تنخرم منذ حينئذ ، والحمد لله رب العالمين ، قد دخلت الدّاخلة في القصعة والسيف ، حتى لا يقين فيهما عندنا اليوم ، ولو لا تداول الخلفاء للباس البرد أبدا أبدا فنقل أمرها جيلا بعد جيل ، والمنبر كذلك لما قطعنا عليهما ، ولكنّ التداول لهما أمّة بعد أمة وهما قائمان ظاهران للناس ، هو أوجب اليقين بهما ، ورفع الشك فيهما ، وكذلك كل ما جرى هذا المجرى. ثم لم يلبث دين النّصارى أن مات قسطنطين أول من تنصر من ملوك الدنيا ، ثم مات ابنه قسطنطين بن قسطنطين ، وولي ملك ترك النّصرانية ، ورجع إلى عبادة الأوثان إلى أن مات ، ثم ولي رجل من أقارب قسطنطين فرجع إلى النصرانية.
وأمّا ديانة اليهود فما صفت فيها نيات بني إسرائيل ، وموسى عليهالسلام حيّ بين أظهرهم ، وما زالوا مائلين إلى إظهار عبادة الأوثان ، ثم تكذيبهم كلهم بالشريعة ، التي أتاهم بها بعد موته عليهالسلام طبقة بعد طبقة إلى انقطاع دولتهم ، فكيف أن يتبعه غيرهم.؟!!
قال أبو محمّد : وبرهان ضروري لمن تدبّره ، حسّيّ لا محيد عنه ، وهو أنه لا خلاف بين أحد من اليهود والنصارى وسائر الملل في أن بني إسرائيل كانوا في مصر في أشدّ عذاب يمكن أن يكون من ذبح أولادهم ، وتسخيرهم في علم الطوب بالضرب العظيم ، والذّلّ الذي لا يصبر عليه كلب مطلق ، فأتاهم موسى عليهالسلام يدعوهم إلى فراق هذا الأسر الذي قتل النفس أخف منه ، وإلى الحرية ، والملك ، والغلبة والأمن ، ومضمون ممن هو في أقل من تلك الحال أن يسارع إلى كل من طمع على يديه بالفرج ، وإن يستجيب له إلى كل ما دعاه إليه ، وأن أكثر من في هذا البلاء يستجيز عبادة من أخرجه منه لا سيما إلى العز والحرمة ، وكانوا أيضا أهل عسكر مجتمع ، وبني عمّ يمكن منهم التواطؤ ، ثم كانوا أهل بلد صغير جدّا قد تكنّفهم الأعداء من كل جانب.
وأما عيسى عليهالسلام فما اتبعه إلا نحو اثني عشر رجلا معروفين ونساء قليل ، وعدد لا يبلغ جميعهم وفي جملتهم الاثني عشر إلّا مائة وعشرين فقط هكذا في نصّ إنجيلهم ، وكانوا مشردين مطرودين غير ظاهرين ، ولا يقوم بمثل هذا ضرورة يقين العلم.
وأمّا محمّد صلىاللهعليهوسلم : فلا يختلف أحد في شرق الأرض وغربها في أنه عليهالسلام أتى إلى قوم لقاح (١) لا يقرّون بملك ، ولا يطيعون لأحد ولا ينقادون لرئيس ، نشأ على
__________________
(١) انظر الحاشية (١) ص ٣٣٨.