محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-15-2
الصفحات: ٥٧٠

أراده. قلت : وكل شيء هو عند الله مثبت في كتاب الله؟ قال : نعم. قلت : فأيّ شيء يكون بعده؟ قال : سبحان الله ثمّ يحدث الله أيضاً ما يشاء تبارك وتعالى » (١).

ومنها : ما في تفسيره أيضاً عن عبدالله بن مسكان عن أبي جعفر وأبي عبدالله وأبي الحسن عليه‌السلام عند تفسير قوله تعالى : ( فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) أي يقدّر الله كل أمر من الحق ومن الباطل وما يكون في تلك السنة وله فيه البداء والمشيئة يقدّم ما يشاء ويؤخر ما يشاء من الآجال والأرزاق والبلايا والأعراض والأمراض ويزيد فيها ما يشاء وينقص ما يشاء (٢).

ومنها : ما في الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه « قال : لولا آية في كتاب الله لأخبرتكم بما كان وبما يكون وبما هو كائن إلى يوم القيامة وهي هذه الآية ( يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ) » (٣) ومثله ما عن الصدوق في الأمالي والتوحيد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام.

ومنها : ما في تفسير العياشي عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام « قال : كان علي بن الحسين عليه‌السلام يقول : لولا آية في كتاب الله لحدّثتكم بما يكون إلى يوم القيامة ، فقلت : أيّة آية؟ قال : قول الله ( يَمْحُوا اللهُ ) » إلخ (٤).

ومنها : ما في قرب الاسناد عن البزنطي عن الرضا عليه‌السلام « قال : قال أبو عبدالله وأبو جعفر وعلي بن الحسين والحسين بن علي وعلي بن أبي

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم ١ : ٣٦٦.

(٢) تفسير علي بن إبراهيم ٢ : ٢٩٠.

(٣) الاحتجاج ١ : ٦١٠ / ١٣٨.

(٤) تفسير العياشي ٢ : ٢١٥ / ٥٩.

٥٠١

طالب عليهم‌السلام : لولا آية في كتاب الله لحدّثناكم بما يكون إلى أن تقوم الساعة ( يَمْحُوا اللهُ ) » إلخ (١).

ومنها : ما عن العياشي عن ابن سنان عن أبي عبدالله عليه‌السلام « يقول : إنّ الله يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء وعنده امّ الكتاب ، وقال : فكل أمر يريده الله فهو في علمه قبل أن يصنعه ، وليس شيء يبدو له إلاّوقد كان في علمه ، إنّ الله لا يبدو له من جهل » (٢).

ومنها : ما رواه عن عمار بن موسى عن أبي عبدالله عليه‌السلام « سئل عن قول الله ( يَمْحُوا اللهُ ) إلخ قال : إنّ ذلك الكتاب كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت ، فمن ذلك الذي يردّ الدعاء القضاء ، وذلك الدعاء مكتوب عليه الذي يردّ به القضاء حتى إذا صار إلى امّ الكتاب لم يغن الدعاء فيه شيئاً » (٣) ومنها غيرها من الروايات الدالة على ذلك.

فالنتيجة على ضوء هذه الروايات : هي أنّ البداء يستحيل أن يقع في القسم الأوّل من القضاء المعبّر عنه باللوح المحفوظ وبامّ الكتاب والعلم المخزون عند الله ، بداهة أنّه كيف يتصور البداء فيه وأنّ الله سبحانه عالم بكنه جميع الأشياء بشتى ألوانها منذ الأزل لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. نعم ، هذا العلم منشأ لوقوع البداء ، يعني أنّ انسداد باب هذا العلم لغيره تعالى حتى الأنبياء والأوصياء والملائكة أوجب وقوع البداء في بعض إخباراتهم.

وكذا الحال في القسم الثاني من القضاء ، نظراً إلى أنّ العقل يستقل باستحالة

__________________

(١) قرب الاسناد : ٣٥٣ / ١٢٦٦.

(٢) تفسير العياشي ٢ : ٢١٨ / ٧١.

(٣) تفسير العياشي ٢ : ٢٢٠ / ٧٤.

٥٠٢

تكذيب الله تعالى نفسه أو أنبياءه.

وأمّا القسم الثالث فهو مورد لوقوع البداء ، ولا يلزم من الالتزام بالبداء فيه أيّ محذور كنسبة الجهل إلى الله ( سبحانه وتعالى ) ولا ما ينافي عظمته وجلاله ولا الكذب ، حيث إنّ إخباره تعالى بهذا القضاء لنبيّه أو وليّه ليس على نحو الجزم والبت ، بل هو معلّق بعدم تعلق مشيئته بخلافه ، فاذا تعلّقت المشيئة على الخلاف لم يلزم الكذب ، فانّ ملاك صدق هذه القضية وكذبها إنّما هو بصدق الملازمة وكذبها ، والمفروض أنّ الملازمة صادقة وهي وقوعه لو لم تتعلق المشيئة الإلهية على خلافه.

مثلاً إنّ الله تعالى يعلم بأنّ زيداً سوف يموت في الوقت الفلاني ويعلم بأنّ موته فيه معلّق على عدم إعطائه الصدقة أو ما شاكلها ، ويعلم بأ نّه يعطي الصدقة فلا يموت فيه ، فهاهنا قضيتان شرطيتان ففي إحداهما قد علّق موته في الوقت الفلاني بعدم تصدقه أو نحوه ، وفي الاخرى قد علّق عدم موته فيه على تصدقه أو نحوه.

