محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-15-2
الصفحات: ٥٧٠

فالنتيجة : أنّه لا بأس بهذه الثمرة.

نتائج البحوث المتقدمة عدّة نقاط :

الاولى : أنّ ما ذكره المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره وتبعه فيه شيخنا الاستاذ قدس‌سره من الفرق بين الفحص في المقام والفحص في موارد الاصول العملية ، فانّ الفحص هنا عن وجود المزاحم والمانع مع ثبوت المقتضي ، وأمّا الفحص هناك إنّما هو عن ثبوت أصل المقتضي لها ، لا يمكن المساعدة عليه ، لما عرفت من أنّه لا فرق بين الفحص فيما نحن فيه والفحص هناك.

الثانية : أنّ ما هو المعروف والمشهور بين الأصحاب من عدم جواز التمسك بعموم العام قبل الفحص هو الصحيح وإن كان ما استدلوا عليه من الوجوه مخدوشة بتمامها.

الثالثة : قد يستدل على وجوب الفحص بالعلم الاجمالي بوجود مخصصات ومقيدات ، وهذا العلم الاجمالي أوجب لزوم الفحص عنها ، حيث إنّ أصالة العموم لا تجري ما لم ينحل العلم الاجمالي بالظفر بالمقدار المعلوم. وناقش في انحلال هذا العلم الاجمالي شيخنا الاستاذ قدس‌سره وقد تقدم بشكل موسّع أنّ العلم الاجمالي ينحل ، وما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من عدم الانحلال لا يرجع إلى معنىً محصّل ، وبالتالي ذكرنا أنّ العلم الاجمالي لا يصلح أن يكون مدركاً لوجوب الفحص.

الرابعة : أنّ الدليل على وجوب الفحص بعينه هو الدليل على وجوبه في موارد الاصول العملية ، وقد ذكرنا هناك أنّ الدليل عليه أمران : أحدهما حكم العقل بذلك. وثانيهما : الآيات والروايات الدالتان على وجوب التعلم والفحص.

٤٤١

الخامسة : أنّ النزاع المعقول في شمول الخطابات الشفاهية للمعدومين والغائبين إنّما هو في وضع أدوات الخطاب وأ نّها موضوعة للدلالة على عموم الألفاظ الواقعة عقيبها للمعدومين والغائبين ، أو موضوعة للدلالة على اختصاصها بالحاضرين فحسب. ثمّ إنّه لا يمكن أن يكون النزاع في توجيه الخطاب إلى المعدومين والغائبين حقيقةً فانّه غير معقول ، نعم توجيه الخطاب إليهم انشاءً أو بداع آخر كاظهار العجز أو التحسر أو نحو ذلك أمر معقول.

السادسة : ذكرنا للمسألة ثمرتين :

الاولى : أنّه على القول بعموم الخطاب للغائبين بل المعدومين فالظواهر حجة بالخصوص ، وعلى القول بعدم عمومه فلا تكون حجةً عليهم كذلك. وأورد على هذه الثمرة صاحب الكفاية قدس‌سره بأ نّها تبتني على مقدمتين ، وكلتاهما خاطئة.

الثانية : أنّه على القول بعموم الخطاب يجوز التمسك بعمومات الكتاب والسنّة بالاضافة إلى الغائبين والمعدومين ، وعلى القول بعدم عمومه لا يجوز التمسك بها. وهذه الثمرة لا بأس بها ، ولا يرد عليها ما أورده المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره.

٤٤٢

تعقّب العام بضمير

إذا عقّب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده ، فبطبيعة الحال يدور الأمر بين التصرف في العام بالالتزام بتخصيصه وبين التصرف في الضمير بالالتزام بالاستخدام فيه ، ومثّلوا لذلك بقوله تعالى : ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ) إلى قوله تعالى : ( وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ )(١) فانّ كلمة المطلّقات تعمّ الرجعيات وغيرها ، والضمير في قوله تعالى : ( وَبُعُولَتُهُنَّ ) يرجع إلى خصوص الرجعيات ، حيث إنّ حقّ الرجوع للزوج إنّما ثبت فيها دون غيرها من المطلّقات ، فاذن يقع الكلام في أنّ المرجع في المقام هل هو أصالة العموم أم أصالة عدم الاستخدام أم لا هذا ولا ذاك؟ وجوه بل أقوال.

اختار المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) القول الأخير ، وأفاد في وجه ذلك ما توضيحه : لا يمكن الرجوع في المقام لا إلى أصالة العموم ولا إلى أصالة عدم الاستخدام. أمّا أصالة العموم فلأنّ تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده يصلح أن يمنع عن انعقاد ظهوره فيه ، حيث إنّ ذلك داخل في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية بنظر العرف ، ومعه لا ظهور له حتى يتمسك به إلاّعلى القول باعتبار أصالة الحقيقة تعبداً وهو غير ثابت جزماً. وأمّا أصالة عدم الاستخدام فلأنّ الأصل اللفظي إنّما يكون متبعاً ببناء العقلاء فيما إذا

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٢٨.

(٢) كفاية الاصول : ٢٣٣.

٤٤٣

شك في مراد المتكلم من اللفظ ، وأمّا إذا كان المراد معلوماً وكان الشك في كيفية إرادته وأ نّها على نحو الحقيقة أو المجاز فلا أصل هناك لتعيّنها.

