فلسفة الحج في الإسلام

الشيخ حسن طراد

فلسفة الحج في الإسلام

المؤلف:

الشيخ حسن طراد


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي . وأخيراً شاءت الرحمة الإلهية والعناية السماوية أن تهيأ له وسيلة خروجه من سجن الشعب وترد على مكر المشركين الذي دبروه ليلة الهجرة بمكر عادل مبطل لمكرهم الظالم وذلك بإخباره عما عزموا عليه وأمره بأن يأمر علياً بالمبيت في فراشه ليلة هجرته ليكون مبيته فيه مغطياً لانسحابه من بينهم فلا يشعروا به ، وامتثل علي عليه‌السلام أمر السماء ووقى بشخصه حياة سيد الأنبياء وكلل هجرته بالنجاح والتوفيق ليتحول من مرحلة الضعف والدعوة إلى مرحلة القوة والدولة ويفتح له مكة بعد ذلك سلماً ويفتح له بذلك القلوب بالإيمان ليدخل الناس في دين الله أفواجاً .

وقد سجل الله سبحانه ذلك كله على صفحات كتابه الكريم لتستلهم الأجيال منه دروساً تربوية تنير لها درب التضحية والجهاد والصبر والثبات على منهج الحق في مقام الدعوة إلى مبدئه والتمسك بخطه والدفاع عنه عندما يتعرض للخطر من قبل أعداء الرسالة والفضيلة .

هذا حاصل ما يمكن استلهامه من الدروس التربوية من قصة هجرة النبي إبراهيم عليه‌السلام وسفره بزوجته هاجر وطفله اسماعيل إلى بلد غير ذي زرع ليتحول بعد وجود أسرته فيه إلى حقل خصب مزدهر بالزرع المعنوي المبارك الذي تمثل بزرع الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذور الإيمان والتوحيد وغرسه شتلات الرسالة الخالدة الخاتمة في حقل العقول وسقيها بماء التوعية والتربية الرسالية المثالية حتى أصبحت خلال فترة قصيرة ـ شجرة ميمونة مباركة أصلها ثابت في صعيد القلوب وفرعها ممتد إلى سماء الكمال والفضيلة لتؤتي أكلها الطيب وتعطي ثمرها اليانع كل حين بإذن ربها .

ويسرني أن أذكر في ختام هذا الحديث المنطلق في رحاب هجرة

١٦١
 &

الخليل المذكورة والمنتهي بوحي المناسبة إلى هجرة حفيده الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي أكملت الهدف وحققت الغاية التي كانت هجرة الخليل الجد من أجلها .

أجل : يسرني أن أختم هذا الحديث المبارك بالأبيات التالية للشاعر القروي لمناسبتها لمضمون آخر الحديث عن شخصية الرسول الأكرم ورسالته الخالدة وهي منظومة من وحي المولد النبوي المبارك :

عيدُ البرية عيد المولد النبوي

في المشرقين له والمغربين دوي

عيد النبي بن عبد الله من طلعت

شمس الهداية من قرآنه العلوي

بدا من القفر نوراً للورى وهدى

يا للتمدن عم الكون من بدوي

والبيتان التاليان من وحي المبعث النبوي الشريف :

غمر الكون بأنوار النبوه

كوكب لم تدرك الدنيا علوه

بينما الكون ظلام دامس

فُتحت في مكة للنور كوه

وبعد هذه الرحلة المباركة في رحاب شخصية النبي ابراهيم بطل التوحيد الخالد وزوجته هاجر رمز التوحيد الخالص والتسليم الصامد والتحدث عن بعض الشخصيات الأخرى بوحي المناسبة من أجل استيحاء المزيد من الدروس والعبر .

أعود للحديث عن هذه الشخصية الفذة الخالدة في أعماق التاريخ أعني شخصية الخليل الجليل وهو يجتاز امتحاناً آخر أصعب من الأول وأشق على الطبيعة البشرية وخصوصاً مع الأب الشيخ الكبير وطفله الوحيد الصغير الذي منَّ الله به عليه حال الشيخوخة التي تقتضي مع جاذبية الأبوة الحانية المزيد من التعلق العاطفي بالبنوة الصغيرة الوحيدة .

١٦٢
 &

امتحان إبراهيم المجيد بذبح طفله الوحيد

وقد تمثل الامتحان الجديد الشديد بل الأشد من كل امتحان تعرض له في مسيرته الحياتية ـ بأمره من قبل الله في عالم الطيف ـ بذبح ولده إسماعيل وحيث أن رؤيا الأنبياء حق فقد اعتقد بسببها أنه مأمور بذبح ولده هذا واقعاً وأمره بذلك يتضمن أمر إسماعيل أيضاً بتقديم نفسه قربة وقرباناً لله تعالى .

