فلسفة الحج في الإسلام

الشيخ حسن طراد

فلسفة الحج في الإسلام

المؤلف:

الشيخ حسن طراد


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

وأما أعمال البر والإحسان وخصوصاً إغاثة الملهوفين وكشف كرب المكروبين المعوزين فهي تنفع صاحبها في الدنيا والآخرة كما تنفع الفقراء والمستضعفين ومن المعلوم أن قيمة كل عمل بقدر ما يترتب عليه من النفع للآخرين .

ويأتي الحديث المشهور أو الحكمة المأثورة لتكون مؤكدة لذلك وهي كما يلي : الخلق عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله .

وقد تناولتُ الحديث حول هذا الموضوع بصورة تفصيلية في الجزء الأول من وحي الإسلام ، تحت عنوان ( دور الزكاة والإحسان في سعادة الإنسان صفحة ٦٠ كما شرحت ذلك مفصلاً في الجزء المذكور بحديث كتبته حول صفة الكرم والسخاء ) صفحة ١٣٥ .

ثم إن كل ما تحدثت به عن الطواف إلى هنا كان من خلال النظر إليه من زاوية كونه حركة اختيارية يمارسها المكلف انقياداً للتكليف الشرعي الموجه إليه من قبل المولى سبحانه بغض النظر عن الحركة التكوينية العامة التي تسود الكون المادي كله وتسيطر عليه عبر نظام تكويني أودعه الله سبحانه فيه ليسيره بانتظام دقيق مستمر ومستقر لا يختلف ولا يتخلف .

وأما إذا نظرنا إليه من خلال هذا النظام التكويني الشامل المسيطر على كل أجزاء هذا الكون من أكبر كائن إلى أصغره الذي لا يُرى بالعين المجردة كالذرة .

فإنا نرى أن حركة الطواف الاختيارية التي يمارسها المكلف بإرادته حول بيت الله سبحانه منسجمةٌ تمام الانسجام مع الطواف التكويني الحاصل في داخل كل كائن مهما كان حجمه ويُعرف ذلك على ضوء العلم الحديث الذي كشف هذه الحقيقة التكوينية وهي أن كل جزء من أجزاء

١٢١
 &

الكائن في هذا العالم ـ مؤلف من ثلاثة أجزاء أولية .

وهي البروتون والالكترون والنيوترون وهذه الأجزاء في منتهى الدقة والضاۤلة والبروتون هو نواة الذرة ومحورها الذي تطوف حوله وتدور في فلكه كما يدور القمر حول الأرض والأرض حول الشمس وكذلك سائر المجموعة الشمسية والالكترون يدور حول البروتون ( أي النواة والمحور ) دورتين في آن واحد الأولى يدور بها حول نفسه دوران الأرض حول نفسها والثانية يدور بها حول النواة دوران الأرض حول الشمس ويقطع بدورته هذه أقصى سرعة عرفها الإنسان (١) .

وحيث أن الإنسان جزء من هذا الكون وجسمه مؤلف من ذرات مادية متحركة بحركة طواف تكويني قهري يطوف به الالكترون حول محوره ـ البروتون ـ يمكن على ضوء هذه الملاحظة العلمية الدقيقة استلهام الحكمة الإلهية الداعية إلى تشريع وجوب الطواف حول الكعبة المشرفة وهي أن تكون حركة الإنسان الاختيارية حول الكعبة المشرفة ـ منسجمةً مع حركة ذرة الالكترون حول محورها ومع حركة الملائكة حول البيت المعمور الذي بناه الله لها في السماء الرابعة ليكون مطافاً لها بعد أن كانت تطوف أول الأمر حول العرش .

وبذلك ندرك أن الكون كله مع جميع ما فيه ومن فيه من كائنات على اختلاف أنواعها متحرك بحركة طواف تكوينية حول المحور المحدد له وتأتي حركة الطواف التشريعية الاختيارية التي يُمارسها المكلف بإرادته واختياره منسجمةً مع حركة الكون التكوينية ونتيجة ذلك أن الإنسان

__________________

(١) ما ذكرته حول الذرة وأقسامها وحصول حركة الطواف التكويني داخلها منقول عن كتاب أصول العقيدة في التوحيد والعدل للعلامة الجليل حجة الإسلام السيد مهدي الصدر دام ظله ، ص ١٤٦ و ١٤٧ طبعة بيروت .

١٢٢
 &

المؤمن عندما يقوم بوظيفته الشرعية خاضعاً وعابداً لله سبحانه بكل كيانه المادي والمعنوي ومنطلقاً بذلك مع الكون كله في اتجاه واحد نحو هدف واحد وهو هدف العبودية والخضوع للإرادة الإلهية تكويناً وقسراً كما هو الحاصل من الجانب المادي من الإنسان مع الكائنات المسيرة بحركتها التكوينية .

