محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-15-2
الصفحات: ٥٧٠

إلى إرادة تفهيم المعنى الحقيقي ، ولا بالاضافة إلى إرادة تفهيم المعنى المجازي. وعلى الثاني فله تعهد بالاضافة إلى إرادة تفهيم المعنى المجازي دون الحقيقي. وأمّا دلالة اللفظ على إرادة المعنى عن جدٍّ فهي دلالة اخرى غير الدلالة الاولى ، حيث إنّ الاولى مستندة إلى الوضع دون تلك ، فانّها مستندة إلى تباني العقلاء وتعهّدهم ، ومن هنا قد يشك في هذه الدلالة مع القطع بالدلالة الاولى ، وهذا يكشف عن أنّه لا ملازمة بين الدلالتين ، يعني أنّ هدم الدلالة الثانية بالقرينة لايلازم هدم الدلالة الاولى ، والسر فيه ما عرفت من أنّ الدلالة الاولى مستندة إلى تعهد الواضع ، والدلالة الثانية مستندة إلى تعهد العقلاء ، ولذا لو ادعى المتكلم خلاف التعهد الأوّل أو الثاني لم يسمع منه ما لم ينصب قرينة على ذلك ، فان نصب قرينةً متصلةً فهي تدل على أنّه أراد خلاف تعهّد الواضع ، وإن نصب قرينةً منفصلةً فهي تدل على أنّه أراد خلاف تعهد العقلاء ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ ملاك الحقيقة هو كون استعمال اللفظ في المعنى على طبق مقتضى الوضع ، وملاك المجاز هو كون استعمال اللفظ في المعنى على خلاف مقتضاه من جهة قرينة تدل عليه ، وقد عرفت أنّ اللفظ بمقتضى الوضع إنّما يدل على إرادة تفهيم المعنى فحسب دون أزيد من ذلك ، وهذه الدلالة دلالة حقيقية حيث إنّها استعمال اللفظ في معناه الموضوع له ، وأمّا كون هذا المعنى مراداً بارادة جدية أيضاً فهو متوقف على عدم قرينة منفصلة وإلاّ فلا دلالة له على ذلك أصلاً ، فالقرينة المنفصلة إنّما هي تمنع عن حجية الظهور وكشفه عن المراد الجدي والواقعي ، ولا تمنع عن ظهوره في إرادة تفهيمه الذي هو مستند إلى الوضع ، وعليه فاذا ورد عام من المولى ثمّ ورد مخصص منفصل فهذا المخصص المنفصل إنّما يزاحم حجية ظهور العام في العموم ومانع عن كشفه عن الواقع ،

٣٢١

دون أصل ظهوره ، ضرورة أنّ ظهوره في أنّ المولى أراد تفهيم المعنى العام باقٍ على حاله ، والمفروض أنّ هذا الظهور كاشف عن أنّ المتكلم استعمل اللفظ في معناه الموضوع له.

فالنتيجة : أنّ إرادة المتكلم تفهيم المخاطب لمعنى اللفظ الموضوع له أمر ، وكون هذه الارادة جدية وناشئة عن ثبوت الحكم لجميع أفراد المستعمل فيه أمر آخر ، والمفروض أنّ المخصص المنفصل إنّما يكون كاشفاً عن عدم ثبوت الحكم لجميع أفراد العام في الواقع ونفس الأمر ، لا عن كون استعمال العام استعمالاً مجازياً ، ضرورة أنّك قد عرفت ملاك الاستعمال المجازي والاستعمال الحقيقي وأ نّه لا صلة للمخصص المنفصل بهما أصلاً ، لا وجوداً ولا عدماً.

قد يقال كما قيل : إنّ المخصص المنفصل إذا كان كاشفاً عن المراد الجدي وأ نّه غير مطابق للمراد الاستعمالي ـ وهو العموم ـ فما هو فائدة التكلم بالعام واستعماله في العموم ، وما هو الأثر المترتب على عموم المراد الاستعمالي بعد ما لم يكن مراداً جداً وواقعاً.

وفيه : مضافاً إلى أنّ استعمال العام في العموم كما عرفت قد يكون مما لا بدّ منه ، نظراً إلى أنّ المتكلم قد لا يتمكن من التكلم بالخاص لأجل مفسدة فيه أو مصلحة في تأخيره أو تقية أو ما شاكل ذلك ، أنّ استعماله فيه إنّما هو ضرب للقاعدة والقانون ، حيث إنّه لا يجوز التعدي عنه والخروج عن مقتضاه إلاّبقيام دليل على خلافه ، فهو حجة بهذا العنوان العام بالاضافة إلى جميع موارده وصغرياته إلاّما قام الدليل على خروجه عنه فنأخذ به ، وفي الزائد نرجع إلى عمومه قاعدةً وقانوناً.

وأمّا النقطة الثانية : فالأمر فيها أيضاً كذلك ، يعني أنّه لا فرق بين كون

٣٢٢

المخصص ذا عنوان نوعي أو فردي ، فعلى كلا التقديرين لا يوجب التجوّز في ناحية العام.

وأمّا النقطة الثالثة : فيردّها ما تقدم منّا بشكل موسّع من أنّ أداة العموم بنفسها تدل على أنّ مدخولها ملحوظ مطلقاً ، أي بدون أخذ خصوصية ما فيه ، من دون حاجة إلى إجراء مقدمات الحكمة.

إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة : وهي أنّ التخصيص في العام لا يوجب تجوّزاً فيه ، بل هو مستعمل في معناه الموضوع له مطلقاً وإن لم يكن المستعمل فيه مراداً للمتكلم بالارادة الجدية.

