محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-15-2
الصفحات: ٥٧٠

الأوّل لفظاً فقط ، يعني لا يدخل عليه الألف واللام ولا يقع مضافاً دون الثاني.

وعلى الجملة : فاللغة تتبع السماع ولا قياس فيها ، وحيث إنّ المسموع والمنقول فيها من أهلها كذلك فلا بدّ من متابعته مع عدم الفرق بينهما بحسب المعنى في الواقع والحقيقة ، كما هو الحال في المؤنث اللفظي السماعي حيث إنّ المسموع منهم جريان أحكام التأنيث عليه مع عدم التأنيث فيه حقيقة فلا بدّ من متابعته.

وهذا الذي أفاده قدس‌سره متين جداً. نعم ، يمكن المناقشة في البرهان الذي ذكره على عدم أخذ التعين الذهني في المعنى الموضوع له لأعلام الأجناس ، بيان ذلك : أنّ أخذه في المعنى الموضوع له تارةً يكون على نحو الجزئية ، يعني كل من التقيد والقيد داخل فيه ، وتارة اخرى يكون على نحو الشرطية ، بمعنى أنّ القيد خارج عن المعنى الموضوع له والتقيد داخل فيه ، فالتعين الذهني على الأوّل مثل أجزاء الصلاة التي هي داخلة فيها قيداً وتقيداً كالتكبيرة والفاتحة والركوع والسجود وما شاكل ذلك ، وعلى الثاني كشرائطها التي هي داخلة فيها [ تقيداً لا ] قيداً كاستقبال القبلة وطهارة البدن والثوب وما شاكلها ، وثالثةً يكون على نحو المرآتية والمعرّفية فحسب من دون دخله في المعنى الموضوع له لا بنحو الجزئية ولا بنحو الشرطية.

فما أفاده صاحب الكفاية قدس‌سره من البرهان على عدم أخذ التعين الذهني في المعنى الموضوع له ، وهو أنّه لو كان مأخوذاً فيه لم يكن المعنى قابلاً للانطباق على الخارجيات ، إنّما يتم إذا كان أخذه فيه على أحد النحوين الأوّلين. وأمّا إذا كان أخذه على النحو الثالث فهو غير مانع عن انطباقه على الخارجيات. فاذن لو كان مراد القائلين بأخذه في المعنى الموضوع له لأعلام الأجناس هو النحو الثالث لم يرد عليه ما أورده قدس‌سره من عدم الانطباق

٥٢١

على الخارجيات.

وكيف كان ، فما أفاده قدس‌سره من أنّه لا فرق بين اسم الجنس وعلم الجنس في المعنى الموضوع له متين جداً ، لأنّه مطابق للمرتكزات الوجدانية من ناحية ، والاستعمالات المتعارفة من أهل اللسان من ناحيةاخرى ، ضرورة أنّ لفظ اسامة استعمل في المعنى الذي استعمل فيه بعينه لفظ أسد ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً ، وإنّما الفرق بينهما في اللفظ فقط بترتيب آثار المعرفة على لفظ اسامة دون لفظ أسد كما عرفت.

فالنتيجة في نهاية الشوط : هي أنّه لا فرق بين أسماء الأجناس وأعلام الأجناس وأنّ كلتيهما موضوعة للماهية المهملة من دون أخذ خصوصية من الخصوصيات فيها ، والخصوصيات الطارئة عليها من ناحية الاستعمال لا دخل لها في المعنى الموضوع له. وأمّا ترتيب آثار المعرفة على أعلام الأجناس دون أسمائها فهو لا يتجاوز عن حدود اللفظ فحسب كالمؤنثات اللفظية التي لا يتجاوز تأنيثها عن حدود اللفظ فحسب.

ومنها : المفرد المعرّف باللام.

أقول : المعروف بينهم أنّ اللام على أقسام : الجنس والاستغراق والعهد بأقسامه من الذهني والذكري والخارجي ، كما أنّ المعروف بينهم أنّ كلمة اللام موضوعة للدلالة على التعريف والتعيين في غير العهد الذهني.

وأورد على ذلك المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره بقوله : وأنت خبير بأ نّه لا تعيّن في تعريف الجنس إلاّ الاشارة إلى المعنى المتميز بنفسه من بين المعاني ذهناً ، ولازمه أن لا يصح حمل المعرّف باللام بما هو معرف على الأفراد ، لما عرفت من امتناع الاتحاد مع ما لا موطن له إلاّ الذهن إلاّبالتجريد ، ومعه

٥٢٢

لا فائدة في التقييد. مع أنّ التأويل والتصرف في القضايا المتداولة في العرف غير خالٍ عن التعسف. هذا مضافاً إلى أنّ الوضع لما لا حاجة إليه بل لا بدّ من التجريد عنه وإلغائه في الاستعمالات المتعارفة المشتملة على حمل المعرف باللام أو الحمل عليه كان لغواً كما أشرنا إليه. فالظاهر أنّ اللام مطلقاً يكون للتزيين كما في الحسن والحسين ، واستفادة الخصوصيات إنّما تكون بالقرائن التي لا بدّ منها لتعيينها على كل حال ولو قيل بافادة اللام للاشارة إلى المعنى ، ومع الدلالة عليه بتلك الخصوصيات لا حاجة إلى تلك الاشارة لو لم تكن مخلّةً ، وقد عرفت إخلالها فتأمل جيداً (١).

