليس موضوعا له لفظ الأسد.

والمصحّح للمجاز عادة المشابهة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي ،


فالمعنى الذي وضع الواضع اللفظ للدلالة عليه إذا شابهه معنى آخر تكون هذه المشابهة مبرّرة لاستعمال ذلك اللفظ الذي وضع للمعنى المشابه ـ بفتح الباء ـ في المعنى المشابه ـ بكسر الباء ـ وذلك مثل استعمال لفظ السواد للتعبير عن الكراهة وعبوس الوجه ، فإنّ لفظ السواد لم يوضع لذلك وإنما وضع للون من الألوان ، ولكن المشابهة بين معنى لفظ السواد ـ وهو اللون الخاصّ ـ وبين الكراهة وعبوس الوجه سوّغ استعماله في المعنى المشابه للمعنى الموضوع له لفظ السواد ، قال الله تعالى : ( وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ).

ومع اتّضاح هذه المقدّمة نقول : إنّ الوضع يحدث علاقة بين المعنى وبين اللفظ الموضوع للدلالة عليه ، وهذه العلاقة توجب تصوّر المعنى بمجرّد إطلاق اللفظ. ولمّا كان لهذا المعنى ما يشابهه من معان أخرى ـ بحيث تكون هذه المشابهة نحو علاقة موجبة للتقارن في الذهن ـ هذه المشابهة تكون مبرّرا لاستعمال اللفظ في المعنى الآخر المشابه للمعنى الموضوع له اللفظ ، فيكون الاقتران الذهني بين المعنى الموضوع له اللفظ والمعنى المشابه له محقّقا للاقتران بين اللفظ المقترن بمعناه الحقيقي وبين المعنى المشابه والذي هو المعنى المجازي.

وبعبارة أخرى : المشابهة بين معنى ومعنى آخر تولّد اقترانا بين اللفظ الذي هو للمعنى الأوّل وبين المعنى الثاني فتكون المشابهة سببا في نشوء علاقة بين اللفظ والمعنى الثاني إلاّ أنّ هذه العلاقة ليست في استيثاقها واستحكامها كالعلاقة الواقعة بين اللفظ والمعنى الأوّل الموضوع له ذلك اللفظ ، فلذلك عند ما يطلق اللفظ يكون المنسبق منه إلى الذهن هو المعنى الأوّل ، بل إنّ استحكام العلاقة بين المعنى واللفظ الموضوع لذلك المعنى توجب انسباق المعنى الأوّل من اللفظ حتّى في موارد العلم بعدم إرادته وقد بيّنّا ذلك في محلّه.

إذن العلاقة بين اللفظ والمعنى


المجازي في طول العلاقة بينه وبين المعنى الحقيقي ، نعم عند ما نستعمل اللفظ في المعنى الثاني المجازي مع القرينة تكون دلالة اللفظ بإضافة القرينة على المعنى المجازي دلالة فعلية يمكن الاعتماد عليها.

* * *

٥٢٧ ـ المجاز العقلي

ذكر السكّاكي أنّ هناك مجازا يمكن تسميته بالمجاز العقلي ، وهذا المجاز غير المجاز في الكلمة ، إذ أنّ المجاز في الكلمة هو أنّ تستعملها في غير المعنى الموضوع لها كاستعمال لفظ الحجر في الحديد الصلب.

أمّا المجاز العقلي فهو أن نفترض أنّ المعنى المجازي مصداق حقيقي لمعنى ذلك اللفظ ، وهذا الافتراض ينشأ عن عناية نفسانيّة يعتبر فيها المفترض ـ بصيغة الفاعل ـ المعنى المجازي أحد أفراد المعنى الحقيقي للفظ ، فكأنّما المعنى المجازي فرد من أفراد المعنى الحقيقي ، فالتصرّف هنا لم يقع على الكلمة وإنّما هو في تطبيقها على المعنى المفترض « المجازي » فكأنّما يقول : « اعتبرت هذا المعنى المجازي فردا من أفراد المعنى الحقيقي » وهذا النوع من المجاز أبلغ في التشبيه من المجاز في الكلمة.

وبتعبير آخر : إنّ المجاز العقلي هو عبارة عن تنزيل المعنى المجازي منزلة المعنى الحقيقي ، ومثال ذلك : تنزيل الرجل الشجاع منزلة الفرد من الأسد.

وهذا هو معنى تحويل المجاز إلى حقيقة المعبّر عنه بالمجاز العقلي.

* * *

٥٢٨ ـ المجمل والمبين

وقد أوضحنا المراد منهما تحت عنوان « الإجمال » و « اجمال النصّ » و « اجمال المخصّص ».

* * *

٥٢٩ ـ المحصّلات الشرعيّة

المحصّل للشيء هو المحقّق للشيء والموجد له ، وعليه فالمحصّلات هي


الأسباب بالنسبة لمسبّباتها.

والمحصّلات الشرعيّة هي الأمور التي اعتبرها الشارع أسبابا لوجود أمور أخرى ، فالغسلة أو الغسلات الثلاث للمتنجّس اعتبرها الشارع سببا للطهارة من الخبث ، لذلك تكون الغسلات من المحصّلات الشرعيّة.

وهكذا الحال بالنسبة للاستنجاء بالأحجار فإنّ الشارع اعتبرها سببا للطهارة من الغائط.

والبحث عادة فيما يتّصل بالمحصّلات الشرعيّة وكذلك العقليّة والعاديّة يكون حول ما هو الأصل الجاري عند الشكّ في المحصّل وهل هو الاشتغال أو البراءة؟

فمثلا لو وقع الشكّ في محصّليّة العصر للطهارة من الخبث بالإضافة إلى الغسلات فهل يكون الأصل الجاري هو البراءة أو الاشتغال؟ وهل أنّ المحصّل الشرعي ممّا تناله يد الجعل أوّلا؟ وهل هناك فرق بين المحصّل الشرعي والمحصّل العقلي والعادي من هذه الجهة؟

وبحث كلّ ذلك خارج عن غرض الكتاب.

* * *

٥٣٠ ـ المحصّلات العقليّة والعاديّة

المراد من المحصّلات العقليّة هي الأسباب التوليديّة المنتجة جزما لمعلولاتها ، وعليه يكون الإحراق مثلا محصّلا عقليّا للاحتراق ، وذلك لأنّه سبب توليدي للاحتراق ، أي أنّه علّة تامّة لمعلوله ، فلا يمكن للاحتراق أن يتخلّف بعد افتراض وقوع الإحراق.

وأمّا المحصّلات العاديّة فهي الأسباب التي عادة ما يترتّب على وقوعها وقوع نتائجها. ومثال ذلك الإلقاء من شاهق فإنّه عادة ما ينتج القتل. ولذلك يكون الإلقاء محصّلا عاديّا للقتل.

والبحث الأصولي فيما يتّصل بهذا العنوان عادة ما يكون حول الشكّ في المحصّل ، وهل أنّ الأصل الجاري في مثل هذا الفرض هو البراءة أو الاشتغال.

مثلا : لو حكم الشارع على أحد


بالقتل بوسيلة لا تتخلّف ، فحينئذ لو وقع الشكّ في أنّ الإلقاء من شاهق هل ينتج قطعا وقوع القتل أو لا. فهذا من الشكّ في المحصّل العقلي ، والمعروف بينهم أنّ الأصل الجاري في المقام هو الاشتغال فلا بدّ من التماسّ وسيلة أخرى نقطع بمحصّليّتها للقتل.

وأمّا مثال الشكّ في المحصّل العادي فهو ما لو حكم الشارع بوجوب إنقاذ الغريق ووقع الشكّ في أنّ رمي الحبل له هل يحصّل الإنقاذ أو لا؟

فهل الأصل الجاري في الفرض المذكور هو البراءة فلا يجب عليه التوسّل بوسيلة أخرى أو أنّ الأصل هو الاشتغال فيلزمه التوسّل بما يحرز معه حصول الإنقاذ؟ المعروف بينهم هو جريان أصالة الاشتغال في مثل الفرض المذكور.

* * *

٥٣١ ـ المحمولات الأوّليّة والثانويّة

راجع ما ذكرناه تحت عنوان الاستصحاب في المحمولات الثانويّة.

٥٣٢ ـ المحمول بالضميمة

المراد من المحمول بالضميمة هو ما يقابل الذاتي في باب البرهان حيث قلنا انّ الذاتي في باب البرهان هو المحمول الخارج عن الموضوع اللازم له على أن يكون اللزوم ناشئا عن مقام الذات للموضوع ، وأمّا المحمول بالضميمة فهو المحمول الخارج عن ذات الموضوع ويكون ثبوته للموضوع ناشئا عن واسطة خارجيّة في الثبوت ، بمعنى انّ ثبوت المحمول بالضميمة للموضوع ليس من مقتضيات الموضوع وانما هو معلول لعلّة خارجة عن ذات الموضوع.

ومثاله : « زيد عالم » و « زيد أبيض » فإنّ ثبوت العالميّة لزيد لا تقتضيه ذات زيد بل هو ناشئ عن علّة خارجة عن ذات زيد وهكذا الكلام في ثبوت البياض لزيد.

* * *


٥٣٣ ـ المخالفة القطعيّة والاحتماليّة

يطلق عنوان المخالفة القطعيّة عادة على ترك جميع أطراف التكليف المعلوم بالإجمال والذي ينتج القطع بعدم الامتثال وبوقوع المعصية للتكليف ، وأمّا المخالفة الاحتماليّة فهو ترك بعض أطراف التكليف المعلوم بالإجمال ، والذي ينتج عن احتمال عدم الامتثال.

فحينما يعلم المكلّف بحرمة هذا السائل أو ذاك فيشربهما معا فإنّه يكون قد خالف التكليف الواقعي جزما ، وهكذا عند ما يعلم إجمالا بوجوب أحد الفعلين فيتركهما معا.

وأمّا لو شرب أحد السائلين دون الآخر في المثال الأوّل وترك أحد الفعلين دون الثاني في المثال الآخر فإنّه قد يكون قد خالف التكليف المعلوم بالإجمال احتمالا ، وذلك لاحتمال أنّ الذي شربه في المثال الأوّل هو الحرام ، وأنّ الذي تركه في المثال الثاني هو الواجب.

٥٣٤ ـ المخصّص والمقيّد

المخصّص هو المخرج لبعض الأفراد عن عموم الحكم المفاد بواسطة اللفظ.

فحينما يكون الخطاب مشتملا على لفظ دالّ على عموم الحكم لأفراد موضوعه أو متعلّقه ثمّ يأتي ما يكشف عن خروج بعض هذه الأفراد عن عموم الحكم فإنّ ذلك الكاشف عن خروج بعض الأفراد هو المعبّر عنه بالمخصّص.

وأمّا المقيّد فهو لا يختلف عن معنى المخصّص إلاّ من جهة منشأ دلالة الخطاب على العموم ، فالمخرج لبعض الأفراد عن عموم الحكم يكون مخصّصا عند ما تكون دلالة الخطاب على العموم مفادة بواسطة اللفظ ، أمّا حينما تكون دلالة الخطاب على العموم مفادة بواسطة قرينة الحكمة فالمخرج لبعض الأفراد عن عموم الحكم يكون مقيّدا.

فعند ما يكون الخطاب مثلا ( أكرم كلّ عالم إلاّ أن يكون فاسقا ) فإنّ أداة


الاستثناء تكون مخصّصا ، وذلك لأنّ استفادة العموم للحكم بوجوب الإكرام قد تمّ بواسطة اللفظ ( كلّ ).

أمّا حينما يكون الخطاب ( أكرم العالم إلاّ أن يكون فاسقا ) فإنّ أداة الاستثناء تكون مقيّدا ، وذلك لأنّ استفادة العموم للحكم قد تمّت بقرينة الحكمة.

ثمّ إنّ المخصّص وكذلك المقيّد قد يكون متّصلا وقد يكون منفصلا ، وكلّ منهما قد يكون بمخصّص أو مقيّد لفظي أو يكون بمخصّص أو مقيّد لبّي.

وقد أوضحنا ذلك تحت عنوان القرينة المتّصلة والمنفصلة واللبّيّة وتحت عنوان التخصيص بالمخصّص المتّصل والمنفصل اللبّي.

* * *

٥٣٥ ـ المسألة الاصوليّة

المراد من المسألة من كلّ علم هي ما يبحث عن ثبوت محمولها لموضوعها في ذلك العلم.

ومن هنا يتّضح خروج المبادئ التصديقيّة عن مسائل العلم ، فالمبادئ التصديقيّة وان كانت مسألة من المسائل وقضيّة من القضايا إلاّ انّها مسألة من مسائل علم آخر أي يتمّ إثباتها في علم آخر ، غايتها انّ هذا العلم يستعملها كمقدّمات في أقيسته المنتجة للنتائج المتّصلة به أو قل يستعملها كبريات أو صغريات في أقيسته المنتجة لمسائله وإلاّ فهي مسائل لعلوم اخرى.

فالفرق بين المبدا التصديقي والمسألة هو انّ المبدا التصديقي عبارة عن قضايا يتمّ بحثها في علوم اخرى ويأخذها علم آخر كاصول موضوعيّة يستفيد منها لإثبات مطالبه ومسائله.

وأمّا المسألة فهي القضيّة التي يتمّ بحثها في هذا العلم ، نعم لا يكون بحث قضيّة في علم وحده معبّرا عن كون هذه القضيّة من مسائل هذا العلم ، إذ قد تبحث قضيّة من غير مسائل العلم ـ وانّما هي من مبادئه التصديقيّة ـ باعتبار انّ هذه القضيّة لم يتمّ تنقيحها


بصورة تامة في العلم الذي ينبغي له التصدي لبحثها ، فهذا العلم المعيّن انّما يبحثها استطرادا لتصبح بعد ذلك مبدأ تصديقيّا يعتمده كمقدّمة للوصول الى مطالبه ومسائله.

ولمزيد من التوضيح نذكر هذا المثال وهو قضيّة انّ الدور مستحيل فإنّ هذه القضيّة مسألة من مسائل الفلسفة ، وذلك لأنّ البحث عن ثبوتها والبرهنة عليه انّما يتمّ في ذلك العلم ، فلو استفاد منها علم آخر كمقدّمة لأقيسته المنتجة لمطالبة ومسائله فإنّها تكون مبدأ تصديقيا لهذا العلم ، ولو اتّفق انّ هذه القضيّة لم تنقح بالمقدار الذي تستحقّه في علم الفلسفة وتصدّى هذا العلم الآخر كعلم الكلام أو علم الاصول للبرهنة عليها فإنّ ذلك لا يصيّر هذه القضيّة من مسائل علم الكلام أو الاصول.

ومن هنا نحتاج إلى إضافة شيء الى ضابطة المسألة وهو انّ القضيّة لا تكون من مسائل علم إلاّ أن يكون موضوعها هو موضوع ذلك العلم أو يكون متحدا معه وجودا وان كان مغايرا لموضوع العلم مفهوما ، فيكون الاتحاد بينهما كاتّحاد الكلّي مع مصاديقه خارجا ويكون محمولها أحد العوارض الذاتيّة لموضوع العلم ، فإذا كانت القضيّة متوفّرة على أحد هذين القيدين فهي من مسائل ذلك العلم.

إلاّ انّه في مقابل هذا المبنى هناك من ذهب الى انّ ضابطة المسألة هي أن تكون داخلة في الغرض الذي اسّس من أجله ذلك العلم ، وهذا المبنى ناشئ عن دعوى عدم لزوم انّ لكلّ علم موضوع يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة ، وعليه يكون ضابطة اعتبار قضيّة من القضايا من مسائل علم هو دخولها في الغرض الذي من أجله اسّس ذلك العلم ، وهذا لا يعني دخول المبادئ التصديقيّة في العلم ، إذ انّها خارجة عن غرض العلم وتستعمل في العلم كوسائل يتوسّل بها للوصول الى مطالب العلم ومسائله الدخيلة في الغرض ، فلا فرق بين المبنيين من هذه الجهة.


وبما ذكرناه يتّضح المراد من المسألة الاصوليّة ، وانّها عبارة عن القضايا التي يتمّ اثباتها والبرهنة عليها في علم الاصول ، على أن يكون موضوعها هو موضوع علم الاصول أو ما يتّحد معه خارجا ويكون محمولها أحد العوارض الذاتيّة لموضوع علم الاصول ، أو تكون هي القضايا الداخلة في الغرض الذي من أجله اسّس علم الاصول.

وأمّا ضابطة المسألة الاصوليّة فهي تختلف باختلاف المباني في تعريف علم الاصول وما هو موضوعه ، فهنا مجموعة من الاتّجاهات نذكر بعضها :

الاتّجاه الأوّل : انّ المسألة الاصوليّة هي كلّ قاعدة تمهّد لاستنباط الحكم الشرعي ، لاحظ عنوان « علم الاصول » فقد شرحنا المراد من هذه الضابطة هناك.

الاتّجاه الثاني : هي المسألة التي تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي بنفسها دون الحاجة لأن تنضمّ إليها كبرى اصوليّة اخرى ، وبهذا تخرج مسائل علم النحو مثلا ومسائل علم الرجال ، فإنّها وان كانت تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي إلاّ انّها لا تنتج الحكم الشرعي إلاّ أن تنضم إليها كبرى اصوليّة ، وهذا بخلاف المسألة الاصوليّة فإنّها لا تحتاج الى ان تنضم اليها كبرى اصوليّة ، نعم هي تحتاج إلى ان تنضم اليها صغريات من علوم اخرى لغرض الوصول الى النتيجة الفقهيّة.

فكلّ مسألة تساهم في استنباط حكم شرعي إلاّ انّها تحتاج الى ان تنضم اليها كبرى اصوليّة فهي ليست مسألة اصوليّة ، أمّا لو كانت تساهم في استنباط الحكم الشرعي وكانت كبرى في القياس المنتج للحكم الشرعي فهي مسألة اصوليّة ، وقد شرحنا ذلك ومثلنا له في التعريف الثاني لعلم الاصول.

الاتّجاه الثالث : انّ المسألة الاصوليّة عبارة عن القواعد المشتركة في الاستدلال الفقهي على الجعل الشرعي ، وهو ما تبناه السيّد


الصدر رحمه‌الله ، وقد أوضحنا المراد من ذلك في تعريف علم الاصول.

* * *

٥٣٦ ـ مسألة مقدّمة الواجب

المراد من مقدّمة الواجب هي المقدّمة التي يتوقّف ايجاد الواجب عليها دون أن تكون دخيلة في ايجاب الواجب ، وهذا هو الذي يميّزها عن مقدّمات الوجوب ، إذ انّ المقدّمات الوجوبيّة دخيلة في ايجاب الواجب.

ومنشأ ذلك هو انّ مقدّمات الوجوب هي المصحّحة لاشتمال الفعل ـ الذي يراد جعل الوجوب عليه ـ على الملاك بحيث لو لم يتوفّر الفعل على هذه المقدّمات والشروط لما كان واجدا للملاك الموجب لجعل الوجوب عليه ، وهذا بخلاف مقدّمات الواجب ، فإنّها لا تكون دخيلة في اشتمال الواجب والذي هو متعلّق الوجوب ـ على الملاك المصحّح لجعل الوجوب عليه ، ومن هنا يكون الوجوب ثابتا للواجب بقطع النظر عن مقدّمات ايجاده وتحصيله.

ثمّ انّ البحث عن مقدّمات الواجب ليس بحثا عن عليّتها الواقعيّة التكوينيّة لتحصيل الواجب ، إذ انّ افتراض مقدميتها يلغي هذا البحث ، كما انّه ليس بحثا عما يدركه العقل من عدم معذوريّة المكلّف عند ترك ذي المقدّمة بسبب ترك مقدّماتها ، إذ انّ ذلك ليس محلا للنزاع بينهم ، على انّهم متفقون على انّ الوجوب لو كان ثابتا لمقدّمات الواجب لما وكان وجوبا نفسيا استقلاليا ، لأنّ الوجوب النفسي الاستقلالي منوط بملاحظة المقدّمات إمّا بنحو تفصيلي أو لا أقلّ اجمالي وجعل الوجوب المولوي عليها ، بمعنى انّ جعل الوجوب على ذي المقدّمة لا يلازم الالتفات الى المقدّمات واعتبارها واجبة ، بل قد لا تكون مقدّمات الواجب معروفة بالنسبة لجاعل الوجوب على ذي المقدّمة.

فمحلّ البحث إذن هو انّه هل يثبت لمقدّمات الواجب وجوب مولوي


ارتكازي ، بمعنى انّه لو التفت الى هذه المقدّمات لكان قد جعل الوجوب عليها أو لا؟

ثمّ انّ بحث مقدّمات الواجب ليس بحثا لفظيا كما هو المستظهر من عبائر صاحب المعالم رحمه‌الله ، إذ ليس البحث عنها مقتصرا على البحث عن وجود دلالة التزاميّة بين ايجاب الشيء وايجاب مقدّماته بل البحث في المقام عن وجود ملازمة بين ايجاب شيء وايجاب مقدّماته ، وهل العقل يدرك هذه الملازمة ، أي الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّماته شرعا.

وبهذا يتّضح انّ مسألة مقدّمة الواجب من المباحث الاصوليّة العقليّة والتي هي من قسم غير المستقلاّت العقليّة.

* * *

٥٣٧ ـ المستقلات العقليّة

المراد من المستقلاّت العقليّة في مصطلح الاصوليّين هو القضايا العقليّة المدركة بواسطة العقل العملي. ومنشأ التعبير عنها بالمستقلاّت العقليّة هو انّها من القضايا العقليّة التي تقع في طرق استنباط الحكم الشرعي دون الحاجة الى ان تنضم إليها مقدّمة شرعيّة ، فالاستقلاليّة بلحاظ المقدّمات الشرعيّة ، وذلك في مقابل غير المستقلاّت العقليّة ، كالاستلزامات العقليّة التي يكون الاستفادة منها في الاستنباط للحكم الشرعي منوطا بانضمامها الى مقدّمة شرعيّة.

فالاستقلاليّة إذن من جهة الاستغناء عن المقدّمة الشرعيّة في مقام التوسّل بها للوصول الى النتيجة الفقهيّة لا من جهة استغنائها عن كلّ مقدّمة ولو لم تكن شرعيّة.

ومثال المستقلاّت العقليّة هو ما يدركه العقل من حسن العدل وقبح الظلم ، فإنّ هذه القضيّة يمكن التوسّل بها للوصول الى الحكم الشرعي دون الحاجة الى مقدّمة شرعيّة ، نعم المستقلاّت العقليّة بهذا المعنى لا


يتوصّل بها للحكم الشرعي إلاّ أن تنضم اليها قضيّة عقليّة من قسم المدركات العقليّة النظريّة سواء كان البناء هو تطبيق هذه القضايا المستقلّة على فعل المكلّف أو كان البناء تطبيقها على أفعال المولى جلّ وعلا.

فمثلا قضيّة « قبح الظلم » والتي هي من المستقلاّت العقليّة المدركة بالعقل العملي يمكن التوسل بها للوصول الى حكم شرعي وهو حرمة ضرب اليتيم تشفيا إلاّ انّ هذه الحرمة الشرعيّة لا تثبت بمجرّد إدراك العقل بكون ضرب اليتيم تشفيا ظلما بل لا بدّ من انضمام مقدّمة عقليّة نظريّة ، وهي الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، فمع تماميّة هذه القضيّة تثبت الحرمة الشرعيّة لضرب اليتيم تشفيا وإلاّ لم يكن من الممكن اثبات الحرمة الشرعيّة بالقضيّة الاولى وحدها.

وأمّا ما يتّصل بتطبيق القضيّة العقليّة العمليّة المستقلّة على أفعال المولى جلّ وعلا فكما لو أدرك العقل قبح ترخيص المولى للظلم ، فإنّ ذلك وحده لا ينتج القطع بعدم صدور الترخيص من المولى للظلم ، فلا بدّ للوصول لهذه النتيجة ـ وهي عدم صدور الترخيص للظلم من المولى ـ من انضمام مقدّمة عقليّة نظريّة وهي استحالة صدور القبيح من الحكيم جلّ وعلا ، فمع تماميّة هذه المقدّمة تثبت النتيجة المذكورة.

والمتحصّل انّ مدركات العقل العملي المعبّر عنها بالمستقلاّت العقليّة لا تنتج الحكم الشرعي إلاّ مع انضمامها مع مقدّمة عقليّة من قسم المدركات العقليّة النظريّة ، هذا ما ذهب إليه المشهور في مقام تعريف المستقلاّت العقليّة ، وقد ذكر السيّد الصدر رحمه‌الله انّ المناسب الحاق موردين بالمستقلاّت العقليّة :

المورد الأوّل : هو ما لو أدرك العقل نوع العلل التي يترتّب عليها الحكم الشرعي ثم أدرك انّ هذا الشيء من نوع تلك العلل ، فإنّه وبواسطة البرهان اللمي يصل إلى الحكم الشرعي.


ومثاله : ما لو أدرك العقل انّ أحكام الله تعالى تابعة للمصالح والمفاسد ، ثمّ أدرك اشتمال فعل على مصلحة تامّة غير مزاحمة ، فهنا لا محالة يستكشف العقل وبواسطة البرهان اللمي ثبوت الحكم الشرعي.

وتلاحظون انّ إدراك العقل للمصلحة لا يتّصل بالعقل العملي ، كما انّ إدراكه لعلّيّة المصلحة للحكم الشرعي لا يتّصل كذلك بالعقل العملي ومع ذلك أمكن الوصول الى الحكم الشرعي ودون الحاجة الى انضمام مقدّمة شرعيّة ، ومن هنا ناسب أن يكون هذا المورد من المستقلاّت العقليّة.

المورد الثاني : وهو إدراك العقل لعلّية الحكم الشرعي لشيء ، فلو أدراك العقل بعد ذلك وجود معلول الحكم الشرعي لكان ذلك موجبا لاستكشاف الحكم الشرعي بواسطة البرهان الإنّي.

ومثاله : إدراك العقل لعلّيّة الحكم الشرعي لانعقاد السيرة المتشرعيّة ، أي انّ السيرة المتشرعيّة لا تنعقد على حكم لو لا تلقي ذلك عن الشارع ، فلو أحرزنا وجود سيرة متشرعيّة فإنّ ذلك معناه احراز معلول الحكم الشرعي ، ومع احراز معلول الحكم الشرعي نستكشف بواسطة الإن الحكم الشرعي.

وبيان آخر : لو أدرك العقل انّ صدور الحكم الشرعي هو علّة انعقاد السير المتشرعيّة ، وذلك بواسطة قانون حساب الاحتمالات ، فهذا معناه انّ السيرة المتشرعيّة معلولة للحكم الشرعي المتلقى عن المعصوم ، وحينئذ لو اتّفق إحراز سيرة متشرعيّة على شيء فإنّه يمكن بضمّ كبرى علّيّة الحكم الشرعي لانعقاد السيرة المتشرعيّة الى السيرة المحرزة فعلا يمكن استنتاج الحكم الشرعي ، وهذا هو البرهان الإنّي والذي هو عبارة عن استكشاف وجود العلّة بواسطة وجود المعلول ، فنحن حينما أحرزنا وجود المعلول والذي هو السيرة المتشرعيّة أحرزنا بذلك


وجود الحكم الشرعي والذي هو العلّة.

وتلاحظون انّ هذا المورد أيضا لا يفتقر المدرك العقلي فيه للوصول الى الحكم الشرعي الى أن تنضمّ اليه مقدّمة شرعيّة رغم انّه ليس من المدركات العقليّة العمليّة.

* * *

٥٣٨ ـ مسقطات التكليف

المراد من سقوط التكليف هو أحد معنيين :

الأوّل : هو سقوط أصل الجعل ، أي ارتفاعه بعد أن كان ثابتا وهذا ما يساوق معنى النسخ ، وينشأ ذلك عادة عن انتفاء الملاك عن متعلّق الحكم بعد أن كان واجدا له ، وواقع الأمر أنّ أمد الملاك كان محدّدا بزمان إلاّ أنّ الحكم جاء مطلقا من حيث الزمان لأسباب اقتضتها الإرادة الإلهيّة.

الثاني : هو سقوط فاعليّة التكليف ومحرّكيّته فلا يكون التكليف بعد سقوطه بهذا المعنى قابلا للبعث نحو متعلّقه أو الزجر عنه.

وعليه يكون المراد من التكليف بهذا المعنى هو الحكم بمرتبة المجعول والفعليّة.

وباتّضاح معنى السقوط نقول : إنّه بالمعنى الأوّل لا يكون للتكليف إلاّ مسقط واحد وهو النسخ ، وأمّا بالمعنى الثاني فمسقطات التكليف ثلاثة :

المسقط الأوّل : استيفاء ملاك التكليف بواحد من وسائله منها : الاتيان بمتعلّق التكليف لو كان التكليف بنحو الوجوب أو الاستحباب وترك متعلّق التكليف لو كان التكليف بنحو الحرمة أو الكراهة. فحينما يكون متعلّق الوجوب هو الصلاة فإنّ الإتيان بها يكون موجبا لاستيفاء الملاك الكامن في متعلّق التكليف وبذلك يستوفى الغرض من التكليف وحينئذ يكون ذلك منتجا لسقوط التكليف بمعنى سقوط فاعليّته ، إذ لا معنى لفاعليّته ومحرّكيّته بعد استيفاء الملاك.

وهكذا لو كان الحكم هو الاستحباب فإنّ الإتيان بمتعلّقه ينتج


استيفاء الملاك فيسقط بذلك الحكم بالاستحباب أي تسقط فاعليّته.

وأمّا حينما يكون الحكم هو الحرمة ويكون متعلّقه مثلا هو السفر يوم الجمعة فترك السفر في يوم الجمعة ينتج استيفاء الملاك فيسقط بذلك التكليف.

ومنها : الإتيان بما يعادل متعلّق التكليف في الوفاء بالملاك ، وذلك كما لو ثبت أنّ الإطعام يقوم مقام العتق في الوفاء بالملاك ، فإنّ الإتيان بالإطعام عندئذ يكون موجبا لسقوط التكليف بالعتق ، وذلك لاستيفاء الغرض من جعله بواسطة الإتيان بما يعادله.

وهذا المقدار لا إشكال فيه ، إنّما الإشكال فيما به يمكن التعرّف على ما يعادل التكليف في الوفاء بالملاك ، والصحيح أن لا طريق لذلك سوى الشارع المقدّس ، فهو الوحيد العارف بملاكات أحكامه وبالمتعلّقات الواجدة لها.

فحينما يأمر مثلا بفعل ثمّ يأذن بتركه عند الإتيان بفعل معيّن ، فإنّ ذلك يعبّر عن أنّ الفعل الآخر واجد لملاك التكليف في الفعل الأوّل وأنّ الإتيان به منتج لاستيفاء الملاك الكامن في الفعل الأوّل.

ومنها : الإتيان بما يفي بالجزء الأكبر من ملاك الحكم ويكون الجزء الباقي غير ممكن التحصيل ، فحينئذ يكون الاستيفاء لمعظم الملاك منتجا لسقوط التكليف إلاّ أنّ ذلك لا يتمّ إلاّ باستظهار الإجزاء من دليل الأمر الاضطراري ، وقد أوضحنا ذلك في بحث الإجزاء.

المسقط الثاني : هو انتفاء موضوع التكليف ، فإنّه لا معنى لبقاء فاعليّة التكليف بعد افتراض سقوط موضوعه.

مثلا : لو كان موضوع وجوب صلاة الصبح هو ما بين الطلوعين ، فإنّ انتهاء هذا الوقت قبل أداء الصلاة نتيجة الغفلة مثلا ينتج سقوط الوجوب ، وهكذا لو انتهى شهر رمضان وقد ترك المكلّف صيامه جهلا فإنّ التكليف بصيامه بعدئذ يسقط


لسقوط موضوعه ، وأمّا الأمر بقضائه فهو تكليف جديد ، وكذلك يمكن التمثيل بطروّ العجز عن الامتثال فإنّه مسقط لفعليّة التكليف ، وذلك لأنّ القدرة من قيود التكليف فحين تنتفي يسقط معها التكليف.

المسقط الثالث : هو المعصية ، وذلك بأن يترك المكلّف امتثال التكليف اختيارا إلى أن ينتفي موضوعه.

فحينما يترك المكلّف المستطيع أداء مناسك الحجّ في الموسم اختيارا فإنّ التكليف بعد انتهاء وقت الحجّ يكون ساقطا فلا محرّكيّة له بعد الموسم نظرا لانتفاء الموضوع. وهكذا لو قتل المكلّف شخصا فإنّه لا معنى لبقاء فاعليّة التكليف بحرمة قتله لأنّ موضوع حرمة القتل هو ذلك الشخص وقد انتفى.

* * *

٥٣٩ ـ المشتقّ

المراد من المشتقّ في اصطلاح الأصوليّين هو كلّ عنوان يصحّ حمله على الذات بشرط أن لا يكون ذاتيّا لتلك الذات.

ومثاله : عنوان العالم فإنّه عنوان يصحّ حمله على الذات مثل زيد فيقال زيد عالم ، ومن الواضح أنّ عنوان العالم ليس ذاتيّا لزيد بل هو وصف يمكن اتّصاف زيد به ويمكن أن لا يتّصف به ، وإذا اتّصف به يمكن لهذا الوصف أن يزول عنه بعد حين.

ولكي يتّضح المراد من مصطلح المشتقّ الأصولي أكثر نقول : إنّه يشترط في صدقه على شيء أمران :

الأوّل : أن يصحّ حمله على الذات فيكون عنوانا لتلك الذات ، وبذلك تخرج المصادر لأنّه لا يصحّ حملها على الذات فلا يقال زيد علم وبكر قدرة ، وتخرج الأفعال أيضا لأنّها وإن كان يصحّ إسنادها إلى الذات فيقال زيد يضرب إلاّ أنّها ليست عنوانا للذات بمعنى أنّه لا يمكن إطلاقها على الذات ، فلا يطلق على زيد لفظ يضرب ولكن يمكن أن يقال له ضارب فيعنون زيد بعنوان ضارب.


وبذلك يتبيّن أنّ اسم الفاعل واسم المفعول واسم الآلة كلّها مشمولة لعنوان المشتقّ لصحّة حملها على الذات ولأنّها تصلح أن تكون عنوانا للذات ، ويتبيّن أيضا أنّ مثل الزوج والذكر والأنثى يدخل تحت عنوان المشتقّ وإن كانوا من الجوامد في اصطلاح النحاة ، وذلك لصحّة حملها على الذات وصيرورتها عنوانا لها ، فيقال زيد زوج ، وهذه زوجة ، وبكر ذكر ، ودعد أنثى.

الثاني : أن لا يكون زواله عن الذات مساوقا لزوال الذات ، وهذا هو معنى أن لا يكون ذاتيّا للذات ، لأنّه لو كان ذاتيّا لها فإنّ معنى ذلك أنّ زوال ذلك العنوان عن الذات مساوق لزوال الذات.

والمراد من الذاتي هو الذاتي في باب الكليّات ( الإيساغوجي ) وهو الجنس والنوع والفصل. فلا بدّ في صدق المشتقّ على العنوان المحمول على الذات أن لا يكون جنسا أو فصلا أو نوعا.

فحينما يقال زيد حيوان أو زيد إنسان أو زيد ناطق ، فإنّ الحيوان هو جنس زيد والإنسان نوعه والناطق فصله ، ولذلك لا تكون هذه العناوين من المشتقّ بسبب أنّ كلّ واحد منها ذاتي لذات زيد ، بمعنى أنّ ذات زيد تتقوّم بتلك العناوين ، ولذلك فإنّ زوال الحيوانيّة عن زيد يساوق زوال زيد نفسه ، وهكذا لو زالت الإنسانيّة أو الناطقيّة عن زيد.

وأمّا لما ذا اعتبر هذان الشرطان في صدق عنوان المشتقّ فذلك يتّضح من تحرير محلّ النزاع ، وبيان ذلك :

لو قال المولى : ( أكرم الرجل الفقير ) فإنّ الرجل بالإضافة إلى عنوان الفقير يمكن أن نتصوّر له ثلاث حالات :

الحالة الأولى : أن يكون متّصفا بالفقر فعلا.

الحالة الثانية : أن يكون قد اتّصف بالفقر ثمّ زال عنه الاتّصاف به.

الحالة الثالثة : أن لا يكون متّصفا بالفقر فعلا ولم يكن متّصفا به سابقا إلاّ أنّه سيتّصف بعنوان الفقر فيما بعد.


أمّا حكم الرجل في الحالة الأولى فهو وجوب إكرامه بلا ريب ، وذلك لصدق عنوان الفقير عليه بلا إشكال.

وأمّا حكم الرجل في الحالة الثالثة فهو عدم وجوب إكرامه بلا ريب أيضا ، لعدم صدق إطلاق عنوان الفقير عليه إلا بنحو من التجوّز.

وأمّا حكم الرجل في الحالة الثانية فهو محلّ النزاع ، وذلك للاختلاف في صحّة إطلاق عنوان الفقير على من كان فقيرا ثمّ انقضى عنه التلبّس بالفقر.

إذن موضع النزاع هو في صحّة إطلاق المشتقّ على الذات التي انقضى عنها التلبّس بالمبدإ ( الوصف ) ، أو بتعبير أدقّ هل إنّ حمل المشتقّ على الذات التي انقضى عنها التلبّس بالمبدإ حمل حقيقي أو مجازي؟

وباتّضاح محلّ النزاع يتّضح منشأ اعتبار الشرطين في صدق المشتقّ.

أمّا الشرط الأوّل فنّه لو لم يصحّ حمل العنوان عن الذات فلا معنى للبحث عن أنّ الحمل حقيقي أو مجازي.

وأمّا الشرط الثاني فنّ البحث هو عن حكم الذات بعد انقضاء التلبّس بالمبدإ عنه ، وهذا يقتضي إمكانيّة بقاء الذات مع افتراض انقضاء تلبّسها بالمبدإ ، فلو كان العنوان المحمول على الذات ذاتيّا لها فلا معنى للبحث عن حكمها بعد انتفاء العنوان عنها ، لأنّ انتفاء العنوان الذاتي عنها يساوق انتفاءها.

* * *

٥٤٠ ـ المصالح المرسلة

اختلف علماء السنّة في تعريف الاستصلاح والمصالح المرسلة كما اختلفوا في حجّيّته وأنّه من مصادر التشريع أو لا ، والظاهر أنّ منشأ الاختلاف في التعريف هو الاختلاف في مقدار ما تثبت له الحجّيّة عند من يقول بحجّيّة المصالح المرسلة في الجملة ونحن هنا سنوضّح المهمّ من هذه التعريفات مبتدءين بأوسعها نطاقا :

الأوّل : هو الإفتاء والتشريع وفق ما يقتضيه جلب المنفعة أو دفع


المفسدة إذا لم يكن ثمّة نصّ خاصّ أو إجماع ينفيه أو يثبته.

الثاني : هو الإفتاء والتشريع وفق ما يقتضيه النفع العامّ أو دفع المفسدة العامّة إذا لم يكن ثمّة نصّ خاصّ أو عامّ أو إجماع ينفيه أو يثبته على أن يكون جلب النفع أو دفع المفسدة من سنخ ما تقتضيه الضرورة الحياتيّة للناس.

الثالث : هو الإفتاء والتشريع وفق ما تقتضيه مقاصد الشريعة والتي تنتهي إلى أصول خمسة ، هي حفظ النفوس والأموال والأعراض والعقول والأديان ، فكلّ ما ينتج التحفّظ على واحد من هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة يلزم التحفّظ عليها ، وكلّ ما ينتج فوات واحد من هذه الأصول الخمسة فهو مفسدة يلزم اجتنابها.

ورغم أنّ هذا التعريف هو أضيق دائرة من التعريفين الأوّليين إلا أنّ العلماء ممّن تبنّى هذا التعريف اختلفوا من جهة اعتبار وجود قاعدة أو عموم يمكن إرجاع الفتوى إليه وعدم اعتبار ذلك ، فبعضهم أفاد بأنّه لا يصحّ الإفتاء بما تقتضيه الأصول الخمسة إلا مع وجود قاعدة أو عموم يمكن الاستناد إليه في ذلك ، والبعض الآخر لم يجد لذلك ضرورة وأفاد بأنّه يكفي لصحّة الإفتاء إدراك العقل لاقتضاء الفعل أو الترك للتحفّظ على الأصول الخمسة ، وبما بيّنّاه تتّضح مجموعة من الأمور :

الأمر الأول : إنّ المقصود من المصلحة المقتضية للإفتاء هو الأعمّ من جلب المنفعة أو دفع المفسدة ، فعنوان الاستصلاح أو المصلحة المرسلة أطلق وأريد منه الأعمّ منهما.

الأمر الثاني : إنّ المصلحة المقصودة من العنوان تختلف سعة وضيقا بحسب اختلاف التعريفات المذكورة وأنّ منشأ الاختلاف من هذه الجهة هو الاختلاف في مقدار يصحّح الإفتاء والتشريع.

فالمصلحة في التعريف الأوّل من السعة بحيث لا تختصّ بالمصالح العامّة


بل تشمل المصالح الشخصيّة ، ولو لم يكن ذلك مقصودا فإنّ المصلحة في التعريف الأوّل تبقى أوسع دائرة من التعريفين الآخرين ، وذلك لأنّها لم تقيّد بما تقتضيه الضرورة الحياتيّة للناس كما هو كذلك في التعريف الثاني.

وأمّا المصلحة في التعريف الثاني فهي وإن كانت أضيق دائرة من التعريف الأوّل إلاّ أنّها تشمل مطلق المصالح العامّة الضروريّة حتّى وإن لم تكن متّصلة بالأصول الخمسة ولم يكن تفويتها مقتضيا لفوات التحفّظ عليها أو على واحد منها.

وأمّا المصلحة في التعريف الثالث فتتّحد بما يؤول إلى التحفّظ على مقاصد الشريعة ، والمصحّح لإطلاق عنوان المصلحة على ذلك هو أنّ مقاصد الشريعة تنتهي جميعا إلى ما يعود بالنفع على الإنسان.

الأمر الثالث : إنّ المقصود من عنوان الإرسال هو عدم وجود النصّ أو الإجماع المقتضي للزوم اعتماده في مقام الإفتاء ، فوجود النصّ بمثابة القيد المانع للمجتهد عن أن يفتي بخلاف ما يقتضيه النصّ ، فإذا لم يكن ثمّة نصّ فهو ( المجتهد ) مرسل ومطلق العنان من جهته.

فله أن يسترسل ويجيل ذهنه ليقف على مقتضيات المدرك العقلي أو الاعتبارات الأخرى.

والتعريفات الثلاثة تتّفق جميعا من جهة أنّ منشأ التعبير بالإرسال هو عدم وجود النصّ أو الإجماع ، نعم هي تختلف من جهة أنّ النصّ المعتبر عدمه في تحقّق الإرسال هل هو النصّ الخاصّ كما هو مقتضى التعريف الأوّل والثالث على أحد القولين أو الأعمّ منه ومن العام كما هو مقتضى التعريف الثاني.

ويحتمل أنّ المراد من عنوان ( المرسلة ) هو العامّة ، فالمصلحة المرسلة هي المصلحة العامّة في مقابل المصلحة الشخصيّة ، فالمصحّح للإفتاء هو المصلحة العامّة دون المصلحة الشخصيّة.


الأمر الرابع : إنّ التعريفين الأوّل والثاني لم يتمّ التصدّي فيهما لبيان الوسيلة المعتمدة لتحديد المصلحة فهل هو العقل أو الذوق أو اعتبارات أخرى ، وإذا كان هو العقل فهل هو القطعي أو هو الأعمّ منه ومن الظنّيّ.

وأمّا التعريف الثالث فهو بناء على القول الأوّل يعتمد النصوص والقواعد العامّة وسيلة لتحديد المصلحة وإن كان قد أهمل بيان وسيلة الوصول إلى تلك القواعد والنصوص العامّة ، نعم لا يبعد أنّها عين الوسائل الاجتهاديّة المعتمدة عندهم والتي هي من قبيل قياس التمثيل والسبر والتقسيم وتنقيح المناط القطعيّ والظنّيّ وتحقيق المناط وتخريج المناط وسدّ الذرائع وفتحها.

وأمّا القول الثاني من التعريف الثالث فاعتمد العقل وسيلة لاكتشاف المصلحة المقتضية للإفتاء والظاهر أنّه الأعم من القطعي والظنّيّ.

وخلاصة ما يمكن أن يلاحظ على اعتماد الاستصلاح وسيلة للإفتاء هي ما يلي :

أوّلا : إنّ الاستصلاح بناء على التعريف الأوّل ينتهي في بعض الحالات إلى الاجتهاد في مقابل النصّ ، وذلك لأنّه يصحّح الإفتاء وفق المصلحة المرسلة بمجرّد عدم وجود النصّ الخاصّ ، وهذا يعني أنّ المجتهد لو اعتمد هذا التعريف ساغ له إهمال النصوص العامّة والإفتاء وفق المصلحة المنظورة عنده. وهو من الاجتهاد في مقابل النصّ ، لأنّ المقصود من النصّ المانع عن الإفتاء في مقابله هو الأعمّ من النصّ الخاصّ والعامّ.

ثانيا : إنّ الاستصلاح بناء على التعريف الأوّل أهمل بيان الوسيلة المعتمدة للوصول لتحديد المصلحة وليس من وسيلة يمكن اعتمادها بعد عدم وجود النصّ الخاصّ وإهمال النصّ العامّ سوى الاستحسان والذوق أو العقل.

أمّا الاستحسان والعقل الظنّيّ فهما ساقطان عن الحجيّة كما ثبت ذلك في محلّه.


وأمّا العقل القطعيّ فهو وإن كان حجّة لحجّيّة القطع إلاّ أنّه غير متاح غالبا إذ أنّ العقل بمجرّد أن يلتفت إلى احتمال وجود خصوصيّة في الشيء يمكن أن تكون قد خفيت عليه فإنّه لا يحصل له القطع.

فإدراك جميع أوجه المصالح والمفاسد في الأشياء أمر لا يكاد يحصل للإنسان ، فمنتهى ما يتحصّل عليه الإنسان هو إدراك بعض المصالح وهو ما ينتج عنده الترجيح للفعل أو الترك ، أمّا الجزم بأنّ ذلك هو المطابق للرؤية الشرعيّة فهذا لا يتّفق إلاّ للقطّاع خصوصا مع الالتفات إلى احتمال أن تكون عند المولى بعض الخصوصيّات المانعة من الحكم بالوجوب أو الحرمة.

وبذلك يكون الإفتاء بوجوب ما فيه جلب للمصلحة أو الإفتاء بحرمة ما ينتج المفسدة المنظورة من التشريع القبيح والذي يعني نسبة شيء للدين مع عدم إحراز أنّه منه. وهذا الإشكال يمكن إيراده على التعريف الثاني للاستصلاح كما يمكن إيراده على القول الثاني من التعريف الثالث للاستصلاح.

نعم يمكن معالجة عدم وجود النصّ الخاصّ والعامّ لو اتّفق ـ وهي نادرة ـ بتصدّي الحاكم الشرعي وذلك من خلال جعل الأحكام الولائيّة وهي ليست أحكاما شرعيّة أوليّة أو ثانويّة حتّى تكون من قبيل التشريع المحرّم بل هي مساحة أعطيت للحاكم الشرعي لغرض معالجة بعض الأمور على أساس الظروف والمقتضيات.

ثالثا : إنّ الاستصلاح بناء على القول الأوّل من التعريف الثالث إمّا أن يكون من قبيل تطبيق القاعدة والعمومات على مواردها ، وهو أمر مقبول إلا أنّ ذلك ليس من الاستصلاح بل هو من الاستظهار والذي قام الدليل القطعي على حجّيّته ، إذ هو يعني اعتماد الوسائل العرفيّة عند أهل المحاورة لغرض فهم النصّ ، ونتيجة ذلك هي اعتماد الكتاب والسنّة في مقام الإفتاء.