وعلى ضوء ما ذكرناه يظهر فساد ما أورده شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) على هذا الوجه ، وحاصله : أنّ الارادة الاستعمالية إن اريد بها إرادة إيجاد المعنى البسيط العقلاني باللفظ بحيث كان اللفظ والارادة مغفول عنهما حين الاستعمال باعتبار أنّ النظر إليهما آلي ، فهذه بعينها هي الارادة الجدية التي يتقوم بها استعمال اللفظ في المعنى. وإن اريد بها الارادة الهزلية في مقابل الارادة الجدية ، فهي وإن كانت لا تنافي استعمال اللفظ في معناه الموضوع له ، لوضوح أنّ الاستعمال الحقيقي لا يدور مدار كون الداعي إلى الاستعمال هو خصوص الارادة الجدية ، إلاّ أنّه لا يعقل الالتزام بكون الداعي إلى استعمال العمومات الواردة في الكتاب والسنّة في معانيها هو الارادة الهزلية.

وجه الظهور : ما عرفت من أنّ الارادة الاستعمالية وإن كانت قد تتحد مع الارادة الجدية إلاّ أنّها قد تفترق عنها فيكون المعنى مراداً استعمالياً ولم يكن

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٠١.

٣٢٣

مراداً عن جد ، ولا يلزم حينئذ أن تكون تلك الارادة إرادة هزلية ، ضرورة أنّه لا ملازمة بين عدم كون الارادة جدية وكونها هزلية ، فانّ إرادة الاستعمال والتفهيم إرادة حقيقية وليست بهزلية وناشئة عن داعٍ من الدواعي ولم يكن ذلك الداعي الارادة الجدية ، وقد عرفت ما هو الداعي لهذه الارادة وما هو الفائدة المترتبة عليها ، ومع هذا كيف تكون هزلية.

ومنها : ما قيل من أنّ تخصيص العام لا يستلزم عدم إرادة العموم منه ، لامكان أن يراد العموم من العام المخصص إرادة تمهيدية ليكون ذكر العام توطئةً لبيان مخصصه ، وحيث إنّ العموم يكون مراداً من اللفظ فبطبيعة الحال يكون اللفظ مستعملاً في معناه الحقيقي.

وأورد عليه شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) بما حاصله : أنّ ذكر العام للدلالة على معناه الموضوع له دلالة تصورية توطئةً للدلالة التصديقية على المعنى المستفاد من مجموع الكلام بعد ضم بعضه إلى بعضه الآخر وإن كان صحيحاً ، إلاّ أنّه لا ينطبق إلاّفي موارد التخصيص بالمتصل ، فتبقى موارد التخصيص بالمنفصل بلا دليل ، على أنّ التخصيص فيها لا يستلزم المجاز.

وفيه : أنّ ما أفاده قدس‌سره خلاف ظاهر هذا الوجه ، فانّ الظاهر من إرادة العموم من العام إرادة تمهيدية هو أنّ العام قد استعمل فيه واريد منه هذا المعنى بالارادة المقوّمة للاستعمال يعني الارادة التفهيمية ، والتعبير عنها بالارادة التمهيدية نظراً إلى أنّ ذكر العام تمهيد وتوطئة لذكر مخصصه بعده. وكيف كان فالظاهر أنّ مردّ هذا الوجه إلى ما ذكرناه وليس وجهاً آخر في قباله.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٠٢.

٣٢٤

ومنها : أنّ العام إنّما يستعمل في العموم دائماً من باب جعل القانون والقاعدة في ظرف الشك فلا ينافيه ورود التخصيص عليه بعد ذلك.

وأورد عليه شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) أيضاً بأنّ ورود العام في بعض الموارد لبيان حكم الشك ضرباً للقاعدة وإن كان مما لاينكر كما في الاستصحاب وقاعدة الطهارة ونحوهما ، إلاّ أنّ التخصيص في هذه الموارد قليل جداً ، حيث إنّ تقدم شيء عليها غالباً يكون بنحو الحكومة أو الورود ، وأمّا العمومات المتكفلة لبيان الأحكام الواقعية للأشياء بعناوينها الأوّلية من دون نظر إلى حال الشك وعدمه ، فلا يكون عمل أهل العرف بها حال الشك كاشفاً عن كونها واردةً في مقام جعل القانون والقاعدة ، حيث إنّ عملهم بها حال الشك في ورود التخصيص عليها إنّما هو من باب العمل بالظهور الكاشف عن كون الظاهر مراداً واقعاً وعن أنّ المتكلم ألقى كلامه بياناً لما أراده في الواقع ، وعليه فلا يعقل كون هذه العمومات واردة لضرب القانون والقاعدة في ظرف الشك كما هو ظاهر.

وفيه : أنّ الظاهر من هذا الوجه ليس هو جعل الحكم على العام في ظرف الشك ليرد عليه ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره ، بل الظاهر منه أنّ الداعي إلى استعمال العام في معناه الموضوع له قانوناً وقاعدةً إنّما هو كون العام بياناً للمراد ما لم يكن هناك قرينة على التخصيص ، ففي كل مورد شك في التخصيص فيه فالمرجع هو عموم العام. فالنتيجة أنّ هذا الوجه أيضاً يرجع إلى ما ذكرناه فليس وجهاً على حدة.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٠٢.

