محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-15-2
الصفحات: ٥٧٠

والسبب فيه : هو أنّ القضية الشرطية في جميع هذه الموارد تستعمل في معنى واحد وليس استعمالها في موارد ترتب العلة على المعلول أو ترتب أحد المعلولين على الآخر مجازاً لنحتاج إلى لحاظ وجود قرينة في البين وإعمال عناية ، بل إنّه كاستعمالها في موارد ترتب المعلول على العلة التامة على نحو الحقيقة ، ضرورة أنّه لا فرق بين قولنا : إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود وبين قولنا : إن كان النهار موجوداً فالشمس طالعة ، فكما أنّ الأوّل على نحو الحقيقة فكذلك الثاني ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً.

نعم ، يفترق الأوّل عن الثاني في نقطة اخرى وهي أنّ الترتب في الأوّل مطابق للواقع الموضوعي دون الثاني ، فانّ الترتب فيه بمجرد افتراض من العقل من دون واقع موضوعي له.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّ القضية الشرطية موضوعة للدلالة على ترتب الجزاء على الشرط من دون الدلالة على أنّه من ترتب المعلول على العلة التامة فضلاً عن كونها منحصرةً ، فالموضوع له هو الجامع بين جميع أنواع الترتب ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ القضية الشرطية لا تدل على المفهوم في موارد البرهان الإنّي ، لوضوح أنّ غاية ما تقتضيه القضية في تلك الموارد هو أنّ تحقق المقدّم يستلزم تحقق التالي ويكشف عنه فيكون وسطاً للاثبات والعلم دون الثبوت والوجود ، ولا تدل على امتناع وجود التالي من دون وجود المقدّم ، بداهة أنّ وجود المعلول وإن كان يكشف عن وجود العلة إلاّ أنّ عدمه لا يكشف عن عدمها ، لامكان أن يكون عدمه مستنداً إلى وجود المانع لا إلى عدمها. مثلاً وجود الممكن في الخارج كاشف عن وجود الواجب بالذات نظراً إلى استحالة وجوده في نفسه ، ولكن عدمه لا يكشف عن عدمه ولا عن عدم وجود ممكن آخر لجواز أن يكون عدمه

٢٠١

مستنداً إلى ما يخصه من المانع.

نعم ، عدم المعلول يكشف عن عدم علته التامة ، كما أنّ وجوده يكشف عن وجودها ، وعدم أحد المعلولين لعلة ثالثة يكشف عن عدم الآخر كما يكشف عن عدم علته التامة.

وعلى هذا الضوء فالقضايا الشرطية في موارد البراهين الإنّية إنّما تدل على الثبوت عند الثبوت ولا تدل على انتفاء الجزاء عند انتفاء المقدّم ، لاحتمال أن يكون انتفاء المقدّم مستنداً إلى وجود المانع لا إلى انتفاء الجزاء ، والوجه في ذلك : هو أنّه لا فرق بين استعمال القضايا الشرطية في موارد العلة الناقصة واستعمالها في موارد العلة التامة ، فكما أنّه على نحو الحقيقة في الثانية فكذلك في الاولى ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أبداً.

فالنتيجة في نهاية المطاف : هي أنّه لا ظهور للقضايا الشرطية في ترتب المعلول على العلة لا بالوضع ولا بالاطلاق ، هذا.

ولكن لشيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) في المقام كلام : وهو أنّه بعد ما اعترف من أنّ استعمالها في موارد غير ترتب المعلول على العلة ليس مجازاً ، قال : إنّ ظاهر القضية الشرطية ذلك ، أي ترتب المعلول على العلة ، وذلك لأنّ ظاهر جعل شيء مقدّماً وجعل شيء آخر تالياً هو ترتب التالي على المقدّم ، فان كان هذا الترتب موافقاً للواقع ونفس الأمر بأن يكون المقدّم علةً للتالي فهو ، وإلاّ لزم عدم مطابقة ظاهر الكلام للواقع مع كون المتكلم في مقام البيان على ما هو الأصل في المخاطبات العرفية ، وعليه فمن ظهور الجملة الشرطية في ترتب التالي على المقدّم يستكشف كون المقدّم علةً للتالي وإن لم يكن ذلك

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٤٩.

٢٠٢

مأخوذاً في نفس الموضوع له.

وهذا الذي أفاده قدس‌سره وإن كان غير بعيد في نفسه ، نظراً إلى أنّ المتكلم إذا كان في مقام بيان تفرّع الجزاء على الشرط وترتبه عليه بحسب مقام الثبوت والواقع لدلت القضية على ذلك في مقام الاثبات أيضاً للتبعية ، نظير ما إذا قلنا جاء زيد ثمّ عمرو فانّه يدل على تأخر مجيء عمرو عن مجيء زيد بحسب الواقع ونفس الأمر وإلاّ لم يصح استعماله فيه.

وأمّا إذا لم يكن المتكلم في مقام بيان ذلك بل كان في مقام الاخبار أو الانشاء ، فلا يتم ما أفاده قدس‌سره ، وذلك لأنّ القضية الشرطية عندئذ لا تدل إلاّعلى أنّ إخبار المتكلم عن وجود الجزاء متفرع على فرض وجود الشرط ، أو إنشاء الحكم واعتباره متفرّع على فرض وجوده وتحققه ، وأمّا أنّ وجود الجزاء واقعاً مترتب على وجود الشرط فلا دلالة للقضية على ذلك أصلاً ، ضرورة أنّه لا مانع من أن يكون الاخبار عن وجود العلة متفرّعاً على فرض وجود المعلول في الخارج ، والاخبار عن وجود أحد المتلازمين متفرعاً على فرض وجود الملازم الآخر فيه ، والسرّ فيه : هو أنّه لا يعتبر في ذلك إلاّ فرض المتكلم شيئاً مفروض الوجود في الخارج ثمّ إخباره عن وجود شيء آخر متفرّعاً على وجوده ومعلّقاً عليه كقولنا : إن كان النهار موجوداً فالشمس طالعة ، حيث إنّ المتكلم فرض وجود النهار في الخارج ثمّ أخبر عن طلوع الشمس على تقدير وجوده ، أو فرض وجود شيء فيه ثمّ أنشأ الحكم على هذا التقدير كقولنا : إن جاءك زيد فأكرمه ، حيث إنّه جعل وجوب الاكرام على تقدير تحقق مجيئه في الخارج وهكذا.