وتشريعاً واختياراً وهو الحاصل من الجانب الإرادي الاختياري من كيان الإنسان .

وبقدر ما يحصل من التناغم والانسجام بين الحركة التكوينية القهرية الخاضعة للنظام التكويني المسير والمنظم لحركة الكون وما ومن فيه وبين الحركة الاختيارية الصادرة من الإنسان المكلف وفق النظام التشريعي المنظم لسيره في درب الحياة ـ تحصل له الراحة والاستقرار والسعادة الروحية والمادية .

وذلك لأن الكون بكل ما فيه خُلق وسُخر لخدمة الإنسان والنظام التشريعي وضع من أجل كماله وسعادته فإذا انسجم الثاني مع الأول في حياة الإنسان تحقق له ما أراد الله له من السعادة والكمال في مختلف المجالات ومن جميع الجهات .

ومن أجل تقديم المزيد من التوضيح لدور الواجبات التعبدية في سعادة الإنسان وتقدمه أكرر ما ذكرته أكثر من مرة في هذا الكتاب وشرحته مفصلاً في بعض موضوعات كتاب ( من وحي الإسلام ) الجزء الأول وحاصله .

أن العبادات المعهودة إنما شرعت بكيفيتها الخاصة من أجل ترتب أثرين وتحقق غرضين الأول خاص بها ومترتب عليها بصفتها الخاصة مثل

١٢٣
 &

الكثير من الآثار الإيجابية المترتبة على كل واحدة من الفرائض الإسلامية التعبدية المعهودة وأبرزها الصلاة والصيام والحج والزكاة .

والثاني غرض عام مترتب على مجموع هذه الفرائض وهو سعادة الإنسان وانتعاشه مادياً ومعنوياً دنيوياً وأخروياً .

ومن أجل التوضيح أشبه الواجبات الشرعية التعبدية بأعضاء جسم الإنسان فإن لكل واحد منها وظيفته الخاصة به فالعين للنظر والأذن للسمع واللسان للنطق والأنف للشم واليد للعمل والقدم للمشي والسعي في درب الحياة والرئتان للتنفس والمعدة للهضم والعقل للتفكير وإدراك الحق ليتبع والباطل ليجتنب والقلب من أجل أن يعطي كل واحد من هذه الأعضاء الحياة والحركة في طريق الهدف الذي خلقت من أجله .

وذلك بقيامه بتوزيع الدم عبر شبكة الأوعية الدموية على كل ما تحله الحياة من أعضاء البدن وهناك أعضاء أخرى لها وظائف أخرى تقوم بها في نطاق خدمة الإنسان .

وهذه الأعضاء كما يقوم كل واحد منها بوظيفته الخاصة به ـ يتعاون مع سائر الأعضاء على تحقيق الخدمة العامة للإنسان من خلال تكاملها فيما بينها وتعاونها على بره والإحسان إليه بتقدير الإله الخالق الرحيم الحكيم .

وتظهر فائدة تعاون هذه الأعضاء وتكاملها وتعرف قيمة هذا التكامل عند توقف بعضها عن وظيفته لعارض صحي طارىء من باب لا تعرف النعمة إلا عند فقدها حيث ينعكس ذلك سلبياً على بقية الأعضاء كلا أو بعضاً ويختلف ذلك الأثر السلبي قوة وضعفاً باختلاف دور ذلك العضو المتوقف .

١٢٤
 &

فإذا كان دوره حفظ الحياة واستمرارها كالقلب أدى توقفه إلى فقد الحياة لتتوقف بقية الأعضاء عن العمل تبعاً لتوقفه .

وإذا كان دوره التفكير والتخطيط والإدراك من أجل حصول العمل المناسب من العضو المعد لَه وفي الوقت المناسب ـ كالعقل فإذا فقد زال أثره وخسر الإنسان وجوده المعنوي الإنساني حيث يصبح فاقداً للتوازن في تصرفاته وشبيهاً بالأنعام في حركاته .

لأن بقية الأعضاء وإن كانت لا تزال عاملة ومتحركة وغير فاقدة للحياة ولكنها أصبحت فاقدةً للتوازن والحركة الهادفة التي تنطلق في سبيل الهدف العقلائي الذي يرفع وينفع الإنسان فرداً ومجتمعاً مادياً ومعنوياً .