وقد شارك هذا الولد المؤمن حقاً والموحد واقعاً ـ أباه في الاعتقاد بأنه مأمور بذلك أي بتقديم نفسه المطمئنة في سبيل مرضاة الله سبحانه . ولذلك أبدى الاستعداد لقبول تنفيذ أمره تعالى عندما أخبره والده الجليل بالتكليفين المذكورين المتوجه أحدهما إلى الأب مباشرة وبصراحة والآخر موجه إلى الابن ضمناً وبالتبع والإشارة ( والحر تكفيه الإشارة ) .

وقد ورد التكليفان المذكوران في قوله تعالى :

( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) (١) .

فالمفهوم من هذه الآية المباركة أن النبي إبراهيم اعتقد بسبب هذه

__________________

(١) سورة الصافات ، الآية : ١٠٢ .

١٦٣
 &

الرؤيا بأنه مأمور بذبح ولده وتقديمه قرباناً لله تعالى .

كما اعتقد اسماعيل تبعاً لاعتقاد والده بأنه مأمور بتقديم نفسه قرباناً في سبيل مرضاة الله تعالى وأن والده مستعد لتنفيذ أمر ربه وتنفيذ إرادته وإن كان ذلك من أصعب التكاليف وأشدها وقعاً على شعوره وعاطفته الأبوية وأراد الاستفهام ومعرفة حال ولده هذا وهل هو مستعد لتقديم نفسه وتنفيذ أمر ربه بطواعية وانقياد لإرادة رب العباد فخاطبه قائلاً : ( فانظر ماذا ترى ؟ ) .

فأجابه على الفور وبدون تردد : يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين .

وحكى الله سبحانه قصة إقدام هذين النبيين العظيمين على امتثال أمر ربهما الأعظم بقوله تعالى :

( فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ * كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) (١) .

فقد بيّن الله سبحانه بهذه الآيات البينات عدة نقاط حيوية جديرة بالتنبه لها والالتفات إليها من أجل استيحاء العبر الموجهة والدروس المربية .

النقطة الأولى : هي أن إقدام كل واحد من الوالد والولد على تنفيذ أمر الله سبحانه لم يكن عن ضغط خارجي مثل خوف العقوبة الصارمة المترتبة

__________________

(١) سورة الصافات ، الآيات : ١٠٣ ـ ١١١ .

١٦٤
 &

على المخالفة العملية للوظيفة الشرعية وإنما كان عن تسليم لأمر الله سبحانه ورضا بقضائه وهذا هو روح العبودية الكاملة والعبادة المخلصة لله تعالى وهي القسم الثالث من أقسام العبادة الذي اختاره الإمام علي عليه‌السلام لأنه يمثل غاية الخضوع وقمة الخشوع أمام عظمة الخالق المعبود بحق وجدارة حيث قال عليه‌السلام : إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك ولكني وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك .

وقد عبر الله سبحانه عن تسليمهما الخاشع أمام قضائه الواقع بقوله سبحانه : فلما أسلما . . .

النقطة الثانية : أن إقدام النبي إبراهيم على ذبح ولده إسماعيل الطفل الوحيد لم يكن مشوباً بشيء من الرقة والعطف الأبوي الذي يقتضي بطبعه التريث والبطء في مقام الامتثال كما هو واضح بمقياس العاطفة البشرية وخصوصاً العاطفة الأبوية وعلى الأخص مع الطفل الوحيد الوديع الذي بلغ من العمر مرحلة تساعده على العمل في سبيل خدمة أبويه ومساعدتهما على تحقيق بعض الخدمات ولا سيما إذا كان الوالد شيخاً كبيراً كما كان بالنسبة إلى موضوع الحديث وموضع الإعجاب والتقدير .

ويستفاد ما ذكرناه في هذه النقطة من قوله تعالى : ( وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ) حيث يفهم من هذه الكلمة ـ معنى القوة على ضوء ما ورد في تفسيرها لغة وشرحاً في كتب التفسير . قال المرحوم العلامة الشيخ محمد جواد مغنية في كاشفه مفسراً مفردات الآية المذكورة بقوله : أسلما ـ استسلما لأمر الله تعالى وتله ـ صرعه وألقى به على الأرض (١) .