وعلى الجملة : فبما أنّ القضية الشرطية لم توضع للدلالة على أنّ ترتب الجزاء على الشرط من ترتب المعلول على العلة ، فبطبيعة الحال تستند دلالتها على

٢٠٣

ذلك في مورد إلى قرينة حال أو مقال ، وإلاّ فلا دلالة لها على ذلك أصلاً.

وأمّا الركيزة الرابعة : وهي دلالة القضية على كون الشرط علةً منحصرةً للجزاء فهي واضحة الفساد ، لما عرفت من أنّها لا تدل على أنّ ترتب الجزاء على الشرط من ترتب المعلول على العلة فضلاً عن دلالتها على أنّ هذا الترتب من الترتب على العلة المنحصرة.

فالنتيجة لحدّ الآن : هي أنّه لا دلالة للقضية الشرطية على المفهوم أصلاً ، وإنّما تدل على الثبوت عند الثبوت فحسب.

قد يقال كما قيل : إنّ القضية الشرطية وإن لم تدل على المفهوم وضعاً إلاّ أنّها تدل عليه إطلاقاً ، بيان ذلك : هو أنّ المتكلم فيها إذا كان في مقام البيان ولم ينصب قرينةً على الخلاف فمقتضى إطلاقها هو أنّ الشرط علة منحصرة للجزاء ، وأنّ ترتبه عليه من الترتب على العلة المنحصرة ، ضرورة أنّه لو كانت هناك علة اخرى سابقة عليه وجوداً لكان الجزاء مستنداً إليها لا محالة ، كما أنّه لو كانت هناك علة اخرى في عرضها لكان مستنداً إليهما معاً ، وبما أنّ المتكلم أسند وجود الجزاء إلى وجود الشرط فمقتضى إطلاق هذا الاسناد هو أنّه ليس له علة اخرى سابقة أو مقارنة ، ونستكشف من هذا الاطلاق الاطلاق في مقام الثبوت والواقع وأنّ العلة منحصرة فيه فليس له علة اخرى غيره.

ولكن هذا القول خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له ، والسبب في ذلك : هو أنّ غاية ما تدل القضية الشرطية عليه هو ثبوت الملازمة بين التالي والمقدّم فحسب ، وأمّا ترتب التالي على المقدّم فانّه ليس مدلولاً لها ، وإنّما هو قضية تفريعه عليه في ظاهر القضية وتعليقه ، ومن هنا قلنا إنّ القضية مع هذا التفريع لا تدل إلاّعلى مطلق ترتب الجزاء على الشرط. وأمّا الترتب الخاص وهو ترتب المعلول على العلة فلا يستفاد منها إلاّبقرينة خاصة فضلاً عن كون هذا

٢٠٤

الترتب من ترتب المعلول على العلة المنحصرة.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّ القضية الشرطية لا تدل على المفهوم لا بالوضع ولا بالاطلاق.

ومن هنا أخذ شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) طريقاً ثالثاً لاثبات المفهوم لها وهو التمسك باطلاق الشرط ، بيان ذلك : أنّ القضية الشرطية على نوعين :

أحدهما : ما يكون الشرط فيه في حدّ ذاته مما يتوقف عليه الجزاء عقلاً وتكويناً.

وثانيهما : ما لا يكون الشرط فيه كذلك ، بل يكون توقف الجزاء عليه بجعل جاعل ولا يكون عقلياً وتكوينياً.

أمّا النوع الأوّل : فبما أنّ ترتب الجزاء على الشرط في القضية قهري وتكويني فبطبيعة الحال لا يكون لمثل هذه القضية الشرطية مفهوم ، لأنّها مسوقة لبيان تحقق الموضوع فيكون حالها حال اللقب فلا يكون فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً ، وهذا كقولنا : إن رزقت ولداً فاختنه ، وإن جاء الأمير فخذ ركابه وما شاكل ذلك ، فانّ القضية الشرطية في أمثال هذه الموارد تكون مسوقةً لبيان تحقق الحكم عند تحقق موضوعه ، فيكون حال الشرط المذكور فيها حال اللقب فلا تدل على المفهوم أصلاً ، بداهة أنّ التعليق في أمثال هذه القضايا لو دلّ على المفهوم لدلّ كل قضية عليه ولو كانت حملية ، وذلك لما ذكرناه في بحث الواجب المشروط من أنّ كل قضية حملية تنحل إلى قضية شرطية مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له ، مع أنّ دلالتها عليه ممنوعة جزماً.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٥١.

