فلسفة الحج في الإسلام

الشيخ حسن طراد

فلسفة الحج في الإسلام

المؤلف:

الشيخ حسن طراد


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

الحفظ والحراسة برحمتك يا أرحم الراحمين بحق محمد وآله الطاهرين (١) .

٧ ـ ومنها : استحباب أن يفتتح سفره بالصدقة قائلاً :

اللهم إني اشتريت بهذه الصدقة سلامتي وسلامة ما معي اللهم احفظني واحفظ ما معي وسلمني وسلم ما معي وبلغني وبلغ ما معي ببلاغك الحسن الجميل .

٨ ـ ومنها : استحباب إعلام اخوانه وجيرانه بسفره فعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حق على المسلم إذا أراد سفراً أن يعلم إخوانه وحق على إخوانه إذا قدم أن يأتوه (٢) .

وبمناسبة ذكر هذا المستحب أحب أن أذكر نصيحة وتنبيهاً يتعلق بما جرت العادة عليه لدى الكثيرين عندما يعزمون على السفر ـ من طلب أحدهم المسامحة ممن كان قد ذكره بسوء أو صدر منه عمل مضر به وهو غير مطلع عليه .

والنصيحة الأخوية التي أحب تقديمها في هذا المجال هي ترجيح ترك طلب المسامحة من ذلك إذا لم يكن الشخص الآخر مسبوقاً به بل يكفيه الاقتصار على الاستغفار له ولنفسه والتوبة لله سبحانه من تلك الخطيئة وذلك لأن إخباره بما صدر منه ضده من قول مثير أو عمل مضر يبعث في نفس الطرف المقابل الانفعال منه وقد يؤدي إلى العداوة

__________________

(١) هذا الدعاء وما تقدمه من الأدعية مأخوذ من الجزء الأول من مفتاح الجنات للمرحوم الأمين ( رحمه‌الله ) .

(٢) من كتاب تحفة الحاج للشيخ هادي الساعدي صفحة ٣٣ والمنقول عنه هو المستحبان ٧ و ٨ .

٦١
 &

والبغضاء والله سبحانه لم يحرم نقل الكلام المثير من شخص إلى مَن قيل في حقه ـ وهو المسمى بالنميمة إلا لأنه يؤدي إلى الخصومة والشحناء مع أن الملحوظ في الغالب عدم حصول المسامحة المطلوبة وإن حصلت فباللسان فقط خجلاً لا من القلب سماحاً وتسامحاً ـ وقد يصرح بعضهم بعدم المسامحة مع إعلان الموقف السلبي ضد من ذكره بسوء أو سبب له ضرراً مادياً أو معنوياً وغفلة الكثيرين عن هذه النتيجة السلبية واعتقادهم بلزوم طلب المسامحة هو الذي يوقعهم في المحذور المذكور ولذلك اقتضت المصلحة التنبيه على مرجوحية العادة المذكورة ورجحان تبديلها بالاستغفار فهي كفارة للذاكر بالسوء أو مسبب الضرر لغيره كما أنها دعاء لذلك الغير بالمغفرة والرضوان .

٩ ـ ويستحب للمسافر أن يدعو بما يلي :

اللهم افتح لي في وجهي بخير واختم لي بخير وأعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما ذرأ ومن شر ما برأ ومن شر كل دابة هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ـ اللهم خل سبيلنا وأحسن سيرنا وأعظم غايتنا . فإذا وضع رجله في الركاب أو في العربة أو نحوها فليقل :

بسم الله الرحمن الرحيم : بسم الله وبالله والله أكبر ثم يقول : سبحان الله سبعاً ولا إله إلا الله سبعاً الحمد لله سبعاً فإذا علا الدابة أو نحوها فليقل :

الحمد لله الذي كرمنا وحملنا في البر والبحر ورزقنا من الطيبات وفضلنا على كثير من خلقه تفضيلاً سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون والحمد لله رب العالمين .

٦٢
 &

الحمد لله الذي هدانا للإسلام وعلمنا القرآن ومنَّ علينا بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

١٠ ـ ويستحب للمسافر أن يقول وهو سائر : اللهم خل سبيلنا وأحسن مسيرنا وأحسن عاقبتنا ـ وأن يكثر من التكبير والتحميد والاستغفار .

١١ ـ ويستحب تشييع المسافر وتوديعه والدعاء له وأن يُقرأ في أذنه قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ ) (١) إن شاء الله ، ثم يقول : سر على بركة الله (٢) .

