محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-15-2
الصفحات: ٥٧٠

ومن ناحية ثالثة : أنّ الصحة والفساد وصفان إضافيان ، فيكون شيء واحد يتصف تارةً بالصحة واخرى بالفساد ، وقد تقدم الكلام من هذه الناحية في مبحث الصحيح والأعم بشكل موسع (١).

ثمّ إنّنا قد قوّينا في الدورات السابقة ما اختاره شيخنا الاستاذ قدس‌سره من التفصيل في المسألة ، بيان ذلك : أنّا قد ذكرنا في تلك الدورات أنّ ملاك الصحة والفساد في العبادات والمعاملات إنّما هو بالانطباق على الموجود الخارجي وعدم الانطباق عليه.

أمّا في العبادات فظاهر ، حيث إنّها لا تتصف بالصحة أو الفساد في مقام الجعل والتشريع ، وإنّما تتصف بهما في مقام الامتثال والانطباق ، مثلاً إذا جاء المكلف بالصلاة في الخارج ، فان انطبقت عليها الصلاة المأمور بها انتزعت الصحة لها وإلاّ انتزع الفساد ، ومن البديهي أنّ انطباق الطبيعي على فرده في الخارج وعدم انطباقه عليه أمران تكوينيان وغير قابلين للجعل تشريعاً ، من دون فرق في ذلك بين الماهيات الجعلية وغيرها ، فانطباق المأمور به الواقعي الأوّلي أو الثانوي أو الظاهري على الموجود الخارجي وعدم انطباقه عليه كانطباق الماهيات المتأصلة على فردها الموجود في الخارج وعدمه ، فكما أنّ الانطباق على ما في الخارج أو عدمه في الماهيات المتأصلة أمر قهري تكويني غير قابل للجعل شرعاً ، فكذلك الانطباق وعدمه في الماهيات المخترعة ، وهذا معنى قولنا : إنّ الصحة والفساد فيها أمران واقعيان وليسا بمجعولين أصلاً لا أصالةً ولا تبعاً.

__________________

(١) راجع المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص ١٥٥.

١٤١

وأمّا في المعاملات فكذلك ، حيث إنّها لا تتصف بالصحة أو الفساد في مقام الجعل والامضاء ، وإنّما تتصف بهما في مقام الانطباق والخارج ، مثلاً البيع ما لم يوجد في الخارج لا يعقل اتصافه بالصحة أو الفساد ، فاذا وجد فيه فان انطبق عليه البيع الممضى شرعاً اتصف بالصحة وإلاّ فبالفساد ، وكذا الحال في الاجارة والنكاح والصلح وما شاكل ذلك.

وبكلمة اخرى : أنّ الممضاة شرعاً إنّما هي المعاملات الكلية بمقتضى أدلة الامضاء كقوله تعالى : ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(١) و ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(٢) و ( تِجارَةً عَنْ تَراضٍ )(٣) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « النكاح سنّتي » (٤) وقوله عليه‌السلام : « الصلح جائز بين المسلمين » (٥) ونحو ذلك ، دون أفرادها الخارجية ، وإنّما تتصف تلك الأفراد بالصحة تارةً وبالفساد اخرى باعتبار انطباق تلك المعاملات عليها وعدم انطباقها ، فاذا وقع بيع في الخارج ، فان انطبق عليه البيع الكلي الممضى شرعاً حكم بصحته وإلاّ فلا ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : قد عرفت أنّ الانطباق وعدمه أمران تكوينيان غير قابلين للجعل تشريعاً.

فالنتيجة على ضوئهما : أنّ حال الصحة والفساد في المعاملات حالهما في العبادات فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً ، هذا كلّه في الصحة الواقعية.

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٧٥.

(٢) المائدة ٥ : ١.

(٣) النساء ٤ : ٢٩.

(٤) المستدرك ١٤ : ١٤٩ / أبواب مقدمات النكاح ب ١ ح ١ ( مع اختلاف يسير ).

(٥) الوسائل ١٨ : ٤٤٣ / كتاب الصلح ب ٣ ح ٢.

١٤٢

وأمّا الصحة الظاهرية فالصحيح أنّها مجعولة شرعاً في العبادات والمعاملات.

أمّا في الاولى : فكالصحة في موارد قاعدتي التجاوز والفراغ ، فانّه لولا حكم الشارع بانطباق المأمور به على المشكوك فيه تعبداً ، لكانت العبادة محكومة بالفساد لا محالة.

وأمّا في الثانية : فكالصحة في موارد الشك في بطلان الطلاق أو نحوه ، فانّه لولا حكم الشارع بالصحة في هذه الموارد لكان الطلاق مثلاً محكوماً بالفساد لا محالة ، هذا.

