فلسفة الحج في الإسلام

الشيخ حسن طراد

فلسفة الحج في الإسلام

المؤلف:

الشيخ حسن طراد


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

نجاح النبي ابراهيم وولده إسماعيل في امتحان التكليف الظاهري

وأما الامتحان بالتكليف الظاهري فقد وقع بوضوح مع النبي ابراهيم وابنه إسماعيل عندما رأى في المنام أنه مأمور بذلج ولده هذا ورؤيا النبي حق ولذلك اعتقد بأنه مأمور بذبحه بالتكليف الواقعي كالصلاة والصيام والحج ونشأ من هذا الاعتقاد إقدامه على الامتثال بالذبح فعلاً وكذلك حصل للولد اعتقاد بأنه مأمور واقعاً بتقديم نفسه قرباناً لله وتقرباً منه فأقدم على التنفيذ معبراً عن رضاه به وتسليمه لأمر ربه بقوله :

( يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) (١) .

ومن المعلوم أن النجاح في هذا الامتحان يكون بنفس الإقدام على العمل والامتثال ولا يتوقف على حصوله خارجاً لعدم كونه مطلوباً للمولى ومقصوداً له بهذا التكليف الظاهري .

وقد بلغ هذان النبيان العظيمان قمة النجاح في هذا الإمتحان الصعب عندما أسلما أمرهما لله سبحانه وأقدم الوالد على تقديم ولده الصغير الوحيد الذي مَنَّ الله به عليه حال الشيخوخة والكبر وأقدم الولد على تقديم نفسه النفيسة قرباناً لله تعالى .

__________________

(١) سورة الصافات ، الآية : ١٠٢ .

٢٠١
 &

وبعد حصول النجاح في هذا الامتحان الإلهي وتحقق ما أراد الله سبحانه تحققه بواسطته من ظهور مقام هذين النبيين الرفيع ومنزلتهما الإيمانية السامية .

أجل : بعد حصول ذلك كشف الله لهما عن واقع الرؤيا وأن المقصود منها واقعاً هو الإقدام على الذبح لا نفسُه وذلك بقوله تعالى :

( وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) (١) .

وتكرر هذا النوع من الامتحان بالتكليف الظاهري مع النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وولده الروحي علي بن أبي طالب عليه‌السلام وذلك عندما طلب منه بأمرٍ من الله سبحانه أن يَنام في فراشه ليلة هجرته ليكون ذلك مغطياً لانسحابه من بين المشركين المحيطين بالمكان بانتظار مجيء الوقت المحدد للهجوم على شخص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليقضوا على حياته الشريفة وكانت الدلائل والأمارات الظاهرية توحي بأن القتل الذي كان سيصيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو بقي في فراشه ـ يفرض إصابتهُ لعلي عليه‌السلام ووقوعه عليه .

ومع هذا أقدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أن يقدم شخص علي وهو ولده الروحي فداءً للرسول والرسالة كما أقدم عليٌ على أن يقدم نفسه المطمئنَّة فداءً لهما .

وقد نالا النجاح الباهر في هذا الامتحان الصعب وبالدرجة التي نالها النبيان المذكوران . وإن كان فداء إسماعيل وصونه من الذبح ـ بذبح عظيم فإن فداء الإمام علي عليه‌السلام وحفظه من القتل كان بتخطيط سماوي سليم

__________________

(١) سورة الصادفات ، الآيتان : ١٠٤ و ١٠٥ .

٢٠٢
 &

وتقدير حكيم من أجل أن يقوم بدوره البارز بعد ذلك مع الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ميدان الجهاد والتضحية في سبيل نصر الدين ونشره في الآفاق ليعرفه الناس على حقيقته وواقعه فيدخلوا فيه أفواجاً بعد حصول النصر العظيم والفتح المبين كما تحقق ذلك بحول الله وقوته ـ .

وحاصل الجواب على السؤال الثاني أن المصيبة مرة تحصل للإنسان بإرادته وسوء اختياره وأخرى تحصل له بسبب ظلم الآخرين له وثالثةً تحصل بقدر وقضاء من السماء أما النوع الأول فلا تصح نسبته إلى الله سبحانه لنحتاج إلى السؤال عن الوجه في حصوله لهذا الشخص بعد البناء على ما هو الصحيح من أن الإنسان مخير في أعماله وليس مجبوراً عليها .

وبذلك يندفع الإشكال ولا يبقى موضوع للسؤال ويكون هذا الإنسان مصداقاً لقوله تعالى :

( وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (١) .

وبذلك يُعرف الجواب بالنسبة إلى النوع الثاني من المصيبة وهو الحاصل للشخص بسبب ظلم غيره له لأن الله سبحانه وإن اقتضت حكمته أن يخلق الإنسان حراً مختاراً في أفعاله من الناحية التكوينية ولكنه قيد حريته بالنظام التشريعي فلم يسمح له بظلم الآخرين والاعتداء عليهم فإذا التزم بذلك سَلم وسلَّم غيره من الظلم كما أراد الله تعالى وكتب له الثواب على التزامه وامتثاله هذا التكليف .

