محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-15-2
الصفحات: ٥٧٠

وأمّا الانصراف في غير هذين الموردين وما شاكلهما فلا يمنع عن التمسك بالاطلاق ، فانّه لو كان فانّما هو بدوي فيزول بالتأمل ، ومن ذلك الانصراف المستند إلى غلبة الوجود فانّه بدوي ولا أثر له ، ولا يمنع عن التمسك بالاطلاق حيث إنّه يزول بالتأمل والتدبر.

[ الثاني : ] التقييد هل يستلزم المجاز؟ فيه وجهان. بناءً على ما اخترناه من أنّ الألفاظ وضعت بازاء الماهيات المهملة الجامعة بين جميع الخصوصيات الطارئة فهو لا يستلزم المجاز أصلاً ، إذ على أساس هذه النظرية فالاطلاق والتقييد كلاهما خارجان عن حريم المعنى الموضوع له ، فكل منهما مستفاد من القرينة ، فالاطلاق مستفاد غالباً من قرينة الحكمة والتقييد من القرينة الخاصة ، فاللفظ في كلتا الحالتين مستعمل في معناه الموضوع له.

نعم ، استعماله في خصوص المقيد يكون مجازاً كما أنّ استعماله في خصوص المطلق يكون كذلك ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية. ولكن هذا الفرض خارج عن محل الكلام فانّ محل الكلام إنّما هو في أنّ تقييد المطلق بقيد هل يوجب المجاز فيه أم لا ، وقد عرفت أنّه لا يوجب ذلك ، وأنّ التقييد مستفاد من دال آخر كما أنّ الاطلاق كذلك.

وأمّا بناءً على نظرية القدماء من أنّ الألفاظ موضوعة للماهية اللا بشرط القسمي ، يعني أنّ الاطلاق والسريان مأخوذ في المعنى الموضوع له فلا بدّ من التفصيل بين القرينة المتصلة والقرينة المنفصلة ، فانّ الاولى تستلزم المجاز لا محالة ، حيث إنّ الاطلاق والسريان لا يجتمع مع التقييد والتضييق. وأمّا الثانية فلا تستلزم ذلك لما ذكرناه في بحث العام والخاص (١) من أنّه لا مانع من أن

__________________

(١) في ص ٣١٨ ـ ٣١٩.

٥٤١

يكون المراد الاستعمالي من الكلام غير المراد الجدي ، والمفروض أنّ الحقيقة والمجاز تدوران مدار الأوّل دون الثاني.

وعليه فلا مانع من أن يكون المراد الاستعمالي في المقام هو الاطلاق والسريان ضرباً للقاعدة ، كما هو الحال في استعمال العام في العموم في موارد التخصيص بالمنفصل ، والمراد الجدي هو التقييد والتضييق. فاذن يكون اللفظ مستعملاً في معناه الموضوع له ، غاية الأمر أنّه غير مراد جداً.

وعلى الجملة : فالتقييد بالمنفصل لا يكشف عن أنّ المطلق استعمل في المقيد ، وإنّما يكشف عن أنّ الارادة الاستعمالية لا تطابق الارادة الجدية.

هل يحمل المطلق على المقيّد

إذا ورد مطلق ومقيد فهل يحمل المطلق على المقيد أم لا؟ فالكلام فيه يقع في موضعين :

الأوّل : أن يكون الحكم متعلقاً بالمطلق على نحو صرف الوجود كقول المولى : أعتق رقبةً.

الثاني : أن يكون الحكم متعلقاً به على [ نحو ] مطلق الوجود كقوله تعالى : ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(١) حيث إنّ الحكم فيه ينحل بانحلال أفراد متعلقه دون الأوّل.

أمّا الموضع الأوّل : فالكلام فيه تارةً يقع في المقيد الذي يكون مخالفاً للمطلق في الحكم كقوله : أعتق رقبةً ولا تعتق رقبة كافرة ، أو قوله : صلّ

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٧٥.

٥٤٢

ولا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه أو في النجس أو نحو ذلك. واخرى يقع في المقيد الذي يكون موافقاً له فيه كقوله : أعتق رقبةً وأعتق رقبةً مؤمنةً. وعلى الأوّل فقد تسالم الأصحاب فيه على حمل المطلق على المقيد ، فيقيّد الرقبة في المثال الأوّل بغير الكافرة ، والصلاة في المثال الثاني بغير الصلاة الواقعة فيما لا يؤكل أو في النجس. وعلى الثاني فقد اختلفوا فيه على قولين : أحدهما أنّه يحمل المطلق على المقيد. وثانيهما : أنّه يحمل المقيد على أفضل الأفراد.