والصحيح : ما اخترناه وهو التفصيل بين كون الصحة والفساد في العبادات غير مجعولين شرعاً وفي المعاملات مجعولين كذلك.

أمّا في العبادات ، فقد عرفت أنّهما منتزعان من انطباقها على الموجود الخارجي وعدم انطباقها عليه فلا تنالهما يد الجعل أصلاً.

وأمّا في المعاملات ، فالأمر فيها ليس كذلك ، والسبب فيه هو أنّها تمتاز عن العبادات في نقطة واحدة وتلك النقطة هي الموجبة لافتراقها عن العبادات من هذه الناحية ، وهي : أنّ نسبة المعاملات إلى الامضاء الشرعي في إطار أدلته الخاصة نسبة الموضوع إلى الحكم لا نسبة المتعلق إليه ، وهذا بخلاف العبادات كالصلاة ونحوها ، فانّ نسبتها إلى الحكم الشرعي نسبة المتعلق لا الموضوع ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّنا قد حققنا في محلّه (١) أنّ موضوع الحكم في القضايا الحقيقية قد اخذ مفروض الوجود في مقام التشريع والجعل دون متعلقه ، ولذا

__________________

(١) راجع ص ٢٦٣ ، ٣٣٥ ، والمجلد الثالث من هذا الكتاب ص ١٨١.

١٤٣

تدور فعلية الحكم مدار فعلية موضوعه فيستحيل أن يكون الحكم فعلياً فيها بدون فعلية موضوعه ، فلا حكم قبل فعليته إلاّعلى نحو الفرض والتقدير.

ومن ناحية ثالثة : أنّ الحكم ينحل بانحلال أفراد موضوعه في الخارج فيثبت لكل فردٍ منه حكم على حدة.

ومن ناحية رابعة : أنّ معنى اتصاف المعاملات بالصحة أو الفساد إنّما هو ترتب الأثر الشرعي عليها وعدم ترتبه ، ومن الواضح أنّ الأثر الشرعي إنّما يترتب على المعاملة الموجودة في الخارج دون الطبيعي غير الموجود فيه.

فالنتيجة على ضوء هذه النواحي : هي أنّ المعاملات بما أنّها اخذت مفروضة الوجود في لسان أدلتها فبطبيعة الحال تتوقف فعلية الامضاء على فعليتها في الخارج ، فما لم تتحقق المعاملة فيه لم يعقل تحقق الامضاء لاستحالة فعلية الحكم بدون فعلية موضوعه. وعلى ذلك فاذا تحقق بيع مثلاً في الخارج تحقق الامضاء الشرعي وإلاّ فلا إمضاء أصلاً ، لما عرفت من أنّ الامضاء الشرعي في باب المعاملات لم يجعل لها على نحو صرف الوجود لتكون صحتها منتزعةً من انطباقها على الفرد الموجود ، وفسادها من عدم انطباقها عليه.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ المعاملات بما أنّها موضوعات للامضاء الشرعي فبطبيعة الحال يتعدد الامضاء بتعدد أفرادها ، فيثبت لكل فرد منها إمضاء مستقل ، مثلاً الحلية في قوله تعالى ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(١) تنحل بانحلال أفراد البيع فتثبت لكل فردٍ منه حلية مستقلة غير مربوطة بالحلية الثابتة لفرد آخر منه وهكذا ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّا لا نعقل للصحة والفساد في باب المعاملات معنىً إلاّ

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٧٥.

١٤٤

إمضاء الشارع لها وعدم إمضائه من جهة شمول الاطلاقات والعمومات لها وعدم شمولها ، فكل معاملة واقعة في الخارج من البيع أو نحوه ، فإن كانت مشمولة لاطلاقات أدلة الامضاء وعموماتها فهي محكومة بالصحة وإلاّ فبالفساد.

وعلى هذا الضوء لا يمكن تفسير الصحة فيها إلاّبحكم الشارع بترتيب الأثر عليها ، كما أنّه لا يمكن تفسير الفساد فيها إلاّبعدم حكم الشارع بذلك. وعلى الجملة : فمعنى أنّ هذا البيع الواقع في الخارج صحيح شرعاً ليس إلاّحكم الشارع بترتيب الأثر عليه وهو النقل والانتقال وحصول الملكية ، كما أنّه لا معنى لفساده شرعاً إلاّعدم حكمه بذلك.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّ الصحة والفساد في العبادات أمران واقعيان وفي المعاملات أمران مجعولان شرعاً.