٢٠٥

وأمّا النوع الثاني : وهو ما لا يتوقف الجزاء فيه على الشرط عقلاً وتكويناً فقد ذكر قدس‌سره أنّه يدل على المفهوم وأفاد في وجه ذلك : أنّ الحكم الثابت في الجزاء لايخلو من أن يكون مطلقاً بالاضافة إلى وجود الشرط المذكور في القضية الشرطية أو يكون مقيّداً به ولا ثالث لهما ، وبما أنّه رتّب في ظاهر القضية الشرطية على وجود الشرط فبطبيعة الحال يمتنع الاطلاق ويكون مقيداً بوجود الشرط لا محالة ، وعلى هذا فان كان المتكلم في مقام البيان وقد أتى بقيد واحد ولم يقيده بشيء آخر ـ سواء أكان التقييد بذكر عِدل له في الكلام أم كان بمثل العطف بالواو لتكون نتيجته تركب قيد الحكم من أمرين كما في مثل قولنا : إن جاءك زيد وأكرمك فأكرمه ـ استكشف من ذلك انحصار القيد بخصوص ما ذكر في القضية الشرطية.

وعلى الجملة : فالقضية الشرطية وإن كانت بحسب الوضع لا تدل على تقييد الجزاء بوجود الشرط المذكور فيها فحسب ، وذلك لما عرفت من صحة استعمالها في موارد القضية المسوقة لبيان الحكم عند تحقق موضوعه ، إلاّ أنّ ظاهرها فيما إذا كان التعليق على ما لا يتوقف عليه متعلق الحكم في الجزاء عقلاً هو ذلك ، فاذا كان المتكلم في مقام البيان فكما أنّ إطلاق الشرط وعدم تقييده بشيء بمثل العطف بالواو مثلاً يدل على عدم كون الشرط مركباً من المذكور في القضية وغيره ، فكذلك إطلاق الشرط وعدم تقييده بشيء بمثل العطف بأو يدل على انحصار الشرط بما هو مذكور في القضية وليس له شرط آخر وإلاّ لكان عليه ذكره. وهذا نظير استفادة الوجوب التعييني من إطلاق الصيغة ، فكما أنّ قضية إطلاقها عدم سقوط الواجب باتيان ما يحتمل كونه عدلاً له فيثبت بذلك كون الوجوب تعيينياً ، فكذلك قضية إطلاق الشرط في المقام فانّها انحصار قيد الحكم به وأ نّه لا بدل له في سببية الحكم وترتبه عليه.

٢٠٦

ومن ضوء هذا البيان يظهر : أنّ ما أورده المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره على هذا التقريب خاطئ جداً وحاصل ما أورده : هو أنّ قياس المقام بالوجوب التعييني قياس مع الفارق ، وذلك لأنّ الوجوب التعييني سنخ خاص من الوجوب مغاير للوجوب التخييري فهما متباينان سنخاً ، وعلى هذا فلا بدّ للمولى إذا كان في مقام البيان من التنبيه على أحدهما بخصوصه والاشارة إليه خاصة ، وبما أنّ بيان الوجوب التخييري يحتاج إلى ذكر خصوصية في الكلام ، أعني بها العدل كما في مثل قولنا : أعتق رقبةً مؤمنةً ، أو صم شهرين متتابعين ، أو أطعم ستين مسكيناً ، فاذا لم يذكر كان مقتضى الاطلاق كون الوجوب تعيينياً وأ نّه غير متعلق إلاّبما هو مذكور في الكلام ، وهذا بخلاف المقام فانّ ترتب المعلول على علته المنحصرة ليس مغايراً في السنخ لترتبه على غير المنحصرة ، بل هو في كليهما على نحو واحد. فاذن لا مجال للتمسك بالاطلاق لاثبات انحصار العلة بما هو مذكور في القضية.

وجه الظهور : هو أنّ الاطلاق المتمسك به في المقام ليس هو إطلاق الجزاء وإثبات أنّ ترتبه على الشرط إنّما هو على نحو ترتب المعلول على علته المنحصرة ليرد عليه ما ذكر ، بل هو إطلاق الشرط بعدم ذكر عدل له في القضية ، وذلك لما عرفت من أنّ ترتب الجزاء على الشرط وإن لم يكن مدلولاً للقضية الشرطية وضعاً إلاّ أنّه يستفاد منها بحسب المتفاهم العرفي سياقاً ، وذلك يستلزم تقييد الجزاء بوجود الشرط في غير القضايا الشرطية المسوقة لبيان تحقق الحكم بتحقق موضوعه كما تقدم ، وبما أنّ التقييد بشيء واحد يغاير التقييد بأحد الشيئين على البدل سنخاً ، يلزم على المولى بيان الخصوصية إذا كان في مقام البيان ، وحيث إنّه لم يبيّن العدل مع أنّه يحتاج إلى البيان ، تعيّن كون الشرط واحداً وأنّ القيد منحصر به.

٢٠٧

ولنأخذ بالمناقشة على ما أفاده قدس‌سره.

أمّا أوّلاً : فلأنّ ما ذكره قدس‌سره من الملاك لدلالة القضية الشرطية على المفهوم لو تمّ فلا يختص الملاك بها ، بل يعمّ غيرها أيضاً كالقضايا الوصفية ونحوها ، والسبب في ذلك : هو أنّ التمسك بالاطلاق المزبور لا يثبت مفهوم الشرط في مقابل مفهوم القيد ، فلو أثبت المفهوم فهو إنّما يثبته بعنوان مفهوم القيد ببيان أنّ الحكم الثابت لشيء مقيد بقيد كقولنا : أكرم العالم العادل مثلاً ، فالقيد لا يخلو من أن يكون مطلقاً في الكلام ولم يذكر المتكلم عدلاً له كالمثال المزبور ، أو ذكر عدلاً له كقولنا : أكرم العالم العادل أو الهاشمي ، فالقضية على الأوّل تدل على أنّ الحكم الثابت للعالم مقيد بقيد واحد وهو العدالة ، وعلى الثاني تدل على أنّه مقيد بأحد القيدين : وهما العدالة والهاشمية ، وبما أنّ التقييد بأحدهما على البدل يحتاج إلى بيان زائد في الكلام كالعطف بأو أو نحوه ، كان مقتضى إطلاق القيد وعدم ذكر عدل له انحصاره به ، أي بما هو مذكور في القضية ، وإلاّ لكان على المولى البيان ، ومن الطبيعي أنّه لا فرق في ذلك بين كون القضية شرطية أو وصفية أو ما شاكلها ، والسر في هذا هو أنّ ملاك دلالة القضية على المفهوم إنّما هو إطلاق القيد المذكور فيها ، ومن الواضح جداً أنّه لا يفرق في ذلك بين كونه معنوناً بعنوان الشرط أو الوصف أو نحو ذلك.

