محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-15-2
الصفحات: ٥٧٠

ولكن غير خفي أنّ هذا الوجه بعينه هو الوجه الثاني فليس وجهاً آخر في قباله كما هو ظاهر. وبعد ذلك نقول :

أمّا الوجه الرابع : فبظاهره غير معقول إلاّ أن يرجع إلى الوجه الثاني ، والسبب في ذلك هو ما تقدم من أنّ المفهوم لازم عقلي للمنطوق باللزوم البيّن بالمعنى الأخص ، وعليه فلا يعقل التصرف فيه بتقييد أو تخصيص من دون التصرف في المنطوق أصلاً ، بداهة أنّ مردّ ذلك إلى انفكاك اللازم من الملزوم والمعلول عن العلة وهو مستحيل. وعلى الجملة : فقد عرفت أنّ دلالة القضية الشرطية على المفهوم إنّما هي بدلالة التزامية على نحو اللزوم البيّن بالمعنى الأخص ، ومن الطبيعي أنّ هذه الدلالة بما أنّها دلالة قهرية ضرورية لدلالة القضية على المنطوق ، فلا يمكن رفع اليد عنها والتصرف فيها من دون رفع اليد والتصرف في تلك ، فاذن لا بدّ من إرجاع هذا الوجه إلى الوجه الثاني. وعليه فالوجوه المعقولة في المسألة ثلاثة.

ولنأخذ بالنظر إلى هذه الوجوه :

أمّا الوجه الأوّل : وهو الالتزام برفع اليد عن المفهوم فيهما معاً فيردّه : أنّه بلا مقتضٍ وموجب ، بداهة أنّ الضرورة تتقدر بقدرها ، ومن الطبيعي أنّ الضرورة لا تقتضي رفع اليد عن مفهوم كلتا القضيتين معاً والالتزام بعدم دلالتهما عليه أصلاً ، بل غاية ما تقتضي هو رفع اليد عن إطلاق كل منهما بتقييده بالاخرى بمثل العطف بكلمة « أو » او بكلمة « واو » وبه تعالج المعارضة بينهما ويدفع التنافي بينهما رأساً ، وعليه فكيف يساعد العرف على هذا الوجه.

وسيأتي بيانه بشكل موسّع من دون موجب للالتزام بعدم المفهوم في ضمن البحوث التالية.

٢٤١

وأمّا الوجه الثاني : وهو أن يكون الشرط عنوان أحدهما في الحقيقة ، فقد ذكر المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) أنّ العقل يعيّن هذا الوجه وأفاد في وجه ذلك ما توضيحه هذا : أنّ الامور المتباينة المتعددة بما هي كذلك لا يعقل أن تؤثر أثراً واحداً ، وذلك لاستحالة صدور الواحد عن الكثير بما هو كثير ، لاستلزام ذلك اجتماع علل مستقلة على معلول واحد وهو محال ، وقد تقدم بيان ذلك بشكل موسّع في ضمن بحوث الجبر والتفويض ، وحيث إنّ المعلول في المقام واحد وهو وجوب القصر ، فلا يعقل أن يكون المؤثر فيه الشرطين المذكورين في القضيتين على نحو الاستقلال ، وإلاّ لزم تأثير الكثير في الواحد وهو مستحيل. فاذن بطبيعة الحال يكون الشرط هو الجامع بينهما بقانون أنّ وحدة الأثر تكشف عن وحدة المؤثر ، وعليه فلا بدّ من الالتزام بهذا الوجه وإن كان مخالفاً لما هو المرتكز في أذهان العرف من أنّ كل واحد منهما بعنوانه الخاص وإطاره المخصوص شرط ومؤثر فيه ، إلاّ أنّ هذا الارتكاز العرفي إنّما يكون متبعاً فيما أمكن الالتزام به ، لا في مثل المقام حيث قد عرفت استحالة كون كل منهما بعنوانه الخاص شرطاً ومؤثراً. ثمّ بعد ذلك ذكر بقوله : وأمّا رفع اليد عن المفهوم في خصوص أحد الشرطين وبقاء الآخر على مفهومه فلا وجه لأن يصار إليه إلاّبدليل آخر ، إلاّ أن يكون ما ابقي على المفهوم أظهر.

ولنأخذ بالنقد على ما أفاده قدس‌سره.

أمّا ما أفاده من أنّ قاعدة الواحد لايصدر إلاّمن الواحد ويستحيل صدوره عن الكثير فيرد عليه :

أوّلاً : ما ذكرناه غير مرّة من أنّ هذه القاعدة إنّما تتم في الواحد الشخصي

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٠١ لكن قوله : وأمّا رفع ... لا توجد في طبعة المؤسّسة.

٢٤٢

الحقيقي حتى يكشف عن جامع وحداني كذلك ، ولا تتم فيما إذا كانت وحدة المعلول اعتبارية ، فانّه لا يكشف إلاّعن وحدة كذلك ، ومن المعلوم أنّ وحدة الجزاء في المقام وحدة اعتبارية لا حقيقية ، وعليه فلا يكشف عن جامع واحد ذاتي.