١٢ ـ ويُستحب أيضاً الدعاء التالي للمسافر وغيره ويتأكد في حق الأول وهو المروي عن الإمام زين العابدين حيث رُوي عنه قوله عليه‌السلام :

لا أبالي إذا قلتُ هذه الكلمات أن لو اجتمع علي الجن والإنس وهي بسم الله وبالله ومن الله وإلى الله وفي سبيل الله اللهم إني إليك أسلمتُ نفسي وإليك وجهت وجهي وإليك فوضت أمري فاحفظني بحفظ الإيمان من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومِن فوقي ومن تحتي وادفع عني بحولك وقوتك فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

١٣ ـ وذكر في المفاتيح أنه يستحب للمسافر في طريق الحج أن يساعد أصحابه في السفر ولا يُحجم عن السعي في حوائجهم كي ينفس الله عنه ثلاثاً وسبعين كربة ويجيره في الدنيا من الهم والغم ويُنفس كربه العظيم يوم القيامة .

وروي أن الإمام زين العابدين كان لا يسافر إلا مع رفقة لا يعرفونه ليخدمهم في الطريق لأنهم لو عرفوه لمنعوه من ذلك .

__________________

(١) سورة القصص : الآية : ٨٥ .

(٢) هذا الدعاء والسابق عليه منقول عن مفتاح الجنات ، ج ١ ص ٢٤٧ .

٦٣
 &

ومن الأخلاق الكريمة للرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه كان مع صحابته في بعض الأسفار فأرادوا ذبح شاة يقتاتون بها فقال أحدهم علي ذبحها وقال آخر علي سلخ جلدها وقال ثالث علي طبخها فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا علي الاحتطاب فقالوا يا رسول الله نحن نعمل ذلك فأجاب أنا أعلم أنكم تعملونه ولكن لا يسرني أن أمتاز عليكم إن الله يكره أن يرى عبده قد فضل نفسه على أصحابه .

١٤ ـ ومن المستحبات المطلقة للمسافر وخصوصاً مع رفاقه في طريق سفره وعلى الأخص إذا كان لزيارة بيت الله الحرام ـ أن يحسن أخلاقه وأن يتزين بالحلم .

١٥ ـ ويستحب للمسافر إذا أشرف على قرية يريد دخولها أن يدعو بما يلي :

اللهم ربَّ السموات السبع وما أظلت ورب الأرضين السبع وما أقلت ورب الشياطين وما أضلت ورب الرياح وما ذرت ورب البحار وما جرت : إني أسألك خير هذه القرية وخير ما فيها وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها ـ اللهم يسر لي ما كان فيها من خير ووفق لي ما كان فيها من يسر وأعني على حاجتي يا قاضي الحاجات ويا مجيب الدعوات أدخلني مُدخل صدق وأخرجني مُخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً .

وإذا خاف سبُعاً أو هامة من هوام الأرض أو غير ذلك فليقل في ذلك المكان :

يا ذاريء ما في الأرض كلها بعلمه بعلمك يكون ما يكون مما ذرأت ـ لك السلطان على ما ذرأت ولك السلطان القاهر على كل شيء من كل شيء يضر من سبع أو هامة أو عارض من سائر الدواب بفطرته إدرأها عني

٦٤
 &

واحجزها ولا تسلطها علي واحفظني من شرها وبأسها يا ألله يا ذا العلم العظيم حُطني واحفظني بحفظك من مخاوفي يا رحيم . فإذا قال ذلك لا تضره دواب الأرض التي تُرى والتي لا تُرى إنشاء الله تعالى .

ومن خاف كيد الأعداء واللصوص فليقل في ذلك المكان الذي خاف ذلك فيه : يا أَخذاً بنواصي خلقه والشافع بها إلى قدرته والمنفذ فيها حكمه وخالقها وجاعل قضائه لها غالباً وكلهم ضعيف عند غلبته وثقتُ بك سيدي عند قوتهم إني مكيد لضعفي ولقوتك على من كادني تعرضتُ فسلمني منهم .

اللهم إن حلتَ بيني وبينهم فذلك أرجوه منك وإن أسلمتني إليهم غيروا ما بي من نعمك يا خير المنعمين صلى على محمد وآل محمد ولا تجعل تغيير نعمك على يد أحد سواك ولا تغير أنتَ ما بي فقد ترى الذي يُراد بي فحُل بيني وبين شرهم بحق من تستجيب الدعاء به يا الله رب العالمين .