ونتيجة ذلك : أنّ المشيئة الإلهية في القضية الاولى قد تعلقت بموته إذا لم يتصدق ، وفي القضية الثانية قد تعلقت بعدم موته وبقائه حيّاً إذا تصدق ، ومن الواضح أنّ إخباره تعالى بالقضية الاولى ليس كذباً ، فانّ المناط في صدق القضية الشرطية وكذبها هو صدق الملازمة بين الجزاء والشرط وكذبها لا بصدق طرفيها ، بل لا يضر استحالة وقوع طرفيها في صدقها ، فعلمه تعالى بعدم وقوع الطرفين هنا لا يضر بصدق إخباره بالملازمة بينهما. وكذا لا محذور في إخبار النبي أو الوصي بموته في هذا الوقت معلّقاً بتعلق المشيئة الإلهية به ، فانّ جريان البداء فيه لا يوجب كون الخبر الذي أخبر به المعصوم كاذباً ، لفرض أنّ المعصوم لم يخبر بوقوعه على سبيل الحتم والجزم ومن دون تعليق ،

٥٠٣

وإنّما أخبر به معلّقاً على أن تتعلق المشيئة الإلهية به أو أن لا تتعلق بخلافه ، ومن الواضح أنّ صدق هذا الخبر وكذبه إنّما يدوران مدار صدق الملازمة بين هذين الطرفين وكذبها لا وقوعهما في الخارج وعدم وقوعهما فيه.

فالنتيجة في نهاية المطاف : هي أنّه لا مانع من الالتزام بوقوع البداء في بعض إخبارات المعصومين عليهم‌السلام في الامور التكوينية ، ولا يلزم منه محذور لا بالاضافة إلى ذاته ( سبحانه وتعالى ) ولا بالاضافة إليهم عليهم‌السلام (١).

__________________

(١) ولو أغمضنا عن تلك الروايات وافترضنا أنّه لم تكن في المسألة أيّة رواية من روايات الباب ، فما هو موقف العقل فيها؟ الظاهر بل لا ريب في أنّ موقفه هو موقف الروايات الدالة على أنّ قضاء الله تعالى على ثلاثة أنواع ، والسبب في ذلك : أنّ العقل يدرك على سبيل الحتم والجزم أنّ البشر مهما بلغ من الكمال ذروته كنبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستحيل أن يحيط بجميع ما في علم الله ( سبحانه وتعالى ) هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ جريان البداء ووقوعه في الخارج بنفسه دليل على ذلك ، حيث إنّه يستحيل جريانه في علمه تعالى ، لاستلزامه الجهل بالواقع تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

وقد ثبت على ضوء الكتاب والسنّة والعقل الفطري أنّ الله سبحانه عالم بجميع الكائنات بشتى أنواعها وأشكالها ، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرّة لا في السماء ولا في الأرض ، وكذا يستحيل جريانه في القضايا التي أخبر بوقوعها ملائكته ورسله على سبيل الحتم والجزم ، فانّ الله تعالى يستحيل أن يكذّب نفسه أو ملائكته أو رسله.

وعليه فبطبيعة الحال يجري البداء في القضايا التي أخبر بوقوعها لهم معلّقاً بتعلق

٥٠٤

وقد تحصّل مما ذكرناه : أنّ نتيجة البداء الذي تقول به الشيعة الإمامية وتعتقد به هي الاعتراف الصريح بأنّ العالم بأجمعه تحت سلطان الله وقدرته حدوثاً وبقاءً ، وأنّ مشيئة الله تعالى نافذة في جميع الأشياء ، وأ نّها بشتى ألوانها باعمال قدرته واختياره ، وقد تقدم الحديث من هذه الناحية في ضمن نقد نظريتي الجبر والتفويض (١) هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ في الاعتقاد بالبداء يتضح نقطة الفرق بين العلم الإلهي وعلم غيره ، فانّ غيره وإن كان نبياً أو وصياً كنبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يمكن أن يحيط بجميع ما أحاط به علمه تعالى وإن كان عالماً

__________________

مشيئته به أو بعدم تعلّقها على خلافه المعبّر عنه بعالم المحو والاثبات ، والنكتة في وقوعه فيها : هو أنّ الله تعالى يعلم بعدم الوقوع من جهة علمه بعدم وقوع ما علّق عليه في الخارج بعلمه المكنون والمخزون عنده لا يحيط به غيره أبداً.

وأمّا من أخبره تعالى بوقوعها على نحو التعليق فهو حيث لا يعلم بعدم وقوع المعلّق عليه فيه فلأجل ذلك قد يظهر ويبدو خلاف ما أخبر به ، وهذا هو البداء بالمعنى الذي تقول به الشيعة الإمامية ولا يستلزم كذب ذلك الخبر ، لفرض أنّ إخباره عن الوقوع للناس ليس على سبيل الحتم والجزم ، وإنّما كان على نحو التعليق ، ولا يتصف مثل هذا الخبر بالكذب إلاّفي فرض عدم الملازمة بين المعلّق والمعلّق عليه ، والمفروض أنّ الملازمة بينهما موجودة. وبذلك يظهر أنّ حقيقة البداء عند الشيعة هي الابداء والاظهار ، وإطلاق لفظ البداء عليه مبني على التنزيل وبعلاقة المشاكلة ، وإسناده إليه تعالى باعتبار أنّ علمه منشأ لوقوعه وجريانه.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّه لا مناص من الالتزام بالبداء بالمعنى الذي ذكرناه على ضوء الروايات وحكم العقل.

