محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-15-2
الصفحات: ٥٧٠

وبكلمة اخرى : أنّ تنجيز العلم الاجمالي يتوقف على تعارض الاصول في أطرافه ، بتقريب أنّ جريانها في الجميع مستلزم للمخالفة القطعية العملية ، وفي البعض دون الآخر ترجيح من غير مرجّح ، فلا محالة تسقط في الجميع ، وأمّا إذا افترضنا أنّه لا يلزم من جريانها في أطرافه المخالفة القطعية العملية التي هي المانع الوحيد عنه فلا يكون العلم الاجمالي منجّزاً ، وحينئذ لا مانع من جريانها فيها. وما نحن فيه كذلك حيث إنّه لا مانع من جريان أصالة الطهارة في الاناءات الباقية بأجمعها ، لفرض عدم لزوم المخالفة القطعية العملية منه التي هي ملاك المعارضة بين جريانها فيها الموجبة لسقوطها ، فاذا جرت أصالة الطهارة فيها فبطبيعة الحال ينحل العلم الاجمالي فيصبح وجوده كعدمه.

وفي نهاية الشوط قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة ، وهي أنّه بناءً على أساس نظريته قدس‌سره من أنّ العلم الاجمالي يكون مقتضياً للتنجيز لا العلة التامة كما قوّينا أيضاً هذه النظرية ، لا يفرق بين كون المعلوم بالاجمال ذا علامة وتعيّن في الواقع وما لا علامة وتعيّن له ، وما له العلامة لا يفرق فيه بين أن يكون مردداً بين الأقل والأكثر وما لا يكون مردداً بينهما ، فانّ العلم الاجمالي في جميع هذه الصور ينحل بالظفر بالمقدار المعلوم ، يعني أنّه لا مانع بعد ذلك من الرجوع إلى الاصول فيما عدا هذا المقدار المتيقن تفصيلاً ، حيث إنّ المانع من الرجوع إليها في أطرافه إنّما هو وقوع المعارضة بينها ، وحيث إنّ منشأه لزوم المخالفة القطعية العملية وهي غير لازمة في المقام في تمام هذه الشقوق [ فلا مانع من الرجوع إلى الاصول ].

وقد تحصّل من مجموع ما ذكرناه : أنّ العلم الاجمالي بوجود المخصصات أو المقيدات لا يصلح أن يكون ملاكاً لوجوب الفحص ، وإلاّ لكان لازمه عدم وجوبه بعد انحلاله مع أنّ الأمر ليس كذلك.

٤٢١

وأمّا النقطة الرابعة : فقد ظهر خطؤها مما ذكرناه ، فانّ مجرد العلم الاجمالي بكون مقدار الدين مضبوطاً في الدفتر لا يوجب الاحتياط والفحص بعد الظفر بالمقدار المتيقن ثبوته ، لفرض أنّه قد انحل بعد الظفر بهذا المقدار إلى قضية متيقنة وقضية مشكوك فيها.

ومجرد كون المعلوم بالاجمال هنا ذا علامة وتعيّن في الواقع لا يمنع عن انحلاله كما عرفت آنفاً ، ولا سيّما فيما إذا كان مردداً بين الأقل والأكثر كما هو كذلك في المثال ، فانّه ينحل لا محالة بالظفر بالمقدار المتيقن.

وعليه فوجوب الفحص عن الزائد على هذا المقدار يحتاج إلى دليل آخر يدل عليه بعد عدم الاطمئنان باشتمال الدفتر على الزائد عنه.

ومن هنا لو لم يتمكن من الرجوع إلى الدفتر لضياعه أو نحو ذلك لم يجب عليه الاحتياط جزماً بأداء ما يقطع معه بفراغ الذمة واقعاً ، بل يرجع إلى أصالة البراءة بالاضافة إلى الزائد على المقدار المعلوم والمتيقن ، لفرض الشك في اشتغال الذمة به ، وهذا دليل على أنّ العلم الاجمالي المزبور لا يكون منجّزاً للواقع على ما هو عليه.

ثمّ إنّ شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) بيّن وجهاً آخر لوجوب الفحص وحاصله : هو أنّ حجية أصالة العموم إنّما هي لكشفها عن مراد المتكلم في الواقع وهو متقوّم بجريان مقدمات الحكمة في مدخوله التي تكشف عن عدم دخل قيدٍ مّا في مراده ، نظراً إلى أنّ أداة العموم إنّما وضعت للدلالة على عموم ما يراد من مدخولها ولا تكون متكفلةً لبيان أنّ المراد من مدخولها هو الطبيعة المطلقة دون المقيدة ، فانّ إثبات ذلك يتوقف على جريان مقدمات الحكمة كما

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٦٠ ـ ٣٦١.

٤٢٢

تقدم ذلك في ضمن البحوث السالفة موسّعاً ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : حيث إنّنا قد علمنا بعد مراجعة الأدلة الشرعية أنّ طريقة الشارع قد استقرت على إبراز مراداته وبيان مقاصده من ألفاظه الصادرة منه في هذا المقام بالقرائن المنفصلة حتى قيل إنّه لم يوجد عام في الكتاب والسنّة إلاّوقد ورد عليه تخصيص منفصل عنه ، لا يكون للعمومات الواردة فيهما ظهور تصديقي كاشف عن المراد قبل الفحص عن مخصصاتها. ومن الطبيعي أنّ ما لم يكن لها هذا الظهور ، يعني الظهور التصديقي الكاشف عن المراد قبل الفحص عنها ، لا محالة لا تكون حجةً يصح الاعتماد عليها.

