محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-15-2
الصفحات: ٥٧٠

الثاني : أنّ مقتضى القاعدة سقوط الأمر عن المركب عند تعذره بتعذر أحد أجزائه أو قيوده. وأمّا وجوب الباقي فهو يحتاج إلى دليل آخر ولا دليل عليه إلاّ في باب الصلاة فحسب.

وأمّا المقام الثاني : فلا ينبغي الشك في صحة العبادة في مورد الاجتماع هنا ، والوجه في ذلك ما ذكرناه هناك من أنّ من ثمرة المسألة ـ أعني مسألة الاجتماع ـ هي صحة العبادة على القول بالجواز مطلقاً ، وقد تقدّم أنّ القول بالجواز يرتكز على ركيزتين :

الاولى : أن يكون المجمع في مورد الاجتماع متعدداً وجوداً وماهيةً.

الثانية : أن لا يسري الحكم من متعلق النهي إلى متعلق الأمر ، وعلى هذا فإذا كانت العبادة صحيحة في مورد الاجتماع مع بقاء الحرمة وفعليتها ، وأ نّها لا تكون مانعة عن صحتها ، فما ظنك فيما إذا سقطت تلك الحرمة من ناحية الاضطرار أو الاكراه أو نحوهما ، كما هو المفروض في مقامنا هذا. وعلى الجملة : فقد ذكرنا أنّ العبادة كالصلاة مثلاً صحيحة على القول بالجواز مطلقاً ، ومجرد ملازمة الحرام معها وجوداً لا يمنع عن صحتها بعد ما كان وجود أحدهما في الخارج مبايناً لوجود الآخر ، فيكون نظير ما إذا استلزم الصلاة في مكانٍ النظر إلى الأجنبية فكما أنّه غير مانع عن صحة الصلاة في ذلك المكان فكذلك في المقام ، هذا حال ما إذا لم يكن المكلف مضطراً إلى ارتكاب المحرّم وصلّى باختياره في أرض مغصوبة.

وأمّا إذا كان مضطراً إلى ارتكابه والتصرف فيها ، فلا إشكال في صحة صلاته ، بل لو قلنا بالفساد هناك ـ إمّا من ناحية سراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر ، أو من ناحية أنّ مجرد ملازمة الحرام معها وجوداً في الخارج مانع عن صحتها ، بدعوى اعتبار الحسن الفاعلي في صحة العبادة ،

٤١

ومع ملازمة وجود الحرام معها خارجاً لا يكون صدورها حسناً ـ فلا نقول به في المقام ، وذلك لأنّ المانع عن الحكم بالصحة إنّما هو الحرمة الواقعية من جهة أحد هذين الأمرين ، والمفروض أنّها قد سقطت من ناحية الاضطرار أو نحوه واقعاً ، لفرض أنّه رافع للتكليف واقعاً لا ظاهراً ، فإذن لا مانع من الصحة أصلاً.

ومن هنا قلنا بصحة العبادة على القول بالامتناع في صورة النسيان أو نحوه بعين هذا الملاك ، وهو أنّه رافع للتكليف واقعاً ، فإذا كانت الحرمة مرفوعة واقعاً من جهة النسيان أو نحوه لا مانع عندئذ من الحكم بالصحة أصلاً. وكيف كان ، فلا إشكال في صحة العبادة في المقام ولو قلنا بفسادها على القول بالجواز في المسألة ، وسيأتي بيان ذلك (١) بشكل واضح إن شاء الله تعالى.

وأمّا المقام الثالث : وهو ما إذا كان المأمور به متحداً مع المنهي عنه في الخارج ، فهل يصحّ الاتيان بالعبادة المضطر إليها المتحدة مع الحرام خارجاً أم لا؟

وجهان بل قولان ، المعروف والمشهور بين الأصحاب هو القول الأوّل ، ولكن اختار جماعة منهم شيخنا الاستاذ قدس‌سره (٢) القول الثاني.

وقد استدلّ للمشهور : بأنّ الموجب لتقييد إطلاق المأمور به بغير الحصة المنهي عنها إنّما هو حرمة تلك الحصة ، وإلاّ فلا مقتضي لتقييده أصلاً ، والمفروض في المقام أنّ حرمتها قد سقطت من ناحية الاضطرار أو نحوه واقعاً ، فلا حرمة بحسب الواقع ونفس الأمر ، ومن المعلوم أنّه مع سقوطها كذلك

__________________

(١) في ص ٥٤ وتقدّم أيضاً في المجلد الثالث من هذا الكتاب ص ٤٤١ ، ٤٩٩.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ١٨١ وما بعدها.

٤٢

لا مانع من التمسك باطلاق دليل الأمر لاثبات كون هذه الحصة من مصاديق المأمور به وأفراده.

