محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-15-2
الصفحات: ٥٧٠

ضرباً للقانون والقاعدة لا يلازم كونه مراداً واقعاً وجداً ، وعليه فلا مانع من كون العموم في هذه العمومات مراداً ظاهراً ويكون الناس مأمورين بالعمل به في مقام الظاهر إلى أن يجيء المخصص له ، فاذا جاء فيكون مخصصاً بالاضافة إلى الارادة الجدية وناسخاً بالاضافة إلى الحكم الظاهري.

ويرد عليه : أنّ هذه العمومات لا تخلو من أن تكون ظاهرةً في إرادة العموم واقعاً وجداً في مقام الاثبات والدلالة أو لا تكون ظاهرةً فيه من جهة نصب قرينة على أنّها مرادة في مقام الظاهر وغير مرادة بحسب مقام الواقع والجد ، يعني أنّ القرينة تدل على أنّها وردت ضرباً للقاعدة بالاضافة إلى الحكم الظاهري دون الواقعي ، ومن الطبيعي أنّ هذه القرينة تمنع عن انعقاد ظهورها في إرادة العموم واقعاً وجداً ، فعلى الأوّل يبقى إشكال قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة بحاله ولا يندفع به الاشكال المزبور ، ضرورة أنّها على هذا الفرض ظاهرة في إرادة العموم واقعاً ، والبيانات المتأخرة عنها الواردة بعد حضور وقت العمل بها على الفرض كاشفة عن عدم إرادة العموم فيها ، وهذا بعينه هو تأخير البيان عن وقت الحاجة. وعلى الثاني فلا ظهور لها في العموم في مقام الاثبات حتى يتمسك به ضرباً للقاعدة ، وعليه فلا يكون حجةً في ظرف الشك.

فالنتيجة : أنّ ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره لدفع الاشكال المذكور لا يرجع إلى معنىً صحيح.

فالتحقيق في المقام أن يقال : إنّ قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة إنّما هو لأحد أمرين لا ثالث لهما :

الأوّل : أنّه يوجب وقوع المكلف في الكلفة والمشقة من دون مقتضٍ لها في

٤٨١

الواقع ، كما إذا افترضنا أنّ العام مشتمل على حكم إلزامي في الظاهر ولكن كان بعض أفراده في الواقع مشتملاً على حكم ترخيصي ، فانّه لا محالة يوجب إلزام المكلف ووقوعه بالاضافة إلى تلك الأفراد المباحة في المشقة والكلفة من دون موجب ومقتضٍ لها ، وهذا من الحكيم قبيح.

الثاني : أنّه يوجب إلقاء المكلف في المفسدة أو يوجب تفويت المصلحة عنه ، كما إذا افترضنا أنّ العام مشتمل على حكم ترخيصي في الظاهر ، ولكن كان بعض أفراده في الواقع واجباً أو محرّماً ، فانّه على الأوّل يوجب تفويت المصلحة الملزمة عن المكلف ، وعلى الثاني يوجب إلقاءه في المفسدة ، وكلاهما قبيح من المولى الحكيم. ولكن من المعلوم أنّ هذا القبيح قابل للرفع ، ضرورة أنّ المصلحة الأقوى إذا اقتضت إلقاء المكلف في المفسدة أو تفويت المصلحة عنه أو إلقاءه في الكلفة والمشقة فلا قبح فيه أصلاً.

فاذن لا يكون قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة كقبح الظلم ليستحيل انفكاكه عنه ، بل هو كقبح الكذب يعني أنّه في نفسه قبيح مع قطع النظر عن طروء أيّ عنوان حسن عليه. فاذا افترضنا أنّ المصلحة تقتضي تأخير البيان عن وقت الحاجة وكانت أقوى من مفسدة تأخيره ، أو كان في تقديم البيان مفسدة أقوى منها فبطبيعة الحال لا يكون تأخيره عندئذ قبيحاً ، بل هو حسن ولازم ، كما هو الحال في الكذب فانّ قبحه إنّما هو في نفسه وذاته مع قطع النظر عن عروض أيّ عنوان حسن عليه.

فاذا فرضنا أنّ إنجاء مؤمنٍ في موردٍ يتوقف عليه لم يكن قبيحاً ، بل هو حسن يلزم العقل به ، وكذا حسن الصدق فانّه ذاتي بمعنى الاقتضاء وأ نّه صفة المؤمن كما في الكتاب العزيز ، ومع ذلك قد يعرض عليه عنوان ذو مفسدة موجب لاتصافه بالقبح كما إذا كان الصدق موجباً لقتل مؤمن أو ما شاكل ذلك ، فانّ

٤٨٢

مثله لا محالة يكون قبيحاً عقلاً ومحرّماً شرعاً ، فما لا ينفك عنه القبح ـ هو الظلم ـ حيث إنّه علة تامة له فيستحيل تحقق عنوان الظلم في مورد بدون اتصافه بالقبح ، كما أنّ حسن العدل ذاتي بهذا المعنى ، أي بمعنى العلة التامة فيستحيل انفكاكه عنه.

