فلسفة الحج في الإسلام

الشيخ حسن طراد

فلسفة الحج في الإسلام

المؤلف:

الشيخ حسن طراد


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

( إلهي ما عبدتُكَ خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك ولكني وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك ) .

هذا ومن المناسب لجو هذا الحديث التنبيه على الوسيلة التي تساعد الإنسان المؤمن على تصفية نيته وتحصيله الإخلاص في عبادته وبعد هذا يترجح ذكر بعض القصص التاريخية المعبرة عن مدى تأثير النية ودورها الإيجابي أو السلبي في نتيجة العمل أو في بعض الحوادث الطارئة بمعزل عن العمل والتصرف الخارجي بحيث تكون النية بوجودها النفسي سبباً لحصول بعض النتائج الإيجابية أو السلبية بالتقدير الإلهي والعدل السماوي فأقول :

إن الوسيلة المساعدة على تصفية النية من الشوائب المنافية للإخلاص فيها هو التفكر في النتائج السلبية المترتبة عليها أي على الشوائب وخصوصاً الرياء منها فهو يسبب خسارة ثواب الإخلاص في العمل مضافاً إلى العقاب الشديد الذي يتعرض له المرائي على ضوء الآيات والروايات الواردة في ذمه واستحقاق العقوبة عليه .

قال سبحانه : ( فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ﴿٤﴾ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ﴿٥﴾ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ ﴿٦﴾ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ﴿٧﴾ ) (١) .

وقال تعالى : ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ) (٢) .

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله :

إن النار وأهلها يضجون من أهل الرياء فقيل : يا رسول الله فكيف

__________________

(١) سورة الماعون ، الآيات : ٤ و ٥ و ٦ و ٧ .

(٢) سورة النساء ، الآية : ١٤٢ .

٢١
 &

تضج النار ؟ قال : من حر النار التي يعذبون بها (١) .

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : المرائي يوم القيامة يُنادى بأربعة أسماء يا كافر يا فاجر يا غادر يا خاسر ضل سعيُك وبطل أجرُك ولا خلاقَ لك التمس الأجرَ ممن كنتَ تعملُ له يا مخادع (٢) .

إن المؤمن الواعي إذا تفكر في هذه النتيجة السلبية الخطيرة المترتبة على الرياء ونحوه مما يؤثر سلبياً على صحة العمل أو على ثوابه والتقرب به مع التفاته إلى أن كل ما يريد المرائي من مدح الناس وإعجابهم بعمله يحصل له إذا أخلص في نيته وأتى بعمله تقرباً لله تعالى لا للمدح ونيل الجاه ونحو ذلك من الدوافع المادية والمنافع الدنيوية الزائلة والذي يؤكد الاهتمام بتحصيل الإخلاص لله في نية العمل هو التفات العامل إلى حقيقة إيمانيةٍ موضوعية لا يشك فيها مؤمن ناضج العقل قوي الإيمان وهي توقف النجاح والتوفيق في أي عمل يمارسه الإنسان على صعيد هذه الحياة ـ على إرادة الله تعالى وتوفيقه بعد اختياره الهدف المشروع وإعداده المقدمات الطبيعية الجائزة التي يتوقف حصوله عليها لأنه من المعلوم على ضوء المنطق الديني أن الله سبحانه لا يرعى بعنايته ولا يوفق العامل لنيل غايته في الغالب ـ إلا إذا أخلص لله في نيته وللعمل بإعداد ما يتوقف عليه من المقدمات الطبيعية العادية قال سبحانه على لسان نبيه شعيب عليه‌السلام :

( وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) (٣) .

وبذلك يُعرف أن المؤمن المخلص لله في نيته والمتوكل عليه في إدراك غايته بعد إعداد مقدماتها اللازمة لها يكون مضمونَ النجاح والربح

__________________

(١) الحديقة الناشرية ، ص : ١٢٥ .

(٢) نفس المصدر والصفحة .

(٣) سورة هود ، الآية : ٨٨ .

٢٢
 &

غالباً في كلتا الدارين . وإذا قدر له عدم حصول أمنيته المشروعة المعجلة لحكمةٍ اقتضت ذلك فهو لا يخسر ربح العمل وثوابه في الآخرة لقوله تعالى : ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ) (١) .

وذلك هو الربح الحقيقي الخالد المنعش لكيان الإنسان مادياً ومعنوياً قال تعالى : ( وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ) (٢) .

وقال سبحانه : ( وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ ) (٣) .

وعلى العكس من ذلك العامل غير المخلص في نيته فهو محكوم بالفشل والخسران إمَّا في كلتا الدارين أو في الدار الآخرة لو قدر له النجاح المادي أو المعنوي في هذه الحياة لحكمةٍ إلهية اقتضت ذلك ولكن لا قيمة لهذا الربح الزائل أمام خسارة الربح الحقيقي الدائم في دار السعادة والخلود قال سبحانه :

( مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ ) (٤) .

وإذا دققنا النظر في مصدر تلك الشوائب التي تسبب للإنسان الفشل والخسران في كلتا الدارين أو في الآخرة فقط ـ ندرك أنه الشيطان الرجيم والنفس الأمارة بالسوء نتيجة تأثرها بوسوسته .