٣٢٥

ومنها : ما ذكره شيخنا الأنصاري قدس‌سره (١) من أنّ التخصيص لا يوجب إجمال العام على تقدير استلزامه المجاز ، ولا يمنع من التمسك به في غير ما خرج منه من الأفراد أو الأصناف ، وقد أفاد في وجه ذلك : أنّ المجاز فيه إنّما يلزم من ورود التخصيص عليه وخروج بعض أفراده أو أصنافه عنه ، لا من بقاء بقية الأفراد أو الأصناف تحته ، ضرورة أنّها داخلة فيه سواء أخصص العام به أم لا. وإن شئت قلت : إنّ المقتضي لبقاء البقية تحت العام موجود وهو عمومه وشموله لها من الأوّل ، فالخروج يحتاج إلى دليل ، فاذا ورد مخصص على العام فقد خرج أفراده عن تحت العام لا محالة ، وأمّا خروج غيرها من الأفراد أو الأصناف عن تحته فهو بلا مقتضٍ وموجب ، حيث إنّ المقتضي للبقاء موجود فالخروج يحتاج إلى دليل وهو مفقود هنا ، وعليه فاذا شككنا في خروج مقدار زائد عمّا خرج عنه بدليل مخصص فالمرجع هو عموم العام بالاضافة إليه ، حيث إنّه لا بدّ من الاقتصار على المقدار الذي نتيقن بخروجه عنه دون الزائد عليه.

وبكلمة اخرى : أنّ دلالة العام على ثبوت الحكم لكل واحد من أفراد مدخوله ليست متوقفةً على دلالته على ثبوت الحكم لغيره من الأفراد جزماً ، فكما أنّ ثبوت الحكم لكل فرد غير منوط بثبوته لغيره من الأفراد ، فكذلك دلالته على ثبوته لكل فرد غير منوط بدلالته على ثبوته لغيره من الأفراد ، والسبب في ذلك واضح ، وهو أنّ المجعول في مقام الثبوت والواقع أحكام متعددة بعدد أفراد مدخوله المحققة والمقدرة ، فيكون كل فردٍ منها في الواقع محكوماً بحكم مستقل بحيث لو خالفه استحق العقوبة وإن كان ممتثلاً للحكم

__________________

(١) مطارح الأنظار : ١٩٢.

٣٢٦

الثابت لغيره من الأفراد. وأمّا في مقام الاثبات فدلالة العام على سراية الحكم إلى جميع أفراد مدخوله تنحل إلى دلالات متعددة في عرض واحد ، ونقصد به عدم توقف دلالة بعضها على بعضها الآخر ، ومن الطبيعي أنّ سقوط بعض هذه الدلالات عن الحجية لدليل خارجي لا يستلزم سقوط غيره من الدلالات عن الحجية ، بل هي باقية عليها ، لفرض أنّ هذه الدلالات دلالات عرضية لا ترتبط إحداها بغيرها ، فاذا سقطت إحداها عن الحجية بقيت الباقية عليها لا محالة لعدم الموجب لسقوطها ، وعليه فخروج أفراد العام عن حكمه لا يوجب ارتفاع دلالته على ثبوت الحكم لبقية الأفراد التي لا يعمها المخصص.

وعلى ضوء هذا البيان يظهر الفرق بين المجاز اللازم فيما نحن فيه والمجاز المتحقق في غير المقام كقولنا : رأيت أسداً يرمي ، فانّ المجاز اللازم هنا إنّما هو من ناحية خروج بعض ما كان داخلاً في عموم العام ، حيث إنّه يستلزم كونه مجازاً في الباقي. وأمّا دخول الباقي فهو غير مستند إلى كون استعماله فيه مجازاً ، فانّه داخل فيه من الأوّل يعني قبل التخصيص ، وعليه فالمجاز مستند إلى خروج ما كان داخلاً فيه لا إلى دخول الباقي ، ونتيجة ذلك : هي أنّ المعنى المجازي في المقام لا يكون مبايناً للمعنى الحقيقي ، فانّ الباقي قبل التخصيص داخل في المعنى الحقيقي وبعده صار معنىً مجازياً ، وهذا بخلاف المعنى المجازي في مثل قولنا : رأيت أسداً يرمي فانّه مباين للمعنى الحقيقي ، وعلى ذلك فالمعنى المجازي وإن كان متعدداً في المقام نظراً إلى تعدد مراتب الباقي تحت العام ، إلاّ أنّ المتعيّن بعد ورود التخصيص عليه هو إرادة تمام الباقي دون غيره من المراتب ، لما عرفت من أنّ الخروج عن حكم العام يحتاج إلى دليل دون دخول الباقي ، فانّ المقتضي له موجود والمانع مفقود. فاذن لا يحتاج إرادته من بين غيره من المراتب إلى قرينة معيّنة.

٣٢٧

وهذا بخلاف ما إذا كان المجاز متعدداً في غير المقام كالمثال المزبور ، فانّه لا يمكن تعيين بعض منه بلا قرينة معيّنة. مثلاً إذا قامت القرينة الصارفة على أنّ المراد من الأسد ليس هو الحيوان المفترس ، ودار أمره بين أن يكون المراد منه الرجل الشجاع أو صورته على الجدار مثلاً أو غيرهما من المعاني المجازية له ، فبطبيعة الحال يحتاج تعيين كل واحد منها إلى قرينة معيّنة ، وبدونها فاللفظ مجمل فلا يدل على شيء منها ، وقد قرّب شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) هذا الوجه بهذا التقريب وقال : إنّه على تقدير تسليم كون التخصيص مستلزماً للمجاز فلا إجمال في العام أيضاً ، وأنّ المرجع في غير أفراد المخصص هو عموم العام.