وثانياً : أنّه لا شمول ولا عموم لتلك القاعدة بالاضافة إلى جميع الأشياء بشتى ألوانها وأشكالها ، بل إنّ لها إطاراً خاصاً وموضعاً مخصوصاً وهو إطار سلسلة العلل والمعاليل الطبيعيتين ، دون إطار سلسلة الأفعال الاختيارية ، وقد تقدّم (١) الحجر الأساسي للفرق بين السلسلتين في ضمن نقد مذهب التفويض بشكل موسّع وقلنا هناك باختصاص القاعدة بالسلسلة الاولى فحسب دون الثانية ، وعليه فلا تنطبق على ما نحن فيه ، وذلك لما ذكرناه غير مرّة من أنّ الأحكام الشرعية بأجمعها امور اعتبارية ولا واقع موضوعي لها ما عدا اعتبار المعتبر وليست بامور تكوينية ، وأ نّها فعل اختياري للشارع وصادرة منه باختياره وإعمال قدرته ، وليس للُامور الخارجية دخل وتأثير فيها أصلاً ، وإلاّ لكانت اموراً تكوينية بقانون التطابق والسنخية. نعم ، لها موضوعات خاصة وقد استحال انفكاكها عنها في مرحلة الفعلية ولكن هذه الاستحالة إنّما هي من ناحية لزوم الخلف لا من ناحية انفكاك المعلول عن العلة التامة ، لفرض أنّه ليس لها أيّ تأثير في الأحكام أبداً.

فالنتيجة في نهاية الشوط : هي أنّ ما نحن فيه ليس من موارد تلك القاعدة في شيء ليتمسك بها لاثبات أنّ الشرط هو الجامع بين الأمرين ، وعليه فكما يمكن أن يكون الشرط هو الجامع بينهما ، يمكن أن يكون الشرط هو مجموعهما

__________________

(١) في المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص ١٤.

٢٤٣

من حيث المجموع.

وثالثاً : أنّه قد لا يعقل الجامع الماهوي بينهما ، وذلك كما إذا افترضنا كون أحد الشرطين من مقولة والشرط الآخر من مقولة اخرى ، فاذن لا يعقل أن يكون بينهما جامع حقيقي ، لاستحالة وجود الجامع كذلك بين المقولتين.

وأمّا ما أفاده قدس‌سره بقوله : إلاّ أن يكون ما ابقي على المفهوم أظهر ، فلعله سهو من قلمه الشريف ، وذلك لأن مجرد رفع اليد عن مفهوم أحدهما وبقاء الآخر على مفهومه لا يوجب علاج التعارض والتنافي بين القضيتين ، وذلك لأنّ التنافي إنّما هو بين مفهوم كل واحدةمنهما ومنطوق الاخرى ، ورفع اليد عن مفهوم إحداهما فحسب إنّما يرفع التنافي بين مفهومها ومنطوق الاخرى ، وأمّا التنافي بين مفهوم الاخرى ومنطوق تلك باقٍ على حاله ، ومن هنا قال بعض أصحاب الحواشي أنّه ضرب في النسخة المصححة خط المحو على هذه العبارة.

لحدّ الآن قد تبين أنّ ما تمسك به المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره لاثبات كون الشرط هو الجامع بين الأمرين غير تام ، هذا.

وقد اختار شيخنا الاستاذ قدس‌سره أنّ الشرط هو مجموع الأمرين لا كل واحد منهما ، وقد أفاد في وجه ذلك ما إليك لفظه : التحقيق أنّ دلالة كل من الشرطيتين على ترتب الجزاء على الشرط المذكور فيهما باستقلاله من غير انضمام شيء آخر إليه إنّما هي بالاطلاق المقابل بالعطف بالواو ، كما أنّ انحصار الشرط بما هو مذكور فيهما مستفاد من الاطلاق المقابل للعطف بأو ، وبما أنّه لا بدّ من رفع اليد عن أحد الاطلاقين ولا مرجح لأحدهما على الآخر ، يسقط كلاهما عن الحجية ، لكن ثبوت الجزاء كوجوب القصر في المثال يعلم بتحققه عند تحقق مجموع الشرطين على كل تقدير. وأمّا في فرض انفراد كل من

٢٤٤

الشرطين بالوجود فثبوت الجزاء فيه يكون مشكوكاً فيه ، ولا أصل لفظي في المقام على الفرض ، لسقوط الاطلاقين بالتعارض فتصل النوبة إلى الأصل العملي ، فتكون النتيجة موافقة لتقييد الاطلاق المقابل بالعطف بالواو.

وأمّا ما ربما يقال من لزوم رفع اليد عن خصوص الاطلاق المقابل بالعطف بأو ، لكونه متاخراً في الرتبة عن الاطلاق المقابل بالعطف بالواو ، ضرورة أنّ انحصار الشرط متأخر رتبة عن تعينه وتشخصه ، فيدفعه : أنّ تقدم أحد الاطلاقين على الآخر في الرتبة لا يوجب صرف التقييد إلى المتأخر ، لأنّ الموجب لرفع اليد عن الاطلاقين إنّما هو وجود العلم الاجمالي بعدم إرادة أحدهما ، ومن الواضح أنّ نسبة العلم الاجمالي إلى كليهما على حد سواء فلا موجب لرفع اليد عن أحدهما بخصوصه دون الآخر (١).

ملخّص ما أفاده قدس‌سره هو أنّ الاطلاقين بما أنّه لا يمكن الأخذ بكليهما معاً من ناحية العلم الاجمالي بعدم إرادة أحدهما فيسقطان معاً ، فلا يكون في المسألة أصل لفظي من عموم أو إطلاق ليتمسك به لاثبات الجزاء ، وهو وجوب القصر في المثال عند افتراض تحقق أحد الشرطين في الخارج. فاذن بطبيعة الحال تصل النوبة إلى الأصل العملي ، وبما أنّ وجوب القصر في مفروض المقام عند انفراد كل من الشرطين بالوجود مشكوك فيه فالمرجع فيه لا محالة هو أصالة البراءة ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّه لا مانع من الرجوع إلى استصحاب بقاء وجوب التمام ، لفرض شك المكلف في هذا الحال في تبدل الوظيفة من التمام إلى القصر ، ومعه لا قصور في أدلة الاستصحاب عن شمول المقام. وإن شئت قلت : إنّه

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٦١ ـ ٢٦٢.