وعلى ضوء هذا العلم ، يعني العلم بأنّ ديدن الشارع قد استقر على ذلك ، فقد انهدم أساس جريان مقدمات الحكمة في مدخول الأداة أي أداة العموم ، فانّها إنّما تجري في مدخول العمومات التي يكون المتكلم بها في مقام بيان مراداته منها ، ولم تستقر سيرته على بيان مقاصده بالقرائن المنفصلة كما هو الحال في عمومات الكتاب والسنّة حيث إنّها واردة في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومخصصاتها قد وردت في عصر الأئمّة عليهم‌السلام ، وكذا الحال في العمومات الصادرة منهم عليهم‌السلام ، فان بناءهم ليس على إبراز مقاصدهم ومراداتهم في مجلس واحد لمصلحة دعت إلى ذلك أو لمفسدة في البيان.

ومن الطبيعي أنّ هذا العلم أوجب هدم أساس المقدمات فلا يعقل جريانها في مدخول مثل هذه العمومات ، لفرض أنّ من مقدمات الحكمة عدم نصب المتكلم القرينة على الخلاف ، فاذا علمنا من الخارج أنّ ديدن هذا المتكلم قد جرى على نصب القرينة المنفصلة على الخلاف فكيف تجري المقدمات في كلامه ، فاذا لم تجر المقدمات لم ينعقد له ظهور تصديقي في العموم حتى يكون

٤٢٣

كاشفاً عن مراده الجدي في الواقع.

فالنتيجة : أنّ عدم جواز التمسك بالعمومات أو المطلقات الواردة في الكتاب أو السنّة قبل الفحص إنّما هو لأجل هذه النكتة.

ولنأخذ بالنقد على هذا الوجه بأمرين :

الأوّل : ما ذكرناه سابقاً بشكل موسّع (١) من أنّ أداة العمومات بنفسها متكفلة لاثبات إطلاق مدخولها ، يعني أنّها تدل بمقتضى وضعها على تسرية الحكم إلى جميع ما يمكن أن ينطبق عليه مدخولها من دون حاجة إلى إجراء مقدمات الحكمة فيه.

الثاني : سوف ما نذكره إن شاء الله تعالى في مبحث المطلق والمقيد أنّ مقدمات الحكمة إنّما تجري لاثبات ظهور المطلق في الاطلاق ، فاذا صدر كلام مطلق عن متكلم في مجلس ولم يصدر منه قرينة على الخلاف جرت مقدمات الحكمة فيه ، وبها يثبت ظهوره في الاطلاق والعلم بأنّ سيرة المتكلم قد جرت على إبراز مراداته ومقاصده بالقرائن المنفصلة ، وليس بناؤه على إبرازها في مجلس واحد لا يمنع عن جريان مقدمات الحكمة في كلامه إذا لم ينصب قرينةً متصلةً على الخلاف ، والسبب فيه واضح هو أنّ القرينة المنفصلة لا تمنع عن انعقاد ظهور المطلق في الاطلاق ، وإنّما هي تمنع عن حجية ظهوره فيه ، والمفروض أنّ جريان مقدمات الحكمة إنّما هو لاثبات ظهوره فلا يكون العلم المزبور مانعاً عنه.

وعلى الجملة : فبناءً على تسليم نظريته قدس‌سره من أنّ دلالة أدوات العموم على إرادته من مدخولها تتوقف على جريان مقدمات الحكمة فيه ، فما

__________________

(١) في ص ٣٠٧.

٤٢٤

أفاده قدس‌سره في المقام غير تام ، فانّ القرائن المنفصلة لا تمنع عن جريان مقدمات الحكمة في المطلق لاثبات ظهوره في الاطلاق ، والمانع عنه إنّما هو القرينة المتصلة ، فالمراد من عدم البيان الذي هو من إحدى مقدماتها هو عدم البيان المتصل لا المنفصل ، فلا يتوقف انعقاد ظهوره في الاطلاق على عدم بيانه أيضاً.

وعليه فلا محالة ينعقد ظهور العام في العموم ، مع أنّ لازم ما أفاده قدس‌سره هو عدم جواز التمسك بالعموم فيما إذا كان المخصص المنفصل مجملاً ، حيث إنّه يصلح أن يكون مانعاً عن جريان مقدمات الحكمة في مدخوله ، فاذا لم تجر لم ينعقد ظهور العام في العموم.

أو فقل : إنّ عمومات الكتاب والسنّة لا تخلو من أن ينعقد لها ظهور في العموم ولا يتوقف انعقاده فيه على عدم وجود القرائن المنفصلة أو لا ينعقد لها ظهور فيه.

فعلى الأوّل لا بدّ من التزام شيخنا الاستاذ قدس‌سره بعدم وجوب الفحص ، حيث إنّ ملاكه على ما ذكره قدس‌سره إنّما هو عدم ظهورٍ لها في العموم ، فاذا افترضنا أنّ الظهور لها قد انعقد فيه فلا مقتضي له بعد ذلك.

