فلسفة الحج في الإسلام

الشيخ حسن طراد

فلسفة الحج في الإسلام

المؤلف:

الشيخ حسن طراد


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

الغفيرة بحيث يصح أن يقال إن الأمة بعنوانها الوحدوي المجموعي ـ قد حجت كما يريد الله سبحانه ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد صرح سبحانه بمحبته للظاهرة الاجتماعية التي تنصهر في ظلها الأفراد لتشكل كياناً موحداً واحداً وذلك بقوله تعالى :

( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ ) (١) .

باعتبار أن وحدة صفهم حال جهادهم المقدس ضد أعدائهم يعود عليهم بالقوة التي تمكنهم من الغلبة والانتصار في جميع الساحات وخصوصاً ساحة النضال والجهاد المقدس في سبيله تعالى ـ ولذلك أمر الله سبحانه بالاعتصام بحبله المتين وأكد ذلك بالنهي عن التفرق والتنازع المؤدي إلى الفشل وذهاب القوة حيث قال سبحانه :

( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ) (٢) .

وقال سبحانه :

( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) (٣) .

وقد أشرت إلى دور الوحدة في قوة الأمة وقدرتها على تحقيق أهدافها في مجال الدفاع عن كيانها ودفع الأخطار عنها بالمقطوعة الشعرية التالية :

__________________

(١) سورة الصف ، الآية : ٤ .

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٠٣ .

(٣) سورة الأنفال ، الآية : ٤٦ .

٢٢١
 &

بالوحدة الكبرى يُحـقق مقصدُ

ونَنَالُ ما نصبو إليه وننشد

في ظلها الطاقات تُـحشد كلها

ويقوم صرح بالوفاق مشبد

الجمعُ يُدرك بالتـضامن دائماً

ما يبتغيه وليس ينجح مفرد

كلتا اليدين تصفـقان لمقصد

يُجنى ولا تسطيعُ تصفيقاً يد

من وحي الوقوف في المشعر الحرام :

بغروب الشمس من أفق اليوم التاسع من ذي الحجة الحرام ينتهي وقت الوقوف في عرفات ليبدأ وقت الزحف المقدس باتجاه المشعر الحرام ليلة اليوم العاشر ليؤدي الحجاج الواجب التالي وهو الوقوف في المزدلفة من فجر اليوم العاشر إلى وقت طلوع الشمس .

والحكمة التي يمكن استلهامها من هذا الشعار المقدس هي أن الحجاج الكرام بعد أن توفقوا للتعارف ببركة الوقوف السابق على صعيد عرفات وأصبحوا يمثلون جبهة واحدة وصفاً واحداً قوياً قادراً على التصدي للعدو من أجل إزالة عدوانه أو منعه من القيام به ـ يُطلب منهم أن يتحركوا نحوه ويستعدوا لخوض معركة الشرف والجهاد المقدس ضده ـ وحيث أن تحصيل الأسلحة المناسبة لذلك وجمعها من مصادرها من أوضح مصاديق أخذ الأهبة والاستعداد .

يأتي جمع الحصى من المشعر الحرام ليلة المبيت فيه ليكون رمزاً وتمريناً على جمع السلاح المادي المعهود وإعداده للوقت المناسب عملاً بقوله تعالى :

( وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ

٢٢٢
 &

عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ) (١) .

كما يأتي الزحفُ صباح اليوم العاشر من ذي الحجة ـ وهو يوم عيد الأضحى ـ بعد بزوغ شمسه ـ وتحركُ الحجاج إلى مِنى لتأدية مناسكها في هذا اليوم ـ ليكون رمزاً لتحرك الجيش الإسلامي المبارك نحو ساحة العدو من أجل مفاجأته والأخذ بزمام المبادرة المساعِدَة على انتزاع النصر والغلبة غالباً .

ويأتي رمي جمرة العقبة وهو أول أعمال مِنى صباح يوم العيد المبارك ليكون رمزاً واضحاً لبدء الهجوم بالفعل على العدو ـ وحيث أن خوض المعركة يستلزم غالباً استشهاد بعض الجنود المناضلين ـ يكون تقديم الهدي وذبحه في هذا اليوم رمزاً لذلك كما أنه في الوقت نفسه تذكير بقصة إقدام إبراهيم على ذبح ولده إسماعيل وإقدام ولده هذا على تقديم نفسه قرباناً لله سبحانه وامتثالاً لأمره الذي حصل لهما الاعتقاد بتوجهه من قبل الله واقعاً بقصد حصول الذبح وتحققه خارجاً .

