محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-15-2
الصفحات: ٥٧٠

فبطبيعة الحال أنّه لا يستلزم بطلان البيع أصلاً. فما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّ الناذر من جهة لزومه الوفاء بنذره يكون محجوراً عن التصرف في المال المنذور خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له. ومن هنا يظهر حال :

الفرع الثالث : وهو ما إذا اشترط البائع على المشتري أن لا يبيع المال المشترى من غيره ، فانّ غاية ما يترتب على هذا وجوب الوفاء به ، وقد عرفت أنّه لا ينافي صحة البيع وإمضاءه على تقدير تحققه في الخارج ، فلا بدّ في الحكم بفساده من التماس دليل آخر وإلاّ لكان مقتضى الاطلاق صحته وترتب الأثر عليه.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّ النهي المتعلق بالمعاملة إذا كان إرشاداً إلى مانعية شيء عنها فلا إشكال في دلالته على فسادها ، من دون فرق في ذلك بين أن يكون النهي متعلقاً بنفس العقد أو الايقاع كالنهي عن بيع الوقف وما لا يملك وبيع المجهول والنكاح في العدة والطلاق في طهر المواقعة وما شاكل ذلك ، وأن يكون متعلقاً بآثاره كقوله عليه‌السلام « ثمن العذرة سحت » (١) « وثمن الكلب سحت » (٢) ونحو ذلك ، فهذه الطائفة من النواهي بكلا نوعيها تدل على فساد المعاملة جزماً وبلا خلاف وإشكال ، ومن هنا قلنا بخروجها عن محل الكلام.

وأمّا إذا كان النهي نهياً مولوياً ودالاً على حرمتها ومبغوضيتها فقد عرفت أنّه لا يدل على فسادها بوجه ، سواء أكان متعلقاً بأحد جزأي المعاملة أو بكلا جزأيها. ثمّ لا يخفى أنّ هذا القسم من النهي في باب المعاملات من العقود

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ١٧٥ / أبواب ما يكتسب به ب ٤٠ ح ١ ( باختلاف يسير ).

(٢) الوسائل ١٧ : ١١٨ / أبواب ما يكتسب به ب ١٤ ح ٢ وغيره.

١٨١

والايقاعات قليل جداً والغالب فيه إنّما هو القسم الأوّل.

بقي الكلام حول الروايات (١) الواردة في عدم نفوذ نكاح العبد بدون إذن سيده. قد يتوهم أنّ تلك الروايات تدل على عدم الملازمة بين حرمة المعاملة وفسادها ، ببيان أنّ مفادها هو أنّ عصيان السيد لا يستلزم بطلان نكاح العبد رأساً وإنّما يوجب ذلك أن تتوقف صحته على إجازته وإذنه ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ عصيان السيد بما أنّه يستلزم عصيانه تعالى فبطبيعة الحال تدل تلك الروايات من جهة هذه الملازمة على عدم استلزام عصيانه ( سبحانه وتعالى ) بطلان النكاح. ومن ناحية ثالثة : أنّ ما دلّ على أنّ عصيانه تعالى مستلزم لفساده وهو مفهوم قوله عليه‌السلام « إنّه لم يعص الله وإنّما عصى سيده » إلخ ، فلا بدّ أن يراد به العصيان الوضعي بمعنى أنّ العبد لم يأت بالنكاح غير المشروع في نفسه كالنكاح في العدة على ما مثّل الإمام عليه‌السلام له بذلك لئلا يكون قابلاً للصحة ، بل جاء بأمر مشروع في نفسه وقابل للصحة باجازة المولى. فالنتيجة على ضوء هذه النواحي : أنّ هذه الروايات تدل على أنّ النهي التكليفي لا يدل على فساد المعاملة بوجه ، وأمّا النهي الوضعي فانّه يدل على فسادها جزماً.

تفصيل الكلام حول هذه المسألة : فنقول : إنّ الأقوال فيها ثلاثة :

الأوّل : أنّ صحة نكاح العبد تتوقف على إجازة السيد فاذا أجاز جاز.

الثاني : أنّه فاسد مطلقاً ، أي سواء أجاز سيده أم لا ، وإليه ذهب كثير من العامة.

__________________

(١) الوسائل ٢١ : ١١٤ / أبواب نكاح العبيد والاماء ب ٢٤ ح ١ ، ٢.

١٨٢

الثالث : التفصيل بين ما إذا أوقع العبد العقد لنفسه وما إذا أوقع فضولةً ومن قبل غيره ، فانّه على الأوّل فاسد مطلقاً دون الثاني. هذه هي الأقوال في المسألة.

أمّا القول الأوّل : فانّه في غاية الصحة والمتانة ولا مناص عن الالتزام به ، وذلك لأنّه مضافاً إلى أنّ صحته بالاجازة على طبق القاعدة ، قد دلّت عليها روايات الباب بالصراحة ، وسيأتي توضيح ذلك في ضمن البحوث الآتية إن شاء الله تعالى.

وأمّا القول الثاني : فهو واضح البطلان ، فانّه مضافاً إلى أنّ الالتزام به بلا موجب ، خلاف صريح الروايات المشار إليها.

