فلسفة الحج في الإسلام

الشيخ حسن طراد

فلسفة الحج في الإسلام

المؤلف:

الشيخ حسن طراد


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

أين الوجوهُ التي كانت منعمةً

من دونها تُضربُ الأستارُ والكُلَلُ

فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم

تلك الوجوهُ عليها الدود ينتقل

وطالما أكلوا دهراً وما شربـوا

فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكلوا

وطالما كنزوا الأموال وادخروا

فخلفوها على الأعداء وارتحلوا

وطالما عمروا دُوراً لتحصنهـم

ففارقوا الدور والأهلين وانتقلوا

أضـحت منازلهم قفراً معطلـة

وساكنوها إلى الأجداث قد رَحلوا

ذكر المؤرخون أن المتوكل بكى عندما سمع هذه الأبيات من الإمام عليه‌السلام وأمر برده الى منزله لساعته .

وانطلاقاً من جو العبرة والاعتبار بحياة العظماء الذين باعوا كل كيانهم لله سبحانه وتلك الشخصيات التي مشت في خط معاكس لنهج الحق والعدالة فجرفهم تيار الواقع وأغرقهم في بحر الفناء معنوياً ومادياً كما أغرق فرعون من قبل وأنجاه ببدنه ليكون عبرة للمعتبرين .

أجل : انسجاماً مع هذا الجو التاريخي الذي تصارعت فيه المبادىء وكان الانتصار في النهاية لمبادىء الحق والعدالة على مبادىء الباطل والضلالة ـ آثرت ذكر بعضٍ من قصيدة الشاعر السوري المبدع المنصف الأستاذ محمد مجذوب التي قارن فيها بين مصير الإمام علي عليه‌السلام رمز الحق والعدالة ونهاية خصمه المبدئي معاوية بن أبي سفيان وذلك من أجل أن نقتدي بتلك الشخصية الإسلامية الفذة التي كانت مع الحق وكان الحق معها بشهادة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقه . ونستفيد عبرة وعظةً من سيرة الذين حاربوا الحق ومن سار على نهجه فانتصر عليهم وبقي صامداً في وجه التحديات لا تزيده إلا صلابة وثباتاً وتألقاً وخلوداً .

ومن أجل تحصيل المزيد من الفائدة ونيل العديد من أنواع العبرة

١٤١
 &

آثرت نقل نص الرسالة التي بعثها الشاعر مع القصيدة الى لجنة الاحتفال الذي أقيم في النجف الأشرف بمناسبة جليلة تتعلق بشخصية الإمام علي عليه‌السلام وهي كما يلي :

حضرة الاخوان لجنة الشباب النجفي المحترمين

وبعد : لقد كنت أود لو يُتاح لي الحضور شخصياً للمساهمة في الذكرى الخالدة لولا ما يحول دون ذلك من عقبات لا قِبَل لي باجتيازها وفكرت ملياً في الكلمة التي تصلح لمثل ذلك المقام العظيم فلم أجد أفضل من قصيدة كنت قد نظمتها عقيب زيارتي لضريح معاوية بدمشق إذ تفتحت في خيالي أبواب التاريخ فأشرفت من خلالها على تلك المآسي الفاجعة التي مُني بها الإسلام منذ خروج أبي يزيد على أمير المؤمنين إلى كارثة كربلاء وإلى ما لا نهاية له من النوازل التي استغرقت أمة محمد ولا تزال تستغرقها حتى يشاء الله تداركها برحمته .

وها هي ذي القصيدة وفيها كل ما اختلجت به مشاعري واقتنع به عقلي من الشؤون التي تتصل بهذه الذكرى ويسرني جداً أن تنال رضاكم فتكون أحدَ موضوعات الحفلة ولا شك أن ذلك سيتيح لي سعادة الاتصال بنفوس زكية ربطني بها رحم الولاء الخالص لذلك البيت الذي أذهب الله عنه الرجس وطهره تطهيراً .

هذا وختاماً أرفع إليكم أحر التمنيات وأصدق التحيات .

وفيما يلي بعض من قصيدته الجليلة الطويلة :