وعلى الجملة : فالاصول اللفظية بشتى أشكالها إنّما تكون حجةً في تعيين المراد من اللفظ فحسب ، دون كيفية إرادته من عموم أو خصوص وحقيقة أو مجاز ، لفرض عدم بناء من العقلاء على العمل بها لتعيينها وإنّما بناؤهم على العمل بها في تعيين المراد عند الشك فيه ، وبما أنّ المراد من الضمير فيما نحن فيه معلوم والشك إنّما هو في كيفية استعماله وأ نّه على نحو الحقيقة أو المجاز ، فلا يمكن التمسك بأصالة عدم الاستخدام لاثبات كيفية استعماله ، لعدم بناء من العقلاء على العمل بها في هذا المورد على الفرض ، والدليل الآخر غير موجود.

فالنتيجة لحدّ الآن : هي عدم جريان كلا الأصلين في المقام ، لكن كلّ بملاك ، فانّ أصالة العموم بملاك اكتناف العام بما يصلح للقرينية ، وأصالة عدم الاستخدام بملاك أنّ الشك فيها ليس في المراد وإنّما هو في كيفية استعماله ، فاذن لا مناص من القول بالتوقف في المسألة من هذه الناحية ، هذا.

ولكن قد اختار شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) القول الأوّل وهو جريان أصالة العموم دون أصالة عدم الاستخدام ، وقد أفاد في وجه ذلك وجوهاً :

الأوّل : أنّ الاستخدام في الضمير إنّما يلزم فيما إذا اريد من المطلّقات في الآية الكريمة معناها العام ومن الضمير الراجع إليها خصوص الرجعيات منها ، ومن الواضح أنّ هذا يقوم على أساس أن يكون العام بعد التخصيص مجازاً ، إذ على هذا يكون للعام معنيان : أحدهما معنىً حقيقي وهو جميع ما يصلح أن ينطبق عليه مدخول أداة العموم. وثانيهما معنىً مجازي وهو الباقي من أفراده بعد

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٦٩ ـ ٣٧٠.

٤٤٤

تخصيصه ، وعليه فبطبيعة الحال إذا اريد بالعام معناه الحقيقي وبالضمير الراجع إليه معناه المجازي لزم الاستخدام. وأمّا بناءً على ما هو الصحيح من أنّ العام لا يكون مجازاً بعد التخصيص فلا يكون له إلاّمعنىً واحد حقيقي وليس له معنىً آخر ليراد من الضمير الراجع إليه معنىً مغاير لما اريد من نفسه كي يلزم الاستخدام.

ويرد على هذا الوجه : أنّ لزوم الاستخدام في طرف الضمير لا يتوقف على كون العام مجازاً بعد التخصيص ، ضرورة أنّه لو اريد من العام جميع أفراده ومن الضمير الراجع إليه بعضها فهو استخدام وإن لم يستلزم كون العام مجازاً ، حيث إنّه خلاف الظاهر ، فانّ الظاهر اتحاد المراد من الضمير وما يرجع إليه ، وملاك الاستخدام هو أن يكون على خلاف هذا الظهور ولأجل ذلك يحتاج إلى قرينة ، وإذا لم تكن فالأصل يقتضي عدمه ، فالمراد من أصالة عدم الاستخدام هو هذا الظهور.

الثاني : أنّ أصالة عدم الاستخدام لا تجري في نفسها ولو مع قطع النظر عن معارضتها بأصالة العموم ، والسبب في ذلك ما أشرنا إليه في ضمن البحوث السالفة (١) من أنّ أصالة الظهور إنّما تكون حجةً إذا كان الشك في مراد المتكلم ، وأمّا إذا كان المراد معلوماً وكان الشك في كيفية إرادته من أنّه على نحو الحقيقة أو المجاز فلا تجري. وما نحن فيه من هذا القبيل فانّ أصالة عدم الاستخدام إنّما تجري إذا كان الشك فيما اريد بالضمير ، وأمّا إذا كان المراد به معلوماً والشك في الاستخدام وعدمه إنّما هو من ناحية الشك فيما اريد بالمرجع فلا مجال لجريانها أصلاً.

__________________

(١) في ص ٣٩٢.

٤٤٥

ويرد على هذا الوجه : أنّ المراد بالضمير في المقام وإن كان معلوماً ، إلاّ أنّ من يدعي جريان أصالة عدم الاستخدام لا يدّعي ظهور نفس الضمير في إرادة شيء ليرد عليه ما أفاده قدس‌سره ، بل إنّما هو يدعي ظهور الكلام بسياقه في اتحاد المراد بالضمير وما يرجع إليه ، يعني ظهور الضمير في رجوعه إلى عين ما ذكر أوّلاً ، لا إلى غير ما اريد منه ، وحيث إنّ المراد بالضمير في مورد الكلام معلوم ، فبطبيعة الحال يدور الأمر بين رفع اليد عن الظهور السياقي الذي مردّه إلى عدم إرادة العموم من العام ورفع اليد عن أصالة العموم التي تقتضي الالتزام بالاستخدام.

ولكنّ الظاهر بحسب ما هو المرتكز في أذهان العرف في أمثال المقام هو تقديم أصالة عدم الاستخدام ورفع اليد عن أصالة العموم ، بل الأمر كذلك بنظرهم حتى فيما إذا دار الأمر بين رفع اليد عن أصالة عدم الاستخدام ورفع اليد عن ظهور اللفظ في كون المعنى المراد به المعنى الحقيقي ، يعني يلزم في مثل ذلك أيضاً رفع اليد عن ظهور اللفظ في إرادة المعنى الحقيقي وحمله على إرادة المعنى المجازي ، مثلاً في مثل قولنا : رأيت أسداً وضربته يتعيّن حمله على إرادة المعنى المجازي وهو الرجل الشجاع إذا علم أنّه المراد بالضمير الراجع إليه.