ولكنّ الظاهر أنّه لا وجه للفرق بين هذا القسم والقسم الأوّل فهما من وادٍ واحد ، فلا وجه للاتفاق في الأوّل والاختلاف في الثاني أصلاً ، فانّه إن حمل المطلق على المقيد في الأوّل ففي الثاني أيضاً كذلك ، وإن حمل المقيد في الثاني على أفضل الأفراد برفع اليد عن ظهوره في الوجوب حمل المقيد في الأوّل على المرجوحية ، حيث إنّ ظهور الأمر في جانب المقيد في الوجوب ليس بأقل من ظهور النهي في الحرمة ، فما يقتضي رفع اليد عن ظهور الأمر في الوجوب وحمله على الرجحان يقتضي رفع اليد عن ظهور النهي في الحرمة وحمله على المرجوحية ، وكيف كان فالملاك في القسمين واحد فلا وجه للتفرقة بينهما.

ثمّ إنّنا تارة نعلم من الخارج أنّ الحكم في موردي المطلق والمقيد واحد كما إذا قال المولى : إن ظاهرت فأعتق رقبةً ، وإن ظاهرت فأعتق رقبةً مؤمنة ، فنعلم أنّ الحكم واحد ، حيث إنّ الظهار ليس إلاّسبباً لكفارة واحدة وليس موجباً لكفارتين ، ففي مثل ذلك هل يحمل المطلق على المقيد أو يحمل المقيد على أفضل الأفراد؟ ذهب جماعة إلى الأوّل بدعوى أنّ فيه جمعاً بين الدليلين وعملاً بهما دون العكس.

وفيه : أنّه إن اريد به حصول الامتثال بالاتيان بالمقيد فهو مما لا إشكال فيه ، فانّ الامتثال يحصل به على كل تقدير ، أي سواء أكان واجباً أو كان من

٥٤٣

أفضل الأفراد. وإن اريد أنّ الجمع بين الدليلين منحصر به ، ففيه : أنّ الأمر ليس كذلك ، فانّ الجمع بينهما كما يمكن بذلك يمكن بحمل المقيد على أفضل الأفراد ، فلا وجه لترجيح الأوّل على الثاني.

ومن هنا ذكر المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) وجهاً آخر لذلك : وهو أنّ ظهور الأمر في طرف المقيد في الوجوب التعييني بما أنّه أقوى من ظهور المطلق في الاطلاق فيقدّم عليه.

وفيه : أنّه لا يتم على مسلكه قدس‌سره حيث إنّه قد صرّح في بحث الأوامر (٢) أنّ صيغة الأمر لم توضع للدلالة على الوجوب التعييني ، بل هو مستفاد من الاطلاق ومقدمات الحكمة ، وعليه فلا فرق بين الظهورين ، فلا يكون ظهور الأمر في الوجوب التعييني أقوى من ظهور المطلق في الاطلاق.

فالصحيح في المقام أن يقال : إنّ الأمر بالمقيّد بما أنّه ظاهر في الوجوب على ما حققناه في محلّه من ظهور صيغة الأمر في الوجوب ما لم تقم قرينة على الترخيص ، فيقدّم على ظهور المطلق في الاطلاق ، حيث إنّ ظهوره فيه يتوقف على البيان وهو يصلح أن يكون بياناً له عرفاً.

ومن الواضح أنّ في كل مورد يدور الأمر بين رفع اليد عن ظهور القرينة ورفع اليد عن ظهور ذيها ، يتعين الثاني بنظر العرف ، وعليه فيكون ظهور الأمر بالمقيد في الوجوب مانعاً عن ظهور المطلق في الاطلاق. ونقصد بظهوره الظهور الكاشف عن المراد الجدي ، فانّه يتوقف على عدم البيان المنفصل ، دون أصل ظهوره حيث إنّه لا يتوقف عليه وإنّما يتوقف على عدم البيان المتصل.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٥٠.

(٢) كفاية الاصول : ٧٦.

٥٤٤

وعلى الجملة : فلا يشك بحسب المتفاهم العرفي وارتكازاتهم في تقديم ظهور المقيد على ظهور المطلق ، سواء أكان في كلام منفصل أو متصل ، غاية الأمر أنّه على الأوّل يمنع عن حجية الظهور وكاشفيته عن المراد الجدي ، وعلى الثاني يمنع عن أصل انعقاد الظهور له فلا تكون بينهما معارضة أبداً. هذا فيما إذا علم وحدة التكليف من الخارج.