(١) راجع المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص ٤١٦.

٥٠٥

بتعليم الله إيّاه بجميع عوالم الممكنات ، إلاّ أنّه لا يحيط بما أحاط به علم الله المخزون المعبّر عنه باللوح المحفوظ وبامّ الكتاب ، حيث إنّه لا يعلم بمشيئة الله تعالى لوجود شيء أو عدم مشيئته إلاّحيث يخبره الله تعالى به على نحو الحتم.

ومن ناحية ثالثة : أنّ القول بالبداء يوجب توجه العبد إلى الله تعالى وتضرّعه إليه وطلبه إجابة دعائه وقضاء حوائجه ومهماته وتوفيقه للطاعة وإبعاده عن المعصية ، كل ذلك إنّما نشأ من الاعتقاد بالبداء وبأنّ عالم المحو والاثبات بيده تعالى ( يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ )(١) وهذا بخلاف القول بانكار البداء وأنّ كلّ ما جرى به قلم التقدير لا يمكن أن يتغير وأ نّه كائن لا محالة ، حيث إنّ لازمه أنّ المعتقد بهذه العقيدة مأيوس عن إجابة دعائه وقضاء حوائجه ، فانّ ما يطلبه العبد من ربّه لا يخلو من أن يجري قلم التقدير بايجاده أو لا يجري ، فعلى الأوّل فهو موجود لا محالة ، وعلى الثاني لن يوجد أبداً ولن ينفعه الدعاء والتضرع والتوسل حيث يعلم بأنّ تقديره لن يتغير أبداً.

ومن الطبيعي أنّ العبد إذا يئس من إجابة دعائه وأ نّه لا يؤثر في تقديره تعالى أصلاً ، ترك التضرع والدعاء له تعالى ، لعدم فائدة في ذلك. وكذلك الحال في سائر العبادات والصدقات التي ورد عن المعصومين عليهم‌السلام أنّها تزيد في العمر والرزق وغير ذلك مما يطلبه العبد ، ولأجل هذا السر قد ورد في الروايات الكثيرة عن الأئمة الأطهار عليهم‌السلام الاهتمام بشأن البداء :

منها : ما رواه الصدوق في كتاب التوحيد باسناده عن أحدهما عليهما‌السلام « قال : ما عبد الله ( عزّ وجلّ ) بشيء مثل البداء » (٢).

__________________

(١) الرعد ١٣ : ٣٩.

(٢) التوحيد : ٣٣١ / ١.

٥٠٦

ومنها : ما رواه باسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبدالله عليه‌السلام « قال : ما عظّم الله ( عزّ وجلّ ) بمثل البداء » (١).

ومنها : ما رواه باسناده عن محمّد بن مسلم عن أبي عبدالله عليه‌السلام « قال : ما بعث الله ( عزّ وجلّ ) نبياً حتى يأخذ عليه ثلاث خصال : الاقرار بالعبودية ، وخلع الانداد ، وأنّ الله يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء » (٢) وقد ورد أيضاً في الروايات الكثيرة من طرق أهل السنّة أنّ الصدقة والدعاء يغيّران القدر (٣).

والنكتة في هذا الاهتمام : هو أنّ القول بعدم البداء يشترك بالنتيجة مع القول بأنّ الله تعالى غير قادر على أن يغيّر ما جرى عليه قلم التقدير تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، حيث إنّه مخالف لصريح الكتاب والسنّة وحكم العقل الفطري كما عرفت ، ومن المعلوم أنّ ذلك يوجب يأس العبد من إجابة دعائه ، وهو يوجب تركه وعدم توجهه إلى ربّه في قضاء مهماته وطلباته.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بالنتائج التالية :

الاولى : أنّ ما عن العامة من نسبة تجويز الجهل عليه ( سبحانه وتعالى ) إلى الشيعة باعتبار التزامهم بالبداء ، فقد عرفت أنّه افتراء صريح عليهم ، وأنّ الالتزام بالبداء لا يستلزم ذلك ، بل هو تعظيم وإجلال لذاته تعالى وتقدّس.

__________________

(١) التوحيد : ٣٣٣ / ٢.

(٢) التوحيد : ٣٣٣ / ٣.

(٣) سنن الترمذي ٨ : ٣٥٠ / ٢٠٦٥ ، مستدرك الحاكم ١ : ٤٩٣ ، مسند أحمد ٥ : ٢٧٧ / ٢١٣٥٢.

٥٠٧

الثانية : أنّ العالم بأجمعه وبشتى أشكاله تحت سلطان الله تعالى وقدرته ، كما أنّه تعالى عالم به بجميع أشكاله منذ الأزل ، وقد عرفت أنّ هذا العلم لا ينافي ولا يزاحم قدرته واختياره ، ومن هنا قلنا إنّ ما ذهب إليه اليهود من أنّ قلم التقدير والقضاء إذا جرى على الأشياء في الأزل استحال أن تتعلق المشيئة الإلهية بخلافه خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً ، فانّ قلم التقدير والقضاء لا ينافي قدرته ولا يزاحم اختياره.