لتوضيح ذلك نأخذ مثالاً : وهو ما إذا اضطرّ المكلف إلى الوضوء أو الغسل بالماء المغصوب فتوضأ أو اغتسل به ، ففي أمثال هذا لا مانع من الحكم بصحة الوضوء أو الغسل ، فانّ المانع عن صحتهما إنّما هو حرمة التصرف في هذا الماء ، حيث إنّها لا محالة توجب تقييد إطلاق دليليهما بغير هذه الحصة ـ أعني التوضؤ أو الاغتسال بالماء المغصوب ـ فهذه الحصة خارجة عن دائرة الأمر ومبغوضة للشارع فلا يعقل انطباق المأمور به عليها ، لاستحالة كون المحرّم والمبغوض مصداقاً للواجب والمحبوب ، ولازم ذلك لا محالة تقييد المأمور به بغيرها. فإذن النتيجة هي أنّ ما دلّ على حرمة التصرف في هذا الماء بالمطابقة ، فلا محالة يدل على تقييد الوضوء أو الغسل بغيره بالالتزام ، لفرض أنّ هذا التقييد لازم حرمة التصرف فيه ومتفرع عليها ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية في الحدوث والبقاء والوجود والحجية ، فلا يعقل بقاء الدلالة الالتزامية مع سقوط الدلالة المطابقية ، فالدلالة الالتزامية كما أنّها تابعة للدلالة المطابقية في الوجود فلا يعقل وجودها بدون وجود تلك الدلالة ، كذلك تابعة لها في الحجية فلا يمكن بقاؤها على صفة الحجية مع فرض سقوط الدلالة المطابقية عنها.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي أنّ في المقام بما أنّ الدلالة المطابقية ـ وهي دلالة النهي على حرمة التصرف في هذا الماء ـ قد سقطت من ناحية الاضطرار أو نحوه ، فلا محالة تسقط دلالته الالتزامية أيضاً ، وهي الدلالة على تقييد الوضوء أو الغسل بغير الوضوء أو الغسل بهذا الماء ، فإذن لا مانع من التمسك باطلاق دليل وجوب الوضوء أو الغسل لاثبات كون هذا

٤٣

الفرد مأموراً به.

وبكلمة اخرى : أنّه لا شبهة في أنّ المانع عن صحة الوضوء أو الغسل ليس هو التصرف في مال الغير بما هو تصرف في مال الغير ، ضرورة أنّه لو أذن في التصرف فيه فلا إشكال في صحة الوضوء أو الغسل به ، بل المانع عنها إنّما هو حرمة التصرف فيه ، لوضوح أنّه إذا كان محرّماً يستحيل أن يكون مصداقاً للواجب ، وأمّا إذا سقطت تلك الحرمة من جهة الاضطرار أو نحوه واقعاً كما هو المفروض في المقام ، فلا مانع عندئذ من كون الوضوء أو الغسل به مصداقاً للمأمور به ، لفرض أنّ التصرف فيه وقتئذ جائز واقعاً كالتصرف في الماء المملوك أو المباح ، فإذا كان جائزاً كذلك فلا مانع من انطباق المأمور به عليه.

ومن هنا قوّينا صحة الوضوء أو الغسل في الماء المغصوب في صورة النسيان إذا كان عن قصور لا عن تقصير ، والوجه فيه ما تقدّم من أنّ النسيان كالاضطرار رافع للتكليف واقعاً لا ظاهراً فحسب ، ومن المعلوم أنّه إذا ارتفعت الحرمة واقعاً ارتفع ما هو معلول لها أيضاً ، لاستحالة بقاء المعلول من دون علّته ، وهو تقييد المأمور به بغير هذا الفرد المنهي عنه ، وما نحن فيه من هذا القبيل.

وعلى ضوء ذلك قد تبين أنّه لا فرق في صحة الوضوء أو الغسل بهذا الماء بين أن يكون للمكلف مندوحة ، بأن يتمكن من أن يتوضأ أو يغتسل بماء آخر مباح أو مملوك له ، أو لا يكون له مندوحة.

والوجه في ذلك واضح ، وهو أنّ حرمة التصرف في هذا الماء على الفرض قد سقطت من جهة الاضطرار أو نحوه ، ومن المعلوم أنّه مع سقوط الحرمة عنه لا فرق بين أن يصرفه في الوضوء أو الغسل وأن يصرفه في أمر آخر ، وعليه فتمكن المكلف من استعمال هذا الماء في شيء آخر والتوضؤ أو الاغتسال بماء

٤٤

مباح أو مملوك له لا يوجب لزوم صرفه في هذا الشيء والتوضؤ أو الاغتسال بماء آخر ، لفرض أنّ التصرف فيه جائز واقعاً ، ومن الطبيعي أنّه لا فرق فيه بين أنحاء التصرف.

نعم ، يمكن ذلك فيما لو أذن المالك في التصرف في ماله من جهة خاصة دون جهة اخرى ، فانّه على هذا وجب الاقتصار في التصرف فيه على تلك الجهة فحسب ، إلاّ أنّ ذلك أجنبي عن المقام بالكلّية ، لفرض أنّ الاضطرار في المقام تعلق بطبيعي التصرف في هذا الماء لا بالتصرف فيه بجهة خاصة كما هو واضح.

تتلخص نتيجة استدلال المشهور في نقطتين رئيسيتين :

الاولى : أنّ الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية حدوثاً وبقاءً وجوداً وحجيةً.

الثانية : أنّ الاضطرار رافع للتكليف واقعاً لا ظاهراً فقط كما هو الحال في الجهل فانّه رافع للتكليف ظاهراً ولا ينافي ثبوته واقعاً.

وقد أورد شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) على النقطة الاولى بما حاصله :

هو أنّ النهي المتعلق بالعبادة يتصور على أنواع :

الأوّل : أن يكون إرشاداً إلى مانعية شيء واعتبار عدمه في المأمور به ، وذلك كالنهي عن الصلاة فيما لا يؤكل وفي النجس والميتة والحرير وما شاكل ذلك ، فاعتبار عدم هذه الامور في المأمور به كالصلاة مثلاً ، يكون مدلولاً مطابقياً لهذا النهي وليس مدلولاً إلتزامياً كما هو ظاهر.

الثاني : أن يكون نهياً نفسياً تحريمياً ، ولكن استفادة اعتبار قيد عدمي فيه

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٨١ وما بعدها.

٤٥

ـ أي في المأمور به ـ من ناحية مزاحمته مع المنهي عنه ، بمعنى أنّ المكلف لا يتمكن من امتثال كليهما في الخارج فلا محالة تقع المزاحمة بينهما ، وعلى هذا فبناءً على تقديم جانب النهي على جانب الأمر لا محالة يقيد إطلاق المأمور به بغير هذا الفرد.