فالنتيجة في نهاية الشوط : هي أنّ أصالة عدم الاستخدام تتقدم بنظر العرف على أصالة العموم فيما إذا دار الأمر بينهما.

الثالث : أنّنا لو سلّمنا جريان أصالة عدم الاستخدام مع العلم بالمراد ، إلاّ أنّها إنّما تجري فيما إذا كان الاستخدام من جهة عقد الوضع ، كما إذا قال المتكلم :

رأيت أسداً وضربته وعلمنا أنّ مراده بالضمير هو الرجل الشجاع واحتملنا أن يكون المراد بلفظ الأسد الحاكي عما وقع عليه الرؤية هو الرجل الشجاع

٤٤٦

أيضاً لئلاّ يلزم الاستخدام ، وأن يكون المراد به الحيوان المفترس ليلزم ذلك ، ففي مثل ذلك نسلّم جريان أصالة عدم الاستخدام دون أصالة العموم فيثبت بها أنّ المراد بلفظ الأسد في المثال هو الرجل الشجاع دون الحيوان المفترس.

وأمّا فيما نحن فيه فليس ما استعمل فيه الضمير هو خصوص الرجعيات ، بل الضمير قد استعمل فيما استعمل فيه مرجعه يعني كلمة المطلّقات في الآية الكريمة ، فالمراد بالضمير فيها إنّما هو مطلق المطلّقات ، وإرادة خصوص الرجعيات منها إنّما هي بدال آخر ـ وهو عقد الحمل في الآية ـ فانّه يدل على كون الزوج أحق برد زوجته.

فالنتيجة : أنّ ما استعمل فيه الضمير هو بعينه ما استعمل فيه المرجع ، وعليه فأين الاستخدام في الكلام لتجري أصالة عدمه فتعارض بها أصالة العموم ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ ما أفاده المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره من أنّه لا يمكن الرجوع في المقام إلى أصالة العموم أيضاً من جهة اكتناف الكلام بما يصلح للقرينية خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً ، وذلك لأنّ الملاك في مسألة احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية إنّما هو اشتمال الكلام على لفظ مجمل من حيث المعنى بحيث يصح اتكال المتكلم عليه في مقام بيان مراده كما في مثل قولنا : أكرم العلماء إلاّ الفسّاق منهم إذا افترضنا أنّ لفظ الفاسق يدور أمره بين خصوص مرتكب الكبيرة أو الأعم منه ومن مرتكب الصغيرة ، فلا محالة يسري إجماله إلى العام.

ولكن هذا خارج عن ما نحن فيه ، فانّ ما نحن فيه هو ما إذا كان الكلام متكفلاً لحكمين متغايرين كما في الآية الكريمة حيث إنّ الجملة المشتملة على

٤٤٧

العام متكفلة لحكم ـ وهو لزوم التربص والعدة ـ والجملة المشتملة على الضمير متكفلة لحكمٍ آخر مغاير له ـ وهو أحقية الزوج بالرجوع إلى الزوجة في مدة التربص والعدة ـ والحكم الأوّل ثابت لجميع أفراد العام ، والحكم الثاني ثابت لبعض أفراده ، ومن الواضح أنّ ثبوت الحكم الثاني لبعض أفراده لا يكون قرينةً على اختصاص الحكم الأوّل به أيضاً ، ضرورة أنّه لا صلة له به من هذه الناحية أصلاً ، كيف حيث قد عرفت أنّه حكم مغاير له.

وإن شئت قلت : إنّه لا مانع من أن يكون العام بجميع أفراده محكوماً بحكم وببعضها محكوماً بحكم آخر مغاير للأوّل ، ولا مقتضي لكون الثاني قرينة على تخصيص الأوّل بوجه ، وهذا بخلاف ما إذا كان الكلام متكفلاً لحكم واحد كالمثال المتقدم حيث إنّ إجمال المخصص فيه يسري إلى العام لا محالة.

إلى هنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة : وهي أنّ المقام غير داخل في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية.

ويرد على هذا الوجه : أنّ ما أفاده قدس‌سره من كون الضمير في الآية الكريمة مستعملاً في العموم وإن كان في غاية الصحة والمتانة ، حيث إنّ قيام الدليل الخارجي على عدم جواز الرجوع إلى بعض أقسام المطلّقات في أثناء العدة لا يوجب استعمال الضمير في الخصوص ، أعني به خصوص الرجعيات من أقسام المطلّقات ، وذلك لما حققناه في ضمن البحوث السالفة (١) من أنّ التخصيص لا يستلزم كون العام مجازاً ، إلاّ أنّ ما أفاده قدس‌سره من كون الدال على اختصاص الحكم بالرجعيات هو عقد الحمل المذكور في الآية الكريمة وهو قوله تعالى : ( أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ) حيث إنّه يدل على كون الزوج أحق

__________________

(١) في ص ٣١٨.

٤٤٨

برد زوجته ، خاطئ جداً.