وإذا خالف حكم الله تعالى وظلم بذلك نفسه وغيره استحق العقوبة العادلة يوم الحساب وربما عُجلت له في الدنيا إذا اقتضت الحكمة الإلهية ذلك .

__________________

(١) سورة النحل ، الآية : ١١٨ .

٢٠٣
 &

وأما المظلوم فسوف لا تذهب مظلوميته هدراً بل لا بد أن ينظر إليها بعين العدل التشريعي معجلاً وذلك بإعطاء وليه الحق في القصاص إذا كانت الجناية على حياته أو أخذ الدية إذا تنازل الولي عن الأخذ بحق القصاص ووافق على أخذ الدية وكذلك إذا كان الاعتداء على أحد أعضائه . عمداً فالشرع يعطي هذا المظلوم المعتدَى عليه الحق بالقصاص أو الدية إذا تنازل عن الأول ورضي بها .

وإذا لم يكن الاعتداء جنايةً على النفس أو على أحد الأعضاء على وجه يوجب القصاص أو الدية بل كان مسبباً ما هو أقل من ذلك فقد أعطاه الشرع المقدس حق الرد بالمثل لقوله تعالى :

( فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ) (١) .

وإذا كان الاعتداء سبباً لإتلاف المال فالشرع يوجب على هذا المعتدي ضمان ما أتلفه لصاحبه بمثله أو بقيمته وهكذا فالله العادل بقضائه وشرعه لا يظلم أحداً ولا يسمح لغيره بظلمه ـ وإذا اعتُدي عليه وقف إلى جانبه في هذه الحياة بالتشريع العادل كما يأخذ له بحقه في الآخرة بالقضاء والفصل العادل أيضاً حتى لا يذهب حق المظلوم هدراً وربما أدت مظلومية بعض الأشخاص لأن يدخل بها الجنة إذا سببت له استحقاق مقدار من حسنات الظالم مقابل حقه المادي أو المعنوي الذي غُصب منه في الدنيا ـ وأدت نقيصة حسنات الظالم لأن يدخل بها النار حيث تغلب سيئاتُه حسناته بسبب هذه النقيصة على تفصيل وتوضيح مذكور في محله .

وبذلك يظهر أن ظلم شخص لآخر يكون رحمة للمظلوم في الآخرة

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٩٤ .

٢٠٤
 &

على ضوء النتيجة المذكورة ويكون ظلماً حقيقياً لنفس هذا الظالم قال سبحانه :

( مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ) (١) .

ويبقى النوع الثالث من المصيبة هو الذي يحتاج إلى الإجابة الواضحة المبينة لحقيقة العدل الإلهي فأقول :

إن كل الحوادث التي تجري في الحياة خارج نطاق اختيار الإنسان وإرادته إنما تحدث لأسباب تكوينية أودعها الله سبحانه في الكون لمصلحة نوعية تخدم نوع البشر وأكثر أفراده فأصل وجود الريح وهبوبها قوية أو ضعيفة لمصلحة عامة وخلق الماء سائلاً بطبعه لحكمة كما أن خلق النار محرقة لمصلحة وهكذا ـ وقد يتفق في بعض الأحيان أن تحمل الريح النار إلى زرع شخص فتحرقه كما قد يتفق أن يكون هبوب الريح بدرجة قوية ولمصلحة نوعية لا يعلمها تفصيلاً إلا الله تعالى ـ مؤدياً إلى غرق السفينة وهلاك من فيها ففي هذه الموارد التي تتصادم فيها مصالح نوع المجتمع مع مصلحة بعض الأشخاص قد تقتضي المصلحة النوعية والحكمة الإلهية . أن تبقي القانون الطبيعي جارياً على مجراه التكويني ليؤدي الخدمة النوعية الكبرى ولو أدى ذلك إلى حدوث الضرر لبعض الأفراد من باب تقديم الأهم على المهم في عالم المصالح عندما تتزاحم وتتصادم ولا يتنافى ذلك مع العدل الإلهي لأن الأضرار الطارئة على الإنسان في هذه الحياة بالقدر والقضاء إذا رضي بقدر الله وقضائه وصبر عليه ـ تُعوض عليه في الآخرة بما يُعطيه سبحانه للمؤمن من الثواب العظيم والأجر الجسيم .

__________________

(١) سورة فصلت ، الآية : ٤٦ .

٢٠٥
 &

وإبطالُ القانون الطبيعي بجعل النار برداً وسلاماً مثلاً كما حصل مع النبي ابراهيم ـ لا يكون إلا على وجه المعجزة ومع النبي أو الإمام والقريب منهما من الأولياء الصالحين كما هو واضح ـ .