ما أفاده قدس‌سره يتضمن عدّة نقاط :

الاولى : أنّ كلمة اللام لو كانت موضوعة للدلالة على التعريف والتعيين فلازمه عدم إمكان حمل المفرد المعرّف باللام على الخارجيات ، وذلك لأنّ الجنس المعرّف بها لا تعيّن له في الخارج على الفرض ، وعليه فلا محالة يكون تعيّنه في افق النفس ، يعني أنّ كلمة اللام تدل على تعيينه وتمييزه من بين سائر المعاني في الذهن.

ومن المعلوم أنّ الموجود الذهني غير قابل للحمل على الموجود الخارجي إلاّ بالتجريد.

الثانية : أنّ لازم ذلك هو التصرف والتأويل في القضايا المتعارفة المتداولة بين العرف ، حيث إنّ الحمل فيها على هذا غير صحيح بدون ذلك ، مع أنّ التأويل والتصرف فيها لايخلوان عن التعسف ، لفرض صحة الحمل فيها بدونهما.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٤٥.

٥٢٣

الثالثة : أنّ وضع كلمة اللام لذلك لغو محض فلا يصدر من الواضع الحكيم.

الرابعة : أنّ كلمة اللام تدل على التزيين فحسب من دون أن تكون موضوعةً للدلالة على التعريف والتعيين.

ولنأخذ بالنظر في هذه النقاط : أمّا النقطة الاولى فهي تبتني على كون كلمة اللام موضوعةً للدلالة على تعين مدخولها في افق الذهن بنحو يكون التعين الذهني جزء معناه الموضوع له أو قيده. ولكنّ الأمر ليس كذلك ، فانّ وضعها للدلالة على التعريف والتعيين لا يستلزم كون التعين جزء معنى مدخولها أو قيده ، ضرورة أنّ اسم الجنس موضوع لمعنى واحد سواء أكان مع اللام أو بدونه ، وأ نّه مع اللام لم يوضع لمعنىً آخر غيره ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّنا إذا راجعنا مرتكزاتنا الذهنية نرى أنّ كلمة اللام تدل على معنىً هي موضوعة بازائه وهو التعريف والاشارة ، وليس بحيث يكون وجودها وعدمها سيّان وأ نّه لا أثر لها ما عدا التزيين ، فيكون حالها حال أسماء الاشارة والضمائر من هذه الناحية ، فكما أنّ اسم الاشارة موضوع للدلالة على تعريف مدخوله وتعيينه في موطنه حيث قد يشار به إلى الموجود الخارجي كقولنا : هذا زيد ، وقد يشار به إلى الكلي كقولنا : هذا الكلي يعني الانسان مثلاً أخص من الكلي الآخر وهو الحيوان ، بل قد يشار به إلى المعدوم كقولنا : هذا الشيء معدوم ولا وجود له ، أو هذا القول معدوم وغير موجود بين الأقوال ، فكذلك كلمة اللام فقد يشار بها إلى الجنس كقولنا : أكرم الرجل ، وقد يشار بها إلى الاستغراق كقولنا : أكرم العلماء ، بناءً على دلالة الجمع المعرّف باللام على العموم ، وقد يشار بها إلى العهد الخارجي ، وقد يشار بها إلى العهد الحضوري ، فهي في جميع هذه الموارد قد استعملت في معنىً واحد ، والاختلاف إنّما هو في المشار إليه بها.

٥٢٤

وبكلمة اخرى : أنّ ما دلت عليه كلمة اللام من التعريف والاشارة فهو غير مأخوذ في المعنى الموضوع له لمدخولها لا جزءاً ولا شرطاً ، ولذا لا يختلف معنى المفرد المعرّف باللام عما إذا كان مجرّداً عنها ، فشأنها الاشارة إلى معنى مدخولها ، فإن كان جنساً فهي تشير إليه ، وإن كان استغراقاً فهي تشير إليه وهكذا.

وكيف كان ، فالظاهر أنّ دلالتها على هذا المقدار من المعنى غير قابلة للانكار وأ نّها مطابقة للارتكاز والوجدان في الاستعمالات المتعارفة وإن لم يكن لها مرادف في سائر اللغات كي نرجع إلى مرادفها في تلك اللغات ونعرف معناها ، حيث إنّه من أحد الطرق لمعرفة معاني الألفاظ ، إلاّ أنّ في المقام لا حاجة إلى هذا الطريق لوجود طريق آخر فيه وهو التبادر والارتكاز.

وأمّا العهد الذهني فالظاهر أنّ دخول كلمة اللام عليه لا يفيد شيئاً فيكون وجودها وعدمها سيّان ، فلا فرق بين قولنا : لقد مررت على اللئيم وقولنا : لقد مررت على لئيمٍ بدون كلمة اللام ، فانّ المراد منه واحد على كلا التقديرين ، وهو المبهم غير المعيّن في الخارج ، ولا تدل كلمة اللام على تعيينه فيه ، وأمّا دخولها عليه فهو إنّما يكون من ناحية أنّ الأسماء المعربة في كلمات العرب لم تستعمل بدون أحد امور ثلاثة : التنوين ، الألف واللام ، والاضافة ، لا أنّها تدل على شيء ، ففي مثل ذلك صحّ أن يقال : إنّ اللام للتزيين فحسب كاللام الداخلة على أعلام الأشخاص ، وببالي أنّ المحقق الرضي (١) ذهب إلى ذلك ، أي كون اللام للتزيين في خصوص العهد الذهني.

