محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-15-2
الصفحات: ٥٧٠

واخرى يلاحظها فانيةً في الأفراد لا على نحو الوحدة في الكثرة ، بل على نحو الوحدة في الجمع ، يعني يلاحظ الأفراد المتكثرة على نحو الجمع واقعاً وحقيقةً في إطار مفهوم واحد ويجعل الحكم عليها كذلك فيكون المجموع موضوعاً واحداً على نحو يكون كل فرد جزء الموضوع لاتمامه.

وثالثةً يلاحظها فانية في صرف وجودها في الخارج ويجعل الحكم عليه. فعلى الأوّل العموم استغراقي فيكون كل فرد موضوعاً للحكم ، وجهة الوحدة بين الأفراد ملغاة في مرتبة الموضوعية ، كيف حيث لا يعقل ثبوت أحكام متعددة لموضوع واحد. وعلى الثاني العموم مجموعي فيكون المجموع من حيث المجموع موضوعاً للحكم ، فالتكثرات فيه وإن كانت محفوظةً إلاّ أنّها ملغاة في مرتبة الموضوعية. وعلى الثالث العموم بدلي فيكون الموضوع واحداً من الأفراد لا بعينه ، فجهة الكثرة وجهة الجمع كلتاهما ملغاة فيه في مرتبة الموضوعية ، يعني لم يؤخذ شي منهما في الموضوع. فالنتيجة أنّ منشأ التقسيم ما ذكرناه لا ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره.

الخامسة : أنّ صيغ العموم وضعت للدلالة على سراية الحكم إلى جميع ما ينطبق عليه مدخولها ومتعلقها ، منها هيئة الجمع المحلى باللام التي ترد على المادة كقولنا : أكرم العلماء ، فانّها موضوعة للدلالة على سراية الحكم إلى جميع أفراد مدخولها وهو العالم. وكذا الحال في كلمة « كل ».

ومن ضوء هذا البيان يظهر الفرق بين ما دلّ على العموم من الصيغ وبين لفظ عشرة ونظائرها ، فانّ هذه اللفظة بالاضافة إلى أفرادها حيث إنّها كانت من أسماء الأجناس فلا محالة تكون موضوعةً للدلالة على الطبيعة المهملة الصادقة على هذه العشرة وتلك وهكذا ، فلا تكون من ألفاظ العموم في شيء.

وأمّا بالاضافة إلى مدخولها كقولنا : أكرم عشرة رجال فلا تدل على

٣٠١

سريان الحكم إلى كل من ينطبق عليه مدخولها ـ وهو الرجل ـ نعم بمقتضى الاطلاق وإن دلت على أنّ المكلف مخير في تطبيق عشرة رجال على أيّ صنف منهم أراد وشاء ، سواء أكان ذلك الصنف من صنف العلماء أو السادة أو الفقراء أو ما شاكلها ، إلاّ أنّ ذلك بالاطلاق ومقدمات الحكمة لا بالوضع ، وأمّا بالاضافة إلى الآحاد التي يتركب العشرة منها فهي وإن دلت على سراية الحكم المتعلق بها إلى تلك الآحاد سراية ضمنية كما هو الحال في كل مركب يتعلق الحكم به ، فانّه لا محالة يسري إلى أجزائه كذلك ، إلاّ أنّ هذه الدلالة أجنبية عن دلالة العام على سراية الحكم إلى جميع أفراد مدخوله ، حيث إنّ تلك الدلالة دلالة على سراية الأحكام المتعددة المستقلة إلى الأفراد والموضوعات كذلك ، وهذا بخلاف هذه الدلالة ، فانّها دلالة على سراية حكم واحد متعلق بموضوع واحد إلى أجزائه ضمناً ، يعني أنّ كل جزء من أجزائه متعلق للحكم الضمني دون الاستقلالي كما هو الحال في جميع المركبات بشتى أنواعها.

ودعوى أنّ استغراق العشرة أو ما شاكلها باعتبار الواحد ، حيث إنّ كل مرتبة من مراتب الأعداد التي تكون معنونة بعنوان خاص وباسم مخصوص مؤلفة من الآحاد ، والواحد الذي هو بمنزلة المادة ينطبق على كل واحد منها ، فالعشرة تكون مستغرقة للواحد إلى حدّها الخاص ، والعشرون يكون مستغرقاً له إلى حدّه كذلك وهكذا. وعدم انطباق العشرة بما هي على الواحد غير ضائر ، لأنّ مفهوم كل رجل لا ينطبق على كل فرد من أفراده ، بل مدخول الأداة بلحاظ سعته ينطبق على كل واحد من أفراده ، فاللازم انطباق ذات ما له الاستغراق والشمول لا بما هو مستغرق وشمول وإلاّ فليس له إلاّمطابق واحد.

خاطئة جداً والوجه فيه : أنّ مراتب الأعداد وإن تأ لّفت من الآحاد إلاّ أنّ الواحد ليس مادة لفظ العشرة أو ما شاكله حتى يكون له الشمول والاستغراق

٣٠٢

بعروض هذه اللفظة عليه أو ما شاكلها من الألفاظ والعناوين.

