محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-15-2
الصفحات: ٥٧٠

كان دائراً بين المتباينين فهو وإن لم يوجب إجمال العام حقيقةً إلاّ أنّه يوجب إجماله حكماً فلا يمكن التمسك به.

الثامنة : أنّه لا يجوز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية مطلقاً ، أي سواء أكان المخصص متصلاً أم كان منفصلاً. أمّا على الأوّل فواضح كما تقدم بشكل موسّع. وأمّا على الثاني فكذلك حيث إنّ القضية سواء أكانت حقيقيةً أم كانت خارجيةً لا تتكفل لبيان موضوعها نفياً وإثباتاً وإنّما هي متكفلة لبيان الحكم عليه على تقدير تحققه في الخارج ، وما نسب إلى المشهور من أنّهم يجوّزون التمسك بالعام في الشبهات المصداقية مبني على الحدس والاستنباط ولعله لا أصل له. وأمّا ما نسب إلى السيد الطباطبائي قدس‌سره من جواز التمسك به فيها لا أصل له كما عرفت بشكل مفصّل.

التاسعة : أنّ شيخنا الاستاذ قدس‌سره قد ذكر أنّ المشهور حكموا بالضمان فيما إذا دار أمر اليد بين كونها عاديةً أو غير عادية ، واحتمل أنّ وجه فتواهم بذلك أحد امور ، ثمّ ناقش في جميع هذه الامور وبعد ذلك بيّن قدس‌سره وجهاً آخر لذلك وقد تقدم أنّ ما ذكره قدس‌سره من الوجه متين جداً. نعم ، فيما إذا كان المالك راضياً بتصرف ذي اليد في ماله ولكنّه يدّعي ضمانه بعوضه وهو يدّعي فراغ ذمته عنه ، ففي مثل ذلك مقتضى الأصل عدم الضمان على تفصيل تقدم.

العاشرة : أنّ ما يمكن أن يستدل به على جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية هو أنّ ظهور العام في العموم قد انعقد والمخصص المنفصل لا يكون مانعاً عن انعقاده على الفرض ، والمفروض أنّ هذا الظهور حجة ما لم يقم دليل على خلافه ، ولا دليل عليه بالاضافة إلى الأفراد المشكوكة ، حيث إنّ الخاص لا يكون حجة فيها وقد عرفت بشكل موسّع خطأ هذا الاستدلال فلاحظ.

٤٠١

الحادية عشرة : أنّ شيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره فصّل بين ما كان المخصص لفظياً وما كان لبياً ، فعلى الأوّل لا يجوز التمسك بالعام دون الثاني ، وتبعه فيه المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره أيضاً وقد أفاد في وجه ذلك ما يرجع إلى عدّة خطوط وقد فصّلنا الكلام حول هذه الخطوط بشكل موسّع وقلنا إنّ هذا التفصيل لا يرجع إلى معنىً محصّل ، فالصحيح هو تفصيل آخر : وهو أنّ في كل مورد ثبت أنّ أمر التطبيق أيضاً بيد المولى يجوز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ، وكل مورد كان أمر التطبيق بيد المكلف لا يجوز التمسك به.

الثانية عشرة : الصحيح جريان الأصل في الأعدام الأزلية ، وعليه فيمكن إحراز دخول الفرد المشتبه في أفراد العام وترتب حكمه عليه ، ولكن أنكر ذلك شيخنا الاستاذ قدس‌سره وشدّد ذلك ببيان مقدمات ، وقد ذكرنا أنّ المقدمات التي ذكرها قدس‌سره بأجمعها في غاية الصحة والمتانة إلاّ أنّها لا تقتضي عدم جريان هذا الأصل ، وأنّ المأخوذ في موضوع العام بعد التخصيص هو العدم النعتي لا المحمولي ، وقد عرفت أنّ المأخوذ فيه هو العدم المحمولي ، وعليه فلا مانع من جريان هذا الأصل لاحراز أنّ الفرد المشتبه داخل في أفراد العام ومحكوم بحكمه.

الثالثة عشرة : أنّه يعتبر في صحة النذر أن يكون متعلقه راجحاً ، فلو شك في ذلك لم يجز التمسك بعموم وجوب الوفاء بالنذر ، لأنّ الشبهة مصداقية فلا يجوز التمسك بالعام فيها ، وأمّا صحة الإحرام قبل الميقات بالنذر وكذلك الصوم في السفر فانّما هي من جهة الروايات الخاصة لا من جهة التمسك بعموم وجوب الوفاء بالنذر.

الرابعة عشرة : إذا علم بخروج فرد عن حكم العام وشك في أنّ خروجه

٤٠٢

من باب التخصيص أو من باب التخصص فلا يمكن التمسك بأصالة عدم التخصيص لاثبات أنّ خروجه من باب التخصص ، فانّ الاصول اللفظية وإن كانت مثبتاتها حجةً إلاّ أنّه لا دليل على جريانها في مثل المقام.

الخامسة عشرة : أنّ الأقوال في ماء الاستنجاء ثلاثة ، الصحيح بمقتضى الفهم العرفي أنّه طاهر ، فانّ ما دلّ على طهارة ماء الاستنجاء بالملازمة العرفية يتقدم على ما دلّ على نجاسته كذلك ، لوروده في مورد خاص.

