(يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا) أي : ادخل في ديننا (وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) المحجوبين عن الحق ، الهالكين بموج هوى النفس ، المغرقين في بحر الطبع (قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) يعني به الدماغ الذي هو محل العقل ، أي : سأستعصم بالعقل والمعقول ليعصمني من استيلاء بحر الهيولى فلا أغرق فيه (قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا) الذي (رَحِمَ) بدين التوحيد والشرع (وَحالَ بَيْنَهُمَا) موج هوى النفس واستيلاء ماء بحر الطبيعة ، أي : حجبه عن أبيه ودينه وتوحيده (فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) في بحر الهيولى الجسمانية.

[٤٤] (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤))

(وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) أي : نودي من جهة الحق على لسان الشرع أرض الطبيعة الجسمانية أي : يا أرض انقصي بأمر الشريعة وامتثال أحكامها من غلبة هواك واستيلائه بفوران موادّك على القلب ، وقفي على حدّ الاعتدال الذي به قوامه ، ويا سماء العقل المحجوبة بالعادة والحس ، المبثوثة بالوهم ، المغيمة بغيم الهوى التي تمدّ النفس والطبيعة بتهيئة موادها وأسبابها بالفكر أقلعي عن مددها (وَغِيضَ) ماء قوة الطبيعة الجسمانية ومدد الرطوبة الحاجبة لنور الحق ، المانعة للحياة الحقيقية (وَقُضِيَ) أمر الله بإنجاء من نجا وإهلاك من هلك (وَاسْتَوَتْ) أي : استقامت شريعته (عَلَى) جودي وجود نوح واستقرّت (وَقِيلَ بُعْداً) أي : هلاكا (لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الذين كذّبوا بدين الله وعبدوا الهوى مكان الحق ووضعوا طريق الطبيعة مكان الشريعة.

[٤٥] (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥))

(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) حمله شفقة الأبوة وتعطف الرحم والقرابة على طلب نجاته لشدّة تعلقه به واهتمامه بأمره ، وراعى مع ذلك أدب الحضرة وحسن السؤال فقال : (وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ) ولم يقل لا تخلفوعدك بإنجاء أهلي ، وإنما قال ذلك لوجود تلوين وظهور بقية منه إذ فهم من الأهل ذوي القرابة الصورية والرحم الطبيعية وغفل لفرط التأسف على ابنه عن استثنائه تعالى بقوله : (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) (١) ولم يتحقق أنّ ابنه هو الذي سبق عليه القول ولا استعطف ربّه بالاسترحام وعرّض بقوله : (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) إلى أن العالم العادل والحكيم لا يخلف وعده.

__________________

(١) سورة هود ، الآية : ٤٠.