فالنتيجة في نهاية الشوط : هي أنّ ما أفاده المحقق صاحب الكفاية

__________________

(١) شرح الكافية ٢ : ١٢٩.

٥٢٥

( قدس‌سره ) من أنّ كلمة اللام لم توضع للدلالة على معنى وإنّما هي للتزيين فحسب خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له على إطلاقه ، وإنّما يتم في خصوص العهد الذهني فقط.

ومنها : الجمع المعرّف باللام ذكر المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) أنّ دلالته على العموم لا تخلو من أن تكون من جهة وضع المجموع لذلك ، أو وضع خصوص كلمة اللام لها ، يعني أنّها إذا دخلت على الجمع تدل على ذلك. وأمّا ما ذكره بعض الأصحاب من أنّ كلمة اللام بما أنّها موضوعة بازاء التعريف والاشارة فلا بدّ أن يراد جميع أفراد مدخولها حيث لا تعيين لسائر مراتبها ـ الافراد ـ إلاّتلك المرتبة يعني المرتبة الأخيرة ، فهو غير تام ، وذلك لأنّه كما أنّ لتلك المرتبة تعيناً في الواقع كذلك للمرتبة الاولى وهي أقل مرتبة الجمع. فاذن لا دليل على تعيين تلك دون هذه ، هذا.

ولكنّ الظاهر أنّ ما ذكره هذا البعض هو الصحيح ، والسبب فيه ما ذكرناه في ضمن البحوث السالفة من أنّ هذه المرتبة أي أقل مرتبة الجمع أيضاً لا تعيّن لها في الخارج وإن كان لها تعيين بحسب مقام الارادة ، فانّ الثلاثة التي هي أقل مرتبة الجمع تصدق في الخارج على الأفراد الكثيرة ولها مصاديق متعددة فيه كهذه الثلاثة وتلك وهكذا.

وبكلمة اخرى : أنّ كل مرتبة من مراتب الأعداد كالثلاثة والأربعة والخمسة والستة وهكذا ، كان قابلاً للانطباق على الأفراد الكثيرة في الخارج فلا تعيّن لها فيه ، حيث إنّا لا نعلم أنّ المراد منها فيه هذه الثلاثة أو تلك وهكذا. نعم ، لها تعيّن في افق النفس وفي إطار الارادة دون افق الخارج وإطاره ، هذا

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٤٥.

٥٢٦

من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ كلمة اللام تدل على التعين الخارجي. ومن ناحية ثالثة : أنّ التعين الخارجي منحصر في المرتبة الأخيرة من الجمع وهي إرادة جميع أفراد مدخوله ، حيث إنّ له مطابقاً واحداً في الخارج فلا ينطبق إلاّعليه ، فاذن يتعين إرادة هذه المرتبة من الجمع يعني المرتبة الأخيرة دون غيرها بمقتضى دلالة كلمة اللام على التعريف والتعيين.

وأمّا احتمال وضع المجموع من حيث المجموع للدلالة على ذلك زائداً على وضع كلمة اللام ومدخولها فهو بعيد جداً ، ضرورة أنّ الدال على إرادة هذه المرتبة إنّما هو دلالة كلمة اللام على التعريف والتعيين ، نظراً إلى أنّه لا تعيّن في الخارج إلاّلخصوص هذه المرتبة ، وكذا احتمال وضع كلمة اللام للدلالة على العموم والاستغراق ابتداءً بعيد جداً ، لما عرفت من أنّها لم توضع إلاّللدلالة على التعريف والتعيين.

فالنتيجة : أنّ الجمع المعرف باللام يدل على إرادة جميع أفراد مدخوله على نحو العموم الاستغراقي.

ومنها : النكرة ، ذكر المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) أنّها تستعمل مرّة في المعيّن المعلوم خارجاً عند المتكلم وغير معلوم عند المخاطب كقوله تعالى : ( وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ )(٢) ومرةً اخرى في الطبيعي المقيد بالوحدة كقولنا : جئني برجل ، ومن هنا يصح أن يقال : جئني برجل أو رجلين ولا يصح أن يقال : جئني بالرجل أو رجلين ، والنكتة فيه : أنّ التثنية لا تقابل

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٤٦.

(٢) يس ٣٦ : ٢٠.

٥٢٧

باسم الجنس ، حيث إنّه يصدق على الواحد والكثير على السواء ، وما هو المعروف في الألسنة من أنّ النكرة وضعت للدلالة على الفرد المردد في الخارج خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً ، ضرورة أنّه لا وجود للفرد المردد في الخارج ، حيث إنّ كل ما هو موجود فيه متعيّن لا مردد بين نفسه وغيره فانّه غير معقول.

وبكلمة اخرى : أنّ مرادهم من ذلك هو ما ذكرناه من أنّها استعملت في الطبيعة المقيدة بالوحدة القابلة للانطباق على كثيرين في الخارج ، حيث إنّها بهذا القيد أيضاً كلّي.

وعليه فما ذكره قدس‌سره في ذيل كلامه متين جداً ، وذلك لا لأجل أنّ النكرة موضوعة للطبيعة المقيدة بالوحدة تارةً وللطبيعة المهملة التي هي الموضوع له لاسم الجنس مرةً اخرى كما يظهر من عبارته قدس‌سره في بدو الأمر ، ضرورة عدم تعدد الوضع فيها ، بل هي موضوعة للطبيعة الجامعة بين جميع الخصوصيات فحسب وقد استعملت فيها دائماً ، والوحدة إنّما تستفاد من دال آخر ـ وهو التنوين للتنكير ـ فيكون من تعدد الدال والمدلول في مقابل التعريف والتنوين للتمكن ، فانّ الاسم المعرب لا يستعمل في لغة العرب إلاّمع إحدى هذه الخصوصيات : الاضافة أو التنوين أو الألف واللام ، فلا يستقر إلاّ باحداها حيث إنّ تمكنه بها.