ولذلك حذر الله من الأول ـ أي الشيطان ـ في العديد من الآيات منها قوله تعالى : ( إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ

__________________

(١) سورة الزلزلة ، الآية : ٧ .

(٢) سورة الأعلى ، الآية : ١٧ .

(٣) سورة الضحى ، الآية : ٤ .

(٤) سورة الشورى ، الآية : ٢٠ .

٢٣
 &

أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) (١) .

وقوله تعالى : ( * أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ) (٢) .

كما نبهنا الله تعالى لخطورة النفس الأمارة بالسوء المنطلقة في ركاب العدو الأول أي الشيطان والمتعاونة معه على تحقيق هدفه الجهنمي وهو إغواء وإغراء الإنسان ليوقعه في الشقاوة الدائمة ويحرمه من السعادة الخالدة .

ويبرز التنبيه الإلهي والتحذير من التأثر بإغواء النفس ـ جلياً بقوله تعالى : ( إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ) (٣) .

ومن أجل بيان الأساليب الخادعة التي ينفذ الشيطان من خلالها إلى داخل كيان الإنسان ليزهده فيما ينفعه ويرفعه ويرغبه فيما يضره ويحطمه أذكر طرفاً منها لنكون دائماً وأبداً على حالة حذر وتنبه لهذه الأساليب اللئيمة فلا نقع في شباكها ونسلم من أخطارها فأقول :

إن المكائد التي يعتمد عليها هذا العدو اللئيم كثيرة أبرزها النفوذ إلى الركائز الأساسية التي يقوم عليها الإيمان الصحيح الكامل من أجل أن يزيله أو يحوله إلى الشك والتردد وكلا الأمرين يؤثران على نفسية الإنسان ويمنعانه من العمل لله تعالى وعبادته وحده لا شريك له كما أمره سبحانه ـ فهو يشككه في أصل وجود الخالق كما صنع مع المشككين أو يدفعه لأن ينكر أصل وجوده وأنَّ الكونَ وجد وحده صدفةً واتفاقاً أو أوجدته المادة

__________________

(١) سورة فاطر ، الآية : ٦ .

(٢) سورة ياسين ، الآيتان : ٦٠ و ٦١ .

(٣) سورة يوسف ، الآية : ٥٣ .

٢٤
 &

والطبيعة كما صنع مع الملحدين أو يشككه في توحيد الخالق ذاتاً أو في توحيده عبادة كما يشككه في عدالته سبحانه بإثارة بعض الشبهات أو يشككه في النبوة العامة أو الخاصة كما صنع مع البراهمة الذين ادعوا إمكانية اكتفاء الله سبحانه بالعقل ليرشد الإنسان إلى ما يريده منه بدون حاجة إلى الرسول الظاهري الخارجي أو يشككه في الإمامة وكونها منصباً إلهياً يختاره الله لمن يشاء من عباده المتقين الذين تتوفر فيها مؤهلات حمل أمانة الرسالة وقيادة الأمة على النهج القويم والصراط المستقيم كما كان تعيين النبي راجعاً إليه ومقصوراً عليه تعالى لأنه أعلم حيث يجعل رسالته .

وقد يشككه في المعاد ليقع في حيرة وشك فيه كما صنع مع أولئك الذين ترددوا في ذلك وأخبر عنهم القرآن الكريم بقوله تعالى :

( وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ) (١) .

وقد يقوى تأثيره السلبي على فكر هذا الإنسان الضعيف فينتهي به إلى إنكار المعاد بصراحة وقد حكى الله سبحانه ذلك عن لسان جماعة من هذه الفئة الضالة المضلة بقوله تعالى :

( إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ) (٢) .

وإذا فشلت محاولة هذا العدو الخادع ولم ينجح في إزالة العقيدة أو إضعافها فهو يلجأ إلى التشكيك في قيمة التشريع الإسلامي وخصوصاً في هذه الأيام التي أثيرت فيها الشبهات الكثيرة والخطيرة حول الإسلام وأنه أفيون الشعوب لأنه يخدرها بما يعدها من نيل الثواب الجزيل والأجر العظيم غداً يوم القيامة إذا رضيت بالأمر الواقع وصبرت على ظلم

__________________

(١) سورة الواقعة ، الآية : ٤٧ .

(٢) سورة المؤمنون ، الآية : ٣٧ .

٢٥
 &

الظالمين وتحكم الحاكمين ولم تثر ضدهم لتنال حقوقها منهم .

وكذلك أثيرت شبهة أخرى حول الرسالة الإسلامية الخالدة وهي أنها غير قادرة على تلبية حاجات العصر ولا مستعدة لمواكبة التطور نظراً لانتهاء دورها وانحصاره بالجيل السابق وعصره المنصرم .