وإمّا أن يكون الاستصلاح بمعنى


الاجتهاد بواسطة القياس والتمثيل أو تنقيح المناط أو تحقيق المناط أو تخريجه ، وحينئذ لا معنى لاستحداث مصطلح جديد ، وبذلك لا بدّ وأن يتركّز النظر في حجّيّة هذه الوسائل وقد ثبت عندنا عدم حجيّة القياس وتنقيح المناط الظنّي وكذلك تحقيق المناط أو تخريجه.

وإمّا أن يكون الاستصلاح بناء على هذا التعريف مصحّحا لاعتماد المجتهد الوسائل غير العرفيّة لفهم العمومات ، وذلك من الاجتهاد بالرأي ، والذي ينتج تدخّل العناصر الذاتيّة في فهم النصّ ، وقد أثبت الإماميّة عدم حجيّة التفسير بالرأي.

هذا ما يمكن بيانه في المقام ولعلّنا نستوفي البحث في مقامات أخرى.

* * *

٥٤١ ـ المعاني الحرفيّة والمعاني الاسميّة

الحرف في مصطلح الأصوليّين لا يختصّ بالحروف النحويّة بل يتّسع ليشمل مطلق الهيئات التركيبيّة التامّة والناقصة وهيئات الأفعال وأسماء الفاعلين ومطلق الاشتقاقات الصرفيّة.

وعليه فكلّ مدلول ينقدح بواسطة ذلك يكون معنى حرفيّا ، فكما أنّ مدلول ( في ) و ( حتّى ) ولام التعليل معنى حرفي فكذلك يكون مدلول هيئة الفعل الماضي واسم الفاعل وهيئة الربط بين المبتدأ والخبر والمضاف والمضاف إليه.

وأمّا الاسم فهو كلّ مادّة وضعت بترتيب خاصّ لتكون دالّة على معنى مستقلّ يمكن فهمه منها دون الحاجة إلى أن تكون في إطار جملة تامّة أو ناقصة ، وذلك مثل أسماء الأجناس وموادّ الأفعال والأعلام الشخصيّة.

فاسم الجنس مثل أسد والخبز وموادّ الأفعال مثل الضرب من ( يضرب ) وضعت لمعان استقلاليّة تفهم ابتداء بواسطة موادّها ولا يفتقر فهمها إلى وقوعها في سياق هيئة أو جملة تامّة أو ناقصة.


وعليه يكون المراد من المعاني الاسميّة هو المدلولات المستفادة من الموادّ الموضوعة للمعاني الاستقلاليّة.

وهذا المقدار الذي ذكرناه لم يقع موردا للخلاف بين الأصوليّين كما لم يختلفوا في عدم استقلاليّة المعنى الحرفي وإنّما وقع الخلاف بينهم فيما يتّصل بتحديد المراد من عدم استقلاليّة المعنى الحرفي ، وتوجد لذلك مجموعة من الاتّجاهات نذكر بعضها :

الاتّجاه الأوّل : إنّ المعاني الحرفيّة إيجاديّة بخلاف المعاني الاسميّة فإنّها إخطاريّة ، وقد أوضحنا ذلك تحت عنواني إخطاريّة المعاني الاسميّة وإيجاديّة المعاني الحرفيّة.

الاتّجاه الثاني : إنّ عدم استقلاليّة المعاني الحرفيّة إنّما هو من جهة الاستعمال ، بمعنى أنّ الواضع اعتبر في صحّة استعمال الحرف أن يكون المعنى ـ الذي يراد استعمال الحرف لإفادته ـ ملحوظا باللحاظ الآلي ، وذلك بخلاف المعنى الاسمي فإنّ الواضع اعتبر في استعماله أن يكون لحاظ المعنى استقلاليّا.

فالحرف والاسم المماثل له كلاهما وضعا لمعنى واحد ومتطابق ليس بينهما أدنى اختلاف ، فكما أنّ لفظ ( ابتداء ) وضع لإفادة مفهوم الابتداء فكذلك لفظ ( من ) وضعت لإفادة هذا المفهوم ، غايته أنّ الواضع اشترط في صحّة استعمال لفظ ( الابتداء ) أن يكون المستعمل قد لاحظ الابتداء مستقلاّ ، فإذا كان كذلك فله أن يستعمل لفظ ( الابتداء ) لإفادة معناه ، أمّا إذا استعمل لفظ ( من ) فإنّ هذا الاستعمال لا يصحّ منه إلاّ أن يكون قد لاحظ معنى الابتداء لحاظا آليّا.

ففي المقام الأوّل له أن يقول : « ابتداء المسير كان من البصرة » ، لأنّ تصوّر معنى الابتداء مستقلّ فساغ له استعمال لفظ ( الابتداء ).

وفي المقام الثاني له أن يقول : « سرت من البصرة » وذلك لأنّه تصوّر معنى الابتداء آلة ورابطا بين السير والبصرة ، لذلك ساغ له استعمال لفظ ( من ).


وبذلك يتّضح أنّ الاستقلاليّة والآليّة ليستا دخيلتين في المعنى الموضوع له الاسم والحرف ، نعم لحاظ الاستقلاليّة والآليّة شرط في صحّة الاستعمال.

الاتّجاه الثالث : إنّ عدم استقلاليّة المعاني الحرفيّة نشأ عن أنّ الواضع وضعها لتكون علامة على بعض الخصوصيّات المرتبطة بمدخولها فهي أشبه شيء بالحركات الإعرابيّة الموضوعة علامة على موقع الكلمة من الحدث والمبدأ المنتسب إليها ، فكما أنّ الضمّة المرسومة على الاسم موضوعة لتكون علامة على انتساب الحدث للاسم نسبة صدور أو نسبة قيام ( فاعليّة ) فكذلك حرف ( من ) ـ في قولنا سرت من البصرة ـ موضوع علامة على إرادة خصوصيّة تعلّقت بمدخول من ( البصرة ) هذه الخصوصيّة هي أنّها كانت مبتدأ بها.

فحرف ( من ) ليست موضوعا لإفادة مفهوم الابتداء وإنّما هو موضع ليكون علامة على خصوصيّة في ( البصرة ) وهي أنّها مبتدأ بها.

الاتّجاه الرابع : إنّ عدم استقلاليّة المعاني الحرفيّة نشأ عن أنّها موضوعة للنسب الربطيّة ، أي أنّها موضوعة لواقع النسبة بالحمل الشائع.

فلفظ ( في ) مثلا وضعت لتحقيق نحو من الربط بين طرفيها فيكون الطرفان بواسطة هذا الربط أحدهما مظروفا والآخر ظرفا.

وقد أوضحنا هذا الاتّجاه مفصّلا تحت عنوان النسبة ويمكن الاستعانة على فهمه من ملاحظة عنوان الوجود الرابط والوجود الرابطي.

* * *

٥٤٢ ـ المعقولات الأوليّة

المراد من المعقولات هي المعاني أو قل المفاهيم الكليّة والتي يكون وعاؤها الذهن ، وهي تنقسم الى قسمين ، المعقولات الاوليّة والمعقولات الثانية ، والقسم الثاني ينقسم الى قسمين ، الأوّل معقولات ثانية منطقيّة ، والثانية معقولات ثانية فلسفيّة.


والمعقولات الأوليّة هي المفاهيم المنعكسة عن الخارج ابتداء ومباشرة ، أي هي صور الأعيان الواقعيّة التي تحضر للذهن بواسطة الحسّ الأعم من الحسّ الظاهري كالرؤية والسمع أو الحسّ الباطني كما هو الحال في مفهوم الخوف والحبّ والبغض ، فإنّها مفاهيم وصور ذهنيّة كليّة منعكسة عما هو موجود في النفس بواسطة الحسن الباطني.

وبما ذكرناه يتّضح انّ المعقولات الأوليّة ينحصر تحصيلها بواسطة الاتّصال المباشر بين الذهن والواقع عبر المدارك الحسيّة الظاهريّة والباطنيّة ، غايته انّ الوجودات الخارجيّة عند ما تنعكس صورها الى الذهن يقوم الذهن بعد ذلك امّا بعمليّة تجريدها عمّا به الامتياز ويحتفظ بما به الاشتراك ، وعندها يتحصّل الذهن بواسطة هذه العمليّة على مفهوم كلّي بمعنى انّ الذهن يقوم بعمليّة تحليل ذلك الموجود الخارجي المتلقى بواسطة الحواس فيلغي عنه تمام مشخّصاته ويتحفّظ على القدر المشترك فيتحصّل بذلك على مفهوم كلّي.

هذا ما نسب الى ابن سينا والخواجة نصير الدين الطوسي رحمهما الله ، أو انّ الذهن عند ما يتلقى صور الأشياء عن الخارج يحتفظ بصورها الحسيّة ثمّ يمرّ بها عبر مراحل ثلاث أو أربع ـ كما قيل ـ حتى يصل بها الى مرحلة يعبّر عنها بالإدراك العقلي ، وعندها تصبح مفهوما كليّا ، وهذا هو المنسوب لصدر المتألّهين رحمه‌الله.

وكيف كان فالمعقولات الأوليّة مفاهيم كليّة منعكسة عن الواقع الخارجي ، وليس ثمّة طريق لتحصيلها سوى الحواس الظاهريّة أو الباطنيّة.

وحتى يتّضح المراد من مبنى ابن سينا وملاّ صدرا رحمهما الله في كيفيّة تحول الأعيان الخارجيّة المنعكسة عن الخارج الى مفاهيم كليّة في الذهن نذكر هذا التطبيق :

انّه عند ما يقع نظرنا على زيد فإنّ صورته تنعكس بواسطة النظر الى الذهن ، وعندئذ يقوم الذهن ـ بنظر


ابن سينا ـ بعمليّة تحليليّة لهذه الصورة فيصنفها الى صنفين ، الاول هو مجموع المشخّصات الخاصّة بزيد والتي لا تصدق على غيره ، وهذا هو معنى ما به الامتياز ، والثاني هي الجهة المشتركة القابلة للصدق على كثيرين مثل ما تتقوّم به الذات من جنس وفصل ، وبعد هذا التحليل يتمّ الغاء ما به الامتياز ، ويتحصّل الذهن عندئذ على مفهوم كلّي هو مفهوم الإنسان المعبّر عنه بالمفهوم الماهوي ، وهو المعقول الأولي.

وأمّا بنظر صدر المتألهين رحمه‌الله فالعمليّة التي يتمّ بها تحصيل المفهوم الماهوي الكلّي تختلف عمّا ذكره ابن سينا والخواجة الطوسي رحمهما الله ، فالعقل عند ما يتلقى الصورة الحسيّة والتي هي صورة زيد ، فإنّه يحتفظ بهذه الصورة الشخصيّة في مرتبة الإدراك الحسي والتي هي أول مراتب الإدراك ثم يخلق صورة مناسبة لمرتبة أعلى من مرتبة الإدراك الحسي أو قل القوّة الحسيّة ، هذه المرتبة الأعلى هي مرتبة الإدراك الخيالي وفي نظره انّ الخلاق لهذه الصورة هي القوّة الخياليّة ، ثمّ تترقى هذه الصورة الى مرتبة أعلى من مراتب الإدراك العقلي ، وفي هذه المرتبة تصبح هذه الصورة مفهوما كليا ، إذ انّ هذه الصورة كلما انتقلت الى مرتبة تخلقت بشكل يتناسب مع تلك المرتبة والمناسب لمرتبة الإدراك العقلي هو ان تصبح الصورة كليّة.

هذا اذا لم نقل انّ ثمّة مرتبة تتوسط بين مرتبة القوّة الخياليّة والقوّة العقليّة والتي هي القوّة الواهمة وإلاّ فالصورة المنعكسة عن الخارج لا تصل الى مرحلة المفهوم الماهوي الكلّي إلاّ بعد المرور بأربع مراحل تكون المرحلة الرابعة وهي مرحلة الإدراك العقلي هي ظرف إدراك المعقول الأولي.

وبما ذكرناه يتّضح المراد من انّ المعقولات الأوّليّة لها ما بإزاء في الخارج هذا حاصل ما أفاده الشيخ مرتضى المطهري رحمه‌الله.

ثمّ انّ هناك اتّجاه آخر لتفسير


المعقولات الأوليّة ، وهو الذي يتبناه الحكيم السبزواري رحمه‌الله ، وحاصله : انّ المعقول الأولي هو المفهوم الذي يكون ظرف عروضه على معروضه واتّصاف معروضه به هو الخارج.

وبتعبير آخر : انّ المعقول الأولي هو المحمول الذي يكون ظرف حمله على موضوعه هو الخارج واتّصاف موضوعه به هو الخارج ، وذلك مثل زيد إنسان ، فإنّ مفهوم الإنسان معقول أولي ، لأنّ الوعاء الذي يتمّ فيه حمل الإنسان على زيد هو الخارج.

وبذلك تكون المحمولات في القضايا الخارجيّة معقولات أوليّة ، وذلك لأنّ عروضها على موضوعاتها واتّصاف موضوعاتها بها انّما هو في الخارج بعد ان كانت موضوعات القضايا الخارجيّة هي الأفراد المتحقّقة الوجود فعلا ، أي عند تأليف القضيّة الخارجيّة ، فعند ما يقال : « أولاد زيد سود » فإنّ ظرف اتّصاف أولاد زيد بالسواد هو الخارج كما انّ عروض السواد على أولاد زيد يتمّ في الخارج ، ولهذا لو قيل : أين حصل عروض السواد على أولاد زيد وفي أيّ ظرف اتّصفوا بالسواد؟ لكان الجواب هو انّ ظرف ذلك هو الخارج ، وهذا ما يعبّر عن انّ السواد معقول أولي.

* * *

٥٤٣ ـ المعقولات الثانية

هي المفاهيم الكليّة التي يكون ظرف وجودها وظرف تحقّقها هو الذهن وليس لها ارتباط بالخارج أصلا ، نعم هي لها نحو ارتباط بالمعقولات الأوليّة المرتبطة بالخارج ، فإذا كان للمعقولات الثانية ارتباط بالخارج فهو بواسطة المعقولات الأوليّة ، ولأنّ ظرف وجود وتحقّق المعقولات الثانية هو الذهن لذلك هي لا تصدق على الأعيان الخارجيّة ، وانّما تصدق على ما ظرفه الذهن فحسب.

والمعقولات الثانية تنقسم الى قسمين :

القسم الأوّل : المعقولات الثانية


المنطقيّة ، وهي عبارة عن المفاهيم المنطقيّة مثل الكليّة والجزئيّة والنوع والجنس والعرض الخاصّ والعامّ والقضيّة والموضوع والمحمول ، فكلّ هذه المفاهيم المنطقيّة معقولات ثانية منطقيّة.

وتلاحظون انّ أيّ واحد من هذه المفاهيم لا تتّصف بها لأعيان الخارجيّة وانّما تتّصف به المعقولات الأوليّة بعد ان تلقاها العقل عن الخارج وحولها الى مفاهيم كليّة ، فالمتّصف بهذه المفاهيم انّما هي المعقولات الأوليّة التي لا وجود لها في الخارج ، كما انّ ظرف اتّصاف المعقولات الأوليّة بالمفاهيم المنطقيّة هو الذهن فحسب.

فلا يقال : « انّ زيدا نوع ولا فصل ولا عرض خاص ولا عام ، كما لا يقال عنه انّه موضوع أو محمول ، نعم يقال لمفهوم الانسان والذي هو معقول أولي نوع ويقال للناطق انّه فصل والماشي عرض عام والضاحك عرض خاصّ ، كما يقال الإنسان موضوع والضاحك محمول ، كما لا يقال انّ زيدا جزء ، لأنّ الجزء مفهوم منطقي معناه ما يمتنع فرض صدقه على كثيرين والحال انّ زيدا الخارجي ليس مفهوما ، وهكذا لا يقال عن زيد انّه موضوع ، وذلك لأنّ الموضوع المنطقي هو المفهوم الواقع طرفا في القضيّة الحمليّة ، وزيد الخارجي ليس مفهوما وليس ثمة قضية حملية في الخارج يقع زيد طرفا لها كما هو واضح.

وتلاحظون أيضا انّ ظرف اتّصاف هذه المعقولات الأوليّة مثل الإنسان والضاحك والماشي بالمعقولات الثانية المنطقيّة انّما هو الذهن ، فظرف اتّصاف الإنسان بالكلّي أو الموضوع أو النوع ، وظرف اتّصاف الماشي بالعرض العام والضاحك بالعرض الخاصّ هو الذهن.

وبما ذكرناه يتّضح انّ المعقولات الثانية المنطقيّة منخلقة في الذهن ومظروفة له ، ولها تحقّق ووجود في الذهن في مرحلة سابقة عن مرحلة عروضها على المعقولات الأوليّة ، والعروض والاتّصاف انّما يتمّ بعد أن


يحول العقل صور الأعيان الخارجيّة المتلقّاة عن الخارج الى مفاهيم ماهويّة كليّة ، أي بعد أن تصبح معقولات أوليّة.

ومن هنا قال الحكماء انّ المعقولات الثانية المنطقيّة هي ما يكون معها ظرف عروض المحمول على الموضوع هو الذهن كما انّ اتّصاف الموضوع بها لا يكون إلاّ في الذهن ، فهذا هو ما يكشف عن انّ المحمول معقول ثان منطقي.

القسم الثاني : المعقولات الثانية الفلسفيّة ، وهي عبارة عن المفاهيم الفلسفيّة مثل العلّة والمعلول والعلّيّة والإمكان والامتناع والوجوب وهكذا ، وهذه المعقولات تختلف عن المعقولات الأوليّة ، لأنّ تحصيلها لا يتمّ بواسطة ما تعكسه الحواس الى الذهن ، كما انّها ليست من المعقولات الثانية المنطقيّة ، لأنّ المعقولات المنطقيّة لا يمكن أن يكون لها مصداق في الخارج ، فليس ثمّة شيء في الخارج يتّصف بها ، وأمّا المعقولات الثانية الفلسفيّة فيمكن أن تتّصف بها الأعيان الخارجيّة ، فيقال : هذه النار علّة وهذه الحرارة معلول كما يقال : بين هذه النار وهذه الحرارة علّيّة ومعلوليّة ، ويقال : انّ زيدا ممكن الوجود وانّ الله جلّ وعلا واجب الوجود ، وواضح انّ اتّصاف النار بالعلّة والحرارة بالمعلول انّما هو الخارج وأمّا مفهوم النار فليس علّة لوجود الحرارة.

وبهذا يتّضح انّ المعقولات الفلسفيّة توجد في الخارج إلاّ انّ إدراكها لا يتمّ بواسطة الحسّ لا الظاهري ولا الباطني ، كما انّ وجودها ليس من سنخ الماهيّات الموجودة في الخارج بل انّ وجودها في الخارج يعني انّها صفات للأعيان الخارجيّة وانّ اتّصاف الأعيان الخارجيّة بها يكون في ظرف الخارج ، فليس لها وجود في مقابل الأعيان الخارجيّة يمكن أن يشار إليه باستقلاله كما يشار الى الشجر والحجر ، فالعليّة والمعلوليّة وهكذا الإمكان والوجوب صفات


واقعيّة تتّصف بها الأعيان الخارجيّة في ظرف الخارج وليس لها وجود في عرض وجود هذه الأشياء الخارجيّة بل انّ هذه الأعيان الخارجيّة إمّا أن تكون علّة أو تكون معلولا كما قد تكون واجبة وقد تكون ممكنة ، وليس ثمّة مفهوم فلسفي لا يكون منطبقه شيئا من الوجودات الخارجيّة ، وهذا ما يميّزها عن المعقولات الثانية المنطقيّة والتي لا يكون واحدا منها منطبقا على الخارج أصلا ، كما انّ اتّصاف المعقولات الأوليّة بها لا يكون إلاّ في ظرف الذهن.

كما انّ الذي يميّز المعقولات الفلسفيّة عن المعقولات الأوليّة هو انّ المعقولات الأوليّة حينما تحمل على الأعيان الخارجيّة يكون لها دور التحديد لماهياتها ، فحينما يقال : « زيد انسان » فإنّ اتّصاف زيد بالإنسان يكون له دور التحديد لهويّة زيد ، وأمّا المعقولات الثانية الفلسفيّة فليس لها هذا الدور ، فهي لا تحدّد هويّة وماهيّة موضوعها وانّما تحدّد كيفيّة علاقته بالموجودات الاخرى ، فحينما يقال : « النار علّة للحرارة » فإنّ اتّصاف النار بالعلّة يعبّر عن نحو العلاقة بين النار والحرارة.

ثمّ انّ هنا مائزا آخر يميزها عن المعقولات الأوليّة ذكره الحكم السبزواري رحمه‌الله وبعض المتأخّرين وهو انّ المعقول الأولي يكون ظرف اتّصاف الموضوع به وظرف عروض المعقول الأولي على موضوعه هو الخارج ، وأمّا المعقول الثاني الفلسفي فهو وان كان ظرف اتّصاف الموضوع به هو الخارج إلاّ انّ ظرف عروضه على الموضوع يكون في الذهن.

والفرق بين الاتّصاف والعروض هو انّ العلاقة بين الموضوع والمحمول حينما تلاحظ من جهة الموضوع يعبّر عنها بالاتّصاف ، وحينما تلاحظ من جهة المحمول يعبّر عنها بالعروض ، وعليه يكون عروض المعقولات الثانية الفلسفيّة على موضوعاتها في الذهن ، وذلك لأنّ العارض « المعقول


الفلسفي » ليس له وجود الخارج وراء وجود معروضه ، وهذا هو مبرّر الدعوى بأن العروض يكون في الذهن ، وأمّا الموضوع الموجود في الخارج فهو يتّصف بالمعقولات الفلسفيّة في الخارج.

وعلّق الشيخ المطهري رحمه‌الله على ذلك بأنّ الاتّصاف والعروض لا يقبلان التفكيك إلاّ أن يكون ذلك مجرّد اصطلاح كما ذكر السبزواري رحمه‌الله نفسه في تعليقته على الأسفار.

* * *

٥٤٤ ـ المفاهيم الأدويّة

المفاهيم الأدويّة مصطلح آخر للمعاني الحرفيّة ، وقد أوضحنا المراد منه تحت عنوان المعاني الحرفيّة.

ومنشأ التعبير عنها بالمفاهيم الأدويّة هو الإشارة إلى آليّة المعاني الحرفيّة في مقابل المعاني الاسميّة والتي هي معان استقلاليّة.

* * *

٥٤٥ ـ المفاهيم الإفراديّة

المقصود من المفاهيم الإفراديّة هو المعاني الاسميّة المستفادة من مثل أسماء الأجناس والأعلام الشخصيّة وموادّ الأفعال.

وبتعبير آخر : المفاهيم الإفراديّة هي المعاني الاستقلاليّة المستفادة من الأسماء كمفهوم الأسد ومفهوم الضرب وذلك في مقابل المعاني المستفادة من هيئات الجمل التركيبيّة والتي تستفاد من الكيفيّة التركيبيّة للجملة.

ولمزيد من التوضيح لاحظ عنوان المعاني الحرفيّة والمعاني الاسميّة وعنوان الهيئة التركيبيّة.

* * *

٥٤٦ ـ المفهوم

المراد من المفهوم بحسب المتفاهم العرفي هو مطلق المعنى المنطبع في الذهن بقطع النظر عن منشئه ، إذ قد يكون المنشأ هو الأوضاع اللغويّة ،


وقد يكون المنشأ هو الإشارة والكتابة ، وقد يكون المنشأ هو الملازمات العقليّة أو العاديّة أو الطبعيّة وقد تكون المشاهد الحسيّة ، وقد يكون منشأ ذلك هو التصورات وقد يكون غير ذلك ، كما لا فرق بين أن يكون المدلول من سنخ المفاهيم التركيبيّة أو المفاهيم الأفراديّة وبين أن يكون جزئيا أو كليّا أو أن يكون من الأعيان الخارجيّة أو المجرّدات ، ففي تمام هذه الحالات يعبّر عن المعنى بالمفهوم.

إلاّ انّ هذا المعنى للمفهوم على سعته ليس هو مقصود الاصوليين من عنوان المفهوم ، وتوضيح المراد من المفهوم الاصولي يتمّ برسم امور :

الأمر الأوّل : انّ الدلالة اللفظيّة تارة تكون مطابقيّة واخرى التزاميّة ، وأمّا الدلالة التضمنيّة فقد اتّضح حالها من بحث « المنطوق ».

ثمّ انّ الدلالة المطابقيّة وكذلك الالتزاميّة قد تكون أفراديّة كما قد تكون تركيبيّة ، بمعنى انّها قد تنتج مفهوما أفراديا كما قد تنتج مفهوما تركيبيّا ، والدلالة بقسميها المنتجة للمفهوم الأفرادي خارجة عن محلّ البحث ، والدلالة المطابقيّة المنتجة للمفهوم التركيبي هي المنطوق ، أي انّ نفس المدلول المطابقي هو المنطوق ، وهو خارج أيضا عن محلّ البحث.

فيتعيّن البحث في الدلالة الالتزاميّة ، وقد قسّمها المحقّق النائيني رحمه‌الله إلى قسمين بلحاظ اللازم والذي هو المدلول للدلالة الالتزاميّة :

القسم الأوّل : الدلالة التي يكون لازمها بيّنا بالمعنى الأخصّ ، وهو عبارة عن المعنى الخارج عن مدلول اللفظ الاّ انّه لازم له على أن لا يكون تصوّره محتاجا لأكثر من تصوّر مدلول اللفظ.

القسم الثاني : الدلالة التي يكون لازمها بينا بالمعنى الاعم ، وهو عبارة عن المعنى الخارج عن مدلول اللفظ اللازم له إلاّ انّ إدراكه يحتاج لتوسيط مقدّمة عقليّة ، وبهذا لا يكون اللازم بالمعنى الأعمّ من المداليل


اللفظيّة باعتبار انّ انتقال الذهن اليه لا يتمّ بواسطة اللفظ وانّما يتمّ بتوسيط العقل.

ومثل رحمه‌الله لذلك بمقدّمة الواجب ، وبالملازمة بين وجوب الشيء وحرمة ضدّه ، ولم يستبعد انّ مثل دلالة الاقتضاء ، وكذلك دلالة الإيماء والإشارة من قبيل الدلالة الالتزاميّة بالمعنى الأعم.

ثمّ رتّب على ذلك خروج القسم الثاني عن محلّ البحث وانّ المفهوم يختصّ باللازم البيّن بالمعنى الأخصّ وانّه عبارة عن المدلول الالتزامي والذي تكون الدلالة الالتزاميّة معه بيّنة بالمعنى الأخص وتستفاد من نفس اللفظ ، ولا يتمّ إدراكه بتوسّط العقل.

إلاّ انّ السيّد الخوئي رحمه‌الله أورد على هذا التقسيم بما حاصله : انّ اللازم البيّن بالمعنى الأعمّ من المداليل اللفظيّة ولا يكون إدراكه مفتقرا إلى مقدّمة عقليّة بل انّه يستفاد من نفس اللفظ كما هو الحال في اللازم البيّن بالمعنى الأخصّ ، غايته انّ اللازم البيّن بالمعنى الأخصّ لا يحتاج تصوّره لأكثر من تصوّر مدلول اللفظ « الملزوم » ، وأمّا اللازم البيّن بالمعنى الأعم فلا يتمّ انتقال الذهن اليه إلاّ بعد تصوّر الملزوم « مدلول اللفظ » واللازم والنسبة بينهما إلاّ انّ كلا اللازمين لا يحتاج تصورهما الى توسّط مقدّمة خارجيّة.

وبهذا يتّضح انّ التعريف الذي أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله للازم البيّن بالمعنى الأعمّ ليس تاما ، والصحيح انّه تعريف للازم غير البيّن ، وهو كما أفاد رحمه‌الله ليس من المداليل اللفظيّة وان ادراكه يحتاج الى توسط مقدّمة عقليّة وانّ مثل مقدّمة الواجب ومسألة الضدّ من نحو هذه اللوازم ، فهي خارجة عن بحث المفهوم. ولمزيد من التوضيح راجع عنوان « اللازم البيّن واللازم غير البيّن ».

والمتحصّل انّ اللوازم قد تكون بيّنة وقد لا تكون بيّنة ، وغيّر البيّنة خارجة عن بحث المفهوم بلا إشكال وانّما البحث في اللوازم البيّنة والتي


تارة تكون بيّنة بالمعنى الأخصّ واخرى تكون بيّنة بالمعنى الأعمّ ، فهل المفهوم هو مطلق اللازم البيّن أو هو مختصّ باللازم البيّن بالمعنى الأخصّ؟

ذهب المحقّق النائيني رحمه‌الله وكذلك السيّد الخوئي رحمه‌الله الى اختصاص المفهوم باللازم البيّن بالمعنى الأخص ، إذ هو الذي يحصل الوثوق بإرادة المتكلّم له بمجرّد استظهار إرادة المنطوق ، وأمّا اللازم البيّن بالمعنى الأعم والذي يحتاج تصوّره الى تصور الملزوم واللازم والنسبة بينهما فقد يغفل المتكلّم عنه فلا يكون مريدا له بالإضافة الى إرادة المنطوق ، فلا يمكن استظهار إرادته بمجرّد استظهار إرادة المنطوق.

الأمر الثاني : نسب الى الحاجبي تعريف المفهوم « بأنّه ما دلّ عليه اللفظ لا في محلّ النطق » ، وعرّف أيضا بأنّه « حكم غير مذكور » وبأنّه « حكم لغير مذكور » ، والتعاريف الثلاثة تناسب ما ذكرناه في الأمر الأوّل.

أمّا التعريف الاوّل : فالمراد من مدلول اللفظ الذي لا يكون واقعا في محلّ النطق هو اللازم البيّن ، إذ اللازم غير البيّن ليس مدلولا للفظ ـ كما تقدّم ـ وانّما هو مدلول للمقدّمة العقليّة كدلالة وجوب الشيء على وجوب مقدّمته ودلالة وجوب الشيء على حرمة ضده.

ثمّ انّ المراد من اللازم هو خصوص اللازم البيّن بالمعنى الأخص ، وذلك لأنّ اللازم البيّن بالمعنى الأعم وان كان من المداليل اللفظيّة إلاّ انّه غير مقصود من التعريف لعدم امكان احراز إرادة المتكلّم له بمجرّد احراز إرادته للمنطوق ، إذ من الممكن جدا غفلة المتكلّم عنه لاحتياج تصوّره الى تصوّر الملزوم واللازم والنسبة بينهما ، وهذا بخلاف اللازم بالمعنى الأخصّ فإنّ تصوّر الملزوم « مدلول اللفظ » يساوق تصوّر اللازم ، ومنه يمكن استظهار إرادته بمجرّد استظهار إرادة المنطوق. وبهذا يتعيّن إرادة اللازم البيّن بالمعنى الأخصّ من تعريف الحاجبي.


وأمّا التعريف الثاني : فالمراد من الحكم غير المذكور هو الحكم الذي يكون لازما بيّنا بالمعنى الأخصّ لما هو منطوق.

مثلا : لو قيل « إذا جاء زيد فأكرمه » فإنّ لازم هذه القضيّة انّه إذا لم يجيء زيد فلا يجب اكرامه ، فعدم وجوب الإكرام هو الحكم غير المذكور والذي استفيد بواسطة تعليق وجوب الإكرام هو الحكم غير المذكور والذي استفيد بواسطة تعليق وجوب الإكرام على مجيء زيد.

هذا في مفهوم المخالفة ، وأمّا مفهوم الموافقة فالحكم غير المذكور وان كان مسانخا للحكم المذكور إلاّ انّه غيره ، فلا يكون مذكورا وانّما هو لازم لما هو مذكور.

مثلا : قوله تعالى : ( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ ) (١) ، فالحكم المذكور في الآية الشريفة هو حرمة التأفّف من الوالدين ، وأمّا ما هو لازم لهذا الحكم فهو حرمة الضرب وهو حكم غير مذكور.

وأمّا التعريف الثالث : فكذلك يراد من الحكم لغير المذكور اللازم لما هو مذكور في محلّ النطق ، والمراد من غير المذكور هو موضوع أو متعلّق الحكم واللذين تمّ انفهامهما بواسطة القضيّة المذكورة.

ففي مثالنا الأوّل يكون عدم المجيء هو الموضوع غير المذكور والذي انفهم بواسطة تعليق الوجوب على المجيء فينتفي بعدم المجيء الحكم الثابت حين المجيء في القضيّة المذكورة.

وفي المثال الثاني يكون الضرب هو المتعلّق غير المذكور والذي انفهم بواسطة ثبوت الحرمة للتأفّف في القضيّة المذكورة ، وبهذا تثبت الحرمة للضرب والذي هو المتعلّق غير المذكور في القضيّة ، وأمّا المراد من الحكم في التعريف فهو الأعمّ من المباين للحكم المذكور في القضيّة المذكورة كما في مفهوم المخالفة أو المسانخ للحكم الذكور في القضيّة المذكورة كما في مفهوم الموافقة.

والمتحصّل من هذا التعريف انّ المفهوم هو القضيّة التي ثبت فيها حكم لموضوع أو متعلّق غير مذكور ، على


أن تكون تلك القضيّة لازمة بنحو اللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ للقضيّة المذكورة.

وبهذا البيان تمّ توجيه التعريفات الثلاثة بنحو يتناسب مع التعريف الذي ذكره المحقّق النائيني والسيّد الخوئي رحمهما الله والذي هو عبارة عن كون المفهوم مدلولا لفظيّا التزاميّا بينا بالمعنى الأخصّ.

الأمر الثالث : وهو بيان الفرق بين مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة ، وهذا ما سنوضّحه تحت عنواني « مفهوم الموافقة » و « مفهوم المخالفة » ، فراجع.

* * *

٥٤٧ ـ مفهوم الاستثناء

لاحظ « مفهوم الحصر ».

* * *

٥٤٨ ـ مفهوم الحصر

المراد من الجملة الحصريّة هي ما يكون مفادها انحصار شيء بشيء وانتفاؤه عن غيره ، وهذا الحصر قد يستفاد من منطوق الجملة كما في الحصر المفاد بمادة الحصر أو القصر أو يكون مفادا بأداة « انّما » التي وضعت للدلالة على الحصر ، وهذا خارج عن بحث المفهوم ، إذ لا اشكال في افادة ذلك لنفي طبيعي الحكم عن غير المحصور به الحكم كما هو المتفاهم العرفي.

وما هو داخل في محلّ البحث هو الحصر المستفاد بواسطة المفهوم المعبّر عنه باللازم البيّن بالمعنى الأخصّ للجملة كما هو الحال في الجمل الاستثنائيّة المستفادة بواسطة « إلاّ ».

ودلالة الجمل الاستثنائية على المفهوم منوط بأن لا تكون كلمة « إلاّ » مستعملة في معنى الوصف كما في قوله تعالى : ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا ، ) أي لو كان فيهما آلهة متّصفة بأنّها غير الله تعالى لفسدتا.

فلا بدّ إذن من أن تكون كلمة « إلاّ » مستعملة في الاستثناء ، أي اخراج المستثنى عن حكم المستثنى


منه ، وحينئذ تكون دالّة على المفهوم لرجوع الاستثناء عندئذ الى الحكم ، وهذا معناه انتفاء طبيعي الحكم المذكور للمستثنى منه عن المستثنى وهذا هو معنى المفهوم.

وكيف كان فيكفي في استظهار انتفاء طبيعي الحكم عن غير الموضوع المحصور به الحكم ثبوت دلالة الجملة على الحصر ، فالنزاع انّما يقع في دلالة الجملة على الحصر وعدم دلالتها على ذلك.

* * *

٥٤٩ ـ مفهوم الشرط

المراد من مفهوم الشرط هو انتفاء طبيعي الحكم المعلّق على الشرط عند انتفاء الشرط. والبحث عن مفهوم الشرط بحث عن دلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم بالمعنى الذي ذكرناه ، وهذا يعني البحث عن توفّر الجملة الشرطيّة على ضابطة المفهوم فإن أمكن إثبات انّ الجملة الشرطيّة واجدة لضابطة المفهوم ثبت انّ الجملة الشرطيّة ظاهرة في المفهوم وإلاّ فلا.

والمعروف بين الأعلام هو دلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم إلاّ انّهم اختلفوا في كيفيّة تقريب هذه الدلالة ، والبحث في ذلك واسع ومتشعّب ، ونكتفي في المقام ببيان بعض التقريبات دون ذكر تعليق الأعلام عليها.

التقريب الأوّل : انّ الجملة الشرطيّة وضعت للدلالة على انّ الشرط علّة منحصرة للجزاء ، ومبرّر هذه الدعوى هو التبادر ، وإذا كان كذلك فبانتفاء علّة الجزاء ينتفي الجزاء ، لافتراض ظهور الجملة الشرطيّة في انحصار العلّة وهي الشرط بمعنى انّ لا بدليل لهذه العلّة ، وعندئذ ينتفي احتمال ثبوت الحكم بواسطة علّة اخرى ، كما انّ افتراض انحصار العلّة بالشرط المذكور في الجملة يقتضي أن لا يثبت مثل الحكم بواسطة علّة اخرى ، إذ المفترض انّ معلول الشرط هو طبيعي الحكم فيكون المنتفي عند انتفاء الشرط هو طبيعي الحكم.


وبذلك يثبت المفهوم للجملة الشرطيّة لتوفّرها على ضابطة المفهوم بركنيها.

التقريب الثاني : انّ الجملة الشرطيّة موضوعة للدلالة على التلازم بين الجزاء وهو الحكم وشرطه ولا يقتضي الوضع أكثر من ذلك إلاّ انّه وبواسطة الانصراف يثبت انّ هذا اللزوم الواقع بين الجزاء والشرط لزوم علي انحصاري.

ومبرّر هذا الانصراف هو انّ اللزوم وان كانت له انحاء متعدّدة إلاّ انّ أكملها هو اللزوم العلّي الانحصاري ، ومن هنا ينسبق للذهن إرادة هذا اللزوم دون غيره ، وبذلك يثبت المفهوم للجملة الشرطيّة.

التقريب الثالث : انّ ثبوت المفهوم للجملة الشرطيّة يتمّ استظهاره بواسطة مجموعة من المقدّمات :

المقدّمة الاولى : انّ أداة الشرط وضعت للدلالة على الربط اللزومي بين الشرط والجزاء.

المقدّمة الثانية : انّ تفرّع الجزاء على الشرط المستفاد من وضع الجملة الشرطيّة لذلك يكشف عن إرادة هذا التفرّع واقعا ، أي يكشف عن انّ المراد الجدّي للمتكلّم هو تفريع الجزاء على الشرط ، وذلك لأصالة التطابق بين الدلالة التصوريّة والدلالة التصديقيّة الجديّة.

المقدّمة الثالثة : هو انّ عدم ذكر شرط آخر للجزاء مع الشرط المذكور يعبّر عن انّ الشرط المذكور علّة تامّة للجزاء وإلاّ لو كان ثمّة شرط آخر لذكر لافتراض انّ المتكلّم في مقام ذكر ما يترتّب على وجوده الجزاء ، على انّ ذلك يكشف عن انّ هذه التماميّة ثابتة في جميع أحوال الجزاء ، اذ هو مقتضى الإطلاق الاحوالي للشرط وعدم تقييده بحالة دون اخرى ، وبهذا يكون ترتّب الجزاء عليه ثابت بقطع النظر عن الحالات التي تكتنفه.

وإذا ثبت انّه علّة تامّة لترتّب الجزاء في تمام الأحوال ثبت انّ عليّته لترتّب الجزاء انحصاريّة ، إذ لو لم تكن انحصاريّة لكان معنى ذلك انتفاء تماميّة


علته في حالة اقترانه بعلّة اخرى ، إذ مع الاقتران بعلّة اخرى يلزم أن يكون المجموع منهما علّة واحدة لترتّب الجزاء لاستحالة اجتماع علّتين مستقلّتين على معلول واحد ، وهذا معناه صيرورته جزء علّة لترتّب الجزاء وهو خلف ما استظهرناه من انّه علّة تامّة بمقتضى الإطلاق الاحوالي.

وبتعبير آخر : انّ الإطلاق الأحوالي للشرط معناه تماميّة عليّته لترتّب الجزاء ، وتماميّة عليّته لذلك يقتضي انّها علّة انحصاريّة ، إذ انّ عدم انحصارها معناه عدم تماميّة الإطلاق الأحوالي للشرط وهو خلف تماميّة الإطلاق المستكشف بواسطة عدم تقييد الشرط بحالة دون حالة.

* * *

٥٥٠ ـ مفهوم العدد

الجملة العدديّة هي الجملة التي قيّد موضوعها أو متعلّق الحكم فيها بعدد محدّد ، والبحث عن ظهورها في المفهوم معناه البحث عن انّ طبيعي الحكم الثابت للموضوع أو المتعلّق ذي العدد هل ينتفي عن الموضوع الغير المحدّد بذلك العدد.

فلو قال المولى : « أطعم عشرة مساكين » أو قال : « صلّ ركعتين » فهل انّ معنى ذلك هو انتفاء طبيعي الوجوب عن اطعام أكثر من العشرة أو اطعام الأقل من العشرة ، وهل يعني انتفاء طبيعي الوجوب عن الصلاة الزائدة أو الناقصة عن العدد المذكور؟

الظاهر انّه لم يقع خلاف بين الأعلام في عدم ظهور الجملة العدديّة في المفهوم ، وانّ دلالة الجملة العدديّة على عدم اجزاء الأقلّ انّما ينشأ عن انّ الأقل ليس مأمورا به في هذا الخطاب ، وغير المأمور به لا يجزي عن المأمور به إلاّ انّ ذلك لا يمنع من ثبوت مثل الحكم للعدد الأقلّ ، فمن الممكن ثبوت حكم آخر بوجوب اطعام خمسة مساكين وبصلاة ركعة واحدة ، فالمنتفي عن غير العدد المذكور انّما هو شخص الحكم الثابت للعدد المذكور.


وبتعبير آخر : انّ الجملة المتصدّية لبيان ثبوت حكم لعدد معيّن لا دلالة لها على انتفاء طبيعي الحكم عن عدد آخر فهي ساكتة عن حكم الأعداد الاخرى ، ومن هنا يمكن أن يثبت مثل الحكم لأعداد اخرى.

وبهذا يتّضح عدم صلاحيّة الجملة العدديّة لنفي طبيعي الحكم عن العدد الأكثر أيضا بنفس البيان ، كما انّها لا تصلح لنفي الإجزاء لو جاء المكلّف بأكثر من العدد المذكور في الخطاب بل انّ ذلك يخضع لقرينة اخرى لا تتّصل بطبيعة الجملة العدديّة ، فتارة تقوم القرينة على انّ العدد المذكور في الجملة ملحوظا بنحو البشرطلا ، أي بشرط عدم الزيادة وعندئذ تكون الزيادة مقتضية لعدم الإجزاء ، وان لم تقم قرينة على ملاحظة العدد بنحو البشرطلا فإنّ الإطلاق يكون حينئذ مقتضيا لعدم ضائريّة الزيادة وان كان ذكر العدد يعبّر عن عدم وجوب الزيادة.

ومع كلّ ذلك لا تكون الجملة العدديّة نافية لطبيعي الحكم عن العدد الزائد بل هي غير متصدّية لأكثر من انّ شخص الحكم ثابت لهذا العدد ، امّا انّ مثله لا يثبت لغير هذا العدد فهو ممّا لا تتكفّل الجملة العدديّة لبيانه وهذا هو معنى عدم دلالتها على المفهوم.

* * *

٥٥١ ـ مفهوم الغاية

قد أوضحنا المراد من معنى الغاية تحت عنوانها وقلنا انّها تارة ترجع الى موضوع الحكم واخرى لمتعلّقه وثالثة للحكم المستفاد من مدلول الهيئة أو المستفاد من المفهوم الاسمي.

ودلالة الجملة الغائيّة على المفهوم معناه انتفاء طبيعي الحكم الثابت للمغيا عند بلوغ الغاية بمعنى ان تحقّق الغاية التي حدّد بها الحكم يقتضي انتفاء طبيعي الحكم عن الموضوع.

وكيف كان فقد ذكر السيّد الخوئي رحمه‌الله انّ الضابط في ظهور الجملة الغائية في المفهوم هو رجوع الغاية الى الحكم وإلاّ فإذا كانت راجعة الى


الموضوع أو المتعلّق فإنّ حالها يكون كحال الجملة الوصفيّة ، لأنّ الغاية حينئذ توجب تضييق دائرة الموضوع أو المتعلّق ، فلو كان لها مفهوم فهو من مفهوم الوصف.

هذا من جهة مقام الثبوت ، وأما مقام الإثبات فالحكم في الجملة الغائيّة إمّا أن يكون مستفادا من الهيئة مثل صيغة الأمر ، وأمّا أن يكون مستفادا من المادة كالتعبير بالواجب أو المحرم ، فإن كان مستفادا من الهيئة فالظاهر هو رجوع القيد لمتعلّق الحكم لا إلى نفس الحكم إلاّ أن تقوم قرينة على رجوع القيد للحكم أو موضوع الحكم ، كما مثلنا لذلك في بحث الغاية ، فمع عدم قيام قرينة خاصّة على رجوعه للموضوع أو للحكم فإنّ الظاهر هو رجوعه لمتعلّق الحكم ، كما لو قيل « صم إلى الليل » فإنّ الظاهر هو رجوع الغاية الى المعنى الحدثي وهو الصيام لا الى صيغة فعل الأمر ، وعليه يكون معنى الجملة المذكورة هو « انّ الصيام المحدّد والمغيّى بالليل واجب » فتكون الغاية قيد لمتعلّق الحكم وليست قيدا للحكم ، إذ انّ معنى رجوع الغاية للحكم انّ الوجوب محدّد ومغيّا بالليل وهو خلاف المتفاهم العرفي من الجملة المذكورة.

وإذا ثبت انّ الغاية راجعة لمتعلّق الحكم أصبحت الجملة الغائيّة من الجمل الوصفيّة ، إذ انّ الجمل الوصفيّة هي مطلق الجمل التي قيّد موضوعها أو متعلّق الحكم فيها بقيد من القيود بحيث يكون ذلك القيد موجبا لتضييق دائرة الموضوع أو متعلّق الحكم بقطع النظر عن انّ ذلك القيد من قبيل النعت النحوي أو الغاية أو غيرهما من القيود.

وأما إذا كان الحكم في الجملة الغائيّة مستفادا من المادّة ـ كما لو قيل « الصوم واجب الى الليل » ـ فله صورتان :

الصورة الأولى : أن يكون متعلّق الحكم مذكورا في الجملة كما في المثال المذكور ، فإنّ متعلّق الوجوب وهو


الصوم مذكور في الجملة ، فهنا لا يكون للجملة ظهور من جهة رجوع الغاية للحكم أو متعلّق الحكم إلاّ ان تكون ثمّة قرينة خاصة على ذلك.

ومن هنا لا يكون للجملة ظهور في المفهوم ، لأنّ ظهورها في المفهوم منوط باستظهار رجوع الغاية للحكم ، والمفترض انّ الجملة مجملة من هذه الجهة.

الصورة الثانية : أن لا يكون متعلّق الحكم مذكورا في الجملة الغائيّة ، كما لو قيل « يحرم الخمر الى ان يضطر اليه المكلّف » فإنّ متعلّق الحرمة وهو الشرب لم يذكر في هذه الجملة ، كما انّ الحكم مستفاد من المادّة وهي قوله « يحرم ».

ومن هنا تكون الجملة الغائيّة ظاهرة في رجوع الغاية للحكم ، وذلك لأنّ رجوعها للمتعلّق المقدّر خلاف الأصل فيتعيّن رجوعها للحكم المفاد بالمادة وبنحو المفهوم الاسمي ، وإذا ثبت رجوعها للحكم كانت ظاهرة في المفهوم ، إذ انّها حينئذ كالجملة الشرطيّة من حيث انّ المقيّد بالشرط هو الحكم ، فتكون دلالتها على المفهوم بنفس التقريب.