وعليه فما ذكره قدس‌سره من أنّ رجلاً في قولنا : جئني برجل يدل على الطبيعي المقيد بالوحدة ليس المراد استعماله فيه ، بل المراد أنّ الرجل استعمل في الطبيعي الجامع والوحدة مستفادة من دال آخر.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره في صدر كلامه من أنّ النكرة قد تستعمل في

٥٢٨

الواحد المعيّن عند المتكلم والمجهول عند المخاطب كما في قوله تعالى : ( وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى )(١) فلا يمكن الأخذ به ، ضرورة أنّ لفظ ( رَجُلٌ ) في الآية لم يستعمل في المعيّن الخارجي المجهول عند المخاطب ، بل استعمل في الطبيعي المقيد بالوحدة من باب تعدد الدال والمدلول ، غاية الأمر أنّ مصداقه في الخارج معلوم عند المتكلم ومجهول عند المخاطب.

ومن الطبيعي أنّ هذا لا يوجب استعمال اللفظ فيه. وكذا الحال في الفعل الماضي أو المضارع أو الأمر كقولنا : جئني برجل أو جاء رجل أو ما شاكل ذلك ، فانّ لفظ الرجل في جميع هذه الأمثلة استعمل في الطبيعي المقيد بالوحدة بنحو تعدد الدال والمدلول ، وإن افترض أنّ مصداقه في الخارج معلوم للمتكلم وغير معلوم للمخاطب إلاّ أنّه لم يستعمل فيه جزماً ، كما إذا أمره باتيان كتاب وكان الكتاب معلوماً لديه في الخارج ولكنّه غير معلوم لدى المخاطب ، لم يستعمل في هذا المعلوم المعيّن خارجاً وإنّما استعمل في الطبيعي المقيد بالوحدة.

فالنتيجة : أنّ النكرة لم تستعمل في المعيّن الخارجي ولا المعيّن عند الله تعالى ، باعتبار أنّه ( سبحانه وتعالى ) يعلم بأ نّه يأتي بالفرد الفلاني المعيّن في الواقع ، بل هي تستعمل دائماً في الطبيعي الجامع ، والوحدة مستفادة من دال آخر. فاذن لا فرق بين النكرة واسم الجنس أصلاً ، فالنكرة هي اسم الجنس غاية الأمر يدخل عليها التنوين ليدل على الوحدة.

ثمّ إنّك قد عرفت في ضمن البحوث السالفة أنّ اللفظ موضوع للماهية الجامعة بين تمام الخصوصيات التي يمكن أن تعرض عليها ، وقد يعبّر عنها بالماهية المهملة التي هي فوق جميع الماهيات كما تقدم بشكل موسّع.

__________________

(١) يس ٣٦ : ٢٠.

٥٢٩

ومن الواضح أنّ الاطلاق والتقييد من الخصوصيات الطارئة على الماهية التي وضع اللفظ بازائها ، فهما خارجان عن حريم المعنى الموضوع له ، وهذا هو المعروف بين المتأخرين وهو الصحيح ، وعليه فالتقييد لا يستلزم المجاز ، فانّ اللفظ استعمل في معناه الموضوع له ، والتقييد مستفاد من دال آخر ، بل لو كان موضوعاً للمطلق بمعنى اللا بشرط القسمي كما هو المعروف بين القدماء فأيضاً لا يستلزم التقييد المجاز ، فانّ المراد الاستعمالي منه هو المطلق واللفظ قد استعمل فيه ، والتقييد إنّما يدل على أنّ المراد الجدي هو المقيد دون المطلق ، ولا يدل على أنّ اللفظ قد استعمل في المقيد ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ المحمول تارةً يكون من المعقولات الثانوية كقولنا : الانسان نوع والحيوان جنس والضاحك عرض خاص وهكذا ، ففي مثل ذلك فالموضوع هو الماهية ولا ينطبق على الموجود الخارجي ، لوضوح أنّ زيداً مثلاً ليس بنوع ، والبقر ليس بجنس ، وضحك زيد ليس بعرض خاص وهكذا ، فلا يسري المحمول إلى حصصه وأفراده في الخارج ، فهذا القسم خارج عن محل الكلام هنا ـ وهو البحث عن إطلاق الموضوع وتقييده ـ وتارة اخرى يكون المحمول من غيرها مما هو قابل السراية إلى حصص الموضوع وأفراده في الخارج ، وهذا القسم هو محل الكلام في المقام.

وعلى ذلك فالموضوع أو المتعلق لا يخلو من أن يكون مطلقاً بمعنى الارسال أو مقيداً بأمر وجودي أو عدمي ، فإن كانت هناك قرينة شخصية على أحدهما فهو ، وإن لم تكن قرينة كذلك فهل هنا قرينة عامة على تعيين أحدهما أو لا ، فقد ذكروا لتعيين الاطلاق قرينةً عامةً تسمى بمقدمات الحكمة ، فان تمّت تلك المقدمات ثبت الاطلاق وإلاّ فلا. ويعتبر في تمامية هذه المقدمات امور :

الأوّل : أن يكون المتكلم متمكناً من البيان والاتيان بالقيد وإلاّ فلا يكون

٥٣٠

لكلامه إطلاق في مقام الاثبات حتى يكون كاشفاً عن الاطلاق في مقام الثبوت ، بيان ذلك : أنّ الاطلاق أو التقييد تارةً يلحظ بالاضافة إلى الواقع ومقام الثبوت. واخرى بالاضافة إلى مقام الاثبات والدلالة.