وهذا يدل على أن حرارة الإيمان المتوهجة في قلبه غلبت على

__________________

(١) تفسير الكاشف ج ٦ ، ص ٣٤٩ الطبعة الأولى .

١٦٥
 &

حرارة العاطفة الأبوية لتصبح بحكم العدم ، وهذا هو المتوقع من المؤمن الرسالي المثالي الذي باع نفسه وماله وأولاده وكل ما يتعلق به في هذه الحياة لله تعالى ، بأنّ له في مقابل ذلك جنةً عرضها السموات والارض أعدت للمتقين .

والسر في ذلك هو أن المؤمن الواعي الواقعي يرى بعين فطرته الصافية وبصيرته النافذة أن نفسه وماله وأولاده وكل ما هو تحت يده وتصرفه في هذه الحياة هو ملك لله تعالى المالك الحقيقي للكون كله بما فيه الإنسان ولذلك يجب عليه أن يصرفَه ويتصرف به وفق مرضاته وإذا طُلب منه تسليمه له وإعادته إليه وجبت عليه المبادرة إلى التسليم عملاً بقوله تعالى :

( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) (١) .

وقد أدرك بعض المؤمنين هذه الحقيقة الإيمانية وتعامل مع حادثة وفاة ولده البالغ من العمر عشرين عاماً ـ على هذا الأساس وحاصل قصته أن هذا الوالد المؤمن الواعي كان مشغولاً بإلقاء محاضرة على طلابه في مدرستهم وفي الأثناء بلغه نبأ وفاة ولده هذا فقابل هذا النبأ بالصبر والتسليم وقوة الإرادة الإيمانية واستمر على إلقاء المحاضرة وبعد فراغه منها سأله أحد طلابه عن مضمون النبأ الذي بلغه أثناء المحاضرة فأخبره بكل هدوء واطمئنان وكأنه لم يحدث شيء يذكر .

وهذه ظاهرةٌ غريبة وعجيبة تلفت النظر وتثير الاستغراب والإعجاب في الوقت نفسه ، وعندما سألوه عن سبب ضبط أعصابه ومقابلته هذا النبأ

__________________

(١) سورة النساء ، الآية : ٥٨ .

١٦٦
 &

العظيم بصبر وتسليم أجابهم بلسان المؤمن الواثق بعدالة السماء الراضي بالقدر والقضاء :

أنا لم أُفاجأ بما حصل لأني كنت مؤمناً منذ البداية بأن ولدي كان أمانة عندي لله تعالى وأنا أحمد الله سبحانه وأشكره على أن أبقى أمانته عندي طيلة عشرين سنة ولم يأخذها قبل ذلك . وقد أشار بعض الشعراء إلى هذا المعنى بقوله :

وما الناس والأهلون إلا ودائع

ولا بد يوماً أن ترد الودائع

والنتيجة الإيجابية المترتبة على الاعتراف بهذه الحقيقة الإيمانية والعمل بمقتضى هذا الاعتراف .

هي أولاً : حصول الرضا بقضاء الله وقدره والتسليم لإرادته والصبر على حكمه ومشيئته القاضية بفراق المحبوب كالولد أو أي عزيز من الأقرباء أو الأصدقاء ومثله فراق الصحة أو المال ونحو ذلك من متاع الدنيا أو وقوع المكروه من مصائب الزمن ونوائب الدهر ـ ولا شك أن الرضا بقدر الله والتسليم لأمره يخفف من وقع المصيبة ويسهل على المؤمن تحملها .

وثانياً : ترتب الأجر العظيم والثواب الجسيم على الصبر والرضا بقضاء الله الرحيم الحكيم مضافاً إلى سقوط الحساب عنه ليدخل الجنة بغير حساب ولا عتاب وتلك فائدة جسيمة ومنفعة عظيمة يستفيدها المؤمن بتسليمه لقضاء ربه العادل وصبره على ما يقدره له من فراق محبوب أو وقوع مكروه ، قال سبحانه : ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (١) .

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية : ١٠ .

١٦٧
 &

وقال سبحانه :

( وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) (١) .

وقد تحدثتُ حول فوائد الصبر المعجلة في الدنيا والحاصلة في الآخرة بصورة تفصيلية في الجزء الأول من ( وحي الإسلام ) صفحة ١٢٦ ، والذي يهون المصيبة على المؤمن ويجعله في حالة تصبر وجلد هو إيمانه بالعوض الأكبر والجزاء الأوفر يوم القيامة .

فإذا فقد صحته وصبر على المرض نال بذلك الصحة التامة والسلامة الدائمة في دار الخلود .