وفي كلا الرمزين ـ رمز التذكير بحادثة ابراهيم وابنه ورمز ابتداء الاستعداد للتضحية والاستشهاد . أكثر من درس وعبرة لا تخفى على المتدبر والمتفكر في خلفيات التشريعات الدينية والشعارات الإسلامية عامة وشعارات فريضة الحج المباركة خاصة ـ وبعد قيام الحاج بالواجبين المذكورين صباح يوم عيد الأضحى في منى ـ وهما رمي جمرة العقبة وذبح الهدي أو نحره ـ يتحقق بذلك الدور المطلوب منهما والرمزية المترتبة عليهما .

أجل : بعد تحقق ذلك وترتبه على الواجبين السابقين ـ يأتي دور

__________________

(١) سورة الأنفال ، الآية : ٦٠ .

٢٢٣
 &

الواجب الثالث وهو الحلق أو التقصير ليقوم بدوره ويكون رمزاً إلى إزالة آثار العدوان والاعتداء الذي يمارسه العدو ضد الإسلام والمسلمين كما يكون رمزاً إلى زوال الأخطاء والسيئات التي كانت صادرة من الحاج قبل تشرفه بزيارة بيت الله الحرام ـ إذا لم يكن معصوماً أو بحكم المعصوم ـ وأما إذا كان واحداً من هذين ـ المعصوم ومن بحكمه ـ فإن الحلق أو التقصير يكون رمزاً لإزالة العدوان كما يكون رمزاً لحصول المزيد من الصفاء الروحي والنظافة المعنوية التي تزيد صاحبها قرباً من الله سبحانه .

وأما مبيت الحاج في منى ليلتي الحادي والثاني عشر وقد تضاف إليهما ليلة الثالث عشر ـ فيمكن أن يكون رمزاً لظاهرة أخرى من ظواهر ومظاهر التعبد الشرعي ـ وهو التزام جانب السكون والتوقف عن العمل والحركة في مقابل ظاهرة التحرك التعبدية الذي مارسه الحاج بإتيان المناسك السابقة على هذا المنسك الأخير .

إلى هنا نكون قد رسمنا صورة مختصرة عن مناسك الحج وما يُستوحى من كل واحد منها من دروس تربوية ترسخ العقيدة وتهذب النفس وتعدل السلوك في نهج السماء القويم وصراطه المستقيم الذي ينتهي بالإنسان إلى الخير والسعادة في الدنيا والآخرة .

ومن أجل تتميم الفائدة وتعميق الفكرة التي رسمتها عن مناسك الحج بما تقدم بيانه أحب إعطاء صورة مختصرة عن مجموع ما تقدم الكلام حوله من مناسك الحج المباركة فأقول : إن تأدية فريضة الحج المباركة تعتبر رحلة فكرية وروحية في طريق السعي إلى الله تعالى والتقرب منه معنوياً بزيارة بيته الحرام وتأدية فريضة حجة الإسلام على الوجه المطلوب شكلاً وصورة وهدفاً وغاية ـ وأول خطوة على طريق هذه الرحلة المباركة هي الإحرام من أحد المواقيت المحددة للحجاج الكرام وهو