وعلى الثاني لا بدّ له من الالتزام بعدم جواز التمسك بها حتى فيما إذا كان المخصص المنفصل مجملاً ، ضرورة أنّه لو توقف انعقاد ظهور العام في العموم على عدم البيان أصلاً حتى المنفصل فبطبيعة الحال لا يفرق في المخصص المجمل بين كونه متصلاً أو منفصلاً ، فكما أنّ إجمال الأوّل يسري إلى العام ويمنع عن انعقاد ظهوره في العموم ، فكذلك الاجمال الثاني مع أنّه قدس‌سره غير ملتزم به.

٤٢٥

إلى هنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة وهي أنّ هذه الوجوه التي ذكرت لوجوب الفحص لا يتم شيء منها.

فالصحيح في المقام أن يقال : إنّ ما دلّ على وجوب الفحص عن الحجة في موارد الاصول العملية بعينه هو الدليل على وجوبه في موارد الاصول اللفظية ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً ، فالملاك لوجوبه في كلا البابين واحد ، وذكرنا هناك أنّ ما دلّ على وجوبه أمران :

الأوّل : حكم العقل بذلك حيث إنّه يستقل بأنّ وظيفة المولى ليست إلاّ تشريع الأحكام وإظهارها على المكلفين بالطرق العادية ولا يجب عليه تصدّيه لجميع ما له دخل في الوصول إليهم بحيث يجب على المولى إيصال التكليف إلى العبد ولو بغير الطرق العادية المتعارفة إذا امتنع العبد من الاطلاع على تكاليف مولاه بتلك الطرق ، كما أنّه يستقل بأن وظيفة العبد إنّما هي الفحص عن تكاليف المولى التي جعلها وأظهرها بالطرق العادية لئلاّ يقع في مخالفتها ، ضرورة أنّه لو لم يتصدّ للفحص عنها وتمسك بأصالة البراءة أو استصحاب العدم في كل مورد احتمل التكليف فيه لزم إبطال فائدة بعث الرسل وإنزال الكتب حيث لا يمكن الوصول إلى تلك التكاليف إلاّبالفحص.

وعلى الجملة : فالعقل كما يستقل بوجوب النظر إلى المعجزة وإلاّ لزم إفحام جميع الأنبياء والأوصياء ، كذلك يستقل بوجوب الفحص في مقام الرجوع إلى البراءة أو الاستصحاب ، فالملاك لاستقلاله في كلا الموردين واحد ، والسر في ذلك ما عرفت من أنّه لايجب على المولى إيصال الأحكام والتكاليف التي جعلها في الشريعة المقدّسة إلى العباد بالطرق غير العادية ، فالواجب عليه بيانها بالطرق المتعارفة العادية بحيث يتمكن المكلف من الوصول إليها بالمراجعة والفحص ،

٤٢٦

فلو لم يفحص ووقع في مخالفتها لم يكن معذوراً.

وهذا الوجه بعينه جارٍ في موارد الرجوع إلى الاصول اللفظية ، فانّ المكلف لو تمسك بها بدون الفحص عن القرائن على خلافها مع علمه بأنّ بيان الأحكام الشرعية كان على نحو التدريج وبالطرق العادية المتعارفة لوقع في مخالفة تلك الأحكام كثيراً ولا يكون معذوراً ، حيث إنّ العقل يرى أنّ وظيفته هي الفحص عن القرائن المحتملة في الواقع وأ نّه لو تفحّص عنها لوصل إليها لو كانت موجودة ، ومعه كيف يكون معذوراً.

فالنتيجة : أنّ وظيفة المولى بيان الأحكام بالطرق العادية ووظيفة العبد الفحص عن تلك الأحكام ، بلا فرق في ذلك بين موارد الاصول العملية والاصول اللفظية.

الثاني : الآيات والروايات الدالتان على وجوب التعلم والفحص ، أمّا الاولى : فمنها قوله تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )(١) ومنها قوله تعالى : ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ) إلخ (٢) وغيرهما من الآيات. وأمّا الثانية : فمنها قوله عليه‌السلام : « إنّ الله تعالى يقول لعبده في يوم القيامة هلاّ عملت؟ فقال : ما علمت ، فيقول : هلاّ تعلّمت » (٣) وغيرها من الروايات.

ومن الواضح أنّ هذا الوجه لا يختص بموارد الرجوع إلى الاصول العملية ،

__________________

(١) النحل ١٦ : ٤٣.

(٢) التوبة ٩ : ١٢٢.

(٣) بحار الأنوار ٢ : ٢٩ ، ١٨٠.

٤٢٧

بل يعمّ غيرها من موارد الرجوع إلى الاصول اللفظية أيضاً ، ضرورة أنّه لا يكون في الآيات والروايات ما يوجب اختصاصهما بها.

فالنتيجة : أنّهما لا تختصان بمورد دون مورد وتدلان على وجوب التعلم والفحص مطلقاً ، بلا فرق بين موارد الاصول العملية وموارد الاصول اللفظية ، هذا تمام الكلام في أصل وجوب الفحص.

وأمّا مقداره فهل يجب الفحص على المكلف بمقدار يحصل له العلم الوجداني بعدم وجود المخصص أو المقيد في مظانه وإن احتمل وجوده في الواقع ، أو بمقدار يحصل له الاطمئنان بذلك ، أو لا هذا ولا ذاك ، بل يكفي تحصيل الظن به؟ فيه وجوه.