الثالثة : أنّ قضاءه تعالى على ثلاثة أنواع : ١ ـ قضاؤه الذي لم يُطلع عليه أحداً من خلقه. ٢ ـ قضاؤه الذي أطلع بوقوعه أنبياءه وملائكته على سبيل الحتم والجزم. ٣ ـ قضاؤه الذي أطلع بوقوعه أنبياءه وملائكته معلّقاً على أن لا تتعلق مشيئته على خلافه ، ولا يعقل جريان البداء في القضاء الأوّل والثاني وإنّما يكون ظرف جريانه هو الثالث ، وهذا التقسيم قد ثبت على ضوء الروايات وحكم العقل الفطري.

الرابعة : أنّه لا يلزم من الالتزام بالبداء أيّ محذور كتجويز الجهل عليه سبحانه أو ما ينافي عظمته وإجلاله أو الكذب ، بل في الاعتقاد به تعظيم لسلطانه وإجلال لقدرته ، كما لا يلزم منه محذور بالاضافة إلى أنبيائه وملائكته ، بل فيه امتياز علم الخالق عن علم المخلوق.

الخامسة : أنّ حقيقة البداء عند الشيعة الإمامية هي بمعنى الابداء أو الاظهار وإطلاق لفظ البداء عليه مبني على التنزيل وبعلاقة المشاكلة.

السادسة : أنّ فائدة الاعتقاد بالبداء هي الاعتراف الصريح بأنّ العالم بأجمعه تحت سلطان الله وقدرته ( يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ) وتوجه العبد إلى الله تعالى وتضرّعه إليه قي قضاء حوائجه ومهماته وعدم يأسه من

٥٠٨

ذلك ، وهذا بخلاف القول بانكار البداء ، فانّه يوجب يأس العبد ولا يرى فائدةً في التضرع والدعاء ، وهذا هو السر في اهتمام الأئمة عليهم‌السلام بشأن البداء في الروايات الكثيرة.

٥٠٩

المطلق والمقيّد

المطلق في اللغة (١) بمعنى المرسل الذي لم يقيد بشيء في مقابل المقيد الذي هو مقيد به ، ومنه يقال : إنّ فلاناً مطلق العنان يعني أنّه غير مقيد بشيء. وأمّا عند الاصوليين فالظاهر أنّه ليس لهم في إطلاق هذين اللفظين اصطلاح جديد ، بل يطلقونهما بمالهما من المعنى اللغوي والعرفي.

ثمّ إنّه يقع الكلام في جملة من الأسماء وهل أنّها من المطلق أو لا؟

منها : أسماء الأجناس من الجواهر والأعراض وغيرهما ، وقبل بيان ذلك ينبغي لنا التعرض لأقسام الماهية فنقول :

الماهية تارةً تلاحظ بما هي هي ، يعني أنّ النظر مقصور على ذاتها وذاتياتها ولم يلحظ معها شيء زائد ، وتسمى هذه الماهية بالماهية المهملة ، نظراً إلى عدم ملاحظة شيء من الخصوصيات المتعينة معها فتكون مهملةً بالاضافة إلى جميع تلك الخصوصيات حتى خصوصية عنوان كونها مقسماً للأقسام الآتية.

وبكلمة اخرى : أنّ النظر لم يتجاوز عن حدود ذاتها وذاتياتها إلى شيء خارج عنها حتى عنوان إهمالها وقصر النظر عليها ، فانّ التعبير عنها بالماهية المهملة باعتبار واقعها الموضوعي ، لا باعتبار أخذ هذا العنوان في مقام اللحاظ معها.

فالنتيجة : أنّ هذه الماهية مهملة ومبهمة بالاضافة إلى جميع طوارئها وعوارضها الخارجية والذهنية.

__________________

(١) كما في المنجد مادة ( طلق ) وفيه : المطلق ضدّ المقيّد.

٥١٠

وتارة اخرى يلاحظ معها شيء خارج عن مقام ذاتها وذاتياتها ، وذلك الشيء إن كان عنوان مقسميتها للأقسام التالية دون غيره سمّيت هذه الماهية بالماهية اللا بشرط المقسمي ، وإن كان ذلك الشيء الخارج عنوان تجردها في وعاء العقل عن جميع الخصوصيات والعوارض سمّيت هذه الماهية بالماهية المجردة وفي الاصطلاح بالماهية بشرط لا. وهي بهذا العنوان غير قابلة للحمل على شيء من الموجودات الخارجية ، لوضوح أنّها لو حملت على موجود خارجي لكانت مشتملةً على خصوصية من الخصوصيات وهذا خلف الفرض. وهذه الماهية تسمّى بالأسماء التالية : النوع ، الجنس ، الفصل ، العرض العام ، العرض الخاص ، حيث إنّها عناوين للماهيات الموجودة في افق النفس فلا تصدق على الموجود الخارجي.