ولكن لا يمكن المساعدة عليه ، وذلك لما ذكره في الكفاية (٢) من أنّ الدلالة لا بدّ لها من مقتضٍ وهو إمّا الوضع أو القرينة ولا ثالث لهما ، أمّا الأوّل فهو مفقود على الفرض ، حيث إنّ العام لم يوضع للدلالة على سراية الحكم إلى تمام الباقي ، وإنّما وضع للدلالة على سراية الحكم إلى تمام أفراد مدخوله. وأمّا القرينة فكذلك ، فانّ القرينة إنّما قامت على أنّ العام لم يستعمل في معناه الموضوع له ، ولا قرينة اخرى تدل على أنّه استعمل في تمام الباقي ، فما ذكره قدس‌سره من أنّ دلالة العام على ثبوت الحكم لفرد غير منوطة بدلالته على ثبوته لغيره من الأفراد وإن كان متيناً جداً ، إلاّ أنّ ذلك يحتاج إلى مقتضٍ وهو وضع العام للدلالة على العموم ، فاذا افترضنا أنّ دلالته على العموم قد سقطت من ناحية التخصيص فلا مقتضي لدلالته على إرادة تمام الباقي ، لفرض أنّ دلالته عليها إنّما

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٠٣.

(٢) كفاية الاصول : ٢٢٠.

٣٢٨

هي من جهة دلالته على العموم لا مطلقاً.

وعلى الجملة : فالمقتضي ـ وهو دلالته على العموم ـ قد سقط على الفرض ، ولا ظهور له بعد ذلك في إرادة تمام الباقي فانّه يرتكز على أحد أمرين : الوضع أو القرينة المعيّنة ، وكلاهما مفقود كما عرفت. فاذن ما هو المقتضي لظهوره فيها ، فما في كلامه قدس‌سره من أنّ المقتضي لدخول الباقي موجود والخروج يحتاج إلى دليل لا يرجع بالتأمل والتحليل إلى معنىً صحيح على ضوء نظرية أنّ التخصيص يستلزم المجاز ، فانّ المقتضي ـ وهو عموم العام ـ قد سقط بالتخصيص ، فاذن ما هو المقتضي لدخوله ، إذ من المحتمل أنّه قد استعمل بعد التخصيص في بعض مراتب الباقي لا في تمامه ، فالتعيين يحتاج إلى قرينة.

نعم ، لو كانت دلالة العام على العموم عقلية أو كانت ذاتية لتم ما أفاده قدس‌سره كما هو واضح. ولكنّه مجرد افتراض لا واقع موضوعي له. فالنتيجة أنّه لا دافع للاشكال المزبور إلاّعلى ضوء ما ذكرناه من أنّ التخصيص ولو كان بالمنفصل لا يوجب المجاز ، حيث إنّ العام بعد التخصيص أيضاً استعمل في معناه الموضوع له ، وعليه فما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره تبعاً لشيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره من أنّ المقتضي بالاضافة إلى الباقي موجود والمانع مفقود تام ولا مناص عنه ، فانّ المقتضي ـ وهو ظهور العام في العموم المستند إلى الوضع ـ موجود ، والمخصص المنفصل إنّما يكون مزاحماً لحجيته في مقدار سعة مدلوله دون أصل ظهوره. فاذن لا مانع من التمسك به بالاضافة إلى الباقي كلّه ، كما أنّ ما أفاده قدس‌سره من أنّ دلالة العام على سراية الحكم إلى جميع أفراد مدخوله تنحل إلى دلالات متعددة بعدد أفراده ، وهذه الدلالات دلالات عرضية لا يتوقف بعضها على بعضها الآخر ، فاذا سقطت إحداها عن الحجية لم تسقط غيرها ، إنّما يتم على ضوء ما عرفت

٣٢٩

من أنّ التخصيص لا يوجب المجاز. إذن على هذا الأساس فسقوط بعض هذه الدلالات عن الحجية لا يوجب سقوط غيرها عنها ، والسر فيه هو أنّ موضوع الحجية إنّما هو الظهور الكاشف عن مراد المولى ، والمفروض أنّه متحقق في المقام ، والمخصص المنفصل إنّما يمنع عن حجية هذا الظهور وكاشفيته بالاضافة إلى مقدار سعة مدلوله دون الزائد عليه ، فبالنسبة إلى الزائد فالعام باقٍ على ظهوره وكاشفيته عن الواقع ، لعدم المانع عنه على الفرض ، وبدون المانع لا موجب لسقوطه أصلاً.

ومن ذلك يظهر نقطة الفرق بين هذه النظرية ونظرية المجاز ، وهي أنّ المخصص المنفصل على ضوء تلك النظرية يكون مانعاً عن ظهور العام في العموم ومزاحماً له لا عن حجيته فحسب دون أصل ظهوره كما هو كذلك على ضوء هذه النظرية ، وعليه فاذا افترضنا أنّ ظهوره في العموم قد سقط من جهة التخصيص فبطبيعة الحال لا تبقى له دلالة على العموم بالاضافة إلى الأفراد الباقية ، يعني غير أفراد المخصص. ونظير ما ذكرناه هنا موجود في سائر الأمارات والحجج أيضاً ، مثلاً إذا افترضنا أنّ البيّنة قامت على أنّ الدار الفلانية والدار المتصلة بها التي هي واقعة في طرف شرقها والدار الاخرى التي هي واقعة في طرف غربها كلّها لزيد ، ثمّ أقرّ زيد بأنّ الدار الواقعة في طرف الشرق ملك لعمرو ، فلا يكون هذا الاقرار مانعاً عن حجية البيّنة مطلقاً ، وإنّما يكون مانعاً بالاضافة إلى مورده فحسب ، والسبب فيه هو أنّ هذه البيّنة تنحل في الواقع إلى بيّنات متعددة فسقوط بعضها عن الحجية لمانع لا يوجب سقوط غيرها عنها ، لعدم موجب لذلك أصلاً ، وأمثلة ذلك في الروايات كثيرة.