الفحص عن المخصص

قبل التكلم في ادلته ينبغي تقديم ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) تبعاً للمحقق صاحب الكفاية (٢) وهو نقطة الفرق بين الفحص هنا والفحص في موارد الاصول العملية وحاصلها : هو أنّ الفحص في المقام إنّما هو عن المانع والمزاحم لحجية الدليل مع ثبوت المقتضي لها ـ وهو ظهوره في العموم ـ حيث إنّه قد انعقد ، لفرض عدم الاتيان بالقرينة المتصلة المانعة عن انعقاد ظهوره في العموم ، والفحص إنّما هو عن وجود قرينة منفصلة وهي إنّما تزاحم حجية العام لا ظهوره ، فالمقتضي للعمل به موجود ـ وهو الظهور ـ والفحص إنّما هو لرفع احتمال وجود المانع عنه في الواقع ، وهذا بخلاف الفحص في الشبهات البدوية في موارد التمسك بالاصول العملية ، فانّه لتتميم المقتضي.

أمّا بالاضافة إلى أصالة البراءة العقلية فواضح ، حيث إنّ العقل لا يستقل

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٥١.

(٢) كفاية الاصول : ٢٢٧.

٤٠٣

بقبح العقاب بدون بيان ما لم يقم العبد بما هو وظيفته من الفحص عن أحكام المولى المتوجهة إليه ، لوضوح أنّه لا يجب على المولى إيصال الأحكام إلى المكلفين على نحو لا يخفى عليهم شيء منها ، بل الذي هو وظيفة المولى بيان الأحكام لهم على النحو المتعارف بحيث إنّهم لو قاموا بما هو وظيفتهم وهي الفحص عنها لوصلوا إليها.

وعلى هذا الضوء فلايكون موضوع أصالة البراءة العقلية محرزاً قبل الفحص ، فانّ موضوعها عدم البيان فلا بدّ في جريانها من إحرازه ، ومن المعلوم أنّه قبل الفحص غير محرز حيث يحتمل وجود بيان في الواقع بحيث لو تفحّصنا عنه لوجدناه ، ومع هذا الاحتمال كيف يكون محرزاً. فالنتيجة : أنّ عدم جريانها قبل الفحص إنّما هو لعدم المقتضي لها ، والفحص إنّما هو لتتميمه وإحراز موضوعها. وعلى الجملة فمن البديهي أنّ العقل يستقل باستحقاق العقاب على مخالفة التكليف المجهول إذا لم يقم العبد بما هو وظيفته من الفحص عن أحكام المولى مع احتمال قيام المولى بما هو وظيفته من بيان أحكامه المتوجهة إلى عبده بحيث إنّ العبد لو تفحص عنها لظفر بها ، ومعه كيف يكون العقل مستقلاً بعدم استحقاق العقاب عليها.

وقد ذكرنا في محلّه أنّه لا تنافي بين هذه القاعدة وقاعدة قبح العقاب من دون بيان ، لاختلافهما مورداً وموضوعاً. أمّا مورداً ، فلأن مورد تلك القاعدة ما كان التكليف الواقعي فيه منجّزاً بمنجّزٍ مّا ، دون مورد هذه القاعدة ، أي قاعدة قبح العقاب حيث إنّ التكليف الواقعي فيه غير منجّز لفرض عدم قيام منجّز عليه. وأمّا موضوعاً ، فلأنّ موضوع تلك القاعدة هو ما قام بيان على التكليف ومنجّز عليه ولو كان ذلك البيان والمنجّز نفس احتماله في الواقع ، حيث إنّه منجّز بحكم العقل إذا كان قبل الفحص ، وأمّا موضوع هذه القاعدة هو ما

٤٠٤

لا يقوم بيان ومنجّز عليه.

وأمّا البراءة الشرعية فأدلتها على تقدير تماميتها سنداً وإن كانت مطلقة وغير مقيدة بالفحص ، إلاّ أنّ إطلاقها قد قيّد باستقلال العقل بوجوب الفحص وأ نّه لا يجوز العمل باطلاقها ، وإلاّ لزم كون بعث الرسل وإنزال الكتب لغواً ، ضرورة أنّه لو لم يجب الفحص بحكم العقل والنظر لم يمكن إثبات أصل النبوة ، حيث إنّ إثباتها يتوقف على وجوب النظر إلى المعجزة وبدونه لا طريق لنا إلى إثباتها. وعلى الجملة فكما أنّ ترك النظر إلى المعجزة قبيح بحكم العقل المستقل لاستلزامه نقض الغرض الداعي إلى بعث الرسل وإنزال الكتب ، فكذلك ترك الفحص عن الأحكام الشرعية المتوجهة إلى العباد بعين هذا الملاك.

فالنتيجة : أنّ موضوع أدلة البراءة الشرعية قد قيّد بما بعد الفحص ، فالفحص في مواردها إنّما هو متمم لموضوعها ، ومن ذلك يظهر حال دليل الاستصحاب أيضاً حرفاً بحرف.

ولنأخذ بالنظر على ما أفاداه قدس‌سرهما بيان ذلك : أنّ هذه النظرية وإن كانت لها صورة ظاهرية ، إلاّ أنّه لا واقع موضوعي لها ، فانّ الفحص في كلا المقامين كان مرّةً عن ثبوت المقتضي والموضوع ، ومرّةً اخرى عن وجود المزاحم والمانع ، توضيح ذلك : أنّ العمومات الواردة في الكتاب أو السنّة أو من الموالي العرفية إن كانت في معرض التخصيص بحيث قد قامت قرينة من الخارج على أنّ المتكلم بها قد اعتمد في بيان مراداته منها على القرائن المنفصلة والبيانات الخارجية المتقدمة أو المتأخرة زماناً ، حيث إنّ دأبه إنّما هو على عدم بيان مراده في مجلس واحد ، أو أخّر البيان لأجل مصلحة مقتضية لذلك كما هو الحال في عمومات الكتاب ، حيث إنّ الله تعالى أوكل بيان المراد منها إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأوصيائه عليهم‌السلام.