أين الـقصورُ أبا يزيدَ ولهوُها

والصافناتُ وزهوُها والسؤددُ

أين الـدهاءُ نحرتَ عِزتَه على

أعتاب دنياً سحرها لا ينفدُ

آثرتَ فـانيها على الحق الذي

هو لو علمتَ على الزمان مخلد

١٤٢
 &

تلك البهارجُ قد مضت لسبـيلها

وبقيتَ وحدك عِبرةً تتردد

هذا ضـريحك لو بصُرتَ ببؤسه

لأسال مدمعَك المصيرُ الأسودُ

كتَلٌ من الترب المهين بخِرْبةٍ

سكر الذبابُ بها فراح يُعربد

خفيت معالمها على زوارها

فكأنها في مجهل لا يُقصد

ومشى بها ركبُ البلى فجدارها

عار يكاد من الضراعة يسجد

والـقُبة الشماء نكس طرفها

فبكل جزء للفناء بها يد

تهمي السحائبُ من خلال شقوقها

والريح من جنابتها تتردد

حتى المصـلى مظلمٌ فكأنه

مذ كان لم يجتز به متعبد

*       *      *

أأبا يزيدَ لتلك حكمةُ خالقٍ

تُجلى على قلب الحكيم فيُرشَدُ

أرأيتَ عاقبة الجموح ونزوه

أودى بلبك غيها المترصد

أغرتك بالدنيا فرُحت تشنها

حرباً على الحق الصراح وتُوقد

تعدو بها ظلماً على من حبه

دين وبغضته الشقاء السرمد

علَمُ الهدى وإمام كل مطهَّر

ومثابةُ العلم الذي لا يُجحد

ورثت شمائله بَراءةَ أحمدٍ

فيكاد من بُرديه يشرق أحمد

وغلوتَ حتى قد جعلت زمامها

إرثاً لكل مُذمَّمٍ لا يُحمد

هتك المحـارمَ واستباح خدورها

ومضى بغير هواه لا يتقيد

فأعادهـا بعد الهدى ـ عصبيةً

جهلاءَ تلتهم النفوس وتُفسد

فكأنما الإسلام سلعةُ تاجر

وكأن أمته لأَلكَ أعْبُدُ

*       *      *

أأبا يزيد وساءَ ذلك عِترةً

ماذا أقول وبابُ سمعك مُوصد

قم وارمق النجف الشريف بنظرةٍ

يرتدَّ طرفُك وهو باكٍ أرمد

١٤٣
 &

تلك العظامُ أعز ربك شأنها

فتكادُ لولا خوفُ ربك تُعبد

أبداً تباكرها الوفودُ يحثها

من كل صوب شوقها المتوقد

نازعتَها الدنيا ففزت بوردها

ثم انطوى كالحُلم ذاك الموردُ

وسعت إلى الأخرى فأصبح ذكرها

في الخالدين وعطف ربك أخلد

وفي ختام الحديث عن الطواف وحكمته يترجح ذكر حوار جرى بين عبد الله بن مبارك والإمام زين العابدين عليه‌السلام عندما التقى به وهو في طريقه إلى مكة المكرمة لتأدية فريضة الحج المباركة . قال عبد الله هذا للإمام عندما رآه منفصلاً عن الحجاج : يا بُني مع من قطعت هذا البر وليس معك زاد ولا راحلة ؟ فأجابه الإمام عليه‌السلام قائلاً :

يا شيخ قطعتُ هذا البرَّ مع البار ، ثم سأله ثانياً : وأين زادك وراحلتك ؟ فأجابه الإمام عليه‌السلام قائلاً :

راحلتي رجلاي وزادي تقواي وقصدي مولاي .

الحكمة من تشريع وجوب صلاة الطواف بعده وفي مقام ابراهيم (ع) :

بعد الجولة الواسعة في ميدان الطواف الفسيح واستلهام الكثير من العبر والدروس من مدرسته المباركة ، لا بد من الوقوف أمام تشريع وجوب صلاته المترتبة عليه من أجل النظر بعين الفكر إلى عمق هذه الصلاة وفي مقام إبراهيم بالذات دون غيره من الأماكن لقوله تعالى :

( وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ) (١) .

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٢٥ .

١٤٤
 &

وذلك من أجل استيحاء الحكم البالغة والعبر النافعة وهي كثيرة :

١ ـ منها : أن الصلاة بصورة عامة تعتبر من أبرز مظاهر العبودية والخضوع التام أمام عظمة الله تعالى لتأدية واجب العبودية وفريضة الشكر له . والحاج بعد أن يتوفق بعناية الله تعالى ومعونته للوصول إلى أماكن تأدية فريضة الحج ويقوم بأول واجب من واجباته وهو الإحرام بشروطه المعتبرة ويتوفق بعد ذلك لزيارة بيت الله تعالى ويقوم بالواجب الثاني وهو الطواف بشروطه المعهودة يُطلب منه أن يقدم لله الشكر الجزيل والثناء الجميل لإحسانه إليه وتفضله عليه بالتوفيق لقيامه بما وجب عليه من الاحرام وزيارة بيت الله الحرام والطواف فيه ـ وبذلك ينال التوفيق لإكمال حجه ونيل المزيد من العناية الإلهية والتمكن من إكمال الوظيفة الشرعية .

قال سبحانه : ( لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ) (١) .