وبكلمة اخرى : أنّ الحكم المذكور في القضية قد يكون مقيداً بقيود عديدة مذكورة فيها ، وقد يكون مقيداً بأحد قيدين أو قيود على سبيل البدل ، وقد يكون مقيداً بقيد واحد ، فما ذكره قدس‌سره من البيان لاثبات المفهوم للقضية الشرطية إنّما هو لازم تقييده بقيد واحد ، حيث إنّ مقتضى إطلاقه هو انحصاره به ، وهذا الملاك لا يختص بها ، بل يعم غيرها من القضايا أيضاً.

فالنتيجة : أنّ ما أفاده قدس‌سره لو تمّ فهو لا يثبت مفهوم الشرط في

٢٠٨

مقابل مفهوم القيد.

وأمّا ثانياً : فلأنّ مقتضى إطلاق القيد في الكلام وعدم ذكر عِدل له وإن كان وحدته تعييناً في مقابل تعدده أو كونه واحداً لا بعينه ، إلاّ أنّه لا يدل على انحصار الحكم به ، بل غاية ما يدل عليه هو أنّ الحكم في القضية غير ثابت لطبيعي المقيد على الاطلاق ، وإنّما هو ثابت لحصة خاصة منه ، ولكنّه لا يدل على أنّه ينتفي بانتفاء تلك الحصة ، فانّه لازم انحصار الحكم به لا لازم إطلاقه وعدم ذكر عدل له ، فانّ لازمه عدم ثبوت الحكم للطبيعي على الاطلاق ولا يدل على انتفائه عن حصة اخرى غير هذه الحصة.

وعلى الجملة : فملاك دلالة القضية على المفهوم إنّما هو انحصار الحكم بالقيد المذكور فيها وأ نّه علته المنحصرة لا إطلاقه ، حيث إنّ لازمه ما ذكرناه لا المفهوم بالمعنى الذي هو محل الكلام ، وهو الانتفاء عند الانتفاء مثلاً.

فالنتيجة : أنّ ما أفاده قدس‌سره من البيان لا يكون ملاك دلالة القضية الشرطية على المفهوم.

وأمّا ثالثاً : فلما أفاده المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره هنا وحاصله :

هو أنّ المتكلم بالقضية الشرطية ليس في مقام البيان من هذه الناحية ، أي من ناحية انحصار الشرط بما هو مذكور فيها ، بل الظاهر أنّه في مقام بيان مؤثرية الشرط على نحو الاقتضاء بمعنى عدم قصوره في حد ذاته عن التأثير ، وليس هو في مقام بيان مؤثريته الفعلية وانحصارها بما هو مذكور في القضية بلحاظ عدم ذكر عدل له حتى يتمسك باطلاقه لاثبات انحصار المؤثر الفعلي فيه.

نعم ، لو كانت القضية في مقام البيان من هذه الناحية لدلت على المفهوم لا محالة ، إلاّ أنّ هذه النكتة التي توجب دلالتها على المفهوم لا تختص بها ، بل

٢٠٩

تعم القضية الوصفية أيضاً ، حيث إنّها لو كانت في مقام البيان من هذه الناحية ، أي من ناحية انحصار القيد المؤثر بما هو مذكور فيها وعدم وجود غيره ، لدلت بطبيعة الحال على المفهوم ، وقد تقدم منّا أنّ هذا المفهوم ليس من مفهوم الشرط الذي هو محل الكلام في مقابل مفهوم القيد بل هو هو بعينه ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ كون المتكلم فيها في مقام البيان حتى من هذه الناحية نادر جداً ، فلا يمكن أن يكون هذا هو مراد القائلين بالمفهوم فيها ، حيث إنّه رغم كونه نادراً وغير مناسب أن يكون مراداً لهم فيحتاج إثباته إلى قرينة خاصة ، ومن المعلوم أنّ مثله خارج عن مورد كلامهم وإن لم يكن نادراً ، فانّ كلامهم في دلالة القضية الشرطية على المفهوم وضعاً أو إطلاقاً ، وأمّا دلالتها عليه بواسطة القرينة الخاصة فلا نزاع فيها أبداً.

وبكلمة اخرى : أنّ المتكلم في القضية الشرطية إنّما هو في مقام بيان ترتب مفاد الجزاء على الشرط ، وليس في مقام بيان انحصار العلة والمؤثر بما هو مذكور فيها بملاحظة عدم ذكر عدل له في الكلام ، ومن هنا قلنا إنّ القضية الشرطية لا تدل إلاّعلى مطلق ترتب الجزاء على الشرط ، فلا تدل على أنّه على نحو ترتب المعلول على علته فضلاً عن الترتب على علته المنحصرة.

وعلى ضوء ذلك فالناحية التي يكون المتكلم فيها في مقام البيان فالتمسك بالاطلاق فيها لا يجدي لاثبات كون ترتب الجزاء على الشرط بنحو ترتب المعلول على علته المنحصرة ، والناحية التي يجدي التمسك بالاطلاق فيها فالمتكلم لا يكون في مقام البيان من هذه الناحية.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من الطريقة لاثبات المفهوم للقضية الشرطية خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً.