٢٢٤
 &

بالنسبة إلى فريضة الحج مثل تكبيرة الإحرام بالنسبة إلى الصلاة حيث يحرم بعدها ما كان حلالاً قبلها وارتداء ثوبي الإحرام يكون إشعاراً بدخول الحاج في حرم الله سبحانه وحدود مملكته الشرعية التعبدية كما يغير الجندي ملابسه العادية ويرتدي ملابس الجندية وطالب المدرسة أثوابه الطبيعية بثوبه المدرسي ـ وذلك لأن التغيير الظاهري يقتضي بطبعه التغيير الداخلي بتحول الإنسان المكلف من حالة التحلل والانطلاق من قيود وحدود فريضة الحج ـ إلى حالة التعبد والتقيد بنظام هذه الفريضة المقدسة بفعله ما يجب عليه فعله من مناسك الحج وتركه ما يحرم عليه فعله من محرمات الإحرام ـ هذا مضافاً إلى ما يثيره تبديل الملابس العادية المخيطة بملابس أخرى غير مخيطة بالنسبة إلى الرجل ـ من تذكر الموت وما بعده بسبب الشبه القوي بين ثوبي الإحرام وقِطَعِ الكفن وذلك يقتضي بطبعه الزهدَ في زخارف هذه الدنيا الزائلة والانصراف عما يبعده عن الله تعالى ويحرمه من رضوانه ـ من المحرمات وما يلحق بها من المشتبهات التي تؤدي بفاعلها إلى الوقوع في الحرام من حيث لا يدري . وفي المقابل يبعث تذكر الموت الرغبة في الاستعداد للموت قبل حلول الفوت ويتمثل ذلك بالمبادرة إلى التوبة النصوح والتزام خط الاستقامة في طريق الشريعة .

ويأتي الطواف بعد ذلك ليكون الخطوة الثانية في طريق الرحلة والسفر إلى الله تعالى بالفكر والروح وتكون الحركة الدائرية بقيودها وحدودها ـ حول الكعبة المشرفة ـ رمز الالتزام بمنهج الشريعة وخط العبودية وعدم تجاوز حدودها كما لا يتجاوز حدود الطواف ولا يخالف شروطه المعتبرة في صحته .

ثم تأتي صلاة الطواف بعده لتكون رمزاً لمرتبة القرب من الله تعالى والدنو من ساحة رحمته وغفرانه بسبب قيامه بحركة الطواف العبادية ضمن

٢٢٥
 &

قيودها المعتبرة وحدودها المرسومة ويكون السجود في هذه الصلاة الممثل الأوضح لذلك القرب المعنوي من اللطف الإلهي حيث ورد في الحديث ما مضمونه : أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ـ وربط هذه الصلاة بمقام النبي إبراهيم عليه السلام كان من أجل لفت النظر إلى مقام هذا النبي العظيم ودوره البناء في تشييد بيت الله الحرام مع ولده إسماعيل ـ من الناحية المادية وعمرانه معنوياً بتأدية مناسكه ودعوته الأجيال من أجل أن تسعى لتأدية فريضة الحج المباركة ملبيةً النداء الذي وجهه إليها امتثالاً لأمر الله له بذلك حيث قال سبحانه مخاطباً له :

( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ) (١) .

هذا مضافاً إلى ما يستفاد من الدروس الكثيرة والعبر العديدة المفيدة من سيرته المستقيمة في منهج السماء وثباته عليه وعدم انحرافه عنه رغم تعرضه لعدة امتحانات وابتلاءات صعبة ـ لا يصمد أمامها إلا من كان مثله في قوة الإيمان والفناء في ذات الله حباً وقرباً ، والامتحانات التي تعرض لها كثيرة .

١ ـ منها : امتحانه بأمره بالهجرة مع زوجته هاجر وطفله اسماعيل الوحيد ليتركهما في واد غير ذي زرع من أرض مكة المكرمة وقد نجح هو وزوجته هذه بانقيادهما لإرادة الله وامتثالهما لأمره وأخيراً جازاهما الله معجلاً بالفرج بعد الشدة واليسر بعد العسر كما تقدم ـ مضافاً إلى ما نالاه في الآخرة من السعادة الخالدة .

٢ ـ ومنها : امتحانه بنفسه عندما تعرض للإحراق والاحتراق ونجح

__________________

(١) سورة الحج ، الآيتان : ٢٧ و ٢٨ .

٢٢٦
 &

في الامتحان كما نجح في سابقه حيث سلم أمره لله فسلمه الله من الاحتراق وجعل النار عليه برداً وسلاماً .

٣ ـ ومنها : امتحانه بأمره بذبح ولده الصغير الوحيد ونجح في هذا الامتحان الأصعب مع ولده هذا عندما أسلما أمرهما لله سبحانه وأبديا الاستعداد للامتثال والتنفيذ . وأخيراً سلمه الله سبحانه من الذبح وفداه بذبح عظيم .