الثالث : هذه الصورة بعينها ، ولكن استفادة التقييد ليست من ناحية مزاحمة المأمور به مع المنهي عنه ، بل هو من ناحية الدلالة الالتزامية ، بمعنى أنّ النهي يدل على الحرمة بالمطابقة وعلى التقييد بالالتزام.

أمّا النوع الأوّل ، فلا إشكال في دلالته على الفساد ، وذلك لأنّ مقتضى إطلاق هذا النهي هو اعتبار هذا القيد العدمي في المأمور به مطلقاً وفي جميع أحوال المكلف ، ولازم ذلك سقوط الأمر عنه عند انحصار الامتثال بالفرد الفاقد لهذا القيد ، كما لو اضطرّ المكلف إلى لبس الحرير أو الذهب أو الميتة في الصلاة ، هذا ما تقتضيه القاعدة ، ولكن في خصوص باب الصلاة قد دلّ الدليل على عدم سقوطها بحال ، ومردّ هذا الدليل إلى إلغاء هذه القيود عند العجز وعدم التمكن من إتيانها.

وأمّا النوع الثاني ، وهو ما كان التقييد ناشئاً عن مزاحمة المأمور به مع المنهي عنه ، فلا يدل على الفساد حتى فيما إذا تمكن المكلف من ترك الحرام بناءً على إمكان الترتب وصحته ، أو بناءً على إمكان تصحيح العبادة بالملاك فضلاً عما إذا سقطت الحرمة من ناحية الاضطرار ، كما في المقام ، وذلك لأنّ سقوط الحرمة يستلزم سقوط التقييد لا محالة ، لفرض أنّ منشأه ليس دليلاً لفظياً له عموم أو إطلاق ليتمسك بعمومه أو إطلاقه لاثبات أنّه باقٍ ولم يسقط ، بل منشؤه مزاحمة الحرمة مع الوجوب ، فإذا سقطت الحرمة من ناحية الاضطرار ارتفعت المزاحمة ومع ارتفاعها لا يعقل بقاؤه ، بداهة أنّه لا يعقل بقاء المعلول مع

٤٦

سقوط علته وارتفاعها ، وكذا الحال فيما إذا كانت الحرمة ثابتة في الواقع ولكنّها غير منجّزة ، لوضوح أنّها ما لم تكن منجّزة فلا تزاحم الوجوب ولا تكون معجّزاً للمكلف عن الاتيان بالمأمور به ومعذّراً له في تركه لتكون موجبة لتقييده بغير هذا الفرد.

فالنتيجة : أنّ الحرمة إذا سقطت من جهة الاضطرار أو نحوه ـ كما فيما نحن فيه ، أو فرض أنّها وإن لم تسقط في الواقع بل هي باقية إلاّ أنّها غير منجّزة ـ فلا تمنع عن انطباق الطبيعي المأمور به على هذا الفرد الملازم وجوداً مع الحرام ، لأنّ المانع عنه إنّما هو الحرمة المنجّزة الموجبة لتقييده بغيره بناءً على تقديمها على الوجوب كما هو المفروض ، وأمّا إذا سقطت فلا مانع أصلاً.

وأمّا النوع الثالث ، وهو ما كان التقييد ناشئاً عن الدلالة الالتزامية ، فقد أفاد قدس‌سره بما هو توضيحه : أنّ التقييد والحرمة معلولين للنهي في مرتبة واحدة ، فلا سبق للحرمة على التقييد ليكون التقييد معلولاً لها ، وعليه فمقتضى القاعدة الأوّلية هو سقوط الأمر عند تعذر قيده ، ضرورة استحالة بقاء الأمر بحاله مع تعذره ، وإلاّ لزم التكليف بالمحال ، ومقتضى القاعدة الثانوية هو سقوط التقييد ولزوم الاتيان بالباقي من أجزاء الصلاة وشرائطها ، والوجه في ذلك : هو أنّ الحرمة والوجوب متضادان ، وقد تقدّم في بحث الضد (١) بشكل واضح أنّ وجود الضد ليس مقدمةً لعدم الضد الآخر ، ضرورة أنّ المقدمية تقتضي تقدم المقدمة على ذيها بالرتبة ، والمفروض أنّه لا تقدم ولا تأخر بين وجود ضد وعدم الآخر ، كما أنّه لا تقدم ولا تأخر بين وجوديهما ، لأنّ تقدم شيء على آخر بالرتبة يحتاج إلى ملاك مصحح له ولا يكون جزافاً ، والمفروض أنّه

__________________

(١) راجع المجلد الثاني من هذا الكتاب ص ٢٩٠ وما بعدها.

٤٧

لا ملاك له في المقام. فالنتيجة : أنّ عدم الضد ووجود ضد آخر في رتبة واحدة من دون سبق ولحوق بينهما أبداً ، فإذا كان الأمر كذلك يستحيل أن يكون أحدهما متفرعاً على الآخر وفي مرتبة متأخرة عنه.

وعلى ضوء ذلك قد تبين أنّه لا يمكن أن يكون النهي دالاً على الحرمة في مرتبة وعلى التقييد وعدم الوجوب في مرتبة اخرى متفرعةً عليها ، لما عرفت من عدم الاختلاف بينهما في الرتبة أصلاً ، وعليه فلا محالة تكون دلالة النهي على كليهما في رتبة واحدة.

ونتيجة ذلك : هي أنّ مقتضى القاعدة الأوّلية سقوط الأمر عن المركب عند تعذر قيد من قيوده دون سقوط التقييد ، لفرض أنّ دلالة النهي عليه لم تكن متفرعة على دلالته على الحرمة ، بل دلالته عليه كانت في عرض دلالته عليها.