وإن كان ذلك الشيء خصوصية من الخصوصيات الخارجية سمّيت هذه الماهية بالماهية المخلوطة ، وفي الاصطلاح بالماهية بشرط شيء ، وهذه الخصوصية تارةً وجودية واخرى عدمية. والأوّل كلحاظ ماهية الانسان مثلاً مع العلم ، فانّها لا تنطبق إلاّعلى هذه الحصة فحسب ، يعني الانسان العالم دون غيرها ، والثاني كلحاظها مثلاً مع عدم العلم أو عدم الفسق ، فهي على هذا لا تنطبق في الخارج إلاّعلى الحصة التي لا تكون متصفةً بالعلم أو بالفسق ، فهذان القسمان معاً من الماهية الملحوظة بشرط شيء. نعم ، قد يعبّر عن القسم الثاني في الاصول بالماهية بشرط لا ولكنّه مجرد اصطلاح من الاصوليين ولا مناقشة فيه.

وإن كان ذلك الشيء عنوان الاطلاق والارسال سمّيت هذه الماهية بالماهية اللا بشرط القسمي ، حيث إنّها ملحوظة مطلقة ومرسلة بالاضافة إلى جميع ما تنطبق عليه في الخارج.

٥١١

وقد ذكرنا في غير مورد أنّ الاطلاق عبارة عن رفض القيود وعدم أخذ شيء منها مع الماهية ، وإلاّ لم تكن الماهية ماهيةً مطلقة ، ولنأخذ لذلك بمثال وهو أنّ الكلمة إذا لوحظت بما هي بأن يكون النظر مقصوراً على ذاتها وذاتياتها فحسب ، فهي ماهية مهملة ومبهمة بالاضافة إلى جميع التعيّنات الخارجية والذهنية حتى تعيّن قصر النظر عليها ، يعني أنّ هذه الخصوصية أيضاً لم تلحظ معها ، فالكلمة في إطار هذا اللحاظ لا تصلح أن يحمل عليها شيء إلاّ الذات أو الذاتيات ، نعم إنّها تصلح أن تكون محلاً لعروض كل من الاسم والفعل والحرف.

وإن لوحظت معها خصوصية زائدة عن ذاتها وذاتياتها ، فإن كانت تلك الخصوصية هي عنوان كونها مقسماً لهذه الأقسام فهي الماهية لا بشرط المقسمي ، حيث إنّها في إطار هذا اللحاظ مقسم لتلك الأقسام ، يعني أنّه لا تحقق لها إلاّفي ضمن أحد أقسام الماهية كالمجردة والمخلوطة والمطلقة. كما أنّها تمتاز بهذا اللحاظ عن الماهية المهملة.

وإن لوحظت معها خصوصية زائدة على تلك الخصوصية أيضاً ، فإن كانت تلك الخصوصية الزائدة عنوان تجرّدها في افق النفس عن جميع العوارض والطوارئ التي يمكن أن تلحقها في الخارج من خصوصيات أفرادها وأصنافها ، فهي ماهية مجردة ، وإن كانت تلك الخصوصية خصوصية خارجية كخصوصية الاسم أو الفعل أو الحرف فهي ماهية مخلوطة ، وإن كانت تلك الخصوصية عنوان الاطلاق والارسال فهي ماهية مطلقة المسماة في الاصطلاح بالماهية لا بشرط القسمي.

وبعد ذلك نقول : إنّ اسم الجنس موضوع للماهية المهملة دون غيرها من أقسام الماهية وهي الجامعة بين جميع تلك الأقسام بشتى لحاظاتها ، وقد عرفت

٥١٢

أنّها معرّاة من تمام الخصوصيات والتعينات : الذهنية والخارجية ، حتى خصوصية قصر النظر عليها ، والسبب فيه : هو أنّه لو كان موضوعاً للماهية المأخوذ فيها شيء من تلك الخصوصيات لكان استعماله في غيرها مجازاً ومحتاجاً إلى عناية زائدة حتى ولو كانت تلك الخصوصية قصر النظر على ذاتها وذاتياتها ، لما عرفت من أنّه نحو من التعيّن وهو غير مأخوذ في معناه الموضوع له ، فالمعنى الموضوع له مبهم من جميع الجهات.

ومن هنا يصح استعمال اسم الجنس كالانسان أو ما شاكله في الماهية بجميع أطوارها : الذهنية والخارجية ، ومن الطبيعي أنّه لو كان شيء منها مأخوذاً في معناه الموضوع له لكان استعماله في غير الواجد له بحاجة إلى عناية زائدة ، مع أنّ الأمر ليس كذلك.

ومن الواضح أنّ صحة استعماله فيها في جميع حالاتها وطوارئها تكشف كشفاً يقينياً عن أنّه موضوع بازاء الماهية نفسها من دون لحاظ شيء من الخصوصيات فيها حتى قصر النظر على ذاتها وذاتياتها ، ففي مثل قولنا : النار حارة لم تستعمل كلمة النار إلاّفي الطبيعة الجامعة بين تلك الأقسام المهملة بالاضافة إلى تمام خصوصياتها ولحاظاتها.

وإن شئت قلت : إنّ اللحاظات الطارئة على الماهية بشتى أشكالها إنّما هي في مرحلة الاستعمال ، حيث إنّ في هذه المرحلة لا بدّ من أن تكون الماهية ملحوظة بأحد الأقسام المتقدمة ، نظراً إلى أنّ الغرض قد يتعلق بلحاظها على شكل ، وقد يتعلق به على شكل آخر وهكذا.