وعلى ضوء هذه النتيجة قد تبيّن بطلان نظرية شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّ الصحة والفساد في المعاملات كالصحة والفساد في العبادات غير مجعولين شرعاً لا أصالة ولا تبعاً ، ووجه التبين ما عرفت من أنّ هذه النظرية تبتني على نقطة واحدة وهي كون المعاملات كالعبادات متعلقات للامضاءات الشرعية لا موضوعات لها ، وعليه فبطبيعة الحال تكون صحتها منتزعة من انطباقها على ما في الخارج ، وفسادها من عدم انطباقها ، ولكن من المعلوم أنّ هذه النقطة خاطئة حتى عنده قدس‌سره فلا واقع موضوعي لها ، حيث إنّه قد صرّح في غير مورد أنّ نسبة المعاملات إلى الأحكام الوضعية نسبة الموضوع إلى الحكم لا نسبة المتعلق إليه ، وعلى ذلك فالجمع بين كون الصحة والفساد في المعاملات أمرين منتزعين واقعاً ، وبين كون نسبة المعاملات إلى آثارها الوضعية نسبة الموضوع إلى الحكم جمع بين المتناقضين ، ضرورة أنّ لازم كون نسبتها إليها نسبة الموضوع إلى الحكم هو كونهما أمرين مجعولين شرعاً.

١٤٥

كما أنّه ظهر بذلك فساد ما أفاده المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) من التفصيل بين المعاملات الكلية كالبيع والاجارة والصلح والنكاح وما شاكل ذلك ، وبين المعاملات الشخصية الواقعة في الخارج ، فبنى قدس‌سره على أنّ الصحة والفساد في الاولى مجعولان شرعاً ، وفي الثانية منتزعان واقعاً ، بدعوى أنّ المعاملات الشخصية غير مأخوذة في موضوع أدلة الامضاء ، حيث إنّ المأخوذ فيها هو المعاملات بعناوينها الكلية ، وعندئذ فان انطبقت هذه المعاملات عليها في الخارج اتصفت بالصحة وإلاّ فبالفساد ، ووجه الظهور : هو أنّ أخذ تلك العناوين الكلية في موضوع أدلة الامضاء إنّما هو للاشارة إلى أفرادها الواقعة في الخارج حيث قد تقدم أنّها اخذت مفروضة الوجود فيه ، وعليه فبطبيعة الحال يكون الموضوع هو نفس تلك الأفراد فيثبت لكل فرد منها حكم مستقل وإمضاء على حدة كما مرّ ذلك آنفاً بشكل موسع.

فما أفاده قدس‌سره من التفصيل خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً.

السابعة : أنّ النهي المتعلق بالعبادة يتصور على أقسام :

الأوّل : ما يتعلق بذات العبادة كالنهي عن صلاة الحائض وصوم يومي العيدين وهكذا.

الثاني : ما يتعلق بجزء منها.

الثالث : ما يتعلق بشرط منها.

الرابع : ما يتعلق بوصفها الملازم لها كالجهر والخفت في القراءة.

الخامس : ما يتعلق بوصفها المفارق وغير الملازم لها كالتصرف في مال الغير

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٨٤.

١٤٦

الملازم لأكوان الصلاة في مورد الالتقاء والاجتماع ـ وهو الأرض المغصوبة ـ لا مطلقاً ، ومن هنا يكون هذا التلازم بينهما اتفاقياً لا دائمياً ، هذا مجمل الأقسام وإليكم تفصيلها :

أمّا القسم الأوّل : وهو النهي المتعلق بذات العبادة ، فلا شبهة في دلالته على الفساد وثبوت الملازمة بين حرمتها وبطلانها ، والسبب في ذلك واضح ، وهو أنّ العبادة كصلاة الحائض مثلاً وصومي العيدين وما شاكلهما إذا كانت محرّمة ومبغوضة للمولى لم يمكن التقرب بها ، لاستحالة التقرب بما هو مبغوض له فعلاً ، كيف فانّه مبعّد والمبعّد لا يعقل أن يكون مقرّباً ، ومعه لا تنطبق الطبيعة المأمور بها عليه لا محالة ، وهذا معنى فساده.

ولا فرق في ذلك بين أن تكون حرمتها ذاتية أو تشريعية. نعم ، فرق بين الصنفين من الحرمة في نقطة اخرى ، وهي أنّ صلاة الحائض لو كانت حرمتها ذاتية فمعناها أنّها محرّمة مطلقاً ولو كان الاتيان بها بقصد التمرين ، فحالها من هذه الناحية حال سائر المحرّمات. وإن كانت حرمتها تشريعية فمعناها أنّها لا تكون محرّمة مطلقاً ، بل المحرّم إنّما هو حصة خاصة منها وهي الحصة المقترنة بقصد القربة ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّا قد ذكرنا غير مرّة أنّ التشريع العملي عبارة عن الاتيان بالعمل مضافاً إلى المولى سبحانه فيكون عنواناً له ، ومن هنا قلنا إنّه افتراء عملي ، وعلى ذلك بما أنّ هذه الحصة الخاصة من الصلاة وهي الصلاة مع قصد القربة محرّمة على الحائض ومبغوضة للمولى ، يستحيل أن تنطبق الطبيعة المأمور بها عليها ، لاستحالة كون المحرّم مصداقاً للواجب ، فاذن لا محالة تقع فاسدةً.