وأما ربط هذه الصلاة ـ أي صلاة الطواف ، بمقام إبراهيم حيث قال سبحانه : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) كما سبق ، فلا يبعد أن يكون وجه الحكمة فيه هو لفت نظر الأجيال الصاعدة الوافدة إلى هذا المقام ، إلى الدور البارز الذي نهض به بالنسبة إلى فريضة الحج بالتعاون مع ولده إسماعيل فهو :

أولاً : كان المجدد لبناء الكعبة مع ولده هذا برفع قواعدها والبناء فوقها بعد أنت كان مغطاة مستورة بسبب طوفان نوح عليه‌السلام وهبوب الرياح العاتية . وعندما أراد إبراهيم وابنه المذكور تجديد بناء البيت بأمر من الله تعالى ـ سخر له الريح فكشفت له عن مكانه وظهرت القواعد الأساسية التي كان قائماً عليها في الزمن القديم وساعد ذلك على تجديد

__________________

(١) سورة ابراهيم ، الآية : ٧ .

١٤٥
 &

البناء وإعادته إلى الوجود من جديد ، وقد أشار الله سبحانه إلى ذلك بقوله :

( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ ) (١) .

وثانياً : أن الاطلاع على سيرة هذا النبي العظيم وعبادته الخالصة المخلصة لله سبحانه يبرز شخصيته الرسالية المثالية على واقعها وأنها بلغت القمة في الإخلاص والتوحيد العبادي بعد أن بلغت ذلك في التوحيد العقيدي وتجلى ذلك بوضوح بعد تعرضه لامتحانات عديدةٍ وصعبة فقابلها بقوة إيمان وصلابة موقف وغاية في التسليم والخضوع لإرادة الله سبحانه وذلك هو روح العبودية وقلب العبادة الحقة التي خلق الله الإنسانَ من أجلها وكلفه بالعبادات الخاصة المعهودة لتكون وسيلةً لتحقق تلك العبادة بمعناها العام وهي صفة الخضوع المطلق لإرادة الله تعالى بكل عمل اختياري يمارسُه المكلف على صعيد هذه الحياة بإرادته واختياره .

وسأذكر المواقف التي تعرض فيها هذا النبي العظيم لأصعب الامتحانات وأشقها على النفس البشرية واستطاع بعناية الله سبحانه وقوة إيمانه أن يجتازها بقوة إرادة وصلابة عقيدة وأراد الله سبحانه أن يذكره ضمن حديثه عن مناسك الحج المتميزة عن غيرها من العبادات بصعوبة التأدية كما هو معلوم من أجل أن يقتدي المكلفُ به في مقام امتثاله التكاليف الشرعية وخصوصاً الصعبة منها .

والاقتداء بمثل هذه الشخصية المثالية غير مقصور على الموارد التي تحدث القرآن عنها وأشار التاريخ إليها مثل قصة الذبح الذي رأى في منامه

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٢٧ .

١٤٦
 &

أنه مأمور به بالنسبة إلى ولده اسماعيل وكذلك شعار الرمي الذي تحدث عنه التاريخ أن الله أمره به بواسطة جبرائيل من أجل أن يطرد الشيطان الذي تعرض له ليمنعه من ذبح ولده وامتثال أمر ربه على تفصيل مذكور في قصص الأنبياء .

أجل : إن الاقتداء ببطل التوحيد خليل الله العظيم ليس مقصوراً على تلك الموارد بل يشمل كل مجالات التعبد والعبادة الخالصة لله تعالى بالمعنى العام الذي مرت الإشارة إليه .

من تلك المواقف الصعبة التي تعرض فيها النبي إبراهيم للامتحان الصعب ـ أمر الله له بأن يهاجر مع زوجته هاجر وطفله الوحيد اسماعيل ـ من فلسطين إلى الحجاز ليتركهما هناك في واد غير ذي زرع كما تحدث القرآن الكريم وفي جوار الكعبة التي رفع قواعدها بعد ذلك مع ولده اسماعيل هذا .

وكما كانت هذه الوادي مجردة من الزرع الذي يستفيد منه الإنسان طعامه الضروري كانت خالية من الماء أيضاً الذي هو مصدر الحياة وحفظها من التلف بعد الوجود قال سبحانه :

( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ) (١) .

وخاليةً من الإنسان أيضاً بسبب خلوها من ذلك أي من الزرع مصدر الطعام والماء مصدر الشراب والحياة وذلك هو سر الصعوبة والشدة في هذا الامتحان وقد شاركته في تحمل الصعوبة والصبر على الشدة ـ زوجته المؤمنه المذكورة بالخير والثناء حيث رضيت بقضاء الله وسلمت أمرها له ليقضي أمراً كان مفعولاً مهما كلف قضاؤه من صعوبة ومعاناة ما دام ذلك

__________________

(١) سورة الأنبياء ، الآية : ٣٠ .