وأمّا القول الثالث : فقد اختاره شيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره (١) ونسبه إلى الشيخ التستري قدس‌سره ونسبه شيخنا الاستاذ قدس‌سره (٢) إلى المحقق القمي قدس‌سره وكيف كان ، فقد ذكر في وجهه : أنّ العقد الصادر منه لنفسه لا يمكن تصحيحه باجازة المولى المتأخرة ، لفرض أنّه من حين صدوره يقع فاسداً ، ومن الطبيعي أنّ الشيء لا ينقلب عمّا هو عليه ، فاذن كيف يعقل انقلابه من الفساد إلى الصحة بالاجازة المتأخرة ، وهذا بخلاف العقد الصادر منه لغيره فانّه وإن كان فضولياً حيث إنّه بدون إذن سيده إلاّ أنّ السيد إذا أجازه جاز ، نظراً إلى استناده إلى من له العقد من هذا الحين ـ أي من حين الاجازة ـ فتشمله الاطلاقات والعمومات ، والسر في ذلك : هو أنّ هذا العقد لم يقع من الأوّل فاسداً ، بل فساده كان مراعىً بعدم إجازة المولى ، نظير بقية العقود الفضولية ، فاذا أجاز صحّ.

__________________

(١) مطارح الأنظار : ١٦٤.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٢٣٤.

١٨٣

وبتعبير آخر : أنّ النكاح الصادر من العبد لنفسه بدون إذن مولاه كالنكاح الصادر من الصبي أو المجنون أو السفيه لنفسه بدون إذن وليّه ، فكما أنّه غير قابل للتصحيح باجازته نظراً إلى أنّه فاسد من حين صدوره فكذلك نكاح العبد ، وهذا بخلاف ما إذا كان لغيره فانّ من له العقد بما أنّه غيره فصحته تتوقف على استناده إليه والمفروض أنّ الاجازة المتأخرة مصححة له ، هذا.

ولنأخذ بالمناقشة على هذا التفصيل ، ملخّصها أمران :

الأوّل : أنّه لا فرق بين هذه الموارد وسائر موارد الفضولي ، فان صحته بالاجازة على القاعدة في جميع الموارد بلا فرق بين مورد دون مورد ، بل لا يبعد أن يكون الحكم بالصحة في هذه الموارد أولى من غيرها ، وذلك لأنّ الاستناد هنا إلى مالك العقد موجود ولا قصور فيه إلاّمن ناحية أنّ صحته وترتب الأثر عليه شرعاً تتوقف على إجازة السيد أو الولي.

وعلى الجملة : فلا فرق في صحة عقد الفضولي بالاجازة المتأخرة بين أن يكون عدم صحته من ناحية عدم استناده إلى المالك أو مَن هو في حكمه ، أو من ناحية عدم إجازة من يكون لاجازته دخل في صحته ، ففي جميع هذه الموارد يكون حكم الشارع بفساد العقد معلّقاً على عدم الاجازة ، فاذا أجاز مَن له الاجازة جاز وصحّ ، ومن الطبيعي أنّ هذا ليس من انقلاب الشيء عما وقع عليه ، فانّ الحكم بالفساد إنّما هو من جهة عدم تحقق شرط الصحة وهو الاجازة فاذا تحقق حكم بها لا محالة ، وهذا ليس من الانقلاب في شيءٍ. على أنّ إشكال لزوم الانقلاب لو تمّ لا يختص بموردٍ دون مورد ، بل يعم تمام موارد العقد الفضولي كما هو ظاهر.

الثاني : لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ مقتضى القاعدة عدم صحة عقد الفضولي والصحة تحتاج في كل مورد إلى دليل خاص ، إلاّ أنّ روايات الباب

١٨٤

تكفينا دليلاً على الصحة في المقام ، فانّ هذه الروايات وإن وردت في خصوص نكاح العبد بغير إذن سيده إلاّ أنّه يستفاد منها الكبرى الكلية وهي : أنّ المعاملات إذا كانت في أنفسها ممضاة شرعاً لم يضر عصيان السيد بصحتها أصلاً سواء أكانت نكاحاً أم كانت غيره ، ضرورة أنّه لا خصوصية للنكاح في ذلك ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّه لا خصوصية لعصيان السيد بما هو سيد إلاّمن جهة أنّ صحة المعاملة تتوقف على إجازته وإذنه ، فاذا أجاز جازت. وعلى ذلك فكل من كانت إجازته دخيلة في صحة معاملةٍ فعصيانه لا يضر بها فاذا أجاز المعاملة جازت.

وعلى الجملة : فهذه الروايات في مقام بيان الفرق بين المعاملات الممضاة شرعاً في أنفسها والمعاملات غير الممضاة كذلك كالنكاح في العدة ونحوه ، وتدل على أنّ الطائفة الاولى إذا وقعت في الخارج فضولة وبدون إجازة من له الاجازة صحت باجازته المتأخرة دون الثانية. مثلاً لو باع شخص مال غيره فضولةً أو تزوج بامرأة كذلك فعندئذ إن أجازه المالك صحّ العقد.

فالنتيجة في نهاية الشوط : هي أنّ المراد من العصيان في تلك الروايات هو العصيان الوضعي لا العصيان التكليفي كما سيأتي بيانه بشكل موسع. فاذن تلك الروايات أجنبية عن محل الكلام في المسألة بالكلية ، فانّها كما لا تدل على أنّ النهي عن المعاملة يدل على الصحة كذلك لاتدل على أنّ النهي عنها يدل على الفساد.

ولكن شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) قد استدلّ بهذه الروايات على دلالة النهي على الفساد ببيان أنّ المراد من عصيان الله تعالى فيها المستلزم للفساد

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٣٢ ـ ٢٣٣.