وإن شئت قلت : إنّ نسبة الواحد إلى العشرة ليست كنسبة العالم مثلاً إلى العلماء حيث إنّه مادة الجمع المحلى باللام ، يعني أنّ هيئة هذا الجمع تعرض عليه وتدل على كونه ذا شمول واستغراق ، وهذا بخلاف العشرة فانّها لا تعرض على الواحد كيف فانّه جزؤها المقوّم لها ، نظراً إلى أنّها مركبة منه ومن سائر الآحاد وبانتفائه تنتفي ، وتكون مباينةً له لفظاً ومعنىً ، كما أنّها مباينة لسائر مراتب الأعداد كذلك. فاذن لا يعقل عروضها عليه كي تدل على شموله وعمومه ، ضرورة أنّ الكل لا يعقل عروضه على الجزء فلا تكون من قبيل هيئة الجمع المعرف باللام التي تعرض على مادتها وتدل على عمومها وشمولها لكل فرد من أفرادها. وكذا ليست نسبة الواحد إلى العشرة كنسبة الرجل إلى لفظة « كل » الداخلة عليه ، وذلك لأنّ الواحد كما عرفت جزء العشرة لا أنّها داخلة عليه كدخول أداة العموم على ذيها لكي تدل على عمومه وشموله لكل ما ينطبق عليه من الآحاد ، كما هو الحال في لفظة « كل » الداخلة على الرجل مثلاً. فالنتيجة : أنّ العشرة ليست من أداة العموم كلفظة « كل » وهيئة الجمع المعرف باللام ونحوهما.

السادسة : أنّه لا ريب في وجود صيغ تخص العموم كما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره (١) كلفظة « كل » وما شاكلها ، حيث لا شبهة في أنّ المتفاهم العرفي منها العموم وأنّ دلالتها عليه على وفق الارتكاز الذهني ، وهكذا الحال في نظائرها. وعلى الجملة : فلا شبهة في أنّ كلمة « كل » في لغة العرب ونظائرها في سائر اللغات موضوعة للدلالة على العموم وأ نّها ونظائرها من صيغ العموم

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢١٦.

٣٠٣

خاصة به. ودعوى أنّ الخاص بما هو القدر المتيقن بحسب الارادة خارجاً فوضع اللفظ بازائه أولى من وضعه بازاء العموم خاطئة جداً ولا واقع موضوعي لها أبداً ، ضرورة أنّ كونه كذلك لا يقتضي وضع اللفظ بازائه دون العموم.

نعم ، كون الخاص من المتيقن لو كان على نحو يمنع عن ظهور العام في العموم ويكون بمنزلة القرينة المتصلة في الكلام بحيث تحتاج إرادة العموم إلى نصب قرينة لأمكن أن يقال إنّ وضع اللفظ للعموم لغو ، فالأولى أن يكون موضوعاً للخصوص. ولكنّ الأمر ليس كذلك ، فانّ كون الخاص متيقناً إنّما هو بحسب الارادة الخارجية ، ومن الطبيعي أنّ مثل هذا المتيقن لا يكون مانعاً عن ظهور اللفظ لا في العموم ولا في غيره ، غاية الأمر يكون اللفظ نصاً بالاضافة [ إلى ] إرادة الخاص ، وظاهراً بالاضافة إلى إرادة العام ، ومحطّ النظر إنّما هو في إثبات الظهور وعدمه ، وقد عرفت أنّه لا شبهة في ظهور لفظة « كل » في العموم كما في مثل قولنا : أكرم كل عالم أو أكرم كل رجل وما شاكل ذلك.

ودعوى أنّ المناسب وضع اللفظ للخاص لا للعام ، نظراً إلى كثرة استعمال العام في الخاص حتى قيل ما من عام إلاّوقد خص فاسدة جداً ، ضرورة أنّ مجرد ذلك لا يقتضي الوضع بازائه دونه ، إذ لا مانع من أن تكون الاستعمالات المجازية أكثر من الاستعمالات الحقيقية لداع من الدواعي.

وإن شئت قلت : إنّ كون الخاص معنىً مجازياً للعام ليس على نحو يمنع عن ظهور العام في العموم بحيث تكون إرادة العموم منه تحتاج إلى قرينة كما هو الحال في المجاز المشهور ، بل الأمر بالعكس تماماً ، فانّه ظاهر في العموم وإرادة الخاص منه تحتاج إلى قرينة. هذا مضافاً إلى ما سيأتي في ضمن البحوث

٣٠٤

الآتية (١) من أنّ التخصيص لايستلزم استعمال العام في الخاص حتى يكون مجازاً ، بل العام قد استعمل في معناه بعد التخصيص أيضاً.

السابعة : ما ذكره المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره وإليك نصه : ربّما عدّ من الألفاظ الدالة على العموم النكرة في سياق النفي أو النهي ، ودلالتها عليه لا ينبغي أن تنكر عقلاً ، لضرورة أنّه لا يكاد يكون الطبيعة معدومةً إلاّ إذا لم يكن فرد منها بموجود وإلاّ لكانت موجودة ، لكن لا يخفى أنّها تفيده إذا اخذت مرسلة لا مبهمة وقابلة للتقييد ، وإلاّ فسلبها لا يقتضي إلاّ استيعاب السلب لما اريد منها يقيناً ، لا استيعاب ما يصلح انطباقها عليه من أفرادها ، وهذا لا ينافي كون دلالتها عليه عقلية ، فانّها بالاضافة إلى أفراد ما يراد منها ، لا الأفراد التي يصلح لانطباقها عليها ، كما لا ينافي دلالة مثل لفظ « كل » على العموم وضعاً كون عمومه بحسب ما يراد من مدخوله ، ولذا لا ينافيه تقييد المدخول بقيود كثيرة.

نعم ، لا يبعد أن يكون ظاهراً عند إطلاقها في استيعاب جميع أفرادها ، وهذا هو الحال في المحلى باللام جمعاً كان أو مفرداً بناءً على إفادته للعموم ، ولذا لا ينافيه تقييد المدخول بالوصف وغيره. وإطلاق التخصيص على تقييده ليس إلاّ من قبيل : ضيّق فم الركية. لكن دلالته على العموم وضعاً محل منع ، بل إنّما يفيده فيما إذا اقتضته الحكمة أو قرينة اخرى ، وذلك لعدم اقتضائه وضع اللام ولا مدخوله ، ولا وضع آخر للمركب منهما كما لا يخفى ، وربّما يأتي في المطلق والمقيد بعض الكلام مما يناسب المقام (٢).