وإذا أردنا أن نشبه بعض العبادات ببعض أعضاء البدن بلحاظ الفاعلية وقوة التأثير الإيجابي على سير ومسير الإنسان في هذه الحياة تأتي الصلاة لتكون شبيهةً بالقلب والحج ليكون شبيهاً بالعقل لأن الصلاة عمود الدين وعماده فإذا فقد عمود البناء انهار وسقط على الأرض وكذلك هي تمثل أداة الوصل بين المخلوق الذليل الفقير الجاهل المفتقر إلى مصدر الكمال المطلق ليزيل ضعفه بقوته وفقره بغناه ومعونته وذله بعزته الذاتية وجهله بعلمه الواسع المطلع على كل شيء ـ فإذا اتصل بهذه الذات الكاملة أمكنه أن يستمد منها كل ما ينفعه ويرفعه ويعطيه وجوده الإنساني المعنوي بعد أن ظفر بأصل وجوده الجسمي المادي ويصبح بذلك بشراً سوياً ومؤمناً ولياً له وزنه واعتباره في ميزان السمو والرفعة الحقيقية .

وإذا قطع صلته بهذه الذات العظيمة فقد بذلك مصدر إنسانيته ومنبع كماله وسعادته وأصبح كالسفينة التي انقطع حبلها الذي كان يشدها إلى المرفأة الأمين ليصونها من الغرق والتحطم بفعل الأمواج المتلاطمة

١٢٥
 &

والرياح العاتية أو أصبح كما قال الشاعر :

كريشةٍ في مهب الريح طائرة

لا تستقر على حال من القلق

وقد صور الله سبحانه هذه الحالة القلقة التي يعيشها المشرك بالله تعالى الذي قطع صلة التوحيد به وأصبح على وضع مؤلم ومظلم بالصورة الموضحة لها عبر عدة آيات أبرزها الآيتان التاليتان الأولى منهما قوله تعالى :

( وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ) (١) .

والثانية قوله تعالى : ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) (٢) .

وبما ذكرنا من أهمية دور الصلاة في بناء الشخصية الإسلامية للإنسان وتأثيرها الإيجابي البليغ ـ أوجبها الشارع المقدس على المكلف ولم يسقط وجوبها عنه بحال من الأحوال حتى ولو كان غريقاً مشرفاً على الوفاة فإن صلاته الواجبة عليه في هذه الحالة هي تذكره لوجوبها واستحضاره لصورتها وعظمة الخالق الموجب لها والمصر على طلب تحققها على صعيد العبودية ولو بالخطور الذهني والوجود المعنوي .

وبهذا الاعتبار عُبر عنها بأنها ( جنسية المسلم ) .

وهذا المعنى مأخوذ من كلام للإمام علي عليه‌السلام في نهج البلاغة

__________________

(١) سورة الحج ، الآية : ٣١ .

(٢) سورة الزمر ، الآية : ٢٩ .

١٢٦
 &

وقوله : ما مضمونه : ما بين إسلام المسلم وكفره إلا أن يترك هذه الصلاة وكما شبهنا الصلاة بالقلب بالاعتبار المذكور يصح تشبيه الحج بالعقل ـ من جهة مساعدته على حفظ توازن الإنسان المؤمن واستقامته في إيمانه وأعماله التي يمارسها على صعيد هذه الحياة وذلك ببركة المنافع الكثيرة والكبيرة التي يجنيها الحاج من شجرة هذه الفريضة المباركة وقد مرت الإشارة إلى بعضها وسيأتي التنبيه على بعضها الآخر عند الكلام حول الحكمة والفائدة المترتبة على بقية الشعائر الراجعة إلى فريضة الحج المباركة .

وعلى ضوء هذه الحقيقة الإيمانية ندرك واقعية ما تقدم ذكره من أن لكل واحدة من العبادات الخاصة ـ أثرين أحدهما يترتب عليها وينحصر في إطارها .

والثاني أوسع منها لامتداده وانطلاقه مع المكلف في درب الحياة ليؤثر في كل تصرف يصدر عنه بإرادته واختياره .

وذلك الأثر الأوسع هو التقوى وأوضح مثال لذلك هو الصوم الذي شرع الله فريضته لترسيخ ملكة التقوى في نفس المكلف كما هو المفهوم من صريح قوله تعالى :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (١) .

وذلك لأن هذا الأثر الإيجابي المبارك إذا ترتب على الصوم فهو يلازم المكلف ويصاحبه ليجعل كل شهر عنده شهر رمضان من أجل أن يؤدي الصيام العام المتمثل بالإمساك التام عن كل حرام في جميع الشهور

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٨٣ .