فالنتيجة : هي أنّه لا فرق في استلزام حرمة العبادة فسادها بين كونها ذاتية

١٤٧

أو تشريعية ، فهما من هذه الناحية على صعيد واحد ، هذا من جهة.

ومن جهة اخرى : أنّه لايمكن تصحيح هذه العبادة المنهي عنها بالملاك بتخيل أنّ الساقط إنّما هو أمرها ، نظراً إلى عدم إمكان اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ، وأمّا الملاك فلا موجب لسقوطه أصلاً ، وذلك لعدم الطريق إلى إحراز كونها واجدةً للملاك في هذا الحال ، فانّ الطريق إلى إحراز ذلك أحد أمرين :

الأوّل : وجود الأمر بها ، فانّه يكشف عن كونها واجدةً له. الثاني : انطباق الطبيعة المأمور بها عليها ، والمفروض هنا انتفاء كلا الأمرين كما عرفت.

هذا مضافاً إلى أنّها لو كانت واجدةً للملاك لم يكن ذلك الملاك مؤثراً في صحتها قطعاً ، ضرورة أنّها مع كونها محرّمة فعلاً ومبغوضةً كذلك كيف يكون ملاكها مؤثراً في محبوبيتها وصالحاً للتقرب بها ، وهذا واضح.

وقد تحصّل من مجموع ما ذكرناه : أنّه لا شبهة في فساد العبادة المنهي عنها ، بلا فرق بين أن يكون النهي عنها نهياً ذاتياً أو تشريعياً. هذا كلّه في النهي المتعلق بذات العبادة.

وأمّا القسم الثاني : وهو النهي المتعلق بجزء العبادة فقد ذكر المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) أنّه لا إشكال في استلزامه فساد الجزء ، ولكنّه لا يوجب فساد العبادة إلاّ إذا اقتصر المكلف عليه في مقام الامتثال ، وأمّا إذا لم يقتصر عليه وأتى بعده بالجزء غير المنهي عنه تقع العبادة صحيحة لعدم المقتضي لفسادها عندئذ ، إلاّ أن يستلزم ذلك موجباً آخر للفساد كالزيادة العمدية أو نحوها ، وهذا أمر آخر أجنبي عمّا هو محل الكلام هنا.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٨٥.

١٤٨

فالنتيجة : أنّ النهي عن الجزء بما هو نهي عنه لا يوجب إلاّفساده دون فساد أصل العبادة.

ولكن أورد على ذلك شيخنا الاستاذ قدس‌سره وإليك نصه : وأمّا النهي عن جزء العبادة فالتحقيق أنّه يدل أيضاً على فسادها ، وتوضيح الحال فيه : هو أنّ جزء العبادة إمّا أن يؤخذ فيه عدد خاص كالوحدة المعتبرة في السورة بناءً على حرمة القِران ، وإمّا أن لا يؤخذ فيه ذلك.

أمّا الأوّل : أعني به جزء العبادة المعتبر فيه عدد خاص ، فالنهي المتعلق به يقتضي فساد العبادة لا محالة ، لأنّ الآتي به في ضمن العبادة إمّا أن يقتصر عليه فيها أو يأتي بعده بما هو غير منهي عنه ، وعلى كلا التقديرين لا ينبغي الاشكال في بطلان العبادة المشتملة عليه ، فانّ الجزء المنهي عنه لا محالة يكون خارجاً عن إطلاق دليل الجزئية أو عمومه فيكون وجوده كعدمه ، فان اقتصر المكلف عليه في مقام الامتثال بطلت العبادة لفقدها جزءها ، وإن لم يقتصر عليه بطلت من جهة الاخلال بالوحدة المعتبرة في الجزء كما هو الفرض. ومن هنا تبطل صلاة من قرأ إحدى العزائم في الفريضة سواء اقتصر عليها أم لم يقتصر ، لأنّ قراءتها تستلزم الاخلال بالفريضة من جهة ترك السورة أو من جهة لزوم القِران ، بل لو بنينا على جواز القِران لفسدت الصلاة في الفرض أيضاً ، لأنّ دليل الحرمة قد خصص دليل الجواز بغير الفرد المنهي عنه فيحرم القِران بالاضافة إليه لا محالة. هذا مضافاً إلى أنّ تحريم الجزء يستلزم أخذ العبادة بالاضافة إليه بشرط لا ، سواء اتي به في محلّه المناسب له كقراءة العزيمة بعد الحمد أم اتي به في غير محلّه كقراءتها بين السجدتين.