لذلك يكون الأخذ بتعاليمها ومحاولة تطبيق قوانينها على الجيل الجديد وفي عصره الراهن رجوعاً إلى الوراء يمثل الرجعية والتخلف وهكذا أثيرت شُبهاتٌ أخرى عديدة حول بعض التشريعات الإسلامية المجيدة ـ ولكنها كلها أوهام عابرة وشبهات واهية لا تقوم على أساس وطيد من المنطق والموضوعية ولذلك تبخرت ولم يبق لها وجود في أذهان الكثيرين من أبناء جيلنا المعاصر ببركة الصحوة الإسلامية التي فتحت العيون وأنارت القلوب بأضواء الحقيقة والعقيدة الراسخة التي توحي لصاحبها أن رسالة السماء التي أنزلها الله سبحانه على خير الأنبياء محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي المنطلق الوحيد لسعادة الإنسانية عبر التاريخ لأنها مشرعة من قبل خالق الإنسان العالم بطبيعته وبما يُصلحه ويصلحُ له من القوانين المنسجمة مع فطرته والقادرة على تحقيق أهدافه الحياتية وتطلعاته البشرية من جميع الجهات وفي مختلف المجالات في الحاضر والمستقبل إلى أن يرث الله الأرض ومن ما عليها لأنها الرسالة الخاتمة الكاملة الصادرة من قبل المشرع الكامل بالكمال المطلق وهو الله سبحانه وهذا هو السر في اقتناع المجتمع العربي ودخوله فيها أفواجاً بمجرد وضوح الحقيقة له وإدراكه أن هذه الشريعة السمحاء المباركة هي الوسيلة الوحيدة لإنقاذه مما كان فيه وعليه من ألوان البؤس والشاء والتعب والعناء .

وهذا هو السبب في انتماء سائر الشعوب إليها والتزامهم بتعاليمها

٢٦
 &

واتساع دائرة هذا الانتماء خلال فترة قصيرة ـ وبذلك تندفع شبهة الرجعية بعد ظهور أن الشريعة الإسلامية المباركة جاءت لجميع العصور ولكل الأجيال ولذلك كانت رحمة للعالمين حيث قال سبحانه :

( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) (١) .

وكذلك تندفع الشبهة الثانية وهي كون الدين أَفيون الشعوب ـ بعد الاطلاع التفصيلي على جوهر الدين وحقيقته بصورة عامة والدين الإسلامي الخاتم العادل الكامل بصورة خاصة لأنه جاء ليخرج الناس من ظلمات الشرك والجهالة والتخلف إلى نور التوحيد عقيدةً وعبادة وضوء العلم والهدى والتقدم في مختلف المجالات وشتى الميادين وقد تحقق ذلك كله خلال فترة قصيرة كما يشهد الواقع التاريخي حيث أصبحت الأمة العربية ببركة هذا الدين العظيم ـ خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف بعد فعله وتنهى عن المنكر بعد تركه .

ومن أراد الاطلاع التفصيلي على هذا الموضوع لمعرفة دور الدين الإيجابي في تقدم الأمة وسعادتها فليطلع على الجزء الأول من وحي الإسلام لأني بحثت فيه هذه النقطة الجوهرية في عدة أبحاث دينية تربوية وخصوصاً البحث الأول الذي تحدثت فيه حول موقف الإسلام من أعداء الإنسانية الثلاثة ( الجهل والفقر والمرض ) .

وختمت الحديث حول هذا الموضوع بالمقطوعة الشعرية التالية :

الدينُ أفضل ما يرقى به البشرُ

إلى الكمال وما يُجنى به الوطرُ

أوحى به اللهُ منهاجاً تشع به

مقاصدُ الخير والآمال تزدهر

تزهو الحقيقة في ميزان شرعته

ويخلد الجوهر الوضاء لا الصور

__________________

(١) سورة الأنبياء ، الآية : ١٠٧ .

٢٧
 &

فالمنهجُ الحقُّ لا أهواءُ مبتدعٍ

والحاكمُ اللهُ لا زيدٌ ولا عمرُ

والمقصدُ الخيرُ خيرُ الناس كلهم

لا نفعُ بعض وإن أودى بنا الضرر

نالت بـه الفتح أقوامٌ به اعتصمت

وسار في ركبها التأييدُ والظفر

واليوم ضـل بها الحادي فأوردها

مناهلَ الغي حيثُ الجبنُ والخَوَرُ

فعاد عاراً لها نصرُ الـجدود وما

كانت تتيهُ به عزاً وتفتخر

وتلك حكمةُ وحـي الله ناطقةٌ

عبر القرون لمن يُصغي ويعتبر

من ينصُر الله يُنصر في مواقفه

ومن يُخالفُ مخذولٌ ومنكسرُ

وإذا فرض عدم نجاح الشيطان في تشكيكه الإنسان في أصول دينه وما يقوم عليها من نظم وقوانين بسبب قوة إيمانه واعتقاده بعظمة شريعته الإسلامية وقدرتها على تحقيق جميع أهدافه الحياتية وتطلعاته البشرية فهو يلتف عليه من جهة أخرى ليُحرق حسناته التي حصلها بالإيمان الصادق والعمل الصالح وذلك بدفعه للقيام ببعض المحرمات التي يُسجل عليه بها الكثير من الذنوب والسيئات مع تأثيرها سلباً على ما كسبه من الحسنات ليقع بهذا وذاك في العناء والشقاء نفسياً ومادياً فردياً واجتماعياً في حاضر هذه الدنيا مضافاً إلى خسارته السعادة والاستقرار في كلتا الدارين وذلك هو الخسران المبين الذي أوقعه فيه عدوه اللئيم وشيطانه الرجيم .