وأما الحوادث الطبيعية التي يقدرها الله سبحانه في بعض الأحيان لتكون عقوبةً للمجرمين المتمردين على إرادته تعالى فهذه أيضاً لا تنافي العدل الإلهي بالنسبة إلى مستحقي العقوبة أولاً لاستحقاقهم لها ـ وثانياً لأن العقوبة المعجلة تخفف من المؤجلة ليوم الحشر الموعود .

وأما بالنسبة إلى المؤمنين الصابرين فالأضرار الطارئة عليهم في هذه الحياة تعوض عليهم بالنعيم الخالد والسعادة الأبدية جزاءً عادلاً ومكافأةً لهم على تسليمهم لقضاء الله وصبرهم عليه حيث يدخلون الجنة بغير حساب لقوله تعالى : ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (١) .

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية : ١٠ .

٢٠٦
 &

الحكمة في تشريع وجوب الوقوف في عرفات

بعد الانتهاء من الجولة الفكرية والرحلة المعنوية التي انطلقنا بها في رحاب شخصية أبي الأنبياء وأبي الابتلاء النبي ابراهيم عليه‌السلام واستيحاء الكثير من العِبَر والدروس المفيدة من سيرته الرشيدة وتصرفاته السديدة المنطلقة من التشريع السماوي والمترجمة لما فيه من قيم رفيعة ومثل سامية تلفت الأنظار وتدعو إلى الإجلال والإكبار .

أجل : بعد هذه الجولة الممتعة نعود لنكمل الحديث عن رحلة الحج المباركة بالحديث عن أبرز شعار وأروع منسك من مناسك هذه الفريضة الميمونة وهو الوقوف في عرفات الذي تتجلى فيه روح التعبد بربطه بهذا المكان الخاص وتحديده بزمانه المعلوم المحدد من طرف البداية بأول الزوال من يوم عرفة وهو التاسع من ذي الحجة ومن طرف النهاية بالغروب منه أي من يوم عرفة مع حصره بهذا اليوم الخاص دون غيره من أيام ذي الحجة وقد نبهت سابقاً على أن الحكمة الإلهية قد تقتضي تكليف الإنسان ببعض الوظائف الشرعية على وجه التعبد من دون أن تشرح الحكمة في أصل التشريع وفي بعض الخصوصيات من أجل تقوية روح العبودية والانقياد لإرادة الله تعالى مع الاعتقاد الجازم بحكمة الله تعالى وأنه لا يشرع بدون هدف كما لا يخلق بدون غاية ولا يوجد هناك أي موجب لأن يتعرض الله سبحانه لبيان الحكمة ولو بواسطة أنبيائه المرسلين كما لا يجب

٢٠٧
 &

على المكلف أن يطلع على ذلك بصورة تفصيلية ومع هذا وذاك لا مانع من استلهام بعض العبر والدروس التربوية من أصل إيجاب فريضة الحج بصورة عامة ومن كل شعار من شعاراته المقدسة على وجه الخصوص ـ على ضوء ما يستفاد من بعض النصوص الواردة عن أهل البيت وملاحظة واقع النتائج الإيجابية والمنافع الكثيرة المترتبة على تأدية فريضة الحج عامة وكل شعيرة من شعائره المباركة خاصة ويأتي موقف عرفات ليكون أحد أبرز أركان هذه الفريضة لما يترتب عليه من الفوائد العديدة والمنافع الكثيرة كما سيأتي ـ وقد ورد في بعض النصوص ما يعبر عن أهميته حيث ورد فيه ما حاصله ( الحج عرفة ) وقد حاول البعض أن يُرجع كلمة عرفة أو عرفات إلى مصدرها اللغوي رابطاً ذلك ومفرعاً له على حادثة افتراق آدم عن حواء بعد هبوطهما من الجنة وسَعْيِ كل واحد منهما باحثاً عن الآخر حتى مَنّ الله عليهما باللقاء وعرفَ مكانَ وجود الآخر في هذا المكان الطاهر المبارك ـ ونحن لا يهمنا معرفة مصدر هذه الكلمة من زاوية اللغة أو علمي النحو والصرف والحادثة التاريخية المذكورة بقدر ما يهمنا معرفة ما ينطوي عليه هذا الشعار من حكمة ويترتب عليه من مصلحة وفائدة وعلى هذا الأساس ستكون انطلاقتنا في رحاب الحديث عنه ومحاولة استلهام المزيد من الحِكَم والمصالح والدروس التربوية والمنافع الدنيوية والأخروية التي أشار الله إليها بقوله سبحانه : ( لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ) (١) مؤكداً بذلك ما هو المرتكز في ذهن المسلم الواعي المؤمن بحكمة الله تعالى وأنه لا يشرع أي حكم بدون حكمة كما لا يوجد أي مخلوق بدون هدف وغاية وإن لم نعرف تلك الحكمة وهذه الغاية بصورة تفصيلية .

__________________

(١) سورة الحج ، الآية : ٢٨ .