أمّا الأوّل : فهو غير لازم جزماً ، لأنّ تحصيل العلم الوجداني بعدم وجوده بالفحص يتوقف على الفحص في جميع الكتب المحتمل وجوده فيها وإن لم يكن الكتاب من كتب الحديث ، ومن الطبيعي أنّ هذا يحتاج إلى وقت طويل ، بل لعلّه لا يفي العمر بالفحص كذلك في باب واحد من أبواب الفقه فضلاً عن جميع الأبواب ، هذا مضافاً إلى عدم الدليل على وجوبه كذلك.

وأمّا الثاني : فهو الصحيح ، نظراً إلى أنّه حجة فيجوز الاكتفاء به ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ تحصيله لكل من يتصدى لاستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها بمكان من الامكان ، نظراً إلى أنّ الاطمئنان يحصل بعدم وجوده بالفحص عنه في الأبواب المناسبة ، ولا يتوقف على الفحص في الزائد عليها ، والمفروض أنّ تحصيل الزائد على مرتبة الاطمئنان غير واجب.

وأمّا الثالث : فلا يجوز الاكتفاء به لعدم الدليل بعد ما لم يكن حجة شرعاً.

فالنتيجة : أنّ المقدار الواجب من الفحص هو ما يحصل الاطمئنان منه بعدم

٤٢٨

وجود المخصص أو المقيد في مظانه دون الزائد ، ولا أثر لاحتمال وجوده في الواقع بعد ذلك ، كما أنّه لا يجوز الاكتفاء بما دونه يعني الظن لعدم الدليل عليه.

ولصاحب الكفاية قدس‌سره (١) في المقام كلام وحاصله : هو أنّ عمومات الكتاب والسنّة بما أنّها كانت في معرض التخصيص فالمقدار اللازم من الفحص هو ما به يخرج عن المعرضية له.

وغير خفي أنّ ما أفاده قدس‌سره لا يرجع بظاهره إلى معنىً محصّل ، فانّ تلك العمومات إذا كانت في معرض التخصيص لم تخرج عن المعرضية بالفحص عن مخصصاتها ، لأنّ الشيء لا ينقلب عمّا هو عليه ، بل القطع الوجداني بعدم المخصص لها لا يوجب خروجها عن المعرضية فضلاً عن الاطمئنان ، ولعلّه قدس‌سره أراد الاطمئنان من ذلك.

وكيف كان ، فالصحيح ما ذكرناه من أنّ الفحص الواجب إنّما هو بمقدار يحصل منه الاطمئنان بالعدم دون الزائد عليه.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٢٦.

٤٢٩

الخطابات الشفاهية

ذكر المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) أنّ النزاع فيها يتصور على وجوه :

الأوّل : أن يكون النزاع في أنّ التكليف المتكفل له الخطاب هل يمكن تعلقه بالمعدومين أو الغائبين أو يختص بالحاضرين في مجلس الخطاب؟ ولا يفرق فيه بين كون الخطاب شفاهياً أو غيره كقوله تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )(٢) وقوله تعالى : ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(٣) وما شاكلها.

الثاني : أن يكون النزاع في إمكان المخاطبة مع المعدومين أو الغائبين وعدم إمكانها ، يعني أنّه هل يمكن توجيه الخطاب إليهما أم لا؟ فالنزاع على هذين الوجهين يكون عقلياً.

الثالث : أن يكون في وضع أدوات الخطاب ، يعني أنّها موضوعة للدلالة على عموم الألفاظ الواقعة عقيبها للمعدومين والغائبين أو موضوعة للدلالة على اختصاصها بالحاضرين في مجلس الخطاب.

وبعد ذلك نقول : الذي ينبغي أن يكون محلاً للنزاع هو هذا الوجه يعني الوجه الأخير دون الوجهين الأوليّن ، لأنّهما غير قابلين لأن يجعلا محلاً للنزاع والكلام.

أمّا الأوّل : فلأنّ جعل التكليف بمعنى البعث أو الزجر الفعلي لا يعقل ثبوته

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٢٧ ـ ٢٢٨.

(٢) آل عمران ٣ : ٩٧.

(٣) البقرة ٢ : ٢٧٥.

٤٣٠

للمعدومين بل للغائبين ، ضرورة أنّه يقتضي ثبوت موضوعه في الخارج ـ وهو العاقل البالغ القادر ـ والتفاته إلى التكليف حتى يكون فعلياً في حقّه وإلاّ استحال فعليته.

وأمّا جعل التكليف بمعنى الانشاء وإبراز الأمر الاعتباري على نحو القضية الحقيقية فثبوته للمعدومين فضلاً عن الغائبين بمكان من الامكان ، لوضوح أنّه لا بأس بجعل التكليف كذلك للموجودين والمعدومين معاً ، حيث إنّ الموضوع فيها قد اخذ مفروض الوجود ولا مانع من فرض وجود الموضوع وجعل الحكم له ، سواء أكان موجوداً حقيقةً أم لم يكن ، فالوجود الفرضي لا يقتضي الوجود الحقيقي حيث لا مانع من فرض المعدوم موجوداً.