وإن من أكبر المحرمات وأخطر المنكرات التي انتشرت واشتهرت بين أفراد المجتمع حتى أصبحت معروفاً لا يستنكره الكثيرون .

الغيبةُ والنميمةُ ونحوهما من المنكرات الكبيرة والخطيرة التي تُحرق الحسناتِ كما تُحرق النارُ الحطب .

وبذلك كله يُعرف السر في إيجاب الله سبحانه تحصيلَ الإيمان الجازم بالعقائد الحقة عن طريق الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة التي لا

٢٨
 &

يبقى معها مجال لتشكيك الشيطان بكلا نوعيه من الجنة والناس .

كما أوجب سبحانه التفقه في الدين وجعل طلب العلم فريضةً على كل مسلم ومسلمة بالنسبة إلى الأحكام الشرعية الواقعة محل ابتلاء المكلف في عباداته ومعاملاته ـ كل ذلك من أجل أن يكون الإنسان المسلم ثابت الموقف على نهج رسالته بالإيمان الراسخ الذي يثمر التقوى والعمل الصالح ، والسلوك المستقيم في نهج الدين القويم بحيث لا ينحرف عنه عقيدةً وسلوكاً مهما كانت الإغراءات المغرية بالانحراف أو الضغوطات المقتضية له ـ كما لا يتسرب الشك إلى قلبه ولا تؤثر الشبهات المثارة من هنا وهناك على صلابة إيمانه وقوة يقينه ـ ولذلك لا تزيده الإغراءاتُ ولا الضغوطاتُ إلا ثباتاً على المبدأ الحق كما لا تزيده إثارة الشبهات إلا إيماناً برسالته وتمسكاً بنهجها العادل ودفاعاً عن مبدئها الأصيل الخالد .

وانطلاقاً من شعوري بالمسؤولية نحو إنساننا المعاصر وجيلنا الصاعد عقدت العزم على بذل أقصى الجهد المستطاع في سبيل ترسيخ العقيدة الصحيحة وتقوية الثقة بقيمة الشريعة الإسلامية المجيدة وقدرتها على مواكبة التطور والانطلاق بالجيل الجديد نحو الأهداف السامية والغايات الرفيعة المستهدفة لله سبحانه من وراء إنزاله الشرائع وإرساله الأنبياء مبشرين ومنذرين عبر التاريخ .

وكان إصدار الجزء الأول من وحي الإسلام وبعده الجزء الثاني منه حول فلسفة الصيام في الإسلام ـ خطوتين عمليتين في طريق الهدف المذكور ويأتي هذا الكتاب ( فلسفة الحج في الإسلام ) ليكون الخطوة الثالثة في هذا الطريق على أمل التوفيق لمتابعة السير في هذا السبيل القويم المؤدي إلى خدمة الإسلام والمسلمين ونيل رضا الرحمن الرحيم .

٢٩
 &

وبعد الفراغ من هذا الحديث الذي ركزتُ فيه على الإخلاص لله في نية العمل وبيان دوره الفعال في صحة العبادة بمعناها الخاص وفي ترتب الأجر والثواب على غيرها من الأعمال الصالحة القابلة لأن يقصد بها التقربُ لله تعالى :

أجل : بعد الفراغ من الحديث المذكور يترجح ذكر بعض القصص المؤكدة لدور النية والإخلاص فيها ـ في ترتب الآثار الإيجابية الراجعة إلى العامل المخلص لله في نيته ـ بالنفع العظيم في كلتا الدارين .

مع ذكر بعض القصص المتضمنة لبيان دور النية السيئة وتأثيرها السلبي على وضع صاحبها في كلتا الدارين .

وحيث أن قصة أصحاب الجنة مقطوعة التحقق لورودها في القرآن الكريم يترجح تقديم ذكرها على غيرها من القصص التي تُلقي الضوء على دور النية وتأثيرها الإيجابي أو السلبي ـ على وضع صاحبها في حاضر الدنيا ومستقبل الآخرة .

والقصة المذكورة ورد الحديث عنها في أكثر التفاسير ومنها مجمع البيان في تفسير سورة القلم حيث ورد فيه ما يلي :

وهذه الجنة حديقة كانت في اليمن في قرية يقال لها صروان بينها وبين صنعاء اثنا عشر ميلاً كانت لشيخ وكان يمسك منها قدر كفايته وكفاية أهله ويتصدق بالباقي فلما مات قال بنوه نحن أحق بها لكثرة عيالنا ولا يسعنا أن نفعل ما فعل أبونا وعزموا على حرمان المساكين فصارت عاقبتهم إلى ما قص الله في كتابه وهو قوله تعالى :

( إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ ) (١) .