__________________

(١) في ص ٥٤١.

(٢) كفاية الاصول : ٢١٧.

٣٠٥

نلخّص ما أفاده قدس‌سره في عدة نقاط :

الاولى : أنّ المراد من النكرة هو الطبيعة اللا بشرط ، ودلالتها على العموم إذا وقعت في سياق النفي أو النهي ترتكز على أن تكون مأخوذةً على نحو الاطلاق ، حيث إنّها تدل على عموم ما يراد منها عقلاً ، فان اريد منها الطبيعة المطلقة دلت على نفيها كذلك ، وإن اريد منها الطبيعة المقيدة دلت على نفيها كذلك ، لا مطلقة وبالاضافة إلى جميع أفرادها. فاذن في إثبات دلالة كلمة « لا » على نفي الطبيعة مطلقةً لا بدّ من إثبات أنّها مأخوذة في تلوها كذلك بمقدمات الحكمة ، حيث إنّها بدونها لا تدل عليه ، ضرورة أنّ الطبيعة المأخوذة في تلوها إذا لم يمكن إثبات إطلاقها بها لم تدل على نفيها كذلك ، بل تدل على نفي المتيقن منها في إطار الارادة.

الثانية : أنّ لفظة « كل » وإن كانت موضوعةً للدلالة على العموم ، إلاّ أنّ دلالتها على عموم جميع ما ينطبق عليه مدخولها من الأفراد والوجودات تتوقف على جريان مقدمات الحكمة فيه وإلاّ فلا دلالة لها على ذلك ، نظراً إلى أنّها موضوعة للدلالة على عموم ما يراد من مدخولها ، فان ثبت إطلاقه فهو وإلاّ فهي تدل على إرادة المتيقن منه.

الثالثة : أنّ الجمع المعرّف باللام بناءً على إفادته للعموم أيضاً كذلك ، يعني أنّ دلالته على العموم ـ أي عموم أفراد مدخوله ـ تبتني على إثبات إطلاقه باجراء مقدمات الحكمة فيه ، وكذا الحال في المفرد المعرّف باللام.

ولنأخذ بالنظر في هذه النقاط :

أمّا النقطة الاولى : فهي في غاية الصحة والمتانة ، والوجه فيه ما ذكرناه في

٣٠٦

أوّل بحث النواهي (١) من أنّ مقدمات الحكمة إذا جرت في مدخول كلمة « لا » سواء أكانت نافية أم ناهية ، فنتيجتها هي العموم الشمولي كقولنا مثلاً : لا أملك شيئاً ، فانّ كلمة شيء وإن استعملت في معناها الموضوع له وهو الطبيعة المهملة الجامعة بين جميع الأشياء ، إلاّ أنّ مقتضى الاطلاق وعدم تقييده بحصة خاصة هو نفي ملكية كل ما يمكن أن ينطبق عليه عنوان الشيء ، لا نفي فردٍ مّا منه ووجود البقية عنده ، فانّ هذا المعنى باطل في نفسه فلا يمكن إرادته منه. وأمّا إذا افترضنا أنّه لا إطلاق له ، يعني أنّ مقدمات الحكمة لم تجر فيه ، فهي لا تدل على العموم والشمول وإنّما تدل على النفي بنحو القضية المهملة التي تكون في حكم القضية الجزئية ، كما أنّه إذا قيد بقيد دلت على نفي ما يمكن أن ينطبق عليه هذا المقيد ، ومن هذا القبيل أيضاً قوله : لا تشرب الخمر ، وقوله عليه‌السلام : « لا ضرر ولا ضرار في الاسلام » (٢) وقوله تعالى : ( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ )(٣) وما شاكلها.

وأمّا النقطة الثانية : فهي خاطئة جداً ، والسبب فيه : أنّ دلالة لفظة « كل » أو ما شاكلها من أداة العموم على إرادة عموم ما يمكن أن ينطبق عليه مدخولها لا تتوقف على إجراء مقدمات الحكمة فيه لاثبات إطلاقه أوّلاً ، وإنّما هي تكون مستندةً إلى الوضع ، بيان ذلك : أنّ لفظة « كل » أو ما شاكلها التي هي موضوعة لافادة العموم تدل بنفسها على إطلاق مدخولها وعدم أخذ خصوصية فيه ، ولا يتوقف ذلك على إجراء المقدمات ، ففي مثل قولنا : أكرم كل رجل تدل

__________________

(١) راجع المجلد الثالث من هذا الكتاب ص ٢٩٥.

(٢) الوسائل ٢٥ : ٤٢٨ / كتاب إحياء الموات ب ١٢ ح ٣.

(٣) البقرة ٢ : ١٩٧.

٣٠٧

لفظة « كل » على سراية الحكم إلى جميع من ينطبق عليه الرجل ، من دون فرق بين الغني والفقير والعالم والجاهل والأبيض والأسود وما شاكل ذلك ، فتكون هذه اللفظة بيان على عدم أخذ خصوصية وقيد في مدخولها.