هذا حاصل ما يستفاد من كلمات السيّد الخوئي رحمه‌الله.

* * *

٥٥٢ ـ مفهوم اللقب

الجملة اللقبيّة هي التي يكون فيها موضوع الحكم أو متعلّقه اسما جامدا غير موصوف بوصف أو يكون وصفا غير معتمد على موصوف مذكور ، ومثال الأوّل ما لو قيل « أكرم رجلا » أو « أكرم زيدا » ومثال الثاني ما لو قيل « أكرم عالما ».

والبحث عن ثبوت المفهوم للجملة اللقبيّة معناه البحث عن انّ طبيعي الحكم الثابت للقب هل ينتفي بانتفاء اللقب أو لا؟ فعند ما ينتفي زيد في المثال الأوّل وينتفي العالم في المثال الثاني هل يكون انتفاؤه مقتضيا لانتفاء طبيعي الحكم بحيث لا يمكن أن يثبت مثل الحكم لغير زيد في المثال


الأوّل ولغير العالم في المثال الثاني.

لا ريب في عدم ظهور الجملة اللقبيّة في المفهوم ، أمّا في الصورة الاولى فواضح ، إذ انّ ثبوت الحكم لموضوع لا يعني عدم ثبوت مثله لموضوع آخر حتى يكون انتفاء الموضوع مقتضيا لانتفاء طبيعي الحكم ، نعم انتفاء الموضوع يقتضي انتفاء شخص الحكم الثابت له إلاّ انّ هذا غير المفهوم ، إذ قلنا انّ معنى المفهوم يقتضي انتفاء طبيعي الحكم ونوعه لا انتفاء شخص الحكم الناشئ عن تبعيّة الأحكام لموضوعاتها وجود وانتفاء.

وأمّا الصورة الثانية وهي ما لو كان موضوع الحكم أو متعلقه وصفا غير معتمد على موصوف مذكور فحيث انّ الجملة الوصفيّة ـ والتي يكون فيها الوصف معتمدا على موصوف ـ ليست ظاهرة في المفهوم فهنا كذلك بل انّ ذلك في المقام أوضح ، إذ انّ ذكر الوصف بعد ذكر موصوفه مشعر بالتعليق المنتج لاحتمال انتفاء الحكم بانتفاء الوصف ، أما المقام فليس كذلك ، إذ انّ الحكم جعل ابتداء على العنوان الاشتقاقي ، وكونه معتمدا واقعا على موصوف لا يؤثر في استظهار الانتفاء عند الانتفاء ، وذلك لأنّ الاستظهارات تخضع لما تقتضيه صياغة الكلام بحسب ضوابط أهل المحاورة.

* * *

٥٥٣ ـ مفهوم المخالفة

وهو المفهوم المنتج لانتفاء طبيعي الحكم المجعول لموضوعه عند انتفاء قيده وهذا الانتفاء ينشأ عن اشتمال الجملة بطبيعتها الخاصة على لازم بيّن بالمعنى الأخص هذا اللازم هو الذي يقتضي انتفاء طبيعي الحكم عند انتفاء قيده.

فمفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة يشتركان في انّهما من قبيل اللازم البيّن بالمعنى الأخصّ إلاّ انّ طرف الملازمة في مفهوم الموافقة هو المدلول ، وأمّا طرف الملازمة في مفهوم المخالفة فهو


الدلالة كدلالة الجملة الشرطيّة أو الوصفيّة ، راجع مفهوم الموافقة.

ثمّ انّهم ذكروا انّ ضابطة الجملة ذات المفهوم أي التي تدلّ على الانتفاء عند الانتفاء هو ان تشتمل على ركنين أساسيين :

الركن الأوّل : أن يكون القيد المرتبط بالحكم في المنطوق علّة منحصرة للحكم بحيث لا يقوم شيء مقام القيد لتحقيق الحكم.

وبتعبير آخر : لا بدّ وأن تكون الجملة ذات المفهوم متهيّئة بهيئة يستظهر منها العرف كون الربط بين الحكم وقيده ربطا عليّا انحصاريا بحيث ينفهم منها انتفاء الحكم عند انتفاء قيده المأخوذ في المنطوق ، ومن الواضح انّ انتفاء الحكم بانتفاء قيده يتقوّم بثلاثة ركائز :

الأولى : وجود ملازمة بين الحكم وقيده.

الثانية : أن تكون هذه الملازمة بنحو العليّة.

الثالثة : أن تكون عليّة القيد للحكم عليّة انحصاريّة ، إذ لو لم تكن انحصاريّة لأمكن أن ينتفي القيد ولا ينتفي معه الحكم ، لجواز أن يكون للحكم علّة اخرى.

الركن الثاني : أن يكون الربط في المنطوق واقعا بين طبيعي الحكم وبين القيد ، إذ لو كان الربط بين شخص الحكم وبين القيد لكان ذلك يقتضي انتفاء شخص الحكم بانتفاء قيده ، وهو غير المفهوم المبحوث عنه.

وبتعبير آخر : لا بدّ من أن تكون الجملة ذات المفهوم ظاهرة في انّ الربط الواقع بين الحكم وقيده ربط بين طبيعي الحكم وسنخه وبين القيد حتى يكون انتفاء القيد مقتضيا لانتفاء المرتبط به وهو طبيعي الحكم.

هذا وقد اجريت على الركن الأوّل بالخصوص بعض التعديلات لا مجال لبيانها لخروج ذلك عن الغرض.

ثمّ انّ البحث عن الجمل التي يكون لها مفهوم يقوم على أساس البحث عن اشتمالها على ضابطة المفهوم أو عدم اشتمالها على ذلك ، فالبحث إذن عن


ظهورها في المفهوم ، وعند ما يتمّ استظهار المفهوم من بعض الجمل يتنقح عندنا صغرى لكبرى حجيّة الظهور.

وبذلك يتّضح انّ البحث ليس عن حجيّة المفهوم في هذه الجمل كما ربما توهمه بعض العبائر وانّما هو بحث عن ظهورها في المفهوم ، وبعد أن يثبت لها ظهور في المفهوم تصبح من صغريات حجيّة الظهور.

* * *

٥٥٤ ـ مفهوم الموافقة

المراد من مفهوم الموافقة هو المدلول الالتزامي المقتضي لثبوت نفس الحكم في المدلول المطابقي لموضوع آخر غير مذكور في الدليل.

وبتعبير آخر : هو دلالة مدلول الدليل التزاما على ثبوت حكم الموضوع المذكور في الدليل لموضوع آخر غير مذكور أو قل هو تعدية الحكم من موضوعه المذكور في الدليل لموضوع آخر على أن تكون تلك التعدية خاضعة لمبرّرات يقتضيها الفهم العرفي للدليل.

والتعبير عن هذا المفهوم بالموافقة ناشئ عن انّ الحكم المستفاد ثبوته لموضوعه في المفهوم مسانخ للحكم الثابت لموضوعه في المنطوق. وسيتّضح فيما بعد انّ مفهوم الموافقة ليس مدلولا التزاميا للدليل المطابقي وانّما هو مدلول التزامي لمدلول الدليل المطابقي.

وقد ذكر لمفهوم الموافقة قسمين :

القسم الأوّل : هو المفهوم المستفاد بواسطة الأولويّة ، بمعنى انّ ثبوت الحكم لموضوعه في الدليل المطابقي يكشف بالأولويّة القطعيّة عن ثبوت نفس ذلك الحكم لموضوع آخر ، وهذا القسم له صورتان :

الصورة الاولى : ان لا تكون الأولويّة محتاجة لأكثر من ثبوت الدليل المطابقي بمعنى انّه بمجرّد إلقاء الدليل المطابقي يفهم العرف وبنحو القطع ودون الحاجة الى التوسّل بمقدّمة خارجيّة يفهم انّ نفس الحكم


ثابت لموضوع آخر بالأولويّة.

ومثاله قوله تعالى : ( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ ) (٢) فإنّه مع استظهار حرمة التأفّف والتضجر من الوالدين يفهم العرف ثبوت الحرمة لموضوع آخر ـ أو قل لمتعلّق آخر ـ وهو الشتم والضرب ، وذلك بالأولويّة القطعيّة ، وواضح انّه لا نحتاج لإثبات ذلك الى مقدّمة خارجيّة بل انّه بمجرّد استظهار الحكم من الآية الشريفة يفهم العرف انّ هذا الحكم ثابت لموضوع آخر هو شتم وضرب الأبوين.

وبالتأمل في ذلك يتّضح انّ هذه الملازمة ليست بين دلالة الآية الشريفة وبين ثبوت الحكم للموضوع الآخر وانّما هي ملازمة بين مدلول الآية وبين ثبوت الحكم للموضوع الآخر.

وبتعبير آخر : انّ الملازمة انّما هي بين ثبوت الحكم للموضوع الأوّل وثبوته للموضوع الثاني ، ولا علاقة لثبوت الحكم للموضوع الثاني بدلالة الدليل ، ومن هنا لو جيء بصياغات اخرى للدليل لما كان ذلك مؤثرا في انتفاء الملازمة بل لو ثبت الحكم بواسطة دليل غير لفظي لكانت الملازمة أيضا ثابتة ممّا يعبّر عن انّ الملازمة انّما هي مستفادة من المدلول ، أي من نفس ثبوت الحرمة للتأفف من الوالدين ، وهذا بخلاف مفهوم المخالفة فإنّه انّما يستفاد من دلالة الدليل ، ومن هنا يكون تبديل صياغة الدليل مؤثرا في انتفاء المفهوم.

الصورة الثانية : أن يكون ثبوت الأولويّة القطعيّة مفتقرا لمقدّمة خارجة عن اطار مدلول الدليل ، فمع تقرّر هذه المقدمة تثبت الملازمة المنتجة لتعدية الحكم من موضوعه المذكور الى موضوع آخر.

ومثاله : ما لو سأل رجل الإمام عليه‌السلام عن جواز احراق كتاب زيد المشتمل على اسماء المعصومين عليهم‌السلام فأجابه الإمام عليه‌السلام بالحرمة ، فهنا يحتمل أن يكون منشأ الجواب بالحرمة هو انّه اتلاف لمال الغير كما يحتمل انّ المنشأ لذلك هو حرمة اهانة المعصومين عليهم‌السلام ،


فلو احرزنا من خارج الدليل انّ منشأ ذلك هو حرمة اهانة المعصومين عليهم‌السلام فإنّه يمكن التعدّي من ذلك ـ بالأولويّة القطعيّة ـ الى مورد آخر وهو احراق القرآن الكريم.

فثبوت الملازمة بين الحكم الثابت لموضوعه المذكور في الدليل وبين ثبوت الحكم لموضوع آخر بنحو الأولويّة القطعيّة منوط بمقدّمة يتمّ تنقيحها من خارج الدليل ، ولا بدّ بنظر الإماميّة من أن تكون هذه المقدّمة قطعيّة وإلاّ لم تثبت الملازمة ولم يصحّ التعدّي ، كما أوضحنا ذلك تحت عنوان « قياس مستنبط العلّة » و « قياس منصوص العلّة ».

القسم الثاني : المفهوم المستفاد بواسطة القطع باتّحاد الموضوعين في علّة الحكم ، أي اتّحاد الموضوع الثابت له الحكم بالدليل مع الموضوع الذي يراد تعدية الحكم له ، فمع القطع باتّحادهما في علّة الحكم أو مناطه يكون ثبوت الحكم للموضوع المذكور ملازما لثبوته للموضوع الثاني ، وهذا هو المعبّر عنه بمفهوم الموافقة بملاك المساواة ، وهو أيضا ينقسم إلى قسمين ،

فتارة تكون العلّة المعبّرة عن المساواة منصوصة واخرى تكون مستنبطة ، والقطع في الحالة الثانية بالعلّة نادر إن لم يكن منعدما ، وقد أوضحنا كلّ ذلك تحت عنوان « القياس » و « قياس منصوص العلّة » و « قياس مستنبط العلّة » و « العلّة والحكمة ».

* * *

٥٥٥ ـ مفهوم الوصف

والبحث هنا أيضا عن انّ انتفاء الوصف عن الموضوع المجعول له الحكم في المنطوق هل يقتضي انتفاء طبيعي الحكم عن الموضوع المنتفي عنه الوصف أو لا؟ فإن كان يقتضي ذلك كان للجملة الوصفيّة مفهوم وإلاّ لم يكن لها مفهوم.

ثمّ انّ الجملة الوصفيّة المبحوث عن ظهورها في المفهوم هي الجملة التي يكون الوصف فيها معتمدا على


موصوف مذكور في الخطاب وإلاّ كانت جملة لقبيّة ، كما أوضحنا ذلك في مفهوم اللقب.

فالجملة الوصفيّة بحسب اصطلاحهم هي الجملة التي جعل فيها الحكم على موضوع ذي وصف ، كما لو قيل : « أكرم رجلا عالما » ، أما لو قيل : « أكرم عالما » فإنّ هذه الجملة لا تكون وصفيّة بل هي لقبيّة.

ثمّ انّ الجملة الوصفيّة تنقسم إلى أقسام أربعة ، اثنان منها خارج عن محلّ البحث :

القسم الأوّل : أن يكون الوصف مساويا للموصوف ، كما لو قيل : « أكرم إنسانا ضاحكا » ، فإنّ الإنسان والضاحك متساويان في الوجود ، ومن هنا لا يكون لهذه الجملة الوصفيّة مفهوم ، وذلك لأنّ المفهوم ـ كما قلنا ـ معناه انتفاء طبيعي الحكم عن الموضوع عند انتفاء قيده ، وهنا يكون القيد مساوقا لانتفاء الموضوع ، فمع عدم القيد لا موضوع حتى نبحث عن انّ الحكم هل ينتفي عن الموضوع عند انتفاء قيده أو لا.

القسم الثاني : أن يكون الوصف أعمّ مطلقا من الموصوف كما لو قيل : « أكرم إنسانا متحركا بالإرادة » فإنّ وصف التحرك بالإرادة لا يختصّ بالإنسان بل يشمله ويشمل مطلق الحيوان ، ومن هنا كان الوصف أعمّ مطلقا من الموصوف.

وهذا القسم خارج أيضا عن محلّ النزاع ، وذلك لأنّ انتفاء الوصف يساوق دائما انتفاء الموضوع « الموصوف » ، ومعه لا معنى للبحث عن انّ انتفاء الوصف هل يقتضي انتفاء طبيعي الحكم عن الموضوع ، إذ لا موضوع مع افتراض انتفاء الوصف الأعمّ.

القسم الثالث : أن يكون الوصف أخصّ مطلقا من الموصوف ، كما لو قيل : « أكرم الإنسان الفقير » فإنّ وصف الفقير أخصّ مطلقا من الإنسان.

ولا ريب في دخول هذا القسم في محلّ النزاع ، وذلك لأنّ انتفاء القيد لا يساوق انتفاء الموضوع ، وهنا يكون للبحث ـ عن انّ انتفاء القيد عن


الموصوف هل يقتضي انتفاء طبيعي الحكم عنه ـ مجال.

القسم الرابع : أن يكون بين الوصف والموصوف عموم من وجه كما لو قيل : « في الغنم السائمة زكاة » ، فإنّ النسبة بين السائمة وبين الغنم عموم من وجه ، ومورد افتراق الوصف عن الموصوف في السائمة من غير الغنم ، كما انّ مورد افتراق الموصوف عن الوصف هو الغنم المعلوفة.

وهذا القسم داخل أيضا في محلّ النزاع ولكن من جهة العموم في الموصوف ، فإنّ الغنم سائمة ومعلوفة والحكم انّما هو مجعول على خصوص الغنم السائمة ، وعليه لو انتفى السوم عن الغنم بأن كانت معلوفة فإنّه يأتي البحث عن انّ انتفاء السوم عن الغنم هل يقتضي انتفاء وجوب الزكاة عنها أو لا ، فلو كان للجملة الوصفيّة مفهوم لكان انتفاء السوم عن الغنم مقتضيا لانتفاء طبيعي وجوب الزكاة عنها.

نعم انتفاء السوم عن غير الغنم كالإبل والبقر لا يكون مقتضيا لانتفاء وجوب الزكاة عنها ، وذلك لأنّ ثبوت المفهوم للجملة الوصفيّة انّما يعني انتفاء طبيعي الحكم عن الموضوع المذكور في الجملة عند انتفاء الوصف عنه لا انتفاء طبيعي الحكم عن الموضوع المذكور في الجملة عند انتفاء الوصف عنه لا انتفاء طبيعى الحكم عن موضوع آخر غير مذكور فى الجملة.

ثمّ انّ الجمل الوصفيّة المبحوث عن ظهورها في المفهوم هي مطلق الجمل التي قيد موضوعها أو متعلّق الحكم فيها بقيد من القيود بحيث يكون ذلك القيد موجبا لتضييق دائرة الموضوع أو متعلّق الحكم ، ولهذا لا يختصّ القيد المصحّح لاعتبار الجملة وصفيّة بالنعت في مصطلح النحاة بل يشمل الحال والتمييز والإضافة وكلّ ما يوجب التضييق من دائرة موضوع الحكم أو متعلّقه.

وبتحرُّر محلّ النزاع نقول : انّ المشهور ذهبوا الى انّ الجملة غير ظاهرة في المفهوم ، وقد قرّب ذلك بتقريبات ، منها ما ذكره السيّد الخوئي رحمه‌الله وحاصله :


انّ القيد في الجمل الوصفيّة راجع لموضوع الحكم أو لمتعلّقه وليس راجعا للحكم ، وهذا هو مبرّر عدم ظهوره في المفهوم ، إذ انّ ثبوت الحكم لموضوع لا يعني انتفاء مثل الحكم عن موضوع آخر ، إذ ما المانع من أن يثبت حكمان متسانخان لموضوعين مختلفين بعد أن كان ثبوت الحكم لموضوع مقيّد معناه ثبوت الحكم لموضوع خاصّ ، وهذا لا يمنع عن ثبوت الحكم لنفس الموضوع بقيد آخر أو ثبوته له مجردا عن كلّ قيد ، وذلك لما ذكرناه من انّ مرجع ذلك الى ثبوت حكمين متسانخين لموضوعين مختلفين ، نعم لو كان القيد راجعا للحكم كما هو الحال في الجملة الشرطيّة لكان ذلك مقتضيا لانتفاء طبيعي الحكم بانتفاء قيده ، لأنّ تقييد الحكم بقيد معناه انّ هذا الحكم لا يثبت إلاّ مع هذا القيد فثبوت الحكم مع عدم القيد مناف لإطلاق تقييده بذلك القيد ، ومن هنا يكون المنتفي بانتفاء القيد هو طبيعي الحكم.

* * *

٥٥٦ ـ قاعدة المقتضي والمانع

والمراد منها هو ترتيب آثار وجود المعلول عند اليقين بوجود المقتضي مع عدم احراز انتفاء المانع والذي هو الجزء الآخر لعلّيّة العلّة.

وبيان ذلك : انّه تارة نحرز تحقّق المقتضي للمعلول ونحرز عدم وجود ما يمنع عن تأثير المقتضي أثره ، فهنا لا ريب في تحقق المعلول ، وذلك لتماميّة علته. وتارة نحرز وجود المقتضي إلاّ اننا نشك في انتفاء المانع ، فلعلّه منتف ولعله موجود ، وهنا يكون مجرى القاعدة والمقتضية للبناء على عدم المانع ، وهذا يعني انّ المقتضي قد أثّر أثره وأوجد معلوله المعبّر عنه بالمقتضى بصيغة المفعول.

ومثاله أن نحرز وجود النار في الخشب إلاّ اننا لا نعلم بما اذا كان هناك مانع عن تأثير النار أثرها وهو احراق الخشب ، فهنا يكون مقتضى القاعدة هو البناء على عدم وجود المانع وانّ المقتضي وهي النار قد أحرقت الخشب.


وهذه القاعدة رغم اشتراكها مع قاعدة الاستصحاب من جهة تقومها باليقين والشك إلاّ انّها تختلف عن الاستصحاب من جهة انّ مورد الشك فيها مباين لمورد اليقين ، إذ انّ مورد اليقين في هذه القاعدة هو وجود المقتضي وأما مورد الشك فهو وجود المانع ، ولهذا تكون أدلة الاستصحاب قاصرة عن الشمول لمورد القاعدة.

وقد استدلّ على حجيّة هذه القاعدة بالسيرة العقلائيّة القاضية بالبناء على وجود المعلول بمجرّد احراز وجود المقتضي ، إلاّ انّ السيد الخوئي رحمه‌الله لم يقبل بهذه الدعوى وأفاد بأنّ السيرة جارية على خلاف ما تقتضيه القاعدة.

فلو صوّب شخص سهما نحو رجل بحيث لو أصابه لقتله إلاّ انّه وقع الشك في وجود المانع عن الوصول اليه ، فإنّ العقلاء حينئذ لا يبنون على موت من صوّب السهم نحوه ، ولا يرتّبون على ذلك إدانة المصوب للسهم بالقتل ، وهذا ما يعبّر عن انّ احراز المقتضي وحده لا يبرّر البناء عقلائيا على تحقّق المعلول.

* * *

٥٥٧ ـ مقدمات الحكمة

وقد أوضحنا المراد منها تحت عنوان « قرينة الحكمة ».

* * *

٥٥٨ ـ المقدّمة التوليديّة

وهي المقدّمة التي لا يتوسط بينها وبين ذي المقدّمة اختيار للمكلّف بل انّه متى ما تحقّقت هذه المقدّمة يكون وجود ذي المقدّمة حتميا.

ومثالها : العلل التكوينيّة الاختياريّة لو كانت تامّة أو الجزء الأخير للعلّة التامّة فإنّها مقدّمات توليديّة لمعلولاتها ويستحيل معها تخلّف المعلول. كما في اسقاط شخص من شاهق فإنّه مقدّمة توليدية لسقوطه ، إذ لا يتوسّط بين الإسقاط والسقوط اختيار للفاعل.

والتعبير عنها بالتوليديّة منشؤه انّ


ذا المقدّمة يتولّد عنها بمجرّد ايجادها. ثمّ انّ افتراض حتميّة ذي المقدّمة بعد ايجاد مقدّمته التوليديّة لا ينفي صحّة التكليف بذي المقدّمة باعتبارها قهريّة وباعتبار عجز المكلّف عن التخلّف عنها ، وذلك لأنّ القدرة المصحّحة للتكليف هي القدرة على الفعل أو الترك ولو بواسطة القدرة على المقدّمة ايجادا وتركا.

* * *

٥٥٩ ـ مقدّمة الحرام

المراد من مقدّمة الحرام لا يختلف عن المراد من مقدّمة الواجب من حيث انّ المراد منها هو ما يتمكّن المكلّف بواسطتها من ارتكاب الحرام بحيث لو لم يوسط تلك المقدّمة لما كان من الممكن ارتكاب الحرام.

ومثاله : ما لو كان ارتكاب الحرام متوقفا على السفر بحيث لو لم يسافر لما أمكنه ارتكاب الحرمة المعيّنة ، فحينئذ يكون السفر من مقدّمات الحرام.

وقد قسم المحقّق النائيني رحمه‌الله مقدّمة الحرام الى ثلاثة أقسام :

القسم الأوّل ، أن تكون مقدّمة الحرام من المقدّمات التوليديّة والتي لا يتوسّط بينها وبين ذي المقدّمة اختيار للمكلّف ، بمعنى انّه متى ما جاء بالمقدّمة ترتب على ذلك فعل الحرام حتما ، وهذا الفرض يتّفق فيما لو كانت المقدّمة علّة تامّة أو الجزء الأخير من العلّة التامّة لفعل الحرام.

وقد بنى المحقّق النائيني رحمه‌الله على انّ حرمة هذه المقدّمة حرمة نفسيّة وليست حرمة غيريّة ، إذ انّ الحرمة المجعولة على ذي المقدّمة مجعولة واقعا على المقدّمة ، وذلك لأنّ المقدور منهما انّما هو المقدّمة دون ذيها ، فيكون مصبّ الحرمة واقعا انّما هو المقدّمة.

وقد أورد عليه السيّد الخوئي رحمه‌الله بأنّ ذلك خلاف ما يبني عليه المحقّق النائيني رحمه‌الله نفسه من كفاية القدرة على المقدّمة في تصحيح التكليف بذي المقدّمة ، فذو المقدّمة وان لم يكن مقدورا ابتداء إلاّ انّ القدرة على مقدّمته معناه القدرة عليه ، وهذا هو


المصحّح لجعل الحرمة على ذي المقدّمة ابتداء.

ثمّ أفاد رحمه‌الله انّ الصحيح هو انّ حرمة مقدّمة الحرام التوليديّة منوط بما هو المبنى في مقدّمة الواجب ، فإن كان البناء هناك هو وجوب المقدّمة شرعا فالبناء هنا هو حرمة المقدّمة شرعا وإلاّ فلا. والنتيجة انّ الحرمة لو كانت ثابتة فهي حرمة غيريّة لا نفسيّة كما أفاد المحقّق النائيني رحمه‌الله.

القسم الثاني : أن تكون مقدّمة الحرام موجبة للقدرة على ارتكاب الحرام إلاّ انّه يتوسّط بين فعلها وبين ارتكاب الحرام اختيار المكلّف ، فلو قصد المكلّف من فعل المقدّمة التوصل بها لارتكاب الحرام فهذا هو القسم الثاني لمقدّمة الحرام.

وفي هذا القسم لو بنينا على حرمة التجرّي فالمقدّمة حرام بالحرمة النفسيّة وإلاّ فبناء على ثبوت الملازمة فالمقدّمة حرام بالحرمة الغيريّة.

وأجاب السيّد الخوئي رحمه‌الله عن ذلك بأنّ الحرمة الغيريّة لا تثبت لمقدّمة الحرام من هذا القسم وان كنّا نبني على ثبوت الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته ، وذلك لأنّ الواجب لا يمكن أداءه إلاّ عند وجود مقدّماته ، وأمّا مقدّمة الحرام فالإتيان بمقدّماته غير التوليديّة لا ينتج فعل الحرام بل يكون ذلك منوطا باختيار المكلّف ، فحتى لو جاء المكلّف بمقدّمة الحرام فإنّه يتوسّط بينها وبين فعل الحرام اختيار المكلّف وإرادته ، وهذا ما ينفي نكتة الملازمة الثابتة في مقدّمة الواجب.

القسم الثالث : هو نفس القسم الثاني إلاّ انّ المكلّف لا يقصد من الإتيان بالمقدّمة التوصل بها الى ارتكاب الحرام ، وهنا بنى المحقّق النائيني رحمه‌الله على عدم الحرمة بعد أن كان المكلّف قادرا على ترك الحرام حتى بعد فعل المقدّمة وبعد ان لم يكن قاصدا بها التوصّل الى فعل الحرام وأحدهما هو المناط لثبوت الحرمة لمقدّمة الحرام.

وقد وافقه السيّد الخوئي رحمه‌الله في


النتيجة ، وعلّق على ذلك بأنّ ملاك الحرمة للمقدّمة انّما هو توقف امتثال الحرمة على تركها والمفروض انّ امتثال الحرمة لا يتوقّف على ترك المقدّمة.

* * *

٥٦٠ ـ المقدّمة الخارجيّة

وهي المقدّمة الخارجة عن ماهيّة المأمور به ذاتا وتقيّدا إلاّ انّها دخيلة في تحصيل المأمور به ، بمعنى انّ ايجاد المأمور به منوطا بتحقّقها مثل السفر للحج.

والمراد من خروجها عن ذات المأمور به هو انّها ليست جزء من أجزاء المأمور به كما هو الحال في المقدّمات الداخليّة ، وأمّا المراد من خروجها عن المأمور به تقيّدا فهو انّه لا يكون المأمور به متحصّصا بها كما هو الحال في الشرائط والموانع ، فإنّ اشتراط المأمور به بشرط معناه انّ المأمور به هو الحصّة الخاصّة المتحصّصة بالشرط ، فالشرط وان كان خارجا عن المأمور به إلاّ انّ المطلوب معه هو حصّة خاصّة من طبيعة المأمور به ، وهي الحصّة المتقيّدة بذلك الشرط ، فالشرط ـ وهو القيد ـ خارج والتقيّد داخل ، ومن هنا لا يكون هذا الشرط مقدّمة خارجيّة.

ومثاله : اشتراط الصلاة بالطهارة ، فإنّ الطهارة وان لم تكن من أجزاء الصلاة إلاّ انّه باشتراطها في الصلاة يكون التقيّد بها مطلوبا ، بمعنى انّ المطلوب هو الحصّة الخاصّة من طبيعة الصلاة ، وهي الحصّة المتقيّدة بالطهارة ، وهذا ما برّر عدم اعتبار الطهارة من المقدّمات الخارجيّة.

وهكذا الكلام في المانعيّة ، فعند ما تكون أجزاء ما لا يؤكل لحمه مانعا فهذا معناه تحصّص المطلوب بالحصّة الفاقدة للتلبس بأجزاء ما لا يؤكل لحمه.

ثمّ انّه قد تطلق المقدّمة الخارجيّة على كلّ مقدّمة خارجة عن ذات المأمور به مع كون المأمور به متقيّدا بها ، وهذا معناه انّ الشروط والموانع


من المقدّمات الخارجيّة ، إذ انّها وان كانت داخلة تقيّدا إلاّ انّها لمّا لم تكن من أجزاء المأمور به فهي مقدّمة خارجيّة إلاّ انّه يعبّر عنها بالمقدّمة الخارجيّة بالمعنى الأعم. فالمقدّمة الخارجيّة بالمعنى الأعمّ هي ما تكون خارجة عن المأمور به ذاتا لا تقيّدا.

* * *

٥٦١ ـ المقدّمة الداخليّة

المراد من المقدّمة الداخليّة هي أجزاء المأمور به الدخيلة في ماهيّته ذاتا وتقيّدا ، أمّا دخولها في ماهيّته ذاتا فلأنّ افتراضها من أجزاء المأمور به يساوق افتراضها مقوما لحقيقته ، إذ انّ المركّب انّما يقوم بأجزائه.

وأمّا تقيّده بها فلأنّ اعتباره في المأمور به ليس بأيّ نحو اتّفق بل المطلوب والمعتبر هو تقيّد المأمور به بحصّة يكون معها الجزء على نحو خاص ، فالقراءة والتي هي أحد أجزاء الصلاة اعتبرت بنحو تكون مسبوقة مثلا بتكبيرة الإحرام وملحوقة بالركوع ، وهذا معناه انّ المطلوب ليس هو مطلق طبيعة الصلاة المشتملة على القراءة بل المطلوب هو الحصّة الخاصّة التي تكون معها القراءة واقعة بين تكبيرة الإحرام والركوع.

ثمّ انّ المقدّمة الداخليّة قد تطلق على القيود التي لا تكون دخيلة في المأمور به ذاتا إلاّ انّها دخيلة تقيّدا ، وعلى هذا تكون الطهارة مثلا والتي هي خارجة عن المأمور به ذاتا إلاّ انّها داخلة تقيّدا من المقدّمات الداخليّة ، فالقيود والموانع يعبّر عنها بالمقدّمات الخارجيّة بالمعنى الأعم ، كما يعبّر عنها بالمقدّمات الداخليّة بالمعنى الأعمّ ، وقد أوضحنا المراد من التقيّد بها في المقدّمة الخارجيّة.

ثمّ انّه وقع البحث عن المقدّمة الداخليّة بالمعنى الأوّل من جهة صحّة اطلاق عنوان المقدّمة عليها بعد إن لم تكن أجزاء المأمور به مغايرة للمأمور به خارجا فهي عين المأمور به ، ولو صحّ اطلاق عنوان المقدّمة عليها فهل هي داخلة في محلّ النزاع؟ بمعنى انّ


البحث عن الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته هل يشمل المقدّمة الداخليّة بالمعنى الاول أو لا؟

أمّا الجهة الاولى : فيقال انّ عنوان المقدميّة يحتمل أحد معنيين :

المعنى الأول : انّ المقدّمة هي ما يكون وجودها مغايرا خارجا لوجود ذي المقدّمة ، غايته انّ وجود ذي المقدّمة منوط بوجودها.

المعنى الثاني : انّ المراد من المقدّمة هو ما يكون وجود ذي المقدّمة منوطا بوجودها بقطع النظر عن تغاير وجود المقدّمة عن وجود ذيها أو انّه ليس مغايرا ، فالمغايرة وعدمها ليس دخيلا في صدق المقدّميّة.

وبناء على انّ المراد من المقدّمة هو المعنى الاوّل لا تكون أجزاء المأمور به من المقدّمات أصلا ، فلا تصل النوبة للبحث عن مشموليتها لمحلّ النزاع في مقدّمة الواجب وعدم مشموليتها ، وأمّا بناء على المعنى الثاني فلا مانع من اطلاق عنوان المقدّمة على أجزاء المأمور به لتوقف وجود المركّب المأمور به على وجود أجزائه ، وباعتبار انّ التوقّف هو مناط صدق المقدميّة فالأجزاء تكون من مقدّمات الواجب ، ومن هنا يكون للبحث عن الجهة الثانية موقع.

وأمّا الجهة الثانية : وهي البحث عن شمول محلّ النزاع في مقدّمة الواجب للمقدّمات الداخليّة ، فقد ذكر صاحب الكفاية رحمه‌الله وكذلك الأعلام بأنّه لا معنى لشمول البحث للمقدّمات الداخليّة ، وذلك لأنّ البحث في مقدّمات الواجب انّما هو بحث عن ثبوت الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّماته ، والبحث عن الملازمة انّما هو بعد افتراض انّ الملزوم غير لازمه ، وعندئذ نبحث عن انّ العقل هل يدرك الملازمة بينهما أو لا ، وهذا الفرض ليس واردا في المقدّمات الداخليّة والتي هي أجزاء المأمور به ، وذلك لأنّ أجزاء المأمور به هي عينها المأمور به ، فالوجوب المجعول على المركّب المأمور به مجعول عليها ، وحينئذ لا معنى للبحث عن


اشتمالها على ملاك الوجوب الغيري الثابت للمقدّمات لو تمّت الملازمة ، إذ انّه لا ريب في توفرها على ملاك الوجوب النفسي الثابت للمركّب.

* * *

٥٦٢ ـ مقدّمة الصحّة

وهي ما يتوقّف صحّة المأمور به عليها ، فكلّ شيء يفضي عدم الالتزام به الى عدم صحّة الواجب المأتي به فهو من مقدّمات الصحّة ، وهذه هي المعبّر عنها بالمقدّمات الخارجيّة بالمعنى الأعم أو المقدّمات الداخليّة بالمعنى الأعمّ ، وهي عبارة عن الشرائط والموانع الموجبة لتحصّص المأمور به بالحصّة الواجدة لهذه الشرائط والفاقدة لهذه الموانع ، فالمطلوب معها ليس هو طبيعي المأمور به بل المطلوب معها هو الحصّة الخاصّة وهي المتقيّدة بهذه الشروط والمنتفي عنها هذه الموانع.

وعليه تكون مثل الطهارة من شرائط الصحّة وكذلك يكون عدم النجاسة الخبثيّة وعدم التلبس بأجزاء ما لا يؤكل لحمه من قيود ومقدمات الصحّة ، وذلك لأنّ صحّة الواجب المأتي به منوط بتوفّره على هذه القيود ، فيكون الواجب متحصّصا بها.

وبتعبير آخر : انّ الصحّة لمّا كانت بمعنى مطابقة المأتي به للمأمور به فذلك يقتضي أن يكون المأتي به هو الحصّة الخاصّة الواجدة للقيود والمنتفي عنها الموانع وإلاّ لم تتحقّق مطابقة المأتي به للمأمور به والتي هي مناط الصحّة ، وهذا ما يعبّر عن انّ هذه القيود والموانع الموجبة لتحصيص المأمور به هي قيود الصحّة ، وهذا هو منشأ التعبير عنها بمقدّمات الصحّة.

* * *

٥٦٣ ـ المقدّمة العقليّة والشرعيّة والعاديّة

وهذا التقسيم تقسيم للمقدّمة الخارجيّة ، وهو تقسيم لها بلحاظ منشأ المقدميّة ، فقد يكون المنشأ


لمقدميّة المقدّمة هو الامور التكوينيّة والمدرك لذلك هو العقل ، ومن هنا عبّر عنها بالمقدّمة العقليّة ، كما قد يكون المنشأ لمقدميّة المقدّمة هو اعتبار الشارع ، فتكون المقدّمة بذلك شرعيّة ، وقد يكون منشأ مقدميّتها هو مقتضيات العادة ، وهذا ما يبرّر التعبير عن المقدّمة المقتضاة عن العادة بالمقدّمة العاديّة.

أمّا المراد من المقدّمة العقليّة : هو ما كان وجود ذي المقدّمة مستحيلا واقعا بدون وجودها ، وبعبارة اخرى انّ المقدّمة العقليّة هي التي يتوقّف واقعا وجود ذي المقدّمة عليها ، ومعه يستحيل عقلا تحصيل ذي المقدّمة دون تحصيلها أو قل دون وجودها.

ويمكن التمثيل لها بالعلل التكوينيّة بالنسبة لمعلولاتها ، فلو كان المعلول واجب التحصيل فهذا يتوقف على ايجاد علّته التكوينيّة التي يستحيل وجود المعلول بدونها ، فلو وجب على المكلّف احراق شيء فإنّ ذلك يستحيل تكوينا إلاّ بايجاد النار ، وذلك لأنّ الإحراق معلول تكوينا للنار.

وأمّا المراد من المقدّمة الشرعيّة : فهي عبارة عن المقدّمات التي علّق الشارع صحّة المأمور به عليها بحيث لا يكون المأمور به واجدا للصحّة ما لم يكن متوفرا على هذه المقدّمات ، وهذه هي المقدّمات المعبّر عنها بمقدّمات الصحّة وبالمقدّمات الخارجيّة أو الداخليّة بالمعنى الأعمّ والتي هي القيود المعتبر وجودها أو عدمها في المأمور به كما اتّضح ممّا تقدّم ، ومنشأ التعبير عنها بالشرعيّة هو انّ الشارع نفسه اعتبر المأمور به متقيّدا بها.

وقد حاول صاحب الكفاية رحمه‌الله إرجاع هذا النحو من المقدّمات الى المقدّمات العقليّة بتقريب هو انّ اعتبارها شرطا في المأمور به معناه استحالة تحقّق المأمور به بدونها ، إذ انّ المشروط مستحيل وجوده عند عدم وجود شرطه ، فاعتبارها من قبل الشارع شرطا في المأمور به يفضي الى


إدراك العقل لاستحالة تحقّق المشروط وهو المأمور به دون تحقّقها ، إذ لا يمكن تحقّق الواجب المتحصّص بها ما لم يكن واجدا لها.

وأمّا المقدّمة العاديّة : فهي المقدّمة التي اقتضت العادة الإتيان بها لغرض تحصيل ذيها دون أن يكون ذو المقدّمة متوقفا عليها ، بمعنى انّه يمكن تحصيل ذي المقدّمة حتى مع عدم وجودها.

والمقدّمة بهذا المعنى خارجة عن محلّ البحث ، إذ لا ريب في عدم ترشّح وجوب من ذي المقدّمة الى المقدّمات التي لا يتوقّف وجود ذي المقدّمة عليها.

إلاّ انّه قد تطلق المقدّمة العاديّة ويراد منها المقدّمات التي يستحيل خارجا وجود ذي المقدّمة عند عدم وجودها باعتبار انّ المقدّمات الاخرى الممكنة ذاتا غير متحقّقة فعلا.

وبتعبير آخر : انّ بعض المقدّمات لا يكون عدم وجودها مفضيا الى عدم وجود ذيها ، وذلك باعتبار امكان تحقّق ذي المقدّمة بواسطة مقدّمات اخرى ممكنة وقوعا إلاّ انّه وباعتبار عدم وجود تلك المقدّمات الممكنة وقوعا ينحصر وجود ذي المقدّمة بها فيستحيل بذلك تحقّق ذي المقدّمة بدونها. والتعبير عنها بالعاديّة بلحاظ امكان تحقّق ذيها بوسائط اخرى ممكنة وقوعا إلاّ انّ المتوفّر عادة هو مقدّمة معيّنة.

ومثال ذلك السفر الى الحجّ ، فإنّ الكون في مكّة المكرّمة للآفاقي دون طي المسافة مستحيل وقوعا ، بمعنى انّه يلزم من فرض وقوعه محال وهو الطفرة إلاّ انّ الكون قد يحصل بوسائط اخرى غير السفر مثل المعجزة والتي هي ممكنة وقوعا إلاّ انّه وباعتبار انّ المعجزة غير متحقّقة ينحصر الكون في مكّة الشريفة بتحصيل السفر ، فيستحيل عقلا تحقّق الكون فيها دون تحصيل السفر ، وبهذا تؤول المقدّمة العاديّة إلى المقدّمة العقليّة ، فتكون داخلة في محلّ النزاع.

* * *


٥٦٤ ـ المقدّمة العلميّة

وهي المقدّمة الموجب تحصيلها لحصول العلم بالامتثال القطعي ، بمعنى انّ تحصيل المكلّف لها يؤدي للقطع بالخروج عن عهدة التكليف.

ويمكن التمثيل لذلك بموارد العلم الإجمالي فإنّه لا يحصل القطع بالامتثال إلاّ بواسطة العمل بتمام أطراف العلم الإجمالي ، ومن الواضح انّه لا يجب من مجموع الأطراف إلاّ طرف واحد وهو منطبق الجامع وعليه تكون بقيّة الأطراف مقدّمة لحصول العلم بامتثال التكليف المعلوم اجمالا.

ومثال ذلك ما لو اشتبهت القبلة على المكلّف ، فإنّ الصلاة الى الجهات الأربع يوجب القطع بوقوع الصلاة المأمور بها الى القبلة ، فتكون الصلاة الى الجهات الثلاث مقدّمة علميّة لتحصيل القطع بالامتثال ، إذ انّ الواجب من الصلوات الأربع ليس إلاّ صلاة واحدة والصلوات الثلاث الاخرى انّما هي مقدّمة لتحصيل العلم بأداء الصلاة الواجبة ، وبدون الصلاة الى الجهات الأربع لا يحصل العلم بالامتثال القطعي ، إذن كلّ فعل يتوقّف عليه حصول العلم بالامتثال فهو مقدّمة علميّة.

وبما ذكرناه يتّضح انّ المقدّمات العلميّة خارجة عن بحث الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّماته ، إذ انّ المفترض انّ الواجب واقعا لا يتوقّف تحصيله عليها فقد تكون الصلاة الاولى هي الصلاة المطلوبة واقعا مما يعبّر عن انّ الواجب لا يتوقّف على المقدّمة العلميّة ، نعم العلم بامتثال الواجب يتوقّف على المقدّمة العلميّة ، والبحث انّما هو عن المقدّمات التي يتوقف وجود الواجب عليها.

فملاك الوجوب للمقدّمة العلميّة لو كانت واجبة ليس هو الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّماته ، إذ المقدّمة العلميّة ليست من مقدّمات وجود الواجب بل الملاك ، هو ما يدركه العقل من لزوم تحصيل الأمن من العقاب ، ولا يحصل الأمن منه مع


الشك في فراغ الذمّة عن التكليف المتعلّق بالعهدة فلا سبيل لتحصيل الأمن إلاّ المقدّمة العلميّة وهذا هو ملاك وجوبها ، لا انّ ملاك وجوبها هو الملازمة.

* * *

٥٦٥ ـ مقدّمة المستحبّ والمكروه

أمّا مقدّمة المستحبّ فتتّضح بملاحظة مقدّمة الواجب ، وأمّا مقدّمة المكروه فتتّضح من ملاحظة مقدّمة الحرام.

* * *

٥٦٦ ـ المقدّمة المفوتة

المراد من المقدّمة المفوّتة هي المقدّمة التي يفضي عدم تحصيلها الى فوات القدرة على تحصيل الواجب في حينه ، فلو اتّفق ان كان المكلّف قادرا على تحصيل الواجب في وقته متى ما التزم بفعل ومتى ما لم يلتزم به أدى ذلك الى العجز عن امتثال التكليف حين مخاطبته به أو قل حين تحقّق فعليّته فهذا الفعل الذي يتحفّظ بواسطته على القدرة من الامتثال حين تحقّق الفعليّة للحكم يعبّر عنه بالمقدّمة المفوتة.

فإذن تعنون الفعل بالمقدّمة المفوّتة منوط بأمرين :

الأمر الأوّل : هو افتراض انّ الفعل مؤد للقدرة على امتثال التكليف وانّ عدمه مؤدٍّ لانسلاب القدرة عن امتثال التكليف.

الأمر الثاني : هو افتراض تأهيل الفعل لجعل المكلّف قادرا على امتثال التكليف قبل الخطاب بالتكليف ، أمّا لو كان الفعل صالحا لتأهيل المكلّف للقدرة على امتثال التكليف بعد الخطاب به وتحقّق فعليّته فإنّه لا يكون مقدّمة مفوتة بل يكون من مقدّمات الواجب.

ومثال ذلك : ما لو كان المكلّف محدثا وكان عنده ماء يكفي لرفع الحدث وكان ذلك قبل دخول الوقت ، فلو لم يتحفّظ على هذا الماء لكان عاجزا عن الصلاة عن طهارة مائيّة حين دخول الوقت ، فالتحفّظ على


الماء الى حين دخول الوقت يعبّر عنه بالمقدّمة المفوّتة ، وذلك لأنّ عدم التحفّظ عليه يؤدي الى عجز المكلّف عن امتثال التكليف في حينه ، أي عجزه عن الصلاة عن طهارة مائيّة حين دخول الوقت.

وباتّضاح ذلك نقول : انّ البحث عن وجوب المقدّمة المفوّتة ليس بحثا عن الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته ، وذلك لافتراض عدم وجوب ذي المقدّمة وانّ الوجوب لذي المقدّمة لم تتحقّق فعليته بعد ، وحينئذ لا يتعقّل البحث عن ترشّح وجوب من ذي المقدّمة الى المقدمات المفوتة بعد إن لم يكن ذو المقدّمة واجبا فعلا ، وبعد الخطاب بذي المقدّمة وتحقّق فعليّته لا يكون المكلّف قادرا على الامتثال لو لم يأت بالمقدّمة المفوتة كما هو المفترض.

فحينما يكون المكلّف قادرا على الامتثال لا يكون مخاطبا بالتكليف وحينما يخاطب بالتكليف يصبح عاجزا عن الامتثال لافتراض عدم تحفّظه على المقدّمة المفوّتة ، ولذلك لا بدّ وأن يكون البحث عن وجوب المقدّمة المفوّتة من جهة اخرى.

وقد استدلّ لوجوبها بما حاصله : انّ عدم الالتزام بالمقدّمات المفوّتة يؤدى الى تفويت الملاك اللزومي والذي تصدّى المولى لإبرازه ولو بواسطة جعل التكليف بمتعلّقه في حينه باعتبار استحالة الواجب المعلّق والمشروط ، وواضح انّ هذا التفويت للملاك اختياري للمكلّف بلحاظ قدرته على التحفّظ عليه قبل الخطاب بالتكليف ، والامتناع والعجز بعد الخطاب بالتكليف لا ينافي الاختيار ، وذلك لأنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقابا كما أوضحنا ذلك في محلّه.