__________________

(١) سورة القلم ، الآيتان ١٧ و ١٨ ، قد ورد ذكر هذه القصة مفصلاً في وسط سورة القلم ابتداء من آية ١٧ وانتهاء بآية ٣٣ ونقلت تفسير هذه الآيات وتفصيل قصتها =

٣٠
 &

وخلاصة هذه القصة أن أبناء هذا الشيخ المؤمن عقدوا العزم على مخالفة طريقة والدهم وذلك بأن يستأثروا بثمر هذه الجنة ولا يقدموا للفقراء ما كان والدهم يقدمه لهم من ثمرها ولذلك رجحوا الذهاب إليها مبكرين قبل وصول الفقراء حتى لا يحصل لهم حرج نفسي بسبب منعهم مما كانوا يأخذونه من والدهم باستمرار حتى أصبح بمنزلة الحصة المملوكة لهم .

وحيث أن هذه النية سيئة أراد الله سبحانه أن يعاقبهم على ما أرادوا تنفيذه بها تأديباً لهم وتحذيراً لكل من تسول له نفسه الأمارة بالبخل والحرص الدافع إلى حرمان الفقراء من حقوقهم الشرعية أو مساعدتهم الإنسانية وذلك بإشعال النار بها حتى احترقت ليلاً وهم غارقون في سبات الجسم والقلب معاً وعندما وصلوا مبكرين إلى مكان جنتهم هذه ولم يجدوها كما كانت من قبل توهموا أول الأمر أنهم تائهون ضالون عنها ومنتهون إلى غيرها وبعد التأمل عرفوا أن هذا المكان هو مكانها وأن الله عاقبهم بإحراقها وكان لهم أخ عاقل رشيد لم يوافقهم في البداية على تنفيذ ما أرادوا القيام به من مخالفة عادة والدهم بمنع الفقراء وحرمانهم مما كانوا يأخذونه من ثمرة جنته حال حياته لذلك نبههم على خطأهم وعدم عملهم بنصيحته فقال : ( أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ ) (١) .

أي هلا تذكرون نعمة الله وإحسانه إليكم فتؤدوا شكرها بإخراج حق الفقراء منها .

وبعد حصول العقوبة لهم وتنبههم لخطأهم وظلمهم أنفسهم :

__________________

= عن شرح مجمع البيان ج ١٠ صفحة ٥٠٥ و ٥٠٦ طبعة طهران .

(١) سورة القلم ، الآية : ٢٨ .

٣١
 &

( قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَىٰ رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ * كَذَٰلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) (١) .

والقصة المذكورة حادثة واقعية ورد الحديث عنها في كتاب الله الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لأنه تنزيل من حكيم حميد .

وقد ذكرها الله سبحانه لنستفيد منها درساً تربوياً يبين لنا دور النية السيئة وتأثيرها السلبي في خسارة الإنسان وتعرضه للنتيجة السيئة المنسجمة مع تلك النية وعلى العكس من ذلك النية الصالحة المنطلقة من الإيمان الصادق الواثق بأن الله سبحانه هو مصدر الخير والعطاء والتوفيق في جميع المجالات .

ولهذا وذاك نرى المؤمن الواعي لهذه الحقيقة يحرص كل الحرص على توفير مقدمات نجاحه في أي هدف في هذه الحياة فيختار الهدف المشروع المحبوب لله سبحانه ويسعى لتحصيله بالنية الحسنة والقصد السليم المقرب منه تعالى وبواسطة المقدمات العادية الطبيعية اللازمة لتحقق ذلك الهدف ويختار المشروع من هذه المقدمات ويتوكل على الله بعد توفير ذلك كله في حصول الهدف المنشود فإن تحقق له كما يحب حمد الله تعالى وشكره على توفيقه له قائلاً بلسان المقال أو الحال ما قاله النبي سليمان عليه‌السلام :

( قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ) (٢) .

__________________

(١) سورة القلم ، الآيات : ٢٩ و ٣٠ و ٣١ و ٣٢ و ٣٣ .

(٢) سورة النمل ، الآية : ٤٠ .

٣٢
 &

وإذا لم يحصل له مطلوبه صبر ورضي بالقضاء والقدر مردداً بلسان المقال أو الحال قول الإمام عليه‌السلام : ( ولعل الذي ابطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الأمور ) (١) .

هذا حاصل ما يستفاد من تلك القصة القرآنية المربية ـ وفيما يلي ثلاث قصص تلتقي معها بالمضمون والدلالة الواضحة على مدى تأثير النية في نوعية النتيجة المترتبة عليها والمصبوغة بلونها فإذا كانت نية صالحة حسنةً كانت النتيجة المترتبة عليها كذلك وإذا كانت على العكس كانت النتيجة مثلها .

الأولى من هذه القصص هي قصة ذلك العابد الذي سمع بوجود شجرة تعبد من دون الله سبحانه فأخذه الحماس الديني وانطلق ليقطعها فاعترض إبليس طريقه وقال له : إن قطعتها عبدوا غيرها فارجع إلى عبادتك فقال له العابد : لا بد من قطعها وحصلت بينهما مصارعة فصرعه العابد فقال له إبليس :

أنت رجل فقير فارجع إلى عبادتك وأجعل لك دينارين تحت رأسك كل ليلة ولو شاء الله لأرسل رسولاً يقطعها وماذا عليك إذا لم تعبدها أنت قال نعم فلما أصبح وجد دينارين كما وعده إبليس وفي اليوم الثاني لم يجد شيئاً فخرج لقطعها وحصلت بينهما مصارعة فصرعه إبليس فقال له العابد :

كيف غلبتك أولاً ثم غلبتني ثانياً فقال له : لأن غضبك .