فإذا قال ذلك نصره الله على أعدائه . ومن كان غائباً وأراد أن يؤديه الله سالماً مع قضاء حاجته فليقل في غربته : يا جامعاً بين أهل الجنة على تأۤلف وشدة تواجد في المحبة ويا جامعاً بين طاعته وبين من خلقه لها ويا مفرجاً عن كل محزون ويا موئل كل غريب ويا راحمي في غربتي بحسن الحفظ والكلاءة والمعونة لي ويا مفرج ما بي من الضيق والحزن بالجمع بيني وبين أحبتي ويا مؤلفاً بين الأحباء لا تفجعني بانقطاع أوبة أهلي وولدي عني ولا تفجع أهلي بانقطاع أوبتي عنهم بكل مسائلك أدعوك فاستجب لي فذلك دعائي فارحمني يا أرحم الراحمين .

وإذا نزل في منزل فليقل :

٦٥
 &

رب أنزلني منزلاً مُباركاً وأنت خير المنزلين ثم يصلي ركعتين ويقول : اللهم احفظني واكلأني وليودع الموضع وأهله فإن لكل موضع أهلاً من الملائكة فيقول :

السلام على ملائكة الله الحافظين السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ورحمة الله وبركاته (١) .

والمستحب الأهم الذي يتمم غيره من مستحبات المسافر وغيره من المنطلقين في درب الرسالة هو ما روي عن الإمام الصادق من قوله عليه‌السلام : ما يُعبأ بمن يؤم هذا البيت إذا لم تكن فيه ثلاث خصال خُلُقٌ يخالق به من صحبه وحلم يملك به غضبه وورع يحجزه عن معاصي الله تعالى .

وهذه الخصال الثلاث وإن كانت ثوباً معنوياً يحتاج المؤمن لأن يتجمل به في كل زمان ومكان ومع أي إنسان كما يحتاج لأن يتجمل بالثوب المادي في أغلب الأحوال ـ إلا أن الحاجة إلى التجمل بها تكون أشد وأمسَّ بالنسبة إلى من يسافر في طريق زيارة بيت الله الحرام وذلك بسبب بعد المسافة وزيادة المشقة التي يعاني منها أكثر المسافرين مع الصعوبة الذاتية الحاصلة لمن يؤدي مناسك الحج وخصوصاً في حالي الرمي والطواف نتيجة الازدحام الشديد .

كل هذه الخصوصيات تجعل المسافر في هذا السبيل على حالة استثنائية صعبة جداً تسبب له ضيقاً في صدره وسرعة انفعال لأي حادث يحصل على خلاف طبعه . وهنا يأتي دور حسن الخلق الذي يدفع صاحبه لأن يعاشرَ من صحبه في طريق الحج أو غيره بالمجاملة والمعروف فلا

__________________

(١) مفتاح الجنات للسيد الأمين ( رحمه‌الله ) ج ١ ص ٢٥٠ .

٦٦
 &

يصدر منه تصرف بالقول أو بالفعل يكون مثيراً لعاطفة غيره ـ وإذا صدرت من الغير ما يثير بطبعه فهو يقابله برحابه صدر وقوة صبر انطلاقاً من قوله تعالى :

( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (١) .

وحيث أن المسافر في طريق الحج يُعتبر في واقعه مسافراً إلى دار رحمة الله ومغفرته ليكفر سيئاته ويضاعف حسناته . والمتوقع ممن يكون سفره لهذه الغاية ـ أن يكون على حالة انقطاع لله سبحانه بالتوبة والإنابة إليه سبحانه بالاستقامة في خط التقوى والبعد عن كل ما يبعده عن رحمة الله ومغفرته وذلك يتمثل بالتجمل بالخصال الثلاث المذكورة .

فحسن الخلق يدعوه لأن يجامل الآخرين فلا يصدر منه ما يثيرهم وإذا صدر منهم ما يثيره عالجه بالحلم والصبر الجميل وإذا دفعته نفسه لأن يميل مع الهوى يميناً أو شمالاً تأتي صفة الورع لتمنعه من الانحراف وتثبت قدميه على صراط الحق القويم ونهجه المستقيم .

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٣٤ .

٦٧
 &

الحج رحلة فكرية وروحية من عالم المادة إلى عالم العبودية الخالصة

إن التدبر الواعي والتأمل الموضوعي في الغاية السامية التي شرعت العبادات من أجلها يوحي للمتدبر فيها بأنّها عبارة عن التجرد من القيم المادية الوضيعة تمهيداً للانطلاق والتحليق إلى سماء الفضيلة الرفيعة .

وذلك لأن الإنسان بحكم تركبه من عنصر المادة الثقيلة وعنصر الروح الخفيفة الشفافة وبحكم تأثره بالماديات المحسوسة وانشداده إليها وانجذابه نحوها بدافع الغريزة البشرية ـ تشده جاذبية المادة إلى الأسفل وربما تهبط به إلى سفح الحيوانية ليعيش مع فصائلها بغرائزه الضاغطة ويصبح شبيهاً بها بتصرفاته المادية وحركاته الغريزية بل قد يمسي أضل منها سبيلاً وأحط شأناً كما صرح الله سبحانه بقوله تعالى :

( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) (١) .