ومن هنا ذهب المحقّق النائيني والسيّد الخوئي رحمهما الله الى وجوب المقدّمات المفوّتة عقلا ، وهل هي واجبة شرعا أيضا أو لا؟

ذهب المحقّق النائيني رحمه‌الله الى الوجوب الشرعي الغيري إمّا


للملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، وإمّا لانّ وجود الملاك المولوي يكشف عن الوجوب الفعلي ، وأمّا السيّد الخوئي رحمه‌الله فلم يقبل بالتوجيه الأوّل لو كان هو مراد المحقّق النائيني رحمه‌الله وذلك للغويّة حكم الشرع بعد حكم العقل بالوجوب ، كما هو الحال في كلّ مورد يكون فيها حكم العقل واقعا في طول الحكم الشرعي ، كما في حكم العقل بوجوب الطاعة وحرمة المعصية الواقعين في طول الأوامر المولويّة ، وأمّا الاحتمال الثاني فهو الذي وجّه به السيّد الصدر رحمه‌الله كلام المحقّق النائيني رحمه‌الله.

* * *

٥٦٧ ـ المقدّمة الموصلة

المراد من المقدّمة الموصلة هو المقدّمة التي يترتّب عليها وجود ذي المقدّمة ، وفي مقابلها المقدّمة غير الموصّلة والتي تنتج القدرة على ايجاد ذي المقدّمة إلاّ انّه يتّفق معها عدم إيجاد ذي المقدّمة.

فمثلا : السفر لأداء فريضة الحجّ قد يكون مقدّمة موصلة وقد لا يكون كذلك رغم انّ السفر في الحالتين ينتج القدرة على أداء الحجّ إلاّ انّه قد يترتّب على السفر أداء الحجّ وهنا يكون السفر مقدّمة موصلة ، وقد لا يترتّب على السفر أداء الحجّ ، وذلك لطرو عارض أو إعراض المكلّف عن أداء الحجّ بعد الوصول الى مكّة المكرّمة ، وحينئذ يكون السفر مقدّمة غير موصلة.

هذا وقد ذهب صاحب الفصول رحمه‌الله وتبعه السيّد الخوئي رحمه‌الله الى انّ الملازمة لو تمّت بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته فإنّ هذه الملازمة لا تنتج أكثر من وجوب المقدّمة الموصلة ، أي انّ وجوب مطلق المقدّمة ليس لازما لوجوب ذي المقدّمة وانّما اللازم لوجوب ذي المقدّمة هو حصّة خاصّة من المقدّمة وهي المقدّمة التي يترتّب على ايجادها تحقّق ذي المقدّمة وهذه هي المعبّر عنها بالمقدّمة الموصلة ، ولهذا لو جاء المكلّف بالمقدّمة واتّفق


عدم تحقّق ذي المقدّمة خارجا فهذا يكشف عن عدم وجوب المقدّمة من أوّل الأمر ، لأنّ عدم ترتّب ذي المقدّمة معناه انّ المقدّمة التي جاء بها المكلّف ليست موصلة.

* * *

٥٦٨ ـ المقدّمة الوجوبيّة

وهي القيود والشرائط التي اخذت بنحو يكون الوجوب مترتبا عليها ، ويعبّر عنها بقيود الحكم وبشرائط المجعول.

وبتعبير آخر : كلّ قيد اخذ مفروض الوجود على نهج القضيّة الحقيقيّة والتي تقتضي انّه لو اتّفق تحقّق القيد والشرط خارجا لترتّب على ذلك تحقّق الفعليّة للحكم ، هذه القيود يعبّر عنها بالمقدّمات الوجوبيّة.

ومثاله : البلوغ والعقل والقدرة بالنسبة للتكاليف والاستطاعة بالنسبة لوجوب الحجّ.

واعتبار هذه القيود من شرائط الحكم ومن المقدّمات الوجوبيّة باعتبار انّها اخذت في الحكم بنحو لو اتّفق وجودها خارجا لترتّب على ذلك تحقّق الفعليّة للحكم ، فالتعبير عنها بالمقدّمات ناشئ عن انّ فعليّة الحكم منوط بتحقّقها ، فقبل تحقّق الاستطاعة لا فعليّة لوجوب الحجّ ، وأمّا التعبير عنها بالمقدّمات الوجوبيّة فباعتبار انّ المتوقّف تحقّقها عليها هو الوجوب بمرتبة الفعليّة.

وتشخيص انّها مقدّمات وجوبيّة يتمّ بواسطة ملاحظة كيفيّة اعتبارها ، فإن اعتبرت مفروضة الوجود ، بمعنى انّه متى ما اتّفق تحققها ترتّب على ذلك الحكم المناط بها فهي مقدّمات وجوبيّة ، وان لم تفترض كذلك فهي مقدّمات وجوديّة.

وباتّضاح المراد من المقدّمات الوجوبيّة يتّضح خروجها عن بحث مقدّمات الواجب ، وهو البحث عن الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّماته ، إذ انّ البحث عن الملازمة انّما هو فرع افتراض تحقّق الفعليّة للوجوب ، وعندئذ نبحث عن انّ هذا


الوجوب هل يلزم منه وجوب مقدّماته أو لا؟ ومقدّمات الوجوب كما اتّضح ليست من هذا القبيل ، إذ انّه قبل تحقّقها لا وجوب حتى نبحث عن استلزامه لوجوب مقدّماته ، حيث قلنا انّ الوجوب انّما هو مترتّب عليها فلا يتعقّل أن يترشّح عنه وجوب لمقدّماته بعد افتراض عدمه قبل تحقّق مقدّماته.

فقبل الاستطاعة لا وجوب للحجّ حتى نبحث عن انّه هل يترشّح عن وجوب الحجّ وجوب تحصيل الاستطاعة ، وبعد تحقّق الفعليّة لوجوب الحجّ بسبب تحقّق الاستطاعة يكون ترشح الوجوب من وجوب الحجّ الى الاستطاعة بلا معنى ، لأنّه تحصيل للحاصل ، إذ المفترض انّ الاستطاعة قد تحقّقت وإلاّ لم يتحقّق الوجوب.

* * *

٥٦٩ ـ المقدّمة الوجوديّة

وهي المقدّمة التي يتوقّف إيجاد الواجب عليها ، بمعنى انّه لا يمكن تحصيل الواجب إلاّ بعد تحصيلها ، مثل السفر للحجّ بالنسبة للآفاقي ، فإنّ ايجاد الحجّ بالنسبة للآفاقي لا يتأتى إلاّ بواسطة تحصيل السفر الى مكّة المكرّمة والمشاعر.

وهذه هي المقدّمات المعبّر عنها بالمقدّمات الخارجيّة بالمعنى الأخصّ والتي هي خارجة عن المأمور به ذاتا وتقيدا كما أوضحنا ذلك.

ولا إشكال في دخول هذه المقدّمات في محلّ البحث ، وهو البحث عن الملازمة العقليّة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّماته ، بمعنى انّه هل يترشّح عن ايجاب الشيء وجوب لمقدّماته التي يتوقّف ايجاد الواجب عليها أو لا.

وهذا انّما هو بعد الفراغ عن تحقّق الفعليّة للوجوب ، أي بعد وجوب الواجب ومسئوليّة المكلّف عن امتثاله يقع البحث عن انّه هل يترشّح عن فعليّة الوجوب للواجب « المتعلّق » وجوب لمقدّماته المنوط تحصيل الواجب بوجودها أو لا؟


٥٧٠ ـ الملاك الاقتضائي

كلّ فعل فهو إمّا أن يكون واجدا للمصلحة واقعا أو واجدا للمفسدة ، وإمّا أن أن لا يكون واجدا لهما.

ففي الفرض الأوّل يعبّر عن المصلحة الواقعيّة بالملاك الاقتضائي ، وكذلك يعبّر عن المفسدة الواقعيّة. وأمّا الفرض الثاني فيعبّر عن حالة خلوّ الفعل عن المصلحة والمفسدة بالملاك غير الاقتضائي ، وفي كلا الفرضين كان التقسيم بلحاظ علاقة الفعل بالحكم ، فحينما يكون الفعل واجدا للمصلحة والمحبوبيّة فإنّه يقتضي البعث نحو الفعل بالمستوى المناسب للمصلحة الكامنة في الفعل ، وحينما يكون الفعل واجدا للمفسدة والمبغوضيّة فإنّه يقتضي الزجر عن الفعل بالمستوى المناسب للمفسدة.

وبذلك يتّضح منشأ التعبير عن الملاك بالاقتضائي حيث أنّ المصلحة الكامنة في الفعل تدعو وتسبّب البعث والتحريك ، فالملاك الاقتضائي هو ما ينتج الحكم بنحو البعث أو الزجر.

وأمّا حينما يكون الفعل غير واجد لأي مصلحة أو مفسدة فحينئذ لن يكون مقتضيا للبعث أو الزجر وسوف يكون المناسب من الأحكام لهذا الفعل هو جعل السعة وهو معنى آخر للحكم بالإباحة.

وبذلك يتّضح منشأ التعبير عنه بغير الاقتضائي حيث أنّه ليس ثمّة ما يقتضي البعث أو الزجر.

ثمّ إنّه قد تصادف الفعل حالة تقتضي جعل الإباحة في مورده ، فقد يكون واجدا للمصلحة في نفسه أو واجدا للمفسدة إلاّ أنّ مصلحة التسهيل مثلا تفوق الملاك الواقعي في الفعل فيجعل المولى الإباحة نظرا لمصلحة التسهيل ، فمصلحة التسهيل يعبّر عنها أيضا بالملاك الاقتضائي ، وذلك لأنّها اقتضت وتسبّبت في جعل الإباحة.

فهذا الفرض والفرض السابق وإن كانا يتّحدان في النتيجة وهو جعل الإباحة إلاّ أنّ الإباحة في الفرض


السابق نشأت عن خلوّ الواقع عن المصلحة والمفسدة ، وأمّا الإباحة في هذا الفرض فنشأت عن مصلحة صادفت الفعل وهي مصلحة التسهيل ، وهذا ما صحّح تصنيفها في الأحكام ذات الملاك الاقتضائي.

* * *

٥٧١ ـ الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع

الظاهر من كلمات المحقّق النائيني رحمه‌الله وغيره من الأعلام انّ مورد القاعدة هو الملازمة بين المدركات العقليّة العمليّة وبين حكم الشرع أو قل الملازمة بين المستقلاّت العقليّة بالمعنى المشهور وبين حكم الشرع ، فحكم العقل بحسن شيء أو بقبح شيء هل يلزم منه عقلا حكم الشارع على طبق ما أدركه العقل أو لا؟

إلاّ انّ المستظهر من بعض كلمات صاحب الفصول رحمه‌الله المنكر للملازمة انّ محلّ النزاع أوسع من ذلك وانّه يشمل حالات إدراك العقل للمصالح والمفاسد ، بمعنى انّ إدراك العقل لاشتمال شيء على مصلحة أو مفسدة هل يلزم منه عقلا ثبوت الحكم الشرعي على طبق ما أدركه العقل.

إذ انّ العقل حين يدرك المصلحة يدرك معه الوجوب العقلي ، وحينئذ نبحث عن ثبوت الملازمة بين هذا المدرك العقلي وبين الحكم الشرعي إلاّ أن يكون مراد صاحب الفصول هو انكار الصغرى ، أي انكار أهليّة العقل لإدراك المصالح والمفاسد التامّة ، وهو ليس ببعيد عن كلماته رحمه‌الله.

كما انّه يمكن أن يقال انّ هذا المورد خارج عن محلّ البحث باعتبار انّ إدراك المصالح والمفاسد التامّة يكون منتجا لإدراك الحكم الشرعي ابتداء ودون الحاجة لتوسيط الملازمة ، فعند ما يدرك العقل اشتمال فعل على مصلحة تامّة يكون ذلك موجبا لإدراك تعلّق الحكم الشرعي بذلك الفعل ، فالمدرك هو كبرى عليّة المصالح والمفاسد للأحكام الشرعيّة


وكذلك ثبوت علّة الحكم الشرعي والتي هي المصلحة أو المفسدة التامّة وهذه هي صغرى الكبرى المذكورة وعندئذ يستحيل تخلّف المعلول « الحكم الشرعي » عن علته التامّة المدرك وجودها بواسطة العقل ، وعليه يكون هذا المورد خارج عن محلّ البحث.

كما انّه يمكن توجيه ما هو مستظهر من عبائر صاحب الفصول رحمه‌الله بما يتناسب مع دعوى المحقّق النائيني رحمه‌الله بأن يقال : انّ مراد صاحب الفصول رحمه‌الله من المصلحة والمفسدة هو الحسن والقبح ، وذلك بدعوى انّ اتّصاف الفعل بالحسن ينشأ عن اشتماله على المصلحة التامّة ، كما انّ اتّصاف الفعل بالقبح ينشأ عن اشتماله على المفسدة ، وبهذا يكون إدراك المصلحة والمفسدة مساوقا لإدراك الحسن والقبح فيكونان من مدركات العقل العملي ، فلا يكون مورد القاعدة بنظر صاحب الفصول رحمه‌الله أوسع ممّا أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله ، ومبرّرا هذا التوجيه يتّضح بملاحظة ما ذكرناه في مباحث الحسن والقبح.

وكيف كان فقد ذهب مشهور الاصوليين الى ثبوت الملازمة بين حكم العقل العملي وحكم الشرع ، وفي مقابل هذه الدعوى أنكر جمع من الأعلام ثبوت الملازمة ، وهناك اتّجاه ثالث وهو استحالة ثبوت الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، ويمكن اعتبار مبنى صاحب الفصول رحمه‌الله اتّجاه رابعا ، وذلك لأنّه وإن أنكر الملازمة الواقعيّة إلاّ انّه ادعى ثبوت الملازمة الظاهرية ، بمعنى انّ المكلّف يكون ملزما بالبناء على انّ ما أدركه بعقله هو ما يحكم به الشرع وانّ احتمال وجود المزاحم واقعا لا يعذر المكلّف عقلا عن عدم البناء على الملازمة ، ومن هنا لو لم يلتزم تقتضيه الملازمة واتّفق عدم وجود المزاحم واقعا فانّه يعدّ عاصيا ، وهذا هو معنى الملازمة الظاهريّة بحسب ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله.

ثمّ انّ مبنى الملازمة الواقعيّة يعتمد


مجموعة من المقدّمات :

المقدّمة الاولى : هي تبعيّة الأحكام لملاكات في متعلقاتها.

المقدّمة الثانية : انّ الحسن والقبح من الصفات الواقعيّة الذاتيّة لبعض الأفعال.

المقدّمة الثالثة : انّ العقل يدرك ولو بنحو الموجبة الجزئيّة حسن بعض الأفعال وقبح بعضها ، وهذا معناه حكمه أو إدراكه لمدح فاعل الحسن وذمّ فاعل القبيح ، ولا بدّ حينئذ من مطابقة الحكم الشرعي للحكم العقلي وعدم تعقّل تخلّف الحكم الشرعي عن ذلك.

وهنا يتصدّى المنكرون للملازمة للمناقشة في المقدّمة الثالثة ، وهو انّ إدراك العقل لحسن بعض الأفعال وقبح بعضها إذا كان المراد منه هو إدراك العقل انّ واقع هذا الفعل هو اتّصافه بالحسن وانّ واقع ذلك الفعل هو الاتّصاف بالقبح وانّ إدراك العقل لذلك يلازم إدراك الشارع لذلك الواقع إن كان هذا هو المراد من المقدّمة الثالثة فهو مسلّم إلاّ انّ هذا لا يعني جعل الشارع حكما على طبق ما أدركه ، إذ انّ ذلك أوسع من الدعوى حيث انّ الدعوى بحسب الفرض هو إدراك العقل لحسن هذا الفعل واقعا وانّ ما يدركه العقل يدركه الشرع ونحن لا نضايق في ذلك ، أي انّه لا محذور في البناء على إدراك الشرع لحسن هذا الفعل واقعا عينا كما هو مقتضى المدرك العقلي.

وان كان المراد من إدراك العقل للحسن واقعا هو استكشاف العقل للحكم الشرعي فهذا خروج عن الفرض ، وذلك لما ذكرناه في صدر البحث من انّ إدراك العقل للعلّة وهي الحسن أو القبح أو المصلحة أو المفسدة التامّة إدراك للحكم الشرعي ابتداء دون الحاجة لتوسيط الملازمة ، وذلك لأنّ إدراك العلّة إدراك للمعلول ببرهان اللم ، على انّ إدراك العقل للمصلحة والمفسدة أو الحسن والقبح بهذا النحو من مدركات العقل النظري لا العملي والذي هو مورد البحث.

نعم يبقى احتمال ثالث وهو انّ ادراك


العقل لحسن بعض الأفعال وقبح بعضها معناه ادراكه لجعل العقلاء حكما على طبق ما يقتضيه إدراك العقل من حسن الفعل أو قبحه وعندها نبحث عن الملازمة بين الجعل العقلي والجعل الشرعي ، وهذا الاحتمال هو الذي يصلح أن يكون مورد القاعدة.

إلاّ انّ الذي يرد على هذه الدعوى هو عدم وجود برهان على الملازمة ، وذلك لاحتمال اكتفاء الشارع بما أدركه العقل وعدم الحاجة لأن يجعل حكما شرعيا على طبقه.

وبتعبير آخر : انّ الجعل العقلي يتفاوت من جهة اهتمام المولى ، فقد يكون الاهتمام بمستوى لا يقتضي الإبراز وهذا ما ينتج الاكتفاء في ذلك المورد بما أدركه العقل ، وقد يكون اهتمامه بذلك المدرك الواقعي شديدا بحيث يدعوه لإبراز ذلك الاهتمام ، فلا ملازمة إذن بين الجعل العقلي وبين الجعلى الشرعي لاحتمال انّ الاهتمام بذلك المدرك الواقعي لا يرقى لمستوى ابراز المولى لذلك الاهتمام إلاّ انّه مع ذلك تكون أثار الحكم الشرعي وهو ترتب العقاب على المخالفة ثابتة في مورد الجعل العقلي وان لم نقل بالملازمة.

إلاّ انّ الإنصاف انّ هذا الجواب غير تام لانّنا لا نحتاج لإثبات الملازمة لأكثر من مطابقة الجعل العقلي لاهتمام المولى ، وكون هذا الاهتمام لا يرقى لمستوى الإبراز لا ينفي التطابق وانّما ينفي الاهتمام الشديد الموجب لتصدي الشارع للإبراز ، فاستغناء الشارع بالجعل العقلي معناه قبوله له ، ولا نطلب من الملازمة أكثر من ذلك.

وأمّا الذي ادعى استحالة ثبوت الملازمة فقد استدلّ بلغوية الجعل الشرعي بعد الجعل العقلي. واجيب عن ذلك بأنّ اللغويّة غير مسلّمة ، إذ انّ الجعل الشرعي على طبق الجعل العقلي يعبّر عن التأييد والتأكيد.

كما يمكن أن يجاب عن هذه الدعوى بأنّ ادعاء الملازمة معناه ثبوت ملازمة واقعيّة ذاتيّة ، وهذا غير


خاضع للاعتبار.

وبتعبير آخر : انّ مدعي الملازمة يدعي انّ ثبوت الجعل العقلي يلازم ذاتا الجعل الشرعي ، واللازم الذاتي لا يتخلّف عن ملزومه واقعا ، ولا معنى لدعوى اللغويّة بعد أن كانت الملازمة ذاتيّة ، وبعد ان لم تكن تعني أكثر من قبول الشارع للجعل العقلي والذي يفترض انّه المطابق للواقع.

ثمّ انّه يبقى الكلام في مورد آخر وهو المدركات العقليّة النظريّة الواقعة في سلسلة علل الأحكام والتي هي من قبيل الاستلزامات العقليّة كإدراك العقل للملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته.

ولا ريب في خروج هذا المورد عن محلّ النزاع ، وذلك لأنّ مدعي الملازمة يدعي إدراك العقل لاستلزام وجوب الشيء ووجوب مقدّمته شرعا لا عقلا ، نعم لو كان المدعى هو الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته عقلا لكان ذلك موجبا للبحث عن الملازمة بين الحكم العقلي بوجوب المقدّمة والحكم الشرعي بوجوبها إلاّ انّ ذلك ليس هو مورد النزاع في مباحث الاستلزامات.

* * *

٥٧٢ ـ ملاك الحمل

المصحّح لحمل شيء على شيء أمران يكون انتفاء أحدهما مانعا عن صحّة الحمل ، فلا بدّ من التوفّر على كلا الأمرين وإلاّ لم يصحّ الحمل ، وهذان الأمران هما المعبّر عنهما بملاك الحمل :

الأمر الأوّل : أن يكون بين المحمول والمحمول عليه نحو اتّحاد ، فلو كان بينهما تمام المباينة لم يصحّ الحمل ، لأنّ الحمل يعني انّ هذا ذاك ، أي انّ الموضوع هو المحمول ، وافتراض تباينهما ينافي افتراض اتحادهما والذي هو معنى الحمل ، ومن هنا لا يقال : « الإنسان حجر ».

الأمر الثاني : أن يكون بين المحمول والمحمول عليه تغاير بوجه ما حتى لا يلزم من ذلك حمل الشيء على نفسه ،


ومن هنا لا يصحّ أن يقال : « الإنسان انسان » لعدم وجود تغاير بين المحمول والمحمول عليه.

ثمّ انّ التغاير المصحّح للحمل قد يكون اعتباريا كما قد يكون ذاتيا :

أمّا التغاير الاعتباري : فهو الذي يكون معه المحمول والموضوع متّحدين ذاتا ، كما في حمل الجنس والفصل على النوع ، فإنّ النوع ليس شيئا آخر غير الجنس والفصل ، ومن هنا لا يكون ثمّة مصحّح للحمل سوى الاعتبار مثل الإجمال والتفصيل ، كما لو قيل : « الإنسان حيوان ناطق » ، فإنّ التغاير بين الموضوع والمحمول من جهة الإجمال والتفصيل.

وأمّا التغاير الذاتي : فهو ما يكون معه مفهوم الموضوع مباينا لمفهوم المحمول ، أي انّ المفهوم الماهوي لأحدهما مباينا للمفهوم الماهوي للآخر ، وهنا لا يصحّ الحمل إلاّ أن يكون بينهما اتّحاد في الوجود ، وهذا الفرض هو المعبّر عنه عندهم بالحمل الشائع الصناعي بخلاف الحمل في الفرض الأوّل فإنّه حمل أولي كما أوضحنا ذلك تحت عنوان « الحمل الأولي والحمل الشائع ».

ومثال ما كان بين المحمول والمحمول عليه تغاير ذاتي هو « الإنسان ضاحك » ، فإنّ المفهوم الماهوي للإنسان مباين للمفهوم الماهوي للضاحك إلاّ انّ أحدهما متّحد مع الآخر في الوجود ، وبهذا يتوفّر هذا الحمل على شرطيه ، إذ انّ التغاير الماهوي لا يمنع من صحّة الحمل بعد أن كان بينهما اتّحاد في الوجود ، نعم لو لم يكن بينهما اتّحاد في الوجود أيضا فإنّه لا يصحّ الحمل حينئذ ، فقولنا « الإنسان حجر » فاقد لكلا الشرطين ، إذ لا اتّحاد ذاتي بينهما كما انّه ليس بينهما اتّحاد في الوجود ، ومن هنا يكون الحمل ممتنعا.

* * *

٥٧٣ ـ مناسبات الحكم والموضوع

إنّ الأحكام المجعولة على موضوعاتها أو متعلّقاتها تكون عادة


مجعولة على حالة من حالات ذلك الموضوع أو المتعلّق أو على حيثيّة من حيثيّاتهما ، وهذه الحيثيّة الملحوظة تارة تستوجب تعميم الحكم وتارة تستوجب التضييق من دائرته ، غاية ما في الأمر أنّه قد يصرّح في الخطاب بالحيثيّة التي انصبّ الحكم على الموضوع أو المتعلّق بلحاظها وقد لا يصرّح بذلك اتّكالا على ما هو مرتكز في ذهن أهل المحاورة من تناسب بين الموضوع وبين الحكم المجعول عليه ، فنلاحظ العرف ـ ونتيجة لملابسات خارجيّة أو مستفادة من أجواء الخطاب أو من مناشئ أخرى ـ يلغي في بعض الأحيان بعض خصوصيّات الموضوع ، وفي أحيان أخرى يجزم بالخصوصيّة ، وفي حالات يعدّي الحكم من موضوعه المذكور في الخطاب إلى موضوعات أخرى ، وهكذا.

كلّ ذلك ناشئ عن مناسبات بين الحكم والموضوع نشأت ـ كما قلنا ـ عن ملابسات خارجيّة من قبيل عدم إمكان ثبوت الحكم للموضوع من جهة معيّنة ، ويمكن التمثيل لذلك بما روي عن أبي الحسن عليه‌السلام أنّ كلثم بنت مسلم ذكرت الطين عند أبي الحسن عليه‌السلام فقال : « أترين أنّه ليس من مصائد الشيطان ، ألا إنّه لمن مصائده الكبار وأبوابه العظام » ، فإنّ المستظهر من هذه الرواية هو حرمة الطين إلاّ أنّ الحيثيّة التي جعلت عليها الحرمة غير مصرّح بها في الرواية إلاّ أنّه من غير الممكن عرفا أن تكون الجهة الملحوظة في الموضوع هي وطئ الطين مثلا.

أو تكون مستفادة من أجواء الخطاب كما في قوله عليه‌السلام : « حرّمت الخمرة لإسكارها » ، فإنّ الموضوع وهو الخمرة لها حيثيّات كثيرة من قبيل المعاوضة عليها ومن قبيل الاحتفاظ بها وهكذا ، إلاّ أنّ التعليل المذكور في الخطاب يناسب أن يكون الحكم مجعول على الشرب إذ هو الذي يوجب الاسكار دون بقيّة حيثيّات الموضوع.


أو تكون مستفادة عن معرفة المناطات والملاكات التي يعوّل عليها المولى في جعل الأحكام لموضوعاتها ، كقوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ) ، فإنّ موضوع الحرمة له حيثيّات كثيرة ، كالنظر واللمس والتكلّم وهكذا ، إلاّ أنّ العرف لمّا كان مطّلعا على محبوبيّة الشارع للنظر إلى الأمّ برحمة ، ومحبوبيّة خدمتها المستلزمة للمسها والتحدّث معها وهكذا سائر الحيثيّات ، فإنّ العرف إمّا أن يكون مطّلعا على مطلوبيّتها أو عدم مبغوضيّتها ، أو يكون مطّلعا على مبغوضيّتها إلاّ أنّها ليست خاصّة بعنوان الأمّ ، كلّ ذلك أوجب استظهار أنّ الحيثيّة التي انصبّ عليها الحكم بالحرمة هي حيثيّة النكاح.

وبهذا يتّضح أنّ مناسبات الحكم والموضوع تنشأ عن قرائن خاصّة إلاّ أنّها ليست من قبيل القرائن اللفظيّة بل هي من قبيل القرائن الحاليّة أو المقاميّة.

ولمزيد من التوضيح نذكر بعض التطبيقات :

التطبيق الأوّل : لو قال المولى : « اغسل ثوبك من دم ذي النفس السائلة » ، فإنّ العرف يلغي خصوصيّة الثوب ويرى أنّ الحكم بالنجاسة ثابت لمطلق الملاقي للدم ، وإنّما ذكرت الثوب لغرض التمثيل لمطلق الملاقي للدم.

وهذا التعميم المستظهر عرفا من المثال نشأ عن مناسبات الحكم والموضوع ، فإنّ المثال وإن لم يصرّح فيه بالحيثيّة الملحوظة في الموضوع حين جعل الحكم عليه إلاّ أنّ استبعاد العرف وجود خصوصيّة للموضوع المذكور في الخطاب أوجب استظهار كون الحيثيّة المذكورة في الموضوع المذكور هي التمثيل.

ومنشأ استظهار المثاليّة واستبعاد الخصوصيّة هو ظهور الخطاب في أنّ الأثر الشرعي للدم هو التنجيس ، وإذا كان كذلك فأيّ فرق بين الثوب وبين سائر ما يلاقيه الدم.

التطبيق الثاني : قوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ) فإنّ العرف


يفهم من الحرمة الثابتة للميتة هي حرمة أكلها.

ومنشأ فهم العرف اختصاص الحرمة بالأكل هي مناسبات الحكم والموضوع وذلك لأنّ الأكل هو الفائدة الغالبة المتصوّرة من لحم الميتة.

التطبيق الثالث : قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « رفع عن أمّتي ... ما اضطرّوا إليه » ، فكلّ فعل صدر عن المكلّف وكان منشؤه الاضطرار فإنّ ذلك الفعل قد رفعت آثاره الشرعيّة التي لو لم يكن المكلّف مضطرّا لترتّبت تلك الآثار على فعله ، فلو شرب المكلّف الخمر فإنّ الأثر الشرعي لهذا الفعل هو إقامة الحدّ عليه وعدم قبول شهادته ، لكنّ هذه الرواية الشريفة قد رفعت هذه الآثار في حالة صدور هذا الفعل من المكلّف اضطرارا ، إلاّ أنّه وبمناسبات الحكم والموضوع يستظهر العرف عدم ارتفاع الأثر الشرعي عن البيع الذي أجراه المكلّف اضطرارا ، فإنّ الأثر الشرعي للبيع وهو تملّك البائع للثمن يكون ملغيا لو كنّا نحن والسعة اللفظيّة للرواية ، إلاّ أنّه وباعتبار أنّ إلغاء الأثر الشرعي للبيع يكون منافيا للامتنان على الأمّة ، فإنّ هذا يشكّل قرينة على عدم شمول الرفع لهذا المورد باعتبار أنّ مقتضى الظهور في الرواية هو أنّها في مقام الامتنان على الأمّة ، وإلغاء الأثر الشرعي لبيع المضطرّ لا يتناسب مع الامتنان ، فإنّ المضطر حينما يبيع ما عنده يقصد رفع الاضطرار عن نفسه ، فلو كانت آثار هذا البيع ملغية فإنّ هذا نقيض الغرض من الرفع الوارد في الرواية.

وببيان أوضح : لو أنّ المكلّف بلغ به الجوع حدّ الاضطرار ، فباع ما عنده واشترى بثمنه طعاما ، فلو كان البيع في هذه الحالة مشمولا لحديث الرفع ، فمعناه أنّ هذا البيع لاغ ولم يترتّب عليه تملّك المضطر للثمن ، فيكون عاجزا شرعا عن تملّك الطعام ، وهذا مناف للامتنان الذي أرادته الشريعة وكشفت عنه بواسطة هذه الرواية الشريفة ، وإذا كان كذلك فالرفع غير شامل لمثل هذه الموارد.


والمتحصّل من كلّ ما ذكرناه أنّ العرف حينما يتلقّى خطابا فإنّه يلاحظ نوعيّة الحكم المجعول في الخطاب ويلاحظ موضوع ذلك الحكم ثمّ يناسب بينهما اعتمادا على ما هو مركوز في ذهنه نتيجة ملابسات اقتضتها معرفته بملاكات الأحكام أو طبيعة الحكم المجعول أو اقتضتها أجواء الخطاب أو ما إلى ذلك.

* * *

٥٧٤ ـ المنطوق

نسب الى الحاجبي بأنّه عرّف المنطوق بأنّه « ما دلّ عليه اللفظ في محلّ النطق » ، وبناء عليه يكون المنطوق شاملا للمدلولات اللفظيّة الافراديّة والمدلولات اللفظيّة التركيبيّة ، بمعنى انّ المنطوق بناء على هذا التعريف هو مطلق ما دلّ عليه اللفظ بقطع النظر عن كون المدلول من المفاهيم الافراديّة كذات زيد المدلول عليها بلفظ زيد أو كان المدلول من المفاهيم التركيبيّة كانتساب القيام لزيد المدلول عليه بلفظ « زيد قائم ».

ولو كان هذا هو مراد الحاجبي لكان خلاف ما هو معهود في اصطلاح الاصوليين من انّ المنطوق هو مدلول الجملة التركيبيّة بالدلالة المطابقيّة كما هو المستفاد من كلمات المحقّق النائيني والسيّد الخوئي رحمه‌الله.

وكيف كان فتوضيح المراد من المنطوق يتمّ ببيان امور :

الأمر الأوّل : انّ المنطوق بحسب مدلوله اللغوي من صفات اللفظ كما انّ الناطق من صفات اللافظ ، فالمنطوق اسم مفعول يتّصف به اللفظ عند ما ينطق به متكلّم ، فعند ما ينطق المتكلّم بلفظ زيد يكون لفظ زيد منطوقا ويكون المتكلّم ناطقا.

إلاّ انّ هذا المعنى غير مراد من استعمالات الاصوليين ، وما هو مراد في اصطلاحهم هو انّ المنطوق من صفات المدلول كما هو المعروف أو من صفات الدلالة.

فالمستظهر من عبائر المحقّق النائيني رحمه‌الله وتعريف الحاجبي وكلمات


السيّد الخوئي رحمه‌الله في المحاضرات وهكذا بعض الأعلام انّ المنطوق من صفات المدلول وانّه عبارة عن المعنى المدلول عليه بالدلالة المطابقيّة للفظ ، فالمعنى المستفاد من قولنا مثلا « زيد قائم » هو المتّصف بالمنطوق لا نفس الألفاظ القائمة بالنطق ، كما انّ المنطوق ليس صفة لعمليّة الانتقال من الدال للمدلول المعبّر عنها بالدلالة.

إلاّ انّ المنسوب للسيّد الخوئي رحمه‌الله في كتاب الدراسات انّ المتّصف بالمنطوق انّما هو الدلالة ، فالمنطوق هو عبارة عن الدلالة المطابقيّة وليس هو المعنى المدلول عليه بالدلالة المطابقيّة ، فالدلالة المطابقيّة والتي هي الانتقال من اللفظ إلى مدلوله الوضعي هي المتّصفة بالمنطوق.

ومن هنا لا يكون المعنى المتحصّل من قولنا « زيد قائم » منطوقا وانّما الانتقال من قولنا زيد قائم الى المعنى ، هو المتّصف بالمنطوق ، واطلاق المنطوق على المعنى لا يكون إلاّ بنحو المسامحة.

وقد جمع السيّد الإمام رحمه‌الله بين المبنيين بدعوى انّ ذلك يختلف باختلاف اللحاظ والإضافة ، فعند ما نلاحظ المعنى وانّه مستفاد من حاق اللفظ فإنّ هذا اللحاظ يصحّح اتّصاف المعنى بالمنطوق فيكون المنطوق هو المدلول المطابقي ، وعند ما نلاحظ الدلالة اللفظيّة وانّها عبارة عن دلالة نفس اللفظ على المعنى المطابقي يكون ذلك مصحّحا لاتّصاف الدلالة بالمنطوق فيقال دلالة منطوقيّة.

الأمر الثاني : انّ المنطوق باعتبار انّه في مقابل المفهوم فإنّ ذلك يقتضي اختصاصه بالمدلول التركيبي أو الدلالة التركيبيّة ، إذ انّ المفهوم ـ كما سيتّضح ـ مختصّ بذلك ، وعليه لا يكون المفهوم الافرادي المتحصّل عن حاق اللفظ منطوقا وان كان يعبّر عنه بالمدلول المطابقي.

وبهذا يتّضح انّ المدلول المطابقي أو الدلالة المطابقيّة ليس هو المنطوق على اطلاقه بل انّ المنطوق يختصّ بالمدلول المطابقي للجمل التركيبيّة كالجملة


الشرطيّة أو الوصفيّة أو الغائيّة ومطلق الجمل الخبريّة والإنشائيّة.

ثمّ انّ الجمل الناقصة لا يكون مدلولها أو دلالتها منطوقا بحسب الاصطلاح ، فإنّ المقصود من كون المنطوق هو المدلول المطابقي للجمل التركيبيّة هي الجمل التركيبيّة التامّة ، وأمّا الناقصة فهي خارجة عن محلّ الكلام ، إذ انّها لا تنتج كما اتّضح في محلّه إلاّ مفهوما افراديا.

الأمر الثالث : انّ المنطوق وان كان هو المعنى المدلول عليه باللفظ إلاّ انّ ذلك لا يمنع عن الاستعانة على تحصيلة بالإضافة الى اللفظ بالقرينة العامة أو الخاصة ، ومن هنا كان الإطلاق المستفاد من قرينة الحكمة والمعنى المجازي المستفاد بواسطة القرينة الخاصّة منطوقا.

والمتحصّل انّ المنطوق هو ما يستفاد من اللفظ بالمطابقة بمعنى انّه لا يحتاج في تحصيله وانفهامه لأكثر من الوضع أو هو بالإضافة الى القرينة العامّة أو الخاصّة ، فحينما يقال « أكرم العالم » فإنّ استفادة لزوم الإكرام للعالم تمت بواسطة الاوضاع اللغويّة بناء على انّ صيغة الأمر موضوعة للوجوب ، وأمّا استفادة الإطلاق وانّ الوجوب ينحلّ الى وجوبات بعدد أفراد العالم فإنّه تمّ بواسطة قرينة الحكمة ، وهكذا حينما يقال : « رأيت حاتما » ، فإنّ العلم بموت حاتم قرينة على انّ المرئي انّما هو رجل كريم ، فهذا المدلول المستفاد بواسطة اللفظ بالإضافة الى القرينة الخاصّة يكون منطوقا ، هذا حاصل ما أفاده السيّد الخوئي رحمه‌الله.

الأمر الرابع : انّ المنطوق هل يشمل المدلول التضمني أو الدلالة التضمنيّة أو هو مختصّ بالمدلول أو الدلالة المطابقيّة؟

المنسوب للسيّد الخوئي رحمه‌الله في كتاب الدراسات انّ الدلالة التضمنيّة من قسم الدلالات الالتزاميّة ، وذلك لأنّ دلالة اللفظ على جزء معناه لا تكون مستفادة من حاق اللفظ وانّما هي لازم للدلالة المطابقيّة على تمام


المعنى ، إذ انّه حينما تكون للفظ دلالة على تمام المعنى فإنّ لازم دلالته على تمام المعنى ، هو الدلالة على جزء المعنى فتكون الدلالة التضمنيّة مستفادة عن الدلالة المطابقيّة لا أنّها مستفادة من حاق اللفظ ، وبهذا لا تكون الدلالة التضمنيّة منطوقا ، وذلك لما ذكرناه من انّ السيّد الخوئي رحمه‌الله يبني على انّ المتّصف بالمنطوق انّما هو الدلالة المطابقيّة ، وبناء عليه لا يمكن عدّ الدلالة التضمنيّة منطوقا وذلك لما هو المتسالم من انّ الدلالة الالتزاميّة والتي منها التضمنيّة ليست من المنطوق.

نعم بناء على انّ المتّصف بالمنطوق هو المعنى والمدلول فإنّ بالإمكان عدّ المدلول التضمني من المنطوق ، وذلك لأنّ المدلول التضمني ليس من أقسام المدلول الالتزامي. ومن هنا لم يستبعد بعض الأعلام شمول المنطوق للمدلول التضمني ، وذلك لأنّ المدلول التضمني وان كانت استفادته في طول استفادة المدلول المطابقي من اللفظ إلاّ انّه مع ذلك يكون مستفادا من اللفظ أولا وبالذات ، بمعنى انّ تحصيله وانفهامه لا يحتاج لأكثر من وضع اللفظ للدلالة على تمام المعنى.

* * *

٥٧٥ ـ الموافقة الاحتماليّة

المراد من الموافقة الاحتماليّة هو الامتثال الاحتمالي ، وهو تعبير آخر عن التبعيض في الاحتياط.

ومثاله أن يأتي المكلّف ببعض أطراف العلم الإجمالي دون البعض الآخر ، وحيث أنّ من المحتمل كون المأتي به هو منطبق الجامع المعلوم بالإجمال فحينئذ يكون المكلّف محتملا لموافقة ما أتى به للمأمور به.

راجع عنوان التبعيض في الاحتياط وعنوان الامتثال الاحتمالي.

* * *

٥٧٦ ـ الموافقة الالتزاميّة

إذا قطع المكلّف بتوجّه تكليف مولوي أو أحرز ذلك بواسطة الإحراز التعبّدي فإنّه لا إشكال في لزوم امتثال


التكليف ، وذلك بواسطة الإتيان بمتعلّقه ، إنّما الإشكال في وجوب موافقته الالتزاميّة بالإضافة إلى ذلك.

وهنا احتمالات ثبوتيّة ثلاثة لمعنى الموافقة الالتزاميّة :

الاحتمال الأوّل : هو وجوب التصديق للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما جاء به من أحكام إلزاميّة ، وهذا الاحتمال ليس مرادا من العنوان بلا إشكال ، إذ لا ريب في وجوب تصديق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كلّ ما أخبر به من أحكام وتشريعات أو غيبيّات أو ما يكون متّصلا بالشئون التكوينيّة أو التاريخيّة أو غير ذلك.

فإنّ وجوب تصديقه في كلّ ذلك من الأصول العقائديّة ، لأنّ مآلها إلى التصديق بنبوّته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهي إذن ليست موردا للنزاع فيكون هذا الاحتمال غير مقصود قطعا.

الاحتمال الثاني : هو أنّ المراد من الموافقة الالتزاميّة هو قصد الامتثال لله تعالى فيكون القطع بالتكليف مقتضيا لأمرين ؛ الأوّل هو امتثال التكليف والإتيان بمتعلّقه ، والثاني هو صدور الامتثال مضافا لله عزّ وجلّ ، أي صدوره مع قصد القربة والامتثال للأمر المولوي.

وهذا الاحتمال غير مراد أيضا ، إذ لا ريب عندهم في أنّ اعتبار قصد القربة مختصّ بالتكاليف العباديّة دون التكاليف التوصّليّة والحال أنّ مورد البحث هو الأعمّ من التكاليف العباديّة والتوصّليّة.

الاحتمال الثالث : هو أنّ المراد من الموافقة الالتزاميّة هو الالتزام القلبي بالتكليف. وهذا معناه أنّ المكلّف إذا أحرز التكليف وجب عليه أمران ؛ الأوّل هو امتثال التكليف ، والثاني هو الالتزام القلبي أي البناء على أنّ هذا التكليف من الشارع المقدّس.

وهذا الاحتمال هو المتعيّن من بين هذه الاحتمالات. وقد اختلفوا في اعتباره ولزومه ، فمن قال باعتباره أفاد بأنّ هذا النحو من الالتزام قهري لكلّ من قطع بالتكليف أو أحرزه تعبّدا ، ومن قال بعدم اعتباره أفاد بأنّ من الممكن التفكيك بين القطع بالحكم


والالتزام به قلبا.

ولأنّ ذلك خارج عن المقصود أعرضنا عن ذكره.

* * *

٥٧٧ ـ الموافقة القطعيّة

المراد من الموافقة القطعيّة هو الامتثال الإجمالي القطعي ، فهو تعبير آخر عن الاحتياط التامّ الموجب للقطع بامتثال التكليف المعلوم بالإجمال.

فحينما يعلم المكلّف إجمالا إمّا بوجوب قضاء صلاة الظهر وإمّا بوجوب قضاء صلاة المغرب فهذا علم إجمالي بوجوب إحدى الصلاتين ، فحينما يأتي بكلا الصلاتين فإنّه يكون قد وافق الواقع جزما ، فإنّ التكليف المعلوم بالإجمال إن كان في طرف صلاة الظهر فقد جاء بها ، وإن كان في طرف صلاة المغرب فإنّه قد جاء بها ، وهذا معناه أنّه قد امتثل التكليف يقينا ، غايته أنّه يجهل الطرف الذي تحقّق به امتثال التكليف ، لذلك كان الامتثال إجماليّا والخروج عن عهدة التكليف قطعيّا.

وقد يطلق عنوان الموافقة القطعيّة على مطلق الاحتياط الموجب للقطع بالخروج عن عهدة التكليف حتّى ولو كانت الشبهة غير مقرونة بالعلم الإجمالي.

كما لو شكّ المكلّف في وجوب شيء أو عدم وجوبه فجاء به رجاء للمطلوبيّة ، أو شكّ في جزئيّة شيء للواجب فجاء به برجاء أن يكون جزءا في الواجب ، فإنّه بذلك يقطع بموافقة الواقع ، لأنّ التكليف المشكوك إن كان ثابتا واقعا فقد امتثله يقينا.

وقد يطلق عنوان الموافقة القطعيّة على الامتثال التفصيلي للتكليف المعلوم تفصيلا ، فحينما يقطع المكلّف بوجوب صلاة الظهر فصلاة الظهر معلومة تفصيلا فإذا جاء بها امتثالا للأمر بها فقد امتثل تفصيلا.

والتعبير عن ذلك بالموافقة القطعيّة ناشئ عن إحراز مطابقة امتثاله للتكليف المعلوم.

* * *


٥٧٨ ـ موضوع الحكم

هو كلّ شيء أنيطت فعليّة الحكم به ، وهذا يقتضي الفراغ عن وجوده أو افتراضه في مرحلة سابقة عن جعل الحكم.

فوجوب الصلاة مثلا حكم أنيط بوجود مكلّف قد زالت عليه الشمس ، فوجود المكلّف والزوال كلاهما يمثّلان موضوع الوجوب للصلاة ذلك لأنّ فعليّة الوجوب قد أنيطت بهما.

وبذلك يتّضح أنّ كلّ شيء اعتبر سببا في ترتّب الفعليّة للحكم على فرض وجوده فهو موضوع الحكم في المصطلح الأصولي.

وببيان آخر :

إنّ الأحكام غالبا ما تكون مجعولة على نهج القضايا الحقيقيّة ، بمعنى أنّ الجاعل يفترض موضوعا للحكم ثمّ يجعل الحكم عليه ، ويكون ذلك منتجا لاشتراط الفعليّة والمسئوليّة عن امتثال الحكم بوجود الموضوع المفترض خارجا.

فعند ما يقول المولى « لا تشرب الخمر » فهذا معناه افتراضه لوجود مكلّف وصله هذا الخطاب ووجود خمر بين يديه. فلو اتّفق تحقّق هذين الأمرين فإنّ حرمة الشرب تكون حينئذ فعليّة. أمّا لو اتّفق عدم وجودهما أو عدم وجود أحدهما فإنّ الحرمة حينئذ لا تكون فعليّة.

وهذا يعني أنّ وجودهما شرط أو قل سبب في تحقّق الفعليّة للحكم بالحرمة ومن هنا قالوا أنّ الحكم متأخّر عن موضوعه ومتوقّف عليه فهو في عالم الجعل لا بدّ من تصوّره قبل جعل الحكم ، وفي عالم المجعول والفعليّة لا بدّ من وجوده أوّلا لكي يكون الحكم عندئذ فعليّا.

وبذلك يتّضح أنّ قيود الوجوب وقيود الحرمة تعدّ موضوعا للحكم سواء سيقت بصيغة الموضوع أو الشرط أو الغاية أو الوصف أو غير ذلك ، والضابطة في كلّ ذلك هو كلّ شيء تتوقّف فعليّة الحكم على وجوده


فهو موضوع ، ولذلك لا يكون المكلّف مسئولا عن تحصيله ، نعم لو اتّفق حصوله يكون المكلّف مسئولا عن امتثال الحكم.

* * *

٥٧٩ ـ الموضوعات المركّبة

قد أوضحنا المراد منها مفصّلا تحت عنوان الاستصحاب في الموضوعات المركّبة.

* * *

٥٨٠ ـ الموضوعات المستنبطة

المراد من الموضوعات المستنبطة هي موضوعات الأحكام التي يكون تشخيص مفهومها عرفا أو شرعا والتعرّف على حدودها سعة وضيقا بحاجة الى نظر وبرهنة بحيث لا يتيسّر لكل أحد التعرّف على مفاهيم هذه الموضوعات من تمام الحيثيّات المقتضية لتشخيصها تشخيصا تاما ، وذلك في مقابل الموضوعات الصرفة والتي لا يحتاج تشخيصها الى برهنة بل هي من الوضوح بحيث يفهمها كلّ أحد ، وهي عادة ما تطلق على الموضوعات المنقّحة في مرتبة سابقة والتي يكون تشخيصها معتمدا على المدارك الحسيّة ليس أكثر.