أولاً : كان لله .

__________________

(١) من دعاء الافتتاح المنسوب إلى الإمام المهدي ( عج ) .

٣٣
 &

وثانياً كان للدينارين .

ودلالة هذه القصة على مدى تأثير الإخلاص في النية في حصول النصر والتغلب على العدو ـ واضحة لا تحتاج إلى مزيد بيان .

الثانية : قصة الأمير شروان وحاصلها أنه خرج ذات يوم للصيد فأدركه العطش فرأى في البرية بستاناً وعنده صبي فطلب منه ماءً فقال له : ليس عندنا ماء قال : إدفع لي رمانة فدفعها له فاستحسنها فنوى أخذ البستان ثم قال له : ادفع لي رمانة أخرى فدفعها له فوجدها حامضة فقال له : أليست هذه الرمانة من نفس الشجرة التي قدمت لي الرمانة الأولى منها ؟ قال : نعم قال له : كيف تغير طعمها ؟ فقال له : لعل نية الأمير تغيرت فرجع عن ذلك في نفسه ثم قال له : ادفع لي رمانة أخرى فدفع له ما طلب منه فوجد الرمانة الأخيرة أحسن وأطيب من الأولى فقال الأمير له : كيف صلحت ؟

قال له الصبي : إنما صلحت بصلاح نية الأمير .

القصة الثالثة : قريبة من الثانية ـ وحاصلها أنه خرج بعض الملوك بنزهة في مملكته فوجد رجلاً ومعه بقرة فحلب له مقداراً كثيراً من الحليب فتعجب الملك ثم نوى أخذها فلما كان الغد حلب منها نصف ما حلبه في اليوم الأول فقال الملك :

كيف نقص حليبها ألم ترع في مكانها بالأمس ؟ قال : بلى ولكن لعل الملك نوى الظلم فرجع عن نيته فرجع حليبها الأول .

وهكذا شاءت الإرادة الإلهية والحكمة السماوية أن تترتب على النية ـ وهي حالة نفسية داخلية الآثار المناسبة لها سلباً أو إيجاباً نفعاً أو ضرراً كما تترتب على الأفعال الخارجية التي يمارسها الإنسان بإرادته وذلك من

٣٤
 &

أجل أن يستفيد منها درساً تربوياً يدعوه لأن يصفي نيته ويحسن سريرته تمهيداً لأن يحسن سيرته ويعدل مسيرته كما أراد الله له أن يكون صافي النية سليم القلب يحب لغيره ما يحبه لنفسه من الخير ويسعى في سبيل حصوله له ويكره له ما يكره لنفسه من الشر ويمنعها من تسبيبها له .

وقصة أصحاب الجنة التي مر ذكرها تبين بوضوح مدى ارتباط وتأثر النتائج الخارجية بالعامل النفسي والنية الداخلية ويأتي قوله تعالى :

( إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) (١) .

مؤكداً لهذه الحقيقة الإيمانية حيث ربط الله سبحانه تغييره أوضاع الإنسان فرداً ومجتمعاً وتبديلها من حال إلى أخرى مقابلة لها ـ بتغيير الحالة النفسية التي يعيشها حالاً وما ورد في القصص الثلاث التي مر ذكرها .

يؤكد ذلك ويقتضي أن نستفيد منها عظة وعبرة ونكون دائماً وأبداً على حالة نفسية نبيلة وحسنة لتثمر لنا ما ينفعنا ويرفعنا في دنيانا وآخرتنا من جميع الجهات وفي مختلف المجالات .

ويسرني أن أختم الحديث حول موضوع الإخلاص بالأبيات التالية التي نظمتها مؤخراً من وحي هذا الموضوع الحيوي وهي كما يلي :

إن رمتَ أن ترقى لأفق علاء

وتنال يوم الحشر خير جزاء

فاسلك سبيل الصالـحات بنيةٍ

فضلى مجردةٍ عن الأهواء

فالله أوجدنا لنعبده بلا

شرك خفي ماحق ورياء

فإذا تحقق ما يريد ننال ما

نبغيه من فضل وَمِنْ نعماء

__________________

(١) سورة الرعد ، الآية : ١١ .

٣٥
 &

وإذا انحرفنا عن هُدَاه تحطمت

آمالنا بضلالة الجهلاء

دور تطهير المال من الحق الشرعي في صحة الصلاة وفريضة الحج :

بعد تطهير النفس وتزكيتها بتصفيتها وتجريدها من شوائب الرياء ونحوه من المؤثرات السلبية على صحة العبادة وترتب الثواب على غيرها من الأعمال الصالحة القابلة لأن يقصد بها التقرب لله سبحانه .