١٢٧
 &

والأيام ـ فيترك كل المحرمات في شهر رمضان وغيره كما كان يترك المفطرات وأكثرها مباحات في داخله أي داخل شهر رمضان المبارك وهكذا شعائر الحج فهي تبتدىء وتبدو محدودة الأثر وهو فراغ الذمة من وجوبها وسقوط أمرها بفعلها عندما يأتي بواجباته ويترك محرماته ولكن الأثر المطلوب للمولى من تأدية فريضة الحج هو أن يبقى في إطار شريعته دائماً وأبداً وذلك بتحقيق ما ترمز إليه شعائر هذه الفريضة المقدسة فكما طُلب منه أن يبقى على حالة صيام دائم بعد انتهاء شهر رمضان المبارك من خلال التزامه بمنهج التقوى .

هكذا يُطلب ممن مارس شعائر الحج ـ أن يبقى على حالة إحرام دائم بترك كل المحرمات الشرعية كما كان تاركاً لمحرمات الإحرام وقت تلبسه به وقبل إحلاله منه .

وبعد أن ينتهي من الطواف الخاص تبتدىء رحلة الطواف العام بالطواف المعنوي بقلبه حول مركز شريعة ربه فلا يتجاوز حدودها ابتداء ووسطا وانتهاء كما كان لا يتجاوز حدود محل الطواف الخاص المحدود .

وذلك لأن الشارع المقدس لم يطلب من المكلف الطواف الخاص بجسمه حركةً وبقلبه قصداً ونيةً إلا من أجل أن يظل على حالة طوافه القلبي العام في نطاق الشريعة الغراء فلا يتجاوز حدوده ولا يخالف أحكامه المعهودة .

وبذلك ندرك أن الطواف المعنوي العام الذي يستفاد من الطواف الجسمي الخاص يتسع ويمتد مع حركة المكلف العبادية ليشمل كل مكان فلا يختص بمكان الكعبة المشرفة كما يشمل كل زمان ولا يختص بأشهر الحج المعهودة وكل حركة عبادية يقوم بها المكلف انقياداً لإرادة الله

١٢٨
 &

التشريعية وتعبداً له بها بتحقيق كل ما طلب منه فعله فيها وترك كل ما يمنع من صحتها وترتب الأثر عليها .

أجل : إن كل حركة عبادية يأتي بها المكلف ضمن حدودها وقيودها الشرعية ـ تعتبر طوافاً يقوم به المكلف في إطار الشريعة الإسلامية ومطافها المحدد ليحقق الغاية المقصودة من تشريع الطواف الخاص وهو ترسيخ صفة العبودية وملكة الانقياد المطلق لإرادة الله الكامل بالكمال المطلق في كل التصرفات الاختيارية التي يمارسها المكلف بإرادته على صعيد هذه الحياة .

وذلك لأن هذا هو مقتضى وجود روح العبودية والتعبد لله سبحانه بكل عمل يمارسه بإرادته واختياره وفق إرادة الله سبحانه ـ وعلى ضوء ملاحظة هذا المفهوم العام للعبادة الذي جعله الله تعالى العلة الغائية والسبب الباعث لخلقه الجن والإنس يظهر لنا اشتراك جميع الوظائف الشرعية التي يأتي بها المكلف وفق إرادة الله تعالى ـ في هذه الروح العبادية لتصبح متفقة روحاً وجوهراً وإن اختلفت شكلاً وصورة ونوعية .

١٢٩
 &

الحكمة في تحديد الطواف وتقييده بالحجر الأسود بداية ونهاية

لا أريد تناول الحديث حول هذا الموضوع من زاوية ذاتية تتعلق بحقيقة الحجر ونوعيته وهل هو درة نزلت من السماء أو من نوع آخر حصل من الأرض ؟

وذلك لأن معرفة هذه الخصوصية لا ترتبط بالهدف الأصيل العام المقصود من فرض الله سبحانه بدء الطواف بالحجر وختامه به ولذلك اقتصرت على ذكر ما يكون قابلاً للانسجام مع روح التعبد بفريضة الطواف وقيوده الخاصة وهو ما يستفاد من بعض الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام لبيان الحكمة في ذلك التعبد وهي أن الله سبحانه أراد جعل الحجر الأسود رمزاً لما تتحقق به المصافحة في مقام إعطاء العهد والميثاق لله سبحانه بالالتزام بخط العبودية والوفاء بميثاق الفطرة وعهد الاعتراف لله بالوحدانية وحق العبادة والإطاعة ولنبيه محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرسالة ـ عندما يُقبّل الطائف هذا الحجر أو يصافحه ويستلمه .