وبكلمة اخرى : قد ذكرنا في غير مورد أنّ الاطلاق والتقييد خارجان عن حريم المعنى ، فانّه عبارة عن الماهية المهملة من دون لحاظ خصوصية من الخصوصيات فيه ، منها خصوصية الاطلاق والتقييد ، فارادة كل منهما تحتاج إلى عناية زائدة ، وعليه فلفظة « كل » في مثل قولنا : أكرم كل رجل تدل على سراية الحكم إلى جميع ما يمكن أن ينطبق عليه مدخولها بما له من المعنى وضعاً ، ومن الواضح أنّ هذه الدلالة بنفسها قرينة على عدم أخذ خصوصية فيه ، لا أنّ دلالتها على العموم والشمول مستندة إلى عدم قيام قرينة على تقييده بقيدٍ مّا ، وإلاّ لكفى جريان مقدمات الحكمة في إثبات العموم من دون حاجة إلى أداته. وعليه فبطبيعة الحال يكون الاتيان بها لغواً محضاً حيث إنّ العموم حينئذ مستفاد من قرينة الحكمة سواء أكانت الأداة أم لم تكن ، وعندئذ لا محالة يكون وجودها كعدمها ، وهذا خلاف الارتكاز العرفي ، ضرورة أنّ العرف يفرّق بين قولنا : أكرم كل عالم وقولنا : أكرم العالم ، ويرى أنّ دلالة الأوّل على العموم لا تحتاج إلى أيّة مؤونة زائدة ما عدا دلالة اللفظ عليه ، وهذا بخلاف الثاني فانّ دلالته على العموم تحتاج إلى مؤونة زائدة وهي إجراء مقدمات الحكمة.

فالنتيجة : أنّ وضع لفظة « كل » أو ما شاكلها للدلالة على العموم أي عموم مدخولها وشموله بما له من المعنى بنفسه قرينة على عدم أخذ خصوصية وقيد فيه ، يعني أنّ دلالتها عليه عين دلالتها على العموم ، لا أنّ لها دلالتين : دلالة على العموم ، ودلالة على عدم أخذ قيد وخصوصية فيه. وهذه النقطة هي

٣٠٨

زاوية الامتياز بين العموم المستند إلى الوضع ، والعموم المستند إلى قرينة الحكمة ، حيث إنّ الثاني يتوقف على عدم بيان دخل قيد ما في غرض المولى مع كونه في مقام البيان كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى في ضمن البحوث الآتية (١) والأوّل بيان على عدم دخله فيه ، فهما أشبه شيء بالاصول والأمارات.

وأمّا ما أفاده ( قدس‌سره ) من أنّ إمكان تقييد مدخول الأداة كلفظة « كل » في مثل قولنا : أكرم كل عالم عادل ، وعدم منافاة هذا التقييد لدلالتها على العموم دليل على أنّ دلالتها على عموم مدخولها وشموله تتوقف على إجراء مقدمات الحكمة فيه فهو خاطئ جداً ، وذلك لأنّ دلالتها على العموم ـ أي عموم مدخولها ـ وشموله بما له من المعنى لا ينافيه تقييده بقيدٍ مّا ، ضرورة أنّها لا تدل على أنّ مدخولها جنس أو نوع أو فصل أو صنف ، فانّ مفادها بالوضع هو الدلالة على عموم المدخول كيف ما كان ، غاية الأمر إن كان جنساً دلت على العموم في إطاره ، وإن كان نوعاً دلت على العموم في إطار النوع ، وإن كان صنفاً دلت على العموم في إطار الصنف وهكذا.

وإن شئت قلت : إنّه لا فرق بين القول بوضعها للعموم أي عموم المدخول بما له من المعنى ، والقول بوضعها لعموم ما يراد من المدخول في هذه النقطة ، وهي عدم منافاة التقييد للدلالة على العموم ، نعم يمتاز القول الثاني عن القول الأوّل في نقطة اخرى وهي أنّ دلالتها على العموم على القول الثاني لاثبات إطلاق المدخول وإرادته بقرينة الحكمة كي تدل على عمومه وشموله ، وعلى القول الأوّل فهي بنفسها تدل على إطلاقه وسعته.

ونتيجة ما ذكرناه إلى هنا : هي أنّ أداة العموم على القول بكونها موضوعةً

__________________

(١) في ص ٥٣٠.

٣٠٩

للدلالة على عموم ما يراد من المدخول لا بدّ أوّلاً من إثبات سعته وإطلاقه بقرينة الحكمة حتى تدل على عمومه وشموله ، وعلى القول بكونها موضوعة للدلالة [ على ] عموم المدخول بما له من المعنى فهي بنفسها تدل على سعته وإطلاقه من دون حاجة إلى قرينة الحكمة أو نحوها ، لما عرفت من أنّ دلالتها على العموم بعينها هي دلالتها على إطلاق المدخول وعدم أخذ خصوصية فيه ، ومن الطبيعي أنّه لا يفرق فيه بين أن يكون مدخولها في نفسه من الأجناس أو الأنواع أو الأصناف ، فانّ السعة إنّما تلاحظ بالاضافة إلى دائرة المدخول ، فلا فرق بين قولنا : أكرم كل رجل وقولنا : أكرم كل رجل عالم ، فانّ تقييده بهذا القيد لا ينافي دلالته على العموم ، فانّ معنى دلالته عليه هو أنّها لا تتوقف على إجراء مقدمات الحكمة ، سواء أكانت دائرة المدخول واسعة أو ضيّقة في مقابل القول بأنّ دلالته عليه تتوقف على إجراء المقدمات فيه ولو كانت دائرته ضيّقةً ، وبما أنّ المدخول هو المقيد فهو لا محالة يدل على عمومه ، ولولا ما ذكرناه من الدلالة على العموم لما أمكن التصريح به في موردٍ مّا أبداً مع أنّه واضح البطلان.

وأمّا النقطة الثالثة : فسيأتي الكلام فيها في مبحث المطلق والمقيد إن شاء الله تعالى (١).

نلخص نتائج هذا البحث في عدة نقاط :

١ ـ الظاهر أنّ العام في كلمات الاصوليين مستعمل في معناه اللغوي والعرفي وهو الشمول.

٢ ـ أنّ الفرق بين العام والمطلق هو أنّ دلالة الأوّل على العموم بالوضع

__________________

(١) في ص ٥٢٦.