يأتي دور تطهير المال الذي يريد المكلف أن يحج به من الحق الشرعي ونحوه لأنه بدون ذلك يكون ثوب الإحرام والهدي اللذان يشتريهما بالمال المشتمل على ذلك الحق ـ محكومين بالغصبية وعدم الإباحة وذلك يقتضي بطلان صلاة الطواف وعدم ترتب الأثر الشرعي المطلوب على تقديم الهدي فيكون حجه محكوماً بالبطلان بهذا الاعتبار .

وبوحي من هذه المناسبة أحب أن أقدم لأبنائي الأحباء وإخواني الأعزاء بصورة عامة والمستطيعين للحج العازمين على القيام به على الوجه الصحيح بصورة خاصة ـ النصيحة التالية ( والدين النصيحة ) وذلك بأن يقف كل واحد منهم وقفة تدبر وتفكر سائلاً نفسه لماذا أؤدي الصلاة وأصوم وأقوم بسائر الواجبات وأريد الذهاب إلى الحج رغم ما يقتضيه من صرف مال كثير مع تحمل المزيد من المشقة والعناء والتعرض لبعض الأخطار التي تؤدي إلى الوفاة في بعض الأحيان كما حصل للكثيرين ممن حجوا سابقاً ويتوقع عروضه لمن يحجون لاحقاً ؟

ولماذا أنا ملتزم بترك المحرمات الشرعية التي نهاني الله سبحانه عن ارتكابها وخصوصاً الكبائر منها ؟

٣٦
 &

وإذا كان تاركاً للأولى ـ أي للواجبات ـ كلا أو بعضاً وفاعلاً للثانية أي المحرمات كلا أو بعضاً وتاب لله سبحانه من ذلك كله وانطلق في سبيل الاستقامة على نهج التقوى فعليه أن يسأل نفسه ويحاسبها بأسلوب آخر قائلاً :

لماذا أنا رجعت إلى النهج القويم بعد الانحراف عنه ؟

فسيكون الجواب على كلا السؤالين بأن ذلك هو العبادة التي خلقني الله من أجلها وأنا مأمور بها لكونها سبيل الكمال والسعادة في الدنيا والآخرة فإذا أتيت بها كما أمرني الله تعالى ظفرت بذلك وإذا أهملتها خسرت ثواب الطاعة في الآخرة ومصلحتها المعجلة في الدنيا وعرضت نفسي للعقاب الشديد في الدار الأخرى وسببت لها الكثير من المتاعب والمصائب في هذه الدار وذلك هو الخسران المبين .

هذا هو الجواب المتوقع حصوله من المسلم الواعي الذي يُفرض في حقه أن يكون حاملاً في ذهنه صورة هذه المحاسبة لنفسه وطرح تلك الأسئلة عليها لتجيبه بلسان الفطرة السليمة والعقيدة الصحيحة بالأجوبة المذكورة .

وعلى ضوء ذلك نقول للمسلم الذي عقد العزم على السفر لحج بيت الله الحرام وهو يحمل في ذهنه صورة الحوار والمحاسبة المذكورة وفي قلبه العقيدة والإيمان بمضمونها ومحتواها :

إذا كنت مؤمناً بهذه الحقيقة فعليك أن تعمل بمقتضاها باستقامتك في منهج التقوى التي تتحقق بفعل ما أمرك الله به من الواجبات وترك ما نهاك عنه من المحرمات ـ وحيث أن إخراج الحق الشرعي من مالك بعد تعلقه به واجب شرعي لنفسه كالصلاة والصيام والحج وسائر الواجبات

٣٧
 &

الشرعية النفسية كما أنه واجب لغيره لتوقف صحة الحج عليه نظراً لاشتراط صحة صلاة الطواف كغيرها من الصلوات ـ بإباحة ثوب الإحرام الذي يأتي الحاج بهذه الصلاة فيه كما أن ترتّب الأثر الشرعي على تقديم الهدي متوقف على شرائه بمال مطهر من حق الغير ومن المعلوم أن كلا الأمرين ـ صحة الصلاة المذكورة وصحة الإهداء ـ أي تقديم الهدي ـ متوقفان على تطهير المال الذي يُشترى به ذلك الثوب وهذا الهدي .

أجل : حيث أن إخراج الحق الشرعي واجب شرعي لنفسه ولصحة الحج يكون المطلوب منك أيها الأخ المسلم العزيز أن تؤدي هذا الواجب معجلاً ، وقبل سفرك إلى بيت الله الحرام إذا كنت مُعيناً لنفسك رأس سنة لتأدية فريضة الخمس في نهايتها وكان متعلقاً فعلاً بما تملكه من النقود أو الأعيان المالية وكان ذلك ميسوراً لك بحيث لا يترتب عليه ضرر أو حرج ـ ومع فرض ترتب ذلك ترجع إلى مُقلَّدك أو وكيله ليُجريَ معك مصالحة على المقدار الذي وجب في مالك من الخمس وينتقل بهذه المصالحة من عين المال إلى ذمتك وتدفعه له أقساطاً حسبما تساعدك ظروفك وبعد انتقال الحق الشرعي من عين المال إلى الذمة يتمكن المكلف حينئذ من التصرف بهذا المال بيعاً وشراء ويتحقق بذلك شرط صحة صلاة الطواف ولا يبقى إشكال بالنسبة إلى الهدي .