إلى هنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة : وهي أنّ الماهية المهملة فوق جميع الاعتبارات واللحاظات الطارئة عليها ، حيث إنّها مهملة حقيقةً وبتمام المعنى ، وأمّا الماهية المقصور فيها النظر إلى ذاتها وذاتياتها فليست بمهملة بتمام المعنى

٥١٣

نظراً إلى أنّها متعينة من هذه الجهة ـ أي من جهة قصر النظر إلى ذاتها ـ فتسمية هذه بالماهية المهملة لا تخلو عن مسامحة ، فالأولى ما عرفت.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ الكلي الطبيعي عبارة عن الماهية المهملة دون غيرها ، خلافاً لشيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) حيث قد صرّح بأنّ الكلي الطبيعي الصادق على كثيرين هو اللابشرط القسمي دون المقسمي ، بدعوى أنّ اللا بشرط المقسمي عبارة عن الطبيعة الجامعة بين الكلي المعبّر عنه باللا بشرط القسمي الممكن صدقه على كثيرين ، والكلي المعبّر عنه بالماهية المأخوذة بشرط لا الممتنع صدقه على الأفراد الخارجية ، والكلي المعبّر عنه الماهية بشرط شيء الذي لا يصدق إلاّعلى أفراد ما اعتبر فيه الخصوصية.

ومن الطبيعي أنّه يستحيل أن يكون الجامع بين هذه الأقسام هو الكلي الطبيعي ، لأنّ الكلي الطبيعي هو الكلي الجامع بين الأفراد الخارجية الممكن صدقه عليها ، فهو حينئذ قسيم للكلي العقلي الممتنع صدقه على الأفراد الخارجية ، ولا يعقل أن يكون قسيم الشيء مقسماً له ولنفسه ، ضرورة أنّ المقسم لا بدّ من أن يكون متحققاً في ضمن جميع أقسامه ، ولا يعقل أن تكون الماهية المعتبرة فيها خصوصية على نحو تصدق على الأفراد الخارجية متحققة في ضمن الماهية المعتبرة فيها خصوصية على نحو يمتنع صدقها على ما في الخارج ، وعليه فلا مناص من الالتزام بكون الجامع بين الأقسام هو الماهية الجامعة بين ما يصح صدقه على ما في الخارج وما يمتنع صدقه عليه ، فالمقسم أيضاً وإن كان قابلاً للصدق على الأفراد الخارجية لفرض أنّه متحقق في ضمن الماهية المأخوذة على نحو اللا بشرط القسمي وحيث إنّها صادقة على ما في الخارج ،

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٢١.

٥١٤

فالمقسم أيضاً كذلك ، إلاّ أنّه حيث يكون قابلاً للصدق على الكلي العقلي أيضاً فيستحيل أن يكون الجامع بين الأقسام هو نفس الجهة الجامعة بين الأفراد الخارجية المعبّر عنها بالكلي الطبيعي.

ما أفاده قدس‌سره يحتوي على عدة نقاط :

الاولى : أنّ الماهية اللا بشرط المقسمي هي نفس الماهية من حيث هي هي.

الثانية : أنّ الكلي الطبيعي ليس هو الماهية اللا بشرط المقسمي ، حيث إنّه قدس‌سره قد اعتبر في كون الشيء كلياً طبيعياً صدقه على الأفراد الخارجية فحسب دون غيرها. ومن المعلوم أنّ هذه النكتة غير متوفرة في الماهية اللا بشرط المقسمي ، لفرض صدقها على الماهيات المجردة التي لا موطن لها إلاّ العقل ، وعليه فلا يمكن أن تكون تلك الماهية كلياً طبيعيّاً.

الثالثة : أنّ ما يصلح أن يكون كلياً طبيعيّاً هو الماهية اللا بشرط القسمي ، حيث إنّ النكتة المتقدمة وهي الصدق على الأفراد الخارجية فحسب دون غيرها متوفرة فيها.

ولنأخذ بالنظر إلى هذه النقاط :

أمّا النقطة الاولى : فهي وإن كانت معروفةً بينهم إلاّ أنّها خاطئة جداً ولا واقع موضوعي لها ، وذلك لما عرفت من أنّ الماهية من حيث هي هي بعينها هي الماهية المهملة التي كان النظر مقصوراً على ذاتها وذاتياتها وغير ملاحظ معها شيء خارج عنهما ، بل قلنا إنّها مهملة بالاضافة إلى جميع الخصوصيات الذهنية والخارجية حتى عنوان إهمالها وقصر النظر عليها ، ولذا لا يصح حمل شيء عليها في إطار هذا اللحاظ إلاّ الذات فيقال : الانسان حيوان ناطق ، وهذا بخلاف الماهية اللا بشرط المقسمي ، فانّ عنوان المقسمية قد لوحظ معها فلا

٥١٥

يكون النظر مقصوراً على الذات والذاتيات ، فاذن كيف تكون الماهية اللا بشرط المقسمي هي الماهية المهملة ومن حيث هي هي.