٢٤٥

لا شبهة في وجوب التمام على المكلف قبل خفاء الأذان والجدران معاً ، كما أنّه لا إشكال في وجوب القصر عليه بعد خفائهما كذلك ، فهاتان الصورتان خارجتان عن محل الكلام ولا إشكال فيهما ، وإنّما الاشكال والكلام في الصورة الثالثة وهي ما إذا خفي أحدهما دون الآخر ففي هذه الصورة بما أنّ إطلاق كل منهما قد سقط عن الاعتبار من ناحية العلم الاجمالي بمخالفة أحدهما للواقع فبطبيعة الحال ينتهي الأمر إلى الأصل العملي وهو في المقام استصحاب بقاء وجوب التمام ، للشك في بقائه وتبدله بالقصر. فاذن النتيجة هي نتيجة التقييد بالعطف بالواو.

ولنأخذ بالمناقشة على ما أفاده قدس‌سره صغرى وكبرى :

أمّا بحسب الصغرى : فلأنّ مورد الكلام ليس من صغريات ما أفاده قدس‌سره من الكبرى وهي الرجوع إلى الأصل العملي ، بل هو من صغريات كبرى اخرى وهي الرجوع إلى الأصل اللفظي من عموم أو إطلاق ، فلنا دعويان : الاولى أنّ المقام ليس من موارد الرجوع إلى الأصل العملي. الثانية : أنّه من موارد الرجوع إلى الأصل اللفظي.

أمّا الدعوى الاولى : فلأنّ وجوب القصر وجواز الافطار في حال السفر قد ثبتا في الشريعة المقدسة بالكتاب والسنّة ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ السفر المأخوذ في موضوعهما أمر عرفي وهو بهذا المعنى العرفي مأخوذ فيه على الفرض. ومن ناحية ثالثة : أنّه لا شبهة في صدق عنوان المسافر على من خرج من البلد قاصداً السفر ولا يتوقف هذا الصدق على وصوله إلى حدّ الترخص.

فالنتيجة على ضوء هذه النواحي : أنّ مقتضى إطلاق الكتاب والسنّة وجوب القصر وجواز الافطار مطلقاً ولو قبل وصوله إلى حدّ الترخص أي

٢٤٦

بمجرد صدق عنوان المسافر عليه ، ولكن قد قيّد هذا المطلق في عدّة من النصوص به ، يعني حدّد وجوب القصر وجواز الافطار فيها بخفاء الأذان والتواري عن الجدران الذي عبّر عنه في كلمات الفقهاء بخفاء الجدران ، نظراً إلى أنّه لا طريق للمسافر إلى تواريه عن الجدران إلاّبخفائها وإلاّ فهذه الكلمة لم ترد في نصوص الباب.

فالنتيجة : أنّ هذه الروايات توجب تقييده بما ذكر ، وعليه فما لم يصل المسافر إلى حدّ الترخص لم يجب عليه التقصير. وعلى ضوء هذا البيان فاذا خفي أحدهما دون الآخر فالمكلف وإن شكّ في وجوب القصر وجواز الافطار إلاّ أنّ المرجع فيه ليس أصالة البراءة عنه واستصحاب بقاء التمام ، بل المرجع الأصل اللفظي وهو الاطلاق المتقدم ومقتضاه وجوب القصر في هذا الفرض دون التمام.

وأمّا الدعوى الثانية : وهي أنّ المورد داخل في كبرى الرجوع إلى الأصل اللفظي دون العملي فيظهر حالها مما بيّناه في الدعوى الاولى ، وتوضيحه : هو أنّ القدر الثابت من تقييد هذه المطلقات الدالة على وجوب القصر وجواز الافطار مطلقاً هو ما إذا لم يخف الأذان والجدران معاً ، حيث إنّ الواجب عليه في هذا الفرض هو التمام وعدم جواز الافطار ، وأمّا إذا خفي أحدهما دون الآخر فلا نعلم بتقييدها ، ومعه لا مناص من الرجوع إليها لاثبات وجوب القصر وجواز الافطار ، لفرض عدم الدليل على التقييد في هذه الصورة بعد سقوط كلا الاطلاقين من ناحية المعارضة ، فتكون النتيجة هي نتيجة العطف بأو على عكس ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من الكبرى لا ينطبق على المقام.

٢٤٧

نعم ، إذا افترضنا قضيتين شرطيتين في مورد كانتا واردتين لبيان الحكم الابتدائي تمّ ما أفاده قدس‌سره ، وذلك كما إذا ورد في دليل : إذا خفي الأذان فتصدق ، وورد في دليل آخر : إذا خفي الجدران فتصدق ، وبما أنّه لا يمكن الجمع بين الاطلاقين معاً للعلم الاجمالي بمخالفة أحدهما للواقع فيسقطان ، فالمرجع عندئذ بطبيعة الحال هو الأصل العملي ، وهو أصالة البراءة عن وجوب التصدق عند خفاء أحدهما دون الآخر ، لا في مثل المقام حيث إنّهما واردتان لبيان تقييد الحكم الثابت بالعموم والاطلاق ، فحينئذ لا محالة يكون المرجع في مورد الشك في التقييد والتخصيص هو ذاك العموم والاطلاق كما عرفت.