٣١٠

والثاني بالاطلاق ومقدّمات الحكمة.

٣ ـ ما هو المنشأ والموجب لتقسيم العام إلى الاستغراقي والمجموعي والبدلي ، ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره أنّ منشأه إنّما هو اختلاف كيفية تعلق الحكم به ، ولكن عرفت نقده وأ نّه ليس منشأً لذلك ، بل منشؤه ما ذكرناه آنفاً بشكل موسّع.

٤ ـ أنّ العشرة وأمثالها من مراتب الأعداد ليست من ألفاظ العموم ، فانّ دلالتها بالاضافة إلى هذه العشرة وتلك بالاطلاق ، وبالاضافة إلى الآحاد التي تتركب منها العشرة ضمنية ، كما هو الحال في كل مركب بالاضافة إلى أجزائه على تفصيل تقدم.

٥ ـ لا شبهة في أنّ للعموم صيغ تخص به وتدل عليه بالوضع ، ولا موجب لدعوى أنّها موضوعة للخصوص باعتبار أنّه القدر المتيقن أو أنّه المناسب من جهة كثرة استعمال العام في الخاص على ما تقدم بشكل موسّع.

٦ ـ أنّ دلالة العام على العموم كلفظة « كل » أو ما شاكلها لا تتوقف على جريان مقدمات الحكمة في مدخوله كما زعم صاحب الكفاية قدس‌سره ، بل هو يدل بالوضع على إطلاق مدخوله وعدم أخذ خصوصيةٍ مّا فيه.

عدّة مباحث :

المبحث الأوّل (١) : اختلف الأصحاب في جواز التمسك بالعام بعد ورود التخصيص عليه على أقوال : بيان هذه الأقوال في ضمن ثلاثة بحوث تالية :

__________________

(١) [ تعرّض للمبحث الثاني في ص ٤٠٣ بعنوان : « فصل في الفحص عن المخصص » من دون ترقيم ، وكذا المباحث الآتية ].

٣١١

الأوّل : يفرض الكلام في الشبهة الحكمية يعني ما كان الشك في شمول العام للفرد أو الصنف ناشئاً من الاشتباه في الحكم الشرعي ، كما إذا افترض ورود عام مثل : أكرم كل عالم ، وورد مخصص عليه مثل : لا تكرم المرتكب للكبائر منهم ، وشك في خروج المرتكب للصغائر عن حكم العام من ناحية اخرى ، لا من ناحية الشك في دخوله تحت عنوان المخصص للقطع بعدم دخوله فيه.

الثاني : يفرض الكلام في الشبهة المفهومية ، يعني ما كان الشك في شمول العام للفرد أو الصنف ناشئاً من الاشتباه في مفهوم الخاص ، أي دورانه بين السعة والضيق كما إذا ورد : أكرم كل عالم ثمّ ورد : لا تكرم الفسّاق منهم ، وافترضنا أنّ مفهوم الفاسق مجمل يدور أمره بين السعة والضيق ، أي أنّه عبارة عن خصوص مرتكب الكبائر أو الجامع بينه وبين مرتكب الصغائر ، والشك إنّما هو في شمول حكم العام لمرتكب الصغائر ومنشؤه إنّما هو إجمال مفهوم الخاص وشموله له ، وأمّا في طرف العام فلا إجمال في مفهومه أصلاً.

الثالث : يفرض الكلام في الشبهة المصداقية ، يعني ما كان الشك في شمول العام للفرد أو الصنف ناشئاً من الاشتباه في الامور الخارجية كما إذا دلّ دليل على وجوب إكرام كل هاشمي ، ودلّ دليل آخر على حرمة إكرام الفاسق منهم وشككنا في أنّ زيداً الهاشمي هل هو فاسق أو لا ، فيقع الكلام في إمكان التمسك بالعام بالاضافة إليه وعدم إمكانه.

أمّا الكلام في الأوّل : فالظاهر أنّ عمدة الخلاف فيه إنّما يكون بين العامة (١) حيث نسب إلى بعضهم عدم جواز التمسك بالعام مطلقاً ، ونسب إلى بعضهم الآخر التفصيل بين ما كان المخصص منفصلاً وما كان متصلاً ، فذهب إلى عدم

__________________

(١) المحصول ١ : ٤٠٢ ، الإحكام للآمدي ٢ : ٤٣٩.

٣١٢

جواز التمسك بالعام على الأوّل دون الثاني ، هذا.

والصحيح هو جواز التمسك به مطلقاً ، أي بلا فرق بين المخصص المتصل والمنفصل.

أمّا في الأوّل : فهو واضح ، حيث إنّ دائرة العام كانت من الأوّل ضيّقاً ، نظراً إلى أنّ المخصص المتصل يكون مانعاً عن ظهور العام في العموم من الابتداء ، بل يوجب استقرار ظهوره من الأوّل في الخاص.

وبكلمة اخرى : أنّه لا تخصيص في البين ، وإطلاقه مبني على المسامحة ، لما تقدم من أنّ أداة العموم كلفظة « كل » أو ما شاكلها موضوعة للدلالة على عموم المدخول وشموله بما له من المعنى ، سواء أكان من الأجناس أو الأنواع أو الأصناف ، فلا فرق بين قولنا : أكرم كل رجل وقولنا : أكرم كل رجل عادل أو كل رجل إلاّ الفساق منهم ، فانّ لفظة « كل » في جميع هذه الأمثلة تستعمل في معناها ـ وهو عموم المدخول وشموله ـ غاية الأمر أنّ دائرة العموم فيها تختلف سعةً وضيقاً كما هو الحال في سائر الموارد والمقامات ، ومن الطبيعي أنّه لا صلة لذلك بدلالتها على العموم أبداً. فالنتيجة أنّ إطلاق التخصيص في موارد التقييد بالمتصل في غير محلّه.