٤٠٥

ومن هنا قد ورد من الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام مخصصات بالاضافة إلى عمومات الكتاب والسنّة أو ورد منهم عليهم‌السلام عمومات ولكن اخّر بيانها إلى أمد آخر لأجل مصلحة تقتضي ذلك أو مفسدة في البيان كخلاف تقية أو نحوها ، ونتيجة ذلك : أنّ مثل هذه العمومات التي قد علمنا من الخارج أنّها في معرض التخصيص وأنّ دأب المتكلم بها إنّما هو على بيان مراداته الواقعية منها بالقرائن المنفصلة المتأخرة عنها زماناً أو المتقدمة عليها كذلك ، لا يكون حجةً قبل الفحص ، لعدم إحراز بناء العقلاء على العمل بها قبله ، وبدونه فلا يمكن التمسك بها ، حيث إنّ عمدة الدليل على حجيتها إنّما هو بناء العقلاء على التمسك بها ، وبما أنّنا لم نحرز البناء منهم على التمسك بتلك الطائفة من العمومات قبل الفحص عن وجود القرائن على خلافها ، فلا يمكن الحكم بحجيتها بدونه ، فاذن بطبيعة الحال كان الفحص عن وجود تلك القرائن بالاضافة إلى هذه العمومات متمماً للموضوع والمقتضي للعمل بها وبدونه لا يتم ، وعليه فحالها من هذه الناحية حال أصالة البراءة فكما أنّ الفحص في موارد التمسك بها يكون متمماً للموضوع والمقتضي له ، فكذلك الفحص في موارد التمسك بهذه العمومات.

وأمّا إذا كانت العمومات ليست من تلك العمومات التي تكون في معرض التخصيص كما هو الحال في أكثر العمومات الواردة من الموالي العرفية بالاضافة إلى عبيدهم وخدمهم ، أو من الموكّلين بالاضافة إلى وكلائهم ، أو من الامراء بالاضافة إلى المأمورين ، فانّ هذه العمومات ليست في معرض التخصيص ، ولأجل ذلك لا مانع من العمل بها قبل الفحص ، حيث إنّها كاشفة عن أنّ المراد الاستعمالي مطابق للمراد الجدي وظاهرة في ذلك ، وهذا الظهور حجة ما لم تقم قرينة على الخلاف ولا يجب عليهم الفحص.

٤٠٦

والسر في ذلك كلّه : هو أنّ السيرة القطعية من العقلاء قد جرت على العمل بها قبل الفحص ، فالتوقف عن العمل بها قبله خلاف تلك السيرة الجارية بينهم ، وهذا بخلاف تلك العمومات فانّ السيرة لم تجر على العمل بها قبل الفحص عن وجود المخصصات والقرائن على الخلاف ، نظراً إلى أنّها غير كاشفة عن مطابقة الارادة الاستعمالية للارادة الجدية ، فاذا كانت العمومات من هذا القبيل لم يجب الفحص عنها إلاّفيما إذا علم إجمالاً بورود مخصص عليها ، فعندئذ لا محالة يجب الفحص لأجل هذا العلم الاجمالي ، حيث إنّه لو لم ينحل بالفحص لكان موجباً لسقوطها عن الحجية والاعتبار ، وضرورة أنّ أصالة العموم تسقط في أطرافه.

ومن الواضح أنّ الفحص حينئذ إنّما هو عن وجود المانع والمزاحم مع ثبوت المقتضي للعمل بها ، يعني هذا العلم الاجمالي يكون مانعاً عن العمل بها مع ثبوت المقتضي له ، ومثل هذه العمومات الاصول العملية في الشبهات الموضوعية حيث إنّ المقتضي للعمل بها في تلك الشبهات تام ولا قصور فيه أصلاً ، نظراً إلى أنّ جريانها فيها لا يتوقف على الفحص إلاّفي موارد العلم الجمالي ، كما إذا علم إجمالاً بنجاسة أحد الاناءين مثلاً أو بخمرية أحدهما ، فانّه مانع عن جريان الاصول في أطرافه مع ثبوت المقتضي لها وعدم قصور فيه أبداً ، ولذا لو انحل هذا العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي بنجاسة أحدهما وجداناً أو تعبداً فلا مانع من جريانها في الآخر.

فالنتيجة : أنّه لا فرق بين الاصول العملية في الشبهات الموضوعية وتلك الطائفة من العمومات وأ نّهما من وادٍ واحد.

إلى هنا قد استطعنا أن نصل إلى هذه النقطة ، وهي أنّه لا فرق بين الفحص في موارد الاصول اللفظية والفحص في موارد الاصول العملية ، فما أفاده شيخنا

٤٠٧

الاستاذ قدس‌سره تبعاً للمحقق صاحب الكفاية قدس‌سره من الفرق بينهما خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً.

وبعد ذلك نقول : إنّ المعروف والمشهور بين الأصحاب هو عدم جواز التمسك بعموم العام قبل الفحص ، وهذا هو الصحيح واستدل على ذلك بعدة وجوه ، ولكنها بأجمعها مخدوشة وغير قابلة للاستدلال بها.

الأوّل : أنّ الظن بمراد المولى من العموم لا يحصل قبل الفحص ، فلزوم الفحص إنّما هو لتحصيل الظن به. وإن شئت قلت : إنّ حجية أصالة العموم ترتكز على إفادة الظن بمراد المولى ، وبما أنّها لا تفيد الظن قبل الفحص عن وجود المخصصات في الواقع فيجب حتى يحصل الظن به.