وأمّا بحسب الكبرى : فالصحيح أنّ القاعدة تقتضي تقييد الاطلاق المقابل للعطف بأو دون العطف بالواو كما اختاره شيخنا الاستاذ قدس‌سره والسبب في ذلك : هو أنّه لا منافاة بين منطوقي القضيتين الشرطيتين المتقدمتين ، ضرورة أنّ وجوب القصر عند خفاء الأذان لا ينافي وجوبه عند خفاء الجدران أيضاً ، لفرض أنّ ثبوت حكم لشيء لا يدل على نفيه عن غيره ، وكذا لا منافاة بين مفهوميهما ، لوضوح أنّ عدم وجوب القصر عند عدم خفاء الأذان لا ينافي عدم وجوبه عند عدم خفاء الجدران ، إذ عدم ثبوت حكم عند عدم شيء لا يقتضي ثبوته عند عدم شيء آخر ليكون بينهما تناف.

فالنتيجة : أنّ المنافاة إنّما هي بين إطلاق مفهوم إحداهما ومنطوق الاخرى مع قطع النظر عن دلالتها على المفهوم ، ولذا لو كان الوارد في الدليلين : إذا خفي الأذان فقصّر ، ويجب تقصير الصلاة عند خفاء الجدران ، كان بين ظهور القضية الاولى في المفهوم وظهور القضية الثانية في ثبوت وجوب التقصير عند خفاء الجدران تعارض لا محالة ، فانّ مقتضى إطلاق مفهوم الاولى عدم وجوب القصر عند عدم خفاء الأذان وإن فرض خفاء الجدران ، ومقتضى القضية

٢٤٨

الثانية وجوب القصر في هذا الفرض.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ المعارضة في مورد الكلام إنّما هي بين مفهوم كل من القضيتين ومنطوق الاخرى الدال على ثبوت الجزاء عند تحقق شرطه ، فاذن لا بدّ لنا من علاج هذه المعارضة وقد ذكروا في مقام علاجها وجوهاً :

الأوّل : ما تقدم من المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) وهو رفع اليد عن مفهوم إحداهما دون الاخرى.

وفيه : ما عرفت من أنّه لا تعارض بين المفهومين حتى يعالج بذلك ، ومن هنا قلنا إنّ هذا سهو من قلمه قدس‌سره.

الثاني : ما تقدم من شيخنا الاستاذ قدس‌سره وهو رفع اليد عن كلا الاطلاقين معاً والرجوع إلى الأصل العملي.

أقول : إنّ ما أفاده قدس‌سره وإن أمكن علاج المعارضة به ، إلاّ أنّ الأخذ به بلا موجب بعد إمكان الجمع العرفي بين الدليلين ، والسبب في ذلك هو أنّه إذا أمكن في موردٍ علاج المعارضة بين الدليلين على ضوء الجمع العرفي وما هو المرتكز عندهم لم تصل النوبة إلى علاجها بطريق آخر خارج عنه ليس معهوداً ومرتكزاً بينهم ، وبما أنّ ما أفاده من الجمع هنا خارج عن المتفاهم العرفي فلا يمكن المساعدة عليه ، ولتوضيح ذلك نضرب مثالاً وهو ما إذا ورد الأمر باكرام العلماء الظاهر في وجوب إكرامهم ، ثمّ ورد في دليل آخر أنّه لا يجب إكرام زيد العالم ، فانّ التنافي بينهما وإن كان يرتفع بحمل الأمر في الدليل العام على الاستحباب إلاّ أنّه بلا مقتض ، حيث إنّ العرف لا يساعد على ذلك ، فانّ الموجب للتنافي في المقام ليس إلاّظهور الدليل الأوّل في العموم ، ومن

__________________

(١) في ص ٢٤٢.

٢٤٩

المعلوم أنّ المرتكز العرفي في أمثال ذلك هو رفع اليد عن العموم وتخصيصه بالدليل الثاني ، لا حمل الأمر في الدليل الأوّل على الاستحباب فانّه خارج عن المرتكز العرفي.

وعلى الجملة : فالتنافي في المثال المزبور إنّما هو بين ظهور العام في العموم وظهور الخاص في التخصيص به وعدم كون العام بعمومه مراداً ، ولا تنافي بين ظهور الخاص في التخصيص به وبين ظهور الأمر في طرف العام في الوجوب مع قطع النظر عن ظهوره في العموم ، وعليه فبطبيعة الحال يحمل العام على الخاص نظراً إلى أنّ ظهوره أقوى منه فيكون قرينةً عليه عرفاً ، كما هو الحال في جميع موارد تعارض الظهورات بعضها مع بعضها الآخر. وأمّا التصرف في ظهور الأمر في طرف العام وحمله على الاستحباب فهو بلا ضرورة تستدعيه وإن كان يرتفع به التعارض كما هو يرتفع بحمل أحدهما على التقية ، مع أنّه لم يقل به أحد فيما نعلم ، أو بحمل الخاص على أفضل أفراد الواجب أو ما شاكل ذلك.

فالنتيجة في نهاية الشوط : هي أنّ كل ما يمكن به دفع التنافي والتعارض بين الدليلين لا يمكن الأخذ به ما لم يساعد عليه العرف. وعلى ضوء هذا البيان يظهر أنّ ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره في المقام من رفع اليد عن كلا الاطلاقين والرجوع إلى الأصل العملي لا يمكن المساعدة عليه بوجه ، وذلك لأنّ التعارض وإن كان يُدفع بما ذكره قدس‌سره إلاّ أنّك عرفت أنّ كل ما يمكن به دفع التعارض والتنافي بين الدليلين لا يمكن الأخذ به إلاّفيما إذا ساعد عليه العرف ، يعني يكون الجمع بينهما جمعاً عرفياً ، ومن الطبيعي أنّ رفع اليد عن كلا الاطلاقين فيما نحن فيه والرجوع إلى دليل آخر ليس من الجمع العرفي في شيء.