وإذا فقد أحد أولاده عوضه الله عنه بالولدان المخلدين مع جمع شمله بمن فقده من ولد أو أي عزيز آخر إذا قدر للفقيد أن يكون من أهل النعيم بسبب من الأسباب .

وإذا فارق زوجته عوضه الله عنها بالحور العين وجمع شمله بها ـ أي بزوجته إذا قدر لها أن تكون من أهل الجنة .

ولو فقد مالاً أو نعمة من نعم الله في هذه الحياة نال عوضها الثراء الحقيقي الدائم والنعيم الواقعي الخالد عندما يقابل مصيبة ابتلائه بفقد ما يحب أو من يحب ـ بالصبر والتسليم لقضاء الله الرحمن الرحيم وذلك هو السر في الصبر العظيم الذي تجمل به الأنبياء والأوصياء والسائرون على

__________________

(١) سورة البقرة ، الآيات : ١٥٥ و ١٥٦ و ١٥٧ .

١٦٨
 &

نهجهم من الأولياء والصلحاء .

لأن إيمانهم الجازم بأن الله يجازيهم على صبرهم ورضاهم بتقديره لهم فقد ما يحبون أو حصول ما يكرهون ـ بتعويضه عليهم وتقديمه لهم ما هو المحبوب لهم من أنواع النعيم على وجه الدوام والخلود وكذلك يجازيهم على صبرهم ورضاهم بما قدره الله لهم من المكروه وذلك بتسليمهم من المكروه الأكبر والعذاب الأخطر يوم القيامة .

أجل : إن إيمانهم بذلك يُهون عليهم مصيبة فقد المحبوب وحصول المكروه فيقابلونها بالصبر الجميل والرضا بحكم الله الجليل .

ويستفاد ذلك من قول الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندما قابله المشركون بكل أنواع الأذى والمكروه : « إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي » . وقول سبطه الحسين عليه‌السلام حينما ذبح طفله الرضيع على يده يوم عاشوراء : ( هون ما نزل بي أنه بعينك يا رب ) .

وبذلك يعرف السر في اتصاف المؤمنين الواعين المخلصين بجميع الصفات الكمالية المحبوبة لله تعالى والمقربة منه والمسببة لنيل رضاه ومجازاتهم على الاتصاف بها والعمل بمقتضاها ـ بالنعيم الخالد والسعادة الأبدية وتأتي صفتا الشجاعة والكرم في الطليعة بين الصفات المثالية التي يتجمل بها المؤمنون المخلصون وبذلك كانوا السباقين إلى ميادين التضحية والفداء في ساحة النضال والدفاع عن المبدأ الحق ولو اقتضى ذلك بذل النفس النفيسة وبالطريق الأولى أن يكونوا السباقين في ميدان البذل والجود بالمال في سبيل تحقيق الهدف المذكور والسبب في ذلك هو ما تقدم ذكره من أن المؤمن الواعي يؤمن بالخلف والثمن الثمين الذي يأخذه من الله سبحانه عوضاً عما يقدمه في سبيله من النفس العزيزة والأولاد الأحباء والأنصار الأوفياء فضلاً عما يقدمه مما هو أقل قيمة من ذلك وهو الأموال

١٦٩
 &

ونحوها مما يترتب على تقديمه في ساحة الجهاد المقدس أثر إيجابي ونصر معنوي أو مادي للمبدأ الحق ونظامه العادل الكامل .

وقد أشار إلى ذلك سيد البلغاء والموحدين علي أمير المؤمنين بعد سيد المرسلين بقوله : من أيقن بالخلف جاد بالعطية . والمقصود بالخلف اليقين والثمن الثمين الذي يأخذه المؤمن من الله سبحانه بدلاً عما يقدمه في سبيله ـ هو الجنة الخالدة ونعيمها الدائم مع رضوانه الأكبر .

ويستفاد ذلك من قوله تعالى :

( وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (١) .

كما يستفاد ذلك من آية أخرى مع التصريح بالعوضية التي وعد الله بها عباده المؤمنين العاملين وهي من نفس السورة التي وردت فيها الآية السابقة وهي قوله تعالى :

( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (٢) .

وروي عن أهل البيت ( عليهم السلام ) أن المؤمن لا يكون بخيلاً ولا جباناً وحيث أنهم بلغوا القمة في الإيمان الصادق الراسخ فقد بلغوا الذروة في الكرم والسخاء والتضحية والفداء .

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية : ٧٢ .

(٢) سورة التوبة ، الآية : ١١١ .