ويرد عليه أوّلاً : أنّه أخص من المدعى ، فانّ المدعى هو وجوب الفحص مطلقاً وإن فرض حصول الظن منها قبل الفحص ، مع أنّ لازم هذا الوجه هو عدم وجوبه في هذا الفرض. وثانياً : أنّ حجية أصالة العموم إنّما هي من باب إفادة الظن النوعي دون الشخصي كما ذكرناه بشكل موسّع في محلّه ، وعليه فهي حجة سواء أفادت الظن أم لم تفد ، بل لا يضر بحجيتها قيام الظن الشخصي على الخلاف فضلاً عن الظن بالوفاق.

الثاني : أنّ خطابات الكتاب والسنّة خاصة بالمشافهين فلا تعم غيرهم من الغائبيين والمعدومين ، وعليه فلا يمكن لهم أن يتمسكوا بعموم تلك الخطابات لفرض أنّها غير متوجهة إليهم ، بل لا بدّ في إثبات الحكم المتوجه إلى المشافهين لهم من التمسك بذيل قانون الاشتراك في التكليف ، ومن الطبيعي أنّ التمسك بهذا القانون يتوقف على تعيين حكم المشافهين من تلك الخطابات وأ نّه عام أو

٤٠٨

خاص ، ومن المعلوم أنّ تعيينه منها يتوقف على الفحص ، فاذن يجب على غير المشافهين الفحص.

فالنتيجة : أنّ هذه النظرية تستلزم وجوب الفحص عن القرائن والمخصصات على غير المشافهين.

ويرد عليه أوّلاً : أنّه أخص من المدعى ، حيث إنّ جميع الخطابات الواردة في الكتاب والسنّة بشتى أنواعها ليس من الخطابات المشافهيّة ، ضرورة أنّ بعضها ورد على نحو القضية الحقيقية ، ومن الطبيعي أنّها غير مختصة بالمشافهين كقوله تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )(١) وما شاكله ، وكقوله عليه‌السلام : « كل شيء نظيف حتى تعلم أنّه قذر » (٢) و « كل مسكر حرام » (٣) وما شابهها.

وثانياً : أنّا سنذكر في ضمن البحوث الآتية (٤) أنّها لا تختص بالمشافهين والحاضرين في مجلس الخطاب ، بل تعم غيرهم من الغائبين والمعدومين أيضاً.

الثالث : أنّ كل من يتصدى لاستنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنّة يعلم إجمالاً بورود مخصصات كثيرة للعمومات الواردة فيهما. وبتعبير آخر : أنّ المتصدي لذلك يعلم إجمالاً بوجود قرائن على إرادة خلاف الظواهر من الكتاب والسنّة ، وقضية هذا العلم الاجمالي عدم جواز العمل بها إلاّبعد الفحص عن

__________________

(١) آل عمران ٣ : ٩٧.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٦٧ / أبواب النجاسات ب ٣٧ ح ٤.

(٣) الوسائل ٢٥ : ٣٥١ / أبواب الأشربة المحرّمة ب ٢٢ ح ٣.

(٤) في ص ٤٣٠ وما بعدها.

٤٠٩

المخصص والمقيد ، كما أنّ قضية العلم الاجمالي بوجود واجبات ومحرّمات في الشريعة المقدّسة عدم جواز العمل بالاصول العملية إلاّبعد الفحص عن الحجة على التكليف.

وقد يورد عليه : بأنّ المدرك لوجوب الفحص لو كان هو العلم الاجمالي لكانت قضيته وجوب الفحص عن كل ما يحتمل أن يكون فيه مخصص أو مقيد ، سواء أكان من الكتب المعتمدة للشيعة كالكتب الأربعة أم كان من غيرها.

أو فقل : إنّ لازم ذلك هو وجوب الفحص عن كل كتاب يحتمل أن يكون فيه مخصص أو مقيد من دون فرق بين كون ذلك الكتاب كتاباً فقهياً أو اصولياً أو غيرهما. ومن الطبيعي أنّ المجتهد لا يتمكن من الفحص عن كل مسألة مسألة كذلك ، حيث إنّ عمره لا يفي بذلك ، وهذا دليل على أنّ المدرك لوجوب الفحص ليس هذا العلم الاجمالي.

والجواب عنه : أنّ لنا علمين إجماليين : أحدهما علم إجمالي بوجود مخصصات ومقيدات في ضمن الروايات الصادرة عن المعصومين عليهم‌السلام. وثانيهما : علم إجمالي بوجودهما في ضمن خصوص الروايات الموجودة في الكتب المعتمدة للشيعة وفي الأبواب المناسبة للمسألة ، وقضية العلم الاجمالي الأوّل وإن كانت هي وجوب الفحص عن كل كتاب أو باب يحتمل وجود المخصص أو المقيد فيه ، إلاّ أنّ هذا العلم الاجمالي ينحل بالعلم الاجمالي الثاني ، حيث إنّ المعلوم بالاجمال في ذاك العلم ليس بأزيد من المعلوم بالاجمال في هذا العلم ، ومعه لا محالة ينحل العلم الاجمالي الأوّل بالعلم الاجمالي الثاني ، يعني أنّه لا علم لنا بوجود مخصص أو مقيد في الخارج عن دائرة العلم الاجمالي الثاني

٤١٠

وإن كان احتماله موجوداً إلاّ أنّه لا أثر له ولا يكون مانعاً عن التمسك بالعموم أو الاطلاق.