لهذا وذاك شاءت الحكمة الإلهية والعناية السماوية أن ترسم لهذا

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ١٧٩ .

٦٨
 &

الإنسان مناهج عبادية وتعاليم أخلاقية تساهم في التخفيف من ثقل المادة وضغط الطين على روحه لتستطيع التحليق في آفاق الكمال الإنساني وتحقق الغاية التي خلق الله الكون من أجلها وأوجد الإنسان بصورة خاصة ليحققها وهي استقامته في خط العبودية الخالصة المخلصة التي تثمر له السعادة في الدنيا والآخرة .

وبذلك يظهر السر في اشتراط صحة تلك العبادات بقصد التقرب بها لله وحده حين الاتيان بها لأنها بذلك تشد الروح إلى مصدرها والنفس إلى بارئها بسلك التقوى فتصفو وتعلو وتتحلل من قيود المادة التي تشدها إلى الأرض وتمنعها من الانطلاق والتحليق إلى سماء الفضيلة والكمال كما أراد الله تعالى .

ويتجلى ذلك بوضوح في تأدية فريضة الصلاة بتجرد وإخلاص وجوباً خمس مرات في اليوم واستحباباً بلا تحديد وبذلك كانت عموداً للدين ومعراجاً لروح المؤمن وشبيهة بالحوض الذي يكون في دار الإنسان ويغتسل به خمس مرات في اليوم فلا يبقى على بدنه شيء من الأدران المادية والأوساخ الجسمية كذلك إذا أدى الصلاة خمس مرات في اليوم فلا يبقى على روحه ونفسه شيء من أوساخ الذنوب والخطايا .

وتأتي فريضة الحج لتقوم بنفس الدور الذي تؤديه الصلاة رغم وجوبها مرة واحدة في العمر كما تؤدي دور الصيام بما اشتملت عليه من تروك الإحرام ـ ودور الفريضة المالية كالخمس والزكاة لما تقتضيه من صرف المال في سبيل تأديتها ـ أي تأدية فريضة الحج ـ .

وذلك لأن عامل الكيف الذي تميزت به فريضة الحج عن غيرها من العبادات بسبب تعرض مؤديها للمشقة الشديدة الناشئة من طي المسافة

٦٩
 &

البعيدة كما هو الحاصل للكثيرين من الحجاج ـ ومن الازدحام المجهد وخصوصاً في حالي الطواف والرمي ، الأمر الذي يؤدي إلى إصابة بعضهم بعارض صحي أو لضياع وغرق في بحر الجموع المحتشدة في أماكن تأدية المناسك المقدسة .

أجل : إن عامل الكيف المتميز بالصعوبة والخطورة في فريضة الحج يقوم مقام الكثرة والزيادة في الكم الموجودة في الصلاة والصيام بلحاظ ترتب الأثر التربوي والتعبدي عليها بالدرجة المقاربة لما يترتب عليهما من ذلك . وهذا ما يسبب صعوبة فراق المسافر في هذا الطريق وتوديعه أقاربه وأصدقاءه بدموع سائلة وعواطف ملتهبة بحرارة الحذر والخوف من المصير المؤلم المظلم الذي يترقبه كل واحد من المسافرين في طريق هذه الفريضة المباركة .

أجل : إن هذا العامل الكيفي يمثل دور العامل الكمي الذي تميزت به فريضة الصلاة عن غيرها من الفرائض ولذلك تترتب على تأدية فريضة الحج آثار ومعطيات إيجابية بالنسبة إلى أكثر الحجاج قلما تترتب على تأدية سائر الفرائض العبادية وأبرز تلك الآثار حصول الخوف الشديد من الوفاة بسبب ما يتعرض له المسافر في سبيل هذه الفريضة من الأخطار الكثيرة والكبيرة حتى كأنه مسافر إلى ساحة الحرب والجهاد وهذا يكون سبباً قوياً لتوبته إلى ربه وتراجعه عما كان عليه من أخطاء وانحراف عن جادة التقوى .