وإن شئت قلت : إنّا قد ذكرنا في محلّه (١) أنّ الاعتبار خفيف المؤونة ، فكما أنّه يتعلق بالأمر الحالي فكذلك يتعلق بالأمر الاستقبالي كما هو الحال في الواجب المشروط بالشرط المتأخر. وعليه فلا مانع من جعل الحكم للموجودين والمعدومين بنحو القضية الحقيقية التي ترجع إلى القضية الشرطية ، حيث إنّ مردّها إلى الشرط المتأخر لا محالة. ونظير ذلك مسألة الوقف على البطون المتعددة المتلاحقة ، حيث إنّ الواقف يعتبر من حين الوقف ملكية ماله لجميع البطون بطناً بعد بطن ، بحيث إنّ كل بطن لاحق يتلقى الملك من الواقف لا من البطن السابق ، ومعنى ذلك هو أنّ الواقف من حين الوقف يعتبر ملكيته له ، فيكون زمان المعتبر متأخراً عن زمان الاعتبار. فالنتيجة أنّ النزاع بهذا المعنى لا يرجع إلى معنىً معقول.

وأمّا الثاني : فإن اريد من إمكان توجيه الخطاب إلى المعدومين والغائبين

__________________

(١) راجع المجلد الثاني من هذا الكتاب ص ١٣٥.

٤٣١

توجيهه إليهما بقصد التفهيم حقيقةً فهو غير معقول ، ضرورة أنّ توجيه الخطاب الحقيقي إلى الحاضر في مجلس الخطاب إذا كان غافلاً مستحيل فما ظنك بالمعدوم والغائب ، فيكون نظير الخطاب إلى الحجر فانّه لا يعقل إذا قصد به تفهيمه ، وكتوجيه الخطاب باللغة العربية إلى من لايكون عارفاً بها أو بالعكس وهكذا ، فانّ الخطاب الحقيقي في جميع هذه الموارد غير معقول.

وإن اريد بذلك شيئاً آخر كاظهار العجز أو المظلومية أو ما شاكل ذلك ، فتوجيه الخطاب بهذا المعنى إلى المعدومين فضلاً عن الغائبين بمكان من الامكان ، كما هو المشاهد في الصبي كثيراً حينما يخاف أو يضربه شخص نادى يا أباه يا امّاه مع أنّه يعلم بأنّ أباه أو امّه غير حاضر عنده فغرضه من هذا الخطاب إظهار العجز والتظلم.

فالنتيجة : أنّ الخطاب الحقيقي الذي يكون الداعي إليه قصد التفهيم لا يمكن توجيهه إلى الغائب بل إلى الحاضر إذا كان غافلاً فضلاً عن المعدوم. وأمّا الخطاب الانشائي الذي يكون الداعي إليه إظهار العجز أو الشوق أو الولاء أو ما شاكل ذلك فتوجيهه إلى المعدوم فضلاً عن الغائب بمكان من الامكان.

وهنا شق ثالث للخطاب : وهو أن يقصد المتكلم تفهيم المخاطب حينما وصل إليه الخطاب لا من حين صدوره ، كما إذا افترضنا أنّ المخاطب نائم فيكتب المتكلم ويخاطبه بقوله : إذا قمت من النوم افعل الفعل الفلاني ، أو خاطب ولده بقوله : يا ولدي إذا كبرت فافعل كذا وكذا ، أو سجّل خطابه في شريط ثمّ يرسله إلى مكان أو بلد آخر ليسمع الناس خطابه في ذلك المكان أو البلد فيكون قصده تفهيمهم من حين وصول الخطاب إليهم وسماعهم إيّاه ، لا من حين الصدور ، أو خاطب شخصاً في بلد آخر بالتلفون حيث إنّ خطابه لم يصل إليه من حين صدوره منه بل لا محالة وصوله إليه كان بعده بزمان وإن كان ذلك

٤٣٢

الزمان قليلاً جداً. ومن الطبيعي أنّه إذا جاز الفصل بين صدور الخطاب من المتكلم وبين قصده تفهيم المخاطب بزمان لم يفرق بين الزمان القليل والكثير ، فاذا جاز في القليل جاز في الكثير أيضاً. وعليه فلا مانع من أن يكون المقصود بالتفهيم من الخطابات الواردة في الكتاب والسنّة جميع البشر إلى يوم القيامة ، يعني كل من وصلت إليه تلك الخطابات فهو مقصود به كما هو كذلك. وكيف ما كان فلا إشكال في إمكان ذلك أصلاً.

وقد تحصّل من مجموع ما ذكرناه : أنّ النزاع في هذا الوجه أيضاً لا يرجع إلى معنىً محصّل.

فالذي ينبغي أن يكون محلاً للنزاع هو الوجه الأخير ، وهو أنّ أدوات الخطاب هل هي موضوعة للدلالة على الخطاب الحقيقي أو الانشائي ، فعلى الأوّل لا يمكن شموله للغائبين فضلاً عن المعدومين ، بل لا يمكن شموله للحاضر في المجلس إذا كان غافلاً عنه فما ظنك بالغائب والمعدوم كما أشرنا إليه آنفاً ، وعلى الثاني فلا مانع من شموله للمعدومين والغائبين حيث إنّ مفادها حينئذ إظهار توجيه الكلام نحو مدخولها بداعٍ من الدواعي ، فلا مانع عندئذ من شمولها للغائب بل المعدوم بعد فرضه بمنزلة الموجود كما هو لازم كون القضية حقيقية ، هذا.