مثل تشخيص انّ هذا خمر وانّ ذاك دم حيض أو استحاضة وانّ هذا من موارد الحرج ، وكلّ ذلك انّما يكون بعد الفراغ عن تنقيح مفهوم الحيض والخمر والحرج وما هي حدودها سعة وضيقا.

ثمّ انّ الموضوعات المستنبطة على قسمين :

القسم الأوّل : الموضوعات الشرعيّة المستنبطة ، وهي أيضا على قسمين :

الأوّل : المخترعات الشرعيّة مثل الصلاة والصوم والوضوء والغسل والتيمّم ، وكلّ موضوع كان تأسيسه من الشارع.

الثاني : الموضوعات العرفيّة التي تصدّى الشارع لتهذيبها أو اضافة قيود وشروط أو أجزاء لها ، مثل السفر والإقامة والوطن الشرعي بناء


على ثبوته والحيض والبلوغ والاستطاعة بناء على ما هو معروف وغيرها من الموضوعات التي لها مفهوم عرفي أو لغوي فجاء الشارع فأضاف عليها قيود وأجزاء أو الغى عنها قيود أو أجزاء.

وقد ذكرنا في بحث « العرف » انّه ليس للفقيه الاستقلال في تشخيص هذين القسمين من الموضوعات دون مراجعة الشارع. وهنا نشير الى جهة اخرى وهي انّ هذين القسمين من الموضوعات هل للمكلّف الاستقلال في تشخيصهما دون مراجعة المجتهد الجامع للشرائط؟

الظاهر انّه لم يختلف أحد من الفقهاء في عدم جواز استقلال المكلّف العامي في تشخيصهما وانّ هذين القسمين كالأحكام الشرعيّة من جهة لزوم مراجعة الفقيه لغرض التعرّف عليها وانّ ذلك من شئون ومناصب الفقيه ، وذلك لأنّ الشك فيهما شك في الحكم الشرعي ـ كما أفاد السيّد الخوئي رحمه‌الله ـ فحينما يشك المكلّف انّ الصلاة والتي هي متعلّق الوجوب هل هي المشتملة على جلسة الاستراحة أو لا فهذا معناه الشك في وجوب جلسة الاستراحة والذي يكون تحديد الوظيفة الشرعيّة تجاهه من شئون الفقيه ومناصبه ، وهكذا الكلام في سائر الأمثلة المذكورة.

القسم الثاني : الموضوعات العرفيّة أو اللغويّة المستنبطة ، وهي موضوعات الأحكام الشرعيّة التي لم يتصد الشارع لأكثر من بيان حكمها ، ومن هنا تكون للعرف المرجعيّة في تشخيص مفهومها ومعرفة حدودها سعة وضيقا ، على أن يكون ذلك محتاجا الى نظر ومتابعة.

فهي إذن الموضوعات التي لها مفهوم محدّد عند العرف أو في اللغة إلاّ انّه لا يتيسر لكلّ أحد تشخيصها والتعرّف على حدودها ، وذلك لافتقار الإحاطة بها الى مجموعة من المقدّمات كالقواعد اللغويّة والضوابط المقرّرة عند أهل المحاورة والتي يتوسّلون بها لغرض التعرّف على مرادات المتكلّمين


من قبيل مناسبات الحكم والموضوع ، كما انّها تفتقر الى معرفة الوسائل التي يصحّ الاعتماد عليها لغرض الوصول الى حقيقة هذه الموضوعات ، أي ماهيّة الوسائل التي يكون الاعتماد عليها معتبرا من الوسائل التي لا تكون معتبرة ، ومن هنا يعبّر عن هذه الموضوعات بالمستنبطة وذلك لأنّ الوصول الى حقيقتها يحتاج الى نظر واستنباط.

وهنا يقع البحث عن انّ تشخيص هذه الموضوعات هل هو من مناصب الفقيه أو انّه يصحّ للمكلّف الاستقلال عن المجتهد في تشخيصها وان كان له أن يعوّل على المجتهد ولا يكلّف نفسه اعباء البحث عنها ، أو انّ تشخيص المجتهد لهذه الموضوعات لا يكون حجّة على المكلّف ما لم يحصل له الاطمئنان بتشخيصه وإلاّ فهو ملزم ببذل الجهد لغرض تنقيح هذه الموضوعات. فهذه اتّجاهات ثلاثة ذهب السيّد الخوئي رحمه‌الله الى الأوّل منها بنفس التقريب في القسم الأوّل.


هوامش حرف الميم

(١) سورة الإسراء : ٢٣.

(٢) سورة الإسراء : ٢٣.


حرف النّون


عناوين حرف النون

٥٨١ ـ النسب الأوليّة والنسب الثانويّة

٥٨٢ ـ النسبة

٥٨٣ ـ النسبة التحليليّة

٥٨٤ ـ النسخ

٥٨٥ ـ نسخ الوجوب

٥٨٦ ـ نفي الحكم بلسان الموضوع

٥٨٧ ـ النكرة

٥٨٨ ـ النكرة في سياق النفي أو النهي

٥٨٩ ـ النهي

٥٩٠ ـ النهي الإرشادي

٥٩١ ـ النهي التحريمي

٥٩٢ ـ النهي التنزيهي

٥٩٣ ـ النهي في العبادات

٥٩٤ ـ النهي في المعاملات

٥٩٥ ـ النهي النفسي والغيري


حرف النون

٥٨١ ـ النسب الأوليّة والنسب الثانويّة

النسب الذهنيّة كالمفاهيم الاسميّة من جهة انّها تارة تكون معقولات أوليّة وتارة تكون معقولات ثانويّة ، فكما انّ المفهوم الاسمي قد يكون منتزعا عن الخارج ابتداء كمفهوم الشجر والحجر فيكون معقولا أوليا ، وقد يكون منتزعا عن المعقول الأولي كالكليّة والجنسيّة والنوعيّة فيكون معقولا ثانويّا كذلك الحال في النسب والمعاني الحرفيّة فقد ينتزعها الذهن عن الخارج ابتداء كالنسبة الظرفيّة والنسبة الاستعلائيّة والابتدائيّة فتكون معقولا أوّليّا ، وقد ينتزعها الذهن عن معقول أولي فتكون معقولا ثانويا.

وضابطة الفرق بين النسب الأوليّة والنسب الثانويّة هو انّ النسبة ان كان موطنها الأصلي هو الخارج والذهن انّما ينتزعها عنه فهذه نسب أوليّة ، ومثالها النسب الظرفيّة حيث انّها مأخوذة عن ملاحظة وجودين خارجيين أحدهما مظروف والآخر ظرف له ، فموطن النسبة الظرفيّة الأصلي هو الخارج والذهن ينتزعها عنه ابتداء.

وأمّا لو كان موطن النسبة الأصلي هو الذهن ، أي لا وجود لها في الخارج ويتمحّض وجودها في عالم الذهن ، فإنّ الذهن عند ما ينتزع عن هذه النسبة نسبة اخرى تكون هذه النسبة المنتزعة نسبة ثانويّة. ومثالها : النسبة الاستثنائيّة والإضرابيّة والتأكيديّة ،


فالنسبة الاستثنائيّة لا وجود لها في الخارج وانّما ينتزعها الذهن عن النسبة الذهنيّة الواقعة بين المستثنى والمستثنى منه.

مثلا عند ما يقال : « جاء القوم إلاّ زيد » فإنّه لا يوجد في الخارج نسبة استثنائيّة بين القوم وزيد كما هو واضح ، نعم هناك نسبة بين القوم وزيد في الذهن ، هذه النسبة ينتزع عنها الذهن نسبة استثنائيّة ، فموطن هذه النسبة الاصلي هو الذهن ، ولهذا لو قطعنا النظر عنه لم يكن ثمّة نسبة استثنائيّة ، ومن هنا كانت معقولا ثانويّا ونسبة ثانويّة.

ثمّ انّ ما ذكر من انّ المعاني الحرفيّة نسب تحليليّة انّما هو خاص بالنسب الأوليّة المنتزعة عن الخارج ، وأمّا النسب الثانويّة فليست نسبا تحليليّة ، إذ انّ النسبة الثانويّة نسبة واقعة بين وجودين ذهنيين متغايرين في صقع الذهن هما المستثنى والمستثنى منه ، فالنسبة الثانويّة تحكي عن هذا الوجود الذهني الرابط ، فليس حالها كحال النسب الأوليّة المنتزعة عن الخارج حيث انّ ما ينتزعه الذهن عن الخارج انّما هو وجود وحداني يتمّ تحليله في الذهن الى وجودين ورابط. كما أوضحنا ذلك في النسبة التحليليّة.

* * *

٥٨٢ ـ النسبة

المراد من مفهوم النسبة هو الربط بين الشيئين أو بتعبير آخر النسبة بالحمل الاولي هي مفهوم يعبّر عن العلاقة والإضافة بين شيئين ، وهي من المعاني الاسميّة الاستقلاليّة القابلة للحضور في الذهن استقلالا والقابلة لأن تحمل عليها مفاهيم اخرى ، ولأن تحمل على مفاهيم اخرى فيقال مثلا : « النسبة مفهوم اسمي » ، كما يقال : « الفوقيّة والتحتيّة من المفاهيم النسبيّة ».

إلاّ انّها بالحمل الشائع ليست كذلك ، بمعنى انّ واقع النسبة ليس من المفاهيم الاسميّة الاستقلاليّة ، فلا يكون حضورها في الذهن إلاّ في اطار


طرفيها ، والنسبة بهذا المعنى هو المعبّر عنه في الفلسفة بالوجود الرابط كما سيأتي توضيحه في محلّه ان شاء الله تعالى.

ولكي يتّضح المراد من واقع النسبة نذكر هذه التنبيهات التي أفادها السيّد الصدر رحمه‌الله.

التنبيه الأوّل : أنّ ما ينتزعه الذهن عند ملاحظة وجودين خارجيين بينهما نحو ارتباط هو نوعان من المفاهيم :

الأوّل : هو ما يكون حضوره في الذهن لغرض الحكم عليه ، وواضح انّ هذا الغرض يتحقّق بتصوّر مفهوم ذلك الشيء أي استحضاره في الذهن بنحو الحمل الأولي ليكون معبّرا عمّا في الخارج وتكتسب مصاديقه الخارجيّة ما ثبت له من حكم.

الثاني : هو ما يحضر في الذهن بواقعه وحقيقته وتمام خصائصه ، وانّه لا يتحقّق الغرض من حضوره إلاّ بهذا النحو من الحضور.

والنوع الأوّل من المفاهيم هو المعبّر عنها بالمعاني الاسميّة والتي هي مستقلّة في ذاتها ، وأمّا النوع الثاني فهو المعبّر عنه بواقع النسبة وبالنسبة بالحمل الشائع الصناعي ، بمعنى انّ ما يحضر في الذهن عند ملاحظة الخارج هو واقع الربط والعلقة بين المفهومين ، فالنسبة المنتزعة عن الخارج عند ملاحظة وجودين خارجيين بينهما نحو ارتباط هو حقيقة النسبة لا مفهومها التصوري والذي هو ليس نسبة واقعا.

ولكي يتّضح هذا التنبيه نذكر هذا المثال : لو شاهدنا في الخارج طيرا على شجرة ، فإنّ ما ينتزعه الذهن من هذه الملاحظة هو نوعين من المفاهيم ، النوع الاوّل هو مفهوم الطير ومفهوم الشجرة ، وهذا النوع من المفاهيم يكون الغرض من حضوره في الذهن هو جعل الحكم عليه ، ولهذا يكفي أن يكون حضوره في الذهن هو الحضور المفهومي التصوري ، أي يكون الحاضر في الذهن هو صورة ذلك الموجود الخارجي ، فلا غرض من


حضور واقع الموجود الخارجي بخصائصه التكوينيّة ، إذ الحكم على الشيء لغرض ثبوت الحكم لمصاديقه الخارجيّة يكفي فيه تصوّر مفهوم ذلك الشيء.

والنوع الثاني من المفاهيم التي ينتزعها الذهن عند ملاحظة الطير على الشجرة هو نحو الربط الواقع بين الطير والشجرة ، وهذا لا يكون حضوره في الذهن إلاّ بواقعة وحقيقته ، ولا يتحقّق المقصود منه لو كان الحاضرة هو مفهومه التصوري ، إذ انّ الغرض من حضوره في الذهن هو ايجاد الربط بين مفهومي الطير والشجرة ، ولا يتحقّق ذلك إلاّ بحضور الربط حقيقة ، وأمّا الربط بالحمل الأوّلي فهو مفهوم تصوري استقلالي لا يصلح لايجاد الربط والعلقة بين المفهومين لأنّه ليس ربطا حقيقيّا بالحمل الشائع كما هو واضح.

وبما ذكرناه يتّضح انّ النوع الثاني من المفاهيم المنتزعة عن ملاحظة موجودين بينهما نحو ارتباط هو سنخ مفهوم تعلّقي واقعة الربط بين مفهومين ، فلا يكون بينه وبين الربط الخارجي أيّ فرق ، فالربط الذهني المنتزع عن الخارج والربط الواقع في الخارج هو واقع الربط وحقيقته ، غايته انّ الربط الخارجي يكون ربطا بين وجودين ، أمّا الربط الذهني فيكون بين مفهومين ..

وبهذا يتقرّر انّ الذي يوقع الربط بين المفهومين انّما هو النسبة بالحمل الشائع ، وأمّا مفهوم النسبة فلا يمكن أن يربط بين مفهومين ، لأنّه ليس نسبة حقيقة وواقعا ، والمفروض انّ الارتباط بين المفهومين لا يكون إلاّ بالنسبة الحقيقة الواجدة لخصائص النسبة التكوينيّة والتي هي ايجاد العلقة والربط بين المفاهيم.

التنبيه الثاني : انّ المقوّم الذاتي للنسبة بالحمل الشائع هو شخص المفهومين المرتبطين بواقع النسبة ، ولهذا لا يكون ثمّة جامع ذاتي بين النسب الحقيقية ، فالنسبة الواقعة بين شخص هذين المفهومين مغاير للنسبة


الواقعة بين شخص مفهومين آخرين.

مثلا : لو كانت هناك ثلاث نسب ، الاولى هي نسبة الطير الى الشجرة في الخارج ، والثانية هي نسبة الطير الى الشجرة في ذهن المتكلّم ، والثالثة هي نسبة الطير الى الشجرة في ذهن السامع ، فهذه النسب الثلاث متباينة ، لأنّ مقوّم النسبة الاولى هو شخص الطير والشجرة الخارجيين ، ومقوّم النسبة الثانية هو شخص مفهوم الطير والشجرة في ذهن المتكلّم ، ومقوّم النسبة الثالثة هو شخص الطير والشجرة في ذهن السامع ، وعليه لا يكون ثمّة جامع ذاتي بين النسب الثلاث وذلك :

أولا : لأنّ مفهوم النسبة وإن كان جامعا بين النسب الثلاث إلاّ انّه ليس جامعا ذاتيا ، لأنّه لا يتوفّر على واقع النسبة وحقيقتها ، إذ انّ مفهوم النسبة ليس نسبة بالحمل الشائع.

وثانيا : انّ الجامع الذاتي معناه الجامع المشترك بين الأفراد الواجد للمقوّمات الذاتيّة لهذه الأفراد ، فحينما نريد انتزاع جامع ذاتي لزيد وخالد وعمرو فإنّنا نجرّد هذه الأفراد عن خصوصيّاتها العرضيّة ويتحصّل عندنا بعد إلغاء هذه الخصوصيّات جامع ذاتي بين هذه الأفراد واجد للمقوّمات الذاتيّة لها وهذا الجامع هو الإنسانيّة.

أمّا لو أردنا انتزاع جامع ذاتي للنسب المذكورة فإنّه من غير الممكن التحفّظ على المقوّم الذاتي لهذه النسب بعد إلغاء خصوصيّة كلّ فرد ، إذ انّ خصوصيّة كلّ فرد هي المقوّم الذاتي للنسبة فلا ينحفظ بعد الغائه المقوّم الذاتي لتلك النسبة ، وعليه لا يمكن ان نتحصّل من مجموع النسب على جامع ذاتي مشترك بين هذه النسبة ، وذلك لما ذكرناه من انّ المقوّم الذاتي للنسبة بين الطير والشجرة في الخارج انّما هو شخص الطير والشجرة وانّ المقوّم الذاتي للنسبة بين الطير والشجرة في ذهن المتكلّم انّما هو شخصهما في ذهن المتكلّم وهكذا في النسبة الثالثة ، فلو كان البناء هو حذف المشخّصات لكلّ


نسبة لكان معنى ذلك هو حذف المقوّم الذاتي لكلّ نسبة ، وعندئذ يستحيل تحصيل جامع ذاتي لهذه النسب.

التنبيه الثالث : انّه يتّضح ممّا تقدّم انّ النسبة بالحمل الشائع ليس لها وراء وجودها تقرّر ماهوي ، وهذا بخلاف المفهوم الاسمي فإنّ له تقرّر ماهوي بقطع النظر عن وجوده ، ومن هنا عبّر الفلاسفة عن وجود النسبة بالوجود الرابط وعن وجود المفهوم الاسمي بالوجود المحمولي.

وبيان ذلك : انّ للمفاهيم الاسميّة تقرر ماهوي قبل حمل الوجود عليها ، بمعنى انّ الذهن عند ما ينتزع مفهوم الطير فإنّه يمكن أن يحلل هذا المفهوم الى ماهيّة ووجود ويشكل بذلك قضيّة موضوعها الماهيّة وهي الطير ومحمولها الوجود ، وبهذا يكون لمفهوم الطير تقرّر ماهوي بقطع النظر عن حمل الوجود عليه ، وهذا هو معنى انّ المفاهيم الاسميّة متقرّرة ذاتا وبنحو مستقلّ عن الوجود وانّ حضورها في الذهن وتصوّرها ليس منوطا بثبوت الوجود لها ، ولهذا فنحن نتصوّر المفاهيم الاسميّة وما لها من جنس وفصل بقطع النظر عن حمل الوجود عليها.

وأمّا النسبة بالحمل الشائع فباعتبارها متقوّمة ذاتا بشخص الوجود الثابت لطرفيها فإنّ ذلك يقتضي عدم تقررها بقطع النظر عن وجودها ، فإنّ المصحّح لتقرّر الماهيات والمفاهيم الاسميّة بغضّ النظر عن وجودها هو انّ مقوّمها الذاتي والذي هو فصلها وجنسها ليس هو الوجود فافتراض عدم وجودها لا يساوق انتفاء مقوّمها الذاتي ، ولهذا تكون الماهيّة متعقّلة ومدركة رغم عدم ثبوت الوجود لها.

وأمّا النسبة فليست كذلك لأنّ مقوّمها الذاتي لا ينحفظ إلاّ في اطار شخص الوجود لطرفيها ، ولهذا لا نسبة مع عدم ثبوت الوجود لشخص طرفيها ، فما لم يكن ثمّة وجود شخصي للطير والشجرة في الذهن فإنّ ذلك معناه عدم وجود نسبة رابطة بين


هذين الطرفين. وبهذا يتّضح معنى انّ النسبة ليس لها تقرّر ماهوي بقطع النظر عن وجود طرفيها.

التنبيه الرابع : انّ المفاهيم الاسميّة تارة تلاحظ باعتبارها موجودة في الذهن وهذا هو لحاظها بالحمل الشائع ، وحينئذ يكون المفهوم الاسمي مفهوما جزئيّا وتكون نسبته الى ما يسانخه في الخارج نسبة المماثل لمماثله ، وأمّا إذا لوحظت المفاهيم الاسميّة بقطع النظر عن وجودها في الذهن ، بمعنى انّ الملحوظ في الذهن هو صورة المفهوم بالحمل الأولي فإنّه يكون مفهوما كليّا وتكون نسبته الى منطبقه في الخارج نسبة الكلّي الى مصاديقه.

وأمّا النسبة فإنّها لا تكون كذلك في اللحاظين ، أمّا اللحاظ الأوّل وهو ملاحظتها باعتبارها موجودة في الذهن فإنّها وان كانت جزئيّة كما هو واقعها دائما إلاّ انّ نسبتها الى النسبة الخارجيّة هي نسبة المباين لمباينه ، وذلك لأنّ النسبة الموجودة في الذهن متقوّمة بشخص الوجود الثابت لطرفيها الذهنيين ، وأمّا النسبة الخارجيّة فهي متقوّمة بشخص الوجود لطرفيها الخارجيين.

وأمّا اللحاظ الثاني وهو ملاحظة النسبة بقطع النظر عن وجودها في الذهن فإنّها حينئذ لا يكون لها تقرّر ماهوي لما ذكرناه من انّ تقرّرها متقوّم بشخص الوجود لطرفيها ، وقد افترضنا قطع النظر عنه ، وحينئذ لا معنى للبحث عن انطباقها على ما في الخارج وانّه من انطباق الكلّى على مصاديقه ، إذ انّ الكلّي لا بدّ وأن يكون له تقرّر ماهوي بقطع النظر عن وجوده في حين انّ تقرّر النسبة غير معقول بقطع النظر عن وجود طرفيها.

وأمّا ما نلاحظه بالوجدان من حكاية النسبة الذهنيّة عن النسبة الخارجيّة فهو بسبب طرفيها ، إذ المفترض انّهما من المفاهيم الاسميّة التي يمكن ملاحظتها باللحاظ التصوري ، فيصلحان حينئذ للحكاية عمّا في الخارج ، فتكون حكاية


النسبة الذهنيّة عن النسبة الخارجيّة انّما هو بتبع حكاية الطرفين الذهنيين عن الطرفين الخارجيين.

وبالتأمّل في هذه التنبيهات الأربعة يتّضح المراد من معنى النسبة.

* * *

٥٨٣ ـ النسبة التحليليّة

وهي نظريّة السيّد الصدر رحمه‌الله في المعاني الحرفيّة ، وحاصل المراد من النسبة التحليليّة يتّضح بهذا البيان :

انّه قد ذكرنا في بحث النسبة انّه عند ملاحظة وجودين خارجيين بينهما نحو ارتباط فإنّه ينخلق في الذهن وجودات ثلاثة ، الأوّل والثالث يكونان من سنخ الوجودات المحموليّة والثاني من سنخ الوجود الرابط ، وفي المثال الذي ذكرناه يكون المنخلق في الذهن هو صورة الطير وصورة الشجرة والربط الواقع بين الصورتين والمعبّر عنها بواقع النسبة.

وهنا نقول : انّ الربط بين الوجودين الاستقلاليين بواقع النسبة يستحيل أن يكون صالحا للحكاية عن النسبة الخارجيّة الواقعة بين الطير والشجرة ، إذ انّ ذلك لا يخلو عن أحد معنيين :

الأوّل : أن يكون الرابط بين الوجودين الذهنيين انّما هو مفهوم النسبة ، وهذا ما قلنا باستحالته في بحث « النسبة » ، وذلك لأنّ مفهوم النسبة ليس نسبة بالحمل الشائع ، إذ انّه مفهوم اسمي ، ومن هنا لا يمكن ايجاد الربط بواسطته.

الثاني : أن يكون الرابط بين الوجودين الذهنيين هو واقع النسبة ، ففي مثالنا يكون الرابط بين الطير والشجرة الذهنيين هو واقع النسبة الاستعلائيّة ، فيكون هناك نسبة استعلائيّة واقعيّة ذهنيّة مسانخة للنسبة الاستعلائيّة الخارجيّة وهو مستحيل ، إذ انّ النسبة الاستعلائيّة الخارجيّة انّما هي من شئون الجسم فلا تصلح للربط بين الصور الذهنيّة باعتبارها أعراض وكيفيّات نفسانيّة ، فلم يبق سوى افتراض أن يكون


الرابط بين الوجودين الذهنيين هو نسبة واقعيّة اخرى مناسبة لكون المرتبط بها وجودات ذهنيّة ، وعندئذ يستحيل أن تصلح للحكاية عن النسبة الخارجيّة لعدم التسانخ بين النسبتين.

وبهذا خرج السيّد الصدر رحمه‌الله بهذه النتيجة وهي انّه لا يوجد في الذهن سوى وجود ذهني واحد ، بمعنى انّ ما يحضر في الذهن عند ملاحظة الوجودين الخارجيين المرتبطين هو وجود واحد يتمّ تحليله في الذهن الى وجودين ذهنيين استقلاليين ووجود رابط ، وهذا الوجود الرابط المعبّر عنه بالنسبة هو المعنى الحرفي وهو جزء المركّب التحليلي الذهني ، فما يفيده الحرف هو النسبة التحليليّة الذهنيّة والتي هي جزء واقعي للوجود الوحداني الذهني المنتزع عن ملاحظة الوجودين الخارجيين المرتبطين ، ويمكن تنظير هذا الوجود الوحداني بماهيّة الإنسان فإنّها وجود وحداني يمكن تحليله الى أجزائه من جنس وفصل.

والمتحصّل : انّ ما يحضر في الذهن عند ملاحظة الطير والشجرة هو وجود واحد ، وهذا الوجود يتمّ تحليله في الذهن الى وجودين ونسبة فتكون النسبة جزء تحليلي للمركّب الذهني وهي التي وضع الحرف بإزائها.

ثمّ انّ السيّد الصدر احتمل انّ هذا المعنى هو ما أراده السيّد الخوئي رحمه‌الله من دعواه في انّ الحروف موضوعة للتحصيص وقد أوضحنا ذلك في « الجمل الناقصة ».

* * *

٥٨٤ ـ النسخ

المراد من النسخ في اللغة هو الإزالة ، فعند ما يقال نسخت الشمس الظلّ فإنّ ذلك معناه إزالتها للظلّ ومحوها ايّاه بعد ثبوته.

وأمّا معناه في الاصطلاح فهو رفع ما ثبت في الشريعة بانتهاء أمده ووقته ، من غير فرق بين أن يكون الثابت المرتفع بالنسخ من سنخ الأحكام التكليفيّة أو الوضعيّة.


وحتى يتبلور المراد من النسخ نقول : انّ للحكم المجعول في الشريعة مرتبتان :

المرتبة الاولى : ويعبّر عنها بمرتبة الجعل والتشريع ، وهي عبارة عن جعل الحكم على موضوعه المقدّر الوجود على نهج القضايا الحقيقيّة ، ومعنى ذلك افتراض الموضوع ثمّ جعل الحكم عليه ، وهذا يقتضي عدم اناطة ثبوت الحكم لموضوعه بوجود الموضوع خارجا كما أوضحنا ذلك في محلّه.

فحينما يقال : « انّ السارق تقطع يده » و « انّ المستطيع يجب عليه الحجّ » لا يلزم من ذلك وجود السارق والمستطيع خارجا بل انّ معنى ذلك هو انّه لو اتّفق تحقّق وجود السارق خارجا فإنّ الحكم الثابت عليه شرعا هو ان تقطع يده وهكذا الكلام في القضيّة الثانية.

المرتبة الثانية : ويعبّر عنها بمرتبة المجعول والفعليّة ، وهي منوطة بتحقّق الموضوع خارجا ، بمعنى انّه لو اتّفق تحقّق الموضوع خارجا فإنّ الحكم الثابت في مرتبة الجعل يكون فعليا في هذه المرحلة ، فلو اتّفق وجود المستطيع فإنّ وجوب الحجّ يكون فعليا في حقّه ، ومن هنا يكون تحقّق الموضوع خارجا بمثابة العلّة لتحقّق الفعليّة للحكم.

وباتّضاح هذه المقدّمة يتّضح انّ النسخ لا يكون من قبيل انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه ، بمعنى انّ انتفاء وجوب الحجّ لعدم وجود المستطيع خارجا لا يكون من النسخ كما انّ ارتفاع وجوب أداء الصلاة بانتهاء وقتها لا يكون من النسخ ، وذلك لأنّ فعليّة الحكم من أوّل الأمر كانت منوطة بتحقّق الموضوع خارجا.

وبهذا يتقرّر انّ النسخ انّما هو بمعنى رفع الحكم في مرتبة الجعل والتشريع حتى مع افتراض تحقّق الموضوع خارجا كما لو رفع المولى جلّ وعلا وجوب الحجّ عن العباد حتى لو اتّفق وجود المستطيع.

ثمّ انّ الظاهر عدم الخلاف بين


المسلمين في امكان النسخ بل وقوعه في الشريعة المقدّسة ، والمقصود من الإمكان هنا هو الإمكان الوقوعي ، بمعنى انّه لا يلزم من فرض وجود النسخ في الشريعة محذور عقلي ، فما ذهب إليه اليهود والنصارى من استحالة وقوع النسخ في الشريعة غير تامّ كما سيتّضح ان شاء الله تعالى.

ولا يبعد انّ دعوى الاستحالة منهم نشأت عن حرصهم على التحفّظ على دينهم وانّه لم يطرأ عليه النسخ ، وإلاّ فلا معنى للقول باستحالته بعد ان اتّضح ما هو المراد منه وانّه عبارة عن ارتفاع الحكم بانتهاء أمده ، إذ انّ الأحكام كما هو واضح تابعة للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها ، وحينئذ يكون الحكم محدودا بحدود الملاك الكامن في متعلّقه ، ومتى ما انتفى ذلك الملاك فإنّه لا مبرّر لبقاء الحكم ، غايته انّ المولى جلّ وعلا قد يصرّح بالحدّ الذي ينتهي معه أمد الحكم وقد لا يصرّح بذلك لمصلحة قد لا تكون مدركة عندنا.

فالنسخ ليس بمعنى توهّم وجود مصلحة في متعلّق الحكم ثمّ انكشاف عدمها وعليه يتصدى لرفع الحكم فيكون ذلك مستوجبا لنسبة الجهل اليه تعالى ، كما انّه ليس بمعنى رفع الحكم اعتباطا وجزافا رغم اشتماله على الملاك الموجب لبقاء الحكم فيكون ذلك مستوجبا لنفي الحكمة عن الحكيم جلّ وعلا.

ولمزيد من التوضيح نقول : انّ الأحكام لما كانت تابعة للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها فإنّ من الممكن جدا أن يكون لزمن معيّن دخل في ثبوت المصلحة أو المفسدة وانّ انقضاءه يكون مقتضيا لانتفاء المصلحة أو المفسدة عن ذلك المتعلّق وإلاّ فما معنى أن يكون يوم السبت هو اليوم الذي يحرم فيه الصيد على اليهود وما معنى أن يكون يوم الأحد هو اليوم الذي تجب فيه الصلاة على النصارى ، وما معنى أن يكون التيه المفروض على بني اسرائيل أربعين سنة كلّ ذلك يعبّر عن انّه قد يكون


الزمان دخيلا في ثبوت الحكم لموضوعه وانّ انقضاءه يؤدّي الى انتفاء الملاك عن الموضوع فينتفي عندئذ الحكم لانتفاء المبرّر من جعله.

نعم قد يصرّح المولى جلّ وعلا بمدخليّة الزمان في ثبوت الحكم لموضوعه وقد لا يصرّح ، وتصريحه وعدم تصريحه تابع لأغراضه المناسبة لحكمته المطلقة جلّ وعلا ، فأيّ محذور في أن يجعل المولى حكما على موضوع وكان قاصدا من أوّل الأمر تحديده بحدّ زمني ينتفي عنده الحكم عن موضوعه إلاّ انّه لم يصرّح بذلك لغاية اقتضتها حكمته البالغة.

ومن هنا كان النسخ تخصيص أزماني للحكم بقرينة منفصلة ، فيكون أشبه بالتخصيص الأفرادي والأحوالي بقرينة منفصلة ، غايته انّ المخصّص في النسخ هو العموم الأزماني والمخصّص في الفرض الثاني هو العموم الأفرادي والأحوالي.

* * *

٥٨٥ ـ نسخ الوجوب

والبحث في المقام عن انّه إذا نسخ الوجوب فهل يبقى متعلّقه على الجواز بالدليل المنسوخ أو الدليل الناسخ أو لا؟ أي هل يمكن استفادة الجواز لمتعلّق الوجوب المنسوخ من دليل المنسوخ أو من دليل الناسخ أو لا يمكن استظهار ذلك منهما ، وإذا لم يكن ذلك ممكنا فهل يمكن استفادة الجواز بواسطة الاستصحاب؟

المشهور بينهم عدم إمكان اثبات الجواز لا بدليل المنسوخ ولا بدليل الناسخ ، فلو كان شيء واجبا ثمّ طرأ عليه النسخ فإنّه لا يمكن الاستدلال على بقاء الجواز لا بواسطة دليل الوجوب المنسوخ ولا بواسطة ما دلّ على نسخ الوجوب.

وحتى يتّضح المطلب نذكر أحد التقريبات التي يمكن أن يتوهّم معها بقاء الجواز عند طرو النسخ على الوجوب ، وهو انّ الوجوب عبارة عن جواز الفعل والمنع عن تركه أو هو


عبارة عن الأمر بالفعل مع المنع عن تركه ، والنسخ عند ما يطرأ على الوجوب يرفع حيثيّة المنع عن الترك فيبقى جواز الفعل أو الأمر به على حاله ، فيكون دليل الوجوب المنسوخ صالحا للدلالة على الجواز بمعنى الإباحة أو الجواز بمعنى الاستحباب.

وقد اجيب عن هذا التقريب بعدم تماميّة أصل المبنى وانّ الوجوب هو المركّب من جواز الفعل والمنع عن الترك ، وذلك لأنّ الوجوب معنى بسيط فلا يفترض فيه إلاّ حالتان إمّا الوجود أو العدم ، فمع افتراض نسخه يكون معدوما.

وأمّا دعوى استفادة الجواز من الاستصحاب فتقريبه انّ الجواز قبل أن يطرأ النسخ محرز لمتعلّق الوجوب ثمّ بعد طروء النسخ على الوجوب وقع الشك في ارتفاع الجواز فنستصحب بقاءه.

وقد أورد السيّد الخوئي رحمه‌الله على هذا التقريب بأنّه من استصحاب الكلّي من القسم الثالث والذي هو ساقط عن الحجيّة ، وذلك لأنّ الجواز المتيقّن سابقا انّما هو الجواز الواقع في ضمن الوجوب وقد ارتفع يقينا بارتفاع الوجوب والجواز المشكوك انّما هو فرد آخر منه ، فما هو معلوم يقينا قد ارتفع يقينا وما هو مشكوك لم يكن لنا علم بحدوثه فلا تكون أركان الاستصحاب في مورده تامّة.

* * *

٥٨٦ ـ نفي الحكم بلسان الموضوع

المراد من هذا التعبير هو انّ النفي قد يدخل على موضوع ويكون الغرض منه نفي الطبيعة عن أن تكون واقعة في ضمن فرد ، وهذا ما يكون موجبا للدلالة على انتفاء الحكم ـ الثابت للطبيعة في مرحلة سابقة ـ عن الطبيعة الواقعة في ضمن هذا الفرد.

وبتعبير آخر : انّه قد يثبت حكم لطبيعة بنحو مطلق ، وهذا ما يقتضي انحلال الحكم الى أحكام بعدد أفراد تلك الطبيعة ثمّ يرد دليل آخر ينفي موضوعيّة فرد لتلك الطبيعة ، أي ينفي


وقوع الطبيعة في اطار ذلك الفرد ويكون الغرض من نفي وقوع الطبيعة في ضمن ذلك الفرد هو نفي الحكم الثابت للطبيعة عن أن يكون مشمولا لذلك الفرد والذي هو من أفرادها حقيقة ، وهذا هو معنى نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، أي انّ المتكلّم توسّل في نفي الحكم عن أحد أفراد الطبيعة بواسطة نفي نفس الفرد عن الطبيعة.

وهذا ما يستبطن توفّر حيثيّتين في هذا الأسلوب :

الاولى : انّ هناك حكم ثابت في مرحلة سابقة موضوعه هو الطبيعة الشاملة للفرد المنفي.

الثانية : أن يكون الفرد المنفي وقوع الطبيعة في ضمنه فردا حقيقيّا للطبيعة بحيث لو لم يرد الدليل الثاني النافي لفرديّة هذا الفرد للطبيعة لكان الدليل الأوّل مقتضيا لشمول الحكم الثابت للطبيعة لذلك الفرد.

ويمكن التمثيل لذلك بقوله عليه‌السلام : « لا ربا بين الوالد وولده » ، فإنّ المنفي في هذه الرواية هو طبيعة الربا بمعنى نفيها عن أن تكون واقعة في ضمن الحصّة المذكورة ، والغرض من هذا النفي هو نفي الحكم الثابت للطبيعة عن هذه الحصّة.

فالمنفي في الرواية واقعا هو الحكم ولكن بواسطة نفي موضوعيّة هذه الحصّة عن الطبيعة ، والنفي في مثل هذه الصياغة لا يكون إلاّ بنحو التنزيل والتعبّد ، بمعنى انّ الشارع يعتبر عدم صدق الطبيعة ـ ذات الحكم الثابت سابقا ـ على الحصّة المنفيّة ، ومن هنا قالوا بقرينيّة هذه الصياغة على الحكومة حيث ذكرنا في بحث الحكومة انّها بمعنى النظر في الدليل المحكوم لغرض شرحه وتفسيره ، وانّ قرينة النظر هو أن لا يكون للدليل الحاكم معنى مبرّر لو لم يكن ناظرا لدليل آخر لغرض شرحه وتفسيره أو قل لغرض التصرّف في سعته وضيقه ، وهذه الضابطة منطبقة على محلّ الكلام ، إذ لا معنى لنفي الطبيعة في ضمن فرد لو لم يكن للطبيعة حكم


ثابت بدليل آخر يكون هذا النفي مضيقا لدائرة موضوعه.

* * *

٥٨٧ ـ النكرة

والمقصود منها اسم الجنس الذي لا يكون معرفا بالألف واللام ولا مضافا الى ما هو معرّف ، وذلك مثل « رجل » « انسان » « أسد » ، وهي على قسمين :

القسم الأوّل : أن تكون النكرة منوّنة بتنوين التنكير.

القسم الثاني : أن تكون منوّنة بتنوين التمكين.

أمّا القسم الأوّل : وهو النكرة المنوّنة بتنوين التنكير فقد ذكر صاحب الكفاية رحمه‌الله انّ المعروف على الألسنة انّها موضوعة للدلالة على الفرد المردّد في الخارج.

وقد أورد على ذلك بأنّه لا واقع للفرد المردّد ، وذلك لأنّ افتراض الوجود للفرد يساوق افتراض تعيّنه وتشخّصه لأنّ الشيء ما لم يتشخّص لا يوجد ، ومن هنا يكون الظاهر من قولهم انّ النكرة موضوعة للدلالة على الفرد المردّد هو انّ النكرة موضوعة بإزاء الطبيعة بقيد الوحدة والتي تقبل الصدق على كلّ فرد من أفراد الطبيعة فلا خصوصيّة لفرد على فرد من جهة صدق الطبيعة عليه.

ثمّ انّ صاحب الكفاية رحمه‌الله ادعى انّ للنكرة استعمالين :

الأوّل : انّها تستعمل في المعيّن عند المتكلّم وان كان التعيّن مجهولا عند المخاطب ومثّل لذلك بقوله تعالى : ( وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى ) (١) ، فإنّ « رجل » استعمل في الآية الشريفة فيما هو متعيّن ومعلوم لدى المتكلّم إلاّ انّه مجهول لدى المخاطب ، ولذلك لا تكون النكرة مستعملة في الطبيعة كما هو شأن اسم الجنس.

الثاني : انّها تستعمل في الطبيعة بقيد الوحدة ، وبهذا تختلف عن النكرة غير المنوّنة بتنوين التنكير ، إذ انّ قيد الوحدة غير مأخوذ في النكرة غير


المنوّنة بتنوين التنكير بل هي موضوعة للطبيعة بما هي هي.

وبتعبير آخر : انّ النكرة المنوّنة بتنوين التنكير موضوعة للطبيعة المقيّدة بالوحدة ، فيكون مفادها الواحد من الطبيعة الملغاة عنه الخصوصيّة الفرديّة ، ولهذا يمكن تطبيقه على أيّ فرد من أفراد الطبيعة.

ومثاله : « أكرم رجلا » ، فإنّ المطلوب هو إكرام رجل واحد من أفراد طبيعة الرجل ، فيكون تنوين التنكير معبّرا عن معنى زائد على المعنى المفاد بالنكرة لو لم تكن منوّنة بتنوين التنكير.

إلاّ انّ جمعا من الأعلام أوردوا على صاحب الكفاية رحمه‌الله بأنّ النكرة المنوّنة بتنوين التنكير موضوعة للطبيعة دون قيد الوحدة كما هو الحال في النكرة غير المنوّنة بتنوين التنكير أو غير المنوّنة أصلا ، غايته انّ استفادة الوحدة في حالات تنوين النكرة بتنوين التنكير يكون مستفادا من دال آخر هو تنوين التنكير فيكون استفادة الطبيعة بقيد الوحدة منها انّما هو من باب تعدد الدال والمدلول ، فالدال على الطبيعة هو النكرة ، والدال على قيد الوحدة هو تنوين التنكير ، فليس للنكرة وضعان وضع بإزاء النكرة المنوّنة بتنوين التنكير ووضع بإزاء النكرة.

القسم الثاني : وهو النكرة المنوّنة بتنوين التمكين ، والمقصود من تنوين التمكين هو ما يعرض الأسماء المعربة لغرض تشخيصها عن الأسماء المبنيّة ، وليس لهذا النوع من التنوين أيّ معنى يمكن أن يضاف الى المعنى الموضوع له اسم الجنس « النكرة ».

ويمكن التمثيل له بقوله عليه‌السلام : « من تزوّج امرأة لما لها وكله الله إليه » ، فإنّ التنوين العارض لاسم الجنس « امرأة » هو من تنوين التمكين بدليل انّ العرف لا يفهم من اسم الجنس الواقع في هذه الجملة إلاّ معنى الطبيعة ، وهذا يعني انّ التنوين لم يضف معنى زائدا ، ولو كان هذا التنوين هو تنوين التنكير لكان مفيدا بالإضافة الى معنى


الطبيعة قيد الوحدة.

وبذلك يتّضح انّ الضابطة في تمييز تنوين التنكير عن تنوين التمكين هو سياق الجملة المستعمل فيها اسم الجنس ، فإن كان التنوين مفيدا لقيد الوحدة فهو من تنوين التنكير وإلاّ فهو من تنوين التمكين.

* * *

٥٨٨ ـ النكرة في سياق النفي أو النهي

البحث في المقام عمّا هو مفاد النكرة المنفيّة بلا النافية للجنس مثل « لا رجل في الدار » وعمّا هو مفاد النكرة المنفيّة بلا الناهية مثل « لا تنهر يتيما ».

والظاهر انّه لم يقع خلاف بين الأعلام في استفادة العموم من هذين السياقين انّما البحث عمّا هو منشأ استفادة العموم منهما فقد قيل انّ ذلك ناشئ عن القرينة العقليّة ، وهي انّ الطبيعة المستفادة عن النكرة لما وقعت منفيّة بلا النافية أو الناهية فإنّ ذلك يقتضي انتفاء جميع أفرادها وإلاّ فمع وجود فرد للطبيعة خارجا لا تكون الطبيعة حينئذ منفيّة ، إذ الطبيعة توجد بأوّل وجودات أفرادها ، ومن هنا كان وقوع الطبيعة في سياق النفي أو النهي مفيدا للعموم ، فحينما يقال : « لا رجل في الدار » فإنّ ذلك معناه انتفاء جميع أفراد طبيعة الرجل ولو كان ثمّة رجل واحد في الدار لكانت القضيّة كاذبة ، إذ انّه يكفي في تحقّق الطبيعة وجود أحد أفرادها ، وهكذا عند ما يقال : « لا تنهر يتيما » فإنّ تحقّق الامتثال لا يكون إلاّ بعدم انتهار جميع أفراد طبيعة اليتيم.

وعلّق السيّد الصدر رحمه‌الله على ذلك ـ وكذلك هو المستظهر من كلمات بعض الأعلام ـ بأنّ استفادة العموم الاستغراقي من النكرة الواقعة في سياق النفي أو النهي ليس مرتبطا بالنكرة وانّما هو مرتبط بالسياق ، ومن هنا لو وقع اسم الجنس المعرّف في سياق النفي أو النهي لكان مفيدا للعموم الاستغراقي بنفس القرينة العقليّة المذكورة ، فلا فرق بين أن يقال : « لا تنهر يتيما » و « لا تنهر اليتيم ».


ثمّ انّ هنا أمرا لا بدّ من التنبيه عليه ذكره المحقّق صاحب الكفاية رحمه‌الله وهو انّ استفادة العموم الاستغراقي من وقوع النكرة في سياق النفي أو النهي منوط بتماميّة الإطلاق ومقدّمات الحكمة في الطبيعة المنفيّة أو المنهي عنها ، وذلك لأنّ القرينة العقليّة المذكورة لا يستفاد منها أكثر من انّ الطبيعة لا تنعدم إلاّ بانعدام تمام أفرادها ، وأمّا انّ مدخول النفي أو النهي هل هو الطبيعة المطلقة أو المقيّدة فهذا ما لا تتصدّى القرينة العقليّة لإثباته ، فلا بدّ لإثبات الإطلاق من تماميّة مقدّمات الحكمة وانّ الطبيعة المنفيّة هي الطبيعة المطلقة.

وبتعبير آخر : انّ النفي أو النهي انّما يقتضيان النفي أو النهي عمّا يراد من مدخولهما ، أمّا ما هو المراد من مدخول النفي أو النهي وهل هو الطبيعة المطلقة أو المقيّدة فهذا ما يقتضي ملاحظة ما هو حدود المراد من الطبيعة فإن ثبت انّ مدخول النفي أو النهي هو الطبيعة المطلقة فهذا معناه انّ المنفي هو تمام أفراد الطبيعة وانّ المنهي عنه هو تمام أفراد الطبيعة ، وأمّا لو ثبت انّ المنفي أو المنهي عنه هو الطبيعة المقيّدة فهذا معناه انّ المنفي هو تمام أفراد الطبيعة المقيّدة دون الطبيعة المطلقة وهكذا الكلام في المنهي عنه.

فوقوع النكرة في سياق النفي أو النهي مفاده عموم ما يراد من مدخولها والذي يحدّد ما هو المراد من مدخولها انّما هو القرينة الخارجيّة ، فإن كانت هي مقدّمات الحكمة كانت النكرة المنفيّة مفيدة لانتفاء تمام أفراد الطبيعة أو مفيدة للنهي عن تمام أفراد الطبيعة ، وان كانت القرينة معبّرة عن إرادة الطبيعة المقيّدة فإنّ المنفي والمنهي عنه وإن كان هو العموم إلاّ انّه عموم الطبيعة المقيّدة ، فحينما يقال : « لا رجل عالما في الدار » أو « لا تهن فقيرا عادلا » فإنّ معنى القضيّة الاولى هو انتفاء طبيعة الرجل العالم ، لا انّ المنفي هو طبيعة الرجل ، وهكذا الكلام في القضيّة الثانية.

* * *


٥٨٩ ـ النهي

المشهور انّ النهي بمادّته وصيغته يدلّ على الطلب كما هو الحال في مادّة الأمر وصيغته ، غايته انّ متعلّق الأمر هو الفعل وأمّا متعلّق النهي فهو ترك الفعل فالأمر هو طلب الفعل والنهي معناه طلب ترك الفعل.

ومن هنا يكون الفرق بين الأمر والنهي انّما هو من جهة المتعلّق وإلاّ فكلاهما موضوعان لمعنى واحد وهو الطلب والمائز بينهما هو انّ الأمر معناه طلب ايجاد الفعل ومعنى النهي هو طلب اعدام الفعل ، فحينما يقال : « لا تكذب » فإنّ معناه طلب اعدام طبيعة الكذب.