فالنتيجة : أنّ قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة بما أنّه ذاتي بمعنى الاقتضاء دون العلة التامة فلا مانع من تأخيره عن وقت الحاجة إذا اقتضته المصلحة الملزمة التي تكون أقوى من مفسدة التأخير ، أو كان في تقديم البيان مفسدة أقوى من مفسدة تأخيره ولا يكون عندئذ قبيحاً.

وبكلمة اخرى : أنّ حال تأخير البيان عن وقت الحاجة في محل الكلام كحال تأخيره في أصل الشريعة المقدّسة ، حيث إنّ بيان الأحكام فيها كان على نحو التدريج واحداً بعد واحد لمصلحة التسهيل على الناس ،

نظراً إلى أنّ بيانها دفعة واحدة عرفية يوجب المشقة عليهم وهي طبعاً توجب النفرة والاعراض عن الدين وعدم الرغبة فيه. ومن الطبيعي أنّ هذا مفسدة تقتضي أن يكون بيانها على نحو التدريج ليرغب الناس فيه رغم أنّ متعلقاتها مشتملة على المصالح والمفاسد من الأوّل ، فتأخير البيان وتدريجيته إنّما هو لمصلحة تستدعي ذلك ـ وهي التسهيل على الناس ورغبتهم في الدين ـ ومن الواضح أنّ هذه المصلحة أقوى من مصلحة الواقع التي تفوت عن المكلف.

ومن هنا قد ورد في بعض الروايات (١) أنّ أحكاماً بقيت عند صاحب الأمر ( عجّل الله تعالى فرجه الشريف ) وهو عليه‌السلام بعد ظهوره يبيّن تلك الأحكام للناس ، ومن المعلوم أنّ هذا التأخير إنّما هو لمصلحة فيه أو لمفسدة في

__________________

(١) بحار الأنوار ٥٢ : ٣٣٨ ، ٣٥٤ ب ٢٧ ح ٨٢ و ١١٤.

٤٨٣

البيان ، وما نحن فيه كذلك حيث إنّه لا مانع من تأخير البيان عن وقت الحاجة عند اقتضاء المصلحة ذلك ، أو كان في تقديم البيان مفسدة ملزمة ، ولا يفرق في ذلك بين تأخيره عن وقت الحاجة في زمان قليل كساعة مثلاً أو أزيد ، فانّه إذا جاز تأخيره لمصلحة ساعةً واحدةً جاز كذلك سنين متطاولة ، ضرورة أنّ قبحه لو كان كقبح الظلم لم يجز تأخيره أبداً حتى في آنٍ واحدٍ ، لاستحالة صدور القبيح من المولى الحكيم.

فالنتيجة في نهاية الشوط : هي أنّه لا مانع من تأخير البيان عن وقت الحاجة إذا كانت فيه مصلحة مقتضية لذلك ، أو كانت في تقديمه مفسدة مانعة عنه.

وعلى ضوء هذه النتيجة يتعين كون الخاص المتأخر الوارد بعد حضور وقت العمل بالعام مخصصاً لا ناسخاً ، وعليه فلا إشكال في تخصيص عمومات الكتاب والسنّة الواردة في عصر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمخصصات الواردة في عصر الأئمة الأطهار عليهم‌السلام حيث إنّ المصلحة تقتضي تأخيرها عن وقت الحاجة والعمل ، أو كانت في تقديمها مفسدة ملزمة تمنع عنه.

الصورة الرابعة : ما إذا ورد العام بعد الخاص وقبل حضور وقت العمل به ، ففي هذه الصورة يتعين كون الخاص المتقدم مخصصاً للعام المتأخر ، حيث إنّه لا مقتضي للنسخ هنا أصلاً ، وإلاّ لزم كون جعل الحكم لغواً محضاً وهو لا يمكن من المولى الحكيم على ما تقدم تفصيله.

الصورة الخامسة : ما إذا ورد العام بعد الخاص وبعد حضور وقت العمل به ، ففي هذه الصورة يقع الكلام في أنّ الخاص المتقدم مخصص للعام المتأخر أو

٤٨٤

أنّ العام المتأخر ناسخ للخاص المتقدم ، وتظهر الثمرة بينهما حيث إنّه على الأوّل يكون الحكم المجعول في الشريعة المقدّسة هو حكم الخاص دون العام ، وعلى الثاني ينتهي حكم الخاص بعد ورود العام ، فيكون الحكم المجعول في الشريعة المقدّسة بعد وروده هو حكم العام.

ذكر المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) أنّ الأظهر أن يكون الخاص مخصصاً وأفاد في وجه ذلك : أنّ كثرة التخصيص في الأحكام الشرعية حتى اشتهر ما من عام إلاّوقد خص وندرة النسخ فيها جداً أوجبتا كون ظهور الخاص في الدوام والاستمرار وإن كان بالاطلاق ومقدمات الحكمة أقوى من ظهور العام في العموم وإن كان بالوضع ، وعليه فلا مناص من تقديمه عليه ، هذا.