٢٠٨
 &

وإذا كان لربط مبنى هذه الكلمة من الناحية اللفظية الصياغية بمصدرها وقع إيجابي في نفس القارىء الكريم والحاج العزيز فنحن نرى أن أقرب منطلق لها هو المعرفة بمعناها الإيجابي الذي اعتبره الله سبحانه علة لإيجاد الكون بما فيه الإنسان وذلك على ضوء التفسير الذي يفيد أن المراد بالعبادة الواردة في قوله تعالى :

( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) (١) .

هو المعرفة ـ وذلك لأن المعرفة الصحيحة هي مصدر العقيدة الصحيحة والعبادة المطلوبة لله تعالى المقربة منه ـ ويصح تقسيمها بلحاظ متعلقها إلى قسمين :

الأول : المعرفة الأساسية الأصلية وهي المتعلقة بأصول الدين المعهودة التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد ـ وقد أشرت إليها بأسلوب علمي مختصر في أكثر من حديث من أحاديث الجزء الأول من وحي الإسلام .

القسم الثاني من المعرفة : هو المعرفة المتعلقة بفروع الدين المتفرعة على أصوله وقد فرقوا بين هذين القسمين من المعرفة بأن الأول يجب أن يكون حاصلاً من الدليل القاطع الثابت لدى العارف المعتقد ولو كان ذلك الدليل مختصراً فطرياً موجباً للاعتقاد الجازم ولا يجوز فيه تقليد الآخرين مهما سمت مرتبتهم العلمية .

وأما القسم الثاني : فالمكلف مخير بين أن يحصله بالاجتهاد والدليل الصحيح المعتبر وأن يقلد فيه المجتهد الواجد لشروط

__________________

(١) سورة الذاريات ، الآية : ٥٦ .

٢٠٩
 &

التقليد وهي مذكورة في محلها من الرسائل العملية والكتب الفقهية وذلك لأن الأول مرتبط بالعقيدة والإيمان وهو لا ينور العقل ولا يغذي الروح ويهذب النفس لتنطلق في طريق الغاية الأساسية التي خلق الله الجن والإنس من أجلها ـ وهي عبادته وحده لا شريك له ـ إلا إذا نفذت إلى داخل العقل والقلب بالاقتناع الذي يحصل للإنسان من خلال تدبره الآيات الكونية المنتشرة في الآفاق والأنفس وكلها تنادي بلسان الفطرة السليمة بوجود الخالق المبدع الواحد العادل الحكيم الذي خلق الكون لخدمة الإنسان وخلق الإنسان لعبادته فاقتضى ذلك أن يبعث لبني الإنسان المكلفين ـ الأنبياء والرسل مبشرين ومنذرين ليرشدوهم إلى الغاية التي خلقوا من أجلها وهي عبادته وحده لا شريك له ويدلوهم على كيفية هذه العبادة ويمثلوا لهم القدوة الصالحة والأسوة الحسنة لتتم الحجة وتتحقق الغاية المقصودة من الخلق والبعثة .

كما اقتضى ذلك أن يتولى الله سبحانه تعيين الحجة الشرعية والقائد العام المعصوم والأفضل من أهل زمانه على الإطلاق وبكل الصفات الكمالية كما كان النبي نفسه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك لأن الله أعلم حيث يجعل رسالته فكما كان تعيين الرسول والحجة الأولى راجعاً إلى الله تعالى كذلك تعيين من ينوب عنه ويمثل دوره وقد عين الله ذلك وبلغ النبي ما أنزل إليه من ربه في هذه الشأن ـ ومن لوازم الإيمان بعدل الله سبحانه الإيمان الراسخ والاعتقاد الجازم بضرورة إعادة الله الخلق للحياة من جديد ليحكم بينهم بالعدل ويجازي المحسن عن إحسانه بالنعيم كما وعد والمسيء على إساءته بالعذاب الأليم كما أوعد وهو أوفى الواعدين وأصدق القائلين حيث قال سبحانه :

٢١٠
 &

( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) (١) .

وأما القسم الثاني من المعرفة : فالمقصود منه هو العمل وفق الوظائف الشرعية المحددة للمكلف في مجال العبادات والمعاملات على ضوء اجتهاده أو تقليده ويُراد بالمعاملات معناها العام الشامل لكل التصرفات المنسجمة مع الأحكام الشرعية والمحققة لعبادة الله سبحانه والإنقياد لإرادته بكل الأعمال الاختيارية التي لا يشترط في انسجامها مع الوظيفة الشرعية قصد التقرب بها لله تعالى ـ وبعبارة أخرى أوجز وأوضح : المراد بالمعاملات بالمعنى العام ـ كل عمل يمارسه المكلف وفق الوظيفة الشرعية المقررة في كل مورد ولا يشترط في انسجامه مع هذه الوظيفة قصد التقرب به لله تعالى وبهذا المعنى العام تشمل المعاملات بمعناها الخاص وهي المتوقفة على الإيجاب والقبول من طرفي العقد كما تشمل الإيقاعات التي لا تتوقف عليهما ويحصل من الشخص الواحد كالعتق والطلاق ونحوهما والتفصيل موكول إلى محله ـ ومن المعلوم أن العمل بالوظائف الشرعية وامتثال الأحكام السماوية لا يتوقف على تحصيل العلم بها عن طريق الدليل والبرهان ولذلك كان المكلف مخيراً فيها بين تحصيلها بالاجتهاد ومعرفتها بالتقليد لواجد شروطه المعهودة كما تقدم .