ويترتب على ذلك امور كلّها موجبة لبطلان العبادة المشتملة عليه :

١٤٩

الأوّل : كون العبادة مقيدة بعدم ذلك الجزء المنهي عنه فيكون وجوده مانعاً عن صحتها ، وذلك يستلزم بطلانها عند اقترانها بوجوده.

الثاني : كونه زيادةً في الفريضة فتبطل الصلاة بسبب الزيادة العمدية المعتبر عدمها في صحتها ، ولا يعتبر في تحقق الزيادة قصد الجزئية إذا كان المأتي به من جنس أحد أجزاء العمل. نعم ، يعتبر قصد الجزئية في صدقها إذا كان المأتي به من غير جنسه.

الثالث : خروجه عن أدلة جواز مطلق الذكر في الصلاة ، فان دليل الحرمة لا محالة يوجب تخصيصها بغير الفرد المحرّم فيندرج الفرد المحرّم في عموم أدلة بطلان الصلاة بالتكلم العمدي ، إذ الخارج عن عمومها إنّما هو الذكر غير المحرّم. وما ذكرناه هو الوجه في بطلان الصلاة بالذكر المنهي عنه. وأمّا ما يتوهم من أنّ الوجه في ذلك هو دخوله في كلام الآدميين فهو فاسد ، لأنّ المفروض أنّه ذكر محرّم ، ومن الواضح أنّه لا يخرج بسبب النهي عنه عن كونه ذكراً ليدخل في كلام الآدميين.

وأمّا الثاني : وهو ما لم يؤخذ فيه عدد خاص ، فقد اتضح الحال فيه مما تقدم ، لأن جميع الوجوه المذكورة المقتضية لفساد العبادة المشتملة على الجزء المنهي عنه جارية في هذا القسم أيضاً ، وإنّما يختص القسم الأوّل بالوجه الأوّل منها (١) انتهى.

نحلّل ما أفاده قدس‌سره من البيان إلى عدة نقاط :

الاولى : بطلان العبادة في صورة اقتصار المكلف على الجزء المنهي عنه في مقام الامتثال.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢١٧ ـ ٢١٩.

١٥٠

الثانية : أنّ حرمة الجزء توجب تخصيص دليل جواز القِران بغير الفرد المنهي عنه لا محالة ، فيحرم القِران بالاضافة إلى هذا الفرد في ظرف الامتثال.

الثالثة : أنّ النهي عن جزء لا محالة يوجب تقييد العبادة بغيره.

الرابعة : أنّه لا يعتبر في تحقق الزيادة قصد الجزئية إذا كان المأتي به من سنخ أجزاء العمل.

الخامسة : أنّ الجزء المنهي عنه خارج عن عموم ما دلّ على جواز مطلق الذكر في الصلاة.

ولنأخذ بالنظر إلى هذه النقاط :

أمّا النقطة الاولى : فالأمر كما أفاده قدس‌سره من أنّ المكلف إذا اقتصر عليه في مقام الامتثال بطلت العبادة من جهة فقدانها الجزء ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الجزء مأخوذاً بشرط لا أو لا بشرط كما هو واضح.

وأمّا النقطة الثانية : فيردّها أنّه بناءً على القول بجواز القِران في العبادة وعدم كونه مانعاً عن صحتها كما هو المفروض لم تكن حرمة الجزء في نفسها موجبة لبطلانها ما لم يكن هناك موجب آخر له ، والوجه في ذلك واضح ، وهو أنّ حرمة الجزء في نفسها لا توجب اعتبار عدم القِران في صحة العبادة ليكون القِران مانعاً عنها ، كيف فانّ مانعية القِران في العبادة عبارة عن اعتبار عدم اقتران جزء بمثله في صحة تلك العبادة ، ومن المعلوم أنّ حرمة جزء لا تستلزم ذلك ، ضرورة أنّ اعتباره يحتاج إلى مؤونة زائدة فلا يكفي في اعتباره مجرد حرمته ومبغوضيته. فاذن لا يترتب عليها إلاّبطلان نفسه وعدم جواز الاقتصار به في مقام الامتثال دون بطلان أصل العبادة ، إلاّ إذا كان هناك موجب آخر له كالنقيصة أو الزيادة.