ويترتب على ذلك : أنّه إذا سقطت دلالته على الحرمة لضرورة فلا مقتضي لسقوط دلالته على التقييد أصلاً ، لفرض أنّها غير متفرعة عليها لتنتفي بانتفائها ، بل هي في عرضها ، فإذن مقتضى القاعدة الأوّلية هو عدم سقوط التقييد وأ نّه باقٍ بحاله ، والاضطرار إنّما يوجب سقوط الحرمة فحسب ، فانّ بقاءها معه غير معقول ، لاستلزام بقائها في هذا الحال التكليف بالمحال ، وأمّا التقييد فلا موجب لسقوطه. ومن المعلوم أنّه لا منافاة بين سقوط الحرمة وبقاء التقييد أصلاً ، بل هو مقتضى إطلاق دليله كما لا يخفى.

نعم ، قد دلّ الدليل على سقوطه في خصوص باب الصلاة ، ولازم ذلك هو وجوب الاتيان بالباقي من أجزائها وشرائطها.

ولنأخذ بالنظر على ما أفاده قدس‌سره.

أمّا ما أفاده في النوع الأوّل من تلك النواهي ، فهو في غاية الاستقامة ، كما

٤٨

تقدم ذلك غير مرّة فلا نعيد.

وأمّا ما أفاده في النوع الثاني منها ، فأيضاً الأمر كذلك ، فانّه لا إشكال في سقوط التقييد عندئذ ـ أي عند سقوط النهي واقعاً من ناحية الاضطرار أو نحوه ـ ومعه لا شبهة في صحة العبادة ، بل قد ذكرنا سابقاً أنّ العبادة صحيحة في فرض بقاء الحرمة وعدم سقوطها بناءً على ما حققناه من إمكان الترتب وجوازه ، فضلاً عما إذا سقطت الحرمة.

وأمّا ما أفاده في النوع الثالث ، فلا يمكن تصديقه بوجه ، والصحيح فيه هو ما ذكره المشهور من أنّ دلالة النهي على التقييد متفرعة على دلالته على الحرمة فتنتفي بانتفائها ، والوجه في ذلك : هو أنّ ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّه لا تقدم ولا تأخر بين عدم ضد ووجود ضد آخر وأ نّهما في مرتبة واحدة ، وإن كان في غاية المتانة والصحة بحسب مقام الواقع والثبوت ، وذلك لما ذكرناه غير مرّة من أنّ تقدم شيء على آخر في الرتبة بعد ما كان مقارناً معه زماناً لا يكون جزافاً ، وإلاّ لأمكن تقدم كل شيء على آخر بالرتبة ، بل كان بملاكٍ كتقدم العلة على المعلول رتبةً بعد ما كانت مقارناً معه زماناً ، فانّه قضية حق علّيتها عليه ، وتقدم الشرط على المشروط كذلك ، فانّه قضاء لحق الشرطية ... وهكذا ، ولا ملاك لتقدم عدم ضد على وجود ضد آخر رتبة أو بالعكس ، كما بيّنا ذلك في بحث الضد بشكل واضح فلاحظ (١).

ولكنّه لا يتم بحسب مقام الاثبات والدلالة ، بيان ذلك : هو أنّه لا شبهة في أنّ الأدلة الدالة على حرمة التصرف في مال الغير كقوله عليه‌السلام « لا يحل

__________________

(١) راجع المجلد الثاني من هذا الكتاب ص ٢٩٠ وما بعدها.

٤٩

مال امرئ مسلم إلاّبطيب نفسه » (١) ونحوه لا تدل على التقييد المزبور وعدم الوجوب إلاّبالدلالة الالتزامية ، ضرورة أنّ مدلولها المطابقي هو حرمة التصرف في مال الغير بدون رضاه لا ذلك التقييد وعدم الوجوب ، ولكن بما أنّ الحرمة تنافي الوجوب ولا تجتمع معه فلا محالة ما دلّ على الحرمة بالمطابقة يدل على عدم الوجوب بالالتزام ، نظير ما إذا أخبر أحد عن قيام زيد مثلاً ، فانّ إخباره هذا يدل على قصد الحكاية عن قيامه بالمطابقة وعلى عدم قعوده بالالتزام ، فانّ كل دليل يدل على ثبوت شيء لشيء بالمطابقة ـ سواء أكان إخباراً أو إنشاءً ـ يدل على عدم ثبوت ضدّه له بالالتزام ، فلو دلّ دليل على حرمة شيء فلا محالة يدل بالالتزام على عدم وجوبه ، وهذا من الواضحات الأوّلية.

ويترتب على ذلك : أنّ عدم التقدم بين عدم ضد ووجود ضد آخر أو بالعكس وعدم تفرّع أحدهما على الآخر بحسب مقام الواقع والثبوت ، لا ينافي الترتب والتفرع بينهما بحسب مقام الاثبات والدلالة ، بل قد عرفت أنّ ذلك من الواضحات ، بداهة أنّ الدلالة الالتزامية متفرّعة على الدلالة المطابقية وفي مرتبة متأخرة عنها وإن لم يكن بين ذاتي المدلولين ـ أعني المدلول الالتزامي والمدلول المطابقي ـ تقدم وتأخر في مقام الثبوت والواقع أصلاً ، فان ذلك لا يمنع عن كون دلالة الدليل على أحدهما في مرتبة سابقة على دلالته على الآخر ، بل الأمر طبعاً كذلك في جميع الامور المتلازمة في الوجود خارجاً ، فكلّما دلّ الدليل على وجود أحد المتلازمين بالمطابقة دلّ على وجود الآخر بالالتزام ،

__________________

(١) الوسائل ٥ : ١٢٠ / أبواب مكان المصلي ب ٣ ح ١ ، ٢٩ : ١٠ / أبواب القصاص في النفس ب ١ ح ٣ ( مع اختلاف يسير ).