وقد أورد على هذا المبنى بايراد معروف ، حاصله : انّ من المستحيل أن يكون متعلّق النهي هو طلب الترك ، وذلك لأنّ التكليف منوط بالاختيار والقدرة على الامتثال ، ومن الواضح انّ ترك الفعل والذي يعني اعدامه خارج عن قدرة المكلّف ، إذ انّ انعدام الفعل ثابت من الأزل فلا يكون اعدامه داخلا تحت القدرة ، إذ لا قدرة على التأثير في المعدوم من جهة تحصيل اعدامه ـ اذا صحّ التعبير ـ نعم لو كان ثمّة شيء موجودا فعلا لكان طلب اعدامه ممكنا وأمّا اعدام ما هو معدوم فهو مستحيل ، وبذلك يتّضح فساد المبنى ، فدعوى انّ معنى النهي هو طلب ترك الفعل يساوق طلب اعدام المعدوم.

فعند ما يكون النهي هو ترك الكذب فإنّ هذا معناه طلب ما هو ثابت من الأزل ، إذ انّ ترك الكذب ثابت من أوّل الأمر ، فحتّى لو كذب المكلّف كذبة فإنّ النهي لا يكون متعلقا بترك هذه الكذبة ، إذ انّها وجدت فلا يتعلّق النهي باعدامها وانّما يتعلّق باعدام ما لم يوجد من أفراد الكذب ، وهذا هو طلب اعدام المعدوم.

وقد اجيب عن هذا الإشكال بأنّ طلب ترك الفعل والذي هو ثابت من الأزل لا يلزم منه طلب اعدام


المعدوم ، إذ انّ الطلب متعلّق بالاستمرار في سدّ باب الوجود على الطبيعة المنهي عنها ، وهذا المقدار مقدور للمكلّف ، إذ انّه قادر على ايجاد الطبيعة فيكون قادرا على عدم ايجادها ، إذ لا يتعقّل ثبوتا لقدرة على أحد طرفي النقيض دون الآخر ، فالقدرة على الشيء هو انّ له أن يفعله وله أن لا يفعله ، أمّا لو لم يكن قادرا على الترك فهو غير قادر على الفعل بل هو مقسور عليه وهو خلف الفرض.

المبنى الثاني : هو انّ المراد من النهي عبارة عن طلب الكفّ عن الفعل خارجا ، فيكون النهي كالأمر موضوعا للطلب إلاّ انّ متعلّق النهي عبارة عن الكفّ والذي يستبطن مئونة زائدة وهي أعمال النفس ، فمعنى « لا تكذب » هو طلب حبس النفس ومنعها عن الكذب ، وهو أمر اختياري كما هو واضح.

وهذا المبنى انّما نشأ عن التسليم بتماميّة الإشكال على المبنى الأوّل إلاّ انّه يوجب الوقوع ـ كما قيل ـ في محذور آخر وهو انّ اتّفاق ترك المنهي عنه دون إعمال النفس وحبسها عنه لا يكون امتثالا للنهي بعد أن كان المنهي عنه هو كفّ النفس وحبسها والمفروض عدم تحقّق ذلك منه.

المبنى الثالث : وهو المنسوب لمشهور المحقّقين من الاصوليين ، وحاصله : انّ النهي موضوع للدلالة على الزجر والتبعيد عن متعلّق النهي باعتبار اشتماله على مفسدة توجب الإلزام بذلك ، وهذا بخلاف الأمر فإنّه موضوع للدلالة على البعث والتحريك نحو الفعل باعتبار اشتماله على مصلحة توجب الإلزام بايجاده ، وعلى هذا يكون الموضوع له النهي مباينا لما هو موضوع له الأمر.

المبنى الرابع : وهو الذي ذهب إليه السيّد الخوئي رحمه‌الله ، وحاصله : انّ النهي عبارة عن اعتبار المكلّف محروما من الفعل ، وذلك لاشتماله على مفسدة أوجبت حرمان المكلّف منه ، وهذا هو حقيقة النهي وأمّا صيغة النهي أو ما يساوقها فوظيفتها هو


ابراز ذلك الحرمان الاعتباري ، فهي موضوعة للدلالة على ابراز الحرمان الاعتباري عن الفعل.

ومن هنا يكون معنى النهي قريبا بل مساوقا لمعنى الحرمة ، غايته انّ الحرمة قد تكون تكوينيّة كحرمان قوي لضعيف عن مساورة فعل فيكون حرمانه بمعنى منعه من ممارسة ذلك الفعل أو ان يكون الحرمان من الفعل ناشئا عن قاهر خارجي لا يتّصل بانسان آخر فهو محروم منه بمعنى انّه ممنوع تكوينا عن مزاولته ، وقد تكون الحرمة اعتباريّة كما في النهي المولوي ، إذ انّه عبارة عن اعتبار المكلّف محروما عن مزاولة ذلك الفعل وان لم يكن محروما منه تكوينا.

* * *

٥٩٠ ـ النهي الإرشادي

المعروف انّ الأصل في النواهي أن تكون مولويّة وهي المعبّرة عن طلب الترك أو الكفّ أو الزجر والتبعيد عن متعلّق النهي إلاّ انّه قد نخرج عن هذا الأصل بسبب اكتناف الكلام بقرينة تدلّ على انّ النهي الوارد انّما هو ارشادي.

ويتّضح المراد من النهي الإرشادي بمراجعة ما ذكرناه في الأمر الإرشادي.

* * *

٥٩١ ـ النهي التحريمي

هو النهي المولوي الذي يكون مفاده الحرمة والمنع الإلزامي عن ارتكاب متعلّق النهي ، وذلك في مقابل النهي المولوي الكراهتي والذي يكون مفاده الحكم بكراهة متعلّق النهي ، وفي مقابل النهي الإرشادي والذي يرشد لمانعيّة متعلّقه مثلا ، كما انّه في مقابل النهي التنزيهي على ما سيأتي ايضاحه ان شاء الله تعالى.

ثمّ انّ النهي التحريمي قد يكون نفسيا وقد يكون غيريّا ، والنفسيّة والغيريّة قد تكون من جهة متعلّق النهي وكيفيّة تعلّقه بالعهدة وقد يكون من جهة الملاك ، فهنا أقسام للنهي التحريمي :


القسم الأوّل : أن يكون نفسيّا من جهة انّ متعلّق النهي مطلوب بذاته على المكلّف لا انّ المطلوب هو ما يترتّب على متعلّق النهي ويكون تحصيل متعلّق النهي وسيلة لتحقّق آثاره المطلوبة ذاتا. كما يكون نفسيا من جهة الملاك بمعنى انّ ملاك النهي عن المتعلّق ناشئ عن مفسدة في ذات المتعلّق لا أنّه ناشئ عن مفسدة في آثار المتعلّق.

ومثاله : قوله تعالى : ( يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) فإنّ متعلّق النهي وهو ترك الشرك مطلوب ذاتا ، كما انّ ملاك النهي عن الشرك هو المفسدة العظيمة الناشئة عن نفس الشرك بالله العظيم.

القسم الثاني : أن يكون نفسيّا من الجهة الاولى إلاّ انّه غيري من الجهة الثانية. ومثاله « لا تكذب » ، فإنّ متعلّق النهي وهو ترك الكذب مطلوب بذاته إلاّ انّ الملاك ناشئ عن آثار الكذب لا على نفس الكذب كما هو واضح.

القسم الثالث : أن يكون غيريّا من الجهتين ، ومثاله : النهي عن الضدّ الواجب إذا كان مزاحما لواجب أهمّ ، بناء على اقتضاء وجوب الشيء للنهي عن ضدّه الخاصّ ، وحينئذ يكون ترك الضدّ المهمّ ليس مطلوبا بذاته وما هو مطلوب بذاته انّما هو امتثال الواجب الأهمّ ، نعم يترشّح عن مطلوبيّة امتثال الواجب الأهمّ نهي عن الواجب المهمّ المضاد للأهمّ ، وبهذا يكون النهي غيريّا ، هذا من الجهة الاولى.

وأمّا الجهة الثانية فلأنّ الواجب المهمّ المنهي عنه بسبب المزاحمة ليس ذا مفسدة في نفسه ، إذ انّ المفسدة الذاتيّة كامنة في فوات الواجب الأهمّ إلاّ انّه وباعتبار انّ منشأ فوات الواجب الأهمّ هو الإتيان بالواجب المهمّ المضاد صار الواجب المهمّ ذا مفسدة باعتباره سببا في ترتّب ما فيه مفسدة ذاتا.

* * *


٥٩٢ ـ النهي التنزيهي

وهو النهي الذي يكون تعبيرا عن وجود منقصة وحزازة في متعلّقه ، فيكون متعلّق النهي بذلك مكروها ، والتعبير عنه بالتنزيهي اشارة الى دلالته على تعلّق إرادة الشارع بتنزّه وترفع المكلّف عن ارتكاب متعلّقه.

ثمّ انّ النهي التنزيهي تارة يتعلّق بتطبيق طبيعة المأمور به على حصّة خاصّة والتي هي فرد حقيقة للطبيعة المأمور بها ، وحينئذ يكون النهي معبّرا عن مرجوحيّة امتثال الأمر بالطبيعة بواسطة تلك الحصّة ، إلاّ انّ هذه المرجوحيّة انّما هي بالإضافة الى سائر حصص الطبيعة المأمور بها.

ومثاله : النهي عن صلاة الفريضة في الحمّام ، فإنّ هذا النهي انّما هو عن تطبيق طبيعة الصلاة المأمور بها في ضمن هذه الحصّة.

وقد يكون النهي التنزيهي متعلّقا بذات فعل ليس مأمورا به من أوّل الأمر لا بنفسه ولا بواسطة وقوعه في اطار طبيعة مأمور بها ، كالنهي عن التخلّي في مواطن اللعن.

* * *

٥٩٣ ـ النهي في العبادات

ويقع البحث في المقام عن انّ تعلّق النهي بالعبادة هل يلزم منه الحكم بفسادها أو انّه لا ملازمة بين النهي عن العبادة والحكم بفسادها ، مثلا نهي الشارع عن الصوم في يومي الفطر والأضحى هل يلزم منه الحكم بفساد الصوم لو أوقعه المكلّف في أحد هذين اليومين أو لا يلزم منه ذلك وحينئذ يترتّب على صومه الإجزاء لو كان قضاء عمّا فات أو وفاء بنذر أو ما الى ذلك.

ولكي يتحرّر محلّ النزاع في المسألة لا بدّ من بيان امور :

الأمر الأوّل : انّ البحث في هذه المسألة بحث كبروي يتصدّى فيه الاصولي للبحث عن ثبوت الملازمة بين النهي عن العبادة والحكم بفسادها أو عدم ثبوت الملازمة ، وبهذا تمتاز


هذه المسألة عن مسألة اجتماع الأمر والنهي والتي يكون البحث فيها صغرويا ، إذ يبحث الاصولي فيها عن ان اجتماع الأمر والنهي في مورد هل يقتضي سراية النهي الى مورد الأمر ، بمعنى انّ النهي الوارد على متعلّقه هل يسري لمتعلّق الأمر فيكون متعلّق الأمر منهيّا عنه أو انّ الاجتماع لا يقتضي السراية وبهذا لا يكون متعلّق الأمر منهيا عنه ، وبناء على الأوّل وهو القول بالسراية تكون مسألة الاجتماع من مصاديق النهي في العبادة ، وعندئذ يكون الحكم بفسادها منوطا بنتيجة هذا البحث والذي نحن بصدد بيانه.

الأمر الثاني : انّ مسألة النهي في العبادات من المباحث الاصوليّة العقليّة ، وذلك لأنّ القاضي بثبوت الملازمة وعدمها انّما هو العقل ، نعم هذه المسألة من غير المستقلاّت العقليّة ، بمعنى انّ تحصيل النتيجة الفقهيّة منها منوط بمقدّمة شرعيّة وهي في المقام تعلّق النهي بعبادة وعندئذ لو كانت الملازمة ثابتة فإنّ النتيجة هي فساد تلك العبادة المنهي عنها.

وبهذا تكون مسألة النهي في العبادات كمسألة الضدّ ومسألة مقدّمة الواجب إذ انّها جميعا تشترك في انّها من قسم غير المستقلاّت العقليّة والتي هي من مدركات العقل النظري.

الأمر الثالث : اتّضح ممّا تقدّم انّ النهي قد يكون مولويّا وقد يكون إرشاديّا والذي هو محلّ البحث هو النهي المولوي ، وأمّا النهي الإرشادي ـ كالنهي عن الصلاة فيما لا يؤكل لحمه أو النهي عن الصلاة بغير طهور ـ فإنّه لا ريب في اقتضائه للفساد ، وذلك لأنّه يرشد الى انّ الحصّة المشتملة على المنهي عنه ليست من المأمور به ، وبهذا لا يكون الأمر بالعبادة باطلاقه شاملا لهذه الحصّة ، وعليه لا يمكن تصحيحها ، لأنّ مناط الصحّة في العبادة انّما هو انطباق المأتي به مع المأمور به والمفروض انّ الحصّة المشتملة على المنهي عنه ليست منطبقا للمأمور به. وبهذا يتمحّض


البحث في المسألة عن النواهي المولويّة.

ثمّ انّه يقع البحث عن انّ محلّ النزاع هل يختصّ بالنهي النفسي التحريمي ، كالنهي عن الصوم يوم العيد أو يشمل النهي الغيري والنهي الناشئ عن مزاحمة العبادة لواجب أهمّ منه ملاكا مثلا ، فإنّ الأمر بالواجب الأهمّ يقتضي النهي عن العبادة التي هي أقلّ أهميّة والتي هي مأمور بها لو لا مزاحمتها بالواجب الأهمّ ، وهذا مبني على اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه الخاص ، وحينئذ يكون دخول النهي في محلّ البحث مبني على عدم القول بالترتّب وانّ النهي الغيري يكشف عن مبغوضيّة متعلّقه بحيث لا يمكن التقرّب به للمولى جلّ وعلا.

أمّا بناء على القول بالترتّب أو القول بأنّ النهي الغيري لا يكشف عن مبغوضيّة متعلّقه فحينئذ لا إشكال في صحّة العبادة المنهي عنها بالنهي الغيري.

مثلا : لو تزاحم فعل الصلاة مع انقاذ الغريق وقلنا بأهميّة الإنقاذ فحينئذ ان كنّا نقول بالترتّب فلا مانع من صحّة الصلاة وان كان المكلّف قد عصى بتركه للإنقاذ ، وهكذا لو كنّا نقول بأنّ النهي الغيري عن الصلاة لا يكشف عن مبغوضيّتها وان سقوط الأمر بها بسبب التزاحم لا يمنع من صحّتها بعد توفّرها على ملاك الأمر.

نعم لو كنّا نبني على عدم الترتّب وانّ النهي الغيري يكشف عن المبغوضيّة فإنّ النهي الغيري حينئذ يكون داخلا في محلّ البحث.

الأمر الرابع : انّ المراد من العبادة التي نبحث عن الملازمة بين النهي عنها وبين فسادها هي العبادة الشأنيّة ، والمقصود منها الفعل الذي لو وقع متعلّقا للأمر لكان عباديا.

وبتعبير آخر : انّ من الأفعال ما يتوسّل بها العرف عادة للتعبير عن العبوديّة والتقرّب والتذلّل للمولى أو لذي الشأن الرفيع ، بمعنى انّ صدورها خارجا عادة ما يكون لهذا الغرض ، وذلك مثل السجود والركوع والدعاء


فإنّ طبع هذه الأفعال هو الاتّصاف بالعباديّة إلاّ انّ اتّصافها بالعبادة لا يكون فعليّا ما لم تقع متعلّقا للأمر ، فالبحث في المقام انّما هو عن هذا النحو من الأفعال لو اتّفق تعلّق النهي بها وانّه هل يلزم من النهي عنها فسادها أو لا؟.

وأمّا العبادة الفعليّة والتي ثبت تعلّق الأمر بها فهي خارجة عن محلّ النزاع ، إذ لا ريب في استحالة تعلّق النهي بالعبادة المأمور بها ، إذ انّ معنى فعليّة الأمر بها انّها محبوبة وموجبة للقرب من المولى جلّ وعلا ، وحينئذ يستحيل اتّصافها بالمبغوضيّة ـ المستكشفة عن النهي ـ لاستحالة اجتماع حكمين متضادين على موضوع أو متعلّق واحد ، فافتراض الأمر بها يمنع عن افتراض النهي عنها.

وبهذا يتّضح انّ محلّ النزاع انّما هو الفعل الذي شأنه الاتّصاف بالعباديّة وانّه لو تعلّق به نهي فهل يكون هذا النهي موجبا لفساد ذلك الفعل أو لا؟

مثلا : صوم يوم العيد أو الصلاة في وقت الفريضة أو زيارة الامام الحسين يوم عرفة كلّها أفعال لها شأنيّة الاتّصاف بالعباديّة بحسب طبعها إلاّ انّها لم تقع متعلقا للأمر ، فلو تعلّق بهذه الأفعال نهي ، فهل انّ هذا النهي يستلزم الفساد فيترتّب على ذلك عدم الإجزاء لو كان الصوم قضاء عمّا فات أو وفاء بنذر وهكذا الكلام في الصلاة وزيارة الامام الحسين عليه‌السلام.

ثمّ انّ المراد من الفساد في عنوان المسألة هو عدم ترتّب الأثر المطلوب من الفعل المأتي ، فلا يكون المأتي به عند ما يكون منهيّا عنه مسقطا للقضاء أو الإعادة مثلا ، وقد أوضحنا المراد من الفساد بشيء من التفصيل تحت عنوان « الصحّة والفساد ».

وبما ذكرناه يتبلور المراد من المسألة وما هو محلّ النزاع فيها وبقي الكلام عن بيان انحاء تعلّق النهي بالعبادة ، فقد ذكر المحقّق النائيني رحمه‌الله انّ النهي قد يتعلّق بالعبادة لذاتها ، بمعنى انّ ذات العبادة هو المقتضي للنهي عنها كالصوم في يومي العيدين ، وقد يتعلّق


النهي بالعبادة ولكن بسبب مبغوضيّة جزء أو شرط أو وصف ملازم أو مفارق ، فيكون الجزء أو الشرط أو الوصف واسطة ثبوتيّة ، أي علّة لثبوت الحرمة للعبادة ، وقد لا يتعلّق النهي بالعبادة ابتداء وانّما يتعلّق بالجزء أو الشرط أو الوصف ، وحينئذ يكون تعلّق النهي بالعبادة عرضي.

وتفصيل ذلك لا يتّصل بالغرض إلاّ انّه نقول : انّ المعروف بين الأعلام هو انّ النهي عن العبادة يقتضي الفساد ، والخلاف بينهم انّما وقع في حالات تعلّق النهي بجزء العبادة أو شرطها ، وأمّا تعلّق النهي بوصفها الملازم فالظاهر اشتهار القول باستلزامه الفساد أيضا.

* * *

٥٩٤ ـ النهي في المعاملات

ويقع البحث في المقام عن أنّ تعلّق النهي بالمعاملة هل يقتضي الحكم بفسادها أو إنّ النهي عنها لا يقتضي ذلك؟

ويمكن أن يتّضح الحال فيما يرتبط بهذه المسألة من ملاحظة متعلّق النهي ، ولذلك تصوّران :

التصوّر الأوّل : أن يكون متعلّق النهي هو المعنى المصدري للمعاملة ، أي يكون متعلّق النهي هو إنشاء المعاملة فمعنى حرمة البيع هو حرمة إنشائه وإيقاعه. وهذا هو معنى أنّ الحرمة قد يكون متعلّقها هو السبب.

فالبيع مثلا ينحلّ إلى سبب ومسبّب ، فالسبب هو إنشاؤه بواسطة الإيجاب والقبول والمسبّب هو الأثر المترتّب على إنشائه وهو التمليك والتملّك.

فلو كان متعلّق النهي هو المعنى المصدري أي هو السبب والإنشاء للمعاملة فإنّ النهي عندئذ لا يقتضي الفساد ، إذ لا ملازمة بين مبغوضيّة إيقاع العقد وبين عدم تصحيح الأثر المترتّب عليه ، فقد يكون إيقاع العقد مبغوضا للمولى ولكن لو اتّفق إيقاعه خارجا فإنّه يرى أنّ من المصلحة الحكم بصحّته وبترتّب أثره.


التصوّر الثاني : أن يكون متعلّق النهي هو المعنى الاسم المصدري للمعاملة ، أي يكون متعلّق النهي هو الصادر أو قل هو مضمون المعاملة.

وهذا ما يعبّر عنه بالمسبّب أي الأثر المترتّب عن إيقاع المعاملة ، فالمبغوض هو نفس الأثر ، ولذلك كان هو متعلّق النهي ، فحينما يكون متعلّق النهي هو البيع بالمعنى الاسم المصدري فهذا معناه أنّ المنهي عنه هو التمليك والتملّك.

وهنا وقع البحث بين الأصوليّين وإنّه لو كان متعلّق النهي هو المسبّب فهل يقتضي ذلك فساد المعاملة أو لا؟

* * *

٥٩٥ ـ النهي النفسي والغيري

اتّضح ممّا ذكرناه في النهي التحريمي انّ النهي قد يكون نفسيا وقد يكون غيريا ، وانّ النفسيّة والغيريّة تارة تكون من جهة متعلّق النهي وكيفيّة تعلّقه بالعهدة واخرى يكون من جهة الملاك إلاّ انّ النفسيّة والغيريّة عند ما تطلقان يراد منهما عادة النفسيّة والغيريّة من الجهة الاولى ، فمتعلّق النهي عند ما يكون مطلوبا بذاته يكون نهيا نفسيا حتى وان كان ملاكه غيريّا ، وأمّا إذا لم يكن متعلّق النهي مطلوبا بذاته فالنهي حينئذ يكون غيريّا.

كالنهي عن الضدّ الواجب اذا كان مزاحما بواجب أهمّ أو النهي عن مقدّمة الحرام بناء على انّ الحرمة لذي المقدّمة يترشّح عنها حرمة للمقدّمة.

ثمّ انّ النهي النفسي والغيري لا يختصّ بالنهي التحريمي بل يشمل النهي الكراهتي بنفس الضابطة.


هوامش حرف النون

(١) سورة يس : ٢٠.



حرف الهاء


عناوين حرف الهاء

٥٩٦ ـ الهلية البسيطة

٥٩٧ ـ الهليّة المركّبة

٥٩٨ ـ هيئات الجمل

٥٩٩ ـ الهيئة الاتّصاليّة

٦٠٠ ـ الهيئة التركيبيّة

٦٠١ ـ الهيولى والصورة

٦٠٢ ـ مسلك الهوهويّة


حرف الهاء

٥٩٦ ـ الهلية البسيطة

المعروف عند العلماء انّ « هل » موضوعة لطلب التصديق بعد الفراغ عن تصوّر الموضوع والحكم المسئول عن النسبة بينهما « فهل » موضوعة للدلالة على طلب التعرّف على وقوع النسبة أو عدم وقوعها ، وهو معنى طلب التصديق.

ثمّ انّ حرف هل إذا كان السؤال به عن ثبوت الوجود لشيء أو عدم ثبوته فهي هل البسيطة ، فهل البسيطة هو ما يكون جوابها ثبوت الوجود لشيء ، وهي التي يعبّر عنها الحكماء بالهليّة البسيطة ، ومفادها هو مفاد كان التامّة والحمل البسيط.

ومثالها : السؤال بها عن وجود العنقاء وعن وجود الجنّ أو الملائكة بأن يقال هل العنقاء موجودة.

* * *

٥٩٧ ـ الهليّة المركّبة

وهي التي يسأل بها عن أحوال الشيء بعد الفراغ عن أصل وجوده كالسؤال عن انّ الجنّ هل يأكلون ويشربون ، فهو سؤال عن أحوالهم بعد الفراغ عن أصل وجودهم.

« فهل » المركّبة هي التي تكون بمفاد كان الناقصة ويعبّر عنها الحكماء بالهليّة المركّبة ويكون جوابها القضايا المركّبة ، فحينما يقال هل الجنّ يأكلون فإنّ الجواب هو « الجنّ يأكلون » ، وهذه القضيّة تنحلّ روحا الى قضيّتين ، الاولى هي انّ الجنّ


موجودون ، والقضيّة الثانية هي انّهم يأكلون.

* * *

٥٩٨ ـ هيئات الجمل

المراد من هيئات الجمل هي الكيفيّات التي تتميّز بها أنواع الجمل ، كالجمل الإنشائيّة والجمل الخبريّة والجمل التامّة والجمل الناقصة وغيرها ، وكلّ نوع من أنواع هذه الجمل وضع بوضع خاصّ ، ووضعها من سنخ وضع المعاني الحرفيّة. لاحظ ما ذكرناه تحت عنوان الجمل التامّة والناقصة والجمل الإنشائيّة والخبريّة.

* * *

٥٩٩ ـ الهيئة الاتّصاليّة

قد أوضحنا المراد منها تحت عنوان ( القاطع والمانع ).

* * *

٦٠٠ ـ الهيئة التركيبيّة

والمراد منها الكيفيّة الخاصّة الحاصلة عن ربط كلمة بكلمة ، سواء كان هذا الربط متقوّما باسمين ، أو فعل واسم ، أو بحرف واسم ، أو بحرف وفعل ، والأفعال الغير المنضمّة خارجا باسم أو بحرف فهي مركّبة أيضا باعتبار تقدير الاسم فيها مثل : « صلّ » ، فإنّها هيئة تركيبيّة لأنّها واقعا منضمّة مع اسم ، فـ « صلّ » فعل أمر فاعله مقدّر وهو ( أنت ) فكأنّ الجملة هكذا « صلّ أنت ».

وتلاحظون أنّ الهيئة التركيبيّة ليست هي نفس الكلمات المتهيّئة بالهيئة وإنّما هي الارتباط الواقع بين الكلمات ، فلذلك فهي تفيد معنى إضافي غير المعاني التي تفيدها الكلمات. فمثلا جملة « زيد نائم » مفيدة لثلاثة معان ، المعنى الأوّل والثاني مستفادان من كلمتي زيد ونائم ، والمعنى الثالث مستفاد من الربط الواقع بين زيد ونائم ، وهو انتساب النوم إلى زيد ، فالنسبة بين الكلمتين هي مدلول الهيئة التركيبيّة.

إذا اتّضح هذا فنقول : إنّ الهيئة


التركيبيّة تنقسم إلى قسمين :

الأولى : الهيئة التركيبيّة التامّة والمعبّر عنها بالجملة التامّة : وهي ما تكون فيها الهيئة التركيبيّة دالّة على نسبة تامّة ومفيدة لفائدة تامّة ، مثل الجمل الخبريّة التامّة والجمل الإنشائيّة التامّة.

ومثال الجملة الخبريّة التامّة قوله تعالى : ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ) فإنّ النسبة المستفادة من التركيب الواقع بين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورسول الله تامّة ومفيدة لفائدة تامّة.

ومثال الجملة الإنشائيّة قوله تعالى : ( اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ ) بالتقريب السابق.

الثانية : الهيئة التركيبيّة الناقصة والمعبّر عنها بالجملة الناقصة ، وهي : ما تكون فيها الهيئة التركيبيّة دالّة على نسبة ناقصة ومفيدة لفائدة ناقصة ، وذلك مثل التركيب الحاصل بين المضاف والمضاف إليه والجار والمجرور والموصوف وصفته ، ومثال المضاف والمضاف إليه « غلام زيد » فإنّ النسبة المستفادة من هذا التركيب ناقصة ، إذ أنّها لا تفيد إلاّ فائدة ناقصة ، ولذلك يظلّ السامع ينتظر الحكم على غلام زيد.

* * *

٦٠١ ـ الهيولى والصورة

الهيولى والصورة هما ما يتركّب منهما الجسم بنظر المشائيين من الفلاسفة ، والمقصود من الهيولى هي المادة التي تحمل في مقام ذاتها الاستعداد والقابليّة للتركّب مع الصورة أو قل هي المتحيّثة بحيثيّة القوّة والقبول للفعليّة ، فالقوّة والقابليّة والاستعداد هو ذات المادّة المعبّر عنها بالهيولى ، ولازمها الفقدان أي انّ لازمها عدم الفعليّة والتي هي الصورة.

وبتعبير آخر : انّ الهيولى هو ما يقبل المصير الى الفعليّة والصورة ، فالنطفة مثلا هيولى للطفل باعتبار تحيّثها بالقابليّة للمصير الى الطفل ، وهكذا النواة بالنسبة للشجرة ، فالنواة


فاقدة للصورة الشجريّة إلاّ انّها مستعدّة للمصير اليها فشأنها عدم الإباء من جهة التركّب مع الصورة.

ثمّ انّ الهيولى قد تكون محض قوّة واستعداد ولا فعليّة لها أصلا ، بمعنى انّها لا تكون متلبّسة بصورة من الصور وهذه هي المعبّر عنها بالمادّة الاولى ، وقد تكون متلبّسة بصورة ويكون المركّب منها ومن الصورة مادّة لصورة اخرى لاحقة ويعبّر عنها بالمادّة الثانية كالنطفة فإنّها لها حظا من الفعليّة إلاّ انّها تكون مادة لصورة لاحقة هي العلقة ، وكذلك العلقة فإنّها تكون مادة للمضغة وهكذا ، والتعبير عنها بالهيولى أو المادّة باعتبار استعدادها وقابليتها لأن تلحق بها صورة اخرى.

وأمّا المقصود من الصورة فهي الجزء الذي تتحقّق معه فعليّة الشيء المركّب أي الجوهر الجسماني ، فالجوهر الجسماني هو المركّب من المادّة والصورة أو قل القوّة والفعليّة ، فالقوّة هي المادّة المستعدة لأن تلحق بها الصورة ، والفعليّة هي الصورة المحصّلة للمادة أي الموجبة لتشخّصها ورفع ابهامها ، إذ انّ المادّة لما كانت محض قوّة واستعداد بالنسبة للصورة اللاحقة لها فمن الطبيعي أن تكون مبهمة فتكون الصورة اللاحقة بها هي الموجبة لتشخّصها وتحديدها.

ثمّ انّهم ذكروا انّ الهيولى والصورة باعتبارهما من الأجزاء الخارجيّة للجوهر الجسماني فيكون كلّ واحد من الجزءين ملحوظ بنحو البشرطلا ، وذلك في مقابل الأجزاء التحليليّة والتي هي الجنس والفصل فإنّ كلّ واحد من الجزءين ملحوظ بنحو اللابشرط.

والمقصود من انّ الهيولى ملحوظة بنحو البشرطلا هو انّها تأبى الحمل على الصورة كما انّ الصورة تأبى الحمل على المادة « الهيولى » وهذا هو معنى لحظهما بنحو البشرطلا.

وبتعبير آخر : انّ الجزء إذ لوحظ بنحو البشرطلا فهو هيولى وصورة ، وذلك لأنّ الجزء الذي يأبى الحمل


على الجزء الآخر انّما هو المادّة والصورة فلا يقال النطفة علقة ، وذلك في مقابل الجزء التحليلي وهو الجنس والفصل فإنّه لا يأبى الحمل على الجزء التحليلي الآخر ، كما انّه يقبل الحمل على المركّب منه ومن الجزء التحليلي الآخر ، فالحيوانيّة والناطقيّة يمكن حمل كلّ منهما على الآخر ، فيقال : الحيوان ناطق والناطق حيوان كما انّه يمكن حمل كلّ منهما على المركّب منهما فيقال : الإنسان حيوان والإنسان ناطق ، وهذا هو معنى انّ الجزء التحليلي ملحوظ بنحو اللابشرط.

* * *

٦٠٢ ـ مسلك الهوهويّة

وهو واحد من النظريّات المتصدّية لتفسير حقيقة الوضع وما هو سرّ العلاقة اللغويّة الواقعة بين اللفظ والمعنى ، وهو من النظريّات القائمة على أساس انّ العلقة الوضعيّة نشأت عن الاعتبار.

وحاصل المراد من مسلك الهوهويّة كما أفاد السيّد الخوئي رحمه‌الله هو انّ حقيقة الوضع عبارة عن اعتبار وجود اللفظ وجودا للمعنى تنزيلا ، فاللفظ هو المعنى تنزيلا في وعاء الاعتبار.

وبتعبير آخر : انّ منشأ العلاقة الحاصلة بين اللفظ والمعنى هو انّ الواضع افترض وجود اللفظ وجودا للمعنى فكأنّه لا يوجد في عالم الاعتبار إلاّ وجود واحد هو وجود المعنى ، إذ انّ اللفظ هو المعنى تنزيلا ، ولهذا يكون لحاظ المستعمل للفظ لحاظا آليا وأمّا ما يلحظه ابتداء واستقلالا حين استعمال اللفظ فهو المعنى وهذا هو مقتضى التنزيل ، إذ هو يقتضي اندكاك المنزّل في المنزّل عليه واعتباره وجودا للمنزّل عليه ، فلا شيء في عالم الاعتبار سوى المنزل عليه والذي هو المعنى.

ولهذا يكون إيجاد اللفظ ايجادا للمعنى لأنّه هو هو ، وهذا هو معنى انّ لحاظ اللفظ دائما يكون لحاظا آليا ومقدّمة لإيجاد المعنى وانّ نظر المستعمل انّما هو المعنى أولا وبالذات.



حرف الواو


عناوين حرف الواو

٦٠٣ ـ الواجب الأصلي والتبعي

٦٢١ ـ الوضع التعييني والتعيّني

٦٠٤ ـ الواجب التخييري

٦٢٢ ـ الوضع الشخصي

٦٠٥ ـ الواجب الكفائي

٦٢٣ ـ وضع المركّبات

٦٠٦ ـ الواجب المضيّق والموسّع

٦٢٤ ـ الوضع النوعي

٦٠٧ ـ الواجب المطلق والمشروط

٦٠٨ ـ الواجب المعلّق والمنجّز

٦٠٩ ـ الواجب الموقّت

٦١٠ ـ الواجب النفسي والغيري

٦١١ ـ الواسطة في الإثبات

٦١٢ ـ الواسطة في الثبوت

٦١٣ ـ الواسطة في العروض

٦١٤ ـ الوجوب الاضطراري

٦١٥ ـ الوجوب والواجب

٦١٦ ـ الوجود الرابط والوجود الرابطي

٦١٧ ـ الوجود المحمولي

٦١٨ ـ الوجود النعتي

٦١٩ ـ الورود

٦٢٠ ـ الوضع


حرف الواو

٦٠٣ ـ الواجب الأصلي والتبعي

الفرق بين الواجب الأصلي والواجب التبعي تارة يلاحظ من جهة مقام الثبوت والواقع واخرى يلاحظ من جهة مقام الإثبات والدلالة.

فالفرق بينهما من الجهة الاولى هو انّ الواجب الأصلي هو متعلّق الحكم الواقع موردا ومصبا للإرادة التفصيليّة ، بمعنى استحضار الآمر لمعناه وحدوده وتعلّق إرادته به ، ومثاله استحضار مفهوم الصلاة في النفس بما لها من أجزاء وشرائط ثمّ تعلّق الإرادة بهذه الطبيعة.

وأمّا الواجب التبعي فهو ما يكون مرتكزا في النفس وموردا للإرادة التبعيّة ، أي غير المستقلّة ، أو قل هو متعلّق الواجب الذي يكون مغفولا عنه وتكون إرادته ناشئة عن إرادة غيره.

وبناء على هذا الفرق لا يكون التقسيم تقسيما للواجب النفسي كما أفاد السيّد الخوئي رحمه‌الله ، لأنّ الواجب النفسي لا يكون مرادا إلاّ بالإرادة التفصيليّة ، نعم هذا التقسيم يصلح أن يكون تقسيما للواجب الغيري ، إذ قد يكون ملتفتا اليه ومرادا بالإرادة التفصيليّة وقد يكون مغفولا عنه وتكون إرادته لازمة لإرادة غيره.

وأمّا الفرق بينهما من الجهة الثانية فهو انّ الواجب الأصلي هو ما يتصدّى المولى لابرازه وتفهيمه أو قل هو ما يكون مدلولا للكلام بنحو الدلالة المطابقيّة.

وأمّا الواجب التبعي فهو ما كان


مستفادا بواسطة الدلالة الالتزاميّة للكلام ، بمعنى انّ المولى لم يكن متصدّيا لابرازه وبيانه بالاستقلال.

وهذا التقسيم يصلح أن يكون تقسيما للواجب النفسي كما يصلح أن يكون تقسيما للواجب الغيري ، فالواجب النفسي قد تتمّ استفادته بواسطة الدلالة المطابقيّة للكلام ، وهذا ما يعني انّ المتكلّم كان متصدّيا لإفادته ، كما قد تتمّ استفادته من لوازم الكلام ، وهذا ما يعبّر عن عدم تصدّي المتكلّم لإفادته ، وهكذا الكلام في الواجب الغيري.

إلاّ انّ هذا ليس حاصرا ، بمعنى انّ ثمّة قسما آخر للواجب النفسي والغيري لا يكون أصليّا ولا تبعيّا كما لو كان الواجب مستفادا بواسطة دليل غير لفظي.

ثمّ انّ الأصالة والتبعيّة كما تتصوّر في الواجبات النفسيّة والغيريّة كذلك تتصوّر في الوجوبات بل الظاهر من كلماتهم انّ التقسيم كان بلحاظها.

* * *

٦٠٤ ـ الواجب التخييري

ذكروا انّ الواجب التخييري هو الذي يجوز تركه ولكن الى بدل ، وذلك في مقابل الواجب التعييني والذي لا يجوز تركه حتى الى بدل.

وهذا التعريف للواجب التخييري لم يقع موقع القبول عند أكثر الاصوليين ، ولذلك اختلفت الاتّجاهات في تحديده ، منها :

الاتّجاه الأوّل : هو انّ الواجب التخييري يرجع روحا الى الواجب التعييني ، وذلك لأنّه عبارة عمّا يختاره المكلّف من البدائل في مقام الامتثال ، بمعنى انّ ما يجب عليه واقعا وتعيينا انّما هو الفرد الذي يختاره ، فباختياره يتحدّد ما هو الواجب من غير الواجب ، فما اختاره هو الواجب ، وأمّا الذي لم يقع موردا لاختياره فهو ليس واجبا واقعا.

فلو اختار المكلّف من خصال الكفارة الإطعام فهذا معناه انّ الواجب على ذلك المكلّف واقعا وتعيينا هو الإطعام دون سائر الخصال ، كما انّه لو


اختار الصيام لكان هو الواجب تعيينا عليه دون سائر الخصال.

وقد ذكر السيّد الخوئي رحمه‌الله انّ هذا الاتّجاه لوهنه تبرّأ منه كلّ من نسب اليه ، ولهذا نسبه الأشاعرة الى المعتزلة ، كما المعتزلة انّ نسبوه الى الأشاعرة كما ذكر ذلك صاحب المعالم.

الاتّجاه الثاني : هو انّ تمام البدائل واجبة بنحو التعيين ويكون كلّ واحد منها متعلقا للإرادة التامّة ، غايته انّ المكلّف إذا جاء بواحد من هذه البدائل تسقط الوجوبات المتعلّقة بالبدائل الاخرى عنه ، وعليه يكون مرجع هذا الاتّجاه الى انّ كلّ واحد من الواجبات مشروط وجوبه بعدم امتثال الوجوبات الاخرى.

وقد قرّب هذا الاتّجاه بتقريبين :

التقريب الأوّل : هو انّ كلّ واحد من البدائل مشتمل على المصلحة التامّة والملزمة والتي لا يفي بتحصيلها غير متعلّقها ، ومن هنا كان كلّ واحد من هذه البدائل موردا للإرادة المستقلّة والإيجاب المستقلّ إلاّ انّه وبملاك الإرفاق بالعباد أجاز الشارع في ترك البدائل عند امتثال واحد من الوجوبات.

التقريب الثاني : ان يفترض انّ الغرض يتحقّق بأحد هذه البدائل ، بمعنى انّها متساوية من جهة وفائها بالغرض المولوي ، وهذا ما يقتضي كون كلّ واحد منها وافيا عند الإتيان به بغرض المولى إلاّ انّه وباعتبار انّ جعل الوجوب على المردّد منها مستحيل وانّ جعله على واحد معيّن بلا مرجّح فيتعيّن جعل الوجوب عليها جميعا ولكن حينما يبادر المكلّف ويأتي بأحد البدائل يكون الغرض تحقّق بذلك ، ومن هنا يجوز ترك الباقي.

الاتّجاه الثالث : انّ الواجب في موارد الوجوب التخييري هو أحد البدائل لا بعينه ، فمتعلّق الوجوب هو الجامع الانتزاعي من هذه البدائل فشأنه شأن الوجوب التعييني حيث انّ متعلّقه هو أحد أفراد الطبيعة لا بعينه ، غايته انّ متعلّق الوجوب التعييني يكون جامعا حقيقيا والذي هو الطبيعة.


وأمّا متعلّق الوجوب التخييري فهو جامع انتزاعي كعنوان أحدهما أو أحدهم حيث لا جامع حقيقيّا بين البدائل وانّما ينتزع من مجموع البدائل عنوان يكون هو متعلّق الوجوب التخييري ، ولا مانع من أن يكون متعلّق الحكم الشرعي عنوانا انتزاعيّا بعد أن كان الحكم الشرعي من الامور الاعتباريّة بل انّ العنوان الانتزاعي قد يكون متعلّقا للامور الحقيقيّة الواقعيّة كالعلم الإجمالي حيث انّ متعلّقه أحد الإنائين مثلا.

وهذا الاتّجاه هو الذي ذهب إليه السيّد الخوئي رحمه‌الله وادّعى انّه الأوفق بظهور العطف بأو في موارد الوجوب التخييري ، فحينما يقال « أعتق رقبة أو أطعم ستّين مسكينا » فإنّ المستظهر منه هو وجوب أحدهما.

* * *

٦٠٥ ـ الواجب الكفائي

يمتاز الواجب الكفائي عن الواجب العيني انّ المطلوب في الواجب العيني ينحلّ الى مطلوبات بعدد أفراد المكلّفين بنحو لا يكون امتثال أحد المكلّفين موجبا لخروج سائر المكلّفين عن عهدة التكليف بقطع النظر عن كون الواجب ملحوظا بنحو الإطلاق أو العموم الاستغراقي أو البدلي أو المجموعي ، فمتى ما كان الواجب عينيا فإنّه ينحلّ الى واجبات بعدد أفراد المكلّفين ، غايته انّ التكليف في العموم الاستغراقي ينحلّ أيضا الى تكاليف بعدد أفراد متعلّقه ، وأمّا العموم البدلي والمجموعي فإنّ التكليف في موردهما لا ينحلّ من جهة المتعلّق بل انّ متعلّق الاول هو صرف الوجود ، ومتعلّق الثاني هو المجموع بما هو مجموع إلاّ انّ التكليف في مورد العموم والإطلاق بأقسامهما الثلاثة ينحلّ الى تكاليف بعدد أفراد المكلّفين ، أي انحلاله من جهة الموضوع وهو المكلّف.

والمتحصّل انّ الواجب العيني لا ينحلّ من جهة المتعلّق إلاّ في مورد الإطلاق والعموم والاستغراقي ، وأمّا من جهة الموضوع وهو المكلّف فإنّه


دائما ينحلّ الى تكاليف بعدد أفراد المكلّفين ، وهذه الخصوصيّة هي التي يمتاز بها الواجب العيني عن الواجب الكفائي فالواجب الكفائي لا ينحلّ من جهة الموضوع « المكلّف » بل انّ المطلوب من هذه الجهة واحد ولا يتعدّد بتعدّد المكلّفين ، ولهذا لو جاء واحد من المكلّفين بالواجب الكفائي فإنّ ذلك يصحّح ترك سائر المكلّفين له.

ومن هنا ذهب السيّد الخوئي رحمه‌الله الى انّ موضوع التكليف بالواجب الكفائي هو طبيعي المكلّف بنحو صرف الوجود ، بمعنى انّ خصوصيّة كلّ فرد من أفراد المكلّفين ليست ملحوظة في موارد التكليف بالواجب الكفائي بل انّ المطلوب في مورده هو صدور الفعل من أحد المكلّفين لا بعينه.

وبيان ذلك : انّ غرض المولى كما يمكن ان يتعلّق بطبيعي الفعل بنحو صرف الوجود يمكن أن يتعلّق بطبيعي المكلّف بنحو صرف الوجود ، مثلا حينما يقول المولى للمكلّف « صلّ » فإنّ غرضه قد تعلّق بطبيعي الصلاة دون الاعتناء بمشخّصات وخصوصيّات أفراد طبيعة الصلاة ، فكلّ فرد من أفراد الطبيعة مهما كانت هويّته فإنّه محقّق لغرض المولى ، وهذا ما يقتضي اعتبار متعلّق التكليف صرف الوجود للطبيعة المنتج للسعة من جهة اختيار أيّ فرد من أفراد طبيعة المتعلّق ، إذ انّ كلّ واحد من أفراد الطبيعة واف بالغرض.

وهكذا الكلام فيما لو قال المولى : « انّ مكلفا مسئول عن دفن الميّت » فإنّ غرضه قد تعلّق بصدور الفعل من طبيعي المكلّف بنحو صرف الوجود ، بمعنى انّه أراد من واحد من طبيعي المكلّف ـ دون ملاحظة من هو ذلك المكلّف ـ أن يقوم بذلك الفعل ، فأيّ مكلّف مهما كانت هويّته إذا جاء بالفعل المطلوب فإنّ غرض المولى يكون قد تحقّق بفعله ، وبذلك يسقط التكليف عن سائر المكلّفين لاستيفاء الغرض بواسطة فعل ذلك المكلّف.


وفي مقابل هذا الاتّجاه هناك اتّجاهات اخرى في تصوير ما هو واقع الواجب الكفائي :

منها : انّ موضوع التكليف بالواجب الكفائي هو المكلّف بنحو مطلق الوجود ، بمعنى انّ التكليف بالواجب الكفائي متوجّه الى كلّ فرد من أفراد المكلّفين أو قل انّ التكليف ينحلّ الى تكاليف متعدّدة بعدد أفراد المكلّفين كما هو الحال في الواجب العيني ، غايته انّ التكليف بالواجب الكفائي على كلّ فرد مشروط بترك سائر المكلّفين.

وهذا معناه انّ الوجوب الكفائي ينحلّ الى وجوبات مشروط كلّ واحد منها بترك سائر المكلّفين للامتثال ، فحينما يقال : « يجب ردّ التحيّة » فإنّ هذا الوجوب ينحلّ الى وجوبات متعدّدة بعدد المكلّفين الحاضرين مجلس السلام إلاّ انّ هذه الوجوبات مشروط كلّ واحد منها بترك سائر الحاضرين للردّ.

ومنها : انّ الواجب الكفائي ليس له موضوع ، بمعنى انّ المولى لم يلحظ في التكليف بالواجب الكفائي سوى المتعلّق « المأمور به » فلا تصل النوبة للبحث عمّا هو موضوع الواجب الكفائي وهل هو طبيعي المكلّف بنحو صرف الوجود أو بنحو مطلق الوجود والعموم الاستغراقي ، إذ ليس ثمّة طرف للواجب الكفائي سوى المتعلّق ، فالمولى حينما يوجب دفن الميّت لم يلحظ مع هذا التكليف أكثر من الدفن والذي هو متعلّق التكليف.

فما يقال من أنّ التكليف متقوّم بطرفين هما المتعلّق والموضوع « المكلّف » لا يشمل حالات التكليف بالواجب الكفائي ، إذ انّ التكليف بالواجب الكفائي لا يتقوّم بأكثر من المتعلّق وأمّا المكلّف فهو غير ملحوظ أصلا لا بنحو صرف الوجود ولا بنحو مطلق الوجود ولا انّ هناك مكلّفا معيّنا عند الله تعالى هو موضوع التكليف واقعا ، فالتكليف بالواجب الكفائي تكليف بلا موضوع.

