قال تعالى : في خطاب رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَاضْرِبْ لَهُمْ) أي لأولئك المغرورين بالمال والسلطان (مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي صفتها الحقيقية التي لا تختلف عنها بحال (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ (١) السَّماءِ ، فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) فزها وازدهر واخضرّ وأنظر ، فأعجب أصحابه ، وأفرحهم وسرهم ما يأملون منه. وفجأة أتاه أمر الله برياح لاحفة ، محرقة ، (فَأَصْبَحَ (٢) هَشِيماً) أي يابسا متهشما متكسرا (تَذْرُوهُ الرِّياحُ) هنا وهناك (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) أي قادرا كامل القدرة ، فأصبح أهل الدنيا مبلسين آيسين من كل خير.

وقوله تعالى : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) إنه بعد أن ضرب المثل للحياة الدنيا التي غرت أبناءها فأوردتهم موارد الهلاك أخبر بحقيقة أخرى ، يعلم فيها عباده لينتفعوا بها ، وهي أن (الْمالُ وَالْبَنُونَ) أو الأولاد (زِينَةُ الْحَياةِ (٣) الدُّنْيا) لا غير أي يتجمل بهما ساعة ثم يبيدان ويذهبان ، فلا يجوز الاغترار بهما ، بحيث يصبحان همّ الإنسان في هذه الحياة فيصرفانه عن طلب سعادة الآخرة بالإيمان وصالح الأعمال ، هذا جزء الحقيقة في هذه الآية ، والجزء الثاني هو أن (الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) والمراد بها أفعال البر وضروب العبادات ومنها سبحان الله (٤) ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، أي هذه (خَيْرٌ ثَواباً) أي جزاء وثمارا ، يجنيه العبد من الكدح المتواصل في طلب الدنيا مع الإعراض عن طلب الآخرة ، (وَخَيْرٌ أَمَلاً) يأمله الإنسان من الخير ويرجوه ويرغب في تحصيله.

__________________

(١) بعض الحكماء شبّه الحياة الدنيا بالماء للاتصالات الآتية :

١ ـ الماء لا يستقر في موضع والحياة كذلك

٢ ـ الماء يتغيّر والدنيا كذلك.

٣ ـ الماء لا يبقى والدنيا كذلك.

٤ ـ الماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتل والدنيا لا يدخلها أحد ويسلم من فتنها وآفاتها.

٥ ـ الماء إذا كان بقدر كان نافعا منبتا وإذا جاوز المقدار كان ضارا مهلكا وكذلك الدنيا الكفاف منها ينفع وفضولها يضر.

وفي الصحيح (قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنّعه الله بما آتاه) رواه مسلم.

(٢) يقال : هشمه يهشمه إذا كسره وفتّته وهشيم بمعنى : مهشوم فهو فعيل بمعنى مفعول كقتيل بمعنى مقتول ، وهشم الثريد إذا فتته وبه سمي هاشم بن بن مناف وكان اسمه عمرو وفيه يقول عبد الله بن الزبعري :

عمر العلا هشم الثريد لقومه

ورجال مكة مسنتون عجاف

(٣) قيل : في المال والبنين زينة الحياة الدنيا : لأنّ في المال جمالا ونفعا وفي البنين قوة ودفعا والمثل مضروب لحقارة الدنيا وسرعة زوالها ولذا قيل : لا تعقد قلبك مع المال لأنه فيءذاهب ولا مع النساء لأنها اليوم معك وغدا مع غيرك ولا مع السلطان لأنه اليوم لك وغدا لغيرك.

(٤) روى مالك في الموطأ : أن الباقيات الصالحات هنّ : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.