وينتج من هذا وذاك محاسبته لنفسه وإيصاؤه بتأدية ما فاته من صلاة وصوم ونحوهما وما ثبت في ذمته من حقوق مالية للآخرين كما يتنبه لوجوب تعيين رأس سنة له مقدمة لتأدية ما يجب عليه من الخمس في المستقبل مع عزمه على تأدية ما وجب عليه سابقاً من هذا الحق بعد

٧٠
 &

تسجيله ديناً عليه في الوصية ـ والبعض يتوفق لتطهير نفسه وتخليص ماله مما تعلق به من الحق الشرعي فعلاً وقبل سفره خوفاً من عدم تحقق ذلك في المستقبل بسبب وفاته وتقصير ورثته في إبراء ذمته بتنفيذ وصيته كما حصل للكثيرين ممن انخدعوا بسراب الأمل وتركوا أمر تخليصهم إلى غيرهم واتفق حصول التقصير في حقهم كما قصروا هم في حق أنفسهم ولم يعملوا بالنصيحة التي قدمها الشاعر الحكيم بقوله :

ما حك جسمك غيرُ ظفرك

فتول أنت جميع أمرك

كما لم يتنبهوا لقول الشاعر الآخر :

إذا أنت لم تعرف لنفـسك حقها

هواناً بها كانت على الناس أهونا

أجل : إن الانطلاق في طريق تأدية فريضة الحج المربية يعتبر في واقعه رحلةً فكريةً وروحيةً قبل أن يكون رحلة مادية جسمية تتمثل بتحرك الشخص جسمياً في سبيل تأدية هذا الواجب المقدس والرحلة الأولى هي المتممة للثانية حيث يشترك في تأدية الواجب الإلهي كل كيان الإنسان بكلا عنصريه المادي والمعنوي كما يشترك ذلك منه في مقام تأدية الصلاة والصيام والجهاد ونحوهما من الواجبات الإلهية .

وبذلك يتحقق الهدف المنشود من تشريعها وهو تحليق النفس البشرية بكلا جناحيها المادي والمعنوي في سماء الفضيلة والكمال لوضوح أن هذا التحليق والصعود إلى سماء الرفعة والسمو لا يكون بجناح المادة وحده كما أن الطير لا يتمكن من الطيران بجناح واحد ومن أجل توضيح كيفية حصول الرحلة الفكرية والروحية من الإنسان المسلم عندما ينطلق في طريق تأدية فريضة الحج مضافاً إلى رحلته الجسمية المادية أقول :

٧١
 &

إن رحلته الفكرية تتمثل بتحرك الفكر وانتقاله من حالٍ بعيدةٍ عن هدف إيجاده وغاية خلقه كتفكيره في المصالح والمنافع المادية الدنيوية وسعيه في سبيل تحصيلها بأية وسيلة كانت ولو كانت محرمة تحطم كيانه معنوياً وتسبب له البؤس والشقاء في الدنيا والآخرة .

إلى حالة أخرى معاكسة تتمثل بتفكيره الجاد الحالي بمصيره الأخروي وأنه السعادة الخالدة الكاملة في جوار الله سبحانه بعد مفارقته هذه الحياة ـ إن سلك طريق التقوى وفعل ما أُمر به وترك ما نُهي عنه ـ أو الشقاء الدائم والعذاب المستمر في الدار الأخرى إن انحرف عن نهج الاستقامة وترك واجباً وفعل حراماً .

أجل : إن رحلة الإنسان المسلم وانطلاقه في طريق تأدية فريضة الحج أو عزمه على الانطلاق بجسمه يؤدي إلى رحلته الفكرية وتحوله من التفكير والاهتمام بما يضره ويحطمه مادياً ومعنوياً إلى حالة التفكير فيما ينفع ويرفع في الدنيا والآخرة .

ثم يترتب على هذا التحول والحركة الفكرية والروحية المعنوية الداخلية ـ تحرك الجسم والروح معاً في طريق تحقيق غاية إيجاده في هذه الحياة وهي إطاعة الله وعبادته وحده لا شريك له لتثمر له هذه العبادة السعادة في الدنيا والآخرة كما يُستوحى ذلك من قوله تعالى :

( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ) (١) .

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ٩٦ .

٧٢
 &

وقوله تعالى : ( وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا ) (١) .

وقوله سبحانه :

( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ) (٢) .

وبما ذكرنا ندرك أن حركة الإنسان الجسمية في طريق تأدية فريضة الحج لا بد أن تكون مسبوقة بحركته الفكرية ومن حالة التحلل وعدم التقيد نفسياً بالشعائر الدينية ـ إلى حالة العزم والإقدام على الالتزام النفسي المثمر للتحرك العملي بالروح والجسم معاً . وبذلك تكون حركته العبادية كاملة ومشيةً مستقيمة في طريق العبودية تساعده على إدراك الغاية المقصودة من تشريع هذه الفريضة كما تساعده على تحقيق الغاية المنشودة من تشريع سائر العبادات .

وهي تحصيل ملكة العبودية التي تضبط تصرفات المكلف وتحصرها في إطار الشرع وخط التقوى والاستقامة .