١٨٥

بمقتضى مفهومها هو العصيان التكليفي. وأمّا ما ذكر من تحقق عصيانه ( سبحانه وتعالى ) في المقام نظراً إلى أنّ عصيان السيد يستلزم عصيانه تعالى ، فانّه وإن كان صحيحاً إلاّ أنّ المنفي في روايات الباب ليس مطلق عصيانه ولو كان مع الواسطة ، بل خصوص عصيانه المتحقق بمخالفة نهيه الراجع إلى حقّه تعالى على عبيده مع قطع النظر عن حقوق الناس بعضهم على بعض ، فيكون المتحصّل من الروايات هو أنّ عصيان العبد لسيده بنكاحه من دون إذنه لو كان ناشئاً من مخالفة نهي متعلق بذلك النكاح من حيث هو في نفسه لما فيه من المفسدة المقتضية لذلك ، لأوجب ذلك فساده لا محالة كالنهي عن النكاح في العدة أو عن النكاح الخامس وهكذا ، وذلك لأنّ متعلق هذا النهي مبغوض للشارع حدوثاً وبقاءً ، لفرض استمرار مفسدته المقتضية للنهي عنه ، وهذا بخلاف عصيان العبد الناشئ من مخالفة النهي عن التمرد على سيده فانّه بطبيعة الحال يدور مدار تمرده عليه حدوثاً وبقاءً ، فاذا افترضنا أنّ سيده رضي بما عصاه ارتفع النهي عنه بقاءً ، وعليه فلا يبقى موجب لفساده أصلاً ولا مانع من الحكم بصحته.

فالنتيجة : أنّ المستفاد من الروايات : هو أنّ الفساد يدور مدار النهي الإلهي حدوثاً وبقاءً ، غاية الأمر أنّه إذا كان ناشئاً من تفويت حقّ الغير فهو إنّما يوجب فساد المعاملة فيما إذا كان النهي باقياً ببقاء ملاكه وموضوعه ، وأمّا إذا ارتفع حقّ الغير بارتفاع موضوعه باجازة مَن له الحق تلك المعاملة ارتفع النهي عنها أيضاً.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ هذه الروايات تدل على أنّ النهي عن المعاملة ذاتاً يوجب فسادها وأنّ صحتها لا تجتمع مع عصيانه تعالى. نعم ، إذا كان العصيان ناشئاً من تفويت حق مَن له الحق توقفت صحة المعاملة على إجازته

١٨٦

كما عرفت.

ومن ضوء هذا البيان يظهر حال التعليل الوارد فيها وهو قوله عليه‌السلام : « إنّه لم يعص الله وإنّما عصى سيده فاذا أجاز جاز » فانّ المراد من أنّه لم يعص الله يعني أنّه لم يأت بما هو منهي عنه بالذات ومبغوض له تعالى من ناحية اشتماله على مفسدة ملزمة ، وإنّما أتى بما هو مبغوض لسيده فحسب من جهة تفويت حقه فلا يكون مبغوضاً له تعالى إلاّبالتبع ، ومن هنا يرتفع ذلك برضا سيده بما فعله وعصاه فيه.

أو فقل : إنّ نكاح العبد بما أنّه ليس من أحد المحرّمات الإلهية في الشريعة المقدّسة ، بل هو أمر سائغ في نفسه ومشروع كذلك وإنّما هو منهي عنه من ناحية إيقاعه خارجاً بدون إذن سيده ، وعليه فبطبيعة الحال يرتفع النهي عنه باذن سيده وإجازته ، ومع الارتفاع لا موجب للفساد أصلاً.

ولنأخذ بالنقد على ما أفاده قدس‌سره : وهو أنّه لايمكن أن يراد من العصيان في الروايات العصيان التكليفي ، بل المراد منه العصيان الوضعي في كلا الموردين ، والسبب في ذلك : هو أنّ النكاح المزبور بما أنّه مشروع في نفسه في الشريعة المقدسة لا يكون مانع من صحته ونفوذه بمقتضى العمومات إلاّعدم رضا السيد به وعدم إجازته له ، فاذا ارتفع المانع بحصول الاجازة جاز النكاح ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : قد تقدم منّا في ضمن البحوث السالفة أنّ حقيقة المعاملات عبارة عن الاعتبارات النفسانية المبرزة في الخارج بمبرزٍ مّا من قول أو فعل أو كتابة أو نحو ذلك ، ومن الطبيعي أنّ إبراز ذلك الأمر الاعتباري النفساني في الخارج بمبرزٍ مّا ليس من التصرفات الخارجية ليقال إنّه حيث كان بدون إذن السيد فهو محكوم بالحرمة ، بداهة أنّه لا يحتمل إناطة جواز تكلم العبد باذن سيده ، ومن هنا لو عقد العبد لغيره لم يحتج نفوذه

١٨٧

إلى إذن سيده جزماً ، فلو كان مجرد صدور العقد منه بدون إذنه معصية له فبطبيعة الحال كان نفوذه يحتاج إلى إذنه بمقتضى روايات الباب مع أنّ الأمر ليس كذلك.

وعلى الجملة : فلا نحتمل أن يكون تكلم العبد بصيغة النكاح بدون إذن سيده محرّماً شرعاً ، كما أنّا لا نحتمل أنّ اعتباره الزوجية في افق النفس بدون إذنه من أحد المحرّمات في الشريعة ، ومن هنا تكون النسبة بين توقف نفوذ العقد على إجازة السيد وبين صدور العقد من العبد عموماً من وجه ، فانّه قد يصدر العقد من العبد ومع ذلك لا يتوقف نفوذه على إجازة سيده كما إذا أوقعه لغيره ، وقد يصدر العقد من غيره ولكن مع ذلك يتوقف نفوذه على إجازته كما إذا أوقعه للعبد مع أنّه لا عصيان هنا من أحد ، وقد يجتمع الأمران كما إذا أوقع العبد العقد لنفسه.