ومن الطبيعي أنّ الفحص عن وجود المخصص أو المقيد في كل مسألة في الأبواب المناسبة لها بمكان من الامكان ولا يلزم منه محذور العسر والحرج عادةً فضلاً عن عدم إمكان ذلك ، نظير ذلك ما إذا علمنا إجمالاً بنجاسة عشرة إناءات في ضمن مائة إناء ، ثمّ علمنا إجمالاً بنجاسة عشرة في ضمن خمسين ، ونحتمل أن تكون العشرة في ضمن المائة بعينها هي العشرة في ضمن الخمسين.

وعلى هذا فلا محالة ينحل العلم الاجمالي الأوّل بالعلم الاجمالي الثاني ، يعني لا علم لنا بالنجاسة الخارجة عن دائرة العلم الاجمالي الثاني وهذا هو معنى الانحلال ، فاذن لا يجب الاجتناب إلاّعن أطراف هذا العلم الاجمالي الثاني دون الزائد عنها ، وقد أجبنا بمثل هذا الجواب عن هذه الشبهة التي أوردها هناك أيضاً على وجوب الفحص في موارد التمسك بالاصول العملية فلاحظ. فالنتيجة في نهاية الشوط : هي أنّ هذا الاشكال غير وارد على هذا الوجه.

نعم ، يرد عليه اشكال آخر : هو أنّ المقتضي لوجوب الفحص لو كان هذا العلم الاجمالي فبطبيعة الحال أنّه إنّما يقتضي وجوبه ما دام لم ينحل ، فاذا انحل العلم الاجمالي بالظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال لم يكن مقتضٍ لوجوب الفحص بعده لا محالة.

وعليه فلا مانع من التمسك بالعموم قبل الفحص ، مع أنّ المدعى وجوبه مطلقاً ولو بعد الانحلال ، ومن هنا يعلم أنّ العلم الاجمالي بما هو لا يصلح أن يكون مدركاً لوجوبه على الاطلاق.

هذا ، وقد تصدى شيخنا الاستاذ قدس‌سره لاثبات أنّ هذا العلم

٤١١

الاجمالي غير قابل للانحلال وأفاد في وجه ذلك ما إليك نصه : ليس الميزان في انحلال العلم الاجمالي هو مجرد وجود القدر المتيقن في البين ليترتب عليه ما ذكرت من انحلال العلم الاجمالي بالظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال من التكاليف أو المخصصات المستلزم لعدم وجوب الفحص بعد ذلك عند احتمال تكليف أو تخصيص ، بل الميزان في الانحلال أمر آخر لا بدّ في توضيحه من بيان امور :

الأوّل : أنّه لا بدّ في موارد العلم الاجمالي من تشكيل قضية شرطية على سبيل منع الخلو ، ضرورة أنّه لازم العلم بأصل وجود الشيء مع الشك في خصوصيته وانطباقه على كل واحد من أطرافه.

الثاني : أنّه يختلف موارد العلم الاجمالي ، فتارةً تكون القضية الشرطية التي لابدّ منها في موارد العلم الاجمالي مؤتلفةً من قضية متيقنة وقضية اخرى مشكوك فيها كما هو الحال في موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر. واخرى تكون القضية الشرطية المزبورة مؤتلفةً من قضيتين يكون كل منهما مشكوكاً فيه كما هو الحال في موارد دوران الأمر بين المتباينين. وثالثةً تكون تلك القضية جامعةً لكلتا الخصوصيتين فهي من جهة تكون مؤتلفةً من قضية متيقنة واخرى مشكوك فيها ، ومن جهة اخرى مؤتلفة من قضيتين مشكوك فيهما ، ولازم ذلك انحلال العلم الاجمالي إلى علمين اجماليين أحدهما من قبيل القسم الأوّل ، والثاني من قبيل القسم الثاني.

الثالث : من القضايا التي قياساتها معها هو استحالة أن يزاحم ما لا يقتضي خلاف شيء لما يقتضي ذلك.

إذا عرفت هذه الامور فاعلم أنّ الانحلال في القسم الأوّل كعدمه في القسم الثاني مما لا ريب فيه ولا إشكال. وأمّا القسم الثالث ففي انحلال العلم الاجمالي فيه وعدمه خلاف ، وتوهم الانحلال فيه هو الموجب لتوهم الانحلال في المقام.

٤١٢

ولكنّ التحقيق خلافه ، وتوضيحه مع التطبيق على المقام هو أن يقال : إنّنا إذا علمنا بعد المراجعة إلى ما بأيدينا من الكتب المعتبرة أنّ فيها ما يخالف الاصول اللفظية والعملية فكل ما فيها من التكاليف الالزامية والتخصيصات الواردة على العمومات يكون منجّزاً لا محالة ، لأنّ المفروض تعلق العلم به بهذا العنوان ، أعني به وروده في تلك الكتب ، وهذا العلم يوجب التنجز بمقدار عنوان متعلقه.

وعليه فالأحكام والمخصصات الواقعية الموجودة في تلك الكتب بما أنّها معلومة بهذا العنوان مع قطع النظر عن كميتها تكون ذات علامة وتعيّن ، فلا ينحل العلم بها بالظفر بمقدار يعلم بتحققه من التكاليف والمخصصات في هذه الكتب ، فانّ العلم بالتكليف المردد بين الأقل والأكثر إنّما يكون منحلاً إلى العلم بوجود الأقل والشك في وجود الأكثر إذا لم يكن الأكثر طرفاً لعلم إجمالي آخر متعلق بعنوان لم تلحظ فيه الكمية.