وأمّا إذا احتمل تعدد التكليف حسب تعددهما فالمحتملات فيه أربعة :

الأوّل : أن يحمل المطلق على المقيد.

الثاني : أن يحمل المقيد على أفضل الأفراد.

الثالث : لا هذا ولا ذاك ، فيبنى على تعدد التكليف لكن من قبيل واجب في واجب آخر ، وهذا يعني أنّ عتق الرقبة واجب على نحو الاطلاق وخصوصية كونها مؤمنةً أيضاً واجبة ، نظير ما لو نذر المكلف الاتيان بالصلاة في المسجد أو في الجماعة أو في الحرم الشريف أو ما شاكل ذلك ، فانّ طبيعي الصلاة واجب على نحو الاطلاق وأينما سرى ، وخصوصية كونها في المسجد أو في الجماعة واجبة أيضاً ، فيكون من قبيل الواجب في الواجب. وقد اختار بعض الفقهاء هذا الوجه في الأغسال الثلاثة للميت حيث قال : إنّ طبيعي الغسل بالماء واجب أينما سرى ، وخصوصية كونه بالكافور واجب آخر ، وكذا خصوصية كونه بماء السدر ، ويترتب على ذلك أنّ المكلف إذا أتى بالصلاة في غير المسجد مثلاً سقط الأمر الثاني أيضاً بسقوط موضوعه ولا مجال له بعد ذلك ، غاية الأمر أنّه قد خالف نذره ، ويترتب على مخالفته استحقاق العقاب من ناحية ، ولزوم الكفارة من ناحية اخرى.

الرابع : أن يكون كل من المطلق والمقيد واجباً مستقلاً ، نظير ما إذا أمر

٥٤٥

المولى بالاتيان بالماء على نحو الاطلاق وكان غرضه منه غسل الثوب به ، ومن المعلوم أنّه لا فرق في كونه ماءً حاراً أو بارداً أو ما شاكل ذلك ، ثمّ أمر بالاتيان بالماء البارد لأجل الشرب ، فلا شبهة في أنّهما واجبان مستقلان. هذا بحسب مقام الثبوت.

وأمّا بحسب مقام الاثبات فالاحتمال الثاني من هذه المحتملات خلاف الظاهر جداً فلا يمكن الأخذ به ، لما عرفت من ظهور الأمر في الوجوب وحمله على الندب خلاف هذا الظهور فيحتاج إلى دليل ، ولا دليل في المقام عليه وبدونه فلا يمكن.

وأمّا الاحتمال الثالث : فالظاهر أنّ المقام ليس من هذا القبيل ، أي من قبيل الواجب في الواجب كما هو الحال في مورد النذر أو العهد أو الشرط في ضمن العقد المتعلق بحصة خاصة من الواجب ، والوجه في ذلك : هو أنّ الأوامر المتعلقة بالقيودات والخصوصيات في باب العبادات والمعاملات ظاهرة في الارشاد إلى الجزئية أو الشرطية ، وليست ظاهرةً في المولوية وإن كانت بأنفسها كذلك ، إلاّ أنّ لخصوصية في المقام تنقلب ظهورها من المولوية إلى الارشاد ، كما أنّ النواهي المتعلقة بها ظاهرة في الارشاد إلى المانعية من جهة تلك الخصوصية.

ومن هنا يكون المتفاهم العرفي من مثل قوله عليه‌السلام : « لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه » (١) هو الارشاد إلى مانعية لبسه في الصلاة ، وكذا الحال في المعاملات مثل قوله « نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن بيع الغرر » (٢)

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٤٥ / أبواب لباس المصلي ب ٢ ( نقل بالمضمون ).

(٢) الوسائل ١٧ : ٤٤٨ / أبواب آداب التجارة ب ٤٠ ح ٣ ( باختلاف يسير ).

٥٤٦

فانّه ظاهر في الارشاد إلى مانعية الغرر عن البيع. هذا مضافاً إلى أنّ الأمر في أمثال هذه الموارد قد تعلق بالتقييد لا بالقيد ، فصَرف الأمر عنه إليه خلاف الظاهر جداً.

وأمّا الاحتمال الرابع : فهو يتصور على نحوين : أحدهما أن يسقط كلا التكليفين معاً بالاتيان بالمقيد. وثانيهما : عدم سقوط التكليف بالمطلق بالاتيان بالمقيد بل لا بدّ من الاتيان به أيضاً.