والسبب فيه : أنّ الآية المباركة تدل على أنّ الحكم المذكور فيها عام لجميع المطلّقات بشتى ألوانها وأشكالها من دون اختصاصه بقسم خاص منها ، فليس فيها ما يدل على الاختصاص ، فالاختصاص إنّما ثبت بدليل خارجي ولأجل ذلك يكون حاله حال المخصص المنفصل ، يعني أنّه لا يستلزم كون اللفظ مستعملاً في خصوص ما ثبت له الحكم في الواقع.

وبكلمة اخرى : أنّ الآية الكريمة قد تعرّضت لثبوت حكمين للمطلّقات :

أحدهما لزوم التربص والعدة لهنّ. وثانيهما أحقية الزوج بردّ زوجته ، فلو كنّا نحن والآية المباركة لقلنا بعموم كلا الحكمين لجميع أقسام المطلّقات ، حيث ليس فيها ما يدل على الاختصاص ببعض أقسامهنّ ، وإنّما ثبت ذلك بدليل خارجي ، فقد دلّ دليل من الخارج على أنّ الحكم الثاني خاص بالرجعيات فحسب دون غيرها من أقسام المطلّقات.

كما أنّ الدليل الخارجي قد دلّ على أنّ الحكم الأوّل خاص بغير اليائسة ومن لم يدخل بها ، فاذن بطبيعة الحال كما أنّ لفظ المطلّقات في الآية استعمل في معنىً عام والتخصيص إنّما هو بدليل خارجي وهو لايوجب استعماله في الخاص ، كذلك الحال في الضمير فانّه استعمل في معنىً عام والتخصيص إنّما هو من جهة الدليل الخارجي وهو لا يوجب استعماله في الخاص.

وأمّا ما أفاده قدس‌سره من أنّ المقام غير داخل في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية وإن كان تاماً كما عرفت تفصيله بشكل موسّع في ضمن كلامه قدس‌سره إلاّ أنّ هنا نكتة اخرى وهي تمنع عن التمسك بأصالة العموم ، وتلك النكتة هي التي أشرنا إليها سابقاً من أنّ المرتكز العرفي في أمثال

٤٤٩

المقام هو الأخذ بظهور الكلام في اتحاد المراد من الضمير مع ما يرجع إليه ورفع اليد عن ظهور العام في العموم ، يعني أنّ ظهور الكلام في الاتحاد يكون قرينةً عرفيةً لرفع اليد عن أصالة العموم ، إذ من الواضح أنّ أصالة العموم إنّما تكون متبعةً فيما لم تقم قرينة على خلافها ، ومع قيامها لا مجال لها.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهاتين النتيجتين :

الاولى : أنّ الصحيح في المسألة هو القول الثاني ، يعني الأخذ بأصالة عدم الاستخدام دون أصالة العموم ، لما عرفت من النكتة فيه. وعليه ففي كل مورد إذا فرض دوران الأمر بين الالتزام بالاستخدام ورفع اليد عن أصالة العموم ، كان اللازم هو رفع اليد عن أصالة العموم وإبقاء ظهور الكلام في عدم الاستخدام.

الثانية : أنّ الآية الكريمة أو ما شاكلها خارجة عن موضوع المسألة ، حيث إنّ موضوع المسألة هو ما إذا استعمل الضمير الراجع إلى العام في خصوص بعض أقسامه فدار الأمر بين الالتزام بالاستخدام ورفع اليد عن أصالة العموم ، وقد عرفت أنّ الضمير الراجع إلى العام في الآية المباركة غير مستعمل في خصوص بعض اقسامه ، بل هو مستعمل في العام ، والتخصيص إنّما هو من جهة الدليل الخارجي وهو لا يوجب كونه مستعملاً في خصوص الخاص.

ثمّ إنّه هل يكون لهذه المسألة صغرىً في الفقه أم لا؟ الظاهر عدمها ، حيث إنّه لم يوجد في القضايا المتكفلة ببيان الأحكام الشرعية مورد يدور الأمر فيه بين رفع اليد عن أصالة العموم ورفع اليد عن أصالة عدم الاستخدام ، وعلى هذا الضوء فلا تترتب على البحث في هذه المسألة ثمرة في الفقه.

٤٥٠

تعارض المفهوم مع العموم

هل يقدّم المفهوم على العموم أو بالعكس أو لا هذا ولا ذاك؟ فيه وجوه.

قيل : بتقدم العموم على المفهوم بدعوى أنّ دلالة العام على العموم ذاتية أصلية ودلالة اللفظ على المفهوم تبعية ، ومن الطبيعي أنّ الدلالة الأصلية تتقدم على الدلالة التبعية في مقام المعارضة.

ويرد عليه : أنّ دلالة اللفظ على المفهوم لا تخلو من أن تكون مستندةً إلى الوضع أو إلى مقدمات الحكمة فلا ثالث لهما.

وبكلمة اخرى : قد تقدم في مبحث المفاهيم (١) أنّ دلالة القضية على المفهوم إنّما هي من ناحية دلالتها على خصوصية مستتبعة له ، ومن المعلوم أنّ دلالتها على تلك الخصوصية إمّا من جهة الوضع أو من جهة مقدمات الحكمة ، والمفروض أنّ دلالة العام على العموم أيضاً لا تخلو من أحد هذين الأمرين ، يعني الوضع أو مقدمات الحكمة ، فاذن ما هو معنى أنّ دلالة العام على العموم أصلية ودلالة القضية على المفهوم تبعية. فالنتيجة : أنّه لم يظهر لنا معنىً محصّل لذلك.