١٤٧
 &

حاصلاً في طريق مرضاة الله وحصول الغاية السامية التي أراد تحققها بعد ذلك .

والسر الكامن وراء هذا التسليم والرضا بقضاء الله العليم الحكيم هو الإيمان الراسخ والثقة القوية بحكمته تعالى ورحمته وأنه لا يترك من لجأ إليه وتوكل عليه ـ بدون رعاية وحماية .

وبعد أن قام النبي إبراهيم بما أمره الله به بتسليم وانقياد لإرادته تعالى رغم الصعوبة النفسية التي يعاني منها الإنسان الأب في مثل هذا الموقف وخصوصاً إذا كان شيخاً كبيراً وكان ولده طفلاً صغيراً ووحيداً وقد منَّ الله به عليه حال شيخوخته وكبره .

وشاءت الحكمة الإلهية أن يتعرض هذا النبي العظيم لهذا الامتحان الصعب ليكون قدوةً للمؤمنين الذين يتعرضون لمثل هذا الامتحان الشديد في طريق قيامهم بواجب العبودية لله تعالى .

كما تكون زوجته هذه قدوة للنساء المؤمنات اللاتي يتعرضن لمثل هذا الابتلاء عندما يتوقف قيامهن بواجب الإطاعة لله تعالى وتنفيذ إرادته على تحمل المزيد من المشقة الجسمية والنفسية أو الأولى وحدها .

وإذا لاحظنا مجموع الخصوصيات التي تجمعت لأم اسماعيل عليه السلام وسببت لها المزيد من الصعوبة والمعاناة ندرك أن امتحانها كان أصعب من امتحان زوجها الذي وقف هذه المرة عند حد السفر بولده الصغير وتركه مع والدته في صحراء جرداء لا كلأ فيها ولا ماء والخصوصيات التي سببت لها مضاعفة الانفعال العاطفي والجهد النفسي ـ كثيرة أبرزها رقة العاطفة المعهودة لدى الأم تجاه ولدها وخصوصاً إذا كان

١٤٨
 &

صغيراً بعمر اسماعيل ويضاف إلى ذلك الغربة المؤلمة والبعد عن الوطن والأحباء .

واشتدّ هذا الابتلاء عندما احتاج طفلها إلى الماء ليزيل عطشه الشديد وكيف تحصل على مطلوبه ومطلوبها في تلك الصحراء القاحلة ولكن قوة أملها في أن يجعل الله لها ولطفلها من بعد عسر يسراً ومن بعد شدة فرجاً ـ جعلتها تعيش حالة الترقب لبزوغ صبح الفرج واليسر وانجلاء ليل الشدة والعسر .

وحيث كانت ناضجة العقل وكاملة الرشد الديني والوعي الإيماني ومدركة ببركة هذا الوعي أن الإنسان المؤمن مكلف بالسعي في سبيل تحصيل الهدف المحبوب أو دفع الحادث المكروه تمشياً مع الحكمة الإلهية التي قضت واقتضت أن لا تدرك المسببات إلا بأسبابها ولا تدخل البيوت إلا من أبوابها ـ لذلك انطلقت ساعية في سبيل تحصيل الماء لنفسها ولطفلها وقاصدة مكان الصفا الذي يبتدىء سعي الحجاج منه ويختمونه بالمروة ـ في كل شوط من أشواطه السبعة وذلك حينما لاح لها بريق السراب في مكان ابتداء السعي ( الصفا ) وتخيلت أنه ماء وعندما وصلت إليه تبين لها الواقع وأنه سراب خادع ثم التفتت إلى جهة المروة فشاهدت بريقاً يُوهم أنه ماء فسعت إليه وتبين لها أنه من نوع البريق الأول .

ورغم ذلك بقيت تسعى بدافع الرجاء والأمل برحمة الله تعالى ولم يتسرب اليأس والقنوط إلى قلبها لأن ذلك لا مجال له عند النفوس الكبيرة المؤمنة قال سبحانه :

( وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ) (١) .

__________________

(١) سورة الحجر ، الآية : ٥٦ .

١٤٩
 &

وقال تعالى : ( إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ) (١) .

ولذلك بقيت هذه المرأة المؤمنة ـ مستمرة على السعي بين هذين المكانين ( الصفا والمروة ) رغم فشل التجربة وعدم حصول الأمنية لأن فشلها لا يعني عدم إمكانية حصول مطلوبها بقدرة الله تعالى وعنايته ـ وأخيراً تحقق لها ذلك بعد أن بذلت أقصى الجهد وقامت بما تتمكن منه ـ وكان ظفرها بالماء في مكان آخر وهو مكان وجود الطفل الذي شاءت الرحمة الإلهية أن تشمله مع أمه المؤمنة المتوكلة ـ بعطفها المعهود فتخرج لهما الماء من تحت قدمي طفلها الناعمتين وتبادر تلك الأم الظمأى الولهى لتزم هذا الماء وتمنعه من التدفق والجريان بوضع ما يحجزه في مكانه ـ من الرمل أو التراب ـ ولعل ذلك كان سبب تسميته بماء زمزم .