١٥١

وأمّا النقطة الثالثة : فيرد عليها أنّ حرمة جزء العبادة لو كانت موجبة لتقييد العبادة بغيره من الأجزاء لكانت حرمة كل شيء موجبة لذلك ، ضرورة أنّه لا فرق في ذلك بين كون المحرّم من سنخ أجزاء العبادة وبين كونه من غير سنخها من هذه الناحية أصلاً. وعلى هذا فلا بدّ من الالتزام ببطلان كل عبادة قد أتى المكلف في أثنائها بفعل محرّم كالنظر إلى الأجنبية مثلاً في الصلاة ، مع أنّ هذا واضح البطلان. فاذن الصحيح في المقام أن يقال : إنّ حرمة شيء تكليفاً لا تستلزم تقييد العبادة بالاضافة إليه بشرط لا ، بداهة أنّه لا تنافي بين صحة العبادة في الخارج وحرمة ذلك الشيء المأتي به في أثنائها.

فالنتيجة : أنّ حال الجزء المنهي عنه حال غيره من المحرّمات ، فكما أنّ الاتيان بها في أثناء العبادة لا يوجب فسادها ، فكذلك الاتيان بهذا الجزء المنهي عنه ، فلا فرق بينهما من تلك الناحية أبداً.

وعلى الجملة : فحرمة الجزء في نفسها لا تستلزم فساد العبادة إلاّ إذا كان هناك موجب آخر له كالزيادة العمدية أو النقيصة أو نحو ذلك ، لوضوح أنّه لا منشأ لتخيل اقتضاء حرمته الفساد إلاّتخيل استلزامها تقييد العبادة بالاضافة إليه بشرط لا ، ولكن من المعلوم أنّ هذا مجرد خيال لا واقع موضوعي له أصلاً ، وذلك لأنّ ما دلّ على حرمته لا يدل على تقييد العبادة بغيره ، لوضوح أنّ تقييدها كذلك يحتاج إلى مؤونة زائدة فلا يكفي فيه مجرد حرمة شيء تكليفاً وإلاّ لدلّ عليه كل دليل قام على حرمة شيء كالنظر إلى الأجنبية أو إلى عورة شخص أو نحو ذلك ، مع أنّ هذا واضح البطلان.

وبكلمة اخرى : أنّ التقييد بعدم شيء على نحوين :

أحدهما : شرعي وهو تقييد الصلاة بعدم القهقهة والتكلم بكلام الآدميين وما شاكلهما ، فانّ مردّ هذا التقييد إلى أنّ وجود هذه الأشياء مانع عنها شرعاً

١٥٢

وعدمها معتبر فيها.

وثانيهما : عقلي وهو عدم انطباق الصلاة المأمور بها على المقيد بذلك الشيء ، أي لا يكون المقيد به مصداقاً لها ، فان هذا التقييد لا يرجع إلى أنّ وجود هذا الشيء مانع عنها شرعاً وعدمه معتبر فيها كذلك ، بل مردّه إلى أنّ المأمور به هو حصة خاصة من الصلاة وهي لا تنطبق على المقيد به ، وما نحن فيه من قبيل الثاني ، فان ما دلّ على حرمة جزء لا محالة يقيد إطلاق الأمر المتعلق بهذا الجزء بغير هذه الحصة فلا ينطبق الجزء المأمور به عليها ، لاستحالة انطباق المأمور به على الفرد المنهي عنه. مثلاً ما دلّ على حرمة قراءة سور العزائم في الصلاة بطبيعة الحال يقيد إطلاق ما دلّ على جزئية السورة بغيرها ، ومن المعلوم أنّ مردّ ذلك إلى أنّ الواجب هو الصلاة المقيدة بحصة خاصة من السورة فلا تنطبق على الصلاة الفاقدة لتلك الحصة ، وعليه فان اقتصر المكلف على الجزء المنهي عنه في مقام الامتثال بطلت الصلاة من ناحية عدم انطباق الصلاة المأمور بها على الفرد المأتي به في الخارج ، وإن لم يقتصر عليه بل أتى بعده بالفرد غير المنهي عنه أيضاً فلا موجب لبطلانها أصلاً ، غاية الأمر أنّه قد ارتكب في أثناء الصلاة أمراً محرّماً وقد عرفت أنّه لا يوجب البطلان.

وأمّا النقطة الرابعة : فمضافاً إلى أنّها لو تمت لكانت خاصة بالصلاة ولا تعم غيرها من العبادات ، يرد عليها : أنّ صدق عنوان الزيادة في الجزء على ما بيّناه في محلّه يتوقف على قصد جزئية ما يؤتى به في الخارج وإلاّ فلا تصدق الزيادة ، من دون فرق في ذلك بين أن يكون ما أتى به من جنس أجزاء العمل أو من غير جنسها. نعم ، لا يتوقف صدق الزيادة على القصد في خصوص الركوع والسجود ، بل لو أتى بهما من دون قصد ذلك لكان مبطلاً للصلاة ، إلاّ أنّ ذلك من ناحية النص الخاص الوارد في المنع عن قراءة العزيمة في الصلاة معللاً بأ نّها

١٥٣

زيادة في المكتوبة ، وهذا النص وإن ورد في السجود خاصة إلاّ أنّا نقطع بعدم الفرق بينه وبين الركوع ، وتمام الكلام في محلّه (١).