٢٥٠

والسبب في ذلك : هو ما تقدم من أنّ التعارض بينهما إنّما هو بين إطلاق مفهوم كل منهما ومنطوق الاخرى وإن افترض عدم دلالتها على المفهوم ، فلو كان الوارد في الدليلين إذا خفي الأذان فقصّر ، ويجب التقصير عند خفاء الجدران ، لكان بين ظهور القضية الاولى في المفهوم وظهور القضية الثانية في ثبوت وجوب التقصير عند خفاء الجدران تعارض لا محالة ، وحيث إنّ نسبة المنطوق إلى المفهوم نسبة الخاص إلى العام ، فبطبيعة الحال يقيّد إطلاقه به ، وبما أنّ التصرف في المفهوم بدون التصرف في المنطوق لا يمكن ، لما عرفت من أنّه لازم عقلي له ، فيدور مداره سعةً وضيقاً ، فلا يمكن انفكاكه عنه ولو بالاطلاق والتقييد ، فلا محالة يستلزم التصرف فيه التصرف في المنطوق ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ التصرف في إطلاق مفهوم كل من القضيتين بهذا الشكل لا محالة يستدعي التصرف في إطلاق منطوق كل منهما بنتيجة العطف بكلمة « أو » ولازم ذلك هو أنّ الشرط أحدهما ، والسر فيه : هو أنّنا إذا قيّدنا إطلاق مفهوم قوله عليه‌السلام : « إذا خفي الأذان فقصّر » بمنطوق قوله عليه‌السلام : « إذا خفى الجدران فقصّر » (١) وبالعكس ، أي تقييد إطلاق مفهوم القضية الثانية بمنطوق القضية الاولى ، فالنتيجة هي عدم وجوب التقصير إلاّ إذا خفي أحدهما ، وهذا معنى أنّ ذلك نتيجة تقييد إطلاق كل من القضيتين بالعطف بكلمة « أو » وأمّا التقييد بالعطف بكلمة « واو » فلا مقتضي له أصلاً وإن كان يرتفع به التعارض.

وقد تحصّل من ذلك عدة امور :

الأوّل : أنّ ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره في المقام خاطئ صغرى وكبرى فلا واقع موضوعي له.

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٧٠ / أبواب صلاة المسافر ب ٦ ( نقل بالمضمون ).

٢٥١

الثاني : أنّ ما ذكرناه من الجمع هنا هو المطابق للارتكاز العرفي في أمثال المقام دون غيره.

الثالث : أنّ الجمع بين ظواهر الأدلة لا بدّ أن يكون في إطار مساعدة العرف عليه وإلاّ فهو غير مقبول.

الرابع : أنّ التعارض في محل الكلام إنّما هو بين إطلاق مفهوم كل من القضيتين ومنطوق الاخرى.

الخامس : أنّ نسبة مفهوم كل منهما إلى منطوق الاخرى نسبة العموم المطلق.

السادس : أنّ التصرف في المفهوم لا يمكن بدون التصرف في المنطوق.

[ تداخل الأسباب والمسببات ]

الأمر الخامس : إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء وثبت من الخارج أو من نفس ظهور القضيتين أو القضايا كون كل شرط مستقلاً في ترتب الجزاء عليه ، فهل القاعدة في مثل ذلك تقتضي تداخل الشروط في تأثيرها أثراً واحداً أو لا؟ مثلاً إذا اجتمع أسباب عديدة للوضوء أو الغسل في شخص واحد كالنوم والبول وخروج الريح والجنابة ومسّ الميت والحيض وما شاكل ذلك فهل تستدعي أثراً واحداً أو متعدداً ، وعلى تقدير اقتضائها التعدد فهل القاعدة تقتضي تداخل الجزاء أو لا؟ ونقصد بتداخل الجزاء الاكتفاء بوضوء واحد أو غسل في مقام الامتثال ، وبعدم تداخله عدم الاكتفاء به في هذا المقام ، بل لا بدّ من الاتيان به متعدداً حسب تعدد الشرط.

وبعد ذلك نقول : إنّ الكلام يقع في مقامين : الأوّل : في تداخل الأسباب. الثاني : في تداخل المسببات. وقبل البحث عنهما ينبغي تقديم خطوط تالية :

٢٥٢

الأوّل : أنّ الكلام في التداخل أو عدمه إنّما هو فيما إذا لم يعلم من الخارج ذلك وإلاّ فهو خارج عن محل الكلام ، كما هو الحال في بابي الوضوء والغسل حيث علم من الخارج أنّه لا يجب على المكلف عند اجتماع أسبابه إلاّوضوء واحد ، وكذا الحال في الغسل. ومنشأ هذا العلم هو الروايات الدالة على ذلك في كلا البابين.

أمّا في باب الوضوء ، فلأنّ الوارد في لسان عامة رواياته هو التعبير بالنقض مثل : « لا ينقض الوضوء إلاّحدث » (١) وما شاكل ذلك ، ومن الطبيعي أنّ صفة النقض لاتقبل التكرر والتكثر ، وعليه فبطبيعة الحال يكون المتحصّل من نصوص الباب أنّ أسباب الوضوء إنّما تؤثر في وجود صفة واحدة وهي المعبّر عنها بالحدث ، إن اقترنت أثر مجموعها في هذه الصفة على نحو يكون كل واحد منها جزء السبب لاتمامه ، وإن ترتبت تلك الأسباب استند الأثر إلى المتقدم منها دون المتأخر كما هو الحال في العلل المتعددة التي لها معلول واحد. فالنتيجة على ضوء هذا البيان : أنّ التداخل في باب الوضوء إنّما هو في الأسباب دون المسببات.