٢١٠

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّ ما ذكروه من الوجوه لاثبات دلالة القضية الشرطية على المفهوم وضعاً أو إطلاقاً لا يتم شيء منها ، ومن هنا قد اختار المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) عدم دلالتها على المفهوم إلاّفيما قامت قرينة على ذلك ، ولكن أين هذه من دلالتها عليه وضعاً أو إطلاقاً.

فالصحيح في المقام أن يقال : إنّ دلالة القضية الشرطية على المفهوم ترتكز على ضوء نظريتنا في بابي الاخبار والانشاء ، ولا يمكن إثبات المفهوم لها على ضوء نظرية المشهور في البابين ، فلنا دعويان :

الاولى : عدم دلالة القضية الشرطية على المفهوم على وجهة نظرية المشهور في هذين البابين ، لا بالوضع ولا بالاطلاق.

الثانية : دلالتها عليه على وجهة نظريتنا فيهما.

أمّا الدعوى الاولى : فقد ذكرنا في محلّه أنّ المعروف والمشهور بين الأصحاب هو أنّ الجملة الخبرية موضوعة للدلالة على ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها عنه ، والجملة الانشائية موضوعة للدلالة على إيجاد المعنى في الخارج. وعلى ضوء ذلك فلا يمكن إثبات المفهوم للقضية الشرطية لا من ناحية الوضع ولا من ناحية الاطلاق ، لما تقدم من أنّ غاية ما تدل القضية عليه هو ترتب الجزاء على الشرط وتفرّعه عليه ، سواء أكانت القضية في مقام الاخبار أم كانت في مقام الانشاء. وأمّا كون الجزاء معلولاً للشرط فقد عرفت عدم دلالة القضية عليه ولو بالاطلاق فضلاً عن الوضع ، وعلى تقدير التنزل عن ذلك وتسليم دلالتها عليه ، إلاّ أنّها لا تدل على كون هذا الترتب على نحو ترتب

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٩٤ ـ ١٩٦.

٢١١

المعلول على علته المنحصرة كما تقدم ذلك في ضمن البحوث السابقة بشكل موسّع.

أمّا الدعوى الثانية : فقد ذكرنا في بحث الانشاء والاخبار أنّ الجملة الخبرية موضوعة للدلالة على قصد المتكلم الحكاية والاخبار عن ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها عنه ، وذلك لأمرين :

الأوّل : أنّها لا تدل على ثبوت النسبة في الواقع أو عدم ثبوتها فيه ولو دلالة ظنّية مع قطع النظر عن حال المخبر من حيث وثاقته وما شاكل ذلك وقطع النظر عن القرائن الخارجية ، مع أنّ من الطبيعي أنّ دلالة اللفظ لا تنفك عن مدلوله الوضعي بقانون الوضع ، وعليه فما فائدته.

وعلى الجملة : فاذا افترضنا أنّ الجملة الخبرية لا تدل على تحقق النسبة في الواقع ولا تكشف عنها ولو كشفاً ظنياً فما معنى كونها موضوعة بازائها ، فبطبيعة الحال يكون وضع الجملة لها لغواً محضاً فلا يصدر من الواضع الحكيم.

الثاني : أنّ الوضع على ضوء نظريتنا عبارة عن التعهد والالتزام النفساني المبرز بمبرزٍ مّا في الخارج وتوضيحه كما حققناه في محلّه : أنّ كل متكلم من أهل أيّ لغة كان تعهّد والتزم في نفسه أنّه متى ما أراد تفهيم معنىً خاص يبرزه بلفظ مخصوص ، وعليه فاللفظ بطبيعة الحال يدل بمقتضى قانون الوضع على أنّ المتكلم به أراد تفهيم معنىً خاص.

ثمّ إنّ من الطبيعي أنّ التعهد والالتزام لا يتعلقان إلاّبالفعل الاختياري ، ضرورة أنّه لا معنى لتعهد الشخص بالاضافة إلى الأمر الخارج عن اختياره ، فالتعهد إنّما يتعلق بالفعل في إطاره الخاص وهو الفعل الاختياري ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ ثبوت النسبة في الواقع أو عدم ثبوتها فيه في

٢١٢

القضايا أمر خارج عن الاختيار ، يعني عن اختيار المتكلم بها ، بل هو تابع لثبوت عللها وأسبابها في الواقع ، وعليه فلا يمكن تعلق التعهد والالتزام به. ومن ناحية ثالثة : أنّ ما هو بيد المتكلم واختياره في تلك القضايا إنّما هو إبراز قصد الحكاية فيها والاخبار عن الثبوت أو النفي في الواقع وهو قابل لأن يتعلق به التعهد والالتزام.

فالنتيجة على ضوء هذه النواحي : هي تعيّن تعلق التعهد والالتزام بابراز قصد الحكاية والاخبار عن الواقع نفياً أو إثباتاً.

ومن هذا البيان قد ظهر أمران :

الأوّل : أنّه بناءً على ضوء نظريتنا في باب الوضع لا يمكن وضع الجملة الخبرية للدلالة على ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها عنه.

الثاني : تعين وضعها للدلالة على إبراز قصد الحكاية والاخبار عن الواقع نفياً أو إثباتاً ، ونتيجة هذا أنّ الجملة الخبرية ـ بمقتضى تعهد الواضع بأ نّه متى ما قصد الحكاية عن ثبوت شيء في الواقع أو نفيه عنه أن يتكلم بها ـ تدل على أنّ الداعي إلى إيجادها وتحققها في الخارج ذلك ، وعليه فبطبيعة الحال تكون الجملة بنفسها مصداقاً للحكاية والاخبار.