إلاّ انّ هذا المبنى واضح الفساد ، إذ


ليس من المعقول أن يكون ثمّة تكليف من غير أن يكون هناك مكلّف بذلك التكليف ، وذلك لأنّ واقع التكليف هو البعث والتحريك وذلك لا يتعقّل دون وجود مكلّف يكون موردا للانبعاث عن البعث وموردا لتحرّك عن تحريك المولى.

كما انّ التكليف معناه جعل المولى ذمّة المكلّف مشغولة بالتكليف ، فافتراض انّ التكليف بلا موضوع معناه عدم وجود تكليف ، فلا يمكن الجمع بين افتراض وجود تكليف وافتراض انّه بلا موضوع ، فالافتراض الثاني يساوق عدم وجود التكليف وهو خلف الافتراض الأوّل.

* * *

٦٠٦ ـ الواجب المضيّق والموسّع

ينقسم الواجب الموقّت إلى قسمين :

القسم الأوّل : الواجب المضيّق ، وهو ما كان زمان أدائه مساويا للزمن المعتبر في صحّته بحيث لا يزيد عليه ولا ينقص عنه ، فلا يكون ثمّة جزء من أجزاء الواجب واقعا في خارج الإطار الزمني المعتبر أداء الواجب في ظرفه كما لا يكون ثمّة جزء من أجزاء الزمن خاليا عن وقوع جزء من أجزاء الواجب في ظرفه.

ومثاله صيام نهار شهر رمضان حيث انّ زمان الواجب فيه مساو لمقدار الواجب من الإمساك.

القسم الثاني : الواجب الموسّع ، وهو الواجب الذي يكون الزمان المعتبر في أدائه أوسع من مقدار أدائه ، بمعنى انّ الزمان المعتبر في صحّة الواجب وقوعه في ظرفه أوسع من المقدار الذي يفيء بأداء الواجب.

ومثاله : الصلاة اليوميّة ، فإنّ الزمان المعتبر في صحّة صلاة الظهر أن تقع في ظرفه يمتدّ من زوال الشمس الى حين الغروب الشرعي في حين انّ المقدار الزمني الذي يفيء بأداء صلاة الظهر أقلّ بكثير من ذلك الزمان ، ومن هنا يكون المكلّف في سعة من


جهة اختيار أيّ جزء من الأجزاء الزمنيّة الطوليّة لجعلها ظرفا للمأمور به.

* * *

٦٠٧ ـ الواجب المطلق والمشروط

الإطلاق والاشتراط قد يعرضان الواجب والذي هو متعلّق الوجوب مثل الصلاة ، وقد يعرضان الوجوب والذي هو الحكم ، فالأوّل يعبّر عنه بالواجب المطلق أو الواجب المشروط ، والثاني يعبّر عنه بالوجوب المطلق أو الوجوب المشروط.

والمراد من الواجب المطلق هو الواجب الذي لم يقيّد بقيد كالصلاة بالنسبة للتحنّك فإنّها مطلقة من جهته ، أي انّها لم تقيّد به ، ولهذا لا يتحصّص الواجب به بحيث تكون الحصّة المأمور بها من الصلاة هي خصوص الحصّة الواجدة لقيد التحنّك.

وأمّا المراد من الواجب المشروط فهو الواجب المقيّد بقيد يوجب كون المطلوب هو الحصّة الواجدة له أو قلّ المتقيّدة به كالصلاة بالنسبة للساتر فإنّها مقيّدة به ، فالساتر وان لم يكن جزء في المأمور به إلاّ انّ التقيّد به مأمور به ، فالمطلوب هو الصلاة المتقيّد بالساتر.

وأمّا المراد من الوجوب المطلق فهو التكليف الذي لم تناط. فعليّته بشرط من الشروط ، كوجوب الحجّ على الزوجة بالنسبة لإذن زوجها ، فإنّه مطلق من هذه الجهة ، أي انّ وجوب الحجّ ليس مترتّبا على إذن الزوج بل هو ثابت على الزوجة بقطع النظر عن إذن زوجها وعدم إذنه.

وأمّا الوجوب المشروط فهو التكليف الذي انيطت فعليّته بشرط من الشروط بحيث لا تثبت الفعليّة للوجوب ما لم يتحقّق ذلك الشرط المناط به ، ومثاله وجوب الحجّ بالنسبة للاستطاعة.

وبما ذكرناه يتّضح انّ شروط الواجب تقتضي تضييق دائرة المأمور


به وتحصيصه بالحصّة الواجدة للشرط ، وأمّا شروط الوجوب فإنّها تقتضي تعليق الوجوب على تحقّقها ، إذ انّ هذا هو معنى اناطة الفعليّة بالشرط.

إذن فثمّة معنيان للإطلاق والاشتراط.

المعنى الأوّل : انّ الإطلاق يعني التوسعة وفي مقابله التضييق والذي هو الاشتراط.

المعنى الثاني : انّ الإطلاق بمعنى التنجيز وفي مقابله التعليق والذي هو معنى الاشتراط.

وكلا المعنيين يرجعان الى معنى واحد ، إذ انّ التوسعة والتنجيز ينشئان عن الإرسال والذي هو المعنى اللغوي للإطلاق ، والتضييق والتعليق ينشئان عن التقييد والربط والذي هو معنى الاشتراط وهذا واضح بالتأمّل.

وبما ذكرناه يتّضح انّ الإطلاق والاشتراط بالنسبة للوجوب والواجب من الامور الإضافيّة ، فالواجب قد يكون مطلقا بالإضافة لشرط من الشروط ويكون في نفس الوقت مشروطا بالإضافة لشرط آخر ، وهكذا الكلام في الوجوب.

ثمّ انّ البحث في المقام عن امكان الوجوب المشروط ثبوتا ، وهل من المعقول اناطة الوجوب أو مطلق الحكم بشرط أو لا؟ والبحث الآخر عن انّ القيود والشروط المأخوذة في الخطاب هل يمكن رجوعها للهيئة وبهذا تكون من قيود الحكم أو انّه لا يمكن رجوعها للهيئة بل هي راجعة إلى المادّة فتكون من قيود الواجب « المتعلّق » لا من قيود الحكم ، وبيان ذلك خارج عن الغرض.

* * *

٦٠٨ ـ الواجب المعلّق والمنجّز

قسّم صاحب الفصول رحمه‌الله الواجب المطلق الى قسمين معلّق ومنجّز ، وأراد من الواجب المعلّق هو ما كان الوجوب معه فعليا إلاّ انّ الواجب أي متعلّق الوجوب استقبالي ، وأراد من الواجب المنجّز هو ما كان الوجوب


معه فعليا والواجب أيضا فعلي ، بمعنى انّ الوجوب والواجب متّحدين زمانا.

وبتعبير آخر : انّ الوجوب إذا بلغ مرحلة الفعليّة فتارة يكون متعلّقه مقيّدا بزمان متأخّر عن زمان فعليّة الوجوب أو مقيّدا بقيد زماني هذا القيد متأخّر عن تحقّق الفعليّة للوجوب ، وفي كلا الصورتين يعبّر عن متعلّق الوجوب بالواجب المعلّق.

ومثال الصورة الاولى : وجوب الصوم والذي تتحقّق فعليّته عند رؤية الهلال إلاّ انّ متعلّقه وهو الصوم مقيّد بطلوع الفجر فهو مقيّد بزمان متأخّر عن زمان الفعليّة.

ومثال الصورة الثانية : هو وجوب الحجّ فإنّ فعليّته تتحقّق بمجرّد الاستطاعة إلاّ انّ متعلّقه وهو الحجّ مقيّد بخروج الرفقة والذي لا يتّفق إلاّ في زمن متأخّر عن زمان تحقّق الفعليّة للوجوب ، فالحجّ بذلك واجب معلّق ، وذلك لأنّه مقيّد بقيد زماني وهو خروج الرفقة الواقع في الزمان المتأخّر عن زمان تحقّق الفعليّة لوجوب الحجّ.

وأمّا الواجب المنجّز الذي لا يكون مقيّدا بزمان متأخّر عن زمان الواجب كما انّه ليس مقيّدا بقيد زماني متأخّر عن زمان الواجب وان كان قد يكون مقيّدا بقيود اخرى.

ومثاله : الصلاة والتي يكون أداؤها من حين تحقّق الفعليّة للوجوب فبمجرّد زوال الشمس تتحقّق الفعليّة لوجوب الصلاة ويتحقّق معها زمان أداء الصلاة.

وقد أورد السيّد الخوئي رحمه‌الله على صاحب الفصول رحمه‌الله بأنّ الواجب المعلّق ليس من أقسام الواجب المطلق بل هو قسم للواجب المشروط وقرّب ذلك بما حاصله :

انّ الوجوب إمّا أن يكون مشروطا بزمان أو بقيد زماني مقارن أو متأخّر وامّا أن لا يكون مشروطا بأحدهما ، وليس ثمّة فرض آخر لاستحالة ارتفاع النقيضين ، والفرض الأوّل هو المعبّر عنه بالمشروط ، والثاني يعبّر عنه بالمطلق.

وحينئذ نقول : انّ متعلّق الوجوب


إن لم يكن مقيّدا بقيد خارج عن القدرة والاختيار فلا محذور في التكليف به ، أمّا لو كان مقيّدا بقيد خارج عن القدرة والاختيار فلا محالة يكون هذا القيد من قيود التكليف لا من قيود المتعلّق « الواجب » ، وذلك لأنّ قيود الواجب يجب تحصيلها ، فإذا كانت خارجة عن القدرة فلا يمكن التكليف بها لخروجها عن القدرة ، نعم يمكن اعتبارها من قيود التكليف والتي لا يجب تحصيلها وانّما هي معتبرة بنحو لو اتفق حصولها ترتّب على ذلك الخطاب بالتكليف وتحقّق الفعليّة له.

وباتّضاح ذلك يتّضح استحالة اعتبار الزمان أو القيد الزماني من قيود المتعلّق لكونهما خارجين عن القدرة ، وعليه لا بدّ وان تكون القيود التي من هذا القبيل من قيود وشرائط التكليف ، وهذا ما يعبّر عن انّ الواجب المعلّق من أقسام الواجب المشروط أي الوجوب المشروط ، وذلك لأنّ افتراض تقيّد الواجب بقيد زماني معناه انّ المتقيّد بذلك هو الوجوب ، لأنّه من غير المعقول تقييد الواجب بقيد غير مقدور والحال انّ قيود الواجب واجبة التحصيل ، وعليه يكون تعليق أداء الواجب على زمان متأخّر يعبّر عن انّ للزمان المتأخّر دخلا في ملاك التكليف ، وهذا معناه انّ المشروط بالزمان هو الوجوب ، نعم يلزم من ذلك البناء على امكان اشتراط الحكم بالشرط المتأخّر ولا مانع من ذلك ، بمعنى انّه يمكن الالتزام بتحقّق فعليّة الحكم إلاّ انّ هذه الفعليّة منوطة بزمان أو بقيد زماني متأخّر بحيث لو لم يتّفق تحقّق ذلك الزمان أو القيد الزماني لكان ذلك كاشفا عن عدم تحقّق الفعليّة للحكم من أوّل الأمر.

واشتراط الحكم بشرط متأخّر على قسمين :

القسم الأوّل : أن يكون الشرط متأخرا وتكون الفعليّة للحكم متّحدة مع زمان أداء المتعلّق.

ويمكن التمثيل لذلك لغرض التوضيح بما لو نذر شخص صيام يوم معيّن فإنّه بطلوع فجر ذلك اليوم


تتحقّق الفعليّة لوجوب الصوم كما انّ أداء الواجب يثبت من حين تحقّق الفعليّة إلاّ انّ وجوب الصوم مشروط بشرط متأخّر وهو عدم طرو الجنون أو الموت قبل الغروب.

القسم الثاني : هو أن يكون الشرط متأخرا عن زمان الوجوب ويكون زمان الواجب أيضا متأخرا عن زمان الوجوب ، وهذا هو الواجب المعلّق وهو عينه الوجوب المشروط بشرط متأخّر بعد أن ثبت استحالة تقييد الواجب بقيد غير اختياري ، فاشتراط أداء الواجب بزمان متأخر عن زمان الوجوب معناه اشتراط الوجوب بشرط متأخّر.

* * *

٦٠٩ ـ الواجب الموقّت

المراد من الواجب الموقّت هو ما كان لسان دليله معبّرا عن كون الزمان دخيلا في توفّره على الملاك بحيث لو جيء به في غير زمانه لم يكن المأتي به واجدا لملاك جعله واعتباره على المكلّف.

وبيان ذلك : انّ الواجبات كسائر أفعال الإنسان يستحيل وقوعها عقلا دون أن تكون مظروفة لزمان إلاّ انّ الزمان قد يكون دخيلا في واجديتها للملاك وقد لا يكون دخيلا ، والواجب الموقّت هو الأوّل ، والواجب غير الموقّت هو الثاني.

ومثال الواجب الموقّت هو الصلوات اليوميّة وصيام شهر رمضان وحجّ بيت الله الحرام ، فإنّ الزمان في كلّ هذه الواجبات ممّا له دخل في صحّتها وترتب الأثر على الإتيان بها.

ومثال الواجب غير الموقّت هو زكاة المال والخمس وما إلى ذلك ممّا لا يعتبر زمن معيّن في أدائها.

ثمّ انّ الواجب الموقّت ينقسم الى واجب مضيق وواجب موسّع وهذا ما أوضحناه تحت عنوان « الواجب المضيّق والموسّع ».

* * *

٦١٠ ـ الواجب النفسي والغيري

ذكروا انّ تعريف الواجب النفسي


« هو ما وجب لنفسه لا لواجب آخر » ، وهذا بخلاف الواجب الغيري ، إذ انّه « الواجب الذي وجب لأجل التوصّل به الى واجب آخر ».

وقد واجه تعريف الواجب النفسي اشكالا مشهورا حاصله : انّه بناء عليه لا يكون ثمّة واجب إلاّ وهو غيري ، نعم قد يتّفق في موارد قليلة جدا بل نادرة أن يكون الواجب نفسيا وإلاّ فالحالة الغالبة هي اتّصاف الواجب بالغيريّة ، وذلك لأنّه ما من واجب إلاّ وكان منشأ وجوبه ملاكا ومصلحة هي غير ذات الفعل الذي وقع متعلّقا للوجوب ويكون الفعل الواقع متعلّقا للوجوب وسيلة لترتّب ذلك الملاك وتحقّق تلك المصلحة ، وهذا معناه انّ الواجب انّما وجب لأجل التوصّل به الى تلك المصلحة الملزمة وهذا هو الواجب الغيري.

فالصلاة مثلا انّما وجبت لأجل التوصّل بها لمصلحة ملزمة وهي المعراجيّة كما ورد في الرواية ، وعليه لا تكون الصلاة واجبة بالوجوب النفسي بل هي واجبة بالوجوب الغيري ، ودعوى انّ المعراجيّة والتي هي ملاك الوجوب لا يمكن أن تكون واجبة لعدم القدرة على تحصيلها بنفسها.

هذه الدعوى غير تامّة ، وذلك لأنّها وان لم تكن مقدورة بنفسها إلاّ انّها مقدورة بواسطة القدرة على مقدّمتها التوليديّة ، وواضح انّ القدرة على المقدّمة التوليديّة يساوق القدرة على ذي المقدّمة ، فالمعلول وان لم يكن مقدورا على تحصيله ابتداء إلاّ انّ القدرة على علّته التامّة قدرة عليه.

وعليه لا مانع من ايجاب الملاك ابتداء وان لم يكن مقدورا إلاّ بواسطة مقدّمته وهي الصلاة مثلا ، وبهذا تكون الصلاة واجبة لواجب آخر هو الملاك.

وقد أجاب السيّد الخوئي رحمه‌الله عن هذا الإشكال بأنّه من غير الممكن أن تكون الغايات والملاكات متعلّقا للتكليف ، وذلك لأنّ التكليف بشيء لا يشترط فيه القدرة على متعلّقه فحسب حتى يقال : انّ الملاك مقدور بالقدرة على مقدمته بل هو مشروط


مع ذلك بشرط آخر عرضي ، وهو انّ متعلّق التكليف لا بدّ وأن يكون قابلا عرفا لأن يتعلّق به تكليف ، وواضح انّ الملاكات والغايات لا تصلح أن تكون موردا ومتعلّقا للتكليف بنظر العرف ، وذلك لأنّ جعل التكليف عليها جعل له على شيء مجهول لدى العرف ، ومن هنا لا يكون وجوب الشيء لغاية وملاك ملزم معناه انّه واجب لأجل التوصّل به لواجب آخر ، فلا يرد ما يقال من انّ جلّ الواجبات بناء على التعريف المذكور واجبة بالوجوب الغيري بل هي واجبات وجبت لنفسها وان كان منشأ وجوبها هو ما يترتّب على متعلقاتها من مصالح وغايات.

ثمّ انّه قد ذكر للشرط الثاني مجموعة من المبرّرات :

منها : انّ الغايات والملاكات الملزمة غالبا ما يكون تشخيصها متعسّرا على المكلّف على اذ لا سبيل للتعرّف عليها إلاّ بواسطة المولى جلّ وعلا ، وذلك عن طريق الأوامر الصادرة عنه تعالى والتي تكشف عن اشتمال متعلّقاتها على الغايات والملاكات ، وإذا كان كذلك فكيف يسوغ جعل الأوامر عليها ابتداء والحال انّ الأمر بالشيء فرع تشخّصه ووضوحه عند المكلّف.

ومنها : انّه لو كان متعلّق التكليف هو الغايات والملاكات ابتداء لما كان من الممكن على المكلّف تشخيص الطرق والوسائل الموصلة لهذه الملاكات والغايات ، فيكون جعل التكليف عليها ابتداء دون بيان الطرق الموصلة لها معناه تعريض غاياته وملاكاته للضياع لجهل المكلّف غالبا بالطرق الموصلة لها أو لا أقل بالطرق المحرزة لتمام الملاك المطلوب.

وهذا ما يبرّر جعل التكاليف على الأفعال الموصلة للغايات لا على الغايات والملاكات ابتداء ، فتكون الأفعال واجبة لا لواجب آخر ، نعم هي واجبة لغايات اخرى : إلاّ انّ ذلك لا يخرجها عن كونها واجبات نفسيّة كما هو مقتضى التعريف.


٦١١ ـ الواسطة في الإثبات

المراد من الواسطة في الإثبات هو الحدّ الأوسط الموجب لإذعان النفس بثبوت الأكبر للأصغر.

وبتعبير آخر : انّ الواسطة في الإثبات هو ما يكشف عن ثبوت شيء لشيء أو قل هو ما يكشف عن ثبوت المحمول للموضوع ، فعند ما يكون لنا مجهول تصديقي وهو فناء زيد إذ لا ندري انّه يفنى أو لا ، فيمكن تشكيل هذا القياس للخروج منه بمعلوم تصديقي :

انّ زيدا انسان.

وكلّ انسان فان.

إذن : زيد فان.

تلاحظون انّ هذه النتيجة والتي هي ثبوت الحدّ الأكبر « الفناء » للحدّ الأصغر « زيد » تمّ بواسطة الحدّ الأوسط وهو الإنسان فهو الذي كشف لنا عن فناء زيد ، ولهذا كان الحدّ الأوسط هو الواسطة في الإثبات أي هو السبب الذي انكشف عنه ثبوت المحمول للموضوع.

ثمّ انّ الواسطة في الإثبات قد تكون علّة حقيقيّة لثبوت المحمول الموضوع والتي هي الواسطة في الثبوت ، وحينئذ تكون الواسطة في الثبوت هي الواسطة في الإثبات ، فهي واسطة في الثبوت من جهة انّها العلّة الموجبة لثبوت المحمول للموضوع ، وهي واسطة في الإثبات من جهة انّها الكاشفة عن ثبوت المحمول للموضوع ، وهذه الحالة التي تجتمع فيها الحيثيّتان يعبّر عنها بالبرهان اللمّي.

إلاّ انّه ـ كما ذكرنا ذلك تحت عنوان الواسطة في الثبوت ـ لا تكون الواسطة في الثبوت واسطة في الإثبات إلاّ فى الحالة التي يدرك فيها العقل العليّة بالإضافة الى احراز وجود العلّة ، وحينئذ تكون الواسطة في الثبوت واسطة في الإثبات ، أي انّه يمكن الانتقال من العلّة الى المعلول المعبّر عنه بالبرهان اللمّي.

وقد لا تكون الواسطة في الإثبات علّة بل تكون معلولا ينكشف باحرازه وجود العلّة أو ينكشف باحرازه


معلول آخر لعلّة ثالثة ، وهذه الحالة بقسميها يعبّر عنها بالبرهان الإنّي.

ومثال القسم الأوّل : احراز وجود الحرارة فإنّه يكشف عن وجود النار ، وهنا صار المعلول طريقا لإحراز العلّة.

ومثال القسم الثاني : إحراز الاحتراق فإنّه يوجب إحراز وجود الحرارة وكلّ من الاحتراق والحرارة معلولان لعلّة ثالثة هي النار راجع عنوان « البرهان اللمّي والبرهان الإنّي ».

* * *

٦١٢ ـ الواسطة في الثبوت

المراد من الواسطة في الثبوت هو العلّة الموجبة لثبوت شيء لشيء خارجا أو قل هي العلّة لعروض المحمول لموضوعه ، والمقصود من العلّة هو الأعمّ من العلّة الفاعليّة والعلّة الغائيّة.

ومثاله : ثبوت الحرارة للماء فإنّ الواسطة في ذلك هي النار ولهذا تكون النار واسطة في الثبوت ، لأنّها هي علّة عروض الحرارة للماء.

ثمّ انّه قد تكون العليّة بين الشيئين مدركة وقد لا تكون مدركة ، وإدراكها وعدم إدراكها لا دخل له في كون العلّة الواقعيّة واسطة في الثبوت ، نعم العليّة إذا أدركت وأحرزنا بعد ذلك وجود العلّة أمكن الانتقال منها إلى احراز المعلول وهذا ما يعبّر عنه ببرهان اللم.

فبرهان اللم وان كان مورده الواسطة في الثبوت والتي هي العلّة الواقعيّة إلاّ انّ ذلك وحده لا يصحّح البرهان اللمّي بل لا بدّ من أن ينضمّ إلى احراز العلّة الواقعيّة إدراك عليّتها وإلاّ لما أمكن الانتقال منها الى احراز المعلول ، فاحراز المعلول بواسطة احراز العلّة المعبّر عنه بالبرهان اللمّي منوط بإدراك العليّة بينهما.

ومن هنا كان البرهان اللمّي كالبرهان الإنّي من جهة انّه عبارة عن اثبات الحدّ الأكبر للحدّ الأصغر بواسطة الحدّ الأوسط إلاّ انّهما يختلفان من جهة انّ الحدّ الأوسط في البرهان اللمّي هو العلّة الواقعيّة المدركة ، ولمزيد من التوضيح راجع البرهان اللمّي.


٦١٣ ـ الواسطة في العروض

هو المعبّر عنه بمصحّح الحمل بحيث لولاه لكان الحمل غلطا أو كذبا ، وهي عبارة عمّا يقوّم العرض « المحمول » ، فمثلا : حينما يقال : « الميزاب جار » فإنّ المصحّح لنسبة الجريان للميزاب ـ رغم انّه ليس هو الجاري حقيقة ـ هو الماء فهو مقوّم العرض « الجريان » أي انّ موضوع الجريان حقيقة هو الماء ، فالماء هو الواسطة في العروض أي هو المصحّح لحمل الجريان على الميزاب.

وبتعبير آخر : انّ الواسطة في العروض هي المصحّح للإسناد المجازي ، فإنّ اسناد الجريان للميزاب مجازي والمصحّح لهذا الإسناد هو الماء والذي تربطه بالميزاب علاقة الظرفيّة والمظروفيّة ، فلأنّ الماء مظروف للميزاب والميزاب ظرفه صحّ أن يحمل الجريان والذي هو العرض المتقوّم بالماء حقيقة على الميزاب.

فالواسطة في العروض هي ما يصحّح اسناد الشيء الى غير ما هو له.

* * *

٦١٤ ـ الوجوب الاضطراري

الوجوب الاضطراري تارة يلاحظ من جهة موضوعه وأخرى يلاحظ من جهة متعلّقه.

فإذا لوحظ من جهة الموضوع فهو بمعنى الوجوب الثابت في ظرف العجز عن امتثال الوجوب الاختياري والذي يكون متعلّقه واجدا لتمام الأجزاء والشرائط. فالعجز عن امتثال الوجوب الاختياري هو موضوع الوجوب الاضطراري.

وأمّا إذا لوحظ من جهة المتعلّق فهو بمعنى الوجوب الثابت لمتعلّق لم يكن مطلوبا وواجدا للملاك لو لا العجز والاضطرار.

وبذلك يتّضح أنّ الوجوب الاضطراري لا يصحّ إطلاقه إلاّ على مورد يكون واجدا لكلا الخصوصيّتين ؛ الأولى خصوصيّة الموضوع والتي هي العجز عن امتثال


الوجوب الاختياري ، والثانية هي خصوصيّة المتعلّق حيث لا يكون الوجوب اضطراريّا إلاّ عند ما يكون متعلّقه واجدا لملاك الأمر حين العجز وفاقدا له في ظرف القدرة على متعلّق الوجوب الاختياري.

وبما ذكرناه يتّضح أنّ الأمر الأقلّ أهميّة في مقابل الأمر الأهمّ ملاكا في ظرف التزاحم ليس أمرا اضطراريّا ، فهو وإن كانت فعليّته منوطة مثلا بالعجز عن امتثال الأمر الأكثر أهميّة إلاّ أنّ متعلّقه واجدا للمصلحة في نفسه وبقطع النظر عن الوجوب الأكثر أهميّة.

وأمّا الوجوب الاضطراري فليس كذلك حيث أنّ متعلّقه لا يكون واجدا للملاك إلاّ مع افتراض العجز عن متعلّق الوجوب الاختياري.

ومثال الوجوب الاضطراري هو الوجوب الثابت للصلاة الفاقدة لبعض الأجزاء أو الشرائط ، وكذلك وجوب التيمّم ، ففي كلا المثالين يكون الوجوب واجدا لكلا الخصوصيّتين ، إذ أنّ موضوع الوجوب للتيمّم مثلا هو العجز عن امتثال الأمر بالوضوء أو الغسل ، ثمّ إنّ التيمّم والذي هو متعلّق الوجوب ليس واجدا لملاك الجعل لو لا العجز عن متعلّق الأمر بالوضوء.

* * *

٦١٥ ـ الوجوب والواجب

الوجوب حكم تكليفي معناه الإلزام بفعل ممّن له حقّ الطاعة ، فمعنى وجوب الصوم هو الإلزام من قبل المولى بفعله ، فهو بتعبير آخر اعتبار اللزوم لفعل ثابتا في عهدة من تجب عليه الطاعة للمعتبر.

وأمّا الواجب فهو متعلّق الوجوب أي الفعل المطلوب بنحو اللزوم ، فكلّ فعل أمر المولى بإيجاده على نحو اللزوم فهو واجب ، فالواجب وصف للفعل اللازم إيجاده ، فهو ليس حكما شرعيّا وإنّما هو متعلّق الحكم الشرعي.

ومثاله الصوم والصلاة والحجّ والنفقة على الزوجة فهذه كلّها أفعال صحّ وصفها بالواجبات ، لأنّ المولى


أوقع الوجوب عليها.

وخلاصة الكلام أنّ الوجوب وصف للإلزام ، وأمّا الواجب فهو وصف للفعل المطلوب بنحو الإلزام.

* * *

٦١٦ ـ الوجود الرابط والوجود الرابطي

ينقسم الوجود بلحاظ التصوّر الى قسمين :

القسم الأول : هو ما يعبّر عنه بالوجود في نفسه ، وهو ما يكون تصوّره بنحو الاستقلال عينا كتصوّر المفاهيم الماهويّة المعبّر عنها في المصطلح الاصولي بالمعاني الاسميّة ، وعندئذ يكون الوجود كأحد المعاني الاسمية القابلة لأن تقع موضوعا أو محمولا في القضايا.

ولأنّ الوجود عادة ما يقع محمولا عبّر عن هذا القسم بالوجود المحمولي ، فالوجود المحمولي هو ما يكون محمولا على احدى الماهيّات ، ويعبّر عن القضايا التي يكون الوجود محمولا فيها على احدى الماهيات بالقضايا الثنائية أو القضايا البسيطة ، كما يعبّر عن حمل الوجود على احدى الماهيات بالحمل البسيط.

ومنشأ التعبير عن هذا القسم بالوجود في نفسه ـ كما يعبّر عن حمل الوجود على احدى الماهيات بالحمل البسيط.

ومنشأ التعبير عن هذا القسم بالوجود في نفسه ـ كما أفاد الشيخ المطهري رحمه‌الله ـ هو ما ذكره علماء اللغة في مقام تعريف الاسم بأنّه « ما دلّ على معنى في نفسه » أي ما كان حضوره في الذهن بنحو مستقل فلا يناط تصوّره بتصوّر شيء آخر.

القسم الثاني : هو ما يعبّر عنه بالوجود لا في نفسه ، وهو ما يكون تصوّره منوطا بتصوّر مفهومين استقلالين وتكون وظيفته الربط بينهما ، وهذا هو المعبّر عنه بالوجود الرابط ، فهو ليس موضوع القضيّة الحملية كما انّه ليس محمولا فيها وانّما هو الرابط بين المحمول والموضوع ،


فحينما يقال : « زيد عالم » فإنّ الوجود ليس طرفا في هذه القضيّة وانّما هو الرابط بين زيد والعالم ، إذ انّ مآل هذه القضيّة هو انّ « زيدا الموجود عالم » ، ولهذا يعبّر عن هذه القضايا بالقضايا الثلاثيّة أو القضايا المركبة.

وبهذا اتضح منشأ التعبير عن الوجود لا في نفسه بالوجود الرابط ، وأمّا منشأ التعبير عنه بالوجود لا في نفسه فهو ما ذكره علماء اللغة في مقام التعريف للحرف وانّه « ما دلّ على معنى في غيره » ، فكما انّ معنى الحرف غير قابل للتصوّر بنحو مستقل عن طرفيه فكذلك الوجود الرابط.

والمتحصل انّ الوجود إذا كان بنحو المعنى الاسمي فهو وجود محمولي ، واذا كان بنحو المعنى الحرفي فهو وجود رابط.

ثمّ انّ الوجود المحمولي ينقسم الى وجود في نفسه لنفسه والى وجود في نفسه لغيره ، وهذا التقسيم للوجود المحمولي لا يتصل بعالم الذهن كما هو الحال في التقسيم الأول بل هو بلحاظ الخارج ، فالوجود المحمولي بلحاظ الخارج تارة يكون لنفسه وتارة يكون لغيره ، فإذا كان الوجود قائما بنفسه أي انّ له تقرر في الخارج بنحو مستقل عن الوجودات الاخرى فهو الموجود في نفسه لنفسه ويعبّر عنه بالوجود الجوهري وبالموجود لا في موضوع كوجود الإنسان والشجر والحجر.

أمّا لو كان الوجود متقوّما بغير ـ بمعنى انّ وجوده حالة وصفه لغيره ـ فهذا هو الموجود في نفسه لغيره ، أمّا انّه موجود في نفسه فلان تصوّره يكون بنحو المعنى الاسمي الاستقلالي ، وأمّا انّه موجود لغيره فلأنّ وجوده في الخارج لا يكون إلاّ في اطار موضوع ، وهذا هو المعبّر عنه بالعرض وهو الوجود الرابطي.

* * *

٦١٧ ـ الوجود المحمولي

الوجود المحمولي هو الوجود بمفاد كان التامّة ، ومفاد كان التامّة هو ثبوت الوجود لشيء ، فعند ما يحمل الوجود على واحد من الماهيات فإنّ


ذلك معناه ثبوت الوجود لتلك الماهيّة وهذا ما يعبّر عنه بالوجود المحمولي.

وبتعبير آخر :

إنّ الوجود المحمولي يعني انتساب الوجود لواحد من الماهيات بما يؤدّي روحا إلى تشكّل قضيّة حمليّة موضوعها واحد من الماهيات ومحمولها الوجود ، فحينما ينتسب الوجود لزيد فإنّ معنى ذلك أنّ زيدا موجود ، وهذه قضيّة حمليّة موضوعها زيد ومحمولها الوجود.

ولمزيد من التوضيح راجع ما ذكرناه تحت عنوان الاستصحاب في المحمولات الثانويّة.

* * *

٦١٨ ـ الوجود النعتي

المراد من الوجود النعتي هو الوجود بمفاد كان الناقصة ، ومفاد كان الناقصة هو ثبوت نعت من النعوت لموضوع بعد الفراغ عن وجوده المحمولي.

وبتعبير آخر :

تارة يحمل الوجود على الموضوع ، وهذا هو ما يعبّر عنه بالوجود المحمولي ، وتارة يحمل واحد من النعوت على موضوع ، وهذا ما يعبّر عنه بالوجود النعتي ، والحمل الثاني يقتضي أن يكون الوجود المحمولي مفروغا عن ثبوته للموضوع ، إذ ثبوت نعت لموضوع فرع وجود الموضوع في مرحلة سابقة.

ولمزيد من التوضيح راجع ما ذكرناه تحت عنوان الاستصحاب في المحمولات الثانويّة وعنوان العدم النعتي.

* * *

٦١٩ ـ الورود

المراد من الورود هو أن يكون أحد الدليلين نافيا لموضوع الدليل الآخر حقيقة إلاّ انّ منشأ الرفع الحقيقي هو التعبّد الشرعي ، بمعنى انّ الواسطة في ارتفاع موضوع الدليل المورود حقيقيّة هو التعبّد الشرعي ، وهذا يقتضي أن يكون موضوع الحكم في الدليل المورود من العناوين التي يمكن


ارتفاعها حقيقة بواسطة التعبّد الشرعي ، وهذا في مقابل العناوين التي لا يتعقّل ارتفاعها حقيقة بواسطة التعبّد الشرعي ، فإمّا أن تكون مرتفعة تكوينا وإلاّ فلا مجال لرفعها بواسطة الشارع حقيقة ، نعم يمكن ارتفاعها بواسطة التعبّد تنزيلا.

وهذا هو المائز الجوهري بين الورود والتخصّص حيث انّ كلاهما يشتركان في انّ موردهما هو ارتفاع موضوع أحد الدليلين بالدليل الآخر حقيقة ، والفرق بينهما انّما هو من جهة سنخ الموضوع المرتفع حقيقة بواسطة الدليل الآخر ، فإن كان من العناوين التي لا يتعقّل ارتفاعها بواسطة التعبّد فهذا معناه انّ رفع أحد الدليلين لموضوع الدليل الآخر كان بنحو التخصّص ، وان كان من العناوين التي يتعقّل ارتفاعها حقيقة بواسطة التعبّد وكان منشأ الارتفاع الحقيقي لموضوع الدليل الأوّل هو التعبّد فهذا هو الورود.

ومثال ذلك : قوله تعالى : ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) (١) ، فإنّ هذه الآية الشريفة تقتضي جواز نكاح النساء ، فلو قام الدليل القطعي على انّ هندا ليست من النساء وانّما هي خنثى فإنّ هذا الدليل يكون نافيا لموضوع الدليل الأوّل حقيقة ، وانتفاء موضوع الدليل الأوّل بنحو الحقيقة لا يكون إلاّ بالتخصّص ، وذلك لأنّ سنخ الموضوع المأخوذ في الدليل الاوّل لا يتعقّل انتفاؤه حقيقة بواسطة التعبّد كما هو واضح ، إذ ضابطة ما يمكن ارتفاعه حقيقة بواسطة التعبّد هو ما يمكن ثبوته حقيقة بواسطة التعبّد.

ومن الواضح انّ اثبات انّ هذا الإنسان من النساء لا يمكن ان يثبت بواسطة التعبّد ، فحتّى لو أخبر الشارع انّه من النساء فإنّه محض اخبار ، فهو من الوسائل التي يتعرّف بها على ثبوت الموضوع أو انتفاؤه واقعا ، ولهذا حتى لو ثبت انّ هذه خنثى بواسطة اخبار الشارع فإنّ انتفاء موضوع الدليل الأوّل يكون بالتخصّص أيضا.

نعم يمكن أن ينفي الشارع موضوعا من سنخ هذه الموضوعات التي لا


يتعقّل نفيها حقيقة بواسطة التعبّد إلاّ انّ هذا النفي لن يكون حقيقيّا بل هو نفي تنزيلي ، وهذا هو المعبّر عنه بالحكومة ، ومثاله ان يعتبر الشارع انّ هذه المرأة ليست من النساء ، وبهذا ينتفي موضوع الدليل الأوّل ، فلا يكون نكاحها جائزا.

وأمّا مثال الورود فهو ما لو قال المولى : « يحرم الإسناد بغير حجّة » ثمّ قام الدليل على انّ خبر الثقة حجّة ، فإنّ هذا الدليل الثاني يكون نافيا لموضوع الدليل الأوّل حقيقة ، ولهذا لا يكون الإسناد الى الشارع اعتمادا على خبر الثقة حراما لانتفاء موضوع الحرمة وهو عدم الحجّة حقيقة ، غايته انّ انتفاء موضوع الحرمة كان بواسطة التعبّد الشرعي.

وتلاحظون انّ انتفاء هذا النحو من الموضوعات حقيقة مما يتعقّل تحقّقه بواسطة التعبّد الشرعي ، إذ انّ الحجّة والتي هي المنجّزيّة والمعذريّة من الموضوعات التي للشارع بما هو شارع خلقها وايجادها بنحو الحقيقة ، أي انّ جعل الشارع الحجيّة لشيء يصيره حجّة حقيقة ، ولهذا يكون الدليل الثاني واردا على الدليل الأوّل ونافيا لموضوعه حقيقة غايته انّ ذلك تمّ بواسطة التعبّد الشرعي. وبهذا القيد اتّضح انّ اسناد شيء للشارع بواسطة القطع ليس من الورود ، وذلك لأنّه وان كان الموضوع من سنخ العناوين القابلة للنفي والإثبات الحقيقي بواسطة التعبّد الشرعي إلاّ انّ انتفاء موضوع الدليل الأوّل في الفرض المذكور لم يتمّ بواسطة التعبّد وانّما تمّ بواسطة القطع.

وبما ذكرناه يتّضح انّ الورود لا يكون إلاّ في حالة يكون الموضوع فيها من سنخ العناوين القابلة للنفي والإثبات الحقيقي بواسطة التعبّد الشرعي على أن يكون انتفاء موضوع الدليل الأوّل تمّ بواسطة التعبّد الشرعي ، إذ قد لا يتّفق ذلك.

فمثلا : لو قام الدليل على وجوب التصدّق على الفقير ، ثمّ قام دليل آخر على انّ الفقير هو الذي لا يملك قوت يومه فإنّ هذا الدليل يكون واردا على


الدليل الأوّل ، وذلك لأنّ عنوان الفقير من الموضوعات التي يمكن نفيها واثباتها بواسطة التعبّد الشرعي ، وبذلك ينتفي موضوع الدليل الأوّل حقيقة عن الشخص الذي يملك قوت يومه وإن لم يكن مالكا لقوت سنته ولذلك لا يجب التصدّق عليه.

إلاّ انّه قد لا ينتفي موضوع الدليل الأوّل بواسطة التعبّد كما لو لم يتصدّ الشارع لتحديد معنى الفقير واتّكل في ذلك على العرف واتّفق ان كان معنى الفقير بنظر العرف هو من لا يملك قوت يومه ، فإنّ هذا الفهم العرفي لمعنى الفقير يكون نافيا لموضوع الدليل الأوّل ، بمعنى انّه ناف لموضوعيّة الذي يملك قوت يومه ـ وإن لم يكن مالكا لقوت سنته ـ للدليل الأوّل وبذلك لا يجب التصدّق عليه إلاّ انّ هذا الانتفاء لا يكون من الورود ، إذ لم يثبت الانتفاء بواسطة التعبّد وان كان الموضوع المنتفي من سنخ الموضوعات القابلة للنفي والإثبات الحقيقي بواسطة التعبّد الشرعي.

وبهذا يتحدّد المراد من الورود وانّه ليس بين الدليل الوارد والدليل المورود تعارض ، إذ انّ التعارض ـ كما اتّضح في محلّه ـ يعني التنافي بين مدلولي الدليلين ، وهذا يعني تكاذب الدليلين في مرحلة الجعل ، فأحدها ينفي واقعيّة مدلول الدليل الآخر ، وأمّا المقام فليس من هذا القبيل ، إذ لا تنافي أصلا بين الدليل الوارد والدليل المورود في مرحلة الجعل ، والتنافي بينهما انّما هو في مرحلة المجعول ، فأحدهما ينفي فعليّة الحكم للآخر بواسطة نفي موضوعه والذي يكون تحقّقه ووجوده هو مناط بلوغ الحكم مرحلة الفعليّة ـ كما أوضحنا ذلك مرارا ـ ولهذا لا يكون تقدّم الدليل الوارد على الدليل المورود محتاجا لأكثر من تصوّر المطلب.

* * *

٦٢٠ ـ الوضع

لا إشكال بين الأعلام في أنّ ثمّة علاقة سببيّة بين اللفظ والمعنى


بمقتضاها يكون خطور اللفظ في الذهن سببا لانخطار المعنى في الذهن ، وهذه السببيّة الواقعة بينهما لا يمكن أن تنشأ دون مبرّر ، ولهذا وقع البحث عمّا هو المبرّر لهذه العلاقة السببيّة ، وهنا احتمالان ثبوتيان :

الاحتمال الأوّل : انّ المبرّر لهذه العلاقة هي المناسبة الذاتيّة بين اللفظ والمعنى ، أي انّ دلالة اللفظ على المعنى المحسوسة بالوجدان ناشئة عن كون اللفظ بذاته سببا لوجود المعنى ، فالمعنى لازم ذاتي للفظ كما انّ الحرارة لازم ذاتي للنار ، أي انّها ناشئة عن مقام الذات للنار ، ولهذا يستحيل تخلّفها عن النار ، وهكذا الكلام في المعنى بالنسبة للفظ فهو محمول خارج عن ذات اللفظ لازم له وهذا اللزوم ناشئ عن مقام الذات للفظ ، وهو ما يقتضي استحالة تخلّف انخطار المعنى عند اطلاق اللفظ.

الاحتمال الثاني : انّ المبرّر لهذه العلاقة هو عامل خارجي أي انّ العلاقة ليست مقتضاة عن ذات اللفظ والمعنى بل هي ناشئة عن الجعل والاعتبار وهذا هو المعبّر عنه بالوضع.

وهذا الاحتمال هو الذي تبنّاه الأعلام حيث اتّفقوا على انّ منشأ العلقة الواقعة بين اللفظ والمعنى هو الوضع إلاّ انّهم اختلفوا فيما هي حقيقة هذا الوضع. فقد ذكر السيّد الصدر رحمه‌الله انّه يمكن تقسيم الإتجاهات في تفسير حقيقة الوضع الى اتّجاهين :

الاتّجاه الأوّل : يفسّر العلاقة بين اللّفظ والمعنى على أساس انّها ملازمة واقعيّة تكوينيّة بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له اللفظ ، فهي نظير الملازمات الواقعيّة التكوينيّة الثابتة بين شيئين أو أشياء ، كالملازمة بين زوجيّة العدد والانقسام الى متساويين ، فإنّ هذه الملازمة ثابتة في نفس والواقع ، وهكذا الحال في العلاقة بين اللفظ والمعنى ، غايته انّ الملازمة الذاتيّة التكوينيّة ثابتة من الأزل ، وأمّا الملازمة بين اللفظ والمعنى فإنّها وان كانت واقعيّة تكوينيّة إلاّ انّها ناشئة عن الجعل والاعتبار ، وهذا لا


يعني انّ الجعل والاعتبار هو المقوّم للملازمة بل بمعنى انّه علّة لإحداث الملازمة وبعد انحداث الملازمة بواسطة الجعل تصبح ملازمة واقعيّة تكوينيّة ، فنشوؤها عن الجعل والاعتبار لا يضرّ بواقعيّتها.

وقد أورد على هذا الاتّجاه بأن افتراض نشوء الملازمة عن الجعل والاعتبار يساوق عدم كون الملازمة واقعيّة ، إذ انّ الملازمة الواقعيّة لا تنشأ إلاّ عن سببيّة ذاتيّة حقيقيّة والفرض انّ الجعل والاعتبار ليس كذلك ، وحينئذ لا يكون مسبّبة واقعيا حقيقيا.

وبتعبير آخر : انّ الامور الواقعيّة غير قابلة للجعل والاعتبار إذ انّها لا تنشأ إلاّ عن أسباب حقيقيّة ، بمعنى انّ السببيّة تنشأ عن مقام الذات للسبب ، فإذا لم تكن سبيّة الاعتبار ذاتيّة فمن غير المعقول أن يكون مسبّبها واقعيا لعدم التسانخ بين السبب والمسبّب.

الاتّجاه الثاني : انّ العلاقة بين اللفظ والمعنى تنشأ عن عمليّة معيّنة يمارسها الواضع تنحدث عنها سببيّة بين اللفظ والمعنى ، هذه العمليّة عبارة عن اعتبار صفة خاصّة للفظ ـ كاعتباره علامة أو وجودا تنزيليّا للمعنى ـ هذه الصفة المعتبرة للفظ ينشأ عنها انخطار المعنى عند اطلاق اللفظ.

وهذا الاتّجاه هو السائد بين الأعلام إلاّ أنّهم مع ذلك اختلفوا في حقيقة هذه العمليّة التي يترتّب عليها علاقة السببيّة فالمشهور ذهبوا الى انّها عمليّة اعتبارية مع اختلافهم فيما هو المعتبر ، وأمّا السيّد الخوئي رحمه‌الله فذهب الى انّها عبارة عن التعهّد ، وقد أوضحنا المراد من نظريّة الاعتبار ونظريّة التعهّد تحت عنوانيهما.

* * *

٦٢١ ـ الوضع التعييني والتعيّني

الوضع التعييني هو الوضع الذي ينشأ عن تصدّي الواضع لجعل لفظ دالا على معنى بحيث يبذل عناية خاصّة يقصد منها انشاء علاقة السببيّة بين اللفظ والمعنى ، ومثاله ان يعتبر الواضع لفظ الأسد دالا على


الحيوان المفترس.

وأمّا الوضع التعيّني فهو العلاقة بين اللفظ والمعنى الناشئة اتفاقا ودون تصد من الواضع لذلك كأن يتفق أن يكثر استعمال لفظ في معنى بحيث تكون هذه الكثرة الاستعماليّة هي التي أنشأت الإنس الذهني بين اللفظ والمعنى لدرجة يكون اطلاق اللفظ موجبا لانخطار المعنى.

* * *

٦٢٢ ـ الوضع الشخصي

وهو ما يكون اللفظ فيه متصوّرا بنفسه ، أي انّ الملحوظ للواضع هو شخص اللفظ ، وذلك بأن يتصوّر الواضع اللفظ بمادته وهيئته ثمّ يضعه بإزاء معنى من المعاني ، فاللفظ بخصوصيّاته الشخصيّة المتّصلة بمادّته وهيئته والتي تميّزه عمّا سواه هو الملحوظ في الوضع الشخصي ، بمعنى انّه لو تخلّفت احدى الخصوصيّات لما كان ذلك اللفظ هو مورد الوضع.

ويمكن التمثيل لهذا القسم من الوضع بأسماء الأجناس وبأسماء الأعلام الشخصيّة ، إذ انّ الواضع يتصوّر مثلا لفظ « أسد » بمادّته ـ وهي الألف والسين والدال ـ وهيئته « فعل » بفتح الفاء والعين ثمّ يضع هذا اللفظ بإزاء معنى كلّي وهو الحيوان المفترس.

وهذا هو الوضع الشخصي لأسماء الأجناس ، وأمّا الوضع الشخصي لأسماء الأعلام الشخصيّة فمثاله أن يتصوّر الواضع لفظ « زيد » بمادّته وهيئته ثمّ يضعه بإزاء معنى جزئي وهو في المثال ذات من أفراد الإنسان.