٥٠

فتكون دلالته على وجود أحدهما في مرتبة متقدمة على دلالته على وجود الآخر ، مع أنّه لا تقدم ولا تأخر بينهما بحسب الواقع.

وكذا ما دلّ على وجود المعلول بالمطابقة ، لا محالة يدل على وجود العلة بالالتزام ، فتكون دلالته على وجود المعلول في مرتبة سابقة على دلالته على وجود العلة ، مع أنّ وجوده متأخر رتبة عن وجودها ، ولذا قسّموا الدليل إلى دليل إنّي ودليل لمّي ، والمراد بالأوّل هو ما كان المعلول واقعاً في طريق إثبات العلة ، ويكون العلم بها معلولاً للعلم به ، أو كان أحد المعلولين واقعاً في طريق إثبات المعلول الآخر ، والمراد بالثاني هو ما كانت العلة واقعة في طريق إثبات المعلول.

فالنتيجة من ذلك : هي أنّ عدم التقدم والتأخر بين شيئين رتبةً بحسب مقام الواقع والثبوت لا يوجب عدم التقدم والتأخر بينهما بحسب مقام الاثبات والكشف أيضاً ، لوضوح أنّه لا مانع من أن يكون كشف أحدهما والعلم به متقدّماً رتبةً على كشف الآخر والعلم به ، بل لا مانع من أن يكون كشف المتأخر رتبةً متقدماً على كشف المتقدم كذلك ، كما هو الحال في الدليل الإنّي ، بل هذا من البديهيات الأوّلية ، ضرورة أنّ كل دليل دلّ على وجود شيء لا محالة يدل على عدم ضدّه ووجود لازمه أو ملزومه بالالتزام.

نعم ، المستحيل إنّما هو كون الشيء المتأخر رتبةً واسطة وعلة لوجود الشيء المتقدم كذلك ، أو كون أحد المتساويين في الرتبة علةً لوجود المتساوي الآخر ، فان هذا غير معقول ، لاستلزام ذلك تقدم الشيء على نفسه ، وأمّا كون الشيء المتأخر واسطةً للعلم بالمتقدم أو كون أحد المتساويين واسطةً للعلم بالمتساوي الآخر فلا محذور فيه أبداً. فما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّ دلالة النهي على التقييد وعدم الوجوب ليست متفرعة على دلالته على الحرمة بل

٥١

هي في عرضها ، لا يرجع بظاهره إلى معنىً معقول أصلاً.

لحدّ الآن قد تبيّن أنّ دلالة النهي على التقييد وعدم الوجوب متفرعة على دلالته على الحرمة ، وليست في عرض دلالته عليها ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّا قد ذكرنا أنّ الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية حدوثاً وبقاءً وجوداً وحجيةً.

فالنتيجة على ضوئهما : هي أنّ الدلالة المطابقية لو سقطت عن الحجية لسقطت الدلالة الالتزامية أيضاً ، وبما أنّ في المقام قد سقطت الدلالة المطابقية وهي دلالة النهي على الحرمة من ناحية الاضطرار أو نحوه ، فلا محالة تسقط الدلالة الالتزامية أيضاً وهي دلالته على التقييد بمقتضى قانون التبعية. فإذن لا مانع من التمسك باطلاق دليل الوجوب لاثبات كون هذه الحصة مصداقاً للمأمور به ، وفي المثال المتقدم لا مانع من التمسك باطلاق دليل وجوب الوضوء أو الغسل عندئذ لاثبات جوازه في هذا الماء ، أعني الماء المغصوب ، فيكون المقام نظير ما إذا ورد التخصيص على دليل النهي من أوّل الأمر ، فانّه لا محالة يوجب اختصاص الحرمة بغير موارد تخصيصه ، وعليه فلا مانع من التمسك باطلاق دليل الأمر بالاضافة إلى تلك الموارد أصلاً.

ومن ذلك يظهر فساد ما عن شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) أيضاً من أنّ الدلالة الالتزامية ليست تابعة للدلالة المطابقية في الحجية ، وإنّما هي تابعة لها في الحدوث ، فإذن سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية لا يستلزم سقوط الدلالة الالتزامية عنها ، ووجه الظهور ما عرفت على نحو الاجمال من أنّ الدلالة الالتزامية تتبع الدلالة المطابقية في الحدوث والحجية ، فلا يعقل بقاؤها على

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٦.

٥٢

صفة الحجية والاعتبار مع سقوط الدلالة المطابقية عنها ، وقد تقدّم الكلام في بيان الجواب عن ذلك نقضاً وحلاً في بحث الضد (١) بصورة واضحة ، فلا نعيد.

فالنتيجة قد أصبحت إلى الآن : أنّ الصحيح هو ما ذهب إليه المشهور من صحة العبادة بعد سقوط الحرمة من ناحية الاضطرار أو نحوه واقعاً.

ولكن قد يناقش في ذلك : بأنّ الحرمة وإن ارتفعت واقعاً من جهة الاضطرار أو غيره ، إلاّ أنّ ملاكها وهو المفسدة باقٍ لعدم الدليل على ارتفاعه ، فانّ الدليل إنّما قام على ارتفاع الحرمة الفعلية لأجل عروض ما يوجب ارتفاعها وهو الاضطرار ، وأمّا ملاكها فلا دليل على ارتفاعه أصلاً ، ودليل رفع الحكم لا يكون دليلاً عليه بنفسه ، ضرورة أنّه لا يدل إلاّعلى رفع الحكم فحسب ، وأمّا رفع الملاك فلا. وعليه فبما أنّ الفعل في هذا الحال ـ أي حال الاضطرار ـ أيضاً مشتمل على ملاك التحريم ، فلا يصلح أن يتقرب به ، فإذن لا يمكن التمسك باطلاق دليل الأمر.