ثمّ إنّ هذه الدلالة لا تنفك عن الجملة أبداً حتى فيما إذا لم يكن المتكلم في مقام التفهيم والافادة في الواقع ما لم ينصب قرينةً على الخلاف في مقام الاثبات ، غاية الأمر أنّ تكلّمه حينئذ يكون على خلاف مقتضى تعهّده والتزامه على ما تقدم في ضمن البحوث السالفة بشكل موسع ، ومن هنا قلنا إنّ الجملة الخبرية لا تتصف بالصدق مرّةً وبالكذب اخرى من ناحية الدلالة الوضعية ، لما عرفت من أنّ تلك الدلالة ثابتة على كلا تقديري الصدق والكذب ، فقولنا :

٢١٣

زيد عدل مثلاً يدل على أنّ المتكلم قاصد للحكاية عن ثبوت العدالة لزيد والاخبار عنه ، وأمّا أنّه مطابق للواقع أو غير مطابق فالجملة لا تدل عليه وأ نّه لا صلة لها بما لها من الدلالة الوضعية بهذه الجهة أصلاً.

ولأجل ذلك قلنا إنّ الجملة الخبرية تشترك مع الجملة الانشائية في الدلالة الوضعية ، فكما أنّ الجملة الانشائية موضوعة للدلالة على قصد المتكلم إبراز الأمر الاعتباري النفساني ، فكذلك الجملة الخبرية موضوعة للدلالة على قصد المتكلم الحكاية والاخبار عن الواقع فلا فرق بينهما من هذه الناحية ، ولذا لا تتصف الجملة الخبرية كالجملة الانشائية بالصدق والكذب من هذه الجهة ، والفرق بينهما إنّما هو من ناحية اخرى وهي أنّ لمدلول الجملة الخبرية واقعاً موضوعياً دون مدلول الجملة الانشائية ، ولذا تتصف الاولى بالصدق والكذب بملاحظة مطابقة مدلولها للواقع وعدم مطابقته له دون الثانية ، هذا ملخّص القول في الجملة الخبرية.

وأمّا الجملة الانشائية فقد حققنا في محلّها أنّها موضوعة للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج ولم توضع للدلالة على إيجاد المعنى فيه كما اشتهر في ألسنة الأصحاب ، وذلك لما ذكرناه هناك من أنّهم لو أرادوا بالايجاد الايجاد التكويني الخارجي كايجاد الجوهر والعرض فبطلانه من الضروريات ، ولا نحتمل أنّهم أرادوا ذلك ، كيف فانّ الموجودات الخارجية بشتى أنواعها وأشكالها ليست مما توجد بالانشاء ، بداهة أنّ الألفاظ لم تقع في سلسلة عللها وأسبابها. وإن أرادوا به الايجاد الاعتباري كايجاد الوجوب والحرمة والملكية والزوجية وما شاكل ذلك ، فيرد عليه : أنّه يكفي في إيجاد هذه الامور نفس اعتبار المعتبر من دون حاجة إلى التكلم بأيّ كلام والتلفظ بأيّ لفظ ، لوضوح أنّ الأمر الاعتباري بيد من له الاعتبار رفعاً ووضعاً ، فله إيجاده في عالم

٢١٤

الاعتبار سواء أكان هناك لفظ يتلفظ به أم لم يكن.

نعم ، اللفظ مبرز له في عالم الخارج لا أنّه موجد له ، وتقدّم تفصيل ذلك بصورة موسّعة فلاحظ.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّ مفاد الجملة الشرطية إذا كانت إخبارية فهو الدلالة على قصد المتكلم الحكاية والاخبار عن ثبوت شيء في الواقع على تقدير ثبوت شيء آخر فيه ، لا على نحو الاطلاق والارسال بل على تقدير خاص وفي إطار مخصوص ، مثلاً جملة إن كانت الشمس طالعةً فالنهار موجود ، تدل على أنّ المتكلم قاصد للحكاية والاخبار عن وجود النهار ، لا على نحو الاطلاق وإلاّ لكان كاذباً ، بل على تقدير خاص وهو تقدير طلوع الشمس ، ومن الطبيعي أنّ لازم هذه النكتة يعني كون إخباره على تقدير خاص هو انتفاؤه عند انتفاء هذا التقدير ، لفرض أنّه لم يخبر عنه على نحو الاطلاق وإنّما أخبر عنه على تقدير خاص وفي إطار مخصوص ، وعليه فبطبيعة الحال ينتفي إخباره بانتفاء هذا التقدير ، وهذا معنى دلالة الجملة الشرطية على المفهوم ، مثلاً في جملة : لو شرب زيد سمّاً لمات ، أو لو قطع رأسه لمات ، فقد أخبر المتكلم عن وقوع الموت في الخارج على تقدير خاص وهو تقدير شرب السم أو قطع الرأس لا مطلقاً ، ولازم ذلك قهراً انتفاء إخباره بانتفاء هذا التقدير.

ومن ضوء هذا البيان يظهر : أنّ إخباره عن موت زيد على هذا التقدير لا يتصف بالكذب عند انتفائه ، يعني انتفاء هذا التقدير خارجاً وعدم تحققه فيه ، والسبب في ذلك : هو أنّ المناط في اتصاف القضية الشرطية بالصدق تارةً وبالكذب اخرى ليس صدق التالي ومطابقته للواقع وعدم مطابقته له ، بل المناط في ذلك إنّما هو ثبوت الملازمة بين المقدّم والتالي وعدم ثبوتها ، فان

٢١٥

كانت الملازمة بينهما ثابتة في الواقع فالقضية الشرطية صادقة وإلاّ فهي كاذبة ، من دون فرق في ذلك بين كون المقدّم والتالي صادقين أم كاذبين ، بل لا يضر بصدقها كونهما مستحيلين في الخارج ، وذلك كقوله سبحانه وتعالى : ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا )(١) فانّ القضية صادقة على الرغم من كون كلا الطرفين مستحيلاً ، فلا يكون إخباره تعالى عن فساد العالم على تقدير وجود الآلهة كاذباً وغير مطابق للواقع ، بل هو صادق ومطابق له ، حيث إنّ إخباره سبحانه عنه لا يكون مطلقاً ، بل يكون على تقدير خاص وهو تقدير وجود الآلهة في هذا العالم. نعم ، لو لم يقع الفساد فيه على تقدير وجود الآلهة لكانت القضية كاذبة لكشف ذلك عن عدم الملازمة بينهما في الواقع.