وأورد عليه شيخنا الاستاذ قدس‌سره (٢) بما ملخّصه : أنّ دليل الحكم يستحيل أن يكون متكفلاً لاستمرار ذلك الحكم ودوامه أيضاً ، ضرورة أنّ استمرار الحكم في مرتبة متأخرة عن نفس الحكم فلا بدّ من فرض وجود الحكم أوّلاً ثمّ الحكم عليه بالاستمرار كما هو الحال في جميع القضايا الحقيقية التي اخذ الموضوع فيها مفروض الوجود ، وبما أنّ موضوع الاستمرار هو نفس الحكم فلا بدّ من فرض وجوده أوّلاً ثمّ الحكم عليه بالاستمرار.

ومن الطبيعي أنّ دليل الواحد لا يعقل أن يكون متكفلاً لاثبات نفس الحكم وإثبات ما يتوقف على كون ذلك الحكم مفروض الوجود في الخارج وهو استمراره.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٣٧.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٤٠١.

٤٨٥

فاذن لابدّ له في الحكم باستمراره إمّا من الرجوع إلى استصحاب عدم النسخ أو إلى قوله عليه‌السلام : حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله إلخ (١).

ولكن كلا الأمرين غير تام.

أمّا الأوّل : فلأ نّه محكوم بدليل اجتهادي وهو أصالة العموم في المقام ، حيث إنّ الأمر دائر فيه بين التمسك بها والتمسك بأصالة عدم النسخ ، والمفروض أنّ الاولى حاكمة على الثانية نظراً إلى أنّها من الاصول اللفظية ، وتلك من الاصول العملية.

وأمّا الثاني فلأنّ الظاهر منه هو استمرار الشريعة المقدسة إلى يوم القيامة وأ نّها لا تنسخ بشريعة اخرى ، ولا ينافيه نسخ بعض الأحكام وعدم استمراره.

أو فقل : إنّ المراد منه ليس استمرار كل حكم في هذه الشريعة حتى يتمسك بعموم هذا الدليل في كل مورد يشك فيه في استمرار الحكم.

ولنأخذ بالنقد على ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره وهو أنّ الاستمرار مرةً يلاحظ بالاضافة إلى نفس الحكم فحسب ، ومرة اخرى يلاحظ بالاضافة إلى متعلقه وموضوعه ، وما أفاده قدس‌سره من أنّ دليلاً واحداً لا يعقل أن يكون متكفلاً لاثبات نفس الحكم واستمراره معاً إنّما يتم في الفرض الأوّل دون الفرض الثاني ، حيث إنّه لا مانع من استفادة استمرار الحكم من إطلاق متعلقه وموضوعه إذا كان الدليل المتكفل له في مقام البيان كقولنا : لا تشرب الخمر مثلاً فانّه كما يدل باطلاقه على العموم بالاضافة إلى أفراده العرضية يعني كل ما ينطبق عليه عنوان الخمر في الخارج سواء أكان متخذاً

__________________

(١) الكافي ١ : ٥٨ / ١٩.

٤٨٦

من العنب أو التمر أو ما شاكل ذلك ، فالقضية تدل على حرمة شربه كذلك يدل عليه بالاضافة إلى أفراده الطولية يعني بحسب الأزمان لاطلاق المتعلق والموضوع وعدم تقييده بزمان خاص دون زمان ، مع كون المتكلم في مقام البيان.

وإن شئت قلت : إنّ المتكلم كما يلاحظ الاطلاق والتقييد بالاضافة إلى الأفراد العرضية ، وهذا يعني أنّه تارةً يقيّد المتعلق بحصة خاصة منه ككونه متخذاً من العنب مثلاً ، واخرى لا يقيده بها فيلاحظه مطلقاً ومرفوضاً عنه القيود بشتى أشكالها فعندئذ لا مانع من التمسك باطلاقه لاثبات الحكم لجميع ما ينطبق عليه ، كذلك يلاحظ الاطلاق والتقييد بالاضافة إلى الأفراد الطولية ، يعني تارةً يقيده بزمان خاص دون آخر ، واخرى لا يقيده به فيلاحظه مطلقاً بالاضافة إلى جميع الأزمنة ، فعندئذ بطبيعة الحال يدل على دوام الحكم واستمراره من جهة الاطلاق ومقدمات الحكمة فيتمسك به في كل زمان يشك في ثبوت الحكم له. فاذن ما أفاده صاحب الكفاية قدس‌سره من أنّ الخاص يدل على الدوام والاستمرار بالاطلاق ففي غاية الصحة والمتانة من هذه الناحية.

نعم ، يرد على ما أفاده قدس‌سره من أنّ الخاص يتقدم على العام وإن كانت دلالته على الدوام والاستمرار بالاطلاق ومقدمات الحكمة ودلالة العام على العموم بالوضع ، والسبب فيه : هو أنّه لا يمكن الحكم بتقديم الخاص على العام في هذه الصورة ، حيث إنّ العام يصلح أن يكون بياناً على خلاف الخاص ، ومعه كيف تجري مقدمات الحكمة فيه.