وبكلمة واضحة أنّ لنا في المقام دعويين :

الاولى : أنّ ملاك التحريم باقٍ بحاله والمرفوع بأدلة الاضطرار إنّما هو الحرمة فحسب.

الثانية : أنّه مع هذا الملاك لا يمكن الحكم بصحة العبادة والتقرب بها.

أمّا الدعوى الاولى : فلأنّ حديث الرفع أو ما شاكله حيث قد ورد في مورد الامتنان ، فلا محالة يدل على أنّ رفع الحكم لاضطرارٍ أو نحوه مستند إلى ذلك ـ أي الامتنان ـ وقضية ذلك ثبوت المقتضي والملاك له ، وإلاّ فلا معنى

__________________

(١) راجع المجلد الثاني من هذا الكتاب ص ٣٦٢ وما بعدها.

٥٣

لكونه وارداً في مورد الامتنان ، ضرورة أنّ معنى وروده في ذلك المورد هو أنّه لولا الامتنان لكان الحكم ثابتاً ، وهذا قرينة واضحة على أنّ المقتضي له تام ولا قصور فيه أصلاً ، وإلاّ فلا يكون في رفعه امتنان.

وعلى الجملة : فلا شبهة في أنّ رفع الحكم امتناناً على الامّة في نفسه قرينة واضحة على ثبوت المقتضي والملاك له ، وإلاّ فلا منّة في رفعه أصلاً ، كما هو واضح.

وأمّا الدعوى الثانية : فلا ريب في أنّ الفعل إذا كان مشتملاً على مفسدة فلا يمكن التقرب به ، ضرورة أنّ المفسدة مانعة عن التقرب بها وبدونه لا يمكن الحكم بصحته.

ولكن هذه الدعوى خاطئة جداً ، وذلك لأنّ الفعل المضطر إليه وإن كان مشتملاً على ملاك التحريم ومقتضيه كما هو قضية رفعه امتناناً ، إلاّ أنّ ذلك الملاك بما أنّه غير مؤثر في المبغوضية فلا يمنع عن صحة العبادة ، فانّ المانع عنها كما عرفت إنّما هو المبغوضية والحرمة ، والمفروض أنّهما قد سقطتا من ناحية الاضطرار أو نحوه واقعاً. ومجرد اشتمال الفعل على مفسدة غير مؤثرة فيهما لا أثر له أصلاً ، ومن الواضح جداً أنّ الفعل إذا كان جائزاً واقعاً كالتصرف في الماء المغصوب عند الاضطرار إليه ، فلا مانع من التمسك باطلاق الواجب لاثبات كونه مصداقاً له.

وعلى الجملة : فالتصرف في الماء المغصوب بعد سقوط الحرمة عنه واقعاً جائز كذلك ، ومعه لا مانع من التوضؤ أو الاغتسال به ، ومجرد اشتماله على مفسدة بلا تأثيرها في حرمته ومبغوضيته غير مانع عن التقرب بايجاد الطبيعة المأمور بها في ضمنه ، هذا حال غير الصلاة من العبادات.

وأمّا الصلاة في الأرض المغصوبة في حال الاضطرار فيقع الكلام في حكمها

٥٤

في مقامين :

الأوّل : فيما إذا لم يتمكن المكلف من الخروج عنها في الوقت ، بمعنى أنّه لا مندوحة له.

الثاني : فيما إذا تمكن من الخروج عنها فيه بأن تكون له مندوحة في الجملة.

أمّا المقام الأوّل : فهل يجوز له الاتيان بالصلاة فيها مع الركوع والسجود ، أو يجب الاقتصار على الايماء والاشارة بدلاً عنهما ، باعتبار أنّ الركوع والسجود تصرف زائد على مقدار الضرورة فلا يجوز؟ قولان.

ذهب جماعة إلى القول الثاني ، بدعوى أنّه لا بدّ في جواز التصرف في أرض الغير من الاقتصار على مقدار تقتضيه الضرورة دون الزائد على ذلك المقدار ، فانّ الزائد عليه غير مضطر إليه فلا محالة لا يجوز ، وبما أنّ الركوع والسجود تصرف زائد على ذاك المقدار فلا يسوغ ، فإذن وظيفته الايماء والاشارة بدلاً عنهما.

هذا ، وأمّا شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) فقد سلّم أنّ الأمر كذلك بنظر العرف ولم يكن كذلك بنظر العقل ، فله قدس‌سره هنا دعويان :

الاولى : أنّ الركوع والسجود تصرف زائد عند العرف.

الثانية : أنّهما ليسا بتصرف زائد عند العقل.

أمّا الدعوى الاولى : فاستظهر أنّ الركوع والسجود يعدّان عرفاً من التصرف الزائد ، باعتبار أنّهما مستلزمان للحركة وهي تصرف زائد بنظر العرف ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ العبرة في صدق التصرف الزائد

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٨٤.

٥٥

على مقدار الضرورة بما أنّها بنظر العرف لا بالدقة الفلسفية ، فلا محالة وجب الاقتصار في الصلاة على الايماء والاشارة بدلاً عنهما.