والسر في ذلك : أي في أنّ صدق القضية الشرطية وكذبها يدوران مدار ثبوت الملازمة بينهما في الواقع ونفس الأمر وعدم ثبوتها فيه ولا يدوران مدار صدق طرفيهما وكذبهما ، هو أنّ المخبر به فيها إنّما هو قصد الحكاية والاخبار عن الملازمة بينهما لا عن وجودي المقدّم والتالي ، لوضوح أنّ المتكلم فيها غير ناظر إلى أنّهما موجودان أو معدومان ممتنعان أو ممكنان ، وعليه فان كانت الملازمة في الواقع ثابتة وكان لها واقع موضوعي فالقضية صادقة وإلاّ فهي كاذبة.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ القضية الشرطية على ضوء نظريتنا موضوعة للدلالة على قصد الحكاية والاخبار عن وجود التالي على تقدير وجود المقدّم ، وعليه فبطبيعة الحال تدل بالالتزام على انتفاء الاخبار عنه على تقدير انتفائه أي المقدّم ، وهذا معنى دلالتها على المفهوم بالدلالة الالتزامية الوضعية ، يعني

__________________

(١) الأنبياء ٢١ : ٢٢.

٢١٦

أنّها لازمة للدلالة المطابقية باللزوم البين بالمعنى الأخص.

وأمّا الجمل الانشائية فهي على نوعين :

الأوّل : ما يتوقف الجزاء على الشرط عقلاً وتكويناً كقولنا : إن رزقت ولداً فاختنه ، وإن ملكت شيئاً تصدق به وما شاكل ذلك.

الثاني : ما لا يتوقف الجزاء على الشرط عقلاً بل يكون التعليق والتوقف بجعل المولى واعتباره كقولنا : إن كان زيد عالماً فأكرمه وما شابه ذلك.

أمّا النوع الأوّل : فهو خارج عن محل الكلام ولا يدل على المفهوم ، والسبب في ذلك : هو أنّ دلالة القضية الشرطية على المفهوم ترتكز على ركيزتين : الاولى : أن يكون الموضوع فيها غير الشرط وهو الذي علّق عليه الجزاء. الثانية : أن لا يكون التعليق والتوقف عليه عقلياً ، وعلى ذلك فأيّة قضية شرطية كانت فاقدة لهاتين الركيزتين أو لاحداهما فلا مفهوم لها ، والأوّل كالمثالين المتقدمين والثاني كقولنا : إن جاءك أمير فاستقبله ، فانّ الشرط في هذه القضية وإن كان غير الموضوع إلاّ أنّ توقف الجزاء عليه عقلي.

وعلى الجملة : فتوقف الجزاء على الشرط في أمثال هذه القضايا عقلي وتكويني ولا دخل لجعل المولى إياه مترتباً على الشرط ومعلّقاً عليه أصلاً ، ضرورة أنّ توقف الجزاء عليه واقعي موضوعي وأ نّه يستحيل وجوده وتحققه في الخارج بدون وجوده وتحققه ، ومن هنا لا يفرق في ذلك بين ما لو جيء به على نحو القضية الشرطية ، وما لو جيء به على نحو القضية الوصفية ، فانّ توقفه عليه على كلا التقديرين واقعي وانتفاءه بانتفائه عقلي ، ولا صلة له بعالم اللفظ أبداً كما هو الحال في جميع موارد انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه. فاذن كيف يمكن عدّ هذا الانتفاء من المفاهيم ، وقد تقدم أنّ المفاهيم مداليل للألفاظ

٢١٧

وقد دلت عليها القضية بالدلالة الالتزامية ولم تكن أجنبية عنها أصلاً.

وأمّا النوع الثاني : وهو ما لا يتوقف الجزاء بنفسه على الشرط بل إنّما هو بجعل المولى وتعليقه عليه وذلك مثل قولنا : إن جاءك زيد فأكرمه ، فبما أنّ الركيزتين المتقدمتين قد توفرتا فيه فبطبيعة الحال يدل على المفهوم ، بيان ذلك : أنّ الموضوع في هذا النوع من القضية الشرطية غير الشرط المذكور فيها ، يعني أنّ له حالتين ، فالجزاء معلّق على إحداهما دون الاخرى ، ولا يكون هذا التعليق عقلياً وإنّما هو بجعل المولى وعنايته ، كما هو الحال في المثال المذكور فانّ الموضوع فيه هو زيد والشرط فيه هو مجيؤه ، ولا يكون توقف الجزاء وهو وجوب الاكرام عليه عقلياً ، ضرورة عدم توقف إكرامه عليه بل يمكن ذلك في كلتا الحالتين ، فمثل هذه القضية الشرطية يدل على المفهوم لا محالة بناءً على ضوء النكتة التي ذكرناها في تفسير الانشاء.