١٧٠
 &

ويأتي كرم الحسين النادر وتضحيته بنفسه النفيسة وأبنائه الأحباء واخوانه الأعزاء وأنصاره الاوفياء الأصفياء ـ في سبيل نصرة الحق مردداً بلسان الحال :

إن كان دين محمد لم يستقم

إلا بقتلي يا سيوف خذيني

أجل : قد جاءت تضحية سيد الشهداء بذلك كله لتكون المثل الأعلى والنموذج الأكمل للمؤمن المسلم الذي سلم أمره لخالقه وسلمه كل ما طلب منه تسليمه له من أمانة النفس والأولاد والاخوان والأنصار والأعوان ونال بذلك عز الدنيا وسعادة الآخرة ورضواناً من الله أكبر .

وهذا وذاك هو الذي دفع بالكثيرين من أبناء الجيل المعاصر للاقتداء به والسير على نهجه في كربلاء جديدة وعاشوراء مجيدة وصدق الشاعر عندما قال في حقه :

ما كان للأحرار إلا قُـدوة

بطلٌ توسد في الطفوف قتيلا

بعثته أسفار الحقـائق آيةً

لا تقبل التفسير والتأويلا

لا زال يقرؤها الزمان معظماً

في شأنها ويزيدها ترتيلا

يدوي صداها في المسامع زاجراً

من علَّ ضيماً واستكان خمولا

النقطة الثالثة : التي تضمنتها الآيات المذكورة في سورة الصافات هي أن الله سبحانه أراد بإجراء الامتحان للنبي ابراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام ـ بالنحو الذي طلبه منهما في الطيف وشاءت إرادته الحكيمة أن يحصل لهما العلم بأن التكليف الذي وُجه إليهما في المنام تكليف واقعي حقيقي يُراد امتثاله كالصلاة والصوم والحج والزكاة ونحوهما من الواجبات الشرعية الإلهية .

أجل : أراد الله سبحانه بهذا الامتحان الصعب أن يُظهر مقام هذين

١٧١
 &

النبيين العظيمين وأنهما مستعدان لأن يقدم أحدهما نفسه والآخر ولده قرباناً لله تعالى وطلباً لمرضاته هذا من جهة .

ومن جهة أخرى أراد الله سبحانه أن يقدم منهما قدوةً مُثلى وأسوة فضلى للأجيال المؤمنة عبر التاريخ لتقتدي بهما في مجال الجهاد والتضحية بالغالي والنفيس في سبيل نصرة الحق والدفاع عنه عندما يتعرض للخطر .

وقد شاء الله تعالى أن يخلد ذكرهما العاطر وذكراها الحافلة بكل أنواع التضحية والفداء ـ وذلك بجعل تقديم الهدي من الشعارات الواجبة في حج التمتع على من استطاع إليه سبيلاً . وفي اليوم العاشر من ذي الحجة وفي نفس المكان الذي أقدم النبي ابراهيم على تقديم ولده فيه قرباناً لله وامتثالاً لأمره باعتقاد أن ذلك كان هو الذي أوجبه الله عليه في المنام وحيث أن الواجب الذي كان مطلوباً منه في الواقع هو نفس الإقدام على ذبح ولده ، هذا لأن ذلك كافٍ لنجاحه في الامتحان وظهور أنه مستعدٌ للإقدام على تقديم ولده في سبيل الله فيُعرف مكانه الرفيع عند الله وتُرسم بذلك القدوة المثلى والأسوة الحسنة للآخرين كما أراد رب العالمين ـ وقد تحقّق منه ذلك الإقدامُ وترتب عليه الغرض المنشود ولذلك أخبره الله بالحقيقة بقوله تعالى :

( وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) (١) .

__________________

(١) سورة الصافات ، الآيات : ١٠٤ و ١٠٥ و ١٠٦ و ١٠٧ .

١٧٢
 &

الحكمة من تشريع وجوب الرمي والذبح والحلق أو التقصير يوم العاشر من ذي الحجة

وهناك حكمة أخرى وراء تشريع وجوب الذبح وتقديم الهدي على المتمتع في حجه ـ أي على من وجب عليه حج التمتع في اليوم العاشر من ذي الحجة وفي منى .

