• الفهرس
  • عدد النتائج:

ثم نقل عن الجاحظ (١) في ذلك كلاما منه قوله : والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والقروي والبدوي ، وإنما الشأن في إقامة الوزن ، وتخير اللفظ ، وسهولة المخرج ، وصحة الطّبع ، وكثرة الماء ، وجودة السّبك.

ثم قال : ومعلوم أن سبيل الكلام سبيل التصوير والصّياغة ، وأن سبيل المعنى الذي يعبّر عنه سبيل الشيء الذي يقع التصوير فيه ، كالفضة والذهب يصاغ منهما خاتم أو سوار ، فكما أنه محال ـ إذا أردت النظر في صوغ الخاتم وجودة العمل ورداءته ـ أن تنظر إلى الفضّة الحاملة لتلك الصورة ، أو الذهب الذي وقع فيه ذلك العمل ؛ كذلك محال ـ إذا أردت أن تعرف مكان الفضل والمزيّة في الكلام ـ أن تنظر في مجرد معناه ، وكما (أنّا) لو فضلنا خاتما على خاتم ، بأن تكون فضّة هذا أجود ، أو فصّه أنفس ؛ لم يكن ذلك تفضيلا له من حيث هو خاتم ، كذلك ينبغي إذا فضّلنا بيتا على بيت من أجل معناه ، أن لا يكون ذلك تفضيلا له من حيث هو شعر وكلام.

هذا لفظه ، وهو صريح في أن الكلام ـ من حيث هو كلام ـ لا يوصف بالفضيلة باعتبار شرف معناه ، ولا شك أن الفصاحة من صفاته الفاضلة ، فلا تكون راجعة إلى المعنى ، وقد صرّح فيما سبق بأنها راجعة إلى المعنى دون اللفظ ؛ فالجمع بينهما بما قدمناه ، بحمل كلامه حيث نفى أنها من صفات اللفظ على أنها من صفات المفردات من غير اعتبار التركيب ، وحيث أثبت أنها من صفاته على أنها من صفاتها باعتبار إفادته المعنى عند التركيب.

وللبلاغة طرفان : أعلى إليه تنتهي ، وهو حدّ الإعجاز وما يقرب منه ، وأسفل منه تبتدىء ، وهو ما إذا غيّر الكلام عنه إلى ما هو دونه التحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات وإن كان صحيح الإعراب.

وبين الطرفين مراتب كثيرة متفاوتة.

وإذ قد عرفت معنى البلاغة في الكلام ، وأقسامها ، ومراتبها ؛ فاعلم أنه يتبعها وجوه كثيرة ـ غير راجعة إلى مطابقة مقتضى الحال ، ولا إلى الفصاحة ـ تورث الكلام حسنا وقبولا.

وأما بلاغة المتكلم فهي : ملكة يقتدر بها على تأليف كلام بليغ.

وقد علم بما ذكرنا أمران ، أحدهما : أن كل بليغ ـ كلاما كان أو متكلما ـ فصيح ، وليس كل فصيح بليغا ، الثاني : أن البلاغة في الكلام مرجعها إلى الاحتراز عن الخطأ

__________________

(١) الجاحظ : تقدمت ترجمته.