أمّا الأوّل : فيكون المقام نظير ما ذكرناه سابقاً من أنّه لو كان بين متعلقي التكليفين عموم من وجه كعنوان العالم وعنوان الهاشمي سقط كلا التكليفين بامتثال المجمع ـ وهو إكرام العالم الهاشمي ـ حيث إنّ هذا مقتضى إطلاق دليل كل منهما ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، يعني أنّ المقيّد مجمع لكلا العنوانين فيسقط كلا التكليفين باتيانه.

وغير خفي أنّ هذا بحسب مقام الثبوت وإن كان أمراً ممكناً ، إلاّ أنّه لا يمكن الأخذ به في مقام الاثبات ، وذلك لأنّ الاتيان بالمقيد إذا كان موجباً لسقوط الأمر عن المطلق أيضاً فلا محالة يكون الأمر به لغواً محضاً ، حيث إنّ الاتيان بالمقيد مما لا بدّ منه ، ومعه يكون الأمر بالمطلق لغواً وعبثاً. ولا يقاس هذا بما ذكرناه من المثال ، فانّ إطلاق الأمر فيه بكل من الدليلين لا يكون لغواً أبداً ، لفرض أنّ لكل منهما مادة الافتراق بالاضافة إلى الآخر.

وعلى الجملة : فلا بدّ حينئذ من تقييد الأمر بالمطلق بالاتيان به في ضمن غير المقيد مع الترخيص في تركه بالاتيان بالمقيد ابتداءً ، ومردّ ذلك إلى أنّ المكلف مخيّر بين الاتيان بالمقيد ابتداءً ليسقط كلا التكليفين معاً ، وبين الاتيان بالمطلق في ضمن حصة اخرى أوّلاً ثمّ بالمقيد ، وهذا يعني أنّ المكلف لو أتى بالمطلق فلا بدّ من الاتيان به في ضمن حصة اخرى.

٥٤٧

ولكن من الواضح أنّ ذلك يستلزم خلاف الظاهر من جهتين : الاولى : أنّ التقييد المذكور خلاف الظاهر جداً فيحتاج إلى قرينة. الثانية : أنّ حمل الأمر في طرف المطلق على التخيير خلاف الظاهر فلا يمكن الأخذ به بدون قرينة.

وإن شئت قلت : إنّ هذا التخيير نتيجة التقييد المزبور ، فانّه مضافاً إلى أنّه بنفسه خلاف الظاهر يستلزم خلاف الظاهر من هذه الناحية أيضاً ، ولأجل ذلك لا يمكن الأخذ به.

وأمّا الثاني : وهو ما إذا لم يسقط التكليف بالمطلق بالاتيان بالمقيد ، فأيضاً لا يمكن المساعدة عليه ، وذلك لأنّه لا بدّ حينئذ من تقييد الأمر بالمطلق بغير هذه الحصة ، وإلاّ فلا موجب لعدم سقوطه بالاتيان بالمقيد بعد فرض انطباقه عليه انطباق الطبيعي على حصته. ومن المعلوم أنّ التقييد خلاف الظاهر فيحتاج إلى قرينة ، ولا قرينة في المقام على ذلك وبدونها فلا يمكن.

فالنتيجة : أنّه لا يمكن الأخذ بشيء من هذه الوجوه الثلاثة فيتعين حينئذ الوجه الأوّل ، وهو حمل المطلق على المقيد.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّه إذا علم من الخارج تعدد التكليف فالمتعيّن هو الوجه الرابع ، وأمّا إذا لم يعلم تعدده وإن احتمل فالمتعيّن هو الوجه الأوّل ، لما عرفت من عدم مساعدة الدليل على بقية الوجوه ، هذا تمام الكلام في الموضع الأوّل.

وأمّا الموضع الثاني : وهو ما إذا كان الحكم متعلقاً بمطلق الوجود يعني أنّ الحكم يكون انحلالياً كما في قوله تعالى : ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(١) و ( تِجارَةً عَنْ

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٧٥.

٥٤٨

تَراضٍ )(١) وما شاكل ذلك ، فيقع الكلام فيه تارةً فيما إذا كان دليل المقيد مخالفاً له في الايجاب والسلب ، واخرى يكون موافقاً له في ذلك.

أمّا على الأوّل : فلا شبهة في تقييد المطلق به ، ومن هنا قد قيّد إطلاق الآية بغير موارد البيع الغرري وبيع الخمر وبيع الخنزير والبيع الربوي وما شاكل ذلك ، وأمثلة هذا في الآيات والروايات كثيرة ولا كلام ولا خلاف في ذلك.