وهي أي حكمة وجوب تقديم الهدي ـ إطعام الفقراء من لحمه فيكون ذلك وسيلة من وسائل تفقدهم بالبر ومد يد الإحسان إليهم بتقديم ذلك لهم ـ وكان يستفاد سابقاً من تقديم هذا الشعار ـ أي الهدي بأكل الفقراء حالاً من لحمه ـ كما كانوا يجففونه ليستفيدوا منه في مستقبل أيامهم والملحوظ أن هذه الحكمة جمدت وتلك الفائدة فقدت بالنسبة إلى الفقراء من زاوية هذا الشعار ـ أي تقديم الهدي حيث لا يستفيد منه الفقراء معجلاً ولا مؤجلاً بل تحرق الذبائح أو تدفن ليذهب لحمها هدراً . وهنا ننبه إلى أمرين :

أحدهما : يتعلق بتشريع وجوب تقديم الهدي على كل متمتع في حجه ـ حتى وإن لم يترتب أي نفع للفقراء من لحمه ـ وعلى هذا فتاوى المشهور من علمائنا الأجلاء ـ وذلك لإطلاق دليل الوجوب وعدم تقييده بترتب تلك الفائدة عليه فعلاً ، مضافاً إلى أن العبادات وما يتعلق بها من أجزاء وشروط

١٧٣
 &

يطغى على إيجابها الجانب التعبدي الذي لا يُربط بحكمة صريحة وفائدة محددة ـ من أجل تقوية روح العبودية والانقياد في نفس المكلف فيقدم على امتثال الأمر بالعمل لمجرد صدور الأمر به وإن لم يعرف وجه الحكمة في تشريع وجوبه .

الأمر الثاني : الجدير بالتنبيه عليه هو ضرورة اهتمام أولي الأمر في المملكة السعودية بحفظ هذه الثروة الطائلة عن طريق تعليبها وتوزيعها على الفقراء في البلد وخارجه وما أكثرهم في هذه الأيام ولا يوجد في ذلك أي إشكال وإنما الإشكال والاستشكال في إهماله لكونه من مصاديق التبذير المنهي عنه شرعاً .

ورمي جمرة العقبة صباح يوم عيد الأضحى في منى هو الواجب الأول على الحاج في هذا اليوم وبعده يجب عليه تقديم الهدي وبعده يقوم بالواجب الثالث (١) على الترتيب المذكور ويجب عليه رمي الجمرات الثلاث في يومي الحادي عشر والثالث عشر على التفصيل المذكور في محله من كتب المناسك .

وقد اختلفت الكلمات المبينة لسبب تشريع الرمي وجعله شعاراً واجباً في الحج فالمستفاد من بعضها أن الرمي في بدايته حصل من إسماعيل عندما تصدى الشيطان له ليمنعه ويصرفه عن امتثال أمر ربه بتقديم نفسه قرباناً لله تعالى وكان تصديه له في ثلاثة مواضع وفي كل واحد منها كان إسماعيل يطرده عنه ويرميه بسبع حصيات .

والمستفاد من كلام البعض الآخر أن الحادثة حصلت مع النبي ابراهيم من أجل أن يصده الشيطان عن امتثال أمر ربه بذبح ولده قربة

__________________

(١) وهو الحلق أو التقصير .

١٧٤
 &

وقرباناً لله تعالى وكان ذلك منه في ثلاثة مواضع وكان إبراهيم يرميه في كل موضع منها بسبع حصيات .

كما يفهم من كلام ثالث أن الحادثة حصلت مع الثلاثة النبي إبراهيم وولده اسماعيل وزوجه أم إسماعيل هاجر من أجل أن يصد الوالد عن تقديم ولده والولد عن تقديم نفسه والأم عن الرضا وموافقة إبراهيم على ذبح ولدهما لتقف حائلاً بين الوالد وما أقدم عليه من ذبح الولد .

ولا يبعد أن يكون الكلام الثالث أقرب لأن عملية الذبح مرتبطة بالثلاثة بالولد مباشرة وبالوالدين بطريق غير مباشر .

وقد شاء الله تعالى أن يجعل من كل واحد من هؤلاء الثلاثة قدوة مثلى لكل المؤمنين في التاريخ في كل عمل مطلوب لله سبحانه ويكون القيام به صعباً وشاقاً .

فالأب هو الشيخ الكبير يكون قدوة لكل الأباء والأم المرأة العطوف تكون قدوة لكل الأمهات في التسليم لأمر الله والرضا بقضائه .

وكذلك الابن الغلام يكون قدوة حسنة لكل فتى مقارب له في العمر وتقتضي المصلحة أن يقتحم ميدان الجهاد الأكبر والأصغر في سبيل تحقيق ما يريد الله تحقيقه من الأهداف السامية والغايات الرفيعة التي يتوقف على تحقيقها رضا الله تعالى ونفع الأمة وتطبيق أحكام الرسالة .