وعدم تحرك الروح الطاهرة والنفس المطمئنة مع الجسم حين ممارسة الشعائر الدينية هو الذي سبب نقصها وعدم ترتب غايتها عليها وهي التقوى كما تقدم على ضوء بعض الآيات الكريمة المنبهة لذلك .

منها قوله تعالى بالنسبة إلى فريضة الصوم :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (٣) .

وقوله تعالى بالنسبة إلى فريضة الصلاة :

__________________

(١) سورة الجن ، الآية : ١٦ .

(٢) سورة الطلاق ، الآيتان : ٢ و ٣ .

(٣) سورة البقرة ، الآية : ١٨٣ .

٧٣
 &

( إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ) (١) .

وقوله سبحانه بالنسبة إلى بعض شعائر الحج وهو الهدي الذي يجب على من كانت فريضته حج التمتع :

( لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ) (٢) .

وحيث أن الشريعة الإسلامية بصورة عامة والعبادات منها بصورة خاصة لا تترتب عليها آثارها في حياة الإنسان فرداً ومجتمعاً إلا بعد الإيمان بأصول موضوعية وصفات واقعية لازمة لها ـ اقتضت المصلحة الإشارة إليها والتنبيه عليها باختصار فأقول :

المراد بالأصول الموضوعية أصول الدين المعهودة كما أن المراد بالصفات الواقعية الصفات الثبوتية اللازمة لذات الله تعالى وهي مستلزمة للصفات السلبية المنافية لكماله المطلق فاتصافه سبحانه بالعلم مستلزم لانتفاء اتصافه بالجهل كما أن اتصافه بالعدل مستلزم لانتفاء اتصافه بالظلم وهكذا وسيظهر من خلال الحديث أن المراد بالصفات المذكورة ما يشمل بعض أصول الدين كصفتي الوحدانية والعدل وهي كثيرة .

منها كونه مصدر التشريع كما أنه مصدر الخلق والإيجاد وحده لا شريك له وقد صرح الله سبحانه بذلك بقوله :

( أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ) (٣) .

باعتبار أن المراد بالأمر التشريع في مقابل الخلق ـ وتقديم الخبر في هذه الآية وهو الجار والمجرور ـ على المبتدأ وهو الخلق وما عطف عليه

__________________

(١) سورة العنكبوت ، الآية : ٤٥ .

(٢) سورة الحج ، الآية : ٣٧ .

(٣) سورة الأعراف ، الآية : ٥٤ .

٧٤
 &

يفيد الحصر وانحصار الخالقية والتشريع بذاته تعالى .

ومنها كونه عادلاً لأن ذلك من لوازم كماله المطلق ويؤكد اتصافه به لزوم اتصافه بالظلم لو تجرد عنه ـ أي عن العدل وذلك أبعد ما يكون عن ساحة كماله وجلاله تعالى وخصوصاً بعد ملاحظة نفيه عنه بصريح أكثر من آية .

منها قوله تعالى : ( وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (١) .

وقوله تعالى : ( وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ ) (٢) .

وقوله سبحانه : ( ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ) (٣) .

وينتج عن الإيمان بعدالته سبحانه واستحالة اتصافه بالظلم الإيمان بعدم تكليفه الإنسان فوق طاقته وقد صرح سبحانه بهذه الحقيقة الإيمانية بقوله تعالى ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ) (٤) .

ومن صفاته الكمالية كونه عليماً بكل شيء وقادراً على كل شيء وغنياً عن كل شيء ويحتاج إليه كل شيء وقد صرح الله سبحانه باتصافه بهذه الصفات الحميدة في العديد من آيات كتابه المجيد .

ومنها كونه حكيماً لا يخلق شيئاً بدون غاية وهدف ولا يشرع حكماً إلا لمصلحة وفائدة كما في موارد الواجبات والمستحبات أو لدفع مفسدة ومضرة كما في موارد المحرمات والمكروهات .

__________________

(١) سورة النحل ، الآية : ١١٨ .

(٢) سورة غافر ، الآية : ٣١ .

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ١٨٢ .

(٤) سورة البقرة ، الآية : ٢٨٦ .

٧٥
 &

وتختلف حكمة الخلق والتشريع بالوضوح والخفاء باختلاف نوع المخلوقات والتشريعات فهناك مخلوقات واضحة الحكمة وجلية الفائدة مثل خلق الشمس والقمر والماء والهواء والأرض والسماء ونحو هذا من المخلوقات الكونية التي يتوقف عليها نظام الحياة والأحياء وهناك مخلوقات خفية الحكمة وغير واضحة الغاية مثل الحيات والعقارب والذباب والنمل وكل الحشرات التي يحصل منها الضرر الواضح ولا يظهر للكثير من الناس نفع ظاهر من وجودها .