وقيل : بتقدم المفهوم على العموم ولا سيما إذا كان من المفهوم الموافق ، ببيان أنّ دلالة القضية على المفهوم عقلية ودلالة العام على العموم لفظية ، فلا يمكن

__________________

(١) في ص ١٩٨ وما بعدها.

٤٥١

رفع اليد عن المفهوم من جهة العموم. وبتعبير واضح أنّ المفهوم لازم عقلي للخصوصية التي كانت في المنطوق ، ومن الطبيعي أنّه لا يعقل رفع اليد عنه من دون أن يرفع اليد عن تلك الخصوصية ، ضرورة استحالة انفكاك اللازم عن الملزوم ، ومن المعلوم أنّ رفع اليد عن تلك الخصوصية بلا موجب ، لفرض أنّها ليست طرفاً للمعارضة مع العام ، وما هو طرف لها ـ وهو المفهوم ـ فرفع اليد عنه بدون رفع اليد عنها غير معقول. أو فقل : إنّ رفع اليد عن المفهوم بدون التصرف في المنطوق مع أنّ المفروض لزوم المفهوم له أمر غير ممكن ، والتصرف في المنطوق ورفع اليد عنه مع أنّه ليس طرفاً للمعارضة بلا مقتضٍ وموجب ، وعليه فلا محالة يتعين التصرف في العموم وتخصيصه بغير المفهوم.

ويرد عليه : أنّ التعارض بين المفهوم والعام يرجع في الحقيقة إلى التعارض بين المنطوق والعام ، والسبب فيه : أنّ المفهوم كما عرفت لازم عقلي للخصوصية الموجودة في طرف المنطوق ، ومن الطبيعي أنّ انتفاء الملزوم كما يستلزم انتفاء اللازم كذلك انتفاء اللازم يستلزم انتفاء الملزوم ، فلا يعقل انفكاكٌ بينهما لا ثبوتاً ولا نفياً ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ القضية التي هي ذات مفهوم فقد دلت على تلك الخصوصية بالمطابقة وعلى لازمها بالالتزام ، غاية الأمر إن كان اللازم موافقاً للقضية في الايجاب والسلب سمي ذلك بالمفهوم الموافق ، وإن كان مخالفاً لها في ذلك سمي بالمفهوم المخالف.

ومن ناحية ثالثة : أنّ الدليل المعارض قد يكون معارضاً للملزوم ويسمى ذلك بالمعارض للمنطوق ، وقد يكون معارضاً للازم ويسمى ذلك بالمعارض للمفهوم ، ولكن على كلا التقديرين يكون معارضاً لكليهما معاً ، ضرورة أنّ ما يكون معارضاً للملزوم ويدل على نفيه فلا محالة يدل على نفي لازمه أيضاً ،

٤٥٢

وكذا بالعكس ، أي ما يكون معارضاً للازم ويدل على نفيه ، فبطبيعة الحال يدل على نفي ملزومه أيضاً ، لما أشرنا إليه آنفاً من أنّ نفي الملزوم كما يستلزم نفي اللازم ، كذلك نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم ، إلاّ أن يكون اللازم أعم من الملزوم أو أخص منه ، فعندئذ لا ملازمة بينهما. وأمّا إذا كان اللازم لازماً مساوياً له كما هو الحال في المفهوم حيث إنّه لازم مساوٍ للمنطوق فلا يعقل رفع اليد عنه بدون رفع اليد عن المنطوق ، لأنّ مردّه إلى انفكاك اللازم عن الملزوم وهو مستحيل.

فالنتيجة على ضوء هذه النواحي الثلاث : هي أنّ العام المعارض للمفهوم بعمومه ـ كما هو مفروض مسألتنا هذه ـ فهو في الحقيقة معارض للمنطوق ويدل على نفيه ، نظراً إلى ما عرفت من أنّ التصرف في المفهوم ورفع اليد عنه بدون التصرف في المنطوق ورفع اليد عنه غير ممكن حتى يعقل كونه طرفاً للمعارضة مستقلاً ، فاذا افترضنا أنّ العام بعمومه يكون منافياً للمفهوم فبطبيعة الحال يكون منافياً للمنطوق أيضاً ولا محالة يمنع عن دلالة القضية على الخصوصية المستتبعة له ( المفهوم ) وإلاّ فلا يعقل كونه منافياً له ومانعاً عن دلالة القضية عليه بدون منعه عن دلالتها على تلك الخصوصية ، لاستلزام ذلك انفكاك اللازم عن الملزوم وهو مستحيل. فاذن المعارضة في الحقيقة لا تعقل إلاّ بينه وبين المنطوق كما هو الحال في جميع موارد يكون الدليل معارضاً للمفهوم ، هذا.

وقد فصّل المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره في المقام وإليك نصّه : وتحقيق المقام أنّه إذا ورد العام وما له المفهوم في كلام أو كلامين ولكن على نحو يصلح أن يكون كل منهما قرينةً للتصرف في الآخر ، ودار الأمر بين تخصيص العموم أو إلغاء المفهوم ، فالدلالة على كل منهما إن كانت بالاطلاق

٤٥٣

بمعونة مقدمات الحكمة أو بالوضع فلا يكون هناك عموم ولا مفهوم ، لعدم تمامية مقدمات الحكمة في واحد منهما لأجل المزاحمة ، كما في مزاحمة ظهور أحدهما وضعاً لظهور الآخر كذلك ، فلا بدّ من العمل بالاصول العملية فيما دار فيه بين العموم والمفهوم ، إذا لم يكن مع ذلك أحدهما أظهر ، وإلاّ كان مانعاً عن انعقاد الظهور أو استقراره في الآخر. ومنه قد انقدح الحال فيما إذا لم يكن بين ما دلّ على العموم وما له المفهوم ذاك الارتباط والاتصال ، وأ نّه لا بدّ أن يعامل مع كل منهما معاملة المجمل لو لم يكن في البين أظهر ، وإلاّ فهو المعوّل والقرينة على التصرف في الآخر بما لا يخالفه بحسب العمل (١).