فالنتيجة : أنّه لا يصدق على الاتيان بالجزء المنهي عنه بدون قصد الجزئية عنوان الزيادة لتكون مبطلةً للصلاة.

وأمّا النقطة الخامسة : فمضافاً إلى اختصاص تلك النقطة بالصلاة ولا تعم غيرها من العبادات ، أنّه لا دليل على بطلان الصلاة بالذكر المحرّم ، فانّ الدليل إنّما يدل على بطلانها بكلام الآدميين ، ومن المعلوم أنّ الذكر المحرّم ليس من كلامهم على الفرض.

وأمّا القسم الثالث : وهو النهي المتعلق بالشرط ، فقد ذكر المحقق صاحب الكفاية (٢) أنّ حرمة الشرط كما لا تستلزم فساده لا تستلزم فساد العبادة المشروطة به أيضاً إلاّ إذا كان الشرط عبادة. وبكلمة اخرى : أنّ الشرط إذا كان توصلياً كما هو الغالب في شرائط العبادات فالنهي عنه لا يوجب فساده فضلاً عن فساد العبادة المشروطة به ، فانّ الغرض منه يحصل بصرف إيجاده في الخارج ولو كان إيجاده في ضمن فعل محرّم. وأمّا إذا كان عبادياً كالوضوء أو الغسل أو نحو ذلك فالنهي عنه لا محالة يوجب فساده ، ضرورة استحالة التقرب بما هو مبغوض للمولى ، ومن المعلوم أنّ فساده يستلزم فساد العبادة المشروطة به ، هذا.

ولشيخنا الاستاذ قدس‌سره (٣) في المقام كلام وملخصه : هو أنّ شرط

__________________

(١) شرح العروة ١٨ : ٨ ـ ٩.

(٢) كفاية الاصول : ١٨٥.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ٢٢٠.

١٥٤

العبادة الذي عبّر عنه باسم المصدر ليس متعلقاً للنهي ، ضرورة أنّ النهي تعلق بالفعل الصادر عن المكلف باختياره وإرادته ، لا بما هو نتيجته وأثره ، وما هو متعلق للنهي الذي عبّر عنه بالمصدر ليس شرطاً لها. فاذن ما هو شرط للعبادة ليس متعلقاً للنهي ، وما هو متعلق له ليس شرطاً لها. مثلاً الصلاة مشروطة بالستر فاذا افترضنا أنّ الشارع نهى عن لبس ثوب خاص فيها فعندئذ إن كان مردّ هذا النهي إلى النهي عن الصلاة فيه فهو لا محالة يوجب بطلانها ، وإن لم يكن مردّه إلى ذلك كما هو المفروض حيث قد عرفت أنّ متعلق النهي غير ما هو شرط فعندئذ لا وجه لبطلانها أصلاً ويكون حاله حال النظر إلى الأجنبية في أثناء الصلاة ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ شرائط الصلاة بأجمعها توصلية فيحصل الغرض منها ولو بايجادها في ضمن فعل محرّم.

ومن هنا يظهر بطلان تقسيم الشرط إلى كونه عبادياً كالطهارات الثلاث وغير عبادي كالتستر ونحوه ، فانّ ما هو شرط للصلاة هو الطهارة بمعنى اسم المصدر المقارنة لها زماناً ، وأمّا الأفعال الخاصة كالوضوء والغسل والتيمم فهي بأنفسها ليست بشرط ، وإنّما تكون محصّلةً للشرط. فاذن ما هو شرط لها وهو الطهارة بالمعنى المزبور ليس بعبادة ، وما هو عبادة وهو تلك الأفعال الخاصة ليس بشرط ، ولذا لا يعتبر فيها قصد القربة وإنّما يعتبر قصد القربة في تلك الأفعال فحسب ، فحال الطهارة من هذه الناحية حال بقية الشرائط. فالنتيجة :

أنّ النهي عن الشرط إن رجع إلى النهي عن العبادة المتقيدة به فهو يوجب بطلانها لا محالة ، وإلاّ فلا أثر له أصلاً.

نحلّل ما أفاده قدس‌سره إلى عدة نقاط :

الاولى : أنّ النهي المتعلق بالشرط يرجع في الحقيقة إلى النهي عمّا هو مفاد المصدر ، والمفروض أنّه ليس بشرط ، وما هو شرط ـ وهو المعنى الذي يكون مفاد اسم المصدر ـ ليس بمنهي عنه.

١٥٥

الثانية : أنّ الشرط في مثل الوضوء والغسل والتيمم إنّما هو الطهارة المتحصلة من تلك الأفعال لا نفس هذه الأفعال.