أمّا على الأوّل : فقد ذكرنا غير مرّة أنّه لا واسطة بينهما في الواقع ونفس الأمر ، وذلك لأنّ المتكلم الملتفت إلى الواقع وما له من الخصوصيات حكيماً كان أو غيره فلا يخلو من أن يأخذ في متعلق حكمه أو موضوعه خصوصية من تلك الخصوصيات أو لا يأخذ فيه شيئاً منها ولا ثالث لهما. فعلى الأوّل يكون مقيّداً ، وعلى الثاني يكون مطلقاً ، ولا يعقل شق ثالث بينهما يعني لا يكون مطلقاً ولا مقيداً ، ومن هنا قلنا إنّ استحالة التقييد تستلزم ضرورة الاطلاق وبالعكس.

وأمّا ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) من أنّ التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة كالعمى والبصر ، وأ نّه لا بدّ من طروئهما على موضوع قابل للاتصاف بالملكة [ وإلاّ ] لم يكن قابلاً للاتصاف بالعدم أيضاً وكذا العكس ، ولأجل ذلك لا يصح إطلاق الأعمى على الجدار مثلاً ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، ولذا قال قدس‌سره إنّ استحالة الاطلاق في موردٍ تستلزم استحالة التقييد فيه وبالعكس.

فلا يمكن المساعدة عليه بوجه ، وذلك لما ذكرناه مرراً من أنّ التقابل بينهما من تقابل التضاد لا العدم والملكة ، وأنّ استحالة أحدهما تستلزم ضرورة الآخر لا استحالته ، بداهة أنّ الاهمال في الواقع مستحيل فالحكم فيه إمّا مطلق أو مقيد ولا ثالث لهما.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤١٨.

٥٣١

ولو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة إلاّ أنّه لا يعتبر كون الموضوع لها أمراً شخصياً ، بل قد يكون الموضوع فيها نوعياً ولا يعتبر في مثله أن يكون كل فرد من أفراد الموضوع قابلاً للاتصاف بها ، بل يستحيل ذلك بالاضافة إلى بعض أفراده ، كما هو الحال في العلم والجهل بالاضافة إلى ذاته ( سبحانه وتعالى ) فانّ العلم بكنه ذاته تعالى مستحيل ، ومن الواضح أنّ استحالته لا تستلزم استحالة الجهل به ، بل تستلزم ضرورته رغم أنّ التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة. وكذا الحال في غنى الممكن وفقره بالاضافة إليه ( تعالى وتقدس ) فانّ استحالة غنائه عن ذاته سبحانه لا تستلزم استحالة فقره ، بل تستلزم ضرورته ووجوبه رغم أنّ التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة ، فليكن المقام من هذا القبيل ، يعني أنّ التقابل بين الاطلاق والتقييد يكون من تقابل العدم والملكة فمع ذلك تستلزم استحالة أحدهما في مقام الثبوت والواقع ضرورة الآخر لا استحالته.

وعلى الثاني : وهو ما إذا كان الاطلاق والتقييد ملحوظين بحسب مقام الاثبات ، فحينئذ إن تمكن المتكلم من البيان وكان في مقامه ومع ذلك لم يأت بقيد في كلامه كان إطلاقه في هذا المقام كاشفاً عن الاطلاق في مقام الثبوت وأنّ مراده في هذا المقام مطلق وإلاّ لكان عليه البيان. وأمّا إذا لم يتمكن من الاتيان بقيد في مقام الاثبات فلا يكشف إطلاق كلامه في هذا المقام عن الاطلاق في ذاك المقام والحكم بأنّ مراده الجدي في الواقع هو الاطلاق ، لوضوح أنّ مراده لو كان في الواقع هو المقيد لم يتمكن من بيانه والاتيان بقيد ، ومعه كيف يكون إطلاق كلامه في مقام الاثبات كاشفاً عن الاطلاق في مقام الثبوت.

الأمر الثاني : أن يكون المتكلم في مقام البيان ولا يكون في مقام الاهمال

٥٣٢

والاجمال كما في قوله تعالى : ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ )(١) وقوله تعالى : ( « وَقُرْآنَ الْفَجْرِ )(٢) وما شاكل ذلك ، فانّ المتكلم في هذه الموارد لا يكون في مقام البيان ، نظير قول الطبيب للمريض : اشرب الدواء فانّه ليس في مقام البيان ، بل هو في مقام أنّ في شرب الدواء نفعاً له في الجملة ولا يمكن الأخذ باطلاق كلامه ، مع أنّ بعضه مضر بحاله جزماً.

فالنتيجة : أنّ المتكلم إذا لم يكن في مقام البيان لم يكن لكلامه ظهور في الاطلاق حتى يتمسك به.

نعم ، إذا كان المتكلم في مقام البيان من جهةٍ ولم يكن في مقام البيان من جهة اخرى لا مانع من التمسك باطلاق كلامه من الجهة التي كان في مقام البيان من تلك الجهة دون الجهة الاخرى ، وهذا في الآيات والروايات كثير.