وأمّا الثاني : وهو ما كان المخصص منفصلاً ، فقد يقال إنّ التخصيص كاشف عن أنّ عموم العام غير مراد من الأوّل وإلاّ لزم الكذب ، فاذا انكشف أنّ العام لم يستعمل في العموم لم يكن حجةً في الباقي لتعدد مراتبه ، ومن المعلوم أنّ المعاني المجازية إذا تعددت فارادة كل واحد منها معيّناً تحتاج إلى قرينة ، وحيث لا قرينة على أنّ المراد منه تمام الباقي فبطبيعة الحال يصبح العام مجملاً فلا يمكن التمسك به. وعلى الجملة ففي كل مورد كان المعنى المجازي متعدداً فارادة أيّ

٣١٣

واحد منه تحتاج إلى قرينتين : إحداهما قرينة صارفة. وثانيتهما قرينة معيّنة ، وفي المقام وإن كانت القرينة الصارفة موجودة ـ وهي المخصص ـ إلاّ أنّ القرينة المعيّنة غير موجودة ، وبدونها لا محالة يكون اللفظ مجملاً.

وقد اجيب عنه بوجوه : منها ما عن شيخنا الاستاذ قدس‌سره وإليك نصه :

والتحقيق في المقام أن يقال : إنّه قد ظهر مما ذكرناه أنّ الميزان في كون اللفظ حقيقةً هو كونه مستعملاً في معناه الموضوع له بحيث إنّ الملقى في الخارج كأ نّه هو نفس ذلك المعنى البسيط العقلاني ، وهذا الميزان متحقق فيما إذا خصص العام كتحققه فيما إذا لم يخصص ، وذلك من جهة أنّ أداة العموم لا تستعمل إلاّفيما وضعت له ، كما أنّ مدخولها لم يستعمل إلاّفيما وضع له.

أمّا عدم استعمال المدخول إلاّفي نفس ما وضع له ، فلأ نّه لم يوضع إلاّلنفس الطبيعة المهملة الجامعة بين المطلقة والمقيدة ، ومن الواضح أنّه لم يستعمل إلاّ فيها ، وإفادة التقييد بدال آخر كافادة الاطلاق بمقدمات الحكمة لا تنافي استعمال اللفظ في نفس الطبيعة المهملة كما هو ظاهر ، ففي موارد التخصيص بالمتصل قد استعمل اللفظ في معناه ، واستفيد قيده الدخيل في غرض المتكلم من دال آخر ، وأمّا في موارد التخصيص بالمنفصل فالمذكور في الكلام وإن كان منحصراً بنفس اللفظ الموضوع للطبيعة المهملة ، ولأجله كانت مقدمات الحكمة موجبةً لظهوره في إرادة المطلق ، إلاّ أنّ الاتيان بالمقيد بعد ذلك يكون قرينةً على أنّ المتكلم اقتصر حينما تكلم على بيان بعض مراده ، إمّا لأجل الغفلة عن ذكر القيد أو لمصلحة في ذلك ، وعلى كل تقدير فاللفظ لم يستعمل إلاّفي معناه الموضوع له.

٣١٤

وأمّا عدم استعمال الأداة إلاّفيما وضعت له فلأ نّها لا تستعمل أبداً إلاّفي معناها الموضوع له ، أعني به تعميم الحكم لجميع أفراد ما اريد من مدخولها ، غاية الأمر أنّ المراد من مدخولها ربّما يكون أمراً وسيعاً واخرى يكون أمراً ضيّقاً ، وهذا لا يوجب فرقاً في ناحية الأداة أصلاً.

فإن قلت : إنّ ما ذكرته من عدم استلزام تخصيص العام كونه مجازاً لا في ناحية المدخول ولا في ناحية الأداة ، إنّما يتم في المخصصات الأنواعية ، فانّها لا توجب إلاّتقييد مدخولها فلا يلزم مجاز في مواردها أصلاً ، وأمّا التخصيصات الأفرادية فهي لا محالة تنافي استعمال الأداة في العموم فتوجب المجازية في ناحيتها.

قلت : ليس الأمر كذلك ، فانّ التخصيص الأفرادي أيضاً لا يوجب إلاّ تقييد مدخول الأداة ، غاية الأمر أنّ قيد الطبيعة المهملة ربّما يكون عنواناً كلياً كتقييد العالم بكونه عادلاً أو بكونه غير فاسق ، وقد يكون عنواناً جزئياً كتقييده بكونه غير زيد مثلاً ، وعلى كل حال فقد استعملت الأداة في معناها الموضوع له ، ولا فرق فيما ذكرناه من عدم استلزام التخصيص للتجوز بين القضايا الخارجية والقضايا الحقيقية ، لأنّ الأداة في كل منهما لا تستعمل إلاّفي تعميم الحكم لجميع أفراد ما اريد من مدخولها ، وأمّا المدخول فهو أيضاً لا يستعمل إلاّفي نفس الطبيعة اللا بشرط القابلة لكل تقييد ، وكون القضية خارجية أو حقيقية إنّما يستفاد من سياق الكلام ، ولا ربط له بمداليل الألفاظ ، نظير استفادة الاخبار والانشاء من هيئة الفعل الماضي على ما تقدم.

وبالجملة : أنّ أداة العموم لا تستعمل إلاّفيما وضعت له سواء ورد تخصيص على العام أم لم يرد ، وسواء أكانت القضية حقيقية أم كانت خارجية ، فلا فرق

٣١٥

بين موارد التخصيص وغيرها ، إلاّ أنّ التخصيص بالمتصل أو المنفصل يوجب تقييد مدخول الأداة ، ومن الظاهر أنّ التقييد لا يوجب كون ما يرد عليه القيد مستعملاً في غير ما وضع له أصلاً على ما سيجيء تحقيقه في محله إن شاء الله تعالى.