وحيث انطلقنا بالحديث حول كلمة عرفة وعرفات من زاوية مفهومها الإيماني العرفاني الواسع الذي لا يختص بزمان معين ومكان محدد بل يشمُل كلّ الساحات التي يكون للإنسان فيها حركة عبادية بتأدية واجب أو مستحب وترك حرام أو مكروه ـ أجل : حيث أنا انطلقنا بالحديث حول

__________________

(١) سورة الزلزلة ، الآيتان : ٧ و ٨ .

٢١١
 &

العنوان المذكور ( عرفة أو عرفات ) من الزاوية الواسعة المذكورة فسيكون الحديث حول عدة عرفات متسلسلة الحلقات انطلاقاً من الساحة الصغيرة إلى الكبيرة فالكبرى حتى نصل إلى عرفات الحج في زمانها ومكانها ونحن متجملون بكل المعاني والقيم التي تساعدنا على إدراك الحكمة والغاية ولو إجمالاً ـ من تشريع الله سبحانه هذا الشعار المقدس واعتباره ركناً أساسياً من أركان فريضة الحج المباركة فأقول والله ولي التوفيق .

وقفة في عرفات النفس :

إن الحلقة الأولى من حلقات عرفات بمعناها العرفاني الإيماني هي عرفات النفس التي يجب على المكلف أن يقف فيها ابتداء من أول زوال وظهر يوم التكليف إلى وقت غروب شمسه عن سماء القدرة والتمكن . والوظيفةُ الشرعيةُ المطلوبة منه في هذه الساحة وفي إطار هذه الحلقة هي التفقه في الدين بالاطلاع على أصوله المعهودة والإيمان بها عن دليل قاطع ولو إجمالاً مع الاطلاع على الفروع الواقعة محل ابتلائه من العبادات والمعاملات مضافاً إلى ما يتمم هذا الاطلاع وتلك المعرفة وهو التجمل بالتقوى ومكارم الأخلاق باعتبار أن ذلك هو الغاية الأساسية المقصودة من خلق الإنسان وإنزال الكتب والشرائع السماوية .

وقفة أخرى في عرفات الأسرة :

وبعد الوقوف على صعيد عرفات النفس والقيام بما يجب على المكلف نحوها وهو ما ذكرناه من التفقه في الدين والعمل بمقتضاه كما تقدم يجب عليه أن يقف في عرفات الأسرة وذلك بمعرفة ما يجب عليه نحو كل فرد من أفرادها فيعرف الزوج حق زوجته ووالديه وأولاده وكذلك

٢١٢
 &

الزوجة كما يعرف الولد حق والديه وبعد حصول المعرفة والتعارف يأتي دور الوقوف على صعيد هذه الحلقة الوسطى من حلقات عرفات بمعناها العام ليؤدي المكلف لكل ذي حق حقه ويؤدي بذلك ما يجب عليه في إطار عرفات الأسرة من مناسكها المناسبة لها .

وقفة ثالثة في عرفات المجتمع :

وبعد خروج المكلف من إطار عرفات الأسرة الوسطى يدخل في إطار عرفات الكبرى الأوسع مساحةً والأكثر أفراداً ليعرف ما يطلب منه من حق واجب أو مستحب نحو جاره ثم نحو أخيه في الإسلام والإيمان ثم نحو أخيه في الإنسانية لقول الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الإنسان أخو الإنسان أحب أم كره ، ثم سائر المخلوقات التي تشترك معه بمصدر الخلق والإيجاد وهو الله سبحانه فيقف نحو كل طبقة من هذه الطبقات الموقف الذي يحدده الشرع له وبذلك يكون قد أدى ما يُطلب منه وجوباً أو استحباباً في عرفات المجتمع وقام بمناسكها المطلوبة منه فيها .

وبتأدية ما يطلب منه في الحلقات المذكورة لعرفات بمعناها العام الإيماني يكون قد هيأ نفسه لتأدية واجبات عرفات الحج المعهودة .

الوقفة المنشودة في عرفات المعهودة :

وهي التي يستلهم منها الحاجُ الدروس المفيدة والعِبَر العديدة وهي كثيرة منها تذكر يوم الحشر الأكبر من خلال ملاحظة ذلك الجمع الغفير والأمواج المتلاطمة من البشر في بحر الحج العميق مع ملاحظة ارتداء ثوب الإحرام المجرد من الخياطة بالنسبة إلى الرجال ـ وذلك يذكرنا بالكفن ويرسم لنا صورة المستقبل المذهل في ذلك اليوم الذي تحدّث الله

٢١٣
 &

عنه بقوله تعالى :

( يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) (١) .