أمّا في الآيات : فكقوله تعالى : ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ )(٣) فانّه إذا شك في اعتبار الامساك من الحلقوم في تذكيته وعدم اعتباره لا مانع من التمسك باطلاق الآية الكريمة من هذه الناحية والحكم بعدم اعتبار الامساك من الحلقوم. وأمّا إذا شك في طهارة محل الامساك وعدمها فلا يمكن التمسك باطلاق الآية من هذه الناحية ، لأنّ إطلاقها غير ناظر إليها أصلاً ، فلا تكون الآية في مقام البيان من هذه الجهة ، فلا محالة عندئذ يحكم بنجاسته.

وأمّا في الروايات : فمنها قوله عليه‌السلام : « لا بأس بالصلاة في دم إذا كان

__________________

(١) البقرة ٢ : ٤٣.

(٢) الإسراء ١٧ : ٧٨.

(٣) المائدة ٥ : ٤.

٥٣٣

أقل من درهم » (١) فانّه في مقام البيان من جهة أنّ هذا المقدار من الدم غير مانع من ناحية النجاسة ، حيث إنّ المتفاهم العرفي كون هذا استثناءً من مانعية الدم من هذه الناحية ، ولا يكون في مقام البيان من جهة اخرى وهي كونه من دم المأكول أو غير المأكول ، وعليه فاذا شك في صحة الصلاة فيه وعدم صحتها لم يجز التمسك باطلاق الرواية ، لعدم كون إطلاقها ناظراً إلى هذه الناحية.

فالنتيجة : أنّه لا إشكال في ذلك وأنّ المتكلم من أيّ جهة كان في مقام البيان جاز التمسك باطلاق كلامه من هذه الجهة وإن لم يكن في مقام البيان من الجهات الاخرى.

ثمّ إنّه لا بدّ من بيان أمرين : الأوّل : ما هو المراد من كون المتكلم في مقام البيان. الثاني : فيما إذا شك في أنّه في مقام البيان أم لا.

أمّا الأوّل : فليس المراد من كونه في مقام البيان [ كونه كذلك ] من جميع الجهات والنواحي ، ضرورة أنّ مثل ذلك لعله لم يتفق في شيء [ من ] الآيات والروايات ، ولو اتفق في مورد فهو نادر جداً. كما أنّه ليس المراد من عدم كونه في مقام البيان أن لا يكون في مقام التفهيم أصلاً مثل ما إذا تكلم بلغة لا يفهم المخاطب منها شيئاً كما إذا تكلم العرب بلغةٍ الفرس مثلاً ، بل المراد منه أن لا ينعقد لكلامه ظهور في الاطلاق كقول الطبيب للمريض : اشرب الدواء ، فانّ المريض يفهم منه أنّه لا بدّ له من شرب الدواء ، ولكنّه ليس في مقام البيان بل في مقام الاهمال والاجمال ، ولذا لا إطلاق لكلامه بحيث يكون كاشفاً عن مراده الجدي وكان حجةً على المخاطب فيحتج به عليه وبالعكس.

والحاصل : أنّ المراد من كونه في مقام البيان هو أنّه يلقي كلامه على نحو

__________________

(١) راجع الوسائل ٣ : ٤٢٩ / أبواب النجاسات ب ٢٠ ( نقل بالمضمون ).

٥٣٤

ينعقد له ظهور في الاطلاق ويكون حجةً على المخاطب على سبيل القاعدة.

ومن ذلك يظهر : أنّ التقييد بدليلٍ منفصل لا يضر بكونه في مقام البيان ولا يكشف عن عدمه ، وإنّما يكشف عن أنّ المراد الجدي لا يكون مطابقاً للمراد الاستعمالي ، وقد تقدم أنّه قد يكون مطابقاً له وقد لا يكون مطابقاً له ، ولا فرق في ذلك بين العموم الوضعي والعموم الاطلاقي ، ولذا ذكرنا سابقاً (١) أنّ التخصيص بدليل منفصل لا يكشف عن أنّ المتكلم ليس في مقام البيان ، مثلاً قوله تعالى : ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(٢) في مقام البيان مع ورود التقييد عليه بدليل منفصل في غير مورد ، وكذا الحال فيما إذا افترضنا أنّ للآية عموماً تدل عليه بالوضع.

وعلى الجملة : فلا فرق من هذه الناحية بين العموم والمطلق ، فكما أنّ التخصيص بدليل منفصل لا يوجب سقوط العام عن قابلية التمسك به ، فكذلك التقييد بدليل منفصل ، ويترتب على ذلك : أنّ تقييد المطلق من جهةٍ لا يوجب سقوط إطلاقه من جهات اخرى إذا كان في مقام البيان من هذه الجهات أيضاً ، فلا مانع من التمسك به من تلك الجهات إذا شك فيها ، كما إذا افترضنا أنّ الآية في مقام البيان من جميع الجهات وقد ورد عليها التقييد بعدم كون البائع صبياً أو مجنوناً أو سفيهاً ، وشك في ورود التقييد عليها من جهات اخرى ، كما إذا شك في اعتبار الماضوية في الصيغة أو الموالاة بين الايجاب والقبول ، فلا مانع من التسمك باطلاقها من هذه الجهات والحكم بعدم اعتبارها.