وأمّا الدعوى الثانية : فلأنّ العقل يحكم بأن كل جسم يشغل المكان المغصوب بمقدار حجمه من الطول والعرض والعمق ، ومن الواضح جداً أنّ ذلك المقدار لا يختلف باختلاف أوضاعه وأشكاله ، ضرورة أنّه سواء أكان على هيئة القائم أو القاعد أو الراكع أو الساجد أو ما شاكل ذلك ، يشغل مقداراً خاصاً من المكان ، وهذا لا يتفاوت زيادةً ونقيصةً بتفاوت تلك الأوضاع والأحوال ، وعليه فكونه على هيئة الراكع أو الساجد ليس تصرفاً زائداً بنظر العقل على كونه على هيئة القائم أو القاعد ... وهكذا ، وهذا واضح.

ونتيجة ما أفاده قدس‌سره هي وجوب الاقتصار على الايماء والاشارة في الصلاة وعدم جواز الاتيان بالركوع والسجود.

ولكنّ الصحيح هو القول الأوّل ، والوجه في ذلك : هو أنّ كل جسم له حجم خاص ومقدار مخصوص كما عرفت يشغل المكان بمقدار حجمه دون الزائد عليه ، ومن الطبيعي أنّ مقدار تحيزه وشغله المكان لا يختلف باختلاف أوضاعه وأشكاله الهندسية من المثلث والمربع وما شاكلهما ، بداهة أنّ نسبة مقدار حجمه إلى مقدار من المكان نسبة واحدة في جميع حالاته وأوضاعه ، ولا تختلف تلك النسبة زيادة ونقيصة باختلاف تلك الأوضاع الطارئة عليه ، مثلاً إذا اضطرّ الانسان إلى البقاء في المكان المغصوب كما هو مفروض الكلام في المقام لا يفرق فيه بين أن يكون قائماً أو قاعداً فيه ، وأن يكون راكعاً أو ساجداً ، فكما أنّ الركوع والسجود تصرّف فيه ، فكذلك القيام والقعود ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً ، بداهة أنّ الركوع والسجود ليسا تصرّفاً زائداً على القيام والقعود لا بنظر العقل ولا العرف ، فعندئذ لا وجه للقول

٥٦

بوجوب الاقتصار على الايماء بدلاً عنهما.

ودعوى أنّهما يعدّان بنظر العرف من التصرف الزائد خاطئة جداً ، ضرورة أنّه لا فرق في نظر العرف بين أن يكون الانسان قائماً في الدار المغصوبة أو قاعداً ، وبين أن يكون راكعاً أو ساجداً فيها ، فكما أنّ الثاني تصرّف فيها بنظره فكذلك الأوّل ، وليس في الثاني تصرّف زائد بنظره بالاضافة إلى الأوّل ، وهذا لعلّه من الواضحات.

فإذن لا وجه لما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من التفرقة بين نظر العرف ونظر العقل. ولعل منشأها هو الغفلة عن تحليل نقطة واحدة ، وهي عدم الفرق بين كون المكلف في الأرض المغصوبة على هيئة واحدة وكونه على هيئات متعددة ، وتخيل أنّه إذا كان على هيئة واحدة فهو مرتكب لحرام واحد ، وإذا كان على هيئات متعددة كأن يكون راكعاً مرّةً وساجداً مرّة اخرى فهو مرتكب لمحرّمات متعددة ، ولأجل ذلك لا محالة وجب الاقتصار فيها على هيئة واحدة ، فانّ الضرورة تتقدر بقدرها فلا يجوز ارتكاب الزائد.

ولكن من المعلوم أنّ هذا مجرد خيال لا واقع له أبداً ، وذلك لأنّ كون المكلف فيها على هيئة واحدة في كل آن وزمن تصرّف في الأرض ومحرّم ، لا أنّ كونه عليها في جميع الآنات والأزمنة تصرّف واحد ومحكوم بحكم واحد ، لتكون الحركة فيها تصرفاً زائداً ، ومن الواضح جداً أنّه لا فرق في ذلك بين نظر العقل ونظر العرف ، فكما أنّ الكون في الأرض المغصوبة في كل آنٍ تصرّف فيها ومحرّم ، بلا فرق بين أن يكون في ضمن هيئة واحدة أو هيئات متعددة بنظر العقل ، فكذلك الكون فيها في كل آن تصرّف ومحرّم كذلك بنظر العرف.

وبكلمة اخرى : أنّ جعل الركوع والسجود تصرفاً زائداً مبني على ما ذكرناه من الخيال الخاطئ ، وهو أنّ بقاء الانسان في الأرض المغصوبة على

٥٧

حالة واحدة وهيئة فاردة من القيام أو القعود تصرّف واحد بنظر العرف ، وأمّا إذا اشتغل بالركوع أو السجود فهو تصرف زائد ، غفلةً عن أنّ بقاءه على تلك الحالة الواحدة حرام في كل آن ، ضرورة أنّه في كل آن تصرف في مال الغير بدون إذنه ، كما أنّ انتقاله من هذه الحالة والهيئة إلى حالة اخرى وهيئة ثانية حرام ، وليس هذا تصرفاً زائداً على بقائه على الحالة الاولى ، ضرورة أنّه على الفرض لم يجمع بين الحالتين في مكانين لتكون الحالة الثانية تصرفاً زائداً ، غاية الأمر أنّه تصرّف في الحالة الاولى في مكان وفي الحالة الثانية في مكان آخر ، أو أنّه تصرّف في كلتا الحالتين في مكان واحد وفضاء فارد ، فانّ التصرف في مكان واحد قد يكون بهيئة واحدة ووضع فارد ، وقد يكون بهيئات متعددة وأوضاع مختلفة ، ومن الطبيعي أنّ تصرّفه في الحالة الثانية وبهيئة اخرى في مكان آخر أو في نفس المكان الأوّل بمقدار تحيزه في الحالة الاولى وبالهيئة السابقة دون الزائد ، لوضوح أنّ مقدار تحيز الجسم المكان لا يختلف باختلاف أوضاعه وأشكاله لا عقلاً ولا عرفاً ، كما هو واضح.