وأمّا توهم أنّ التخصيص إذا كان راجعاً إلى تقييد مدخول أداة العموم ورافعاً لاطلاقه كان حال العام حال المطلق الشمولي في أنّ استفادة العموم منه تحتاج إلى جريان مقدمات الحكمة في مورده ، وعليه فلا وجه لما تقدّم سابقاً من تقدم العام على المطلق عند التعارض ، وبالجملة أنّ شمول الحكم لكل فردٍ من أفراد العام إن كان مستنداً إلى الدلالة الوضعية كان التخصيص الكاشف عن عدم الشمول مستلزماً لكون العام مجازاً ، وإن لم يكن الشمول المزبور مستنداً إلى الوضع ، بل كان مستفاداً من مقدمات الحكمة لم يكن موجب لتقدم العام على المطلق عند المعارضة.

فهو مدفوع بما مرّ في بحث مقدمة الواجب من أنّ إحراز لحاظ الماهية مطلقة وإن كان يتوقف على جريان مقدمات الحكمة في كل من المطلق والعام ، إلاّ أنّ وجه تقدم العام على المطلق إنّما هو من جهة أنّ أداة العموم تتكفل بمدلولها اللفظي سراية الحكم بالاضافة إلى كل ما يمكن أن ينقسم إليه مدخولها ، وهذا بخلاف المطلق ، فانّ سراية الحكم فيه إلى الأقسام المتصورة له إنّما هي من جهة حكم العقل بتساوي أفراد المطلق ، وحيث ما فرض هناك عام دلّ بمدلوله اللفظي على عدم تسوية أفراد المطلق فهو يكون بياناً له ومانعاً من سراية الحكم الثابت له إلى تمام أفراده (١).

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٠٣ ـ ٣٠٦.

٣١٦

نلخّص ما أفاده قدس‌سره في عدة نقاط :

الاولى : أنّ تخصيص العام لا يوجب التجوز لا في أداة العموم ولا في مدخولها ، أمّا في الاولى فلأ نّها دائماً تستعمل في معناها الموضوع له ، وهو تعميم الحكم لجميع ما يراد من مدخولها ، أي سواء أكان ما يراد منه معنىً وسيعاً أو ضيّقاً ، وسواء أكان الدال على الضيق القرينة المتصلة أم كانت القرينة المنفصلة ، فانّها في جميع هذه الحالات والفروض مستعملة في معناها الموضوع له بلا تفاوت أصلاً. وأمّا في الثاني فالأمر واضح ، حيث إنّ المدخول كالرجل ونحوه وضع للدلالة على الماهية المهملة التي لم تلحظ معها خصوصية من الخصوصيات منها الاطلاق والتقييد ، فهما كبقية الخصوصيات خارجان عن حريم المعنى ، فاللفظ لا يدل إلاّعلى معناه ، ولم يستعمل إلاّفيه ، وإفادة التقييد إنّما هي بدال آخر ، كما أنّ إفادة الاطلاق بمقدمات الحكمة.

الثانية : أنّه لا فرق فيما ذكرناه من أنّ تخصيص العام لا يوجب تجوّزاً لا في ناحية الأداة ولا في ناحية المدخول ، بين كون المخصصات ذات عناوين نوعية وكونها ذات عناوين فردية ، ولا بين القضايا الحقيقية والقضايا الخارجية.

الثالثة : أنّ العام والمطلق يشتركان في نقطة ويفترقان في نقطة اخرى ، أمّا نقطة الاشتراك فهي أنّ إحراز إطلاق الماهية بجريان مقدمات الحكمة مشترك فيه بين العام والمطلق. وأمّا نقطة الافتراق فهي أنّ أداة العموم تتكفل بمدلولها اللفظي سراية الحكم إلى جميع ما يراد من مدخولها من الأقسام والأصناف ، وأمّا المطلق فانّ سراية الحكم فيه إلى جميع الأقسام المتصورة له تتوقف على مقدمة اخرى وهي حكم العقل بتساوي أفراده في انطباقه عليها.

ولنأخذ بالنظر إلى هذه النقاط :

٣١٧

أمّا النقطة الاولى : فهي في غاية الصحة والمتانة حتى بناءً على نظريتنا من أنّ أداة العموم بنفسها متكفلة لافادة العموم وعدم دخل خصوصية مّا في حكم المولى وغرضه.

بيان ذلك : أنّ الدلالات على ثلاثة أقسام :

الأوّل : الدلالة التصورية ـ الانتقال إلى المعنى من سماع اللفظ ـ وهي لا تتوقف على شيء ما عدا العلم بالوضع فهي تابعة له ، وليس لعدم القرينة دخل فيها ، فالعالم بوضع لفظٍ خاص لمعنىً مخصوص ينتقل إليه من سماعه ولو افترضنا أنّ المتكلم نصب قرينةً على عدم إرادته ، بل ولو افترضنا صدوره عن لافظ بلا شعور واختيار أو عن شيء آخر كاصطكاك حجر بحجر مثلاً ، وقد ذكرنا في محلّه (١) أنّ هذه الدلالة غير مستندة إلى الوضع بل هي من جهة الانس الحاصل من كثرة استعمال اللفظ في معناه أو غيره مما يوجب هذه الدلالة.