وأمّا الأمر الثاني : فالمعروف والمشهور بين الأصحاب هو استقرار بناء

__________________

(١) في ص ٤٢٥.

(٢) البقرة ٢ : ٢٧٥.

٥٣٥

العقلاء على حمل كلام المتكلم على كونه في مقام البيان إذا شك في ذلك ، ومن هنا قالوا إنّ الأصل في كل كلام صادر عن متكلم هو كونه في مقام البيان ، فعدم كونه في هذا المقام يحتاج إلى دليل.

ولكنّ الظاهر أنّه غير تام مطلقاً ، وذلك لأنّ الشك تارةً من جهة أنّ المتكلم كان في مقام اصل التشريع أو كان في مقام بيان تمام مراده ، كما إذا شك في أنّ قوله تعالى : ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) في مقام بيان أصل التشريع فحسب كما هو الحال في قوله تعالى : ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ )(١) أو في مقام بيان تمام المراد ، ففي مثل ذلك لا مانع من التمسك بالاطلاق لقيام السيرة من العقلاء على ذلك الممضاة شرعاً. واخرى يكون الشك من جهة سعة الارادة وضيقها ، يعني أنّا نعلم بأنّ لكلامه إطلاقاً من جهة ولكن نشك في إطلاقه من جهة اخرى ، كما في قوله تعالى : ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ )(٢) حيث نعلم باطلاقه من جهة أنّ حلية أكله لا تحتاج إلى الذبح ـ سواء أكان إمساكه من محل الذبح أو من موضع آخر ، كان إلى القبلة أو إلى غيرها ـ ولكن لا نعلم أنّه في مقام البيان من جهة اخرى ، وهي جهة طهارة محل الامساك ونجاسته ، ففي مثل ذلك لا يمكن التمسك بالاطلاق كما عرفت ، لعدم قيام السيرة على حمل كلامه في مقام البيان من هذه الجهة.

الثالث : أن لا يأتي المتكلم بقرينة لا متصلة ولا منفصلة وإلاّ فلا يمكن التمسك باطلاق كلامه ، لوضوح أنّ إطلاقه في مقام الاثبات إنّما يكشف عن الاطلاق في مقام الثبوت إذا لم ينصب قرينةً على الخلاف ، وأمّا مع وجودها ،

__________________

(١) البقرة ٢ : ٤٣.

(٢) المائدة ٥ : ٤.

٥٣٦

فان كانت متصلةً فهي مانعة عن أصل انعقاد الظهور ، وإن كانت منفصلةً فالظهور وإن انعقد إلاّ أنّها تكشف عن أنّ الارادة الاستعمالية لا تطابق الارادة الجدية ، وأمّا إذا لم يأت بقرينة كذلك فيثبت لكلامه إطلاق كاشف عن الاطلاق في مقام الثبوت ، لتبعية مقام الاثبات لمقام الثبوت ، ضرورة أنّ إطلاق الكلام أو تقييده في مقام الاثبات معلول لاطلاق الارادة أو تقييدها في مقام الواقع والثبوت.

وعلى الجملة : فالارادة التفهيمية هي العلة لابراز الكلام وإظهاره في مقام الاثبات ، فانّ المتكلم إذا أراد تفهيم شيء يبرزه في الخارج بلفظ ، فعندئذ إن لم ينصب قرينةً منفصلةً على الخلاف كشف ذلك عن أنّ الارادة التفهيمية مطابقة للارادة الجدية وإلاّ لم تكن مطابقةً لها.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّ المتكلم إذا كان متمكناً من الاتيان بقيد وكان في مقام البيان ومع ذلك لم يأت بقرينة على الخلاف لا متصلةً ولا منفصلةً كشف ذلك عن الاطلاق في مقام الثبوت ، وهذا مما قد قامت السيرة القطعية من العقلاء على ذلك الممضاة شرعاً ، ولا نحتاج في التمسك بالاطلاق إلى أزيد من هذه المقدمات الثلاث ، فهي قرينة عامة على إثبات الاطلاق ، وأمّا القرائن الخاصة فهي تختلف باختلاف الموارد فلا ضابط لها.

بقي في المقام أمران : [ الأوّل : هل المتيقن في مقام التخاطب مانع عن الاطلاق؟ ]

الأوّل أنّ القدر المتيقن بحسب التخاطب هل يمنع عن التمسك بالاطلاق؟ فيه وجهان.

ذكر المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) أنّه يمنع عنه.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٤٧.

٥٣٧

وتفصيل الكلام في المقام : أنّه يريد تارةً بالقدر المتيقن القدر المتيقن الخارجي ، يعني أنّه متيقن بحسب الارادة خارجاً من جهة القرائن ، منها : مناسبة الحكم والموضوع.

ومن الواضح أنّ مثل هذا المتيقن لا يمنع عن التمسك بالاطلاق ، ضرورة أنّه لا يخلو مطلق في الخارج عن ذلك إلاّنادراً ، فلو قال المولى : أكرم عالماً فانّ المتيقن منه هو العالم الهاشمي الورع التقي ، إذ لا يحتمل أن يكون المراد منه غيره دونه ، وأمّا احتمال أن يكون المراد منه ذلك دون غيره فهو موجود. ومن هذا القبيل قوله تعالى : ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(١) فانّ القدر المتيقن منه هو البيع الموجود بالصيغة العربية الماضوية ، إذ لا يحتمل أن يكون المراد منه غيره دونه.