وأمّا على الثاني : فالمعروف والمشهور بينهم أنّه لا موجب لحمل المطلق على المقيد ، لعدم التنافي بينهما ، فالمقيد فيه يحمل على أفضل الأفراد. ولكن هذا إنّما يتم فيما إذا لم نقل بدلالة الوصف على المفهوم بالمعنى الذي تقدم في محلّه ، وأمّا إذا قلنا بها كما هو الظاهر فلا يتم ، بيان ذلك : أنّ القيد تارةً يقع في كلام السائل من جهة توهمه أنّ فيه خصوصية تمنع عن شمول الحكم له ، كما إذا افترض أنّه توهم أنّ الاطلاقات الدالة على طهورية الماء لا تشمل ماء البحر من جهة أنّ فيه خصوصية ـ وهي ملاحته ـ يمتاز بها عن غيره من المياه ، فلأجل ذلك سأل الإمام عليه‌السلام عن طهوريته فأجاب عليه‌السلام بأ نّه طاهر ، ففي مثل ذلك لا شبهة في عدم دلالته على المفهوم. وكذا إذا أتى الإمام عليه‌السلام بقيد في كلامه لرفع توهم السائل أنّ فيه خصوصية يمتاز بها عن غيره ، بأن قال عليه‌السلام : ماء البحر طاهر.

وأمّا إذا لم تكن قرينة على أنّ الاتيان بالقيد لأجل رفع التوهم ، ففي مثل ذلك لا مانع من الالتزام بالمفهوم ، وقد ذكرنا في بحث مفهوم الوصف أنّه ظاهر فيه وإلاّ لكان الاتيان به لغواً محضاً ، كما أنّا ذكرنا هناك أنّ المراد بالمفهوم هو دلالته على أنّ الحكم في القضية غير ثابت للطبيعي على نحو الاطلاق وإلاّ

__________________

(١) النساء ٤ : ٢٩.

٥٤٩

لكان وجود القيد وعدمه سيّان ، وليس المراد منه دلالته على نفي الحكم عن غير مورده كما هو الحال في مفهوم الشرط ، وقد تقدم تمام هذه البحوث بشكل موسّع هناك (١) فلاحظ ، وعلى أساس ذلك فلا مناص من حمل المطلق على المقيد هنا أيضاً.

فالنتيجة : أنّه لا فرق في لزوم حمل المطلق على المقيد بين ما إذا كان التكليف في طرف المطلق متعلقاً بصِرف وجوده أو بمطلق وجوده ، فلا وجه لما عن المشهور من التفصيل بينهما ، وعلى ذلك تترتب ثمرة فقهية في بعض الفروع.

بقي الكلام في الفرق بين المستحبات والواجبات حيث إنّ المشهور بين الأصحاب تخصيص حمل المطلق على المقيد بالواجبات دون المستحبات ، فالكلام إنّما هو في الفارق بينهما ، فانّ دليل المقيد إذا كان قرينة عرفية على التقييد فلماذا لا يكون كذلك في المستحبات ، وإن لم يكن كذلك فلماذا يحمل المطلق على المقيد في الواجبات ، ومن هنا ذكر في وجه ذلك وجوه :

أحدها : ما عن المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) من أنّ الفارق بين الواجبات والمستحبات في ذلك هو تفاوت المستحبات غالباً من حيث المراتب ، بمعنى أنّ غالب المستحبات تتعدد بتعدد مراتبها من القوّة والضعف على عرضهما العريض ، وهذه الغلبة قرينة على حمل المقيد على الأفضل والقوي من الأفراد.

ويرد عليه : أنّ مجرد الغلبة لا يوجب ذلك بعد ما افترض أنّ دليل المقيد قرينة عرفية على تعيين المراد من المطلق ، ضرورة أنّ الغلبة ليست على نحو تمنع عن ظهور دليل المقيد في ذلك.

__________________

(١) راجع ص ٢٧٨.

(٢) كفاية الاصول : ٢٥١.

٥٥٠

ومن هنا ذكر قدس‌سره (١) وغيره أنّ غلبة استعمال الأمر في الندب لا تمنع عن ظهوره في الوجوب عند الاطلاق ورفع اليد عنه. والحاصل : أنّ الظهور متبع ما لم تقم قرينة على خلافه ، ولا قرينة في المقام على خلاف ظهور دليل المقيد في تعيين المراد من المطلق ، والغلبة لا تصلح أن تكون قرينةً على ذلك.