وبعد الطواف وصلاته يأتي دور السعي بين الصفا والمروة بعدد معين من الأشواط مع قيودٍ وحدود مرسومة له كالطواف ليكون تقيد المكلف بتلك القيود والحدود رمزاً للعبودية الخاضعة والعبادة الخاشعة التي تنطلق من حدود السعي الخاص بمكانه وزمانه ، إلى السعي العام في كل زمان ومكان في سبيل عبادة الرحمن بالعبادة العامة الشاملة لكل التصرفات الاختيارية المنسجمة مع إرادة الله تعالى .

وبعد السعي يأتي دور التقصير ليكون رمزاً لإزالة الذنوب وزوال الأخطاء الحاصلة للحاج قبل تأديته لما توفق للقيام به من مناسك الحج .

ويأتي الإحرام للحج من مكة المكرمة ليكون مؤكداً لإحرامه السابق ومرسخاً في النفس والذهن المعاني السامية والدروس التربوية المهذبة التي يراد للناسك أن يحصلها ويستوحيها من مدرسة فريضة الحج المباركة . وبعده يأتي دور الوقوف في عرفة ليكون مدرسة تربوية أوسع مساحة وأكثر طلاباً وأرقى دروساً من أجل أن يستلهم الناسك هذه الدروس من تلك المدرسة ويحملها نوراً في عقله وإيماناً في قلبه ثم يجسمها على الصعيد العملي بالتقوى والعمل الصالح والخلق الفاضل . وبعد ذلك يأتي الوقوف في المشعر الحرام ليكون خطوة أخرى في طريق القرب والازدلاف إلى

٢٢٧
 &

رحمة الله ورضوانه ولا يبعد أن يكون تسمية هذا المشعر ـ بالمزدلفة ـ رمزاً لذلك المعنى . وبعد قيام الحاج بما وجب عليه من الوجود في المشعر من الفجر إلى طلوع الشمس يأتي دور الزحف إلى منى صباح اليوم العاشر ـ ليقوم الناسك في هذا اليوم ـ وفي ذلك المكان بمناسكه الثلاثة رمي الجمرة وذبح الهدي والحلق والتقصير ويبقى عليه المبيت في منى ليلتي الحادي والثاني عشر وربما الثالث عشر ـ في بعض الفروض ـ من أجل رمي الجمرات الثلاث يومي الحادي والثاني عشر وربما الثالث عشر في بعض الصور . وبعد المبيت في منى ورمي جمراتها يرجع إلى مكة لطواف الحج وصلاته وللسعي ثانياً وطواف النساء وصلاته . ويجوز للحاج أن يأتي إلى مكة بعد فراغه من أعمال منى صباح يوم العيد ليأتي بالأعمال المذكورة ثم يرجع إلى منى ليبيت فيها ليلتي الحادي عشر والثاني عشر وربما الثالث عشر مع رميه الجمرات الثلاث صباح كل يوم يبيت الناسك ليلته في منى .

وذكر هذه المناسك بهذا الاختصار لمجرد رسم الصورة الاجمالية في أعمال حج التمتع وعمرته المتقدمة عليه ولا بد لكل ناسك من الرجوع إلى مناسك مرجعه في التقليد ليطبق أعماله على فتاواه فيها . وأما المجتهد فهو يرجع إلى مناسكه ليعمل وفق فتاواه أو احتياطاته ـ كما هو واضح .

وبعد الفراغ من تحرير صفحات هذا الكتاب ( حول فلسفة الحج في الإسلام ) ترجح لدي نقل حديث كتبته حول فلسفة العبادة بمعناها العام وعبادة الحج خاصة وهو منشور في الجزء الأول من وحي الإسلام صفحة ٢٨ . وذلك لانسجامه مع مضمون أبحاث هذا الكتاب من جهة وللحديث فيه حول فلسفة الحج ـ موضوع البحث فيه ـ من جهة أخرى وفيما يلي الحديث المذكور ، وموضوعه .

٢٢٨
 &

فلسفة العبادة بمعناها العام وعبادة الحج خاصة

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين

والصلاة والسلام على أشرف الخلق وأعز المرسلين نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله الطاهرين المنتجبين .

وبعد : قال الله في محكم كتابه المجيد :

( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ) (١) .