وأمّا في باب الغسل ، فلأنّ الوارد في لسان عدة من رواياته هو إجزاء غسل واحد عن المتعدد كصحيحة زرارة « إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك غسلك ذلك للجنابة والجمعة وعرفة والنحر والحلق والذبح والزيارة ، فاذا اجتمعت عليك حقوق ( الله ) أجزأها عنك غسل واحد ـ ثمّ قال ـ وكذلك المرأة يجزئها غسل واحد لجنابتها وإحرامها وجمعتها وغسلها من حيضها وعيدها » (٢) وموثقته عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « إذا حاضت المرأة وهي جنب

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٥٣ / أبواب نواقض الوضوء ب ٣ ح ٤.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٦١ / أبواب الجنابة ب ٤٣ ح ١.

٢٥٣

أجزأها غسل واحد » (١) وصحيحة شهاب بن عبد ربّه قال : « سألت أبا عبدالله عليه‌السلام عن الجنب يغسل الميت أو من غسل ميتاً ، له أن يأتي أهله ثمّ يغتسل؟ فقال : سواء ، لا بأس بذلك إذا كان جنباً غسل يده وتوضأ وغسل الميت وهو جنب. وإن غسل ميتاً توضأ ثمّ أتى أهله ويجزئه غسل واحد لهما » (٢) ونحوها غيرها.

فالنتيجة : أنّ المستفاد من هذه الروايات هو أنّ التداخل في باب الغسل إنّما هو في المسببات لا في الأسباب ، هذا فيما إذا علم بالتداخل في الأسباب أو المسببات. وأمّا إذا لم يعلم بذلك كما إذا أفطر الصائم مثلاً في نهار شهر رمضان بالأكل أو الشرب أو الجماع أو نحو ذلك مرات عديدة فالمرجع فيه ما تقتضيه القاعدة ، وسيأتي بيانه بشكل موسع في ضمن البحوث الآتية إن شاء الله تعالى (٣).

الثاني : إذا فرض أنّه لا دليل على التداخل ولا على عدمه فما هو قضية الأصل العملي ، فهل هي التداخل أو عدمه أو التفصيل بين الأسباب والمسببات ، يعني يقتضي التداخل في الاولى دون الثانية؟ وجوه.

الصحيح هو الوجه الأخير ، وهو التفصيل بينهما ، والسبب في ذلك : هو أنّ مردّ الشك في تداخل الأسباب وعدمه إلى الشك في ثبوت تكليف زائد على التكليف الواحد المتيقن ، ومن الطبيعي أنّ مقتضى الأصل عدمه ، ومثال ذلك :

ما إذا علم المكلف بحدوث وجوب الوضوء عند حدوث سببه كما إذا بال أو نام ولكن شك في ثبوته زائداً على هذا المتيقن كما إذا بال أو نام مرّةً ثانية ، فحينئذ

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٦٣ / أبواب الجنابة ب ٤٣ ح ٤.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٦٣ / أبواب الجنابة ب ٤٣ ح ٣.

(٣) في ص ٢٦٩.

٢٥٤

لا محالة يكون مقتضى الأصل عدم ثبوته ، وهذا بخلاف الشك في تداخل المسببات ، فانّه حيث إنّا نعلم بتعدد التكليف هناك والشك إنّما هو في سقوط كلا التكليفين بسقوط أحدهما بالامتثال ، فبطبيعة الحال يكون مقتضى الأصل عدم سقوطه.

ثمّ إنّ هذا الذي ذكرناه في كلا الموردين لا يفرق فيه بين الأحكام الوضعية والتكليفية ، لوضوح أنّ الشك إذا كان في وحدة الحكم وتعدده عند تعدد شرطه فمقتضى الأصل عدم تعدده ، يعني عدم حدوث حكم آخر زائداً على المتيقن ، ومن المعلوم أنّه لا يفرق فيه بين أن يكون المشكوك حكماً تكليفياً أو وضعياً ، كما أنّه إذا شك في سقوطه بعد العلم بثبوته فمقتضى الأصل عدم سقوطه ، ولا يفرق فيه أيضاً بين كونه حكماً تكليفياً أو وضعياً.

فالنتيجة : أنّ مقتضى الأصل العملي هو التداخل في موارد الشك في تأثير الأسباب وعدم التداخل في موارد الشك فيه في المسببات. ومن هنا يظهر أنّ ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) من أنّه لا ضابط كلي لجريان الأصل في موارد الأحكام الوضعية فلا بدّ من ملاحظة كل مورد بخصوصه والرجوع فيه إلى ما يقتضيه الأصل لا يمكن المساعدة عليه ، وذلك لما عرفت من أنّه لا فرق في جريانه في كلا المقامين بين الحكم التكليفي والوضعي أصلاً.

الثالث : أنّ محل الكلام في تداخل الأسباب أو المسببات إنّما هو فيما إذا كان الجزاء قابلاً للتعدد كالوضوء أو الغسل أو ما شاكل ذلك ، وأمّا إذا لم يكن قابلاً لذلك فهو خارج عن محل الكلام ، كالقتل فانّ مَن يستحق ذلك بارتداد أو نحوه فلا معنى للبحث عن تداخل الأسباب أو المسببات فيه وفي أمثاله. نعم ،

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٦٤.