وبكلمة اخرى : أنّ دلالة الخاص على الدوام والاستمرار تتوقف على جريان مقدمات الحكمة ، ومن الطبيعي أنّ عموم العام بما أنّه مستند إلى الوضع

٤٨٧

مانع عن جريانها ، فاذن كيف يحكم بتقديم الخاص عليه. وكثرة التخصيص وندرة النسخ فيما إذا دار الأمر بينهما لا توجبان إلاّ الظن بالتخصيص ولا أثر له أصلاً. على أنّ فيما نحن فيه لا يدور الأمر بينهما ، حيث إنّ الخاص هنا لا يصلح أن يكون مخصصاً للعام ، فانّ صلاحيته للتخصيص تتوقف على جريان مقدمات الحكمة ، وهي غير جارية على الفرض ، فعندئذ بطبيعة الحال يقدّم العام على الخاص فيكون ناسخاً له.

ولكن هذا الذي ذكرناه إنّما يتم في الأحكام الصادرة من المولى العرفي ، فانّه إذا صدر منه خاص ثمّ صدر عام بعد حضور وقت العمل به فلا محالة يكون العام ناسخاً للخاص إذا كان ظهوره في العموم مستنداً إلى الوضع وظهور الخاص في الدوام والاستمرار مستنداً إلى الاطلاق ومقدمات الحكمة.

وأمّا في الأحكام الشرعية الصادرة من المولى الحقيقي فهو غير تام ، والسبب في ذلك : هو أنّ الأحكام الشرعية بأجمعها ثابتة في الشريعة الاسلامية المقدّسة حيث إنّها هي ظرف ثبوتها فلا تقدم ولا تأخر بينها في هذا الظرف ، وإنّما التأخر والتقدم بينها في مرحلة البيان ، فقد يكون العام متأخراً عن الخاص في مقام البيان ، وقد يكون بالعكس ، مع أنّه لا تقدم ولا تأخر بينهما بحسب الواقع.

وعلى هذا الضوء فالعام المتأخر الوارد بعد حضور وقت العمل بالخاص وإن كان بيانه متأخراً عن بيان الخاص زماناً ، إلاّ أنّه يدل على ثبوت مضمونه في الشريعة المقدّسة مقارناً لثبوت مضمون الخاص فلا تقدم ولا تأخر بينهما في مقام الثبوت والواقع.

ومن هنا تكشف العمومات الصادرة عن الأئمة الأطهار عليهم‌السلام عن ثبوتها من الأوّل لا من حين صدورها ، ولذا لو صلّى أحد في الثوب النجس

٤٨٨

نسياناً ثمّ بعد مدة مثلاً تذكر وسأل الإمام عليه‌السلام عن حكم صلاته فيه فأجاب عليه‌السلام بالاعادة ، فهل يتوهم أحد أنّه عليه‌السلام في مقام بيان حكم صلاته بعد ذلك لا من الأوّل.

فالنتيجة : أنّ الروايات الصادرة من الأئمة الأطهار عليهم‌السلام من العمومات والخصوصات بأجمعها تكشف عن ثبوت مضامينها من الأوّل ، ولا إشكال في هذه الدلالة والكشف ، ومن هنا يصح نسبة حديث صادر عن الإمام المتأخر إلى الإمام المتقدم كما في الروايات. ومن الطبيعي أنّه لم تكن النسبة صحيحة ، فما فيها من أنّهم عليهم‌السلام جميعاً بمنزلة متكلم واحد إنّما هو ناظر إلى هذا المعنى يعني أنّ لسان جميعهم لسان حكاية الشرع.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّ العام المتأخر زماناً عن الخاص إنّما [ المتأخر ] هو زمان بيانه فحسب لا ثبوت مدلوله ، فانّه مقارن للخاص فلا تقدم ولا تأخر بينهما بحسبه ، مثلاً العام الصادر عن الصادق عليه‌السلام مقارن مع الخاص الصادر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، بل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتأخير إنّما هو في بيانه ، وعليه فلا موجب لتوهم كونه ناسخاً للخاص ، بل لا مناص من جعل الخاص مخصصاً له ، ومن هنا قلنا إنّ العام الصادر عن الصادق عليه‌السلام يصح نسبته إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام.

ومن المعلوم أنّه لو كان صادراً في زمانه عليه‌السلام لم تكن شبهة في كون الخاص مخصصاً له ، فكذا الحال فيما إذا كان صادراً في زمان الصادق عليه‌السلام بعد ما عرفت من أنّه لا أثر للتقدم والتأخر من ناحية البيان وأنّ الصادر في زمانه عليه‌السلام كالصادر في زمان الأمير عليه‌السلام أو

٤٨٩

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن هنا يكون دليل المخصص كاشفاً عن تخصيص الحكم العام من الأوّل لا من حين صدوره وبيانه.

وعلى ضوء هذا البيان يظهر نقطة الفرق بين الأحكام الشرعية والأحكام العرفية ، فانّ صدور الحكم من المولى العرفي لا يدل على ثبوته من الأوّل وإنّما يدل على ثبوته من حين صدوره ، فاذا افترضنا صدور خاص منه وبعد حضور وقت العمل به صدر منه عام فلا محالة يكون العام ظاهراً في نسخه للخاص ، وهذا بخلاف ما إذا صدر حكم المولى الحقيقي في زمان متأخر فانّه يدل على ثبوته من الأوّل لا من حين صدوره ، والتأخير إنّما هو في بيانه لأجل مصلحة من المصالح أو لأجل مفسدة في تقديم بيانه ، ولأجل هذه النقطة تفترق الأحكام الشرعية عن الأحكام العرفية فيما تقدّم من النسخ والتخصيص في بعض الموارد.