أقول : ما أفاده قدس‌سره يحتوي على نقطتين :

الاولى : أن يكون العام وما له المفهوم في كلام واحد أو في كلامين يكونان بمنزلة كلام واحد ، فعندئذ لا يخلوان من أن تكون دلالة كل منهما على مدلوله بالاطلاق ومقدمات الحكمة أو بالوضع ، أو إحداهما بالوضع والاخرى بالاطلاق ومقدمات الحكمة.

فعلى الأوّل والثاني لا ينعقد الظهور لشيء منهما ، أمّا على الأوّل فلأنّ انعقاد ظهور كل منهما في مدلوله يرتكز على تمامية مقدمات الحكمة فيه ، والمفروض أنّها غير تامة في المقام ، حيث إنّ كلاً منهما مانع عن جريانها في الآخر. وأمّا على الثاني فلفرض أنّ كلاً منهما يصلح أن يكون قرينةً على الآخر ، وعليه فيدخل المقام في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية ، ومعه لا محالة لا ينعقد الظهور لشيء منهما. إذن يكون المرجع في مورد المعارضة هو الاصول العملية.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٣٣ ـ ٢٣٤.

٤٥٤

وعلى الثالث فما كانت دلالته بالوضع يتقدم على ما كانت دلالته بالاطلاق ومقدمات الحكمة ، حيث إنّ ظهوره في مدلوله لا يتوقف على شيء ، دون ذاك فانّه يتوقف على جريان مقدمات الحكمة وهي غير جارية في المقام ، لفرض أنّ ظهوره في مدلوله مانع عن جريانها.

الثانية : أن يكونا في كلامين منفصلين ، وعندئذ فتارةً تكون دلالة كل منهما على مدلوله بالاطلاق ومقدمات الحكمة ، واخرى تكون بالوضع ، وثالثةً تكون إحداهما بالوضع والاخرى بالاطلاق ومقدمات الحكمة.

فعلى الفرض الأوّل والثاني لا موجب لتقديم أحدهما على الآخر إلاّ إذا كان ظهور أحدهما أقوى من الآخر على نحو يكون بنظر العرف قرينةً على التصرف فيه ، فحينئذ يتقدم عليه كما إذا كان أحدهما خاصاً والآخر عاماً.

وعلى الفرض الثالث يتقدم ما كانت دلالته بالوضع على ما كانت دلالته بالاطلاق ومقدّمات الحكمة كما هو ظاهر ، هذا.

والصحيح في المقام هو التفصيل بشكل آخر غير هذا الذي أفاده صاحب الكفاية قدس‌سره وسوف يظهر ما فيه من المناقشة والاشكال في ضمن بيان ما اخترناه من التفصيل ، بيان ذلك : أنّك عرفت أنّ التعارض في الحقيقة إنّما هو بين منطوق القضية وعموم العام لا بينه وبين مفهومها فحسب كما هو ظاهر ، وعليه فلا بدّ من ملاحظة النسبة بينهما ، ومن الطبيعي أنّ النسبة قد تكون عموماً من وجه ، وقد تكون عموماً مطلقاً. أمّا على الأوّل فقد ذكرنا في تعارض الدليلين بالعموم من وجه أنّه إذا كان أحدهما ناظراً إلى موضوع الآخر ورافعاً له دون العكس فلا إشكال في تقديمه عليه من دون ملاحظة النسبة بينهما ، لفرض أنّ ما كان ناظراً إلى موضوع الدليل الآخر حاكم عليه.

٤٥٥

ومن الواضح أنّه لا تلاحظ النسبة بين دليلي الحاكم والمحكوم كما لا تلاحظ بقية المرجحات ، لفرض أنّه لا تعارض بينهما في الحقيقة ، كما هو الحال في تقديم مفهوم آية النبأ على عموم العلة فيها ، حيث إنّ الآية الكريمة على تقدير دلالتها على المفهوم ـ وهو حجية خبر العادل ـ تكون حاكمةً على عموم العلة ونحوها ، فانّ المفهوم يرفع موضوع العام فلا يكون العمل بخبر العادل بعد ذلك من إصابة القوم بجهالة ومن العمل بغير العلم ، حيث إنّه علم شرعاً بمقتضى دلالة الآية ، ومعه كيف يكون عموم العلة مانعاً عن ظهورها في المفهوم ، ضرورة أنّ العلة بعمومها لا تنظر إلى أفرادها ومصاديقها في الخارج لا وجوداً ولا عدماً ، يعني أنّها لا تقتضي وجودها فيه ولا تقتضي عدمها ، حيث إنّ شأنها شأن بقية القضايا الحقيقية فلا تدل إلاّعلى ثبوت الحكم لأفراد موضوعها على تقدير ثبوتها في الخارج.