حيث أننا على أبواب التوجه إلى بيت الله الحرام لتأدية فريضة الحج المقدسة ناسب ذلك أن أتحدث عن فلسفة هذه الفريضة وأبين ما يترتب عليها من الفوائد العديدة والمنافع الكثيرة التي أشار الله سبحانه إليها إجمالاً بقوله : ( لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ) (٢) .

وهذا يقتضي بيان العبادة بمعناها العام ودورها التربوي في حياة الإنسان فرداً ومجتمعاً نظراً لمساهمة ذلك في معرفة الدور الذي تؤديه فريضة الحج في هذا المجال فأقول :

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ٩٧ .

(٢) سورة الحج ، الآية : ٢٨ .

٢٢٩
 &

المراد من العبادة بمعناها العام الذي اعتبره الله سبحانه العلة الغائية الداعية لخلق الجن والإنس على ما صرح به سبحانه في كتابه الكريم بقوله عز وجل : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) (١) .

الخضوع الكلي والانقياد المطلق لإرادة الله سبحانه بكل عمل اختياري يصدر من المكلف بإرادته واختياره سواء كان هذا العمل باطنياً كالتفكر في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار من أجل التوصل به إلى تحصيل الإيمان الراسخ بوجود الله ووحدانيته وعدله وضرورة إرساله للأنبياء وتعيينه للأوصياء وحشره للناس غداً للحساب يوم الجزاء .

أم كان عملاً ظاهرياً وموقفاً خارجياً منطلقاً من ذلك الإيمان من أجل أن يتوصل الإنسان بهذه العبادة بكلا شقيها الباطني والظاهري إلى ما أراد الله سبحانه له أن يصل إليه ويحصل عليه من السعادة في الدنيا والآخرة .

وذلك لأن العبادة الظاهرية تتمثل بفعل ما أمر الله به من الواجبات والمستحبات وترك ما نهى عنه من المحرمات والمكروهات وحيث أن الله حكيم رحيم لا يأمر إلا بما فيه المصلحة والمنفعة المادية والمعنوية ولا ينهى إلا عما فيه المضرة والمفسدة المادية والمعنوية فإذا حقق العبد ذلك واتقى الله حق تقاته وحصَّل المنافع والفوائد وسلم من المضار والمفاسد فهو يدخل جنة الدنيا ومنها ينطلق إلى جنة البقاء والخلود ـ قال سبحانه :

( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (٢) .

__________________

(١) سورة الذاريات ، الآية : ٥٦ .

(٢) سورة الأعراف ، الآية : ٩٦ .

٢٣٠
 &

وقال سبحانه :

( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ) (١) .

والعبادة بهذا المعنى العام المتمثل بالاستقامة في طريق التقوى وعدم الانحراف عنه مهما كانت الضغوطات أو الإغراءات المؤدية بطبيعتها إلى التحلل من نظام العبودية حيث أنها محتاجة إلى قوة إيمانية وبطولة روحية تساعد المؤمن على الثبات في ساحة الجهاد الأكبر لذلك شرعت العبادات الخاصة المعهودة بكيفيتها المرسومة واشترط في صحتها وترتب الأثر عليها الإتيان بها بقصد التقرب بها لله سبحانه لأن ذلك يعمق الإيمان في النفس ويقويه في القلب ليبقى صاحبه على صلة بالله تعالى وانشداد إليه برابطة التقوى فيظل دائماً في إطار عبادته له بكل ما يصدر عنه من تصرفات اختيارية سواء كانت فعلاً لما أمر به أو تركاً لما نهى عنه ونتيجة ذلك هي بقاء هذا المؤمن العابد في نطاق مصلحته وسعادته كما أراد الله له على ضوء ما تقدم بيانه من فلسفة العبادة وما يترتب عليها من معطيات إيمانية كثيرة وبعد ذكر هذه المقدمة التمهيدية يأتي دور الحديث عن الحج وبيان ما يترتب على تأدية فريضته من الفوائد الجليلة والمنافع العديدة فأقول :

الفوائد المترتبة على هذه الفريضة المقدسة كثيرة وسأقتصر على ذكر أهمها وابرزها وهو الزهد في كل ما يبعد الإنسان عن رحمة الله سبحانه ويشغله عن الاهتمام بما ينفعه في دنياه وآخرته من الواجبات والمستحبات وعن التجمل بما يرفعه من الفضائل والكمالات ـ والوجه في ترتب فائدة الزهد على تأدية فريضة الحج هو أن الإنسان المؤمن إذا عزم على تأدية هذه الفريضة يرتسم نصب عينيه شبح الموت بسبب ما يحصل له ويصيبه

__________________

(١) سورة الطلاق ، الآيتان : ٢ و ٣ .