فالنتيجة في نهاية المطاف : أنّ المتعيّن هو التخصيص في جميع الصور المتقدمة ولا مجال لتوهم النسخ في شيء منها.

٤٩٠

النسخ

وهو في اللغة (١) بمعنى الازالة ، ومنه نسخت الشمس الظل. وفي الاصطلاح هو رفع أمر ثابت في الشريعة المقدّسة بارتفاع أمده وزمانه ، ولا يفرق فيه بين أن يكون حكماً تكليفياً أو وضعياً. ومنه يظهر أنّ ارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه كارتفاع وجوب الصلاة بخروج وقتها ووجوب الصوم بانتهاء شهر رمضان وهكذا ليس من النسخ في شيء ، والوجه في ذلك : هو أنّا قد ذكرنا غير مرّة أنّ للحكم المجعول في الشريعة المقدّسة مرتبتين :

الاولى : مرتبة الجعل وهي مرتبة ثبوت الحكم في عالم التشريع والانشاء ، وقد ذكرنا في غير مورد أنّ الحكم في هذه المرتبة مجعول على نحو القضايا الحقيقية التي لاتتوقف على وجود موضوعها في الخارج ، فانّ قوام تلك القضايا إنّما هو بفرض وجود موضوعها فيه سواء أكان موجوداً حقيقةً أم لم يكن ، مثلاً قول الشارع : شرب الخمر حرام ليس معناه أنّ هنا خمراً في الخارج وأنّ هذا الخمر محكوم بالحرمة في الشريعة ، بل مردّه هو أنّ الخمر متى ما فرض وجوده في الخارج فهو محكوم بالحرمة فيها سواء أكان موجوداً في الخارج أم لم يكن.

الثانية : مرتبة الفعلية وهي مرتبة ثبوت ذلك الحكم في الخارج بثبوت موضوعه فيه ، مثلاً إذا تحقق الخمر في الخارج تحققت الحرمة المجعولة له في

__________________

(١) المصباح المنير : ٦٠٣.

٤٩١

الشريعة المقدّسة ، ومن الطبيعي أنّ هذه الحرمة تستمر باستمرار موضوعها خارجاً فلا يعقل انفكاكها عنه ، حيث إنّ نسبة الحكم إلى الموضوع من هذه الناحية نسبة المعلول إلى العلة التامة ، وعليه فاذا انقلب الخمر خلاً فبطبيعة الحال ترتفع تلك الحرمة الفعلية الثابتة له في حال خمريته ، ضرورة أنّه لا يعقل بقاء الحكم مع ارتفاع موضوعه وإلاّ لزم الخلف.

وبعد ذلك نقول : إنّ ارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه ليس من النسخ في شيء ولا كلام في إمكانه ووقوعه في الخارج ، وإنّما الكلام في إمكان ارتفاع الحكم عن موضوعه المفروض وجوده في عالم التشريع والجعل.

المعروف والمشهور بين المسلمين هو إمكان النسخ بالمعنى المتنازع فيه ( رفع الحكم عن موضوعه في عالم التشريع والجعل ).

وخالف في ذلك اليهود والنصارى فادعوا استحالة النسخ واستندوا في ذلك إلى شبهةٍ لا واقع موضوعي لها ، وحاصلها : هو أنّ النسخ يستلزم أحد محذورين لايمكن الالتزام بشيء منهما ، إمّا عدم حكمة الناسخ أو جهله وكلاهما مستحيل في حقّه تعالى ، والسبب فيه : أنّ تشريع الأحكام وجعلها منه ( سبحانه وتعالى ) لا محالة يكون على طبق الحكم والمصالح التي هي تقتضيه ، بداهة أنّ جعل الحكم جزافاً وبدون مصلحة ينافي حكمة الباري تعالى فلا يمكن صدوره منه.

وعلى هذا الضوء فرفع الحكم الثابت في الشريعة المقدّسة لموضوعه لا يخلو من أن يكون مع بقاء الحال على ما هو عليه من جهة المصلحة وعلم الناسخ بها ، أو يكون من جهة البداء وكشف الخلاف كما يقع ذلك غالباً في الأحكام والقوانين العرفية ولا ثالث لهما ، والأوّل ينافي حكمة الحكيم المطلق فانّ مقتضى حكمته استحالة صدور الفعل منه جزافاً. ومن المعلوم أنّ رفع الحكم مع بقاء

٤٩٢

مصلحته المقتضية لجعله أمر جزاف فيستحيل صدوره منه. والثاني يستلزم الجهل منه تعالى وهو محال في حقّه سبحانه.

فالنتيجة : أنّ وقوع النسخ في الشريعة المقدّسة بما أنّه يستلزم المحال فهو محال لا محالة.