وحاصلها : هو أنّ حقيقة الانشاء عبارة عن اعتبار المولى الفعل على ذمة المكلف وإبرازه في الخارج بمبرزٍ مّا ، ومن الطبيعي أنّ هذا الاعتبار قد يكون مطلقاً ، وقد يكون معلّقاً على شيء خاص وتقدير مخصوص كما في مثل المثال السابق حيث إنّ المولى لم يعتبر إكرام زيد على ذمة المكلف على نحو الاطلاق ، وإنّما اعتبره على تقدير خاص وهو تقدير تحقق مجيئه وإبرازه في الخارج بقوله : إن جاءك زيد فاكرمه ، فانّه بطبيعة الحال يكشف عن ثبوت هذا الاعتبار عند ثبوت المجيء وتحققه بالمطابقة وعن انتفائه عند انتفائه في الخارج وعدم تحققه فيه بالالتزام ، وقد تقدم أنّ الملازمة بينهما بيّنة بالمعنى الأخص ، والسر فيه ما عرفت من أنّ اعتبار المولى إذا كان مقيداً بحالة خاصة فلازمه عدم اعتباره عند انتفاء هذه الحالة ، ومن الطبيعي أنّ هذا اللازم بيّن بالمعنى الأخص ، حيث إنّ النفس تنتقل إليه من مجرد تصور عدم الاطلاق في اعتبار المولى وأ نّه يكون

٢١٨

على تقدير خاص ومقيداً به ، فالقضية الشرطية التي تدل على الأوّل بالمطابقة فلا محالة تدل على الثاني بالالتزام ولا تتوقف هذه الدلالة على أيّة نكتة ومقدمة اخرى.

والسبب في ذلك : ما تقدم من أنّ الجملة الانشائية موضوعة للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج ، وعلى هذا الضوء فاذا كانت الجملة الانشائية شرطيةً كقضية إن استطعت فحج مثلاً أو نحوها ، دلت على أنّ اعتبار المولى مفاد الجزاء على ذمة المكلف كالحج لا يكون على نحو الاطلاق ، بل هو على تقدير خاص وهو تقدير تحقق الشرط كالاستطاعة ، ولازم ذلك دلالتها على عدم اعتباره على تقدير عدم تحققه ، غاية الأمر أنّ دلالتها على الأوّل بالمطابقة وعلى الثاني بالالتزام.

وبكلمة ثانية : أنّ اعتبار الفعل في مقام الثبوت على ذمة المكلف أو اعتبار ملكية شيء لشخص مثلاً إذا كان معلّقاً على تقدير ثبوت شيء ولم يكن مطلقاً كاعتبار الصلاة مثلاً على تقدير تحقق الزوال أو الحج على تقدير الاستطاعة أو اعتبار الموصي ملكية ماله لشخص على تقدير موته وهكذا ، كان مردّه إلى أمرين : أحدهما : اعتبار هذا الشيء على هذا التقدير الخاص. وثانيهما : عدم اعتباره عند عدم تحقق هذا التقدير ، لفرض أنّ الشارع لم يعتبر الصلاة مثلاً على ذمة المكلف عند فرض عدم تحقق الزوال أو الحج عند فرض عدم الاستطاعة ، وكذا الموصي لم يعتبر ملكية ماله له على تقدير عدم موته ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ هذين الأمرين متلازمان على نحو يكون اللزوم بينهما من اللزوم البيّن بالمعنى الأخص ، هذا بحسب مقام الثبوت.

وأمّا بحسب مقام الاثبات فالكاشف عن ذلك إن كان هو القضية الوصفية فهي لا تدل على المفهوم ، أي الانتفاء عند الانتفاء وإنّما تدل على أنّ الحكم في

٢١٩

القضية لم يجعل على نحو الاطلاق كما سيأتي بيانه بشكل موسع في ضمن البحوث الآتية (١). وإن كان هو القضية الشرطية فهي تدل عليه بمقتضى التعليق ، أي تعليق الجزاء على الشرط ، غاية الأمر أنّ دلالتها على الثبوت عند الثبوت بالمطابقة وعلى الانتفاء عند الانتفاء بالالتزام.

فالحاصل : أنّ دلالتها على المفهوم نتيجة النكتة المتوفرة فيها ولم تكن متوفرة في غيرها وهي تعليق المولى مفاد الجزاء على الشرط واعتباره متوقفاً عليه ومترتباً بعد ما لم يكن كذلك في نفسه.

ثمّ إنّ هذه الدلالة مستندة إلى الوضع ، أي وضع أدوات الشرط للدلالة على ذلك ككلمة « إن » و « إذا » و « لو » وما شاكل ذلك في أيّة لغة كانت ، ولم تكن مستندةً إلى الاطلاق ومقدمات الحكمة ، لفرض أنّها لازمة بيّنة بالمعنى الأخص لدلالتها المطابقية وهي دلالتها على التعليق والثبوت ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّه لا فرق في دلالة القضية الشرطية على المفهوم بين أن يكون تعليق مدلول الجزاء على شرط واحد كقولنا إن جاءك زيد فأكرمه أو ما شاكله ، أو يكون على شرطين بمثل العطف بالواو كقولنا : إن جاءك زيد وأكرمك فأكرمه ، أو العطف بأو كقولنا : إن جاءك زيد أو عمرو فاعط له هذا المال ، فعلى الأوّل يكون الشرط في الحقيقة مجموع الأمرين بحيث يكون كل واحد منهما جزءه لاتمامه ، وعلى الثاني أحدهما ، ومن الطبيعي أنّه لا فرق في دلالة القضية الشرطية على المفهوم بين أن يكون الشرط المذكور فيها واحداً أو متعدداً ، ضرورة أنّ ملاك دلالتها في الجميع واحد وهو تعليق المولى الجزاء على الشرط ثبوتاً وإثباتاً ، غاية الأمر إذا كان الشرط مجموع الأمرين انتفى الجزاء

__________________

(١) راجع مبحث مفهوم الوصف ص ٢٧٤.

٢٢٠