فالنتيجة في نهاية المطاف : هي أنّه لا مناص من القول بأنّ المراد من العصيان في الروايات العصيان الوضعي ، وعلى هذا الضوء فحاصل معنى الروايات : هو أنّ النكاح لو كان غير مشروع في نفسه كما إذا كان العقد في العدة أو ما شاكل ذلك لكان باطلاً وغير قابل للصحة أصلاً. وأمّا إذا كان مشروعاً في نفسه ، غاية الأمر يتوقف نفوذه خارجاً وترتب الأثر عليه على رضا السيد به فهو بطبيعة الحال يدور فساده مدار عدم رضاه به حدوثاً وبقاءً ، فاذا رضي صحّ ونفذ.

إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النقطة : وهي أنّ هذه الروايات كما لا تدل على أنّ النهي عن المعاملات يقتضي الفساد كذلك لا تدل على أنّه يقتضي الصحة فهي ساكتة عن ذلك بالكلية.

فالصحيح هو ما حققناه من عدم الملازمة بين حرمة المعاملة شرعاً

١٨٨

وفسادها. ومما يؤكد ذلك : أنّنا إذا افترضنا حرمة المعاملة بعنوان ثانوي كما إذا أوقع العقد قاصداً به وقوع الضرر على غيره أو نحو ذلك لم يحكم بفساده جزماً مع أنّه محرّم شرعاً.

نتائج البحوث السالفة عدة نقاط :

الاولى : أنّ الجهة المبحوث عنها في مسألتنا هذه تغاير الجهة المبحوث عنها في مسألة اجتماع الأمر والنهي المتقدمة ، حيث إنّها في تلك المسألة في الحقيقة عن إثبات الصغرى لمسألتنا هذه.

الثانية : أنّ مسألتنا هذه من المسائل الاصولية العقلية ، أمّا كونها اصولية فلتوفر ركائز المسائل الاصولية فيها ، وأمّا كونها عقلية فلأنّ الحاكم بها هو العقل ولا صلة لها باللفظ.

الثالثة : أنّ القضايا العقلية على شكلين : مستقلة وغير مستقلة ، وتقدم ما هو ملاك الاستقلال وعدمه.

الرابعة : أنّ محل النزاع في المسألة إنّما هو في النواهي المولوية المتعلقة بالعبادات والمعاملات. وأمّا النواهي الارشادية فهي خارجة عن محل النزاع حيث لا نزاع بين الأصحاب في دلالتها على الفساد.

الخامسة : لا شبهة في أنّ النهي التحريمي المتعلق بالعبادة داخل في محل النزاع ، وكذا النهي التنزيهي المتعلق بها إذا كان ناشئاً عن حزازة ومنقصة في ذاتها. نعم ، إذا كان ناشئاً عن حزازة ومنقصة في تطبيقها على حصة خاصة منها فهو خارج عن محل الكلام. وأمّا النهي الغيري فهو أيضاً خارج عنه ولا يوجب الفساد.

السادسة : أنّ المراد من العبادة في محل الكلام هو العبادة الشأنية لا الفعلية ،

١٨٩

لاستحالة اجتماعها مع النهي الفعلي. والمراد من المعاملات كل أمر اعتباري قصدي بحيث يتوقف ترتب الأثر عليه شرعاً أو عرفاً على قصد إنشائه واعتباره ، فما لا يتوقف ترتيب الأثر عليه على ذلك فهو خارج عن محل الكلام.

السابعة : أنّ الصحة والفساد أمران منتزعان في العبادات ومجعولان شرعاً في المعاملات ، وعلى كلا التقديرين فهما صفتان عارضتان على الموجود المركب في الخارج باعتبار ما يترتب عليه من الأثر وعدمه ، فالماهية لا تتصف بهما كالبسيط.

الثامنة : أنّ النهي تارةً يتعلق بذات العبادة واخرى بجزئها وثالثةً بشرطها ورابعةً بوصفها الملازم لها وخامسةً بوصفها المفارق. أمّا الأوّل : فلا شبهة في استلزامه الفساد من دون فرق بين كونه ذاتياً أو تشريعياً ، لاستحالة التقرب بما هو مبغوض للمولى. وأمّا الثاني : فالصحيح أنّه لا يدل على فساد العبادة ، نعم لو اقتصر المكلف عليه في مقام الامتثال بطلت العبادة من جهة كونها فاقدةً للجزء. وأمّا ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّ النهي عنه يدل على فساد العبادة فقد تقدم نقده بشكل موسع. وأمّا الثالث : فحاله حال النهي عن الجزء من ناحية عدم انطباق الطبيعة المأمور بها على الحصة المنهي عنها على تفصيل قد سبق. وأمّا الرابع : فهو يرجع إلى أحد هذه الأقسام وليس قسماً آخر في قبالها. وأمّا الخامس : فهو خارج عن مسألتنا هذه وداخل في مسألة اجتماع الأمر والنهي. نعم على القول بالامتناع يدخل مورد الاجتماع في أحد الأقسام المزبورة.