والظاهر أنّها موضوعة للدلالة على الخطاب الانشائي ، فانّ المتفاهم العرفي من أدوات الخطاب هو إظهار توجيه الكلام نحو مدخولها بداعٍ من الدواعي. ومن الواضح أنّ الخطابات بهذا المعنى تشمل المعدومين بعد فرضهم منزلة الموجودين فضلاً عن الغائبين. هذا مضافاً إلى أنّ لازم القول بكون هذه الأدوات مستعملةً في الخطاب الحقيقي في موارد استعمالاتها في الخطابات الشرعية هو اختصاص تلك الخطابات بالحاضرين في مجلس التخاطب وعدم

٤٣٣

شمولها للغائبين فضلاً عن المعدومين ، وهذا مما نقطع بعدمه ، لأنّ اختصاصها بالمدركين لزمان الحضور وإن كان محتملاً في نفسه إلاّ أنّه لا يحتمل اختصاصها بالحاضرين في المجلس جزماً.

وعليه فلا مناص من الالتزام باستعمالها في الخطاب الانشائي ولو كان ذلك بالعناية ، فاذن يشمل المعدومين أيضاً بعد تنزيلهم منزلة الموجودين على ما هو لازم كون القضية حقيقيةً ، هذا كلّه على تقدير كون الخطابات القرآنية خطاباً من الله تعالى بلسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى امّته.

وأمّا إذا قلنا بأ نّها نزلت على قلبه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل قراءته فلا موضوع عندئذ لهذا النزاع ، حيث إنّه لم يكن حال نزولها على هذا الفرض من يتوجه إليه الخطاب حقيقةً ليقع النزاع في اختصاصها بالحاضرين مجلس الخطاب أو عمومها للغائبين بل المعدومين.

ومن ضوء هذا البيان يظهر أنّ ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) في المقام من التفصيل بين القضايا الخارجية والقضايا الحقيقية ، بتقريب أنّ الخطاب في القضايا الخارجية يختص بالمشافهين ، فانّ عمومه للغائبين فضلاً عن المعدومين يحتاج إلى عناية زائدة وبدونها فلا يمكن الحكم بالعموم ، وأمّا في القضايا الحقيقية فالظاهر أنّه يعمّ المعدومين فضلاً عن الغائبين ، حيث إنّ توجيه الخطاب إليهم لا يحتاج إلى أزيد من تنزيلهم منزلة الموجودين الذي هو المقوّم لكون القضية حقيقيةً ، لا يتم فانّ كون القضية حقيقيةً وإن كان يقتضي بنفسه فرض الموضوع فيها موجوداً والحكم على هذا الموضوع المفروض وجوده إلاّ أنّ مجرد ذلك لا يكفي في شمول الخطاب للمعدومين ، ضرورة أنّ صِرف وجود الموضوع

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٦٧.

٤٣٤

خارجاً لا يكفي في توجيه الخطاب إليه ، بل لا بدّ فيه من فرض وجوده في مجلس التخاطب والتفاته إلى الخطاب وإلاّ لصحّ خطاب الغائب في القضية الخارجية من دون عناية وهو خلاف المفروض كما عرفت.

فالنتيجة : أنّ الصحيح هو ما ذكرناه من أنّ أدوات الخطاب موضوعة للدلالة على الخطاب الانشائي دون الحقيقي ، وقد مرّ أنّه لا مانع من شمول الخطاب الانشائي للمعدومين فضلاً عن الغائبين.

الكلام في ثمرة هذا البحث : قد ذكر له عدّة ثمرات نذكر منها ثمرتين :

إحداهما : أنّه على القول بعموم الخطاب للغائبين بل المعدومين فظواهره تكون حجة عليهم بالخصوص ، وعلى القول بعدمه فلا تكون حجةً عليهم كذلك.

وأورد على هذه الثمرة المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) بأ نّها تبتني على مقدمتين : الاولى اختصاص حجية الظواهر بمن قصد إفهامه. الثانية : أن يكون المقصود بالافهام من خطابات القرآن هو خصوص الحاضرين في مجلس التخاطب.

ولكن كلتا المقدمتين خاطئة وغير مطابقة للواقع. أمّا المقدمة الاولى فلما حققناه في محلّه (٢) من عدم اختصاص حجية الظواهر بخصوص المقصودين بالافهام بل تعم الجميع من المقصودين وغيرهم ، وذلك لعدم الفرق في السيرة العقلائية القائمة على العمل بها بين مَن قصد إفهامه من الكلام ومَن لم يقصد وتمام الكلام في محلّه. وأمّا المقدمة الثانية فلأنّ المقصود بالافهام من خطابات

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٣١.

(٢) مصباح الاصول ٢ : ١٣٨.

٤٣٥

القرآن جميع الناس إلى أن تقوم الساعة من الحاضرين والغائبين والمعدومين ، والنكتة في ذلك أنّ القرآن لا يختص بطائفة دون طائفة وبزمان دون زمان ، بل هو يجري كما يجري الليل والنهار وكما تجري الشمس والقمر ، ويجري على آخرنا كما يجري على أوّلنا (١) ولا يمكن القول بأنّ المقصود بالافهام من خطاباته هم الحاضرون في مجلس التخاطب دون غيرهم ، حيث إنّه لا يناسب مكانة القرآن وعظم شأنه وأ نّه كتاب إلهي نزل لهداية البشر جميعاً ، فلا محالة يكون المقصود بالافهام منها جميع البشر ، غاية الأمر أنّ من يكون حاضراً في مجلس التخاطب يكون مقصوداً بالافهام من حين صدورها ، ومن لم يكن حاضراً أو كان معدوماً فهو مقصود به حينما وصلت إليه الآيات والخطابات.