وبحصول هذا الماء للأم وطفلها بهذه الوسيلة المعجزة حصل لهما ارتواء جسمي بشربه كما حصل لها ارتواء روحي بماء الرعاية الإلهية التي أنعشت ثقتها بالرحمة السماوية وأنه سبحانه عند حسن ظن عبده المؤمن فمن حسَّن ظنه به ولجأ إليه وتوكل عليه كان حسبَه ونعم الوكيل .

قال سبحانه : ( وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) (٢) .

وقال تعالى :

( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ) (٣) .

__________________

(١) سورة يوسف ، الآية : ٨٧ .

(٢) سورة الطلاق ، الآية : ٣ .

(٣) سورة الطلاق ، الآيتان : ٢ و ٣ .

١٥٠
 &

وهكذا تابعت الرعاية الإلهية هذه المرأة وطفلها فهيأ لهما ببركة هذا الماء ـ وجود جماعة تنفي عنها وحشة الغربة وحرارة الكربة التي كانت تعاني منها بسبب إقامتها في تلك الصحراء الجرداء بلا جار مريح وإنسان إنسان ترتاح بقربه وتتعاون معه على طي مسافة المدة المقدر لها أن تقيمها فيها ـ أي في تلك الصحراء .

وكانت تلك الجماعة التي جاءت لتجاورها هي قبيلة جرهم وذلك بعدما شاهدت الطيور تحوم فوق ذلك المكان وتهبط إليه لتشرب من مائه ـ فعرفت هذه القبيلة بوجود الماء فيه .

وكانت جُرهُم هذه قبيلة عربية معروفة بالنبل والكرم والأريحية فاندفعت بعامل هذه الصفات النبيلة للانفتاح على هذه المرأة الصالحة الغريبة النجيبة وطفلها الصغير البريء ـ بالعطف والحنان والبر والإحسان من أجل التعبير عن مشاعر الإنسانية من جهة ومن أجل تحصيل موافقتها على الاستفادة من ذلك الماء الواقع تحت إشرافها وحيازتها ـ من جهة أخرى .

وترعرع ذلك الطفل في ظل رعايتهم له ولأمه مع حضانتها وقيامها بواجب الأمومة تجاهه .

والذي زاد في عطفهم ورعايتهم لهما معرفتهم بأن هذا الطفل هو نجل النبي إبراهيم عليه السلام وأن أمه هذه هي زوجة ذلك النبي العظيم وهذا ما بعث السرور والاطمئنان في قلب هذا الأب الرحيم والزوج الكريم حيث استجيب دعاؤه وتضرعه إلى الله تعالى بقوله :

( رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ

١٥١
 &

لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ) (١) .

والذي زاده سروراً هو حصول ما يمهد لتحقق الهدف الكبير المقصود لله سبحانه بأمره له بالهجرة مع زوجته وطفله إلى ذلك المكان والمراد بذلك الهدف هو تجديد بناء الكعبة وتعميرها مع ولده اسماعيل مادياً مقدمة لعمرانها معنوياً بقيام ذريته الحالية ومن سيولد منها في المستقبل مع من يؤمن بدعوته من الناس بإحياء شعائر الله والقيام بفريضة الحج لبيته الحرام في المستقبل القريب والبعيد إلى يوم القيامة تلبية للنداء الكريم الذي أمر الله نبيه هذا بتوجيهه إلى الأجيال عبر التاريخ وذلك بقوله تعالى :

( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ) (٢) .

ومن مجموع ما تقدم ذكره حول هجرة النبي إبراهيم وزوجته هاجر من فلسطين إلى الحجاز وما تحقق منهما من التسليم لأمر الله تعالى والإقدام على تنفيذ إرادته تعالى رغم وجود الصعوبة والمعاناة النفسية والجسمية وما ترتب على ذلك وحصل بعده من اليسر بعد العسر والفرج بعد الشدة .

ندرك مدى النجاح الذي حققه هذان المؤمنان الموحدان المخلصان لله سبحانه ونعرف أن الفرج الذي منَّ الله به عليهما بعد صبرهما الجميل

__________________

(١) سورة إبراهيم ، الآية : ٣٧ .

(٢) سورة الحج ، الآيتان ٢٧ و ٢٨ .

١٥٢
 &

وتسليمهما لأمر الله الجليل ـ كان جائزة كبرى معجلة ومكافأة معنوية ومادية على ذلك التسليم .