٢٥٥

قد يكون قتله مورداً لحقوق متعددة متباينة كما إذا افترض أنّه قتل عدّة أشخاص متعمداً ، فانّه يثبت لولي كل من المقتولين حق قتله على نحو الاستقلال ، فلو أسقط أحد الأولياء حقه لم يسقط حقّ الآخرين فلهم اقتصاصه.

نعم ، لو اقتصه أحدهم سقط حقّ الباقين قصاصاً بسقوط موضوعه ، ولكن لهم عندئذ أن يأخذوا الدية من أمواله ، هذا بالاضافة إلى حقوق الناس.

وكذلك الحال بالاضافة إلى حقوق الله كما إذا افترضنا أنّ أحداً زنى بأحد محارمه كاخته أو امّه أو بنته أو ما شاكل ذلك مرّتين أو أزيد ، فانّه بطبيعة الحال لا يترتب على الزنا في المرّة الثانية إلاّتأكد الجزاء حيث إنّ القتل غير قابل للتعدد.

ثمّ إنّه ربما لا يكون الجزاء قابلاً للتأكد أيضاً كاباحة شيء مثلاً أو طهارته ، نظراً إلى أنّ الطهارة كالاباحة غير قابلة للشدة والتأكد فضلاً عن الزيادة ، مثلاً إذا غسل الثوب المتنجس في الماء الكر وطهر فلا أثر لغسله ثانياً في الماء الجاري ولا يوجب ذلك تأكد طهارته وشدتها ، وكذا إذا افترضنا إباحة شيء بعدة أسباب مجتمعة عليه دفعيةً أو تدريجية كاجتماع الاكراه والاضطرار وما شاكلهما في مادة شخص واحد حيث إنّه لا يوجب شدة إباحة الفعل المضطر إليه أو المكره عليه على الرغم من كون كل واحد منها سبب تام لذلك.

الرابع : ما نسب إلى فخر المحققين (١) من أنّ القول بالتداخل وعدمه يبتنيان على كون العلل الشرعية أسباباً أو معرّفات ، فعلى الأوّل لا يمكن القول بالتداخل ، وعلى الثاني لا مانع منه حيث إنّ اجتماع معرّفات عديدة على شيء واحد بمكان من الوضوح.

__________________

(١) نسبه إليه في مطارح الأنظار : ١٧٥.

٢٥٦

وغير خفي أنّ القول بكون الأسباب الشرعية معرّفات خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً ، والسبب فيه : أنّه إن اريد بكونها معرّفات أنّها غير دخيلة في الأحكام الشرعية كدخل العلة في المعلول ، فهو وإن كان متيناً جداً ، لما ذكرناه في بحث الشرط المتأخر من أنّه لا دخل للُامور التكوينية في الأحكام الشرعية أصلاً ، ولا تكون مؤثرةً فيها كتأثير العلة في المعلول وإلاّ لكانت تلك الأحكام معاصرة لتلك الامور التكوينية ومسانخة لها بقانون التناسب والسنخية ، والحال أنّ الأمر ليس كذلك ، بداهة أنّ وجوب صلاتي الظهرين مثلاً ليس معلولاً لزوال الشمس وإلاّ لكان معاصراً له من ناحية وأمراً تكوينياً من ناحية اخرى بقانون التناسب. وكذا الحال في وجوب صلاتي المغرب والعشاء فانّه ليس معلولاً لغروب الشمس ، ووجوب صلاة الفجر فانّه ليس معلولاً لطلوع الفجر ، ووجوب الحج فانّه ليس معلولاً للاستطاعة ونحوها ، ووجوب الصوم فانّه ليس معلولاً لدخول شهر رمضان ونحوه من شرائطه.

وعلى الجملة : فالأحكام الشرعية بأجمعها امور اعتبارية فرفعها ووضعها بيد الشارع وفعل اختياري له ، ولا يؤثر فيها شيء من الامور الطبيعية. نعم ، الملاكات الموجودة في متعلقاتها وإن كانت اموراً تكوينية إلاّ أنّ دخلها في الأحكام الشرعية ليس كدخل علة طبيعية في معلولها ، بل هي داعية لجعل الشارع واعتباره إيّاها. أو فقل إنّها تدعو الشارع لجعلها واعتبارها كبقية الدواعي للأفعال الاختيارية ، لا أنّها تؤثر في نفسها. فان اريد من كون الأسباب الشرعية معرّفات ذلك فهو وإن كان متيناً من هذه الناحية إلاّ أنّه يرد عليه من ناحية اخرى ، وهي أنّه لا ملازمة بين عدم دخلها في الأحكام الشرعية وكونها معرّفات ، بل هنا أمر ثالث وهو كونها موضوعات لها ، يعني أنّ الشارع جعل الأحكام على تلك الموضوعات في مرحلة الاعتبار والانشاء

٢٥٧

على نحو القضية الحقيقية ، مثلاً أخذ الشارع زوال الشمس مع بقية الشرائط في موضوع وجوب صلاتي الظهرين في تلك المرحلة ، وكذا أخذ الاستطاعة مع سائر الشرائط في موضوع وجوب الحج وهكذا ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّا قد ذكرنا غير مرّة أنّ القضية الحقيقية ترجع إلى قضية شرطية مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي أنّ عدم دخل الأسباب الشرعية في أحكامها كدخل العلة الطبيعية في معلولها لا يستلزم كونها معرّفات محضة ، بل هي موضوعات لها وتتوقف فعليتها على فعلية تلك الموضوعات ، ولا تنفك عنها أبداً ، ومن هنا تشبه العلة التامة من هذه الناحية ، أي من ناحية استحالة انفكاكها عن موضوعاتها.