ومن هنا لا يمكن التمسك بعمومها في مورد إلاّبعد إحراز أنّه من أفرادها ومصاديقها كما هو الحال في غيرها من العمومات ، فاذا كان هذا حال عموم العلة أو ما شاكلها فكيف يكون مانعاً عن انعقاد ظهور الآية في المفهوم ، لوضوح أنّ ظهورها فيه يمنع عن كون مورد المفهوم فرداً للعام ، وقد عرفت أنّه لا نظر لها إلى كون هذا المورد فرداً لها أو لا ، فاذن كيف يعقل أن يكون مزاحماً لما يدل على كون هذا المورد ليس فرداً لها. أو فقل : إنّ جواز التمسك بعموم العام في مورد لاثبات حكمه له يتوقف على كون ذلك المورد في نفسه فرداً للعام ، والمفروض أنّ كونه فرداً له يتوقف على عدم دلالة القضية على المفهوم وإلاّ لم يكن فرداً له ، ومعه كيف يعقل أن يكون عموم العام مانعاً عن دلالتها عليه وإلاّ لزم الدور ، نظراً إلى أنّ عموم العام يتوقف على كون المورد في نفسه فرداً للعام وهو يتوقف على عدم دلالة القضية على المفهوم ، فلو كان

٤٥٦

ذلك متوقفاً على عموم العام لزم الدور لا محالة.

ثمّ إنّه لا فرق في ذلك بين كون العام متصلاً بما له المفهوم في الكلام وكونه منفصلاً عنه ، فانّه على كلا التقديرين يتقدم المفهوم على العام ، حيث إنّ النكتة التي ذكرناها لتقديمه عليه لا يفرق فيها بين الصورتين.

وأمّا إذا لم يكن أحدهما حاكماً على الآخر ، فعندئذ إن كان تقديم أحدهما على الآخر موجباً لالغاء العنوان المأخوذ في موضوعه دون العكس تعيّن العكس ويكون ذلك من أحد المرجّحات عند العرف ، ولنأخذ لذلك بمثالين :

أحدهما : أنّ ما دلّ على اعتصام ماء البئر وعدم انفعاله بالملاقاة كصحيحة ابن بزيع (١) معارض بما دلّ على انفعال الماء القليل كمفهوم قوله عليه‌السلام : « إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء » (٢) بيان ذلك : أنّ الاستدلال بالصحيحة على اعتصام ماء البئر تارةً بملاحظة التعليل الوارد فيها وهو قوله عليه‌السلام : « لأنّ له مادة » واخرى : بملاحظة صدرها بدون حاجة إلى ضم التعليل الوارد فيها وهو قوله عليه‌السلام : « ماء البئر واسع لا يفسده شيء ».

أمّا إذا كان الاستدلال فيها بلحاظ التعليل فهو خارج عن مورد كلامنا هنا ، حيث إنّ التعليل يكون أخص مطلقاً من المفهوم ، لأنّ المفهوم يدل بالالتزام على انحصار ملاك الاعتصام ببلوغ الماء حدّ الكر ، وينفي وجوده عن غيره ، والتعليل نص في أنّ المادة ملاك للاعتصام وهو صريح في النظر إلى الماء القليل ، ضرورة أنّه لا معنى لتعليل اعتصام الكثير بالمادة.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧٢ / أبواب الماء المطلق ب ١٤ ح ٦.

(٢) الوسائل ١ : ١٥٨ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ١ ( مع اختلاف ).

٤٥٧

ولا فرق في ذلك بين أن يكون التعليل في الصحيحة مسوقاً ابتداءً لبيان اعتصام ماء البئر ، وأن يكون مسوقاً كذلك لبيان ارتفاع النجاسة عنه بعد زوال التغير ، حيث إنّ المتفاهم العرفي بالمناسبات الارتكازية أنّ سببية المادة لارتفاع النجاسة عنه إنّما هي من آثار سببيتها لاعتصامه وعدم انفعاله بالملاقاة ، لا أنّ مطهريتها له تعبد من الشارع من دون كونها سبباً لاعتصامه.

ودعوى أنّ مطهرية المادة لماء البئر أو نحوه لا تختص بالقليل بل تعم الكثير أيضاً ، فلو كانت المطهرية من آثار سببيتها للاعتصام لاختصت بالقليل باعتبار اختصاص سببيتها به حيث لا معنى لكونها سبباً لاعتصام الكثير خاطئة جداً فانّ الاختصاص ليس من ناحية قصور في المادة وأ نّها لا تصلح أن تكون سبباً لاعتصام الكثير ، بل من ناحية عدم قابلية المحل حيث إنّ المعتصم في نفسه غير قابل للاعتصام بسبب خارجي ، وبما أنّ الكثير معتصم في نفسه فيستحيل أن يقبل الاعتصام ثانياً بسبب خارجي كالمادة. واحتمال أنّ عدم انفعال ماء البئر بالملاقاة إنّما هو من ناحية اعتصامه في نفسه كما هو مقتضى صدر الصحيحة لا من ناحية وجود المادة فيه مدفوع بأنّ هذا الاحتمال خلاف الارتكاز ، حيث إنّ العرف لا يرى بالمناسبات الارتكازية خصوصيةً في ماء البئر بها يمتاز عن غيره مع قطع النظر عن وجود المادة فيه ، فامتيازه عن غيره إنّما هو بوجودها ، ومن هنا قلنا إنّ المتفاهم العرفي من الصحيحة أنّ سبب اعتصامه إنّما هو المادة.