ثانيتهما : أنّه على القول بالعموم والشمول يصح التمسك بعمومات الكتاب والسنّة بالاضافة إلى الغائبين

والمعدومين كقوله تعالى مثلاً : ( إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ )(٢) فانّه لا مانع من التمسك بعمومه على هذا القول لاثبات وجوب السعي لهما.

وأمّا على القول بالاختصاص وعدم العموم فلا يصحّ التمسك بها ، لفرض أنّ وجوب السعي في الآية عندئذ غير متوجه إلينا لنتمسك بعمومه عند الشك في تخصيصه ، بل هو خاص بالحاضرين في المجلس فاثباته للمعدومين يحتاج إلى تمامية قاعدة الاشتراك في التكليف هنا ، وهذه القاعدة إنّما تثبت الحكم لهم إذا كانوا متحدين مع الحاضرين في الصنف. وأمّا مع الاختلاف فيه فلا مورد لتلك القاعدة ، مثلاً الحكم الثابت للمسافر لا يمكن إثباته بهذه القاعدة للحاضر

__________________

(١) كما ورد في البحار ٣٥ : ٤٠٣ ذيل الحديث ٢١.

(٢) الجمعة ٦٢ : ٩.

٤٣٦

وبالعكس. نعم ، إذا ثبت حكم لشخص خاص بعنوان كونه مسافراً ثبت لجميع من يكون متحداً معه في هذا العنوان ببركة تلك القاعدة.

وأمّا في المقام فهل يمكن التمسك بهذه القاعدة لاثبات الحكم الثابت للحاضرين في ذلك العصر للمعدومين فيه؟ وجهان الأظهر عدم إمكان التمسك بها ، وذلك لعدم إحراز اشتراكهم معهم في الصنف ، لاحتمال أنّ لوصف الحضور دخلاً فيه ، ومع هذا الاحتمال لا يمكن التمسك بهذه القاعدة.

وعلى الجملة : فلا شبهة في أنّه لا يمكن اختلاف أهل شريعة واحدة في أحكام تلك الشريعة. نعم ، هم مختلفون فيها حسب اختلافهم في الصنف فيثبت لكل صنفٍ منهم حكم خاص لا يثبت للآخر ، مثلاً للحائض حكم وللجنب حكم آخر وللمستطيع حكم ثالث وللمسافر حكم رابع وللحاضر حكم خامس وهكذا ، ولا يمكن اختلاف أفراد صنفٍ واحد في ذلك الحكم ، فاذا ثبت لفرد منه ثبت للباقي. فاذا دلّ دليل على ثبوت حكم لشخصٍ ثبت لغيره من الأفراد المتحدة معه في الصنف ، ونظير ذلك كثير في الروايات حيث إنّ رواية لو كانت متكفلة لحكم شخص خاص باعتبار ورودها فيه فالحكم لا يختص به ، بل يعمّ غيره مما هو متحد معه في الصنف بقانون الاشتراك في التكليف.

وأمّا إذا لم يحرز الاتحاد فيه فلا يمكن التمسك بهذه القاعدة لتسرية الحكم من مورده إلى غيره مما لم يحرز اتحاده معه فيه ، وما نحن فيه من هذا القبيل حيث إنّنا لم نحرز اتحاد المعدومين مع الحاضرين في الصنف ، لاحتمال دخل وصف الحضور فيه فلا يمكن التمسك بتلك القاعدة.

فالنتيجة : أنّ الثمرة تظهر بين القولين ، فعلى القول بشمول الخطابات للمعدومين يجوز لهم التمسك بها ، وعلى القول بعدمه فلا يجوز لهم ذلك ، هذا.

٤٣٧

وقد أورد على هذه الثمرة المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره بما إليك نصه : ولا يذهب عليك أنّه يمكن إثبات الاتحاد وعدم دخل ما كان البالغ الآن فاقداً له مما كان المشافهون واجدين له باطلاق الخطاب إليهم من دون التقييد به ، وكونهم كذلك لا يوجب صحة الاطلاق مع إرادة المقيد منه فيما يمكن أن يتطرق الفقدان وإن صحّ فيما لا يتطرق إليه ذلك. وليس المراد بالاتحاد في الصنف إلاّ الاتحاد فيما اعتبر قيداً في الأحكام لا الاتحاد فيما كثر الاختلاف بحسبه والتفاوت بسببه بين الأنام ، بل في شخص واحد بمرور الدهور والأيام ، وإلاّ لما ثبت بقاعدة الاشتراك للغائبين فضلاً عن المعدومين حكم من الأحكام.

ودليل الاشتراك إنّما يجدي في عدم اختصاص التكاليف بأشخاص المشافهين فيما لم يكونوا مختصين بخصوص عنوان لو لم يكونوا معنونين به شك في شمولها لهم أيضاً ، فلولا الاطلاق وإثبات عدم دخل ذاك العنوان في الحكم لما أفاد دليل الاشتراك ، ومعه كان الحكم يعمّ غير المشافهين ولو قيل باختصاص الخطابات بهم فتأمل جيداً.

فتلخص أنّه لا يكاد تظهر الثمرة إلاّعلى القول باختصاص حجية الظواهر بمن قصد إفهامه مع كون غير المشافهين غير مقصودين بالافهام ، وقد حقق عدم الاختصاص في غير المقام واشير إلى منع كونهم غير مقصودين به في خطاباته تبارك وتعالى في المقام (١).