ومثلها الحوادث الكونية كالزلازل والبراكين والطوفان ونحوها من الحوادث الطبيعية معلومة الضرر ومجهولة النفع .

وفي مقابل هذه المخلوقات والحوادث الطبيعية التشريعات الدينية فهي كالأولى من حيث صدورها من الإله الحكيم ومن حيث ظهور الحكمة وخفائها فمن التشريعات واضحة الحكمة والمصلحة وجوب طلب العلم عيناً أو كفاية بالنسبة إلى الكثير من الأحكام الشرعية التي يحصل بها الإنسان الفرد والمجتمع ـ الكثير من المنافع ويسلم من الكثير من المضار في الدنيا والآخرة .

وكذلك بالنسبة إلى العلوم الحياتية التي يتوقف عليها نظام الحياة واستقرار وضع المجتمع مثل علم الطب والهندسة والكثير من الحرف والمهن .

وأما التفقه في الدين بالنسبة إلى الكثير من الأحكام الشرعية التي يتم بها ويتوقف عليها نظام الدين والدنيا فالحكمة فيه أوضح من أن توضح ويدخل فيه وخصوصاً في هذه الأيام تعلم فنون الحرب وكيفية استعمال الأسلحة المتطورة من أجل الدفاع عن الوطن والدين والمجتمع وكرامة

٧٦
 &

الإنسان وعزته . لذلك أمر الله به بصريح قوله تعالى :

( وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ) (١) .

ويدخل في إطار التشريعات واضحة الحكمة ـ وجوب الخمس والزكاة ووجوب العدل واستحباب التصدق وإغاثة الملهوف ومساعدة الفقير وحرمة الظلم وأما فريضتا الصوم والصلاة فقد أصبحتا واضحتي الحكمة والمنفعة على ضوء ما كتب حولهما من المؤلفات والأبحاث التي شرحت أسرار العبادات وفوائدها وقد بينت الكثير من فوائد الصوم ومنافعه المادية والروحية في الجزء الثاني من وحي الإسلام حول فلسفة الصيام .

وكذلك فريضة الحج فقد أصبحت الحكمة المقصودة من تشريع وجوبها جلية بصورة عامة وبلحاظ أصل التشريع نظراً لما يترتب على تأديتها من فوائد كثيرة ومنافع عديدة أشار الله سبحانه إليها بقوله :

( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ) (٢) .

إلا أن الكثير من شعائر هذه الفريضة المقدسة لا يزال محاطاً بالغموض الأمر الذي قد يسبب التقليل من أهميتها في نظر الكثيرين من المكلفين الذين لم يتعمق في قلوبهم الإيمان بحكمة الله سبحانه وأنه لا يشرع حكماً ولا يخلق شيئاً إلا لحكمة ومصلحة ـ وعدم معرفتنا بها واطلاعنا عليها لا يكشف عن انتفائها وعدم وجودها في لوح الواقع .

__________________

(١) سورة الأنفال ، الآية : ٦٠ .

(٢) سورة الحج ، الآيتان : ٢٧ و ٢٨ .

٧٧
 &

والشعائر الواجبة في الحج التي كانت ولا تزال محاطة بشيء من الغموض كثيرة .

منها : الإحرام وتقييده بكونه من ميقات معين بالنسبة إلى كل شخص أو جماعة تأتي من مصرها إلى مكة المكرمة حيث قيد إحرامها بالميقات الواقع في طريقها إلى بيت الله الحرام ولا يسمح لأي فرد منهم بعقد الإحرام من مكان آخر سابق عليه أو متأخر عنه إلا للضرورة على تفصيل مذكور في محله من مناسك الحج .

ومنها : التجرد من الثوب المخيط بالنسبة إلى الرجل وارتداء ثوبي الاحرام المشروطين بنوعية معينة مع اشتراط ارتدائهما بكيفية خاصة وكذلك الأمر بالنسبة إلى الطواف وقيوده من حيث كمية أشواطه ومكان ابتدائه وانتهائه وكيفية الإتيان به .

ونفس الشيء يقال في السعي وعدد أشواطه وقيود أمتثاله من حيث البداية والنهاية وتزداد الغرابة والحيرة في استحباب الهرولة التي يخرج بها الحاج عن وقاره وهيبته ويقرب منها في الغرابة والاستغراب الرمي والذبح في هذه الأيام التي تحرق فيها الذبائح أو تدفن ولا يترتب على ذبحها أي أثر إيجابي في حق الحاج نفسه أو في حق غيره .