والنتيجة العملية والفائدة التربوية المترتبة على ذلك هي حصول الخوف الشديد من هول ذلك اليوم وهذا يؤدي بطبعه إلى الاستمساك بعروة التقوى والعودة إلى الله من باب التوبة لأن الله سبحانه :

( يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) (٢) .

كما وصف نفسه وتحدث في كتابه الكريم ، هذا إذا كان منحرفاً عن خط الاستقامة وأما إذا كان مستقيماً عليه فهو يستمر على استقامته بقوة وثبات أكثر وأقوى مما كان عليه قبل وقوفه على صعيد عرفات الحج وهذه فائدة كبرى جديرة بالاهتمام وبذلك الجهد المستطاع في سبيل تأدية هذه الفريضة بعد وجوبها بالاستطاعة الشرعية كما تقتضي تأكد الاستحباب ورجحان السعي في سبيل تحصيلها أي تحصيل الاستطاعة تمهيداً للتمكن من الإتيان بهذه الفريضة المباركة وتحصيل فوائدها العديدة .

ومنها : حصول الانفتاح العفوي من قبل المسلمين بعضهم على بعض ليتعارفوا ويتعاونوا على البر والتقوى بالسعي في سبيل تحقيق المصالح المشتركة بين أبناء الأمة الإسلامية على اختلاف مذاهبها وانتماءاتها وتتمثل تلك المصالح بالمنافع التالية وهي :

__________________

(١) سورة الحج ، الآية : ٢ .

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٢٢٢ .

٢١٤
 &

أولاً : المنافع المادية الاقتصادية بسبب تعارف التجار وتفاهمهم على القيام بالتبادل التجاري بأن يرسل كل بلد ما يوجد لديه من بضائع ومصنوعات ومنتوجات غير موجودة في البلد الآخر ـ إلى هذا البلد كما يحصل تبادل منافع بين الحجاج القاصدين لتأدية فريضة الحج المباركة بأن يصحب الذاهب إلى زيارة بيت الله الحرام ما يوجد في بلده من بضائع ونحوها ليبيعها في أسواق بلد الحج قبل قيامه بالفريضة أو بعد تأديتها ولا مانع من ذلك شرعاً ما دام مقصوداً بالعرض والتبع كما هو المتوقع من المكلف المتفقه في الدين والمطلع على اشتراط قصد القربة في صحة كل العبادات ومنها فريضة الحج مع الإخلاص في النية والقصد بمعنى أن يكون الدافع لسفره هو تأدية هذه الفريضة . وما عداه من المنافع المادية أو المعنوية ـ يكون مقصوداً له بالتبع بمعنى أنه لولا عزمه على القيام بمناسك الحج وجوباً أو استحباباً ـ لما سافر إلى مكة وقد صرح الله سبحانه بمشروعية الاستفادة الاقتصادية للحجاج بعد حديثه عن فريضة الحج في آية سابقة مباشرة وذلك بقوله سبحانه :

( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ ) (١) .

وثانياً : المنافع السياسية وذلك من خلال تلاقي رموز الشعوب الروحية والسياسية واجتماعها على مائدة المذاكرة ومن خلال مؤتمر يُعقد على صعيد بلد الحج كما يحصل في الغالب ـ من أجل التشاور ومعرفة ما يعود على الشعوب الإسلامية ودولها ـ بالنفع والقوة المعنوية السياسية مضافاً إلى ما يعود عليها بالقوة العسكرية التي تمكنها من الصمود أمام التحديات والاعتداءات التي تتعرض لها بين الحين والآخر من قبل أعداء

__________________

(١) سورة البقرة : الآية : ١٩٨ .

٢١٥
 &

الأمتين الإسلامية والعربية كما مكنها من تحرير ما احتل من أرضها .

وثالثاً : المنافع الثقافية من خلال التقاء رجال الفكر والثقافة العالية وتذاكرهم حول أهم المواد العلمية الدراسية والأدبية ونحوها مما ينفع الطلاب أكثر مع محاولة التعرف على أجدى الأساليب وأنفع الطرق التي تساعد المعلم على تعليم طلابه وإفادتهم في الحقل التعليمي بالأسلوب الواضح الراجح .