وأمّا الكلام في البحث الثاني : وهو ما يفرض الشك في التخصيص فيه من ناحية الشبهة المفهومية ، فيقع في مقامين : الأوّل : فيما إذا كان أمر المخصص

٣٣٠

المجمل مفهوماً دائراً بين الأقل والأكثر. الثاني : فيما إذا كان أمره دائراً بين المتباينين.

أمّا المقام الأوّل : فتارةً يكون المخصص المجمل متصلاً ، واخرى يكون منفصلاً.

أمّا إذا كان متصلاً فبما أنّه مانع عن انعقاد ظهور العام في العموم من الأوّل حيث إنّه لا ينعقد للكلام الملقى للافادة والاستفادة ظهور عرفي في المعنى المقصود إلاّبعد فراغ المتكلم منه ، فبطبيعة الحال يسري إجماله إلى العام فيكون العام مجملاً حقيقةً ، يعني كما لا ينعقد له ظهور في العموم لا ينعقد له ظهور في الخصوص أيضاً.

وإن شئت قلت : إنّ اتصال المخصص بالعام مانع عن انعقاد ظهوره التصديقي في العموم ، فان لم يكن مجملاً انعقد ظهوره في خصوص الخاص ، وأمّا إذا كان مجملاً فهو كما يمنع عن انعقاد ظهوره التصديقي في العموم كذلك يمنع عن ظهوره التصديقي في خصوص الخاص أيضاً كقولنا : أكرم العلماء إلاّ الفسّاق منهم ، إذا افترضنا أنّ مفهوم الفاسق مجمل ودار أمره بين فاعل الكبيرة فحسب أو الأعم منه ومن فاعل الصغيرة ، ففي مثل ذلك كما أنّ شمول الخاص لفاعل الصغيرة غير معلوم حيث لا يعلم بوضعه للجامع بينه وبين فاعل الكبيرة ، كذلك شمول العام له نظراً إلى إجماله وعدم انعقاد ظهور له أصلاً ، فلا يعلم أنّ الخارج منه فاعلا الكبيرة والصغيرة معاً أو خصوص فاعل الكبيرة ، وعليه فلا محالة يكون المرجع في فاعل الصغيرة الأصل العملي.

فإن كان العام متكفلاً لحكم إلزامي والخاص متكفلاً لحكم غير إلزامي أو بالعكس فالمرجع فيه أصالة البراءة.

٣٣١

وأمّا إن كان كل منهما متكفلاً لحكم إلزامي فيدخل في دوران الأمر بين المحذورين حيث يدور أمره بين وجوب الاكرام وحرمته ، فهل المرجع فيه أصالة التخيير عقلاً أو أصالة البراءة؟ الأظهر هو الثاني فيما إذا كانت الواقعة واحدةً لا مطلقاً على تفصيل يأتي في محلّه (١).

وأمّا إذا كان المخصص المجمل منفصلاً ودار أمره بين الأقل والأكثر كما إذا قال المولى : أكرم العلماء ثمّ قال : لا تكرم الفسّاق منهم وفرضنا أنّ مفهوم الفاسق مجمل ومردد بين فاعل الكبيرة فقط أو الأعم منه ومن فاعل الصغيرة ، فلا يكون إجماله مانعاً عن التمسك بعموم العام ، حيث إنّ ظهوره في العموم قد انعقد ، والمخصص المنفصل كما عرفت لا يكون مانعاً عن انعقاد ظهوره فيه ، وعليه فلا محالة يقتصر في تخصيصه على المقدار المتيقن إرادته من المخصص المجمل ، وهو خصوص فاعل الكبيرة فحسب ، وأمّا في المشكوك ـ وهو فاعل الصغيرة في المثال ـ فبما أنّ الخاص لا يكون حجةً فيه لفرض إجماله ، فلا مانع من التمسك فيه بعموم العام حيث إنّه حجة وكاشف عن الواقع ، ولا يسري إجمال المخصص إليه على الفرض.

وإن شئت قلت : إنّ المخصص المنفصل إنّما يكون مانعاً عن حجية العام وموجباً لتقييد موضوعه في المقدار الذي يكون حجةً فيه ، فان لم يكن مجملاً فهو لا محالة يكون حجةً في تمام ما كان ظاهراً فيه ، وإن كان مجملاً كما في محل الكلام فهو بطبيعة الحال إنّما يكون حجةً في المقدار المتيقن إرادته منه في الواقع دون الزائد ، حيث إنّه كاشف عن هذا المقدار فحسب دون الزائد عليه ، وعلى الأوّل فهو يوجب تقييد موضوع العام بالاضافة إلى جميع ما كان ظاهراً فيه ،

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٣٨٣.

٣٣٢

وعلى الثاني فيوجب تقييده بالاضافة إلى المتيقن فحسب دون الزائد المشكوك فيه ، فانّه لا يكون حجةً فيه ، وعليه فلا مانع من الرجوع فيه إلى عموم العام حيث إنّه شامل له ، ولا مانع من شموله ما عدا كون الخاص حجةً فيه وهو غير حجة على الفرض. وعلى هذا الضوء ففي المثال المتقدم قد ثبت تقييد موضوع العام ـ وهو العالم ـ بعدم كونه فاعل الكبيرة ، وأمّا تقييده بعدم كونه فاعل الصغيرة فهو مشكوك فيه فأصالة العموم في طرف العام تدفعه.

فالنتيجة : أنّ أصالة العموم رافعة لاجمال المخصص حكماً ، يعني لا يبقى معها إجمال فيه من هذه الناحية.

وأمّا المقام الثاني : وهو ما إذا كان أمر المخصص المجمل مردداً بين المتباينين ، فأيضاً تارةً يكون المخصص المجمل المزبور متصلاً ، واخرى يكون منفصلاً.