وعلى الجملة : أنّ احتمال دخل خصوصية عنوان البئر في اعتصامه في نفسه غير محتمل جزماً ، ضرورة أنّ العرف لا يرى فرقاً بين الماء الموجود في باطن الأرض كالبئر والموجود في سطحها مع غضّ النظر عن المادة.

فالنتيجة في نهاية الشوط : هي أنّ التعليل في الصحيحة وإن فرضنا أنّه

٤٥٨

مسوق ابتداءً لبيان ارتفاع النجاسة عن ماء البئر بعد زوال التغير ، إلاّ أنّ العرف يرى بالمناسبات الارتكازية أنّ سببية المادة لطهارته وارتفاع النجاسة عنه إنّما هي من آثار سببيتها لاعتصامه ، ولازم ذلك أنّ التعليل فيها مطلقاً بحسب مقام اللب والواقع راجع إلى اعتصامه وعدم انفعاله بالملاقاة كما هو محط البحث والنظر ، وإن كان بحسب ظاهر القضية راجعاً إلى ارتفاع النجاسة عنه ، وعليه فلا يبقى مجال للنزاع في أنّ التعليل راجع إلى اعتصامه أو إلى ارتفاع النجاسة عنه.

ومن ضوء ما بيّناه من النكتة يظهر خطأ ما قيل من أنّ التعليل إذا افترضنا أنّه راجع إلى بيان ارتفاع النجاسة دون الاعتصام قابل للتقييد بالكثير ، نظراً إلى أنّه باطلاقه حينئذ يشمل ما إذا كان ماء البئر قليلاً ، وبنكتة أنّ الرفع يستلزم أولوية الدفع بالمناسبة الارتكازية العرفية يدل على اعتصامه أيضاً. أو فقل : إنّ سببية المادة لارتفاع النجاسة عنه يستلزم سببيّتها لاعتصامه وعدم انفعاله بالملاقاة بالأولوية ، باعتبار أنّ الدفع أهون من الرفع عرفاً. وعلى هذا فلا محالة يعارض إطلاقه مع إطلاق ما يدل على انفعال الماء القليل بالملاقاة ، فانّ مقتضى إطلاق التعليل بلحاظ النكتة المزبورة أنّ الماء القليل إذا كان له مادة لا ينفعل بالملاقاة ، فيكون معارضاً لما دلّ على انفعاله ولا يكون أخص منه ، فعندئذ يمكن تقييد إطلاق التعليل بخصوص الكثير ، يعني أنّ مطهرية المادة تختص بما إذا كان الماء في نفسه كثيراً.

والسبب في خطأ ذلك : أنّ هذا التقييد مضافاً إلى أنّه خلاف الارتكاز جزماً ، حيث إنّ المرتكز عرفاً بمناسبة الحكم والموضوع أنّه لا فرق في مطهرية المادة بين كون الماء كثيراً في نفسه وكونه قليلاً ولا يرون للكثرة أيّة دخل في المطهرية ، أو فقل : إنّ العرف بمقتضى المناسبات الارتكازية يرون الملازمة في

٤٥٩

مطهرية المادة بين كون الماء المطهر ـ بالفتح ـ كثيراً في نفسه وكونه قليلاً فلا يمكن التفكيك بينهما في نظرهم ، أنّ ذلك التقييد إنّما يمكن فيما إذا لم يكن ارتفاع النجاسة عنه بالمادة من آثار سببيتها لاعتصامه ، وأمّا إذا كان من آثارها كما استظهرناه بمقتضى الفهم العرفي فلا يمكن هذا التقييد ، لما عرفت من أنّ سببيّتها للاعتصام تختص بخصوص القليل ، حيث لا معنى لتعليل اعتصام الكثير بالمادة فيكون أخص مطلقاً من دليل انفعال القليل.

وبكلمة اخرى : أنّ للمادة أثرين : الأوّل كونها سبباً للاعتصام. الثاني : كونها سبباً لارتفاع النجاسة ، ودليل انفعال الماء القليل إنّما يكون معارضاً للتعليل باعتبار أثرها الأوّل دون أثرها الثاني كما هو ظاهر ، وقد عرفت أنّه بهذا الاعتبار ـ أي باعتبار أثرها الأوّل ـ أخص منه مطلقاً فلا محالة يخصصه بغير مورده.

وأمّا إن كان الاستدلال فيها بلحاظ صدر الصحيحة مع قطع النظر عن التعليل الوارد في ذيلها ، نظراً إلى أنّه لا مانع من الاستدلال به على طهارة ماء البئر وعدم انفعاله بالملاقاة ولو كان قليلاً ، فهو حينئذ لا محالة يكون معارضاً بالعموم من وجه مع ما دلّ على انفعال الماء القليل ، سواء أكان راكداً أو بئراً ، ويتعين عندئذ تقديم إطلاق صدر الصحيحة على إطلاق دليل الانفعال في مورد الالتقاء والاجتماع ، بنكتة أنّنا إذا قدّمنا الصدر فلا يلزم منه إلغاء عنوان الماء القليل عن الموضوعية للانفعال رأساً ، بل يلزم منه تضييق دائرة دليل الانفعال وتقييده بغير ماء البئر ، وهذا لا مانع منه.

وأمّا إذا عكسنا الأمر وقدّمنا إطلاق دليل انفعال الماء القليل على صدر الصحيحة ، فهو يستلزم إلغاء عنوان البئر عن الموضوعية للاعتصام رأساً ، حيث لا يكون عندئذ فرق بين ماء البئر وغيره من المياه أصلاً ، فانّ اعتصام الجميع

٤٦٠