ورابعاً : فائدة الوحدة والاتحاد بين أبناء الأمة الإسلامية ونظمها الحاكمة فيها لتعود إلى سابق عهدها ومجدها يوم كانت أمةً واحدةً معتصمة بحبل الوحدة الإسلامية التي تنطلق من خلال ملاحظة القواسم المشتركة والروابط المعنوية الكثيرة وهي إيمانها بالإله الخالق المعبود الواحد مع إيمانها بالرسول الأخير الواحد الذي أرسله الله سبحانه ليكون رحمة للعالمين عامة وللمسلمين خاصة وبالكتاب الواحد الذي أنزله سبحانه على هذا الرسول الأعظم ليكون نظام أمة ودستور حياة لجميع أفراد الأمة الإسلامية بلا استثناء مع الإيمان بالمعاد الواحد والنهاية المشتركة التي يقف الجميع بعدها بين يدي العدالة السماوية لتجازي كل فرد على عمله بما يناسبه من الجزاء .

وتأتي وقفة عرفات لتؤكد أواصر الوحدة المعنوية للأمة الإسلامية بمظاهر وحدوية تذوب معها فوارق اللون واللغة والعرق والمذهب واللباس فالكل متجردون من ملابس الحياة الدنيا وزينتها ليبرزوا بمظهر واحد ويلتقوا على صعيد واحد ويهتفوا بشعار واحد وهو شعار التلبية التي يدوي صداها في مسامع تلك الجماهير الغفيرة فتبعث في قلوبها القوة والثقة بقدرة الأمة وتمكنها إذا اعتصمت بحبل الله سبحانه ـ من تحرير أرضها واستعادة عزتها وكرامتها .

٢١٦
 &

ولا يخفى على المسلم الواعي أن استلهام درس الوحدة الإسلامية من مدرسة عرفات وتعميقها في النفوس يتوقف على التنبيه والتنبه لكونها ـ أي الوحدة الإسلامية ـ إحدى أبرز الغايات المستهدفة من تشريع هذا الشعار المبارك لذلك يُطلب ممن يؤدي مناسك الحج أن يلتفت إلى هذه الغاية السامية المنشودة من وراء تشريع وجوب هذه الفريضة بصورة عامة كما يُطلب الالتفات إلى الحكمة المستهدفة من كل منسك من مناسكها ولو إجمالاً ـ على ضوء التوجيهات الواردة عن أهل البيت عليهم‌السلام ومن خلال ملاحظة ما يتحقق على صعيد العمل والامتثال من الفوائد الملموسة بالوجدان المؤكد والمتأكد بما هو المعلوم لدى كل مؤمن واع وملتفت إلى ضرورة اتصاف الله سبحانه بكل الصفات الكمالية ومنها العدل والرحمة والحكمة ـ وتعني الصفة الأخيرة عدم صدور أي تشريع من قبل الله سبحانه بلا حكمة وعدم إيجاده مخلوقاً بلا فائدة كما تقدم بيانه مكرراً .

وبعد التفات المكلف إلى غاية التشريع يُطلب منه بذل الجهد في سبيل تحقيقها على الصعيد العملي ـ وذلك بأن يُحقق غاية فريضة الحج والصوم مثلاً وهي التقوى ـ من خلال الاتصاف بها ـ بعد أن عرف أنها من أبرز الغايات والفوائد المنشودة من وراء تشريع وجوبهما على ضوء الآيات المباركة المصرحة بهذه الغاية السامية ـ وهكذا بالنسبة إلى أية فريضة من الفرائض الأخرى كالصلاة والخمس والزكاة ونحوها من الواجبات الشرعية المباركة ـ وقد مرت الإشارة إلى الغاية المستهدفة من تشريع وجوبها فيما سبق من أبحاث هذا الكتاب .

وبإمكان الشخص الذي يقوم بدور التعريف وتعليم أحكام الحج للحجاج الذين تحمل مسؤولية تأدية فريضتهم على الوجه الصحيح من حيث الشكل والصورة أن يلفت أنظارهم إلى الحكمة المستهدفة بعد أن

٢١٧
 &

يتفقه في أحكام الدين بصورة عامة والحج بصورة خاصة كمطلب شرعي يُطلب منه تحقيقه على الصعيد العملي في حق نفسه ويمهد للآخرين الذين انطلقوا معه واعتمدوا عليه ـ سبيل تأدية فريضتهم كاملة شكلاً ومضموناً صورة وهدفاً ويكون من نتائج إدراك غاية أي شعار من شعارات الحج وغيره من الواجبات الإسلامية والتنبه لأهمية هذه الغاية ـ التحرك في طريق تحقيقها على الصعيد العملي .

وللتوضيح نمثل بشعار وقفة عرفات ـ موضوع الحديث ، فإن الحاج الواعي لفلسفة هذا الشعار المبارك ينطلق في طريق تحقيقه وذلك بالانفتاح على إخوانه المسلمين المنتمين إلى غير مذهبه على أساس أن الاختلاف في ذلك كالاختلاف في الرأي بمعناه العام الذي لا يؤدي عند العقلاء الواعين من المسلمين ـ لأن يفسد للود وللوحدة قضية بل كل ما يقتضيه ذلك هو حصول الحوار الهادف الهادىء بين رموز أرباب المذاهب ـ بالحكمة والموعظة الحسنة كما أدبنا القرآن وتكون النتيجة إما الالتقاء والاتفاق نظرياً وعملياً ـ ليحصل التكامل والتعاون على البر والتقوى ويترتب على ذلك ما ينفع الجميع . أو البقاء على الاختلاف في الرأي ـ مع البقاء على احترام كل فريق لمذهب الآخر من أجل المحافظة على وحدة الموقف التي تعود على الجميع بالعزة والقوة وتمكنهم من تحقيق أهدافهم المشتركة وأبرزها التحرير وتقرير المصير .