والجواب عنها : أنّ الأحكام المجعولة في الشريعة المقدّسة من قبل الحكيم تعالى على نوعين :

أحدهما : ما لايراد منه البعث أو الزجر الحقيقيين كالأحكام الصادرة لغرض الامتحان أو ما شاكله. ومن الواضح أنّه لا مانع من إثبات هذا النوع من الأحكام أوّلاً ثمّ رفعه ، حيث إنّ كلاً من الاثبات والرفع في وقته قد نشأ عن مصلحة وحكمة فلا يلزم من رفعه خلاف الحكمة ، لفرض أنّ حكمته ـ وهي الامتحان ـ قد حصلت في الخارج ومع حصولها فلا يعقل بقاؤه ، ولا كشف الخلاف المستحيل في حقّه تعالى حيث لا واقع له غير هذا.

وثانيهما : ما يراد منه البعث أو الزجر الحقيقي ، يعني أنّ الحكم المجعول حكم حقيقي ومع ذلك لا مانع من نسخه بعد زمان ، والمراد من النسخ كما عرفت هو انتهاء الحكم بانتهاء أمده ، يعني أنّ المصلحة المقتضية لجعله تنتهي في ذلك الزمان فلا مصلحة له بعد ذلك ، وعليه فبطبيعة الحال يكون الحكم المجعول على طبقها بحسب مقام الثبوت مقيداً بذلك الزمان الخاص المعلوم عند الله تعالى المجهول عند الناس ، ويكون ارتفاعه بعد انتهاء ذلك الزمان لانتهاء أمده الذي قيّد به في الواقع وحلول أجله الواقعي الذي انيط به ، وليس المراد منه رفع الحكم الثابت في الواقع ونفس الأمر حتى يكون مستحيلاً على الحكيم تعالى العالم بالواقعيات.

٤٩٣

فالنتيجة : أنّ النسخ بالمعنى الذي ذكرناه أمر ممكن جزماً ولايلزم منه شيء من المحذورين المتقدمين ، بيان ذلك : أنّه لا شبهة في دخل خصوصيات الأفعال في ملاكات الأحكام وأ نّها تختلف باختلاف تلك الخصوصيات ، سواء أكانت تلك الخصوصيات زمانية أو مكانية أو نفس الزمان كأوقات الصلاة والصيام والحج وما شاكل ذلك ، فانّ دخلها في الأحكام المجعولة لهذه الأفعال مما لا يشك فيه عاقل فضلاً عن فاضل ، فاذا كانت خصوصيات الزمان دخيلةً في ملاكات الأحكام وأ نّها تختلف باختلافها ، فلتكن دخيلةً في استمرارها وعدمه أيضاً ، ضرورة أنّه لا مانع من أن يكون الفعل مشتملاً على مصلحة في مدة معيّنة وفي قطعة خاصة من الزمان فلايكون مشتملاً عليها بعد انتهاء تلك المدة.

وعليه فبطبيعة الحال يكون جعل الحكم له من الحكيم المطلق العالم باشتماله كذلك محدوداً بأمد تلك المصلحة فلايعقل جعله منه على نحو الاطلاق والدوام ، فاذن لا محالة ينتهي الحكم بانتهاء تلك المدة حيث إنّها أمده.

وعلى الجملة : فاذا أمكن أن يكون لليوم المعيّن أو الاسبوع المعيّن أو الشهر المعيّن دخل في مصلحة الفعل وتأثير فيها أو في مفسدته أمكن دخل السنة المعيّنة أو السنين المعيّنة فيها أيضاً ، فاذا كان الفعل مشتملاً على مصلحة في سنين معيّنة لم يجعل له الحكم إلاّفي هذه السنين فحسب ، فيكون أجله وأمده انتهاء تلك السنين ، فاذا انتهت انتهى الحكم بانتهاء أمده وحلول أجله ، هذا [ بحسب مقام الثبوت ، وأمّا ] بحسب مقام الاثبات ، فالدليل الدال عليه وإن كان مطلقاً إلاّ أنّه كما يمكن تقييد إطلاق الحكم من غير جهة الزمان بدليل منفصل فكذلك يمكن تقييد إطلاقه من جهة الزمان أيضاً بدليل منفصل ، حيث إنّ المصلحة قد تقتضي بيان الحكم على جهة العموم أو الاطلاق ، مع أنّ المراد الجدي هو الخاص أو المقيد والموقت بوقت خاص ويكون بيان التخصيص أو التقييد بدليل منفصل.

٤٩٤

فالنسخ في مقام الثبوت والواقع انتهاء الحكم بانتهاء أمده ، وفي مقام الاثبات رفع الحكم الثابت لاطلاق دليله من حيث الزمان ، ولا يلزم منه خلاف الحكمة ولا كشف الخلاف المستحيل في حقّه تعالى. هذا بناءً على وجهة نظر العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها ، وأمّا على وجهة نظر من يرى تبعية الأحكام لمصالح في أنفسها فالأمر أيضاً كذلك ، فانّ المصلحة الكامنة في نفس الحكم تارةً تقتضي جعله على نحو الاطلاق والدوام في الواقع ، وتارة اخرى تقتضي جعله في زمان خاص ووقت مخصوص فلا محالة ينتهي بانتهاء ذلك الوقت ـ وهذا هو النسخ ـ وإن كان الفعل باقياً على ما هو عليه في السابق ، أو فقل : إنّ في إيجاب شيء تارةً مصلحة في جميع الأزمنة ، واخرى في زمان خاص دون غيره.