* * *

٦٢٣ ـ وضع المركّبات

البحث في المقام عن أنّ المركّبات اللفظيّة هل وضعت بإزاء معان محدّدة بوضع مستقلّ عن وضع موادها وهيئاتها أو أنّه ليس في البين سوى وضع الموادّ بوضع شخصي ووضع الهيئات بوضع نوعي.

وبيان ذلك :

إنّ كلّ مركّب لفظي يتمّ تحصيل


مفاده بواسطة وضعين ؛ الأوّل يعبّر عنه بالوضع الشخصي وهذا النحو من الوضع يكون للأسماء وموادّ الأفعال وسائر المشتقّات ، والثاني يعبّر عنه بالوضع النوعي وهو ما يكون للهيئات الأفراديّة وهيئات الجمل التامّة والناقصة.

أمّا الهيئات الأفراديّة فمثل هيئة الفعل واسم الفاعل واسم المفعول وصيغ المبالغة ، وأمّا هيئات الجمل فمثل هيئة الجمل الفعليّة والجمل الاسميّة وهيئة الجمل الوصفيّة والشرطيّة والحصريّة وغير ذلك.

فحينما يقال ( زيد نائم ) فإنّ المعنى المتحصّل من هذا المركّب اللفظي استفيد بواسطة الوضع الشخصي لاسم زيد ، ومادّة اسم الفاعل ( نوم ) ، والوضع النوعي لهيئة اسم الفاعل ( نائم ) وهيئة الجملة الاسميّة الموضوعة لقصد الحكاية والإخبار.

وعندئذ يقع البحث عن هذا المركّب وهو ( زيد نائم ) هل وضع بوضع آخر غير الوضعين المذكورين ، وهكذا لو غيّرنا موادّ المركّب فقلنا مثلا ( محمّد عالم ) فهل يكون هذا المركّب قد وضع بوضع آخر غير الموضوع له المركّب السابق وهكذا المركّب الثالث والرابع.

وبذلك يتّضح محلّ النزاع وأنّه عبارة عن البحث عن كلّ مركّب إذا اختلفت موادّه فهل يكون قد وضع بوضع مستقلّ عن الوضعين المذكورين أو لا.

فلو كان الجواب بالإيجاب لكان معنى ذلك هو أنّ صياغة عشرين مركّب بموادّ مختلفة وهيئة واحدة تقتضي أن يكون في البين عشرون وضع ، كلّ وضع على حدة ، ولكان معنى ذلك أنّ وضع المركّبات من سنخ الأوضاع الشخصيّة عينا كما هو الحال في وضع الأسماء وموادّ الهيئات.

والمتحصّل أنّ المقصود من وضع المركّبات هو أنّ كلّ مركّب اختلفت موادّه عن المركّب الآخر فهو موضوع بوضع آخر غير الموضوع له المركّب السابق وهكذا ، فمناط تعدّد الوضع هو


اختلاف موادّ المركّب عن موادّ المركّب الآخر اتّحد معه من حيث الهيئة أو اختلف.

هذا وقد اتّفق الأصوليّون ـ خلافا لما نسب إلى بعض الأدباء ـ على أنّه ليس في البين وضع مستقلّ للمركّبات وأنّ المعنى المتحصّل من كلّ مركّب يستفاد من وضع الموادّ والهيئات.

واستدلّوا على ذلك بلغويّة هذا الوضع وعبثيّته ، كما أنّ تأليف واختراع المركّبات لا يتناهى إلى حدّ فليس ثمّة مركّبات محدّدة يستعملها المتكلّم حين إرادة الإفادة لمعانيه بل إنّ كلّ متكلّم يخترع مركّباته اختراعا ، ولذلك فهم يتفاوتون من حيث البلاغة والفصاحة.

* * *

٦٢٤ ـ الوضع النوعي

وهو ما يكون اللفظ فيه متصوّرا بعنوان عام ومشير ، وذلك بأن يتصوّر الواضع مادّة في هيئة من الهيئات تكون هذه المادة عنوانا مشيرا للهيئة ثمّ يضع المادّة المتهيّئة بتلك الهيئة الخاصّة بإزاء معنى كلّي ، وليس غرضه من الوضع سوى تحديد هيئة لمعنى الكلّي وانّما جعل الهيئة في ضمن مادّة لأجل الإشارة الى الهيئة لعدم قدرة الواضع على احصاء كلّ المواد المتهيّئة بهذه الهيئة.

ومثال ذلك : أن يتصوّر الواضع هيئة الفعل الماضي في ضمن عنوان مشير اليها وهو « فعل » وهو انّما احتاج في تصوّر هيئة الفعل الماضي الى المادّة باعتبار انّ الهيئة لا تكون إلاّ في ضمن مادّة من المواد ، ثمّ انّه بعد ذلك يضع المادّة المتهيّئة بهذه الهيئة المخصوصة بإزاء معنى كلّي وهو في المثال الحدث الذي مضى زمانه.

ومنشأ تسمية هذا النحو من الوضع بالوضع النوعي هو انّ اللفظ المتصوّر حال الوضع ليس مقصودا بنفسه وانّما بهيئته والتي يمكن تطبيقها على سائر المواد المتهيّئة بمثل هذه الهيئة.


هوامش حرف الواو

(١) سورة النور : ٣٢.


حرف الياء


عناوين حرف الياء

٦٢٥ ـ قاعدة اليد

٦٢٦ ـ قاعدة اليقين

٦٢٧ ـ اليقين الاستقرائي

٦٢٨ ـ اليقين المنطقي واليقين الاصولي

٦٢٩ ـ اليقين والشك


حرف الياء

٦٢٥ ـ قاعدة اليد

ومورد القاعدة هو الشكّ في ملكيّة شخص لما تحت يده أو قل لما في حوزته وتحت سلطانه وتصرّفه ، والبحث هو انّ وقوع الشيء القابل للملكيّة تحت سلطان الشخص هل هو أمارة الملكيّة في ظرف الشك أو لا؟

والظاهر انّه لا خلاف في أماريّة اليد وانّها موجبة لثبوت ملكيّة ذي اليد لما تحت يده وانّه لا يطالب بالبيّنة على اثبات ذلك وانّ تمام الآثار المترتّبة على ملكيّة الشيء مترتّبة على ما في حوزته وتحت سلطانه.

وقد استدلّ على ذلك بمجموعة من الروايات وفيها ما هو معتبر سندا ، كما انّ السيرة العقلائيّة الممضاة قاضية بذلك.

ثمّ انّه قد يتوسّع في أماريّة اليد فيدعى شمولها لحالات الشك في زوجيّة المرأة لمن تحت يده وحالات الشك في ثبوت ولاية شخص على وقف هو تحت نظارته أو ولايته على أموال القاصرين هي خارجا ضمن إدارته ورعايته وهكذا لو وقع الشكّ في بنوة أطفال له مع افتراضهم في كنفه.

ولو ثبت هذا التوسّع في القاعدة لكان معنى اليد هو مطلق ما يعبّر عن الحيثيّة المناسبة لنحو السلطنة والتي هي بيد ذي اليد خارجا.

والذي يهمّ الاصولي من بحثه عن القاعدة هو علاقتها مع الاستصحاب من حيث ما هو المقدّم منهما في ظرف تصادقهما على مورد واحد.


والمعروف بينهم هو تقدّم قاعدة اليد في ظرف التصادق حتى بناء على القول بأماريّة الاستصحاب ، وذلك لأنّه لو كان البناء هو تقدّم الاستصحاب على قاعدة اليد للزم من ذلك عدم وجود مورد تجري فيه القاعدة ، وإذا كان هناك مورد فهو نادر جدا ، وذلك لأنّ الاستصحاب يجري في أكثر موارد جريان القاعدة ، إذ انّ أكثر حالات الشك في الملكيّة مسبوق بالعلم بعدم الملكيّة فلو كان الاستصحاب هو المقدّم لما كان ثمّة مبرّر لجعل القاعدة ، وهذا ما يعبّر عن تقدّم القاعدة في مورد التصادق ، على انّ تقديم الاستصحاب يلزم منه المحذور الذي أشارت إليه بعض روايات القاعدة وهو قوله عليه‌السلام : « لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق ».

* * *

٦٢٦ ـ قاعدة اليقين

وهي من القواعد التي قد يقع الخلط بينها وبين الاستصحاب ، ولهذا تصدّى الاصوليون لبيان الفرق بينهما.

ولعلّ منشأ الخلط بينهما هو ما يقال من تقوّم كلّ من قاعدة اليقين والاستصحاب باليقين والشك وانّ متعلّق اليقين والشك في كل من القاعدتين يكون واحدا وانّ متعلّق اليقين فيهما يكون سابقا على متعلّق الشك إلاّ انّه مع ذلك هناك فرق جوهري بين القاعدتين وهو انّ الشك في قاعدة اليقين يكون من نحو الشك الساري ، وهذا بخلاف الشك في قاعدة الاستصحاب فإنّه يكون من نحو الشك الطارئ ، فالفرق بين نحوي الشك هو المائز الأساسي بين القاعدتين.

وبيان ذلك : انّ الشك في مورد الاستصحاب وان كان يتعلّق بعين ما تعلّق به اليقين إلاّ انّ جهة الشك في متعلّق اليقين انّما هو البقاء والاستمرار ، أمّا أصل الحدوث فيظلّ على حاله متيقّنا ، بمعنى انّ الشك لا يوجب زوال أصل اليقين بحدوث الحادث ، نعم هو يوجب التردّد في بقاء


واستمرار وجوده.

مثلا : لو كنا على يقين بعدالة زيد يوم الجمعة ثمّ وقع الشك في بقاء العدالة ليوم السبت مع انحفاظ اليقين بعدالته يوم الجمعة فإنّ هذا الفرض هو مورد الاستصحاب ، لأنّ جهة الشك في متعلّق اليقين هي بقاؤه واستمراره ، فمتعلّق اليقين والشك وان كان واحدا والذي هو « عدالة زيد » إلاّ انّ حيثيّة الشكّ مباينة لحيثيّة اليقين ، ثمّ انّ حيثيّة الشك لمّا كانت هي البقاء والاستمرار فهذا يعني انّ الشكّ في متعلّق اليقين يكون متأخرا زمانا عن اليقين بالمتعلّق ، إذ لا معنى للشكّ في بقاء المتعلّق ما لم يكن المتعلّق متيقّنا في رتبة سابقة.

ولهذا قالوا انّ الاستصحاب هو ما كان متعلّق اليقين والشك فيه متّحدا ذاتا ومتغايرا زمانا إلاّ انّ ذلك لا يعني لزوم تقدّم حالة اليقين بالحادث على الشك فيه ، فقد تكون كذلك وقد تكون الحالتين متزامنتين كما قد تكون حالة الشك متقدّمة على حالة اليقين ، فالمناط في جريان الاستصحاب هو أن يكون الحادث متيقّنا في زمن سابق ويكون مشكوكا في زمن لا حق أمّا أنّ اليقين يكون متقدّما أو متأخّرا أو مقارنا فهذا ما لا دخل له في قوام الاستصحاب وبما ذكرناه يتّضح انّ الشك في مورد الاستصحاب انّما هو الشك الطارئ على الحادث المتيقّن والذي لا يوجب زوال اليقين بأصل الحدوث وانّما يوجب التردّد في بقاء وجود الحادث واستمراره. ثمّ انّه يمكن أن يقال ان متعلّق اليقين ومتعلّق الشك في مورد الاستصحاب متباينان بالنظر الدقي ، وذلك بأن يقال انّ متعلّق اليقين هو أصل الحدوث ومتعلّق الشك هو البقاء والاستمرار ، وأصل الحدوث غير بقائه واستمراره ، وبهذا لا يكون اليقين والشكّ متواردين على متعلّق واحد.

وأمّا الشك في مورد قاعدة اليقين فهو من نحو الشك الساري والذي يسري لنفس متعلّق اليقين بالحادث ويوجب زوال اليقين عنه وانعدامه


وتبدّله الى الشك ، فاليقين والشكّ يتواردان على متعلّق واحد ويكون زمانهما متّحدا ، نعم تكون حالة اليقين في مورد القاعدة متقدّمة على حالة الشك.

مثلا : لو كنّا على يقين من عدالة زيد يوم الجمعة ثمّ وقع الشك في أصل اشتماله على العدالة في يوم الجمعة ، بمعنى تبدّل اليقين بالعدالة الى الشك فيها ، فالشكّ في مورد القاعدة يسرى لنفس اليقين ويطرده عن المتعلّق ويحلّ محلّه ، وهذا هو معنى الاتحاد الذاتي بين متعلّق اليقين والشك والاتّحاد الزماني في مورد قاعدة اليقين ، إذ انّ متعلّقهما هو العدالة في المثال وزمانهما واحد وهو يوم الجمعة ، غايته انّ حالة اليقين نشأت قبل حالة الشك.

وبهذا اتّضح الفرق بين موردي قاعدة اليقين وقاعدة الاستصحاب. هذا وقد ذكر السيّد الصدر رحمه‌الله فرقا آخر بين القاعدتين يتّصل بمنشإ اعتبار القاعدتين بنظر العقلاء.

فالاستصحاب لو كان من الأمارات العقلائيّة فإنّ منشأ اعتباره هو ما يقتضيه طبع وجود الحادث من البقاء والاستمرار ، فإنّ هذا الطبع التكويني ينتج وثوقا لدى العقلاء ببقاء ما وقع وان زواله بعد حدوثه خلاف ما يقتضيه طبع الحادث.

وأمّا منشأ اعتبار قاعدة اليقين فهو انّ اليقين عادة ما يكون مطابقا للواقع وانّ اتفاق الخطأ في حالات اليقين نادرة ، وهذا ما يوجب البناء على واقعيّة متعلّق اليقين ـ وان عرضه الشك بعد ذلك ـ اعتماد على أقربيّة اليقين للواقع.

إذن فملاك اعتبار الاستصحاب يختلف عن ملاك اعتبار قاعدة اليقين ، فملاك الأوّل هو ما يقتضيه طبع الحادث من البقاء والاستمرار ، وملاك الثاني هو أقربيّة اليقين للواقع.

* * *

٦٢٧ ـ اليقين الاستقرائي

قد أوضحنا المراد منه تحت عنوان التواتر.

* * *


٦٢٨ ـ اليقين المنطقي واليقين الاصولي

المراد من اليقين المنطقي هو القطع الناشئ عن البرهان والذي يساوق المطابقة مع الواقع دائما باعتبار اعتماده البرهان وسيلة للوصول اليه ، ولهذا قالوا انّ اعتماد القوانين المنطقيّة تعصم الذهن عن الخطأ في الفكر ، وما يقال انّ العصمة انّما تكون مختصّة بصورة الدليل باعتبار انّ ذلك هو ما يتصدّى علم المنطق لضبطه ، غير تام ، وذلك لأنّ البرهان العاصم عن الخطأ لا يعالج صورة القياس ـ مثلا ـ فحسب بل هو يعالج مواده أيضا فيشترط في مواد القياس البرهاني أن تكون من القضايا الست البديهيّة والتي تكون مطابقتها للواقع مضمونة باعتبارها بديهيّة وباعتبار انّ صورة القياس الواقعة في اطاره بديهيّة أيضا فذلك هو الضمان لحقّانيّة اليقين الناتج عن البرهان ، وأمّا القضايا الاخرى التي لا تكون بديهيّة فضمان حقّانيّة اليقين بما ينتج عنها هو رجوعها الى احدى القضايا الست البديهيّة والتي هي الأوّليات والفطريات والحسيّات والتجريبيات والحدسيّات والمتواترات.

والمتحصّل انّ اليقين المنطقي هو اليقين المعتمد على البرهان والذي لوحظ فيه ضمان المطابقة للواقع ، وهذا لا يعني انّ المتيقّن باليقين غير المنطقي محتملا لمنافاة يقينه للواقع بل المقصود من أخذ ضمان المطابقة للواقع في اليقين المنطقي هو اعتماده على القضايا التي لا تتخلّف بمقتضى برهانيتها عن الواقع.

وأمّا المراد من اليقين الاصولي فهو الجزم بقطع النظر عن منشئه ، أي سواء نشأ عن البرهان أو عن مناشئ اخرى حتى لو كانت من قبيل الجدل والمغالطة والسفسطة.

* * *

٦٢٩ ـ اليقين والشك

بين اليقين والشك نسبة التضاد ، إذ اليقين معناه الجزم واستقرار النفس على الثبوت أو الانتفاء والشك يعني


التردد في الثبوت أو الانتفاء ، وكلاهما من العناوين ذات الإضافة والتي لا تعقّل دون متعلّق فلا بدّ لليقين من متيقّن وللشك من مشكوك ، كما انّهما من سنخ الضدّين اللذين لا ثالث لهما بناء على شمول الشك لحالات الظنّ والاحتمال ، على انّه يمكن دعوى انّ النسبة بينهما هي التناقض ولو بملاحظة خصوصيّة فيهما وهي انّ اليقين مشتمل على حيثيّة هي عدم احتمال الخلاف وانّ الحيثيّة المتقوّم بها الشك هي احتمال الخلاف.

وعلى أيّ تقدير فإنّ اليقين لا يجتمع مع الشك في نفس واحدة على متعلّق واحد مع انحفاظ تمام الحيثيّات المانعة عن تحقق اجتماع الضدّين أو النقيضين ، نعم ثمّة حالات يجتمع فيها اليقين مع الشكّ في نفس واحدة بسبب اختلال بعض الحيثيّات :

الحالة الاولى : أن يكون متعلّق اليقين مباينا لمتعلّق الشك ، كما لو كنّا على يقين من حياة زيد وشك في فقره أو في حياة عمرو.

الحالة الثانية : أن يكون متعلّق اليقين من أجزاء علّة متعلّق الشك ، كما لو كنّا على يقين بالمقتضي بصيغة الفاعل وشكّ في المقتضى بصيغة المفعول ، ومن الواضح انّ المقتضي جزء علّة للمقتضى وليس هو تمام العلّة ، من هنا أمكن اليقين بالمقتضي مع عدم اليقين بمقتضاه باعتبار عدم احراز تحقّق تمام أجزاء العلّة لحدوث المقتضى.

مثلا : لو علمت بوقوع الورقة في النار ولم أعلم بانتفاء المانع عن احتراق الورقة ، فإنّ هنا علم وشك ، فالمعلوم ، هو وجود المقتضي للإحراق والذي هو جزء علّة للمقتضى « المعلول » ، وأمّا المشكوك فهو الاحتراق والذي هو المقتضى ، ومنشأ الشك هو عدم احراز تمام أجزاء العلّة والتي منها انتفاء المانع ، وهذا هو مورد قاعدة المقتضي والمانع ، وقد أوضحناها تحت عنوانها.

الحالة الثالثة : أن يكون متعلّق اليقين متّحدا ذاتا مع متعلّق الشك


ولكنّه متغاير معه زمانا ، وهذه الحالة لها صورتان.

الصورة الاولى : أن يكون تعلّق اليقين بمتعلّقه متقدّما على تعلّق الشك به ، كما لو علمنا بعدالة زيد يوم الجمعة ثمّ وقع الشكّ في بقائه على العدالة يوم السبت ، وهذا النحو من الشك هو المعبّر عنه بالشك الطارئ ، وهو موضوع الاستصحاب ، وقد أوضحنا هذه الصورة في بحث « الاستصحاب » وكذلك في بحث « قاعدة اليقين ».

الصورة الثانية : أن يكون تعلّق الشك بمتعلّقه متقدّما على تعلّق اليقين به ، كما لو علمنا انّ المتفاهم العرفي من معنى الصعيد فعلا هو مطلق وجه الأرض إلاّ انّ الشك في انّ هذا المعنى هل هو المتبادر من لفظ الصعيد في الزمن السابق أو لا ، وهذا هو مورد الاستصحاب القهقرائي المعبّر عنه بأصالة الثبات في اللغة ، وقد أوضحنا المراد من هذه الصورة تحت هذين العنوانين.

وتلاحظون انّ كلا الصورتين اتّحد فيهما متعلّق اليقين مع متعلّق الشك ، إذ انّ متعلّقهما في الصورة الاولى هو « عدالة زيد » وفي الصورة الثانية هو « معنى لفظ الصعيد » والتغاير انّما هو من جهة الزمان.

الحالة الرابعة : أن يكون متعلّق اليقين متّحدا مع متعلّق الشك ذاتا وزمانا ، وتعقّل هذه الحالة منوط بتغاير عروض حالتي اليقين والشك زمانا ، بمعنى انّ تعلّق اليقين بالشيء وان كان متّحدا زمانا مع تعلّق الشك بذلك الشيء إلاّ انّ عروض حالة اليقين بذلك الشيء لا بدّ وان يكون متقدّما أو متأخّرا عن حالة عروض الشك بذلك الشيء ، فهنا صورتان :

الصورة الاولى : ان يتعلّق اليقين بعين ما تعلّق به الشك ذاتا وزمانا إلاّ انّ عروض حالة الشك كانت متأخّرة عن عروض حالة اليقين. ومثاله ما لو كنّا نعلم بعدالة زيد يوم الجمعة ثمّ تبدّل اليقين بالشك في ثبوت العدالة له يوم الجمعة.

وتلاحظون انّ متعلّق اليقين وهو


عدالة زيد هو عينه متعلّق الشك كما انّ الزمان الذي تعلّق فيه اليقين والشك بالعدالة هو يوم الجمعة ، غايته انّ عروض حالة الشك كانت بعد عروض حالة اليقين كما لو وقع الشك يوم السبت. ويعبّر عن الشكّ في مثل هذه الصورة بالشكّ الساري ، وهو مورد قاعدة اليقين ، كما أوضحنا ذلك في بحث « قاعدة اليقين ».

الصورة الثانية : نفس الصورة الاولى إلاّ انّ عروض حالة اليقين هي المتأخّرة عن عروض حالة الشكّ ، وهنا يكون اليقين هو الساري والموجب لطرد الشك والحلول في محلّه كما انّ الصورة الاولى يكون الشك هو الطارد لليقين.

اللهم صلّ على محمّد عبدك ورسولك وصلّ على العبد الصالح والسيّد الأكبر عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وصلّ على آل محمّد الأبرار الأخيار الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ، والحمد لله ربّ العالمين.

* * *

قد تمّ الشروع ـ بتوفيق الله تعالى ـ في تأليف هذا الكتاب في الخامس والعشرين من ذي الحجة سنة ١٤٢٠ ه‍ وقد تمّ بحمد الله ومنّه الفراغ منه في الرابع والعشرين من رجب سنة ١٤٢١ هجرية على مهاجرها ألف سلام وتحيّة.

والحمد لله ربّ العالمين


مصادر الكتاب

١ ـ محاضرات في اصول الفقه

السيد الخوئي رحمه‌الله

٢ ـ مصباح الاصول

السيد الخوئي رحمه‌الله

٣ـ دراسات في علم الاصول

السيد الخوئي رحمه‌الله

٤ ـ مباني الاستنباط

السيد الخوئي رحمه‌الله

٥ ـ فوائد الاصول

المحقق النائيني رحمه‌الله

٦ ـ أجود التقريرات

المحقق النائيني رحمه‌الله

٧ ـ تنقيح الاصول

السيد الامام رحمه‌الله

٨ ـ تهذيب الاصول

السيد الامام رحمه‌الله

٩ ـ مباحث الاصول

السيد الصدر رحمه‌الله

١٠ ـ بحوث في علم الاصول

السيد الصدر رحمه‌الله

١١ ـ الحلقة الثالثة

السيد الصدر رحمه‌الله

١٢ ـ نهاية الأفكار

المحقق العراقي رحمه‌الله

١٣ ـ فرائد الاصول

الشيخ الأنصاري رحمه‌الله

١٤ ـ أنوار الهداية تعليقه على الكفاية

السيد الإمام رحمه‌الله

١٥ ـ عناية الاصول

المحقّق الخراساني رحمه‌الله

١٦ ـ كفاية الاصول

السيد محسن الحكيم رحمه‌الله

١٧ ـ حقائق الاصول

الميرزا ابو الحسن المشكيني رحمه‌الله

١٨ ـ حاشية المشكيني

الميرزا حبيب الله الرشتي رحمه‌الله

١٩ ـ بدائع الأفكار

الشيخ المظفّر رحمه‌الله

٢٠ ـ اصول الفقه

المحقّق الخراساني رحمه‌الله

٢١ ـ اصول الفقه المقارن

السيد محمّد تقي الحكيم

٢٢ ـ معالم الاصول

الشيخ حسن ابن الشهيد الثاني

٢٣ ـ الوافية

الفاضل التوني رحمه‌الله

٢٤ ـ المحصول في علم الاصول

الشيخ جعفر التبريزي

٢٥ ـ منتقى الاصول

السيد محمد الروحاني رحمه‌الله


٢٦ ـ زبدة الاصول

السيد محمد صادق الروحاني

٢٧ ـ المحكم في اصول الفقه

السيد محمّد سعيد الحكيم

٢٨ ـ عدة الاصول

الشيخ الطوسي رحمه‌الله

٢٩ ـ منتهى الدراية

السيد محمد جعفر المروج رحمه‌الله

٣٠ ـ شرح الاصول

محمّد صنقور

٣١ ـ القواعد الفقهيّة

السيد البجنوردي رحمه‌الله

٣٢ ـ الرعاية في شرح الدراية

الشهيد الثاني رحمه‌الله

٣٣ ـ منتقى الجمان

الشيخ حسن ابن الشهيد الثاني رحمهما‌الله

٣٤ ـ التنقيح في شرح العروة

السيد الخوئي رحمه‌الله

٣٥ ـ مستمسك العروة الوثقى

السيد محسن الحكيم رحمه‌الله

٣٦ ـ الحدائق الناضرة

الشيخ يوسف البحراني رحمه‌الله

٣٧ ـ اسس القضاء

الشيخ جواد التبريزي

٣٨ ـ مباني تكملة المنهاج

السيد الخوئي رحمه‌الله

٣٩ ـ مصباح الفقاهة

السيد الخوئي رحمه‌الله

٤٠ ـ منظومة السبزواري

الحكيم ملا هادي السبزواري رحمه‌الله

٤١ ـ شرح المنظومة

الشيخ المطهري رحمه‌الله

٤٢ ـ درر الفوائد في شرح المنظومة

الشيخ محمّد تقي الآملي

٤٣ ـ بداية الحكمة

السيّد العلاّمة الطباطبائي رحمه‌الله

٤٤ ـ نهاية الحكمة

السيّد العلاّمة الطباطبائي رحمه‌الله

٤٥ ـ المنطق

المحقّق المظفّر رحمه‌الله

٤٦ ـ حاشية ملا عبد الله

٤٧ ـ الشمسية

٤٨ ـ المنهج الجديد في تعليم الفلسفة

الشيخ مصباح اليزدي

٤٩ ـ البيان

السيّد الخوئي رحمه‌الله

٥٠ ـ المصباح المنير

العلاّمة الفيّومي

٥١ ـ الرسائل العشر

السيد الامام رحمه‌الله

٥٢ ـ الإلهيّات الشيخ

جعفر التبريزي

٥٣ ـ مختصر المعاني

العلاّمة التفتازاني

٥٤ ـ دروس فلسفيّة

العلاّمة المطهري رحمه‌الله


المحتويات

حرف الحاء

الحال........................................................................... ٧

الحجر التكليفي والحجر الوضعي.................................................... ٩

الحجّة......................................................................... ١٠

الحجيّة الاصوليّة................................................................ ١٢

الحجيّة الذاتيّة.................................................................. ١٣

حجيّة القطع................................................................... ١٥

الحجيّة المجعولة.................................................................. ١٨

الحرمة......................................................................... ٢١

الحرمة الذاتيّة والحرمة العرضيّة.................................................... ٢١

الحرمة الظاهريّة والحرمة الواقعيّة................................................... ٢٢

الحسن والقبح.................................................................. ٢٤

الحسن والقبح الذاتيان........................................................... ٢٧

الحسن والقبح العقلائيّان......................................................... ٢٩

الحسن والقبح العقليّان........................................................... ٣٣

أصالة الحظر.................................................................... ٣٦

حقّ الطاعة..................................................................... ٣٦

مسلك حقّ الطاعة.............................................................. ٣٨

أصالة الحقيقة................................................................... ٣٩

الحقيقة الشرعيّة................................................................. ٤٠

الحقيقة المتشرعيّة................................................................ ٤٢


الحكم الإنشائي................................................................. ٤٣

الحكم الأولي................................................................... ٤٤

الحكم التكليفي................................................................. ٤٥

الحكم الثانوي.................................................................. ٤٦

الحكم الشرعي................................................................. ٤٧

الحكم الظاهري................................................................. ٤٨

الحكم العدمي.................................................................. ٤٩

الحكم المقابل للفتوى............................................................ ٥٠

الحكم الواقعي.................................................................. ٥٢

الحكم الوضعي................................................................. ٥٣

الحكومة....................................................................... ٥٩

الحكومة الانسداديّة............................................................. ٦١

الحكومة الواقعيّة والحكومة الظاهريّة............................................... ٦٣

الحكومة بملاك الرفع............................................................. ٦٥

الحكومة بملاك النظر............................................................. ٦٧

أصالة الحل..................................................................... ٧٠

الحمل الأولي والحمل الشائع...................................................... ٧١

الحمل البسيط والحمل المركّب.................................................... ٧٤

حرف الخاء

الخارج المحمول................................................................. ٧٩

الخاصّ........................................................................ ٧٩

الخبر بالواسطة.................................................................. ٧٩

الخبر الحسن.................................................................... ٨٤

الخبر الحسّي والخبر الحدسي....................................................... ٨٥

الخبر الصحيح.................................................................. ٨٧

الخبر الضعيف.................................................................. ٨٧

الخبر المتواتر.................................................................... ٨٨


الخبر المستفيض................................................................. ٨٩

الخبر الموثّق..................................................................... ٩٠

الخبر الموثوق................................................................... ٩١

خبر الواحد.................................................................... ٩٢

الخطابات الشفاهيّة.............................................................. ٩٢

حرف الدال

دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة............................................... ٩٩

الدلالة....................................................................... ١١٠

الدلالة الاستعماليّة............................................................. ١١١

دلالة الإشارة................................................................. ١١١

دلالة الاقتضاء................................................................. ١١٢

الدلالة الالتزاميّة............................................................... ١١٣

دلالة الإيماء والتنبيه............................................................ ١١٣

الدلالة التصديقيّة.............................................................. ١١٤

الدلالة التصديقيّة الاولى........................................................ ١١٦

الدلالة التصوريّة............................................................... ١١٦

الدلالة التضمنيّة............................................................... ١١٧

الدلالة التفهيميّة............................................................... ١١٨

الدلالة الجدّيّة................................................................. ١١٩

دلالة السكوت والتقرير........................................................ ١١٩

الدلالة المطابقيّة............................................................... ١٢٢

الدلالة الوضعيّة............................................................... ١٢٣

الدلالة الوضعيّة تصوريّة أو تصديقيّة؟............................................ ١٢٣

دلالة فعل المعصوم (ع)......................................................... ١٢٦

الدليل الاجتهادي والدليل الفقاهتي............................................... ١٢٩

الدليل الإنّي والدليل اللمّي...................................................... ١٣١

الدليل الشرعي................................................................ ١٣١


الدليل العقلي................................................................. ١٣٢

الدليل اللبّي................................................................... ١٣٦

الدليل المحرز.................................................................. ١٣٧

دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين........................................ ١٣٨

دوران الأمر بين الأقل والأكثر الاستقلاليّين........................................ ١٤٠

دوران الأمر بين التخصيص والنسخ.............................................. ١٤١

دوران الأمر بين التعيين والتخيير................................................. ١٤٢

دوران الأمر بين الشرطيّة والجزئيّة وبين المانعيّة..................................... ١٤٥

دوران الأمر بين المتباينين....................................................... ١٤٦

دوران الأمر بين محذورين....................................................... ١٤٦

حرف الذّال

الذاتي في باب البرهان.......................................................... ١٥٥

الذاتي في باب الكليّات......................................................... ١٥٥

الذاتي لا يعلّل................................................................. ١٥٦

حرف الرّاء

الرافع والمانع.................................................................. ١٦١

الرخصة والعزيمة............................................................... ١٦٢

الرفع والدفع.................................................................. ١٦٥

حرف الزّاي

الزمان والزمانيات............................................................. ١٦٩

الزيادة في المركبات الاعتباريّة................................................... ١٧٠

حرف السّين

مسلك السببيّة................................................................ ١٧٥

سدّ الذرائع................................................................... ١٧٧

السنّة الشريفة................................................................. ١٧٨

السنّة في استعمالات الفقهاء.................................................... ١٧٩

السيرة العقلائيّة................................................................ ١٨٠


السيرة المتشرعيّة............................................................... ١٨٥

حرف الشّين

شبهة ابن قبة................................................................. ١٩١

شبهة الانفصال............................................................... ١٩٣

الشبهة البدويّة................................................................ ١٩٣

الشبهة التحريميّة............................................................... ١٩٤

الشبهة الحكميّة............................................................... ١٩٥

الشبهة العبائيّة................................................................ ١٩٦

شبهة الكثير في الكثير.......................................................... ١٩٧

شبهة الكعبي.................................................................. ١٩٩

الشبهة المصداقيّة............................................................... ٢٠١

الشبهة المفهوميّة............................................................... ٢٠٢

الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي................................................... ٢٠٣

الشبهة الموضوعيّة.............................................................. ٢٠٤

الشبهة الوجوبيّة............................................................... ٢٠٥

الشبهة غير المحصورة........................................................... ٢٠٦

شرائط الجعل والمجعول......................................................... ٢٠٩

شرط الاتّصاف............................................................... ٢١٠

شرط الترتّب................................................................. ٢١١

الشرط المتقدم والمتأخر والمقارن.................................................. ٢١٣

الشرط المسوق لبيان تحقّق الموضوع.............................................. ٢١٥

الشرط من أجزاء العلّة.......................................................... ٢١٧

الشرطية والسببيّة والمانعيّة....................................................... ٢١٨

الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني............................................. ٢٢١

الشك....................................................................... ٢٢٢

الشك الساري والشك الطارئ.................................................. ٢٢٣

الشك بين الجزئيّة والمانعيّة...................................................... ٢٢٣


الشك في التكليف............................................................. ٢٢٤

الشك في الحجيّة.............................................................. ٢٢٧

الشك في المحصّل.............................................................. ٢٢٧

الشك في المكلّف به........................................................... ٢٢٨

شمول الأحكام للجاهل......................................................... ٢٣٧

الشهرة الروائيّة................................................................ ٢٣٨

الشهرة العمليّة................................................................ ٢٣٨

الشهرة الفتوائيّة............................................................... ٢٣٩

حرف الصّاد

قاعدة الصحّة................................................................. ٢٤٣

الصحّة التأهّليّة................................................................ ٢٤٦

الصحّة والفساد............................................................... ٢٤٧

الصحيح والأعم............................................................... ٢٥١

الصحيح والفاسد.............................................................. ٢٥٢

الصدق في القضايا الحمليّة...................................................... ٢٥٣

الصدق في القضايا الشرطيّة..................................................... ٢٥٥

حرف الضّاد

مسألة الضدّ.................................................................. ٢٥٩

الضدّ العام والضدّ الخاص....................................................... ٢٦٠

الضرر والضرار................................................................ ٢٦١

الضرورة بشرط المحمول........................................................ ٢٦٥

حرف الطّاء

الطبيعي الاصولي.............................................................. ٢٧١

الطبيعي المعقولي............................................................... ٢٧١

مسلك الطريقيّة............................................................... ٢٧١

الطلب والإرادة............................................................... ٢٧٣

أصالة الطهارة................................................................. ٢٧٥


الطهارة والنجاسة............................................................. ٢٧٦

حرف الظّاء

الظن........................................................................ ٢٨١

الظن الخاص.................................................................. ٢٨١

الظنّ الطريقي والظنّ الموضوعي................................................. ٢٨٢

الظن المطلق................................................................... ٢٨٢

الظنّ النوعي.................................................................. ٢٨٣

الظهور...................................................................... ٢٨٤

أصالة الظهور................................................................. ٢٨٩

الظهور الاقتضائي والفعلي...................................................... ٢٩٣

الظهور التصوري والتصديقي................................................... ٢٩٣

الظهور التضمني............................................................... ٢٩٤

الظهور الحالي................................................................. ٢٩٥

الظهور الذاتي والموضوعي...................................................... ٢٩٦

حرف العين

العام الاصولي................................................................. ٢٩٩

العدم الأزلي.................................................................. ٢٩٩

العدم المحمولي................................................................. ٣٠٥

العدم النعتي................................................................... ٣٠٦

العرض الذاتي................................................................. ٣٠٧

العرض الغريب................................................................ ٣١٣

العرض والعرضي.............................................................. ٣١٣

العرف....................................................................... ٣١٥

العزيمة....................................................................... ٣٢٦

العقل العملي................................................................. ٣٢٦

العقل النظري................................................................. ٣٢٧

علامات الحقيقة والمجاز......................................................... ٣٢٧


مسلك العلاميّة................................................................ ٣٢٨

علل الأحكام................................................................. ٣٢٨

العلم الإجمالي في التدريجيّات.................................................... ٣٢٩

العلم الإجمالي والتفصيلي....................................................... ٣٣٢

علم الاصول.................................................................. ٣٣٦

علم الجنس................................................................... ٣٣٨

العلّة الانحصاريّة............................................................... ٣٤٠

العلّة والحكمة................................................................. ٣٤١

العموم....................................................................... ٣٤٣

العموم الاستغراقي............................................................. ٣٤٥

العموم البدلي................................................................. ٣٤٦

العموم الزماني................................................................. ٣٤٦

العموم السياقي................................................................ ٣٤٨

العموم الفوقاني................................................................ ٣٤٨

العموم المجموعي............................................................... ٣٤٩

حرف الغين

الغاية........................................................................ ٣٥٣

مفهوم الغاية.................................................................. ٣٥٤

الغاية داخلة في المغيّى أو خارجة؟................................................ ٣٥٤

غير المستقلات العقليّة.......................................................... ٣٥٦

حرف الفاء

فتح الذرائع................................................................... ٣٦١

فحوى الخطاب............................................................... ٣٦٢

الفرد المردد................................................................... ٣٦٢

حرف القاف

القاطع والمانع................................................................. ٣٦٥

قبح العقاب بلا بيان........................................................... ٣٦٦


القبح الفعلي والقبح الفاعلي..................................................... ٣٦٨

القدر المتيقّن في مقام التخاطب.................................................. ٣٧١

القدرة التكوينيّة بالمعنى الأعم.................................................... ٣٧٣

القدرة العقليّة والشرعيّة........................................................ ٣٧٥

قرينة الحكمة................................................................. ٣٧٨

القرينة اللبيّة.................................................................. ٣٨٠

القرينة المتّصلة................................................................. ٣٨٠

القرينة المنفصلة................................................................ ٣٨١

القضايا الخارجيّة والقضايا الحقيقيّة............................................... ٣٨٢

القطع........................................................................ ٣٨٦

القطع الشخصي............................................................... ٣٨٧

القطع الطريقي................................................................ ٣٨٨

قطع القطّاع.................................................................. ٣٨٩

القطع من الصفات الحقيقيّة ذات الإضافة......................................... ٣٩٣

القطع الموضوعي.............................................................. ٣٩٥

القطع الموضوعي الصفتي........................................................ ٣٩٧

القطع الموضوعي الطريقي....................................................... ٣٩٨

القطع النوعي................................................................. ٤٠٠

القول بعدم الفصل............................................................. ٤٠٠

قول اللغوي................................................................... ٤٠١

القياس الاصولي............................................................... ٤٠٣

قياس مستنبط العلّة............................................................ ٤٠٥

قياس منصوص العلّة........................................................... ٤١٠

قيام الاصول مقام القطع........................................................ ٤١١

قيام الأمارة مقام القطع الطريقي................................................. ٤١١

قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الصفتي......................................... ٤١٢

قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الطريقي........................................ ٤١٣


حرف الكاف

كان التامّة والناقصة............................................................ ٤١٧

الكراهة...................................................................... ٤١٨

الكشف الانسدادي............................................................ ٤١٨

الكلّي الطبيعي................................................................ ٤١٩

الكلّي العقلي................................................................. ٤٢٢

الكلّي المنطقي................................................................ ٤٢٣

حرف اللاّم

اللابشرط القسمي............................................................. ٤٢٧

اللابشرط المقسمي............................................................. ٤٢٨

قاعدة لا ضرر ولا ضرار....................................................... ٤٢٩

لا النافية للجنس.............................................................. ٤٣٢

لحن الخطاب.................................................................. ٤٣٥

اللزوم البيّن وغير البيّن.......................................................... ٤٣٥

لوازم الأدلّة................................................................... ٤٣٧

ليس التامّة والناقصة............................................................ ٤٤٣

اللوازم الذاتيّة................................................................. ٤٤٤

حرف الميم

المانع الشرعي................................................................. ٤٥١

الماهية المجرّدة.................................................................. ٤٥١

الماهية المخلوطة............................................................... ٤٥٢

الماهيّة المطلقة والمرسلة.......................................................... ٤٥٢

الماهيّة المهملة................................................................. ٤٥٢

المبادئ الأحكاميّة............................................................. ٤٥٢

المبادئ التصديقيّة.............................................................. ٤٥٤

المبادئ التصوريّة.............................................................. ٤٥٥

مبادئ الحكم................................................................. ٤٥٥


متعلّق الحكم.................................................................. ٤٥٥

مثبتات الأمارة والأصل........................................................ ٤٥٦

المجاز........................................................................ ٤٥٦

المجاز العقلي.................................................................. ٤٥٨

المجمل والمبين................................................................. ٤٥٨

المحصّلات الشرعيّة............................................................. ٤٥٨

المحصّلات العقليّة والعاديّة....................................................... ٤٥٩

المحمولات الأوّليّة والثانويّة...................................................... ٤٦٠

المحمول بالضميمة............................................................. ٤٦٠

المخالفة القطعيّة والاحتماليّة..................................................... ٤٦١

المخصّص والمقيّد.............................................................. ٤٦١

المسألة الاصوليّة............................................................... ٤٦٢

مسألة مقدّمة الواجب.......................................................... ٤٦٥

المستقلات العقليّة.............................................................. ٤٦٦

مسقطات التكليف............................................................ ٤٦٩

المشتقّ....................................................................... ٤٧١

المصالح المرسلة................................................................ ٤٧٣

المعاني الحرفيّة والمعاني الاسميّة.................................................... ٤٧٨

المعقولات الأوليّة.............................................................. ٤٨٠

المعقولات الثانية............................................................... ٤٨٣

المفاهيم الأدويّة................................................................ ٤٨٧

المفاهيم الإفراديّة............................................................... ٤٨٧

المفهوم....................................................................... ٤٨٧

مفهوم الاستثناء............................................................... ٤٩٢

مفهوم الحصر................................................................. ٤٩٢

مفهوم الشرط................................................................. ٤٩٣

مفهوم العدد.................................................................. ٤٩٥


مفهوم الغاية.................................................................. ٤٩٦

مفهوم اللقب................................................................. ٤٩٨

مفهوم المخالفة................................................................ ٤٩٩

مفهوم الموافقة................................................................. ٥٠١

مفهوم الوصف................................................................ ٥٠٣

قاعدة المقتضي والمانع.......................................................... ٥٠٦

مقدمات الحكمة.............................................................. ٥٠٧

المقدّمة التوليديّة............................................................... ٥٠٧

مقدّمة الحرام.................................................................. ٥٠٨

المقدّمة الخارجيّة............................................................... ٥١٠

المقدّمة الداخليّة............................................................... ٥١١

مقدّمة الصحّة................................................................ ٥١٣

المقدّمة العقليّة والشرعيّة والعاديّة................................................. ٥١٣

المقدّمة العلميّة................................................................ ٥١٦

مقدّمة المستحبّ والمكروه...................................................... ٥١٧

المقدّمة المفوتة................................................................. ٥١٧

المقدّمة الموصلة................................................................ ٥١٩

المقدّمة الوجوبيّة............................................................... ٥٢٠

المقدّمة الوجوديّة.............................................................. ٥٢١

الملاك الاقتضائي............................................................... ٥٢٢

الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع........................................... ٥٢٣

ملاك الحمل.................................................................. ٥٢٧

مناسبات الحكم والموضوع..................................................... ٥٢٨

المنطوق...................................................................... ٥٣٢

الموافقة الاحتماليّة............................................................. ٥٣٥

الموافقة الالتزاميّة............................................................... ٥٣٥

الموافقة القطعيّة................................................................ ٥٣٧

موضوع الحكم............................................................... ٥٣٨


الموضوعات المركّبة............................................................ ٥٣٩

الموضوعات المستنبطة.......................................................... ٥٣٩

حرف النّون

النسب الأوليّة والنسب الثانويّة.................................................. ٥٤٥

النسبة....................................................................... ٥٤٦

النسبة التحليليّة............................................................... ٥٥٢

النسخ....................................................................... ٥٥٣

نسخ الوجوب................................................................ ٥٥٦

نفي الحكم بلسان الموضوع..................................................... ٥٥٧

النكرة....................................................................... ٥٥٩

النكرة في سياق النفي أو النهي.................................................. ٥٦١

النهي........................................................................ ٥٦٣

النهي الإرشادي............................................................... ٥٦٥

النهي التحريمي................................................................ ٥٦٥

النهي التنزيهي................................................................ ٥٦٧

النهي في العبادات............................................................. ٥٦٧

النهي في المعاملات............................................................ ٥٧١

النهي النفسي والغيري.......................................................... ٥٧٢

حرف الهاء

الهلية البسيطة................................................................. ٥٧٧

الهليّة المركّبة.................................................................. ٥٧٧

هيئات الجمل................................................................. ٥٧٨

الهيئة الاتّصاليّة................................................................ ٥٧٨

الهيئة التركيبيّة................................................................ ٥٧٨

الهيولى والصورة............................................................... ٥٧٩

مسلك الهوهويّة............................................................... ٥٨١

حرف الواو

الواجب الأصلي والتبعي........................................................ ٥٨٥


الواجب التخييري............................................................. ٥٨٦

الواجب الكفائي.............................................................. ٥٨٨

الواجب المضيّق والموسّع........................................................ ٥٩١

الواجب المطلق والمشروط....................................................... ٥٩٢

الواجب المعلّق والمنجّز.......................................................... ٥٩٣

الواجب الموقّت............................................................... ٥٩٦

الواجب النفسي والغيري........................................................ ٥٩٦

الواسطة في الإثبات............................................................ ٥٩٩

الواسطة في الثبوت............................................................ ٦٠٠

الواسطة في العروض........................................................... ٦٠١

الوجوب الاضطراري.......................................................... ٦٠١

الوجوب والواجب............................................................ ٦٠٢

الوجود الرابط والوجود الرابطي................................................. ٦٠٣

الوجود المحمولي............................................................... ٦٠٤

الوجود النعتي................................................................. ٦٠٥

الورود....................................................................... ٦٠٥

الوضع....................................................................... ٦٠٨

الوضع التعييني والتعيّني......................................................... ٦١٠

الوضع الشخصي.............................................................. ٦١١

وضع المركّبات................................................................ ٦١١

الوضع النوعي................................................................ ٦١٣

حرف الياء

قاعدة اليد.................................................................... ٦١٧

قاعدة اليقين.................................................................. ٦١٨

اليقين الاستقرائي.............................................................. ٦٢٠

اليقين المنطقي واليقين الاصولي.................................................. ٦٢١

اليقين والشك................................................................. ٦٢١

مصادر الكتاب............................................................... ٦٢٥

المحتويات..................................................................... ٦٢٧

المعجم الاصولي - ٢

المؤلف:
الصفحات: 640