الثاني : الدلالة التفهيمية ويعبّر عنها بالدلالة التصديقية أيضاً من جهة تصديق المخاطب المتكلم بأ نّه أراد تفهيم المعنى للغير ، وهي عبارة عن ظهور اللفظ في كون المتكلم به قاصداً لتفهيم معناه ، وهذه الدلالة تتوقف زائداً على العلم بالوضع على إحراز أنّ المتكلم في مقام التفهيم وأ نّه لم ينصب قرينةً متصلةً في الكلام على الخلاف ولا ما يصلح للقرينية ، وإلاّ فلا دلالة له على الارادة التفهيمية ، وقد ذكرنا في أوّل الاصول بشكل موسّع أنّ هذه الدلالة مستندة إلى الوضع. أمّا على ضوء نظريتنا في حقيقة الوضع حيث إنّه عبارة عن التعهد والالتزام النفساني فالاستناد إليه واضح ، ضرورة أنّه لا معنى للتعهد والالتزام

__________________

(١) راجع المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص ١١٥.

٣١٨

بكون اللفظ دالاً على معناه ولو صدر عن لافظ بلا شعور واختيار ، فانّ هذا أمر غير اختياري فلا معنى لكونه طرفاً للالتزام والتعهد ، حيث إنّهما لا يتعلقان إلاّ بما هو تحت اختيار الانسان وقدرته ، وعليه فلا مناص من الالتزام بتخصيص العلقة الوضعية بصورة قصد تفهيم المعنى من اللفظ وإرادته ، سواء أكانت الارادة تفهيمية محضة أم كانت جدية أيضاً ، وتمام الكلام من هذه الناحية هناك. وأمّا على ضوء نظرية القوم في هذا الباب فالأمر أيضاً كذلك على ما ذكرناه هناك. فالنتيجة أنّ هذه الدلالة هي الدلالة الوضعية.

الثالث : الدلالة التصديقية ، وهي دلالة اللفظ على أنّ الارادة الجدية على طبق الارادة الاستعمالية ، يعني أنّهما متحدتان في الخارج. وهذه الدلالة ثابتة ببناء العقلاء وتتوقف زائداً على ما مرّ على إحراز عدم وجود قرينة منفصلة على الخلاف أيضاً. ومع وجودها لا يكون ظهور الكلام كاشفاً عن المراد الجدي ، فهذه القرينة إنّما هي تمنع عن كشف هذا الظهور عن الواقع وحجيته لا عن أصله ، فانّ الشيء إذا تحقق لم ينقلب عمّا هو عليه. والحاصل أنّ بناء العقلاء قد استقر على أنّ الارادة التفهيمية مطابقة للارادة الجدية ما لم تقم قرينة على الخلاف.

وبعد ذلك نقول : إنّ العام إذا ورد في كلام المتكلم من دون نصبه قرينة على عدم إرادة معناه الحقيقي ، فهو لا محالة يدل بالدلالة الوضعية على أنّ المتكلم به أراد تفهيم المخاطب لتمام معناه الموضوع له ، كما أنّه يدل ببناء العقلاء على أنّ إرادته تفهيم المعنى إرادة جدية ناشئة عن كون الحكم المجعول على العام ثابتاً له واقعاً. ولكن هذه الدلالة أي الدلالة الثانية كما تتوقف على إحراز كون المتكلم في مقام الافادة وعدم نصبه قرينة على اختصاص الحكم ببعض أفراد العام في نفس الكلام ، كذلك تتوقف على عدم إتيانه بقرينة تدل على

٣١٩

الاختصاص بعد تمامية الكلام ومنفصلة عنه ، فانّ القرينة المنفصلة تكون مانعةً عن كشف ظهور العام في كون الحكم المجعول له إنّما هو بنحو العموم في الواقع ونفس الأمر ، حيث إنّها تزاحم حجية ظهور العام في العموم التي هي ثابتة ببناء العقلاء وتعهّدهم ، ولا تزاحم أصل ظهوره في ذلك الذي هو ثابت بمقتضى ما ذكرناه من التعهد والالتزام ، يعني ظهوره في الارادة التفهيمية وكشفه عنها.

وعليه فلا ملازمة بين رفع اليد عن حجية الظهور لدليلٍ ورفع اليد عن أصله ، بداهة أنّه لا ملازمة بين كون المعنى مراداً للمتكلم في مقام التفهيم وكونه مراداً له في مقام الواقع والجد ، فاذا افترضنا أنّ المولى في الواقع لا يريد في مثل قوله : أكرم كل عالم إلاّ إكرام العالم العادل دون غيره ، ولكن لم يتمكن من تقييده بذلك في نفس الكلام ، إمّا لوجود مفسدة فيه أو مصلحة في تأخيره من ناحية ، ولم يتمكن من تأخير بيان الحكم في الواقعة إلى زمان يتمكن من تقييده من ناحية اخرى ، فبطبيعة الحال يلقى الكلام على نحو العموم ، ومن المعلوم أنّه بمقتضى الوضع يدل على إرادة تفهيم المعنى العام ، فاذا جاء بعد ذلك بالمخصص المنفصل الدال على اختصاص الحكم بغير أفراد الخاص في الواقع ، فانّه لا محالة يكشف عن أنّ الداعي إلى إرادة تفهيم المعنى العام ليس هو الارادة الجدية الناشئة من ثبوت المصلحة في جميع أفراد العام في نفس الأمر بل الداعي لها شيء آخر.

وعلى الجملة : فاللفظ بمقتضى تعهّد الواضع والتزامه بأ نّه متى ما أراد معنىً خاصاً أن يجعل مبرزه لفظاً مخصوصاً ، يدل على إرادة تفهيم معناه إذا كان المتكلم في مقام بيان ذلك ولم يأت بقرينة متصلة في الكلام ، وأمّا إذا لم يكن في مقام بيان ذلك بل كان في مقام عدّ الجملات مثلاً ، أو كان في مقام البيان ولكنّه أتى بقرينة متصلة فيه ، ففي مثل ذلك على الأوّل لا تعهّد له أصلاً ، لا بالاضافة

٣٢٠