وأمّا فيما إذا كان كذلك كما في المقام فلا يكون العلم بوجود الأقل موجباً للانحلال ، لأنّ غاية الأمر أنّ العلم بالتكاليف أو المخصصات من جهة تعلقه بما هو مردد بين الأقل والأكثر لا يكون مقتضياً لتنجّز الأكثر وذلك لا ينافي تنجّزها من جهة تعلقه بما له تعيّن وعلامة.

وعليه فكل حكم احتمل المكلف جعله في الشريعة المقدّسة أو كل عام احتمل أن يكون له مخصص يجب الفحص عنه في تلك الكتب ، لكونه من أطراف العلم الاجمالي المتعلق بما له تعيّن وعلامة. ولا يفرق في ذلك بين الظفر بالمقدار المتيقن من حيث الكمية والعدد وعدم الظفر به.

وبالجملة : المعلوم بالاجمال في محل الكلام وإن كان مردداً بين الأقل

٤١٣

والأكثر ، إلاّ أنّ ذلك بمجرده لا يكفي في عدم تنجّز الأكثر بعد تعلق العلم به بعنوان آخر لم تلحظ فيه الكمية والعدد ، فغاية ما هناك هو عدم اقتضاء العلم الثاني للتنجز بالاضافة إلى المقدار الزائد على المتيقن ، لا أنّه يقتضي عدم التنجز بالاضافة إلى ذلك المقدار ، فلا يعقل أن يزاحم اقتضاء العلم الأوّل للتنجز في تمام ما بأيدينا من الكتب على ما هو مقتضى المقدمة الثالثة. ونظير ذلك ما إذا كنت عالماً بأ نّك مديون لزيد بمقدار مضبوط يمكن العلم به تفصيلاً بالمراجعة إلى الدفتر ، فهل يساعد وجدانك على أن تكتفي بمراجعة الدفتر بمقدار يكون فيه القدر المتيقن من الدين ، وهل عدم الاكتفاء به إلاّمن جهة العلم باشتغال الذمة بمجموع ما في الدفتر الموجب لتنجّز الواقع المعنون بهذا العنوان على ما هو عليه في نفس الأمر من الكمية والمقدار.

فاتضح مما ذكرناه أنّ الانحلال يتوقف زائداً على كون المعلوم مردداً بين الأقل والأكثر على أن لا يكون متعلق العلم معنوناً بعنوان آخر غير ملحوظ فيه الكمية والعدد. وأمّا إذا كان كذلك فلا يعقل فيه الانحلال ، ويستحيل أن يكون مجرد اليقين بمقدار معيّن مما يندرج تحت ذلك العنوان موجباً له ، فانّه يستلزم سقوط ما فيه الاقتضاء عن اقتضائه لأجل ما لا اقتضاء فيه وهو غير معقول (١).

نلخّص ما أفاده قدس‌سره في عدة نقاط :

الاولى : أنّ الضابط في انحلال العلم الاجمالي ليس هو الظفر بالمقدار المعلوم والمتيقن ، بل له نكتة اخرى لا بدّ في الحكم بالانحلال من توفر تلك النكتة ،

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٥٥ ـ ٣٥٩.

٤١٤

وسوف يأتي توضيحها في ضمن النقاط التالية.

الثانية : أنّ القضية المتشكلة في مورد العلم الاجمالي مرةً تكون مركبة من قضية متيقنة وقضية مشكوك فيها كما هو الحال فيما إذا كان المعلوم بالاجمال مردداً بين الأقل والأكثر. واخرى تكون مركبة من قضيتين مشكوكتين كما إذا تردد المعلوم بالاجمال بين أمرين متباينين. وثالثةً تكون جامعة بين الأمرين يعني أنّ العلم الاجمالي في هذه الصورة ينحل في الحقيقة إلى علمين اجماليين ، فالمعلوم بالاجمال في أحدهما مردد بين الأقل والأكثر وفي الآخر بين المتباينين ، فهذه الصورة في الحقيقة مركبة من الصورتين الأوّلتين وليست صورة ثالثة في قبالهما.

الثالثة : أنّ العلم الاجمالي إنّما يكون قابلاً للانحلال فيما إذا تعلق بعنوان لوحظ فيه الكمية والعدد من دون أن يكون ذا علامة وتعين في الواقع كما هو الحال في أكثر موارد العلم الاجمالي.

وأمّا إذا كان متعلقاً بعنوان ذات علامة وتعيّن في الواقع ولم تلحظ فيه الكمية والعدد فهو غير قابل للانحلال بالظفر بالمقدار المتيقن ، ومثال ذلك : هو ما إذا علم إجمالاً بنجاسة أحد الاناءات ، وعلم أيضاً بنجاسة خصوص إناء زيد مثلاً المردد بين تلك الاناءات واحتمل أن يكون المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الأوّل هو إناء زيد كما احتمل أن يكون غيره ، وبما أنّ المعلوم بالعلم الاجمالي الثاني ذو علامة وتعيّن في الواقع دون المعلوم في العلم الاجمالي الأوّل ، فلا ينحل الثاني بانحلال الأوّل بالظفر بالمقدار المعلوم ، حيث إنّ نسبة إناء زيد إلى كل واحد من هذه الاناءات على حد سواء من دون فرق بين المعلوم منها بالتفصيل والمشكوك منها بالشك البدوي.