ثانيها : أيضاً ما ذكره قدس‌سره وحاصله : هو أنّ ثبوت استحباب المطلق إنّما هو من ناحية قاعدة التسامح في أدلة السنن ، فانّ عدم رفع اليد عن دليل استحباب المطلق بعد مجيء المقيد وحمله على تأكد استحبابه من التسامح فيها.

ويرد عليه وجوه : الأوّل : أنّ دليل المقيد إذا كان قرينة عرفاً للتصرف في المطلق وحمله على المقيد لم يصدق عنوان البلوغ على المطلق حتى يكون مشمولاً لتلك القاعدة ، فان دليل المقيد إذا كان متصلاً به منع عن أصل انعقاد الظهور له في الاطلاق ، وإن كان منفصلاً عنه منع عن كشف ظهوره في الاطلاق عن المراد الجدي ، وعلى كلا التقديرين لا يصدق عليه عنوان البلوغ.

الثاني : أنّا قد ذكرنا في محلّه (٢) أنّ مفاد تلك القاعدة ليس هو استحباب العمل البالغ عليه الثواب ، بل مفادها هو الارشاد إلى ما استقل به العقل من حسن الاتيان به برجاء إدراك الواقع.

الثالث : أنّا لو سلّمنا أنّ مفادها هو استحباب العمل شرعاً إلاّ أنّه حينئذ لا موجب لكون المقيد من أفضل الأفراد ، حيث إنّ استحبابه ثبت بدليل واستحباب المطلق ثبت بدليل آخر أجنبي عنه ، فاذن ما هو الموجب لصيرورة

__________________

(١) كفاية الاصول : ٧٠.

(٢) مصباح الاصول ٢ : ٣٦٨ وما بعدها.

٥٥١

المقيد أفضل من المطلق.

ثالثها وهو الصحيح : أنّ الدليل الدال على التقييد يتصور على وجوه أربعة لا خامس لها :

الأوّل : أن يكون ذا مفهوم ، بمعنى أن يكون لسانه لسان القضية الشرطية ، كما إذا افترض أنّه ورد في دليل أنّ صلاة الليل مستحبة وهي إحدى عشرة ركعة ، وورد في دليل آخر أنّ استحبابها فيما إذا كان المكلف آتياً بها بعد نصف الليل ، ففي مثل ذلك لا مناص من حمل المطلق على المقيد عرفاً ، نظراً إلى أنّ دليل المقيد ينفي الاستحباب في غير هذا الوقت من جهة دلالته على المفهوم.

الثاني : أن يكون دليل المقيد مخالفاً لدليل المطلق في الحكم ، فاذا دلّ دليل على استحباب الاقامة مثلاً في الصلاة ثمّ ورد في دليل آخر النهي عنها في مواضع كالاقامة في حال الحدث أو حال الجلوس أو ما شاكل ذلك ، ففي مثل ذلك لا مناص من حمل المطلق على المقيد ، والوجه فيه : ما ذكرناه غير مرّة من أنّ النواهي الواردة في باب العبادات والمعاملات ظاهرة في الارشاد إلى المانعية ، وأنّ الحدث أو الجلوس مانع عن الاقامة المأمور بها ، ومرجع ذلك إلى أنّ عدمه مأخوذ فيها فلا تكون الاقامة في حال الحدث أو الجلوس مأموراً بها.

الثالث : أن يكون الأمر في دليل المقيد متعلقاً بنفس التقييد لا بالقيد كما إذا افترض أنّه ورد في دليل أنّ الاقامة في الصلاة مستحبة ، وورد في دليل آخر فلتكن في حال القيام أو في حال الطهارة ، فالكلام فيه هو الكلام في القسم الثاني حيث إنّ الأمر في قوله : فلتكن ، ظاهر في الارشاد إلى شرطية الطهارة أو القيام لها ، ولا فرق من هذه الناحية بين كون الاقامة مستحبة أو واجبة ، فما هو المشهور من أنّه لا يحمل المطلق على المقيد في باب المستحبات لا أصل له في

٥٥٢

الأقسام المتقدمة.