نعم ، لو كان البقاء فيها على حالة واحدة محرّماً بحرمة واحدة في تمام الآنات والأزمنة ، لكان الالتزام بما أفاده قدس‌سره مما لا بدّ منه ، وعليه فلا بدّ من الحكم بحرمة كل حركة فيها والاقتصار على حالة واحدة في تمام آنات البقاء ، ولكن قد عرفت أنّه مجرد فرض لا واقع له أصلاً.

وعلى ضوء هذا البيان قد تبيّن أنّه ليست الصلاة مع الركوع والسجود تصرفاً زائداً على الصلاة مع الايماء والاشارة ، ومما يشهد على ذلك : أنّ العرف لا يرون أنّ المصلي في الأرض المغصوبة إذا كان على وضع الراكع أو الساجد يكون تصرفه فيها أزيد مما إذا كان على غير هذا الوضع وغير هذا الشكل ، كما هو واضح. فالنتيجة أنّ وظيفته هي الصلاة مع الركوع والسجود فيها دون

٥٨

الصلاة مع الايماء.

وممن اختار هذا القول في المسألة صاحب الجواهر قدس‌سره حيث قال في بحث مكان المصلي ما إليك نصه : تصح منه صلاة المختار ، ضرورة عدم الفرق بينه وبين المأذون في الكون بعد اشتراكهما في إباحته وحليته. نعم ، لو استلزمت الصلاة تصرفاً زائداً على أصل الكون لم يجز ، لعدم الاذن فيه ، لا ما إذا لم تستلزم فانّها حينئذ أحد أفراد الكون الذي فرض الاذن فيه. على أنّ القيام والجلوس والسكون والحركة وغيرها من الأحوال متساوية في شغل الحيز ، وجميعها أكوان ولا ترجيح لبعضها على بعض ، فهي في حد سواء في الجواز ، وليس مكان الجسم حال القيام أكثر منه حال الجلوس. نعم ، يختلفان في الطول والعرض ، إذ الجسم لا يحويه الأقل منه ولا يحتاج إلى أكثر مما يظرفه ، كما هو واضح بأدنى تأمل.

ثمّ قال : ومن الغريب ما صدر من بعض متفقهة العصر بل سمعته من بعض مشايخنا المعاصرين من أنّه يجب على المحبوس الصلاة على الكيفية التي كان عليها أوّل الدخول إلى المكان المحبوس فيه ، إن قائماً فقائم وإن جالساً فجالس ، بل لا يجوز له الانتقال إلى حالة اخرى في غير الصلاة أيضاً ، لما فيه من الحركة التي هي تصرف في مال الغير بغير إذنه ، ولم يتفطن أنّ البقاء على الكون الأوّل تصرّف أيضاً لا دليل على ترجيحه على ذلك التصرف ، كما أنّه لم يتفطن أنّه عامل هذا المظلوم المحبوس قهراً بأشد ما عامله الظالم ، بل حبسه حبساً ما حبسه أحد لأحد ، اللهمّ إلاّ أن يكون في يوم القيامة مثله ، خصوصاً وقد صرّح بعض هؤلاء أنّه ليس له حركة أجفان عيونه زائداً على ما يحتاج إليه ، ولا حركة يده أو بعض أعضائه كذلك ، بل ينبغي أن تخص الحاجة في التي تتوقف عليها حياته ونحوها مما ترجح على حرمة التصرف في مال الغير ، وكل

٥٩

ذلك ناشٍ عن عدم التأمل في أوّل الأمر والأنفة عن الرجوع بعد ذلك (١).

أقول : الأمر كما أفاده قدس‌سره فانّه لو حرم عليه جميع الحركات والتقلبات فيها حتى مثل حركة اليد وما شاكلها فهذا كان غاية الضيق عليه وأشد مما حبسه الظالم ، ومن الواضح جداً أنّ ذلك مناف لرفع الشارع حرمة التصرف عنه امتناناً ، ضرورة أنّ في ذلك ليس أيّ امتنان بل هو خلاف الامتنان ، كيف فانّ الانسان لا يخلو من مثل هذه التصرفات والتقلبات أبداً ، فانّها من لوازم حياته ، وأنّ الانسان الحي لا يخلو منها في زمان من الأزمنة ، ومع هذا لا يمكن الحكم بحرمة هذه التقلبات والاقتصار على مقدار يتوقف عليه حفظ نفسه ، ضرورة أنّ هذا أشد ظلماً مما فعله الظالم.

وأمّا المقام الثاني : وهو ما إذا كان المكلف متمكناً من التخلص عن الغصب في الوقت ، فيقع الكلام فيه في موردين :

الأوّل : ما إذا كان المكلف متمكناً من الصلاة في خارج الدار لبقاء الوقت ، وهذا الفرض وإن كان خارجاً عن محل الكلام إلاّ أنّه لا بأس بالتعرض له لمناسبة.

الثاني : ما إذا لم يتمكن من الصلاة في الخارج لضيق الوقت وعدم تمكنه من إدراك تمام الصلاة فيه.

أمّا المورد الأوّل : فلا إشكال في لزوم الخروج عليه والتخلص عن الغصب في أوّل أزمنة الامكان عقلاً وشرعاً ، ولا يجوز له البقاء فيها آناً ما بعد تمكنه من الخروج ، لأنّه تصرف زائد على مقدار تقتضيه الضرورة.

__________________

(١) الجواهر ٨ : ٣٠٠.

٦٠