وحيث أن خفاء الحكمة وعدم ظهورها في تشريع الأحكام قد يسبب التشكيك في الحكمة الإلهية والتسامح في تأدية الوظيفة الشرعية من قبل الكثيرين الذين لم يتوفقوا لتحصيل العقيدة الراسخة والإيمان الجازم بعدالة الله وحكمته .

فقد مست الحاجة واقتضت المصلحة القوية أن يُكشف النقاب عن وجه الحكمة والسر في تشريع الأحكام قدر الإمكان ولو على وجه

٧٨
 &

الإيجاز ، وتقوى الحاجة لذلك بقدر ما يكون الغموض شديداً والخفاء عميقاً كما هو الملحوظ بالنسبة إلى الكثير من شعائر الحج .

وسأحاول جاهداً كشف الحيرة وترسيخ الثقة بعدالة الله سبحانه وحكمته وبيان أن عدم وضوح الحكمة في بعض الموارد لا يقتضي التشكيك في واقعيتها وربما كانت هناك حكمة اقتضت إخفاء السر والحكمة الداعية للتشريع من أجل تقوية روح العبودية عند المكلف ليكون انطلاقه في طريق الامتثال والقيام بوظيفة العبودية لمجرد صدور التكليف الإلهي بذلك بقطع النظر عن حكمة هذا التشريع التي كانت السبب الداعي لصدوره من المولى الحكيم سبحانه وتعالى وخلاصة هذا البيان الذي قدمته تمهيداً للدخول في الحديث حول السر والحكمة التي انطلق التشريع منها .

هي أن المطلوب من المكلف الذي عزم على الانطلاق في طريق تأدية فريضة الحج المباركة ـ هو أن يكون مؤمناً عن وعي واقتناع بأصول الدين المعهودة وما يتفرع عنها ويلزمها من الصفات الكمالية والجلالية اللازمة لكماله المطلق .

ومن أبرزها علمه بحقيقة الإنسان من حيث الخلق والطبيعة لأنه خالقه ومبدعُه ولذلك يعلم ما ينفعه ويصلحه ويصلح له من النظام والشريعة وعلى هذا الأساس يكون كل تشريع يضعه الله للإنسان ـ منطلقاً من حكمة ترتبط به وتعود إليه بمقتضى كونه حكيماً لا يشرع بدون هدف وغاية حكيمة وحيث أنه غني بالغنى المطلق الذي يقتضي استغناءه عن كل شيء واحتياج كل شيء إليه ـ يتعين رجوع الحكمة المتمثلة بحصول المصلحة ودفع المفسدة إلى الإنسان الذي وضعت الشريعة من أجله .

٧٩
 &

وقد مرت الإشارة إلى أن هذه الحكمة تختلف بالوضوح والخفاء باختلاف الموارد والتشريعات فقد تكون واضحة جلية في بعضها وخفيةً في بعضها الآخر .

كما أن محل ترتبها مرة يكون عمل المكلف وامتثاله الحكم الشرعي بالفعل أو الترك كما هو الغالب في الأحكام المجعولة .

وقد يكون نفس الجعل وأصل صدور التشريع من المولى بحيث يترتب الغرض المقصود منه بمجرد صدوره عنه سبحانه وإن لم يحصل عمل وامتثال من المكلف خارجاً وذلك هو دور الأحكام الامتحانية التي صدرت من المولى بقصد امتحان المكلف وإظهار واقع إيمانه ودرجة التزامه بالوظيفة الشرعية .

وإنما عبرت بكلمة الإظهار بدل كلمة الظهور بلحاظ أن الامتحان الصادر من المولى لعبيده لا يكون بقصد ظهور حالهم له بعد خفائه عنه لما هو المعلوم بالوجدان الإيماني من كونه سبحانه عالماً بكل شيء وإنما يكون امتحانه لهم بقصد إظهار واقعهم وكشفه للآخرين وربما يكون بقصد كشفه لأنفسهم أيضاً بالنسبة إلى البعض الذين يعتقدون بإدراكهم الدرجة الرفيعة من الإيمان والالتزام في الظروف الطبيعية ويترجمون هذا بإبداء الاهتمام بالشعائر الدينية حتى إذا تغيرت الأوضاع وتبدل الرخاء بالشدة والهدوء والسلام بالحرب والآلام .

ظهروا على واقعهم وتبين أن التزامهم بخط الدين كان التزام تجارة وتعامل كسب وربح مادي دنيوي ـ بدليل تبدل موقفهم وتغير تصرفهم من الاستقامة إلى الانحراف عن منهج التقوى بالسلوك والممارسة ليكونوا بهذا وذاك مصداقاً لقوله تعالى :

٨٠