وتبرز أهمية الوحدة الإسلامية والاعتصام بحبلها المتين من خلال ملاحظة ابتداء الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعوته المباركة بالدعوة إلى الاعتراف بشعارها المقدس وذلك بقوله : قولوا لا إله إلّا الله تفلحوا ، لأنهم عندما يتدبرون معنى هذا الشعار بعقولهم ويؤمنون بمضمونه بقلوبهم ثم يطبقونه على الصعيد العملي بسلوكهم ليضموا إلى توحيد العقيدة توحيد العبادة ـ

٢١٨
 &

يصبحون بهذا وذاك أمةً واحدة كما وصفها الله في كتابه الكريم بقوله تعالى :

( إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (١) .

وحيث أن الإسلام جاء رحمة للعالمين فقد بيّن للعقلاء كلهم على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم وانتماءاتهم ـ الحكمة في خلقهم شعوباً وقبائل وميولاً متنوعة ونزعات مختلفة وصرح بأن المقصود من ذلك التعارفُ والتعاطفُ والتكامل بالتعاون على تحقيق مصلحة الجميع ودفع أو رفع ما يضرهم حيث قال سبحانه :

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (٢) .

وإذا لاحظنا مفردات الشعائر الإسلامية نجد أنها كلها تحمل في طيها روح الوحدة وقلب التوحيد من أجل أن ترسخ وحدة المسلمين وتبقيهم دائماً صفاً واحداً كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً .

فالصلاة مثلاً تجب على كل المسلمين في وقت واحد من حيث العنوان العام وإن حصل الاختلاف في بعض الخصوصيات والتفاصيل على وجه لا يضر بجوهر الوحدة وروحها ، ولذلك يصح أن نشبه الشعارات الإسلامية بالروافد والأنهار التي تختلف في مجاريها ولكنها تصب في نهاية المطاف في بحر واحد . وهكذا الشعارات الدينية وإن اختلفت بخصوصياتها المميزة لبعضها عن بعض بالشكل والصورة ولكن الجوهر واحد والغاية واحدة ما دامت تصب في النهاية في بحر عبادة الله سبحانه

__________________

(١) سورة الأنبياء ، الآية : ٩٢ .

(٢) سورة الحجرات ، الآية : ١٣ .

٢١٩
 &

وحده لا شريك له وتعود كلها على الإنسانية بصورة عامة وعلى المتعبدين بها بصورة خاصة بالخير الكثير لأنها تمثل الجانب العملي التطبيقي من الشرع الإسلامي الذي أنزله الله تعالى ليكون رحمة للعالمين .

وتمتاز فريضة الحج عن سائر الواجبات العبادية بأنها تضم إلى توحيد الأمة وجمعها في إطار الوحدة والتوحيد المعنوي ـ توحيدها الجسمي الخارجي المتمثل باجتماع العدد الكثير من أفرادها على صعيد المناسك المشتركة وخصوصاً الوقوف في عرفات والمشعر الحرام في الوقت الواحد المحدد ، ولا يخفى أن الظاهرة الاجتماعية المباركة التي تتحقق بالتقاء الأفراد الذاهبين إلى زيارة بيت الله الحرام لا ينحصر أثرها الايجابي في المجال التوحيدي ويقف على خصوص أولئك المتشرفين بتأدية هذه الفريضة المقدسة بل ينسحب ويمتد ليشمل بروحه الطاهرة وأبعاده الواسعة سائر الأفراد الذين لم يقدر لهم أن يؤدوا فريضة الحج .

وذلك من خلال الالتقاء الفكري والشعوري الذي يحصل بين ممثلي البلاد الإسلامية ورموزها مضافاً إلى اللقاء الذي يحصل بين الأفراد الآخرين حيث تزرع بذرته في حقل التعارف هناك أيام قيامهم بشعائر فريضتهم المشتركة ثم تُسقى بعد ذلك بماء المواصلة والتواصل ولو بالمراسلة ونحوها الأمر الذي يؤدي عادة إلى نمو هذه الغرسة لتصبح بعد ذلك شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها .

وبقدر ما تتسع دائرة التعارف بين أفراد الأمة فإن شجرته المباركة تمتد ظلالها أكثر لتشمل أكبر عدد ممكن من هذه الأفراد وبذلك يتحقق الهدف الكبير والغاية الواسعة عندما ينطبق عنوان الأمة على تلك الجماهير

٢٢٠