أمّا الأوّل : فالكلام فيه بعينه هو الكلام في المخصص المتصل المجمل الذي يدور أمره بين الأقل والأكثر ، يعني أنّه يوجب إجمال العام حقيقةً ، فلا يمكن التمسك به أصلاً ، ومثاله كقولنا : أكرم العلماء إلاّزيداً ، مثلاً إذا افترضنا أنّ زيداً دار أمره بين زيد بن خالد وزيد بن بكر ، فانّه لا محالة يمنع عن ظهور العام في العموم ويوجب إجماله حقيقةً. نعم ، يفترق الكلام فيه عن الكلام في ذاك بالاضافة إلى الأصل العملي ، بيان ذلك : أنّ العام أو الخاص إذا كان أحدهما متكفلاً للحكم الالزامي والآخر متكفلاً للحكم الترخيصي ، فالمرجع فيه أصالة الاحتياط ، للعلم الاجمالي بوجوب إكرام أحدهما أو بحرمة إكرامه ، ومقتضى هذا العلم الاجمالي لا محالة هو الاحتياط. وأمّا إذا كان كلاهما متكفلاً للحكم الالزامي بأن يعلم إجمالاً أنّ أحدهما واجب الاكرام والآخر محرّم الاكرام ، فبما أنّه لا يمكن الرجوع إلى الاحتياط ولا إلى أصالة البراءة ، لعدم إمكان الأوّل

٣٣٣

واستلزام الثاني المخالفة القطعية العملية ، فالمرجع فيه لا محالة هو أصالة التخيير. فالنتيجة أنّهما يشتركان في الأصل اللفظي ويفترقان في الأصل العملي.

وأمّا الثاني : وهو ما إذا كان المخصص المجمل المذكور منفصلاً فهو وإن لم يوجب إجمال العام حقيقةً حيث قد انعقد له الظهور في العموم ومن الطبيعي أنّ الشيء لا ينقلب عما هو عليه ، إلاّ أنّه يوجب إجماله حكماً ، مثلاً لو قال المولى : أكرم كل عالم ثمّ قال : لا تكرم زيداً وفرضنا أنّ زيداً دار أمره بين زيد بن عمرو وزيد بن خالد ، فهذا المخصص المنفصل كغيره وإن لم يكن مانعاً عن ظهور العام في العموم لما عرفت ، إلاّ أنّه لا يمكن التمسك بأصالة العموم في المقام ، لأنّ التمسك بها بالاضافة إلى كليهما لا يمكن ، لأنّ العلم الاجمالي بخروج أحدهما عنه أوجب سقوطها عن الحجية والاعتبار فلا تكون كاشفةً عن الواقع بعد هذا العلم الاجمالي ، وأمّا بالاضافة إلى أحدهما المعيّن دون الآخر ترجيح من دون مرجح ، وأحدهما لا بعينه ليس فرداً ثالثاً على الفرض. فالنتيجة أنّ العام في المقام في حكم المجمل وإن لم يكن مجملاً حقيقةً.

وأمّا الكلام في البحث الثالث : وهو ما إذا كان الشك في التخصيص من ناحية الشبهة الموضوعية ، فيقع في جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية وعدم جوازه. الصحيح هو عدم جوازه مطلقاً ، أي سواء أكان المخصص متصلاً أم كان منفصلاً.

أمّا في الأوّل : فلا شبهة في عدم جواز التمسك به في الشبهة المصداقية ، ولا خلاف فيه بين الأصحاب ، ولا فرق فيه بين أن يكون المخصص المتصل بأداة الاستثناء كقولنا : أكرم العلماء إلاّ الفسّاق منهم ، أو بغيرها كالوصف أو نحوه كقولنا : أكرم كل عالم تقي وشككنا في أنّ زيداً العالم هل هو فاسق أو هو تقي أو ليس بتقي ، ففي مثل ذلك لا يمكن التمسك بأصالة العموم لاحراز أنّه ليس

٣٣٤

بفاسق أو هو تقي.

والسبب في ذلك : هو أنّ القضية مطلقاً ، أي سواء أكانت خارجية أم كانت حقيقية ، وسواء أكانت خبرية أم كانت إنشائية ، فهي إنّما تتكفل لبيان حكمها لموضوعه الموجود في الخارج حقيقيةً أو تقديراً من دون دلالة لها على أنّ هذا الفرد موضوع له أو ليس بموضوع له أصلاً ، مثلاً قولنا : أكرم علماء البلد إلاّ الفسّاق منهم ، قضية خارجية تدل على ثبوت الحكم للأفراد الموجودة في الخارج ، فلو شككنا في أنّ زيداً العالم الذي هو من علماء البلد هل هو فاسق أوليس بفاسق فهذه القضية لا تدل على أنّه ليس بفاسق فيجب إكرامه ، ضرورة أنّ مفادها وجوب إكرام عالم البلد على تقدير عدم كونه فاسقاً ، وأمّا أنّ هذا التقدير ثابت أوليس بثابت فهي لا تتعرض له لا إثباتاً ولا نفياً.