وحيث أن الذي جرت العادة بين أفراد المجتمع على المصافحة به هو يمين الإنسان الذي يُعطى العهد له ـ فقد عبر عن هذا الحجر بهذا الإعتبار بأنه يمين الله سبحانه تجوزاً وتسامحاً في التعبير كما في التعبير

١٣٠
 &

بكلمة اليد وإرادة القدرة الإلهية الشاملة وإطلاق كلمة عرش الله وإرادة سلطانه الواسع .

وقد روي هذا التعبير في مقام الرمز والإشارة الى اليمين المعنوية لله سبحانه ـ عن الإمام زين العابدين عليه‌السلام حيث روي عنه قوله ما مضمونه :

إن الحجر بمنزلة يمين الله سبحانه في أرضه فمن لمسه يكون كأنه صافح الله سبحانه وروي عنه أيضاً ما حاصله :

أن الله سبحانه جعل في الحجر ميثاق الأنبياء وأخذ على العباد أن يؤدوا الأمانة لله سبحانه ( وهي أمانة التكليف والمسؤولية ) .

ولذلك ورد في الدعاء عندما يطوف المكلف حول البيت الشريف ويحاذي الحجر الأسود : إلهي أمانتي أديتُها وميثاقي تعهدتُه ليشهد لي بالموافاة عندك يوم القيامة .

وحيث أن هذه الكتابة محررة لغاية استيحاء الدروس التربوية من مناسك الحج وشعائره رأيت من المناسب لذلك أن أذكر بعض الأدعية التي كان الإمام زين العابدين عليه‌السلام يدعو بها ويناجي ربه إذا خلا له المطاف مع ذكر قصة هشام بن عبد الملك عندما أراد أن يطوف حول الكعبة ويستلم الحجر فلم يتمكن بسبب زيادة عدد الحجاج وشدة الازدحام واضطر لأن يتراجع وينتظر إلى أن يخف الازدحام وحوله أصحابه من وجوه أهل الشام بينما تمكن الإمام زين العابدين من ذلك بكل يُسر وسهولة كما سيأتي ذكر قصته بعد ذكر بعض أدعية الإمام المناسبة للمقام .

منها قوله عليه‌السلام : اللهم أنت وهبتنا أجلَّ الأشياء عندك وهو

١٣١
 &

الإيمان من غير سؤال فهل تحرمنا ما دونه من الغفران بعد المسألة والابتهال ؟ يا من وعد فوفى وتوعد فعفا صل على محمد وآله الطاهرين واغفر لمن ظلم وأسا .

يا سيدي لا أهلك وأنت الرجا . وكان يقول بعد دعائه المذكور :

يا من إذا وقف الوفودُ ببابه

ألهى غريبَهم عن الأوطان

أنا عبدُ نعمتك التي ملكت يدي

وربيب مغناك الذي أغناني

جرت الملـوكُ ومن يُؤمل رفدُه

وبقيتُ حيث أرى الندى ويراني

ومن كلماته الحكيمة المتعلقة بموضوع الحديث ( الطواف ) قوله عليه‌السلام : إذا وقفتَ في المطاف فلينطق قلبك بذكر رب البيت قبل أن يطوف جسمك بالبيت .

فقد لفت الإمام عليه‌السلام بهذا البيان نظر المكلفين إلى حقيقة العبادة وجوهرها وهي التي يشترك فيها كل كيان الإنسان باطنه وظاهره جوانحه وجوارحه وبذلك تكون عبادة كاملة يرضى بها الإله الكامل وذلك لأنها إذا حصلت من الجوارح وحدها ولم تشترك معها الجوانح والباطن بأن صدرت حركةً من الجسم ولم تقترن بنية القلب وإخلاصه فهي تكون جسماً بلا روح لا قيمة لها ولا اعتبار بها .

وكذلك إذا آمن بقلبه بقيمة العبادة وكون الله سبحانه أهلاً لها ومستحقاً لقيام العبد بها ـ من دون أن يُخرج هذا الإيمانَ من حيز القلب إلى صعيد الخارج ويجسمه بعمل خارجي ، فإن هذا الإيمان يكون أبتر ناقصاً لا يجلب لصاحبه نفعاً ولا يدفع عنه ضرراً .

وقد بيّن الله سبحانه حقيقة العبادة الكاملة التي تسلم الإنسان العابد من الخسران وتساعده على نيل نعيم الجنة والسلامة من عذاب النيران

١٣٢
 &

بقوله سبحانه :

( والْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) (١) .