ولا يخفى أن المتأمل المتدبر في حكمة تشريع وجوب مناسك الحج بصورة عامة وبعضها المنطلق من مناسبة اقتضت الحكمة الإلهية أن يكون هذا المنسك إشارة له من أجل إحياء ذكرى الشخص الذي حصلت المناسبة معه وارتبطت الحادثة به من جهة تاريخية .

أجل : إن المتأمل في روح تشريع هذه المناسك والغاية المنشودة من

١٧٥
 &

تشريعها ـ يُدرك أن هذه الغاية أوسع من نقطة الانطلاق ومناسبة التشريع التي كانت المنطلق في البداية .

فالسعي مثلاً وإن رُبط بتلك المرأة المؤمنة الصابرة المحتسبة ـ هاجر ـ وجعل تشريعه إحياءً لذكرها وذكراها ولكن الغاية الكبرى لا تقف عند هذه النقطة بل تنطلق لتمثل كل سعي في سبيل إطاعة الله تعالى ويكون ابتداؤه من صفاء النية وسلامة القصد وانتهاؤه عند الغاية الشريفة المقصودة منه والمقربة من الله تعالى والنافعة لخلقه بما يعبر عن مروءة الساعي وشهامته .

وكذلك شعار الرمي وإن انطلق من المناسبة التاريخية المذكورة ولكن الهدف المقصود من تشريعه أكبر من حادثتها وأوسع من زمانها ومكانها وإنسانها حيث يمتد هدفه إلى ساحة الذات لتُرمى فيها النفس الأمارة بالسوء فلا تطاع بمعصية الله تعالى كما يُرمى الشيطان المعنوي بحجارة التقوى والاعتصام بحبل الله والجهاد في سبيله لتبقى كلمته هي العليا وكلمة كل شياطين الإنس والجن هي السفلى ويكون رمي الجمرات في منى وفي اليوم العاشر والحادي والثاني عشر ـ رمزاً لرمي هذه الشياطين على اختلاف أنواعها وأحجامها ـ بالموقف الحر الأبي الرافض لكل أنواع المساومة والمهادنة على حساب المبدأ الأصيل والوطن العزيز والكرامة الكريمة والعزة العزيزة .

وأما الحلق أو التقصير اللذان يجب أحدهما على الحاج بعد قيامه بواجبي الرمي والذبح فإنه يكون رمزاً لزوال درن الذنوب ودنس الخطايا عن روحه ونفسه كما زال الشعر كله أو بعضه عن رأسه كما يكون رمزاً للنظافة المعنوية والزينة الروحية التي يُتوقع ممن توفق لتأدية فريضة الحج أن يتجمل بها ليكون وضعه في يومه وبعد تأدية فريضة الحج المقدسة ـ

١٧٦
 &

مغايراً لما كان عليه قبلها باعتبار أن الحج لم يوجبه الله تعالى لشكله وصورته فحسب وإنما أوجبه لغاية التقوى كما يفهم ذلك من سياق بعض الآيات المتحدثة عن الحج مثل قوله تعالى :

( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ) (١) .

وقوله تعالى :

( لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ) (٢) .

وإن كان وارداً في مقام الحديث عن بعض شعائر الحج وهو الهدي ولكن القطع بعدم الفرق بينه وبين سائر الشعائر الواجبة في الحج ـ ينتج لنا بوضوح أن الغاية الأساسية من فريضة الحج بمجموع شعائرها هي التقوى .

ويؤكد ذلك التصريح في آية الصوم بأن الغاية الأساسية المقصودة منه هي التقوى حيث قال سبحانه :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (٣) .

كما يؤكد هذه الحقيقة الإيمانية الآية الأخرى التي تفيد أن التقوى هي الأثر المقصود من العبادة بمعناها العام الشامل لكل العبادات وهي

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٩٧ .

(٢) سورة الحج ، الآية : ٣٧ .

(٣) سورة البقرة ، الآية : ١٨٣ .

١٧٧
 &

قوله تعالى :

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (١) .

وعلى ضوء تحديد الهدف ومعرفة الغاية المقصودة من تشريع وجوب فريضة الحج المقدسة ـ يستطيع الحاج أن يعرف نفسه ويعرف غيره أيضاً نتيجة حجه وهل هي النجاح والفوز بنيل الغاية المقصودة أو الرسوب وبقاؤه على وضعه السابق كالطالب الذي يرسب في امتحانه ويبقى في صفه أو المريض الذي لا يستفيد من علاجه ويبقى على حاله بدون تحسن صحي أو دارس علم النحو ليصون لسانه عن الخطأ في المقال أو علم المنطق ليصون فكره عن الخطأ في البرهنة والاستدلال أو علم الفقه ليعرف الحرام فيتركه والحلال فيفعله ثم يبقى كل واحد من هؤلاء على حاله السابق لعدم صون الأول لسانه والثاني فكره والثالث نفسه من الانحراف عن جادة الشرع .