وأمّا في القضية الحقيقية كالقضيتين المتقدمتين ونحوهما فالأمر فيها أوضح من ذلك ، فانّ الموضوع فيها بما أنّه قد اخذ في موضع الفرض والتقدير فلأجل ذلك ترجع في الحقيقة إلى قضية شرطية مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت الحكم له ، ومن الطبيعي أنّ القضية الشرطية لا تنظر إلى وجود شرطها في الخارج وعدم وجوده أصلاً ، بل هي ناظرة إلى إثبات التالي على تقدير وجود الشرط كقولنا : الخمر حرام ، البول نجس ، الحج واجب على المستطيع وما شاكل ذلك ، فانّها قضايا حقيقية قد اخذ موضوعها مفروض الوجود في الخارج ، ومدلول هذه القضايا هو ثبوت الحكم لهذا الموضوع من دون نظر لها إلى وجوده وتحققه في الخارج وعدمه أصلاً ، ومن هنا لو شككنا في أنّ المائع الفلاني خمر أو ليس بخمر لم يمكن التمسك باطلاق ما دلّ على حرمة شرب الخمر لاثبات أنّه خمر ، حيث إنّه خارج عن إطار مدلوله فلا نظر له إليه لا إثباتاً ولا نفياً. فالنتيجة أنّ عدم جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية

٣٣٥

في موارد التخصيص بالمتصل بمكان من الوضوح ، هذا.

مضافاً إلى أنّ العام المخصص بالمتصل لا ينعقد له ظهور في العموم وإنّما ينعقد له ظهور في الخاص فحسب كقولنا : أكرم العلماء إلاّ الفساق منهم ، فانّه لا ينعقد له ظهور إلاّفي وجوب إكرام حصة خاصة من العلماء وهي التي لاتوجد فيها صفة الفسق ، وعليه فاذا شككنا في عالم أنّه فاسق أو ليس بفاسق فلا عموم له بالاضافة إليه حتى نتكلم في جواز التمسك به بالنسبة إلى هذا المشكوك وعدم جوازه.

وأمّا الثاني : وهو ما إذا كان المخصص منفصلاً ، فقد قيل إنّ المشهور بين القدماء جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ، وربّما نسب هذا القول إلى السيد قدس‌سره في العروة أيضاً بدعوى أنّ حال هذه المسألة حال المسألة السابقة وهي دوران أمر المخصص بين الأقل والأكثر ، فكما يجوز التمسك بعموم العام في تلك المسألة في الزائد على الأقل حيث إنّ الخاص لا يكون حجةً فيه كي يزاحم ظهور العام في الحجية وفي الكشف عن كونه مراداً في الواقع ، فكذلك يجوز التمسك به في هذه المسألة ببيان أنّ ظهور العام قد انعقد في عموم وجوب إكرام كل عالم سواء أكان فاسقاً أم لم يكن ، وقد خرج منه العالم الفاسق بدليل المخصص ، فحينئذ إن علم بفسقه فلا إشكال في عدم وجوب إكرامه ، وإن لم يعلم به فلا قصور في شمول عموم العام له ، حيث إنّ دليل المخصص غير شامل له باعتبار أنّه لا عموم أو لا إطلاق له بالاضافة إلى الفرد المشكوك ، وعليه فلا مانع من التمسك بعموم العام فيه حيث إنّه بعمومه شامل له ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ هذه النسبة غير مصرّح بها في كلماتهم وإنّما هي استنبطت من بعض الفروع التي هم قد أفتوا بها ، كما أنّ شيخنا العلاّمة

٣٣٦

الأنصاري قدس‌سره (١) قد استنبط حجية الأصل المثبت عندهم من بعض الفروع التي هم قد التزموا بها وذكر قدس‌سره بعض هذه الفروع وقال : إنّها تبتني على القول بحجية الأصل المثبت وبدون القول بها لا تتم.

وعلى الجملة : فبما أنّ هذه المسألة لم تكن معنونةً في كلماتهم لا في الاصول ولا في الفروع ، ولكن مع ذلك نسب إليهم فتاوى لا يمكن إتمامها بدليل إلاّعلى القول بجواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ، فلأجل ذلك نسب إليهم ، هذا.

وأمّا نسبة هذا القول إلى السيد صاحب العروة قدس‌سره فهي أيضاً تبتني على الاستنباط من بعض الفروع التي ذكرها قدس‌سره في العروة (٢) منها قوله : إذا علم كون الدم أقل من الدرهم وشك في أنّه من المستثنيات أم لا يبنى على العفو ، وأمّا إذا شك في أنّه بقدر الدرهم أو أقل فالأحوط عدم العفو. حيث توهم من ذلك أنّ بناءه قدس‌سره على العفو في الصورة الاولى ليس إلاّ من ناحية التمسك بأصالة العموم في الشبهات المصداقية وكذا بناؤه على عدم العفو في الصورة الثانية ليس إلاّمن ناحية التمسك بها فيها ، بيان ذلك :

أمّا في الصورة الاولى : فقد ورد في الروايات أنّه لا بأس بالصلاة في دم إذا كان أقل من درهم منها : صحيحة محمّد بن مسلم قال « قلت له : الدم يكون في الثوب عليّ وأنا في الصلاة ، قال : إن رأيته وعليك ثوب غيره فاطرحه وصلّ في غيره وإن لم يكن عليك ثوب غيره فامض في صلاتك ولا إعادة عليك ما لم يزد على مقدار الدرهم ، وما كان أقل من ذلك فليس بشيء رأيته قبل أو لم

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٦٦٢.

(٢) العروة الوثقى ١ : ٨٦ المسألة ٣ [٢٩٩].