التاسعة : أنّه لا أصل في المسألة الاصولية ليعتمد عليه عند الشك وعدم قيام الدليل عليها إثباتاً أو نفياً. نعم ، الأصل في المسألة الفرعية موجود ،

١٩٠

ومقتضاه الفساد مطلقاً في العبادات والمعاملات.

العاشرة : نسب إلى أبي حنيفة والشيباني دلالة النهي عن المعاملة على صحتها ، واختاره المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره وقد تقدم نقده بصورة موسعة ، والصحيح هو أنّ النهي عنها لا يدل على صحتها ولا على فسادها ، يعني لا ملازمة بين حرمتها وفسادها.

الحاية عشرة : أنّ نسبة صيغ العقود إلى الملكية المنشأة ليست نسبة السبب إلى المسبب ، ولا نسبة الآلة إلى ذيها ، بل نسبتها إليها نسبة المبرز إلى المبرز ، فالملكية من الأفعال القائمة بالمتعاقدين بالمباشرة لا بالتسبيب. وأمّا نسبة الصيغ إلى الملكية الشرعية أو العقلائية فهي نسبة الموضوع إلى الحكم لا غيرها ، وعليه فلا معنى لفرض تعلق النهي بالسبب تارةً وبالمسبب اخرى.

الثانية عشرة : أنّ حقيقة الأحكام الشرعية بأجمعها من التكليفية والوضعية امور اعتبارية لا واقع موضوعي لها إلاّ اعتبار من بيده الاعتبار فلا دخل للّفظ أو لغيره من الامور الخارجية بها أصلاً.

الثالثة عشرة : أنّ شيخنا الاستاذ قدس‌سره قد فصّل بين تعلق النهي بالسبب وتعلقه بالمسبب ، والتزم بأ نّه على الأوّل لا يدل على الفساد وعلى الثاني يدل عليه ، وقد تقدم نقده بشكل مفصّل فلاحظ.

الرابعة عشرة : أنّ الروايات الواردة في نكاح العبد بدون إذن سيده لا تدل على فساد النكاح ولا على صحته وأ نّها أجنبية عن ذلك ، وما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّها تدل على الفساد بتقريب أنّ المراد من العصيان فيها هو العصيان التكليفي لا الوضعي ، قد سبق نقده وقلنا إنّ المراد منه العصيان الوضعي ولا يمكن أن يكون المراد منه العصيان التكليفي.

١٩١

مباحث المفاهيم

قد يطلق المفهوم ويراد منه كل معنى يفهم من اللفظ فحسب ، سواء أكان من المفاهيم الافرادية أو التركيبية ، وقد يطلق على مطلق ما يفهم من الشيء ، سواء أكان ذلك الشيء لفظاً أم كان غيره كالاشارة أو الكتابة أو نحو ذلك. وغير خفي أنّ هذين الاطلاقين خارجان عن محل الكلام حيث إنّه في المفهوم المقابل للمنطوق دون ما فهم من الشيء مطلقاً.

وعلى ذلك فلا بدّ لنا من بيان المراد من هذين اللفظين أي المنطوق والمفهوم فنقول :

أمّا المنطوق : فانّه يطلق على كل معنى يفهم من اللفظ بالمطابقة أو بالقرينة العامة أو الخاصة وذلك كقولنا : رأيت أسداً ، فانّه يدل على كون المرئي هو الحيوان المفترس بالمطابقة وكقوله تعالى : ( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً )(١) حيث إنّه يدل على طهورية الماء بالمطابقة وعلى طهورية جميع أفراده بالاطلاق والقرينة العامة ، كما أنّ قولنا : رأيت أسداً يرمي يدل على كون المرئي هو الرجل الشجاع بالقرينة الخاصة وهكذا. وعلى الجملة : فما دلّ عليه اللفظ وضعاً أو إطلاقاً أو من ناحية القرينة العامة أو الخاصة فهو منطوق ، نظراً إلى أنّه يفهم من شخص ما نطق به المتكلم.

وأمّا المفهوم : فانّه يطلق على معنى يفهم من اللفظ بالدلالة الالتزامية نظراً

__________________

(١) الفرقان ٢٥ : ٤٨.

١٩٢

إلى العلاقة اللزومية البينة بالمعنى الأخص أو الأعم بينه وبين المنطوق ، فتكون دلالة اللفظ على المنطوق أوّلاً وبالذات وعلى المفهوم ثانياً وبالتبع ، وهذه الدلالة مستندة إلى خصوصية موجودة في القضية قد دلّت عليها بالمطابقة أو بالاطلاق والقرينة العامة ، مثلاً دلالة القضية الشرطية على المفهوم ـ وهو الانتفاء عند الانتفاء مثلاً ـ تقوم على أساس دلالتها على كون الشرط علة منحصرة للحكم وضعاً أو إطلاقاً على ما يأتي.

وبكلمة اخرى : أنّ انفهام المعنى من اللفظ لا يخلو من أن يكون أوّلاً وبالذات ـ أي لا يحتاج إلى شيء ما عدا الوضع أو القرينة العامة أو الخاصة ـ أو يكون ثانياً وبالتبع ، أي يحتاج انفهامه زائداً على ما عرفت إلى خصوصية اخرى ، وتلك الخصوصية تستتبع ذلك ، فانّ القضية الشرطية كقولنا : إن جاءك زيد فأكرمه مثلاً بناءً على دلالتها على المفهوم تدل على الثبوت عند الثبوت أوّلاً وبالذات وعلى الانتفاء عند الانتفاء ثانياً وبالتبع ، بمعنى أنّ انفهامه منها تابع لانفهام المعنى الأوّل. ومنشأ هذه التبعية هو دلالتها على الخصوصية المزبورة ، وهي كون الشرط علةً منحصرةً للحكم ، ومن الطبيعي أنّ لازم ذلك هو كون انفهام المفهوم تابعاً لانفهام المنطوق في مقام الاثبات والدلالة.