فالنتيجة في نهاية الشوط : هي أنّه لا ينبغي الشك في إمكان النسخ بل وقوعه في الشريعة المقدّسة على وجهة نظر كلا المذهبين كمسألة القبلة أو نحوها.

٤٩٥

البداء

قد التزم الشيعة بالبداء في التكوينيات ، وخالف في ذلك العامة (١) وقالوا باستحالة البداء فيها لاستلزامه الجهل على الحكيم تعالى ، ومن هنا نسبوا إلى الشيعة ما هم براء منه ، وهو تجويز الجهل عليه تعالى باعتبار التزامهم بالبداء.

ولكن من الواضح أنّهم لم يحسنوا في الفهم ما هو مراد الشيعة من البداء ولم يتأملوا في كلماتهم حول هذا الموضوع وإلاّ لم ينسبوا إليهم هذا الافتراء الصريح والكذب البيّن. وممّن نسب ذلك إلى الشيعة الفخر الرازي في تفسيره الكبير عند تفسير قوله تعالى : ( يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ) قال : قالت الرافضة البداء جائز على الله تعالى وهو أن يعتقد شيئاً ثمّ يظهر له أنّ الأمر بخلاف ما اعتقده (٢) وهذا كما ترى كذب صريح على الشيعة. وكيف كان فلا يلزم من الالتزام بالبداء الجهل عليه تعالى ، كيف فانّ الشيعة ملتزمون به ، فمع ذلك يقولون باستحالة الجهل عليه سبحانه وتعالى.

وقد ورد في بعض الروايات أنّ « من زعم أنّ الله ( عزّ وجلّ ) يبدو له في شيء لم يعلمه أمس فابرؤوا منه » (٣) وفي بعضها الآخر « فأمّا من قال بأنّ الله

__________________

(١) الإحكام للآمدي ٣ : ١٠٢ ، شرح اللُّمع ١ : ٤٨٥.

(٢) التفسير الكبير ١٩ : ٦٦.

(٣) إكمال الدين : ٧٠.

٤٩٦

تعالى لا يعلم الشيء إلاّبعد كونه فقد كفر وخرج عن التوحيد » (١).

وقد انفقت كلمة الشيعة الإمامية على أنّ الله تعالى لم يزل عالماً قبل أن يخلق الخلق بشتى أنواعه بمقتضى حكم العقل الفطري وطبقاً للكتاب والسنّة ، بيان ذلك : أنّه لا شبهة في أنّ العالم بشتى ألوانه وأشكاله تحت قدرة الله تعالى وسلطانه المطلق ، وأنّ وجود أيّ ممكن من الممكنات فيه منوط بمشيئته تعالى وإعمال قدرته ، فان شاء أوجده وإن لم يشأ لم يوجده ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ الله سبحانه عالم بالأشياء بشتى أنواعها وأشكالها منذ الأزل وأنّ لها بجميع أشكالها تعييناً علمياً في علم الله الأزلي ، ويعبّر عن هذا التعيين بتقدير الله مرّةً وبقضائه مرّة اخرى.

ومن ناحية ثالثة : أنّ علمه تعالى بالأشياء منذ الأزل لا يوجب سلب قدرة الله تعالى واختياره عنها ، ضرورة أنّ حقيقة العلم بشيء الكشف عنه على واقعه الموضوعي من دون أن يوجب حدوث شيء فيه ، فالعلم الأزلي بالأشياء هو كشفها لديه تعالى على واقعها من الاناطة بمشيئة الله واختياره ، فلا يزيد انكشاف الشيء على واقع ذلك الشيء ، وقد فصّلنا الحديث من هذه الناحية في مبحث الجبر والتفويض بشكل موسّع (٢).

فالنتيجة على ضوء هذه النواحي الثلاث : هي أنّ معنى تقدير الله تعالى للأشياء وقضائه بها أنّ الأشياء بجميع ضروبها كانت متعيّنةً في العلم الإلهي منذ الأزل على ما هي عليه من أنّ وجودها معلّق على أن تتعلق المشيئة الإلهية

__________________

(١) الغيبة : ٤٣٠ / ٤٢٠.

(٢) راجع المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص ٤١٨.

٤٩٧

بها حسب اقتضاء الحِكم والمصالح التي تختلف باختلاف الظروف والتي يحيط بها العلم الإلهي.

ومن ضوء هذا البيان يظهر بطلان ما ذهب إليه اليهود من أنّ قلم التقدير والقضاء حينما جرى على الأشياء في الأزل استحال أن تتعلق المشيئة الإلهية بخلافه ، ومن هنا قالوا يد الله مغلولة عن القبض والبسط والأخذ والاعطاء ، ووجه الظهور : ما عرفت من أنّ قلم التقدير والقضاء لا يزاحم قدرة الله تعالى على الأشياء حين إيجادها ، حيث إنّه تعلق بها على واقعها الموضوعي من الاناطة بالمشيئة والاختيار فكيف ينافيها.