وأمّا النقطة الثانية : فهي وإن كانت صحيحةً إلاّ أنّها ليست من ناحية ما أفاده قدس‌سره بل من ناحية اخرى ، وهي أنّ الماهية اللا بشرط المقسمي لا تحقق لها إلاّفي ضمن أحد أقسامها من الماهية المجردة والمخلوطة والمطلقة كما هو الحال في كل مقسم بالاضافة إلى أقسامه ، وما يعرض عليه أحد اللحاظات المتقدمة هو الماهية المهملة دون الماهية اللا بشرط المقسمي ، نظراً إلى أنّه لا وجود لها ولا تحقق في افق النفس مع قطع النظر عن هذه التقسيمات ، ضرورة أنّ عنوان المقسمية عنوان انتزاعي وهو منتزع بلحاظ عروض هذه التقسيمات على الماهية ومتفرع عليها فكيف يعقل أن تعرض تلك التقسيمات عليها بلحاظ هذا العنوان الانتزاعي وتكون متفرعة عليه. أو فقل انّ عروض هذا العنوان ـ المقسمية ـ على الماهية إنّما هو في مرتبة متأخرة عن عروض تلك التقسيمات عليها ، ومعه كيف يعقل أن تكون تلك التقسيمات عارضة على الماهية المعنونة بهذا العنوان.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّ الماهية اللا بشرط المقسمي ـ يعني المعنونة بهذا العنوان ـ كما لا تصلح أن تكون محلاً لعروض الأقسام المتقدمة ، كذلك لا تصلح أن تكون كلياً طبيعياً.

أمّا الأوّل فلأمرين : الأوّل ما عرفت من أنّ لحاظها مع هذا العنوان في مرتبة متأخرة عن لحاظ تلك الأقسام ومتفرّع عليه ، ومعه كيف تكون محلاً لعروض تلك الأقسام. الثاني : أنّها مع هذا العنوان غير قابلة للانطباق على ما في الخارج حيث إنّه لا موطن له إلاّ العقل.

٥١٦

وأمّا الثاني فيظهر وجهه مما عرفت ، فانّ الكلي الطبيعي ما هو قابل للانطباق على ما في الخارج ، والمفروض أنّها مع هذا العنوان غير قابلة لذلك ومعه كيف تكون كلياً طبيعياً ، وأمّا مع قطع النظر عن ذلك العنوان فهي ليست الماهية اللا بشرط المقسمي ، بل هي الماهية المهملة.

وعلى الجملة : فالماهية مع هذا العنوان ـ أي عنوان المقسمية ـ غير قابلة للانطباق على ما في الخارج حيث لا وجود لها إلاّفي الذهن فلا تصلح أن تكون كلياً طبيعياً ، وأمّا مع قطع النظر عن هذا العنوان فهي وإن كانت قابلةً للانطباق على الخارجيات وتصلح أن تكون كلياً طبيعياً ، إلاّ أنّها ليست حينئذ الماهية اللا بشرط المقسمي ، بل هي ماهية مهملة التي قد عرفت أنّها عارية عن جميع الخصوصيات ولم تلحظ معها أيّة خصوصية من الخصوصيات : الذهنية والخارجية.

وقد تقدم أنّ اسم الجنس موضوع لها وأنّ الخصوصيات بشتى أشكالها وألوانها طارئة عليها في ظرف الاستعمال ، حيث إنّ الغرض قد يتعلق بالماهية المجردة ، وقد يتعلق بالماهية المخلوطة ، وقد يتعلق بالماهية المطلقة ، وهذه الماهية هي التي تصلح أن تكون محلاً لعروض اللحاظات المتقدمة ، فانّها بأجمعها ترد عليها.

وأمّا النقطة الثالثة : فيظهر حالها مما تقدم ، بيان ذلك : أنّ المعتبر في الماهية اللا بشرط القسمي هو انطباقها بالفعل على جميع أفرادها ومصاديقها ، حيث إنّ السريان الفعلي قد لوحظ فيها رغم أنّه غير ملحوظ في الكلي الطبيعي ، إذ لا يعتبر فيه إلاّ إمكان انطباقه على الخارجيات دون فعليته ، ونقصد بالفعلية والامكان لحاظ الماهية فانيةً بالفعل في جميع مصاديقها وعدم لحاظها كذلك ، فعلى الأوّل هي اللا بشرط القسمي وعلى الثاني هي الكلي الطبيعي.

٥١٧

فالنتيجة في نهاية المطاف : أنّ الكلي الطبيعي هو الماهية المهملة لا الماهية اللا بشرط المقسمي كما عن السبزواري (١) ولا الماهية اللا بشرط القسمي كما عن شيخنا الاستاذ قدس‌سره (٢) هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : قد ظهر مما تقدم أنّ أسماء الأجناس موضوعة للماهية المهملة دون غيرها.

ومن ناحية ثالثة : قد تبيّن مما ذكرناه أنّ ما ذكره المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (٣) من أنّ الماهية المطلقة لا وجود لها إلاّفي الذهن وأ نّها كلي عقلي خاطئ جداً ، ومنشأ الخطأ تخيّل أنّ لحاظ السريان قد اخذ قيداً لها ، ومن الطبيعي أنّ الماهية المقيدة به لا موطن لها إلاّ الذهن. ولكنّه تخيل فاسد ، فانّ معنى لحاظ سريانها هو لحاظها فانيةً في جميع مصاديقها وأفرادها الخارجية بالفعل من دون أخذ اللحاظ قيداً لها ، فالمعتبر فيها هو واقع السريان الفعلي لا لحاظه الذهني ووجوده في افق النفس ، فمعنى الارسال والاطلاق هو عدم دخل خصوصية من الخصوصيات الخارجية في الحكم الثابت لها ، لما ذكرناه غير مرّة من أنّ معنى الاطلاق هو رفض القيود وعدم دخل شيء منها فيه.