٢٣١
 &

في الطريق وبعد وصوله إلى أماكن تأدية المناسك الواجبة من المتاعب والحوادث الخطيرة التي أدت فيما سبق إلى موت بعض الحجاج ـ وخوفه من ذلك يُظهر بصورة تفصيلية طبيعة هذه الحياة الدنيا وأنها دار ضيافة والإنسان فيها ضيف يُقيم فترة محدودة ثم يرحل عنها إلى مقره الأخير وداره الأخرى التي خلق من أجلها وفيها يتقرر مصيره على ضوء أعماله التي كان يمارسها في هذه الدار العاجلة الزائلة فإن كانت خيراً منسجمة مع الوظيفة الشرعية المحددة له من قِبَل الله تعالى كانت النتيجة خيراً وجنةً عرضها السموات والأرض وإن كانت شراً ومخالفة لتلك الوظيفة كانت النتيجة من جنسها قال سبحانه :

( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) (١) .

وخوفه من المصير الثاني المؤلم يجعله زاهداً في الممارسات اللاشرعية وراغباً فيما يؤدي إلى المصير الأول .

ومما تقدم يظهر جلياً أن المراد بالزهد المأمور به والمرغوب فيه إسلامياً ـ هو الزهد فيما يضر الإنسان فرداً ومجتمعاً دنيا وآخرة وينحصر ذلك بالمحرمات وتلحق بها المكروهات على وجه الأفضلية التي لا تمنع من الفعل كما هو المعلوم وذلك باعتبار عدم الاستفادة منها في الآخرة بخلاف ما لو تُركت امتثالاً للنهي الكراهتي فإن ذلك يُعتبر عبادة يحصل بها الثواب في الآخرة والتوفيق في الدنيا وإلى ما ذكرناه في بيان المراد من الزهد أشار الإمام علي عليه‌السلام : ليس الزهد أن لا تملك شيئاً ولكن الزهد أن لا يملكك شيء .

__________________

(١) سورة الزلزلة ، الآيتان ٧ و ٨ .

٢٣٢
 &

وعلى ضوء هذا المفهوم الواعي لمعنى الزهد في الإسلام ـ ندرك أن الإنسان المؤمن لو ساعدته ظروفه على أن يملك الثروة الطائلة من الحلال ودفعه التزامه الديني لأن يخرج ما تعلق بها من الحق المعلوم للسائل والمحروم فهذا الشخص يكون من الزاهدين المقدرين عند الله سبحانه وعند المؤمنين الواعين .

أما الفوائد الأخرى التي يمكن تحصيلها من تأدية فريضة الحج فقد آثرت الإشارة إليها بالقصيدة التالية التي يستطيع المتدبر المثقف أن يستفيدها منها بذوقه السليم وفهمه المستقيم ، وعنوانها :