ومن الغريب جداً أنّهم ( لعنهم الله ) التزموا بسلب القدرة عن الله ولم يلتزموا بسلب القدرة عن العبد ، مع أنّ الملاك في كليهما واحد ـ وهو العلم الأزلي ـ فانّه كما تعلّق بأفعاله تعالى كذلك تعلّق بأفعال العبيد.

فالنتيجة : أنّهم التزموا بحفظ القدرة لأنفسهم وأنّ قلم التقدير والقضاء لا ينافيها ، وسلب القدرة عن الله تعالى وأنّ قلم التقدير والقضاء ينافيها ، وهذا كما ترى.

وبعد ذلك نقول : إنّ المستفاد من نصوص الباب أنّ القضاء الإلهي على ثلاثة أنواع.

الأوّل : قضاؤه تعالى الذي لم يُطلع عليه أحداً من خلقه حتى نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو العلم المخزون الذي استأثر به لنفسه المعبّر عنه باللوح المحفوظ تارةً وبامّ الكتاب تارةً اخرى. ولا ريب أنّ البداء يستحيل أن يقع فيه ، كيف يتصور فيه البداء وأنّ الله سبحانه عالم بجميع الأشياء بشتى ألوانها منذ الأزل لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة لا في الأرض ولا في السماء ،

٤٩٨

ومن هنا قد ورد في روايات كثيرة أنّ البداء إنّما ينشأ من هذا العلم لا أنّه يقع فيه :

منها : ما رواه الصدوق باسناده عن الحسن بن محمّد النوفلي أنّ الرضا عليه‌السلام قال لسليمان المروزي « رويت عن أبي عن أبي عبدالله عليه‌السلام أنّه قال : إنّ لله ( عزّ وجلّ ) علمين : علماً مخزوناً مكنوناً لا يعلمه إلاّ هو ، من ذلك يكون البداء ، وعلماً علّمه ملائكته ورسله ، فالعلماء من أهل بيت نبيّك يعلمونه » (١).

ومنها : ما عن بصائر الدرجات باسناده عن أبي بصير عن أبي عبدالله عليه‌السلام « قال إنّ لله علمين : علم مكنون مخزون لا يعلمه إلاّهو ، من ذلك يكون البداء ، وعلم علّمه ملائكته ورسله وأنبياءه ونحن نعلمه » (٢).

الثاني : قضاء الله الذي أخبر نبيّه وملائكته بأ نّه سوف يقع حتماً ، ولا شبهة في أنّ هذا القسم أيضاً لا يقع فيه البداء ، ضرورة أنّ الله تعالى لا يكذّب نفسه ورسله وملائكته وأولياءه ، فلا فرق بينه وبين القسم الأوّل من هذه الناحية. نعم ، يفترق عنه من ناحية اخرى وهي أنّ هذا القسم لا ينشأ منه البداء دون القسم الأوّل.

وتدل على ذلك عدة روايات :

منها : قوله عليه‌السلام في الرواية المتقدمة عن الصدوق « إنّ علياً عليه‌السلام كان يقول : العلم علمان ، فعلم علّمه الله ملائكته ورسله ، فما

__________________

(١) التوحيد : ٤٤٣.

(٢) بصائر الدرجات : ١٠٩ / ٢.

٤٩٩

علّمه ملائكته ورسله فانّه يكون ولا يكذّب نفسه ولا ملائكته ولا رسله ، وعلم عنده مخزون لم يُطلع عليه أحداً من خلقه يقدّم منه ما يشاء ويؤخر ما يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء » (١).

ومنها : ما روى العياشي عن الفضيل قال : « سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : من الامور امور محتومة جائية لا محالة ، ومن الامور امور موقوفة عند الله يقدّم منها ما يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء لم يُطلع على ذلك أحداً ـ يعني الموقوفة ـ فأمّا ما جاءت به الرسل فهي كائنة لا يكذّب نفسه ولا نبيّه ولا ملائكته » (٢).

الثالث : قضاء الله الذي أخبر نبيّه وملائكته بوقوعه في الخارج لا بنحو الحتم ، بل معلّقاً على أن لا تتعلق مشيئة الله على خلافه ، وفي هذا القسم يقع البداء عنه بعالم المحو والاثبات وإليه أشار بقوله : ( يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ )(٣) ، ( لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ )(٤) وقد دلت على ذلك عدة نصوص :

منها : ما في تفسير علي بن إبراهيم عن عبدالله بن مسكان عن أبي عبدالله عليه‌السلام « قال : إذا كان ليلة القدر نزلت الملائكة والروح والكتبة إلى سماء الدنيا فيكتبون ما يكون من قضاء الله تعالى في تلك السنة ، فاذا أراد الله أن يقدّم شيئاً أو يؤخّره أو ينقص شيئاً أمر الملك أن يمحو ما يشاء ثمّ أثبت الذي

__________________

(١) التوحيد : ٤٤١ ـ ٤٤٤.

(٢) تفسير العياشي ٢ : ٢١٧ / ٦٥.

(٣) الرعد ١٣ : ٣٩.

(٤) الروم ٣٠ : ٤.

٥٠٠