واخرى يريد به القدر المتيقن بحسب التخاطب ، وهذا هو مراد صاحب الكفاية قدس‌سره دون الأوّل ، وقد ادعى قدس‌سره منعه عن التمسك بالاطلاق.

ولكنّ الظاهر أنّه لا يمكن المساعدة على هذه الدعوى ، والسبب فيه : أنّ المراد بالقدر المتيقن بحسب التخاطب هو أن يفهم المخاطب من الكلام الملقى إليه أنّه مراده جزماً ، ومنشأ ذلك امور : عمدتها كونه واقعاً في مورد السؤال ، مثلاً في موثقة ابن بكير « سأل زرارة أبا عبدالله عليه‌السلام عن الصلاة في الثعالب والفنك والسنجاب وغيره من الوبر ، فأخرج كتاباً زعم أنّه إملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّ الصلاة في وبر كل شيء حرام أكله فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وكل شيء منه فاسد ، لا تقبل تلك الصلاة

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٧٥.

٥٣٨

حتى يصلي في غيره مما أحلّ الله أكله » (١) أنّ المتيقن بحسب التخاطب هو مورد السؤال ، ضرورة احتمال أنّ الإمام عليه‌السلام أراد غير مورد السؤال دونه غير محتمل جزماً ، وأمّا العكس فهو محتمل. ولكنّ الكلام إنّما هو في منعه عن التمسك بالاطلاق ، والظاهر أنّه غير مانع عنه ، والسبب فيه : أنّ ظهور الكلام في الاطلاق قد انعقد ولا أثر له من هذه الناحية.

ومن الطبيعي أنّه لا يجوز رفع اليد عن الاطلاق ما لم تقم قرينة على الخلاف ، ولا قرينة في البين. أمّا القرينة المنفصلة فهي مفروضة العدم. وأمّا القرينة المتصلة فأيضاً كذلك بعد فرض أنّ القدر المتيقن المزبور لا يصلح أن يكون مانعاً عن انعقاد الظهور في الاطلاق. وعليه فلا مناص من التمسك به ، وبما أنّ مقام الاثبات تابع لمقام الثبوت فالاطلاق في الأوّل كاشف عن الاطلاق في الثاني ، ولذا لو سئل عن مجالسة شخص معيّن في الخارج واجيب بعدم جواز مجالسة الفاسق ، لم يحتمل بحسب الفهم العرفي اختصاصه بذاك الشخص المعيّن في الخارج ، فلا محالة يعمّ غيره أيضاً.

فالنتيجة : أنّ حال هذا القدر المتيقن حال القدر المتيقن الخارجي ، فكما أنّه لا يمنع عن التمسك بالاطلاق فكذلك هذا ، فلو كان هذا مانعاً عنه لكان ذاك أيضاً مانعاً فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً.

ثمّ إنّ الماهية تارةً تلحظ بالاضافة إلى أفراد يكون صدقها عليها بالتواطؤ والتساوي. واخرى تلحظ بالاضافة إلى أفراد يكون صدقها عليها بالتشكيك ، حيث قد برهن في محلّه استحالة التشكيك في الماهيات ، ونقصد بالتشكيك والتواطؤ هنا التشكيك والتواطؤ بحسب المتفاهم العرفي وارتكازاتهم ، وله

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٤٥ / أبواب لباس المصلي ب ٢ ح ١.

٥٣٩

عوامل عديدة :

منها : علوّ مرتبة بعض أفراد الماهية على نحو يوجب انصرافها عنه عرفاً ، ومن ذلك لفظ الحيوان فانّه موضوع لغةً لمطلق ما له الحياة فيكون معناه اللغوي جامعاً بين الانسان وغيره ، إلاّ أنّه في الاطلاق العرفي ينصرف عن الانسان.

ومن هنا ذكرنا (١) أنّ المتفاهم العرفي من مثل قوله عليه‌السلام : « لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه » هو خصوص الحيوان في مقابل الانسان ، فلا مانع من الصلاة في شعر الانسان ونحوه. وكيف كان فلا شبهة في هذا الانصراف بنظر العرف ، ولايمكن التمسك بالاطلاق في مثل ذلك ، لفرض أنّ الخصوصية المزبورة مانعة عن ظهور المطلق في الاطلاق وتكون بمنزلة القرينة المتصلة التي تمنع عن انعقاد ظهوره فيه.

ومنها : دنوّ مرتبة بعض أفرادها على نحو يكون صدقها عليه مورداً للشك كصدق الماء على ماء الكبريت أو ما شاكله ، ففي مثل ذلك لا يمكن التمسك بالاطلاق أيضاً ، وذلك لأنّ المعتبر في التمسك به هو أن يكون صدق المطلق على الفرد المشكوك فيه محرزاً ، والشك إنّما كان من ناحية اخرى. وأمّا فيما إذا لم يكن أصل الصدق محرزاً فلا يمكن التمسك به ، وما نحن فيه من هذا القبيل حيث إنّ أصل الصدق مشكوك فيه فلايمكن التمسك باطلاق لفظ الماء بالاضافة إلى ماء الكبريت أو نحوه ، غاية الأمر أنّ الأوّل من قبيل احتفاف الكلام بالقرينة المتصلة ، والثاني من قبيل احتفافه بما يصلح للقرينية ، ولكنّهما يشتركان في نقطة واحدة ، وهي المنع عن انعقاد ظهور المطلق في الاطلاق.

__________________

(١) شرح العروة الوثقى ١٢ : ١٧٩.

٥٤٠