وملخّص ما أفاده ( قدس‌سره ) هو أنّ التمسك بقاعدة الاشتراك في التكليف لا يمكن إلاّفيما احرز الاتحاد في الصنف ، ومن الطبيعي أنّه لا يمكن إحرازه فيه إلاّ باحراز عدم [ دخل ] ما كان المشافهون في ذلك الزمان واجدين له دون

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٣١.

٤٣٨

غيرهم ، ومن المعلوم أنّه لايمكن إحراز ذلك إلاّبالتمسك باطلاق الخطاب لاثبات عدم دخله في الحكم ، وهو لا يمكن إلاّفي الأوصاف المفارقة دون الأوصاف اللازمة للذات ، حيث إنّ ما يحتمل دخله فيه مما كان المشافهون واجدين له إن كان من الأوصاف المفارقة وكان دخيلاً في مطلوب المولى واقعاً فعليه بيانه بنصب قرينة دالة على التقييد ، وإلاّ لأخل بغرضه. وإن كان من الأوصاف اللازمة وكان دخيلاً فيه كذلك لم يلزم عليه بيانه ولا إخلال بالغرض بدونه.

والنكتة في ذلك : هي أنّ ما يحتمل دخله فيه إن كان من تلك الأوصاف لم يمكن التمسك بالعموم والاطلاق ، حيث إنّ التمسك به فرع جريان مقدمات الحكمة ، ومع الاحتمال المزبور لا تجرى المقدمات إذ على تقدير عدم البيان لا يكون إخلال بالغرض ، نظراً إلى عدم انفكاك الوصف المزبور عن الموضوع.

وغير خفي أنّ ما أورده قدس‌سره من الايراد على هذه الثمرة يتم في غير المقام ولا يتم فيه فلنا دعويان : الاولى تمامية ما أفاده قدس‌سره في غير المقام ، وهو ما إذا كانت الأوصاف التي نحتمل دخلها في الحكم الشرعي من العوارض المفارقة كالعلم والعدالة والفسق وما شاكلها. الثانية : عدم تماميته في المقام ، وهو ما إذا كانت الأوصاف التي نحتمل [ دخلها ] فيه من العوارض اللازمة للذات كالهاشمية والقرشية وما شاكلهما.

أمّا الدعوى الاولى : فلأنّ احتمال دخل مثل هذه الأوصاف في ثبوت حكم لجماعة كانوا واجدين لها مع عدم البيان من قبل المولى على دخله فيه لا يكون مانعاً عن التمسك بالاطلاق ، لوضوح أنّه لو كان دخيلاً فيه واقعاً فعلى المولى بيانه وإلاّ لكان مخلاً بغرضه وهو خلف.

والسر في ذلك : هو أنّ الوصف المزبور بما أنّه من الأوصاف والعوارض المفارقة ، يعني أنّه قد يكون وقد لا يكون ، فمجرد أنّ هؤلاء الجماعة واجدين له

٤٣٩

حين ثبوت الحكم لهم غير كافٍ لبيان دخله فيه ولتقييد إطلاق الكلام ، حيث إنّه ليس بنظر العرف مما يصح أن يعتمد عليه المتكلم في مقام البيان إذا كان دخيلاً في غرضه واقعاً ، بل عليه نصب قرينة تدل على ذلك وإلاّ لكان إطلاق كلامه في مقام الاثبات محكّماً وكاشفاً عن إطلاقه في مقام الثبوت ، يعني أنّ مقتضى إطلاق كلامه هو ثبوت الحكم لهم في كلتا الحالتين ، أي حالة وجدان الوصف المزبور وحالة فقدانه.

فالنتيجة : أنّ احتمال دخل مثل هذا الوصف لا يكون مانعاً عن جريان مقدمات الحكمة والتمسك بالاطلاق.

وأمّا الدعوى الثانية : فلأنّ احتمال دخل مثل تلك الأوصاف في ثبوت الحكم مانع عن جريان مقدمات الحكمة ، والسبب فيه : أنّ الحكم إذا ثبت لطائفة كانوا واجدين لوصف لازم لذاتهم كالهاشمية أو نحوها وكان الوصف المزبور دخيلاً فيه واقعاً صحّ عرفاً اعتماد المتكلم عليه في مقام البيان فلا يحتاج إلى بيان زائد. وعليه فاذا احتمل دخله وكان المتكلم في مقام البيان فبطبيعة الحال يحتمل اعتماده في هذا المقام عليه ، ومعه كيف يمكن التمسك بالاطلاق.

فالنتيجة : أنّ عدم دخله يحتاج إلى قرينة خارجية دون دخله فيه. وبكلمة اخرى : ليس لهم حالتان : حالة كونهم واجدين للوصف المزبور وحالة كونهم فاقدين له حتى يكون لكلامه إطلاق بالاضافة إلى كلتا الحالتين ، فالتقييد يحتاج إلى دليل ، بل لهم حالة واحدة وهي حالة كونهم واجدين له فلا إطلاق لكلامه حتى يتمسك به لاثبات الحكم الثابت لهم لغيرهم فالاطلاق يحتاج إلى دليل ، وما نحن فيه من هذا القبيل نظراً إلى أن ما يحتمل دخله في الحكم ـ وهو وصف الحضور ـ من الأوصاف اللازمة ، ومع احتمال دخله فيه لا يمكن التمسك باطلاق الخطابات لاثبات الحكم لغير الحاضرين بعين الملاك المتقدم.

٤٤٠