٤١٥

وإن شئت قلت : إنّ العلم التفصيلي بنجاسة أحدها وإن كان يوجب انحلال العلم الاجمالي الأوّل جزماً ، إلاّ أنّه لا يؤثر بالاضافة إلى العلم الاجمالي الثاني ، فانّ المعلوم بالاجمال فيه وإن احتمل انطباقه على المعلوم بالتفصيل إلاّ أنّ مجرد ذلك لا يكفي بعد ما كانت نسبته إلى كل واحد منها نسبة واحدة ، فلا تنحل القضية الشرطية فيه إلى قضيتين حمليتين إحداهما متيقنة والاخرى مشكوك فيها ، حيث إنّ ملاك انحلال العلم الاجمالي هو انحلال هذه القضية وهي قد انحلت في العلم الاجمالي الأوّل على الفرض دون العلم الاجمالي الثاني.

وما نحن فيه من هذا القبيل فانّ لنا علمين إجماليين : أحدهما متعلق بوجود المخصصات والمقيدات المردد في الواقع بين الأقل والأكثر. وثانيهما متعلق بوجوداتهما في خصوص الكتب الأربعة مثلاً ، فالعلم الاجمالي الثاني يمتاز عن العلم الاجمالي الأوّل حيث إنّ المعلوم بالاجمال في العلم الثاني ذات علامة وتعيّن في الواقع دون المعلوم بالاجمال في العلم الأوّل.

ونتيجة ذلك هي : أنّ العلم الاجمالي الأوّل ينحل بالظفر بالمقدار المعلوم دون الثاني ، نظراً إلى أنّ المعلوم بالاجمال فيه ذات علامة وتعيّن في الواقع من دون لحاظ الكمية والعدد فيه.

وعلى الجملة : فاذا ظفرنا بمقدار من المخصص والمقيد فان لوحظ بالاضافة إلى العلم الاجمالي الأوّل ، فإن كان بمقدار المعلوم بالاجمال فيه فقد انحل لا محالة ، وإن لوحظ بالاضافة إلى العلم الاجمالي الثاني لم يؤثر فيه أصلاً حيث لم تلحظ فيه الكمية ، فما دام العلم الاجمالي متعلقاً بما له تعيّن وعلامة في الواقع فهو غير قابل للانحلال ، ولا ينتفي إلاّبانتهاء تعيّنه وعلامته فيه ، ولازم ذلك هو وجوب الاحتياط بالاضافة إلى كل ما ينطبق عليه المعلوم بالاجمال المعنون بهذا العنوان والعلامة ، وفي المقام العلم الاجمالي الأوّل الذي يدور المعلوم

٤١٦

بالاجمال فيه بين الأقل والأكثر وإن انحل بالظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال ـ وهو الأقل ـ ولازمه هو عدم وجوب الفحص عن المخصص أو المقيد في ضمن الأكثر ، إلاّ أنّ هذا الأكثر طرف للعلم الاجمالي الثاني ، وهو يقتضي وجوب الفحص عنه في ضمنه فلا يزاحم ما لا اقتضاء له ـ وهو العلم الاجمالي الأوّل ـ ما له اقتضاء وهو العلم الاجمالي الثاني.

الرابعة : ما إذا علم شخص إجمالاً بأ نّه مديون لزيد مثلاً بمقدار مضبوط في الدفتر يمكن العلم به تفصيلاً بالمراجعة إليه ، لم يجز له الرجوع إلى أصالة البراءة عن الزائد بعد العلم التفصيلي بالمقدار المتيقن من الدين ، وليس هذا إلاّمن ناحية أنّ المعلوم بالاجمال في هذا العلم الاجمالي ذات علامة وتعيّن في الواقع ، فهو لا محالة يوجب تنجّز الواقع المعنون بهذا العنوان على ما هو عليه في نفس الأمر من الكمية والمقدار.

ولنأخذ بالنظر إلى هذه النقاط :

أمّا النقطة الاولى : فهي خاطئة جداً ولا واقع موضوعي لها أصلاً ، والسبب فيه : هو أنّ الضابط في انحلال العلم الاجمالي إنّما هو الظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال تفصيلاً بالعلم الوجداني أو العلم التعبدي ، فانّه إذا ظفر المكلف بهذا المقدار واحتمل انطباق المعلوم بالاجمال عليه كما هو كذلك ، فبطبيعة الحال ينحل العلم الاجمالي إلى العلم التفصيلي بالاضافة إلى المقدار المعلوم بالاجمال والشك البدوي بالاضافة إلى غيره ، فعندئذ لا مانع من الرجوع إلى الأصل في غير موارد العلم التفصيلي.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون المعلوم بالاجمال ذات علامة وتعيّن في الواقع وأن لايكون كذلك ، ضرورة أنّ المعلوم بالاجمال إذا احتمل انطباقه على المعلوم

٤١٧

بالتفصيل أو على المعلوم بالاجمال في علم إجمالي آخر فضلاً عن إحرازه ، فقد انحل ولو كان ذا علامة وتعيّن في الواقع ، ولا تبقى القضية الشرطية المتشكلة في مورده على سبيل مانعة الخلو ، بل تنحل إلى قضيتين حمليتين : إحداهما متيقنة والاخرى مشكوك فيها ، وليس لانحلاله نكتة اخرى سوى ما ذكرناه ، وما أفاده قدس‌سره من النكتة سوف يأتي بطلانها بشكل موسّع في ضمن البحوث التالية.

وأمّا النقطة الثانية : فيرد عليها أنّ فرض القضية المتشكلة في موارد العلم الاجمالي مركبة من قضية متيقنة وقضية مشكوك فيها بعينه هو فرض انحلال العلم الاجمالي ، أو فقل : إنّ في كل مورد كان المعلوم بالاجمال مردداً بين الأقل والأكثر الاستقلاليين ففيه صورة للعلم الاجمالي لا واقعه الموضوعي.