فالنتيجة في نهاية الشوط : هي أنّ المفهوم في محل الكلام عبارة عما كان انفهامه لازماً لانفهام المنطوق باللزوم البيّن بالمعنى الأخص أو الأعم فلا يحتاج إلى شيء آخر زائداً على ذلك.

ومن ضوء هذا البيان يظهر خروج مثل وجوب المقدمة وحرمة الضد وما شاكلهما عن محل الكلام ، فانّ الملازمة على القول بها وإن كانت ثابتة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته ، ووجوب شيء وحرمة ضده ونحو ذلك ، إلاّ أنّها ليست على نحو اللزوم البيّن ، ضرورة أنّ النفس لا تنتقل من مجرد تصور

١٩٣

وجوب الشيء ومقدمته إلى وجوبها ما لم تتصور مقدمة اخرى وهي حكم العقل بالملازمة بينهما. فالنتيجة : أنّ الملازمة في تلك الموارد لا تكون على شكل اللزوم البيّن.

ودعوى أنّ تبعية انفهام معنى لانفهام معنى آخر لا تعقل أن تكون جزافاً فبطبيعة الحال تكون مستندة إلى ملاك واقعي وهو وجود الملازمة بين المعنيين ، فلا فرق بين تبعية انفهام المفهوم لانفهام المنطوق في المقام وبين التبعية في تلك الموارد ، فكما أنّ تبعية انفهام وجوب المقدمة لانفهام وجوب ذيها مستندة إلى مقدمة خارجية ـ وهي إدراك العقل ثبوت الملازمة بينهما ـ فكذلك تبعية انفهام المفهوم في القضية الشرطية لانفهام المنطوق مستندة إلى مقدمة خارجية ـ وهي كون الشرط في القضية علة منحصرة للحكم ـ فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً ، وعليه فلا يكون تعريف المفهوم مطّرداً حيث تدخل فيه الموارد المذكورة.

خاطئة جداً وذلك لأنّ التبعية في المقام تمتاز عن التبعية في تلك الموارد في نقطة واحدة ، وهي أنّ التبعية هنا وإن كانت تستند إلى كون الشرط علةً منحصرةً للحكم ، إلاّ أنّه ليس من المقدمات الخارجية فانّه مدلول للجملة الشرطية وضعاً أو إطلاقاً فلا نحتاج في انفهام المفهوم منها إلى مقدمة خارجية ، وهذا بخلاف التبعية هناك ، فانّها تحتاج إلى مقدمة خارجية وهي حكم العقل المزبور زائداً على مدلول الجملة كصيغة الأمر أو ما شاكلها.

وعلى الجملة : فالنقطة الرئيسية للفرق بينهما هي أنّ التبعية في المقام مستندة إلى الحيثية التي يكون الدال عليها هو اللفظ ، والتبعية هناك مستندة إلى الحيثية التي يكون الحاكم بها هو العقل دون اللفظ ، ولأجل ذلك تكون الملازمة هنا بين الانفهامين بيّنة حيث لا تحتاج إلى مقدمة خارجية ، وهناك غير بيّنة

١٩٤

لاحتياجها إليها ، كما أنّه ظهر بذلك خروج مثل دلالة الاقتضاء والتنبيه والاشارة وما شاكل ذلك عن محل الكلام ، فانّ اللزوم في مواردها من اللزوم غير البيّن فيحتاج الانتقال إلى اللازم فيها إلى مقدمة خارجية. مثلاً دلالة الآيتين الكريمتين على كون أقل الحمل ستة أشهر كما أنّها ليست من الدلالة المطابقية كذلك ليست من الدلالة الالتزامية التي يعتبر فيها كون اللزوم بيّناً ، والمفروض أنّ الملازمة فيها غير بيّنة ، بل هي من الدلالة الاقتضائية فتحتاج إلى ضم مقدمة اخرى وبدونها فلا دلالة. فالنتيجة : أنّ اللزوم في موارد تلك الدلالات غير بيّن.

ومن هنا يظهر ما في كلام شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) من الخلط بين اللزوم البيّن بالمعنى الأعم واللزوم غير البيّن ، حيث إنّه قدس‌سره مثّل للأوّل بتلك الدلالات مع أنّك عرفت أنّ اللزوم فيها غير بيّن لاحتياجها إلى ضم مقدمة خارجية ، فهذا هو نقطة الامتياز بين اللزوم البيّن واللزوم غير البيّن.

وأمّا نقطة الامتياز بين اللزوم البيّن بالمعنى الأعم واللزوم البيّن بالمعنى الأخص فهي أمر آخر ، وهو أنّه يكفي في اللزوم البيّن بالمعنى الأخص نفس تعقل الملزوم في الانتقال إلى لازمه ، وهذا بخلاف اللزوم البيّن بالمعنى الأعم فانّه لا يكفي فيه ذلك ، بل لا بدّ فيه من تصور اللازم والملزوم والنسبة بينهما في الجزم باللزوم ، نعم هما يشتركان في نقطة اخرى وهي عدم الحاجة إلى ضم مقدمة خارجية.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّ في كل مورد لم يحتج لزوم انفهام شيء لانفهام شيء آخر إلى ضم مقدمة اخرى فهو من اللزوم البيّن

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٤٣.