الرابع : أن يتعلق الأمر في دليل المقيد بالقيد بما هو كما هو الغالب في باب المستحبات ، مثلاً ورد في استحباب زيارة الحسين عليه‌السلام مطلقات وورد في دليل آخر استحباب زيارته عليه‌السلام في أوقات خاصة كليالي الجمعة وأوّل ونصف رجب ، ونصف شعبان ، وليالي القدر وهكذا ، ففي مثل ذلك هل يحمل المطلق على المقيد؟

الظاهر أنّه لا يحمل عليه ، والسبب فيه : أنّ الموجب لحمل المطلق على المقيد في الواجبات هو التنافي بين دليل المطلق والمقيد ، حيث إنّ مقتضى إطلاق المطلق ترخيص المكلف في تطبيقه على أيّ فرد من أفراده شاء في مقام الامتثال ، وهو لا يجتمع مع كونه ملزماً بالاتيان بالمقيد ، وهذا بخلاف ما إذا كان دليل التقييد استحبابياً فانّه لا ينافي إطلاق المطلق أصلاً ، لفرض عدم إلزام المكلف بالاتيان به ، بل هو مرخّص في تركه ، فاذا لم يكن تنافٍ بينهما فلا موجب لحمل المطلق على المقيد ، بل لا بدّ من حمله على تأكد الاستحباب وكونه الأفضل ، وهذا هو الفارق بين الواجبات والمستحبات.

ومن هنا يظهر أنّ دليل المطلق إذا كان متكفلاً لحكم إلزامي دون دليل المقيد فلا بدّ من حمله على أفضل الأفراد أيضاً بعين الملاك المزبور. فالنتيجة : أنّ دليل المقيد إذا كان متكفلاً لحكم غير إلزامي فلا بدّ من حمله على الأفضل ، سواء أكان دليل المطلق أيضاً كذلك أو كان متكفلاً لحكم إلزامي ، والسر فيه ما عرفت من عدم التنافي بينهما أبداً.

بقي هنا شيئان :

أحدهما : أنّ الاطلاق في مقام الاثبات يكشف عن الاطلاق في مقام الثبوت ،

٥٥٣

والتقييد فيه يكشف عن التقييد في ذلك ، لتبعية مقام الاثبات لمقام الثبوت ، فلو أمر المولى باكرام العالم ولم يقيده بالعدالة أو الهاشمية أو ما شاكل ذلك من القيود وكان في مقام البيان فالاطلاق في هذا المقام يكشف عن الاطلاق في مقام الثبوت والواقع ، وأمّا إذا قيّده بالعدالة فهو يكشف عن التقييد في مقام الثبوت.

ولكن ربّما ينعكس الأمر فالاطلاق في مقام الاثبات يكشف عن الضيق في مقام الثبوت دون الاطلاق والسعة ، وذلك كما في إطلاق صيغة الأمر حيث إنّه في مقام الاثبات يكشف عن أنّ الواجب في مقام الثبوت والواقع نفسي لا غيري ، وتعييني لا تخييري ، وعيني لا كفائي ، كل ذلك ضيق على المكلف ، فلو أمر المولى بغسل الجنابة فإن كان مطلقاً في مقام الاثبات ولم يكن الأمر به مقيداً بايجاب شيء آخر على المكلف ، كشف ذلك عن كونه واجباً نفسياً في مقام الثبوت وهو ضيق على المكلف. وإن كان الأمر به مقيداً بهذا كشف ذلك عن كونه واجباً غيرياً وهو سعة بالاضافة إليه. وكذا الحال بالنسبة إلى الواجب التعييني والتخييري والعيني والكفائي ، فانّ الاطلاق في مقام الاثبات يكشف عن الضيق في مقام الثبوت والتقييد فيه يكشف عن الاطلاق والسعة فيه.

وثانيهما : أنّا قد ذكرنا غير مرّة أنّ الاطلاق عبارة عن رفض القيود وعدم دخل شيء منها فيه ، ونتيجته تختلف باختلاف خصوصيات الموارد والمقامات ، فقد تكون نتيجته في مورد تعلق الحكم بصرف الوجود ، وقد يكون تعلق الحكم بمطلق الوجود ، وقد يكون غير ذلك ، وقد تقدم تفصيل ذلك بصورة موسعة في مبحث النواهي (١) فلاحظ.

__________________

(١) راجع المجلد الثالث من هذا الكتاب ص ٢٩٦.

٥٥٤

المجمل والمبيّن

لا يخفى أنّ المجمل والمبيّن هنا كالمطلق والمقيّد والعام والخاص مستعملان في معناهما اللغوي ، وليس للُاصوليين فيهما اصطلاح خاص ، فالمجمل اسم لما يكون معناه مشتبهاً وغير ظاهر فيه ، والمبيّن اسم لما يكون معناه واضحاً وغير مشتبه.