وشاءت الحكمة الإلهية أن تضيف جائزة أخرى لهاجر ومكافأة كبرى على صبرها واحتسابها وهي جعل السعي بين الصفا والمروة الذي قامت به وهي تبحث عن الماء ـ فريضة على كل من حج أو اعتمر من أجل أن يخلد ذكرها بذلك ويجعل منها قدوة مثلى وأسوة حسنة لكل من يسعى في سبيل الهدف الكبير والغاية السامية فيصبر كما صبرت ليظفر بما ظفرت به من نجاح السعي ونيل رضا الله تعالى .

وقبل متابعة الحديث حول شخصية النبي إبراهيم بذكر المواقف الأخرى التي تعرض فيها للامتحانات الأخرى الصعبة .

أحب أن أقف من قصة هجرته مع زوجته هذه وطفله ذاك وقفة تأمل وتدبر من أجل استيحاء العديد من الدروس التربوية التي تقوي إيماننا برحمة الله تعالى وحكمته وتدفعنا للاقتداء بهما بالصبر الجميل والتسليم لحكم الله تعالى وقضائه إذا تعرضنا لما تعرضا له من الامتحان الصعب فأقول :

١ ـ الدرس الأول : الذي نستلهمه من هذه القصة هو درس في التسليم والرضا بقضاء الله وقدره لأن ذلك هو مقتضى الإيمان الكامل الذي يوحي لصاحبه بأنه عبد مملوك لله سبحانه فيجب عليه أن يطيعه بكل ما يأمره به من فعل واجب أو ترك حرام وإنه حكيم رحيم لا يأمره إلا بما فيه المصلحة والفضيلة ولا ينهاه إلا عما فيه المفسدة والرذيلة لذلك تكون نتيجة امتثاله لأحكام ربه هي السعادة في الدنيا والآخرة وهذا وذاك يقوي عامل الانبعاث والتحرك في إطار العبودية والتعبد لله سبحانه مهما كلفه

١٥٣
 &

ذلك من صعوبات وتضحيات لأن الفوائد التي يجنيها بامتثاله حاضراً في هذه الدنيا ومستقبلاً في الآخرة هي أكبر وأعظم من كل صعوبة تحصل في طريق الامتثال كما أن السلبيات المترتبة والصعوبات الناشئة من مخالفة تعاليم الله سبحانه هي أيضاً أكبر وأخطر من كل صعوبة تحدث للمكلف بسبب استقامته في خط التقوى كما أنها أكبر وأكثر من الفوائد المادية الدنيوية الزائلة .

ويؤكد عامل الاستقامة في خط العبودية والخضوع لإرادة الله تعالى الإلتفات إلى أن طبيعة هذه الحياة قائمة على أساس عام وقاعدة ثابتة لا يستطيع أي إنسان أن يتجاهلها ويتجاوز حدودها بقطع النظر عن القضايا التعبدية والالتزام بالأحكام الشرعية .

وهي أن الأهداف الحياتية وخصوصاً الكبيرة منها لا تدرك إلا بالتعب والتحمل فطالب العلم في مدرسته لا يحصل النجاح إلا بالسهر والصبر على المشقة وكذلك طالب المال والثراء لا يدرك الربح المنشود في تجارته إلا بالتعب الجسمي والفكري غالباً .

والمجاهد في ساحة النضال لا يحقق هدف الانتصار والتحرر إلا بالصبر على مضاعفات المعركة وصعوباتها المعهودة وإلى ذلك أشار النبي عيسى عليه السلام ـ بما روي عنه في وصيته للحواريين من قوله لهم : إنكم لا تدركون ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون ، وإلى هذا المعنى أشار الشاعر بقوله :

ذريني أنلْ ما لا يُنال من الـعلى

فصعب العلى في الصعب والسهل في السهل

تريدين إدراك المعالي رخيصة

ولا بد دون الشهد من إبر النحل

١٥٤
 &

وقال آخر :

لا تحسب المجدَ تمراً أنت آكلُه

لن تبلغ المجدَ حتى تلعق الصبرا

وقال آخر :

لأستسهلن الصعبَ أو أدرك المنى

فما انقادت الآمال إلا لصابر

وتفترق الأهداف الرسالية عن الأهداف الحياتية الخارجة عن نطاق الرسالة ونهج الشريعة بأن طالب الأولى مضمون النجاح والربح على كل حال لأنه إذا أدرك هدفه المنشود في هذه الحياة يكون قد ظفر بالنجاح المعجل مع الفوز المؤجل الذي يناله غداً يوم القيامه جزاء عمله في سبيله وإذا لم ينل هدفه الحالي فهو لا يخسر ثواب سعيه وعمله في الآخرة :

( يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) (١) .

وهذا بخلاف طالب الأهداف الحياتية المادية البعيدة عن منهج الدين وخط الاستقامة في طريق التقوى فهو مردد المصير بين النجاح الدنيوي المعجل المؤدي إلى الفشل والخسران الحقيقي يوم الجزاء والخسران المعجل الملزوم للفشل والخسارة الكبرى في الدار الأخرى وذلك هو الخسران المبين .