١٩٥

ـ سواء أكان بالمعنى الأعم أو الأخص ـ وفي كل مورد احتاج لزوم انفهام شيء لانفهام شيء آخر إلى ضمّها فاللزوم لا يكون بيّناً أصلاً.

فما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّ هذه الدلالة من اللازم البيّن بالمعنى الأعم في غير محلّه.

ثمّ إنّ لزوم المفهوم للمنطوق هل هو من اللزوم البيّن بالمعنى الأخص أو من اللزوم البيّن بالمعنى الأعم؟ الظاهر هو الأوّل ، والسبب في ذلك : هو أنّ اللازم إذا كان بيّناً بالمعنى الأعم قد يغفل المتكلم عن إرادته كما أنّ المخاطب قد يغفل عنه ، نظراً إلى أنّ الذهن لا ينتقل إليه من مجرد تصور ملزومه ولحاظه في افق النفس ، بل لا بدّ من تصوره وتصور اللازم والنسبة بينهما ، ومن الطبيعي أنّ اللاّزم بهذا المعنى لاينطبق على المفهوم ، لوضوح أنّ معنى كون القضية الشرطية أو ما شاكلها ذات مفهوم هو أنّها تدل على كون الشرط أو نحوه علةً منحصرةً للحكم ، ومن الطبيعي أنّ مجرد تصورها يوجب الانتقال إلى لازمها وهو الانتفاء عند الانتفاء من دون حاجة إلى تصور أيّ شيء آخر ، وهذا معنى اللزوم البيّن بالمعنى الأخص.

لحدّ الآن قد انتهينا إلى هذه النتيجة وهي أنّ لزوم المفهوم للمنطوق من اللزوم البيّن بالمعنى الأخص (١).

الثانية : أنّ مسألة المفاهيم هل هي من المسائل الاصولية العقلية أو اللفظية؟ فيه وجهان بل قولان.

قد يقال كما قيل : إنّها من المباحث اللفظية بدعوى أنّ الدال عليها اللفظ ،

__________________

(١) [ وهذا هي الجهة الاولى من البحث ].

١٩٦

غاية الأمر أنّ دلالته على المنطوق بالمطابقة وعلى المفهوم بالالتزام ، ومن هنا تفترق مسألة المفاهيم عن مسألة الضد ومقدمة الواجب واجتماع الأمر والنهي وما شاكل ذلك ، حيث إنّها من المباحث اللفظية دون تلك المسائل فانّها من المباحث العقلية ولا صلة لها بعالم اللفظ أبداً.

ولكن يمكن أن يقال : إنّها من المسائل العقلية أيضاً والوجه في ذلك : هو أنّ الحيثية التي تقتضي المفهوم وتستلزمه وهي العلية المنحصرة وإن كانت مدلولاً للّفظ وضعاً أو إطلاقاً ، حيث إنّ الدال عليها هو الجملة الشرطية أو نحوها ، إلاّ أنّ هذه الحيثية نفسها ليست بمفهوم على الفرض ، فانّ المفهوم ما هو لازم لها وهو الانتفاء عند انتفائها ، ومن المعلوم أنّ الحاكم بذلك ـ أي بانتفاء المعلول عند انتفاء علته التامة ـ إنّما هو العقل ولا صلة له باللفظ.

وبكلمة اخرى : أنّ للمفاهيم حيثيتين واقعيتين ، فمن إحداهما تناسب أن تكون من المسائل الاصولية العقلية ، ومن الاخرى تناسب أن تكون من المسائل الاصولية اللفظية ، وذلك لأنّه بالنظر إلى كون الحاكم بانتفاء المعلول عند انتفاء العلة هو العقل فحسب فهي من المسائل الاصولية العقلية ، وبالنظر إلى كون الكاشف عن العلة المنحصرة هو الكاشف عن لازمها أيضاً فهي من المسائل الاصولية اللفظية ، لفرض أنّ الكاشف عنها هو اللفظ كما عرفت ، فاذن يكون المفهوم مدلولاً للّفظ التزاماً. وكيف كان فلا يترتب أيّ أثر على البحث عنها من هذه الناحية وإنّما الأثر مترتب على كونها اصولية ، سواء أكانت عقلية أم كانت لفظية ، والمفروض أنّها من المسائل الاصولية لتوفر ركائزها فيها ـ وهي وقوعها في طريق الاستنباط بنفسها من دون ضم كبرى أو صغرى اصولية إليها ـ فلا أثر للبحث عن أنّ الحاكم فيها هل هو العقل أو غيره أصلاً.

الثالثة : أنّ كلامنا هنا ليس في حجية المفهوم بعد الفراغ عن وجوده ، بل

١٩٧

الكلام إنّما هو في أصل وجوده وتحققه خارجاً ، بمعنى أنّ الجملة الشرطية أو ما شاكلها هل هي ظاهرة في المفهوم أم لا كما هي ظاهرة في المنطوق ، والوجه فيه أنّ البحث في جميع مباحث الألفاظ إنّما هو عن ثبوت الصغرى ـ وهي إثبات الظهور لها ـ بعد الفراغ عن ثبوت الكبرى ، وهي حجية الظواهر في الجملة.

وبعد ذلك نقول : إنّ الكلام يقع في عدة موارد ، الأوّل في :

مفهوم الشرط

اختلف الأصحاب في دلالة القضية الشرطية على المفهوم وعدم دلالتها عليه ، وليعلم أنّ دلالتها على المفهوم ترتكز على ركائز.