الحج للأجيال أفضل معهد

الحج للأجيال أفـضل معهدٍ

تجني به عفوَ الإله السرمدي

وتسير في درب التقى بتضامن

وتعارف وتعاطف وتوددِ

إحرامه نزعٌ لثوب مطامع

وطوافُه إجلال ربٍ أوحد

وصَلاتُه صِلةُ القلوب بخالق

باري الوجود ونبع عيشٍ أرغد

والسعيُ سعي للفـضيلة والعلى

وقضاءِ حاجات الفقير المُجهد

وكذلك التقصير رمز تجرّد

من كل خُلْقٍ عن كمالك مُبعدِ

أما الوقوفُ فوقفة لتعارف

وتقارب رغم المكان الأبعد

والإزدلاف لمشعر نرنو به

لرضا السما بتضرع وتعبد

والرمي رميٌ للطغـاة بموقفٍ

حُرٍ ـ من الجمع الغفير ـ مُوحَّد

والـذبحُ ذبحٌ للهوى وتأثرٌ

بسخاء إبراهيم بالغض الندي

والحلق زينة مؤمن متمسك

بعُرى التقى رغم الزمان الأنكد

أما المبيت لدى مِنى فضـيافةٌ

محمودةٌ عند الإله الأجود

٢٣٣
 &

هي تلك فلسفة المناسك أشرقت

وعياً يبدد حيرة المتردد

فالله لا يدعـو الأنامَ لغير ما

يُجدي البرية في القريب وفي الغد

وكذاك إن ينهى فعن مُردٍ لنا

جسماً وروحاً دون أي تردد

هو عالمٌ بمفاسدٍ ومصالحٍ

تعطي السعادة للتقي المهتدي

فمن اتّقى يجني المُنى بتعبـدٍ

وسواه يغرق في الشقا بتمرد

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام أولاً وآخراً على أشرف الخلق وسيد المرسلين نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله الطيبين وصحبه المنتجبين وجميع عباد الله الصالحين .

وقع الفراغ من تحرير صفحات هذا الكتاب ليلة الثالث عشر من شهر رمضان المبارك سنة ١٤١٨ هـ الموافق ١٢ كانون الثاني سنة ١٩٩٨ م

٢٣٤
 &

الفهرست

الموضوع

الصفحة

تقديم وتمهيد ............  ٥

أهداف الحج الرسالية وفوائده التربوية ..........  ١٦

دور الاخلاص في صحة العمل العبادي والنجاح في غيره ......  ١٧

دور تطهير المال من الحق الشرعي في صحة الصلاة وفريضة الحج ......  ٣٦

الرفيق الصالح ودوره الايجابي في نجاح الرحلة ...........  ٤٣

بعض ما يستحب لمن عزم على السفر أن يقوم به ............  ٥٨

الحج رحلة فكرية وروحية من عالم المادة الى عالم العبودية الخالصة ......  ٦٨

بيان الحكمة في أصل وجوب الاحرام وتقييده بمكان الميقات مع بيان الحكمة في وجوب التلبية ..............  ٨٨

الدروس التربوية التي تمليها مدرسة الحج الإسلامية ......  ٩٧

دور الحج في حدوث صفة التواضع أو تأكيدها ........  ٩٧

دور الحج في ثبوت صفة الزهد أو تقويتها ...........  ١٠٤

دور الإحرام في إثارة الشعور وتغذية الإحساس بالمراقبة .......  ١٠٦

دور الحج في تقوية الإرادة والصبر على الشدة ........  ١٠٧

دور الحج في التزام خط السلام واشاعة جو الامان ..........  ١٠٨

٢٣٥
 &

دور تأدية فريضة الحج في الالتزام بأداب الاسلام ............  ١١١

حكمة تشريع الطواف ..............  ١١٣

الحكمة في تحديد الطواف وتقييده بالحجر الأسود بداية ونهاية .......  ١٣٠

الحكمة من تشريع وجوب صلاة الطواف بعده وفي مقام ابراهيم عليه‌السلام ...............  ١٤٤

امتحان النبي ابراهيم المجيد بذبح طفله الوحيد ........  ١٦٣

الحكمة من تشريع وجوب الرمي والذبح والحلق أو التقصير ..........  ١٧٣

بيان سبب صبر بلال على التعذيب وعدم رجوعه عن اسلامه .......  ١٨٤

امتحان النبي ابراهيم عليه‌السلام بنفسه وماله .............  ١٨٥

فلسفة الابتلاء وحكمته .............  ١٩٤

نجاح النبي ابراهيم وولده اسماعيل في امتحان التكليف الظاهري .......  ٢٠١

الحكمة في تشريع وجوب الوقوف في عرفات ........  ٢٠٧

من وحي الوقوف في المشعر الحرام ...........  ٢٢٢

فلسفة العبادة بمعناها العام وعبادة الحج خاصة .......  ٢٢٩

الحج للاجيال أفضل معهد قصيدة من وحي شعائر الحج .....  ٢٣٣

٢٣٦
 &

فلسفة الحجّ في الإسلام الشيخ حسن طراد

٢٣٧
 &

فلسفة الحجّ في الإسلام الشيخ حسن طراد

٢٣٨