ويُطلب منك يا أخي العزيز أن تحتاط لهذا الحق الذي ثبت ديناً في ذمتك وذلك بأن تسجله في وصيتك كسائر الديون والواجبات وقد يصبح الإيصاء بتأديتها واجباً إذا توقفت عليه .

وإذا كنت غير محاسب نفسك فيما مضى بالنسبة إلى فريضة الخمس ونحوها من الفرائض المالية ـ يصبح السعي في هذا السبيل واجباً ويتحقق ذلك غالباً بمراجعة وكيل المرجع الذي تقلده لتخبره بمجموع ما تملكه من

٣٨
 &

الأموال النقدية والعينية ونحوها مما له قيمة مالية وهو بدوره يبين لك النوع الذي هو متعلق للحق الشرعي والنوع الذي لا يكون كذلك وتكون النتيجة معرفة المقدار الواجب من الخمس ووجوب دفعه كله مع التمكن بدون ضرر أو حرج كما تقدم ومع فرض ذلك يأتي دور المصالحة على الحق الشرعي ليصبح ديناً في ذمتك وتدفعه أقساطاً بعد تحديد رأس السنة .

والنصيحة التي أحب تقديمها لأبنائي الأحباء وإخواني الأعزاء بصورة عامة والعازمين على التشرف بزيارة بيت الله الحرام وجوباً أو استحباباً أو زيارة سائر المقامات المقدسة ـ بصورة خاصة .

هي طلب الاحتياط والحذر الشديد من التسويف والتسامح في تأدية الواجبات الشرعية ـ بصورة عامة والواجبات المالية بصورة خاصة لأهمية الثانية باعتبار كونها حقوقاً للناس ولا تبرأ ذمة من وجبت عليه إلا بدفعها لمستحقها أو للحاكم الشرعي الذي يقلده أو لوكيل هذا الحاكم وإذا أراد دفعها للمستحق مباشرة فالأحوط مراجعة مرجعه أو وكيله ليأخذ الرخصة منه في ذلك ـ على تفصيل محرر في الرسائل العملية وإذا قصر المكلف في تأدية الواجبات المالية المتمثلة بالحقوق الشرعية ونحوها فإنه يتعرض بذلك لأشد العقوبات التي لا تترتب على ترك الواجبات البدنية كالصلاة والصوم رغم أهميتها وذلك لأن الواجب المالي فيه حقان أحدهما يرجع إلى الله المشرع والثاني يرجع إلى مستحق هذا الحق .

ولو أن المكلفين أدركوا ما يترتب على تأدية الفريضة المالية والتصدق بصورة عامة ـ من الفوائد المادية والمعنوية المعجلة في هذه الحياة مضافاً إلى ما ينالونه من النعم الخالدة والسعادة الحقيقية الدائمة في الآخرة لتسابقوا إلى ذلك ولم يتأخروا عنه وذلك لأن الإنفاق الواجب أو المستحب يُصبح في واقعه تجارةً مع الله سبحانه تترتب عليها الأرباح

٣٩
 &

الكثيرة والفوائد العديدة .

منها زيادة النعمة بسبب الشكر العملي الذي قام به المنفق في سبيل الله تعالى لقوله سبحانه : ( لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ) (١) .

ومنها دوام النعمة لأن جميع النعم والألاء التي يمن بها الله سبحانه على الإنسان هي في الواقع أمانة له عند من أنعم بها عليه فإذا صرفها وتصرف بها كما أمره الله المالك الحقيقي ـ وجوباً أو استحباباً ـ عبر بذلك عن كونه أميناً محافظاً على الأمانة وذلك يقتضي بطبعه إبقاء صاحبها لها عنده وعدم أخذها منه .

وهذا بخلاف ما إذا صدر منه عكس ذلك فإن النتيجة تكون منسجمة مع مقدمتها وهي عروض النقص بدل الزيادة أو الخسارة والفقدان للنعمة بالكلية بعد وجودها والتمتع بها .

وإلى ذلك أشار الله سبحانه في آخر الآية السابقة بقوله تعالى :

( وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) (٢) .

لأن المراد بالكفر على ضوء ما يوحي به جو الآية ـ هو الكفر العملي المقابل للشكر العملي ـ وبقرينة المقابلة بينهما يُفهم أن المراد بالعذاب الذي أنذر به الله سبحانه أعم من العقاب الأخروي بحيث يشمل العقوبة المعجلة الحاصلة بسبب الكفر بنعمة الله تعالى ومن أبرز مصاديقها العقوبة المتحققة بسلب النعمة من الكافر بها قلبياً وعملياً كما حصل من قارون وحصلت له العقوبة المناسبة لذلك ـ أو عملياً كما هو شأن الكثيرين ممن آمنوا بمؤدى قوله تعالى :

__________________

(١) سورة ابراهيم ، الآية : ٧ .

(٢) سورة ابراهيم ، الآية : ٧ .

٤٠