الاولى : أن يرجع القيد في القضية إلى مفاد الهيئة دون المادة ، بأن يكون مفادها تعليق مضمون جملة على مضمون جملة اخرى.

الثانية : أن تكون ملازمة بين الجزاء والشرط.

الثالثة : أن تكون القضية ظاهرةً في أنّ ترتب الجزاء على الشرط من باب ترتب المعلول على العلة لا من باب ترتب العلة على المعلول ولا من باب ترتب أحد المعلولين لعلة ثالثة على المعلول الآخر.

الرابعة : أن تكون ظاهرةً في كون الشرط علة منحصرة للحكم فيها.

فمتى توفرت هذه الركائز في القضية تمت دلالتها على المفهوم وإلاّ فلا ، وعلى هذا فلا بدّ لنا من درس كل واحدة منها.

أمّا الركيزة الاولى : فهي في غاية الصحة والمتانة ، والسبب في ذلك : هو ما ذكرناه في بحث الواجب المشروط من أنّ القضايا الشرطية ظاهرة عرفاً في

١٩٨

تعليق مفاد الجملة وهي الجزاء على مفاد الجملة الاخرى وهي الشرط ، مثلاً قولنا : إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود يدل على تعليق وجود النهار على طلوع الشمس ، كما أنّ قوله عليه‌السلام : « إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شيء » (١) يدل على تعليق عدم الانفعال على بلوغ الماء قدر كر وهكذا ، وكيف كان فلا شبهة في ظهور القضية الشرطية في ذلك.

نعم ، لو بنينا على رجوع القيد إلى المادة كما اختاره شيخنا الأنصاري قدس‌سره (٢) فحال القضية الشرطية عندئذ حال القضية الوصفية في الدلالة على المفهوم وعدمها ، لما سيأتي (٣) من أنّ المراد بالوصف ليس خصوص الوصف المصطلح في مقابل سائر المتعلقات ، بل المراد منه مطلق القيد سواء أكان وصفاً أم كان غيره من القيود ، ومن هنا لو عبّر عن مفهوم الوصف بمفهوم القيد لكان أولى.

وعلى الجملة : فعلى هذه النظرية يدخل مفهوم الشرط في مفهوم الوصف ويكون من أحد أفراده ومصاديقه. فالنتيجة : أنّ القول بمفهوم الشرط في قبال مفهوم الوصف يقوم على أساس رجوع القيد في القضية إلى مفاد الهيئة دون المادة.

وأمّا الركيزة الثانية : وهي دلالة القضية الشرطية على كون العلاقة بين الجزاء والشرط علاقة لزومية فانّها أيضاً تامة ، وذلك لأن استعمالها في موارد الاتفاق وعدم العلاقة في أيّة لغة كان لو لم يكن غلطاً فلا شبهة في أنّه نادر

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٨ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ١ وغيره ( مع اختلاف ).

(٢) مطارح الأنظار : ٤٥ ـ ٤٦ ، ٥٢.

(٣) لاحظ مبحث مفهوم الوصف ص ٢٧٢.

١٩٩

جداً ، لوضوح أنّه لا يصح تعليق كل شيء على كل شيء من دون علاقة وارتباط بينهما. وكيف كان فلا شك في أنّ الاستعمال في تلك الموارد لو صحّ فانّه يحتاج إلى رعاية علاقة وإعمال عناية وبدونهما فالقضية ظاهرة في وجود العلاقة اللزومية بينهما.

ومن ضوء هذا البيان يظهر : أنّ تقسيم المناطقة القضية الشرطية إلى لزومية واتفاقية لا يقوم على أساس صحيح ، فانّ ما مثّلوا للثانية بقولهم : إن كان الانسان ناطقاً فالحمار ناهق أو ما شاكل ذلك لم يكن بحسب الواقع والحقيقة قضية شرطية ، بل صورتها صورة القضية الشرطية. وكيف كان فلا شبهة في ثبوت هذه الركيزة وأ نّها أساس للقضية الشرطية.

وأمّا الركيزة الثالثة : وهي دلالة القضية الشرطية على أنّ ترتب الجزاء على الشرط من ترتب المعلول على العلة فهي خاطئة جداً ، وذلك لأنّها وإن دلّت على ترتب الجزاء على الشرط والتالي على المقدم كما هو مقتضى كلمة الفاء إلاّ أنّها لا تدل على أنّ هذا الترتب من ترتب المعلول على العلة التامة بحيث يكون استعمالها في غيره مجازاً ، بل هي تدل على مطلق الترتب سواء أكان من قبيل ترتب المعلول على العلة التامة كترتب وجوب الحج على الاستطاعة وترتب وجوب إكرام زيد مثلاً على مجيئه وترتب عدم انفعال الماء على بلوغه كراً وما شاكل ذلك ، أو كان من قبيل ترتب العلة على المعلول كما هو الحال في البرهان الإني كترتب طلوع الشمس على وجود النهار وترتب تغير العالم على حدوثه ، والأوّل كقولنا : إن كان النهار موجوداً فالشمس طالعة. والثاني كقولنا : إن كان العالم حادثاً فهو متغير ونحو ذلك ، أو كان من قبيل ترتب أحد معلولين لعلة ثالثة على المعلول الآخر كقوله : إن كان النهار موجوداً فالعالم مضيء وغير ذلك.

٢٠٠