ومن البديهي أنّ السريان الفعلي من لوازم لحاظ الماهية كذلك ، ففي مثل قولنا : النار حارة الملحوظ فيه هو طبيعة النار مطلقة ، أي مرفوضة عنها جميع القيود والخصوصيات وعدم دخل شيء منها في ثبوت هذا الحكم لها وهو الحرارة ، ومن المعلوم أنّ السريان الفعلي وانطباقها على جميع أفرادها الخارجية

__________________

(١) شرح المنظومة ( المنطق ) : ٢١ ـ ٢٢.

(٢) تقدم مصدره في ص ٥١٤.

(٣) كفاية الاصول : ٢٤٤.

٥١٨

بالفعل من لوازم إطلاقها وإرسالها كذلك.

وكذا قولنا : الانسان كاتب بالقوة أو مركب من الروح والبدن حيث لم يلحظ فيه إلاّطبيعة الانسان مطلقة ، أي من دون لحاظ أيّة خصوصية معها كالقصير والطويل والشاب والشيخ والعرب والعجم والذكر والانثى وما شاكل ذلك ، ومن الطبيعي أنّ الانسان الملحوظ كذلك ينطبق على جميع أفراده ومصاديقه بالفعل ، وعليه فالحكم الثابت له لا محالة يسري إلى جميع أفراده في الخارج من دون اعتبار خصوصية من الخصوصيات فيه.

فالنتيجة : أنّ السريان ليس خصوصية وجودية مأخوذة في الماهية لتصبح الماهية المطلقة الماهية بشرط شيء ، بل هو عبارة عن انطباق نفس الماهية على أفرادها في الخارج ولا واقع موضوعي له ما عدا هذا ، وعليه فما أفاده المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره من أنّ الماهية المطلقة غير قابلة للانطباق على الخارجيات حيث لا موطن لها إلاّ الذهن خاطئ جداً ولا واقع له أصلاً ، هذا كلّه في أسماء الأجناس.

وأمّا أعلام الأجناس فقد قال جماعة إنّه لا فرق بينها وبين أسماء الأجناس إلاّ في نقطة واحدة ، وهي أنّ أسماء الأجناس موضوعة للماهية المهملة من جميع الجهات والخصوصيات الذهنية والخارجية ، وأعلام الأجناس موضوعة لتلك الماهية لكن بشرط تعيينها في الذهن ، ومن هنا يعاملوا معها معاملة المعرفة دون أسماء الأجناس.

وقد أورد على هذه النقطة المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) ببيان أنّ أعلام الأجناس لو كانت موضوعةً للماهية المتعينة في الذهن فلازم ذلك أنّها

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٤٤.

٥١٩

بما لها من المعنى غير قابلة للحمل على الخارجيات حيث لا موطن لها إلاّ الذهن ، ومن الطبيعي أنّ ما لا موطن له إلاّ الذهن فهو غير قابل للانطباق على ما في الخارج ، مع أنّه لا شبهة في صحة انطباقها بما لها من المعنى على الخارجيات من دون تصرف ولحاظ تجرد فيها أصلاً ، على الرغم من أنّ الخصوصية الذهنية لو كانت مأخوذةً في معانيها لم يمكن انطباقها عليها بدون التصرف ولحاظ التجرد ، ومن الواضح أنّ صحة الانطباق بدون ذلك تكشف كشفاً قطعياً عن أنّ تلك الخصوصية غير مأخوذة فيها.

هذا مضافاً إلى أنّ وضعها لخصوص معنى يحتاج إلى تجريده عن الخصوصية في مقام الاستعمال لا يصدر عن جاهل فضلاً عن الواضع الحكيم ، حيث إنّه لغو محض ، ومن الطبيعي أنّه لا معنى لوضع لفظ لمعنىً لم يستعمل فيه أبداً.

ومن هنا قال قدس‌سره : التحقيق أنّه لا فرق بين أسماء الأجناس وأعلام الأجناس ، فكما أنّ الاولى موضوعة لصرف الطبيعة من دون لحاظ شيء من الخصوصية ـ الذهنية أو الخارجية ـ معها ، فكذلك الثانية يعني أعلام الأجناس. والدليل على عدم الفرق بينهما ما عرفت من أنّه لا يمكن أن تكون الخصوصية الذهنية مأخوذةً في معناها الموضوع له ، والخصوصية الخارجية مفروضة العدم. فاذن بطبيعة الحال لا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً. وأمّا أنّهم يعاملون معها معاملة المعرفة دون أسماء الأجناس فالظاهر أنّ التعريف فيها لفظي كالتأنيث اللفظي ، فكما أنّ العرب قد تجري على بعض الألفاظ حكم التأنيث مع أنّه ليس فيه تأنيث حقيقةً كلفظ اليد والرجل والاذن والعين وما شاكلها ، فكذلك قد تجري على بعض الألفاظ حكم التعريف وآثاره مع أنّه ليس فيه تعريف أصلاً ، كلفظ اسامة حيث إنّه لا فرق بينه وبين لفظ أسد في المعنى الموضوع له ، فالفرق بينهما إنّما هو من ناحية جريان أحكام التعريف على

٥٢٠