وإليه أشار الله سبحانه بقوله تعالى :

( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ) (٢) .

__________________

(١) سورة الشعراء ، الآيتان : ٨٨ و ٨٩ .

(٢) سورة الكهف ، الآيتان : ١٠٣ و ١٠٤ .

١٥٥
 &

وقوله تعالى :

( قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) (١) .

وقال سبحانه متحدثاً عن مصير المؤمنين بالله العاملين في سبيله .

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا ) (٢) .

٢ ـ الدرس الثاني : هو درس في التوكل الواعي وهو الذي يهيء صاحبه الأسباب والمقدمات العادية التي يتوقف عليها حصول الهدف المشروع المطلوب للمؤمن المتوكل ويتوكل بعد ذلك على الله سبحانه في حصول هدفه فإن شاء لسعيه النجاح كان له ذلك وشكره على تفضله بتوفيقه له مردداً بلسان المقال أو الحال قوله تعالى ، على لسان نبيه سليمان عليه السلام :

( هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ) (٣) .

وإذا قدر سبحانه أن لا يترتب على سعيه هدفه المنشود رضي بما قدره الله له وصبر عليه مردداً ما ورد في دعاء الافتتاح المروي عن الإمام المهدي عليه السلام من قوله :

ولعل الذي أبطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الأمور .

وأما الهدف المؤجل وهو نعيم الآخرة ورضا الله سبحانه المترتب على توكل المؤمن على ربه وسعيه في سبيله .

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية : ١٥ .

(٢) سورة الكهف ، الآيتان : ١٠٧ و ١٠٨ .

(٣) سورة النمل ، الآية : ٤٠ .

١٥٦
 &

فهو مضمون الحصول يوم الجزاء العادل قال سبحانه :

( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ) (١) .

والدرس المذكور مستفاد من سعي هاجر في سبيل تحصيل الماء رغم إيمانها بقدرة الله سبحانه وتمكنه من تحصيل الماء لها ولطفلها ولو بدون حصول البحث عنه وسعيها في سبيل تحصيله .

وذلك لأنها تعلم أن حكمة الله سبحانه قضت أن لا تنال المسببات إلا بأسبابها العادية وأن إعدادها من أجل التوصل بها إلى الهدف المطلوب المشروع مع الاعتماد على الله سبحانه في نجاح السعي وترتب الأثر المقصود عليها ـ هو التوكل المحمود المحبوب لله تعالى .

ولذلك سعت في سبيل تحصيل الماء ولم تجلس في مكانها معتمدة على إيمانها برحمة الله ودعائها وتضرعها له ليحقق لها مطلوبها من دون أن تتحرك في طريق تحصيله .

وذلك لأن طلب حصول الهدف بدون السعي في سبيل تحصيله بسببه العادي ـ هو من التواكل المذموم في مقابل التوكل المحبوب المحمود عند الله الذي يُباركه ويساعد على إنجاحه في الغالب إلا إذا اقتضت الحكمة الإلهية تأخير حصوله إلى الوقت المناسب أو عدم حصوله في حاضر الدنيا ليعطي الله سبحانه للساعي أجر سعيه يوم القيامة وقد تحدثت حول موضوع التوكل بصورة تفصيلية في الجزء الأول من وحي الإسلام صفحة ٢١٦ .

٣ ـ الدرس الثالث : المستفاد من قصة الهجرة المذكورة هو درس

__________________

(١) سورة الزلزلة ، الآية : ٧ .

١٥٧
 &

إيماني رائع ونور ساطع يبدد ظلمة اليأس بشعاع الأمل والثقة القوية برحمة الله سبحانه وأنه لا يكلف نفساً إلا وسعها بمقتضى عدالته وحكمته ولا يتركها وحدها في ساحة الصراع تصارع الأيام وتتجشم الآلام بدون أن يمد إليها يد الرحمة والمعونة ليجعل لها من بعد عسر يسراً ومن بعد شدة فرجاً في الغالب .

ويفهم ذلك من صريح قوله تعالى :

( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ) (١) .

وقد أشار بعض الشعراء إلى هذا المعنى بقوله :

ولا تيأسنَّ وإن طالت محاولـة

إذا استعنت بصبر أن ترى الفرجا

أخلق بذي الصبر أن يحظى بحـاجته

ومُدمن القرع للأبواب أن يلجا

وقد رأينا بعين الحقيقة والواقع الملموس ـ كيف بدل الله سبحانه شدة هاجر وولدها بالفرج والرخاء وظمأها بالري والارتواء ووحشتهما المقيتة وغربتهما المؤلمة ـ بحسن الجوار لجماعة عرفوا قدرهما وقدموا كل أنواع الدعم والمعونة لهما .