وإن اريد بذلك كونها معرّفات لموضوعات الأحكام في الواقع ، ولا مانع من تعدد المعرّف لموضوع واحد واجتماعه عليه ، مثلاً عنوان الافطار في نهار شهر رمضان ليس بنفسه موضوعاً لوجوب الكفارة ، بل هو معرّف لما هو الموضوع له في الواقع. وكذا الحال في مثل عنوان البول والنوم وما شاكلهما ، فانّ هذه العناوين المأخوذة في لسان الأدلة ليست بأنفسها موضوعات للأحكام بل هي معرّفات لها ، ومن الطبيعي أنّه لا مانع من اجتماع معرّفات متعددة على موضوع واحد.

فيرد عليه : أنّ ذلك وإن كان أمراً ممكناً في نفسه إلاّ أنّ ظواهر الأدلة لا تساعد على ذلك ، حيث إنّ الظاهر منها أنّ العناوين المأخوذة في ألسنتها بأنفسها موضوعات للأحكام ، لا أنّها معرّفات لها ، فالحمل على المعرّف يحتاج إلى قرينة وبدونها لا يمكن. وعلى الجملة : فالظاهر من الدليل عرفاً أنّ عنوان

٢٥٨

الافطار بنفسه موضوع لوجوب الكفارة ، لا أنّه معرّف لما هو الموضوع له واقعاً ، وكذا عنوان البول والنوم ونحوهما.

وإن اريد بذلك كونها معرّفات لملاكاتها الواقعية ، ففيه : أنّها ليست بكاشفة عنها بوجه ، فانّ الكاشف عنها إجمالاً إنّما هو نفس الحكم الشرعي ، وأمّا ما سمي سبباً له فلا يكون بكاشف عنها أصلاً.

فالنتيجة في نهاية المطاف : أنّ القول بكون الأسباب الشرعية معرّفات خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً. هذا إذا كان المراد من الأسباب الشرعية موضوعات الأحكام وشرائطها كما هو كذلك. وأمّا لو اريد بها ملاكاتها الواقعية فالأمر في غاية الوضوح حيث إنّه لا معنى لدعوى كونها معرّفات كما هو ظاهر.

الخامس : أنّ محل الكلام في التداخل وعدمه إنّما هو فيما إذا كان الشرط قابلاً للتعدد والتكرر ، وأمّا إذا لم يكن قابلاً له فهو خارج عن محل الكلام ، لعدم الموضوع عندئذ للقول بالتداخل وعدمه ، وذلك كالافطار متعمداً في نهار شهر رمضان الذي هو موضوع لوجوب الكفارة ، حيث إنّه من العناوين التي لا تقبل التعدد والتكرر ، فلو أكل الصائم عالماً عامداً في نهار شهر رمضان مرّةً واحدةً صدق عليه عنوان الافطار العمدي ، وأمّا إذا أكل بعده مرّةً ثانيةً فلا يصدق عليه هذا العنوان ، وبما أنّ موضوع وجوب الكفارة بحسب لسان الروايات (١) هو عنوان الافطار دون الأكل أو الشرب ، فبطبيعة الحال لا يجري فيه النزاع المتقدم ، ومن هنا لو أكل أو شرب في نهار شهر رمضان مرّات عديدة لم يجب

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٤٤ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٨.

٢٥٩

عليه إلاّكفارة واحدة. نعم ، في خصوص الجماع والاستمناء تتعدد الكفارة بتعددهما ، نظراً إلى أنّ الجماع والاستمناء بعنوانهما قد اخذا في موضوع الكفارة في لسان الروايات (١) ، ومن الطبيعي أنّها تتعدد بتعددهما خارجاً.

وبكلمة اخرى : أنّ غير الجماع والاستمناء من المفطرات بما أنّها لم تؤخذ في موضوع وجوب الكفارة بعناوينها الأوّلية وإنّما اخذت فيه بعنوان المفطر فمن الطبيعي أنّ عنوان المفطر يتحقق بصرف وجود الأكل أو الشرب في نهار شهر رمضان ، باعتبار أنّ الصوم قد افطر ونقض به فلا يصدق هذا العنوان على وجوده الثاني ، لوضوح أنّ ما نقض غير قابل للنقض مرّةً ثانية ، وإن كان الامساك بعد النقض والافطار أيضاً واجباً عليه إلاّ أنّه ليس بعنوان الصوم الواجب ، ومن هنا يجب قضاؤه ولا يكون الامساك المزبور مجزئاً عنه.

فالنتيجة : أنّ عنوان المفطر يتحقق بصرف وجود الأكل أو الشرب فلا يصدق على وجوده الثاني والثالث وهكذا ، ولذا لا تتعدد الكفارة بتعدده ، وهذا بخلاف الجماع والاستمناء حيث إنّ المأخوذ في لسان الرواية عنوان إتيان الأهل في نهار شهر رمضان وعنوان الاستمناء وهما من العناوين القابلة للتعدد والتكرر خارجاً ، وعليه فلا محالة تتعدد الكفارة بتعددهما ، فلو أتى أهله أو استمنى في نهار شهر رمضان متعدداً وجبت عليه الكفارة كذلك ، هذا.

ولكنّ السيد الطباطبائي صاحب العروة قدس‌سره (٢) قال في جواب بعض المسائل التي سئل عنها : إنّ الكفارة تتعدد بتعدد الجماع والأكل ، بدعوى

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٣٩ / أبواب ما يمسك عنه الصائم ب ٤.

(٢) [ ولكنه في العروة الوثقى ١ : ٣٣ المسألة ٢ [٢٤٧١] حكم بوحدة الكفارة في غير الجماع ].

٢٦٠