٣٣٧

تره » (١). ومنها : صحيحة ابن أبي يعفور في حديث قال « قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام : الرجل يكون في ثوبه نقط الدم لا يعلم به ثمّ يعلم فينسى أن يغسله فيصلّي ثمّ يذكر بعد ما صلى أيعيد صلاته؟ قال : يغسله ولا يعيد صلاته إلاّ أن يكون مقدار الدرهم مجتمعاً فيغسله ويعيد الصلاة » (٢). ومنها : صحيحة إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر عليه‌السلام « قال : في الدم يكون في الثوب إن كان أقل من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة » (٣) وهذه الروايات استثناء مما دلّ على عدم جواز الصلاة في الدم مطلقاً ولو كان أقل من درهم باعتبار نجاسته ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : قد ورد في رواية اخرى أنّ دم الحيض مانع عن الصلاة مطلقاً ولو كان أقل من الدرهم ، وقد ألحق المشهور به دم النفاس والاستحاضة ، وهي رواية أبي بصير عن أبي عبدالله أو أبي جعفر عليه‌السلام « قال : لا تعاد الصلاة من دم لم تبصره غير دم الحيض فانّ قليله وكثيره في الثوب إن رآه أو لم يره سواء » (٤) فهذه الرواية تقيّد إطلاق الروايات المتقدمة بغير دم الحيض وما الحق به.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي أنّه إذا شككنا في دم يكون أقل من الدرهم أنّه من أفراد المخصص يعني الدماء الثلاثة أو من أفراد العام وهو الروايات المتقدمة ، فالسيد قدس‌سره تمسك بعموم تلك الروايات وحكم

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٣١ / أبواب النجاسات ب ٢٠ ح ٦.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٢٩ / أبواب النجاسات ب ٢٠ ح ١.

(٣) الوسائل ٣ : ٤٣٠ / أبواب النجاسات ب ٢٠ ح ٢.

(٤) الوسائل ٣ : ٤٣٢ / أبواب النجاسات ب ٢١ ح ١ وفي بعض النسخ بدون « لم ».

٣٣٨

بعدم البأس به في الصلاة ، مع أنّ الشبهة مصداقية ، وهذا ليس إلاّمن جهة أنّه قدس‌سره يرى جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية.

وأمّا في الصورة الثانية : فقد ورد في الروايات (١) ما دلّ على عدم جواز الصلاة في الثوب المتنجس بلا فرق بين كونه متنجساً بالدم أو بغيره من النجاسات ، ولكن قد خرج من ذلك خصوص الثوب المتنجس بالدم إذا كان أقل من الدرهم بالروايات المتقدمة ، فعندئذ إذا شككنا في دم أنّه أقل من الدرهم حتى يكون داخلاً تحت عنوان المخصص أو أزيد منه حتى يكون داخلاً تحت عنوان دليل العام ، فالسيد قدس‌سره قد تمسك فيه بعموم دليل العام وحكم بعدم العفو عنه في الصلاة ، مع أنّ الشبهة مصداقية ، وهذا شاهد على أنّه قدس‌سره يرى جواز التمسك بالعام فيها ، هذا.

ولكنّ التوهم المزبور في كلتا الصورتين قابل للمنع.

أمّا في الصورة الاولى : فيحتمل أن يكون وجه فتواه بالعفو هو التمسك باستصحاب العدم الأزلي لاحراز موضوع العام ، حيث إنّ موضوعه مركب من أمرين : أحدهما وجودي وهو الدم الذي يكون أقل من الدرهم. وثانيهما عدمي وهو عدم كونه من دم حيض أو نفاس أو استحاضة ، والأوّل محرز بالوجدان ، والثاني بالأصل ، وبضم الوجدان إلى الأصل يلتئم الموضوع المركب ويتحقق فيترتب عليه حكمه بمقتضى عموم تلك الروايات وإطلاقها ، أو يحتمل أن يكون وجه فتواه به هو التمسك بأصالة البراءة عن مانعية هذا الدم للصلاة بعد ما لم يمكن التمسك بدليل لفظي من جهة كون الشبهة مصداقية.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٢٨ / أبواب النجاسات ب ١٩.

٣٣٩

وأمّا في الصورة الثانية : فيحتمل أن يكون وجه احتياطه بعدم العفو هو أصالة عدم كون هذا الدم أقل من درهم ، نظراً إلى أنّ عنوان المخصص عنوان وجودي فلا مانع من التمسك بأصالة عدمه عند الشك فيه. وكيف كان فلا يمكن استنباط أنّه قدس‌سره من القائلين بجواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية من هذين الفرعين. ومما يشهد على أنّه ليس من القائلين بذلك ما ذكره قدس‌سره في كتاب النكاح وإليك نصه :

مسألة ٥٠ : إذا اشتبه من يجوز النظر إليه بين من لا يجوز بالشبهة المحصورة وجب الاجتناب عن الجميع ، وكذا بالنسبة إلى من يجب التستر عنه ومن لا يجب ، وإن كانت الشبهة غير محصورة أو بدوية ، فان شك في كونه مماثلاً أو لا ، أو شك في كونه من المحارم النسبية أو لا ، فالظاهر وجوب الاجتناب ، لأنّ الظاهر من آية وجوب الغض أنّ جواز النظر مشروط بأمر وجودي وهو كونه مماثلاً أو من المحارم ، فمع الشك يعمل بمقتضى العموم ، لا من باب التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية ، بل لاستفادة شرطية الجواز بالمماثلة أو المحرمية أو نحو ذلك (١) فانّ هذا شاهد صدق على أنّه ليس من القائلين بجواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ ما أفاده قدس‌سره من التمسك بعموم آية وجوب الغض خاطئ جداً ، أمّا أوّلاً : فلا عموم في الآية من هذه الناحية ، يعني لا يمكن استفادة حرمة النظر من الآية الكريمة. وأمّا ثانياً : فعلى تقدير تسليم دلالتها على ذلك فلا تدل على أنّ جواز النظر مشروط بأمرٍ وجودي ، بل مفهومها حرمة النظر إلى المخالف ، فتكون الحرمة مشروطةً بأمر وجودي وهو المخالف ،

__________________

(١) العروة الوثقى ٢ : ٥٨٥ المسألة [٣٦٨٢].

٣٤٠