وتأتي الحوادث التاريخية الواقعية لتؤكد هذه الحقيقة الإيمانية وأبرزها ما حصل للنبي أيوب من الشفاء بعد العارض الجسمي الذي أحاط ببدنه ومن إعادة الحياة لأولاده بعد موتهم بالحادث الذي حصل لهم مع عودة أمواله ومواشيه إلى سابق عهدها وعودة زوجته رحمة لتعيش معه في ظل الحياة الزوجية السعيدة بعد أن مرت عليها شدة شديدة وبلاء عظيم حصل لها تبعاً للابتلاء الشديد الذي أصيب به زوجها النبي الصابر الذي مدحه الله سبحانه لصبره بقوله تعالى :

__________________

(١) سورة الشرح ، الآيتان : ٥ و ٦ .

١٥٨
 &

( إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) (١) .

وكذلك ما حصل للنبي يوسف وأبيه يعقوب عليهما السلام حيث تعرض الابن لامتحانات عديدة وصعبة ولأنه كان مع الله سبحانه حال ابتلائه بها بالصبر والاحتساب والثقة القوية بحكمته تعالى ورحمته فقد كان الله معه بالدعم والإعانة على التحمل والتجمل بالصبر الجميل .

كان معه حين إلقائه في البئر ليوفر له ما يضطر له من الغذاء والشراب الحافظ لحياته وبقي معه بعد خروجه منه على يد تلك القافلة التي سخرها الله له لتخرجه من ظلمة البئر إلى عزة القصر ونعيمه .

وبقيت العناية الإلهية معه لتنصره في معركة الجهاد الأكبر عندما رادوته التي هو في بيتها ودخلت معه هذه العناية إلى السجن لتشد على يديه فيرى أن السجن رغم صعوبته أحب إليه مما يدعونه إليه من مخالفة الله وانحرافه عن خط تقواه وكان ذلك سبب الإفراج عنه والإخراج له من ضيق السجن وذلته إلى سعة القصر وعزته كما كان السبب في ظهور براءته مما ألصق به ونسب إليه مما لا يليق بشأنه ويناسب مقامه كنبي معصوم ومؤمن تقي بلغ القمة في العفة والنزاهة .

وهكذا ارتفعت به العناية الإلهية إلى عرش الملك ليصبح حاكماً بالعدل بعد أن كان محكوماً بالظلم وهذا من أوضح مصاديق قوله تعالى :

( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ) (٢) .

كما أنه تطبيق واضح وتجسيم حي لمضمون النصيحة التي قدمها الإمام الحسن عليه‌السلام لجنادة يوم زاره في مرضه الذي توفي

__________________

(١) سورة ص ، الآية : ٤٤ .

(٢) سورة الطلاق ، الآيتان : ٢ و ٣ .

١٥٩
 &

به وهي قوله له :

وإذا أردت عزاً بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان فاخرج من ذل معصية الله تعالى إلى عز طاعته .

ويأتي قول زليخا التي راودت يوسف ـ عندما شاهدته على عزة السلطان وهيبة الإيمان : سبحان الذي جعل العبيد ملوكاً بطاعته والملوك عبيداً بمعصيته ، منسجماً مع روح النصيحة التي قدمها الإمام الحسن عليه‌السلام لصاحبه المذكور .

وهكذا وصلت العناية الإلهية إلى النبي يعقوب والد النبي يوسف عليهما السلام لتشد على يده وتعينه على الصبر الجميل بدل الجزع والاعتراض على حكم الله وقضائه وأعادت له بصره بعد أن فقده وجمعت شمله بولديه يوسف وأخيه بعد الفراق الطويل .

وانطلقت هذه العناية الإلهية والرعاية السماوية في رحاب الزمن لترعى أولياء الله الذين باعوا أنفسهم وكل كيانهم وما يتصل بهم لله تعالى لينالوا بذلك رضاه ثمناً أعلى وأغلى مضافاً إلى النعيم الخالد والسعادة الأبدية في جواره تعالى .

وكان لنبينا الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النصيب الأوفر والقسط الأكبر من هذه الرعاية المباركة لتشد على يديه وتثبته في ساحة الصراع المرير الذي خاضه في مواجهة قومه الذين عارضوا دعوته وقابلوه مع من آمن به بكل قسوة وعنف حتى تحدث عما أصابه من الأذى العنيف بقوله ، وهو الصادق الأمين الذي لا ينطق عن الهوى : ما أوذي نبي بمثل ما أوذيت .

وقابل كل ذلك الأذى مع الحصار السياسي والاقتصادي والأمني مدة ثلاث سنوات في شعب عمه أبي طالب رحمه الله مردداً قوله في مناجاته :

١٦٠