وقد أشرتُ إلى مضمون هذه السورة بالأبيات التالية :

والعصر إن المرءَ في خسـران

وشقاوة ومذَلةٍ وهوانِ

إلا الألى عرفوا الإله وطبقوا

نهج الهدى وشريعة القرآن

وغداً يُوصي بعضهم بعضاً هنا

بالحق والصبر الجميل الباني

أما قصة الإمام عليه‌السلام مع هشام فحاصلها :

أن هشاماً بن عبد الملك بن مروان أراد أن يطوفَ حول الكعبة ويستلم الحجر فعجز عن ذلك بسبب شدة الازدحام واضطر لأن يتراجع وينتظر إلى أن يخف الإزدحام فيتم طوافه ، وبينما كان جالساً وحوله جماعة من أصحابه الشاميين فإذا الإمام زين العابدين يُقبل بقصد الطواف فوسع الناس له ومهدوا السبيل لطوافه ولمسه الحجر بيسر وسهولة . وهذا ما لفت نظر أصحاب هشام فسأل أحدهم عن هذا الشخص الذي هابه الناس وقابلوه بإجلال واحترام ، فقال هشام للسائل : لا أعرفه ـ من باب التجاهل ـ حتى لا ينجذب جماعته الشاميون إلى الإمام عليه‌السلام ويؤمنوا بأولويته منه بمنصب الخلافة وكان الفرزدق حاضراً يسمع السؤال والجواب فتحركت فيه الغيرة الإيمانية والولاء الطاهر لأهل البيت الطاهر وقال لهشام : إذا كنت لا تعرفه فأنا أعرفه فقال له : ومن هو ؟

فأجابه هذا الشاعر البطل والموالي المخلص للحق والولاية بالقصيدة المشهورة التي تعتبر من كرامات الإمام زين العابدين المعبرة عن مدى

__________________

(١) سورة العصر ، الآيات : ١ و ٢ و ٣ .

١٣٣
 &

اهتمام الله تعالى ببيان فضل أهل البيت وأحقيتهم من غيرهم .

وذلك لأن ارتجال مثل هذه القصيدة الرائعة على الفور مع تميزها بفصاحتها وبلاغتها وجزالة ألفاظها وقوة وسمو معانيها يدل دلالة واضحة على مدى اهتمام واحترام الله سبحانه لكل واحد من أهل البيت عليهم السلام ومن يتمسك بعروة ولائهم الوثقى . وفيما يلي مقطوعة رائعة من هذه القصيدة الغراء وهي كما يلي :

هذا الذي تعرف البـطحاءُ وطأتَه

والبيت يعرفُه والحل والحرمُ

هذا ابن خير عباد الله كلهم

هذا التقي النقي الطاهر العلم

هذا ابن فاطمة إن كنتَ جاهله

بجده أنبياء الله قد خُتموا

هذا عليٌ رسول الله والده

أضحت بنور هداه تهتدي الأمم

وليس قولك مَنْ هذا بضائره

العربُ تعرف مَنْ أنكرتَ والعجم

يكاد يُمسكه عرفانَ راحته

ركنُ الحطيم إذا ما جاء يَستلم

من معشر حبهم دينٌ وبغضُهُم

كفرٌ وقربهم مَنجىً ومُعتصمُ

إن عُد أهل التقى كانوا أئمتهم

أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم

ويستفاد من قصة الإمام عليه‌السلام مع هشام عدة دروس تربوية :

١ ـ منها درس يفيدنا مدى تأثير قوة العلاقة بالله سبحانه والذوبان في ذاته المقدسة حباً وعبادة وقرباً حيث ينعكس ذلك إيجاباً على شخص المؤمن بالله تعالى المحب له والذائب في محبته وعبادته .

وقد تمثل الأثر الايجابي لمحبة الإمام عليه‌السلام ربه وإخلاصه له في عبادته بزرع المحبة والمهابة له في قلوب تلك الجماهير المحتشدة حول بيت الله تعالى الأمر الذي دفعها لأن تفسح له في طريق الوصول إلى الكعبة المشرفة ليطوف حولها ويلمس حجرها بيسر وسهولة بدون وجود أي

١٣٤
 &

ضغط خارجي يدفعها لذلك وهذا يُعتبر نتيجة طبيعية بالنسبة إلى الإمام زين العابدين عليه‌السلام وأمثاله من الأولياء المحبين لله تعالى المخلصين في محبته وعبادته لأنه سبحانه وعد بالمجازاة بالإحسان على فعل الإحسان حيث قال تعالى :

( هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ) (١) .

كما وعد بالخير معجلاً لفعل الخير بقوله سبحانه :

( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ) (٢) .

ووعد أيضاً بالنصر والتأييد من نصره أي نصر دينه بتعلم أحكامه وتطبيق نظامه والدفاع عنه فكرياً وعسكرياً إذا تعرض للخطر من قِبَل الأعداء وذلك بصريح قوله تعالى :

( إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) (٣) .