نعم ، فيما إذا كان الأقل والأكثر ارتباطيين فالعلم الاجمالي في مواردهما وإن كان موجوداً إلاّ أنّ القضية الشرطية فيها ليست مركبة من قضية متيقنة وقضية مشكوك فيها ، بل هي مركبة من قضيتين مشكوكتين ، حيث إنّ العلم الاجمالي في موردهما قد تعلق بالجامع بين الاطلاق والتقييد وكل منها مشكوك فيه ، وبما أنّ الأصل في طرف الاطلاق غير جارٍ لعدم الكلفة فيه ، فلا مانع من جريانه في طرف التقييد ، وبذلك ينحل العلم الاجمالي حكماً ، لما حققناه في الاصول من أنّ تنجيز العلم الاجمالي إنّما يقوم على أساس عدم جريان الاصول في أطرافه وسقوطها من جهة المعارضة.

وأمّا إذا افترضنا أنّ الأصل قد جرى في بعض أطرافه بلا معارض ، فلا يكون العلم الاجمالي مؤثراً ، وما نحن فيه من هذا القبيل. فالنتيجة : أنّ ما فرضه قدس‌سره من تركب القضية في مورده ـ أي مورد العلم الاجمالي ـ هو

٤١٨

فرض انحلاله لا فرض وجوده.

وأمّا النقطة الثالثة : فهي لو تمت فانّما تتم في المثال الذي ذكرناه لا في المقام ، والسبب فيه : هو أنّ المعلوم بالاجمال هنا وإن كان ذا علامة وتعيّن في الواقع ، إلاّ أنّه إنّما يمنع من انحلال العلم الاجمالي بالظفر بالمقدار المتيقن فيما إذا لم يكن في نفسه مردداً بين الأقل والأكثر كالمثال الذي قدّمناه آنفاً.

وأمّا إذا كان ما له العلامة والتعين مردداً أيضاً بين الأقل والأكثر ، فبطبيعة الحال يكون حاله حال ما ليس له العلامة والتعين في الواقع ، فكما أنّ ما ليس له العلامة والتعيّن فيه ينحل بالظفر بالمقدار المتيقن والمعلوم ، فكذلك ما له العلامة والتعين ، وما نحن فيه كذلك ، فانّ ما له العلامة والتعين فيه حاله حال ما ليس له العلامة والتعيّن ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية ، يعني من ناحية الانحلال بالظفر بالمقدار المتيقن.

وإن شئت فقل : كما أنّ العلم الاجمالي بوجود التكاليف والمخصصات في الشريعة المقدّسة ينحل بالظفر بالمقدار المعلوم والمتيقن ، كذلك العلم الاجمالي بوجود التكاليف والمخصصات في خصوص الكتب المعتبرة ينحل بذلك ، والنكتة فيه أنّ المعلوم بالاجمال في هذا العلم الاجمالي كالمعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الأوّل ، يعني أنّ أمره دائر بين الأقل والأكثر.

وعليه فبطبيعة الحال ينحل بالظفر بالمقدار الأقل تفصيلاً ، فلا علم بعده بوجود المخصص أو المقيد في ضمن الأكثر ، والشاهد عليه هو أنّنا لو أفرزنا ذلك المقدار من الكتب المعتبرة فلا علم لنا بعده بوجود المخصص أو المقيد فيها ، وهذا معنى انحلال العلم الاجمالي.

٤١٩

وعلى الجملة : أنّ قوام العلم الاجمالي إنّما هو بالقضية الشرطية المتشكلة في مورده على سبيل مانعة الخلو ، فاذا انحلّت هذه القضية إلى قضيتين حمليتين : إحداهما متيقنة والاخرى مشكوك فيها ، فقد انحل العلم الاجمالي ولا يعقل بقاؤه.

والمفروض في المقام أنّه قد انحلت هذه القضية إلى هاتين القضيتين ، ومجرد كون المعلوم بالاجمال فيه ذا علامة وتعيّن في الواقع لا يمنع عن انحلاله بعد ما كان في نفسه مردداً بين الأقل والأكثر ، كالمعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الأوّل ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ ما أفاده قدس‌سره لا يتم في المثال الذي ذكرناه أيضاً بناءً على ضوء نظريته قدس‌سره من أنّ العلم الاجمالي مقتضٍ للتنجيز لا علة تامة ، والوجه في ذلك : هو أنّ المكلف إذا علم بوجود نجس بين إناءات متعددة مردد بين الواحد والأكثر وعلم أيضاً بنجاسة إناء زيد بالخصوص المعلوم وجوده بين هذه الاناءات ، فانّه إذا علم بعد ذلك وجداناً أو تعبداً بنجاسة أحد تلك الاناءات بعينه ، فهذا العلم التفصيلي كما يوجب انحلال العلم الاجمالي الأوّل المتعلق بوجود النجس بينها المردد بين الأقل والأكثر ، كذلك يوجب ارتفاع أثر العلم الثاني ، لاحتمال أنّ الاناء المعلوم نجاسته تفصيلاً هو إناء زيد ، فلا علم بوجود إناء زيد بين الاناءات الباقية ، كما لا علم بوجود النجس بينها ، فاذن لا مانع من الرجوع إلى أصالة الطهارة في الاناءات الباقية ، ولا يلزم من جريانها فيها مخالفة قطعية عملية ، والمفروض أنّ المانع عن جريان الاصول في أطراف العلم الاجمالي إنّما هو لزوم المخالفة القطعية العملية ، فاذا افترضنا أنّ جريانها في أطرافه لا يستلزم تلك المخالفة فلا مانع منه.

٤٢٠