ثمّ إنّ المجمل تارةً يكون حقيقياً واخرى يكون حكمياً. ونقصد بالأوّل ما كان اللفظ غير ظاهر في المراد الاستعمالي ، ونقصد بالثاني ما يكون إجماله حكمياً لا حقيقياً ، بمعنى أنّه ظاهر في المراد الاستعمالي ولكنّ المراد الجدي منه غير معلوم.

والأوّل لا يخلو من أن يكون إجماله بالذات كاللفظ المشترك ، أو بالعرض كالكلام المحفوف بما يصلح للقرينية فانّه يوجب إجماله وعدم انعقاد الظهور له.

والثاني كالعام المخصص بدليل منفصل يدور أمره بين متباينين كما إذا ورد أكرم كل عالم ثمّ ورد في دليل آخر لا تكرم زيداً العالم وفرضنا أنّ زيداً العالم في الخارج مردد بين شخصين : زيد بن خالد ، وزيد بن عمرو مثلاً ، فيكون المخصص من هذه الناحية مجملاً فيسري إجماله إلى العام حكماً لا حقيقةً ، لفرض أنّ ظهوره في العموم قد انعقد فلا إجمال ولا اشتباه فيه ، وإنّما الاجمال والاشتباه في المراد الجدي منه ، ولأجل ذلك يعامل معه معاملة المجمل ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ الاجمال والبيان من الامور الواقعية فالعبرة بهما إنّما

٥٥٥

هي بنظر العرف ، فكل لفظ كان ظاهراً في معناه وكاشفاً عنه عندهم فهو مبيّن ، وكل لفظ لا يكون كذلك ـ سواء أكان بالذات أو بالعرض ـ فهو مجمل فلا واسطة بينهما.

ومن هنا يظهر أنّ ما أفاده المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) من أنّهما من الامور الاضافية وليسا من الامور الواقعية بدعوى أنّ لفظاً واحداً مجمل عند شخص لجهله بمعناه ومبيّن عند آخر لعلمه به خاطئ جداً ، وذلك لأنّ الجهل بالوضع والعلم به لا يوجبان الاختلاف في معنى الاجمال والبيان ، فجهل شخص بمعنى لفظٍ وعدم علمه بوضعه له لا يوجب كونه من المجمل وإلاّ لزم أن تكون اللغات العربية مجملةً عند الفرس وبالعكس ، مع أنّ الأمر ليس كذلك.

نعم ، قد يقع الاختلاف في إجمال لفظٍ فيدعي أحد أنّه مجمل ويدعي الآخر أنّه مبيّن ، ولكن هذا الاختلاف إنّما هو في مقام الاثبات ، وهو بنفسه شاهد على أنّهما من الامور الواقعية وإلاّ فلا معنى لوقوع النزاع والخلاف بينهما لو كانا من الامور الاضافية التي تختلف باختلاف أنظار الأشخاص ، نظير الاختلاف في بقية الامور الواقعية فيدعي أحد أنّ زيداً مثلاً عالم ويدعي الآخر أنّه جاهل ، مع أنّ العلم والجهل من الامور الواقعية النفس الأمرية.

ومن ناحية ثالثة : أنّه يقع الكلام في عدّة من الألفاظ المفردة والمركبة في أبواب الفقه أنّها مجملة أو مبيّنة. والاولى كلفظ الصعيد ولفظ الكعب ولفظ الغناء وما شاكل ذلك. والثانية مثل « لا صلاة إلاّبطهور » (٢) أو « لا صلاة لمن لم

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٥٣.

(٢) المستدرك ١ : ٢٨٧ / أبواب الوضوء ب ١ ح ٢.

٥٥٦

يقم صلبه » (١) وما شابه ذلك. ومنها : الأحكام التكليفية المتعلقة بالأعيان الخارجية كقوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ )(٢) ونحوه ، وبما أنّه لا ضابط كلّي لتمييز المجمل عن المبيّن في هذه الموارد ، فلا بدّ من الرجوع في كل مورد إلى فهم العرف فيه ، فإن كان هناك ظهور عرفي فهو وإلاّ فيرجع إلى القواعد والاصول وهي تختلف باختلاف الموارد.

هذا آخر ما أوردناه في هذا الجزء وهو الجزء الخامس (٣) من مباحث الألفاظ ، وقد تمّ بعون الله تعالى وتوفيقه.

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٣٢١ / أبواب الركوع ب ١٦ ح ٢.

(٢) النساء ٤ : ٢٣.

(٣) [ حسب التجزئة السابقة ].

٥٥٧
٥٥٨

فهرس الموضوعات

٥٥٩
٥٦٠