ومن المعلوم أن الله سبحانه أوفى الواعدين وأصدق القائلين . وحيث أن الإمام جاء زائراً بيت الله تعالى بكل حب وصدق وإخلاص فلا بد أن يمهد له سبيل الوصول إلى غرضه الأخروي السامي ليظهر الفرق بين المؤمن المخلص لله سبحانه وغيره ، وذلك بتأييد الأول وخذلان الثاني تطبيقاً لقوله تعالى :

( أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ ) (٤) .

وحيث أن ما حصل للإمام عليه‌السلام من الجماهير لم يكن عادياً بل

__________________

(١) سورة الرحمن ، الآية : ٦٠ .

(٢) سورة الزلزلة ، الآية : ٧ .

(٣) سورة محمد ، الآية : ٧ .

(٤) سورة السجدة ، الآية : ١٨ .

١٣٥
 &

هو فوق العادة ـ يصح أن نعتبره كرامة سماوية كرَّم الله بها الإمام عليه‌السلام بهذا النحو من العناية والتكريم ـ ويأتي ارتجال الفرزدق قصيدته العصماء التي هي من عيون الشعر العربي ـ ليكون كرامةً أخرى كرّم الله بها الإمام عليه‌السلام وأبرز فضله وفضل آبائه وأجداده وأبنائه حيث قال في حقه وحقهم ما هو الثابت لهم واقعاً يتحدى ونصاً يتحدث عن كون مودتهم فرضاً وبغضهم كفراً وذلك بقوله :

من معشر حبهم فرض وبـغضهم

كفر وقربهم مَنجىً ومُعتَصَمُ

إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم

أو قيل مَن خير أهل الأرض قيل هم

٢ ـ ومنها درس في التضحية والجهاد المقدس بالكلمة الجريئة والموقف الأبي الذي وقفه ذلك الشاعر البطل في سبيل نصر المبدأ ودعم الفضيلة وإظهار الحقيقة ليكون محققاً بذلك أفضل الجهاد الذي عناه الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله :

أفضل الجهاد كلمة حق أمام سلطان جائر .

والذي رفع هذا الجهاد بمقياس القيم هو تجرده من العوامل المادية والدوافع الدنيوية . وتجلى ذلك بوضوح عندما اعتذر وأبى قبول الهدية التي قدمها له الإمام عليه‌السلام مكافأة له على موقفه المشرف . ويأبى الكرمُ الإيماني الهاشمي إلا أن يقابل إرجاع الهدية بالرفض معللاً ذلك بقوله عليه‌السلام ما مضمونه :

إنا أهلَ البيت لا نرضى بإرجاع ما قدمناه هدية ثم أعادها إليه ـ أي إلى الفرزدق .

٣ ـ ومنها درس في التوعية والتنبيه على واقعية العزة الإيمانية التي نبه الله عليها في أكثر من مورد وبأكثر من آية .

١٣٦
 &

منها قوله تعالى : ( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) (١) .

وقوله تعالى : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (٢) .

وقول الرسول الأعظم المشهور : لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى ، متحدٌ مع الآية المذكورة .

وورد في وصية الإمام الحسن عليه‌السلام إلى جنادة ما يشير إلى ذلك وهي قوله عليه‌السلام : وإذا أردت عزاً بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان فاخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعته .

والحقيقة الموضوعية التي كشفت عنها هذه النصوص الكريمة بعدما أثبتها الواقع وشهد بواقعيتها الوجدان السليم والذوق المستقيم هي أن الميزان في رفعة الشأن وسمو المنزلة هو التقوى والعمل الصالح والخلق الفاضل ـ لا السلطة المادية الدنيوية القائمة على أساس الظلم والجور ولا كثرة الأعوان والجنود المتعاونين مع صاحب هذه السلطة ـ على الإثم والعدوان ـ ولا كثرة الأموال وإقبال الدنيا بزينتها الفانية وفتنتها الساحرة فإن ذلك كله وهم وخيال لا قيمة له ولا اعتبار به بمقياس الحقيقة لأنها كلها تفنى وتزول كما يزول صاحبها معها أو قبلها ولا يبقى له منها إلا تبعتها ومسؤوليتها الخطيرة غداً :

( يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) (٣) .

وبذلك ندرك أن تلك المظاهر الجوفاء مصداق للزبد الذي تحدث الله عنه بصريح قوله تعالى :

__________________

(١) سورة المنافقون ، الآية : ٨ .

(٢) سورة الحجرات ، الآية : ١٣ .

(٣) سورة الشعراء ، الآية : ٨٨ و ٨٩ .