مع أن المقصود من التفقه في الدين معرفة نهج التقوى ليسير المتفقه فيه ولا ينحرف عنه فإذا لم يترتب هذا الأثر على تعلمه كان أضر عليه من جهله كما ذكر الإمام علي عليه‌السلام حيث قال ( على ما أتذكر ) : والعالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله بل الحجة عليه أتم والحسرة له ألزم وهو عند الله ألوم .

ومن أجل التوضيح ومعرفة الإنسان الناجح في مدرسة التدين والالتزام نذكر المقياس العام الذي يُعرف به الناجح والراسب في الامتحان الذي يتعرض له الطالب في هذه المدرسة فنقول :

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢١ .

١٧٨
 &

إن المقياس الصحيح والميزان السليم الذي يُعرف به واقع الانتماء إلى مدرسة الشرع والالتزام بأحكامه كما يُعرف النجاح ودرجته في امتحان المنتمي إلى هذه المدرسة وعدم النجاح أو ضعفه .

أجل : إن الميزان الصحيح الذي يُعرف به ذلك كله هو ترتب الغاية المقصودة من تأسيس هذه المدرسة وطلب الانتماء إليها وتلقي تعاليمها وهي التقوى والعمل الصالح والخلق الفاضل وقد استفيد الجزء الأول من هذه الغاية وهو التقوى من صريح قوله تعالى في الآية المتقدمة :

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (١) .

واستفيد الجزء الثاني منها من قرن العمل الصالح بالإيمان في الكثير من آيات الكتاب المجيد من ذلك ما ورد في سورة العصر وهي قوله تعالى :

( وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) (٢) .

واستفيد الثالث من صريح قول الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المشهور : « إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق » .

والمراد بالتقوى فعل الواجبات وترك المحرمات وبعبارة أوضح المراد بها الاستقامة في خط الشريعة وعدم الانحراف عنه بتأثير الأهواء الجامحة والأطماع الطامحة .

وذلك لأن المؤمن الرسالي يقارن دائماً بين نعيم الدنيا الزائل ونعيم الآخرة الخالد فيضحي بالأول عندما يكون الميل إليه والسعي في سبيل

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢١ .

(٢) سورة العصر ، الآيات : ١ و ٢ و ٣ .

١٧٩
 &

تحصيله مؤدياً إلى الحرمان من الثاني .

ويستفاد ذلك من صريح قول الإمام علي عليه‌السلام : لو كانت الدنيا من ذهب وهو يفنى والآخرة من خزف وهو يبقى لآثرت الخزف الباقي على الذهب الفاني .

وكذلك يقارن هذا المؤمن باستمرار بين المشقة والمعاناة وربما العذاب النفسي أو الجسدي أو هما معاً ـ الحاصلين له من قبل الظالمين الطغاة لعدم ركونه إليهم وتعاونه معهم أو لعدم سكوته عنهم ـ وعذاب الآخرة الحاصل له بسبب ركونه إليهم المنهي عنه بصريح قوله تعالى :

( وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) (١) .

فيؤثر تحمل عذاب الدنيا ويصبر عليه لزواله وخفته بالنسبة إلى عذاب الآخرة .

ويأتي تحمل بلال الحبشي العذاب الجسدي والنفسي الحاصل له من مالكه أمية بن خلف بسبب إيمانه برسالة الحق الخالدة المسعدة ليكونَ الشاهد الحي المعبر عن الحقيقة الإيمانية المذكورة حيث كان يقابل ذلك كله بإباء وجلَد مردداً ذلك الشعار الخالد الذي كان ولا يزال صداه يرن في مسامع الأجيال الواعية لتستلهم منه دروساً في التضحية والإباء والصبر على البلاء الشديد في سبيل نصرة المبدأ الحق والثبات عليه من أجل نيل الجزاء .

العاجل العادل وهو الذكر العاطر والتقدير الوافر ( والذكر للإنسان عمر ثاني ) .

مع الجزاء الخالد والسعادة الأبدية التي أعدها الله سبحانه للمؤمنين

__________________

(١) سورة هود ، الآية : ١١٣ .

١٨٠