١٣٧
 &

( فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ) (١) .

وتأتي الحوادث التاريخية لتؤكد هذه الحقيقة وتزيدها وضوحاً وجلاء فيعتبر بها المعتبرون ويستفيد منها المتفكرون .

فهارون العباسي أقبلت عليه الدنيا وخدعته بزينتها الخادعة وفتنتها الساحرة حتى كان يخاطب السحابة قائلاً :

( أينما أمطرتِ فإن خراجك سيأتي إلى ) معبراً بذلك عن سعة سلطانه وقوة نفوذه .

وفي المقابل كان الإمام موسى الكاظم عليه‌السلام غارقاً في ظلمات السجون بحيث لا يستطيع تمييز الليل عن النهار ولم يصدر منه ما يقتضي ذلك سوى رفضه لأن يسير في ركاب الحاكم الظالم ساكتاً عن ظلمه وداعماً لسلطانه .

وقد بعث هذا الإمام العظيم لذلك الحاكم الجائر رسالة يقول له فيها :

إنه لن ينقضيَ عني يوم من البلاء إلا انقضى معه عنك يوم من الرخاء حتى نمضي جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء هناك يخسر المبطلون . وفي المقابل :

( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ) (٢) .

__________________

(١) سورة الرعد ، الآية : ١٧ .

(٢) سورة المؤمنون ، الآيات : ١ و ٢ و ٣ و٤ .

١٣٨
 &

وقال سبحانه مشيراً إلى العاقبة الحسنة التي ينتهي إليها المتقون بتقواهم :

( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) (١) .

وأشار إلى مصير المؤمنين العاملين بإيمانهم الصادق بالتقوى والعمل الصالح بقوله سبحانه :

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ) (٢) .

كما أشار إلى مصير الكافرين بقوله تعالى :

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَٰئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ) (٣) .

وقد أشار إلى هاتين العاقبتين المتقابلتين أحد الشعراء المبدعين بقوله :

هيا بنا لرُبى الزوراء نسألها

عن ثلتين هما موتى وأحياء

فقد مشت وبنو العبـاس سامرةٌ

بألف ليلةَ حيث العيش سراء

دار الرقيق وقصر الخلد طافحة

بما يلذ فأنغام وصهباء

تجبك أن ديار الظلم خاوية

وأن للمتقين الخلدَ ما شاؤا

__________________

(١) سورة القصص ، الآية : ٨٣ .

(٢) سورة البينة ، الآيتان : ٧ و ٨ .

(٣) سورة البينة ، الآية : ٦ .

١٣٩
 &

ومِل إلى الكرخ وارمُق قُبة سمَقَت

تجاذبتها الثريا فهي شماء

وحي فيها إماماً من أنامله

سحابة الفضل والإنعام وطفاء

وهذه المقطوعة الشعرية الرائعة وإن جعلت المقابلة بين الإمام موسى الكاظم عليه‌السلام وحاكم عصره والمتعاونين معه على الإثم والعدوان إلا أن مضمونها ومحتواها ينسحب بشكل عام ليشمل كل فرد أو جماعة سائرة في خط السماء بالإيمان الصادق والتقوى والعمل الصالح كما يشمل الطرف المقابل لهذه الفئة الهادية المهتدية إلى درب العبادة والكمال ( وبضدها تتميز الأشياء ) .

ولذلك ينطلق المضمون المذكور في رحاب التاريخ ليصل إلى عصر الإمام الهادي عليه‌السلام ومعاصره المتوكل العباسي والقصة التالية تُظهر لنا تحقق المقابلة بين خط الهدى والاستقامة في العقيدة والسلوك والخط المقابل المنحرف عن هذا الخط القويم والصراط المستقيم وحاصل القصة المشار إليها :

أن المتوكل أحضر الإمام الهادي عليه‌السلام إلى قصر حكمه وهو جالس على مائدة الخمر وطلب من الإمام أن يشاركه في شربه فقال له الإمام عليه‌السلام اعفني يا أمير فوالله ما خالط لحمي ودمي قط فاعفني منه فقال له المتوكل إذن أنشدني الشعر فقال له إني لقليل الرواية فألحّ عليه المتوكل وقال له لا بد من أن تنشدني شعراً فأنشده الأبيات التالية لينبهه من غفلته وهي كما يلي :

باتوا على قُلل الأجبال تحرسُهم

غلبُ الرجالِ فلم تنفعهم القُلَلُ

واستنزلوا بعد عز من معاقلهم

وأسكنوا حفراً يا بئس ما نزلوا

ناداهم صارخ من بعدما قُبروا

أين الأسرةُ والتيجانُ والحُلَلُ

١٤٠