الثالثة : أنّ شرائط الصلاة بأجمعها توصلية.

ولنأخذ بالمناقشة على هذه النقاط :

أمّا النقطة الاولى : فيرد عليها أنّه قدس‌سره إن أراد من المصدر واسم المصدر المقدمة وما يتولد منها ، بدعوى أنّ النهي المتعلق بالمقدمة لا يوجب فساد ما يتولد منها ويترتب عليها كالنهي عن غسل الثوب مثلاً أو البدن بالماء المغصوب فانّه لا يوجب فساد الطهارة الحاصلة منه ، فلا يمكن المساعدة عليه أصلاً ، والوجه في ذلك : هو ما ذكرناه غير مرّة من أنّ ما عبّر عنه باسم المصدر لا يغاير المعنى الذي عبّر عنه بالمصدر إلاّبالاعتبار ، فالمصدر باعتبار إضافته إلى الفاعل ، واسم المصدر باعتبار إضافته إلى نفسه كالايجاد والوجود فانّهما واحد ذاتاً وحقيقةً والاختلاف بينهما بالاعتبار ، حيث إنّ الايجاد باعتبار إضافته إلى الفاعل والوجود باعتبار إضافته إلى نفسه ، وليس المصدر واسم المصدر من قبيل المثال المذكور ، ضرورة أنّ المثال من السبب والمسبب والعلة والمعلول ، ومن الواضح جداً أنّ المصدر ليس علةً وسبباً لاسم المصدر ، بداهة أنّ العلية والسببية تقتضي الاثنينية والتعدد بحسب الوجود الخارجي ، والمفروض أنّه لا اثنينية ولا تعدد بين المصدر واسم المصدر أصلاً ، بل هما أمر واحد وجوداً وماهية.

نعم ، في مثل المثال المزبور لا مانع من أن تكون المقدمة محرّمةً وما يتولد منها واجباً إذا لم تكن المقدمة منحصرة وإلاّ فتقع المزاحمة بينهما كما تقدم في

١٥٦

بحث مقدمة الواجب مفصّلاً (١) إلاّ أنّك عرفت أنّه خارج عن محل الكلام هنا حيث إنّه في المصدر واسم المصدر وقد عرفت أنّهما أمر واحد وجوداً وخارجاً ، فلا يعقل أن يكون أحدهما مأموراً به والآخر منهياً عنه ، لاستحالة أن يكون المحرّم مصداقاً للواجب والمبغوض مصداقاً للمحبوب ، وعليه فلا محالة يكون النهي عن شرط يوجب تقييد العبادة المشروطة به بغير هذا الفرد المنهي عنه ، مثلاً إذا نهى المولى عن التستر في الصلاة بثوب خاص فلا محالة يوجب تقييد الصلاة المشروطة بالستر بغير هذا الفرد ولا تنطبق طبيعة الصلاة المأمور بها على هذه الحصة المقترنة به.

وإن أراد قدس‌سره من المصدر واسم المصدر واقعهما الموضوعي ، فيرد عليه : ما عرفت الآن من أنّهما متحدان حقيقةً وذاتاً ومختلفان بالاعتبار ، ومعه لا يعقل أن يكون أحدهما مأموراً به والآخر منهياً عنه. ودعوى أنّ النهي تعلق به باعتبار إضافته إلى الفاعل ـ وهو المعبّر عنه بالمصدر ـ والأمر تعلق به باعتبار إضافته إلى نفسه فلا تنافي بينهما عندئذ خاطئة جداً وغير مطابقة للواقع قطعاً ، وذلك ضرورة أنّ الشيء الواحد لا يتعدد بتعدد الاضافة ، ومعه كيف يعقل أن يكون مأموراً به ومنهياً عنه معاً ، ومحبوباً ومبغوضاً في زمان واحد ، وعلى هذا فاذا افترضنا أنّ المولى نهي عن التستر حال الصلاة بثوب خاص أو نهى عن الوضوء أو الغسل بماء مخصوص ، فلا محالة يكون مردّ هذا النهي إلى مبغوضية تقيد الصلاة بهذا الفرد الخاص ، وعليه فبطبيعة الحال لا تكون الصلاة المقترنة به مأموراً بها ، لاستحالة اتحاد المأمور به مع المنهي عنه خارجاً.

__________________

(١) [ بل تقدّم في مبحث الضد في المجلد الثاني من هذا الكتاب ص ٤٩٥ ، ٥١٠ ].

١٥٧

وبكلمة اخرى : أنّ النهي عن الشرط والقيد لا محالة يرجع إلى تقييد إطلاق دليل العبادة بغير هذه الحصة المنهي عنها ، ولازم ذلك أنّ الواجب هو الصلاة المقيدة بغير تلك الحصة فلا ينطبق عليها ، ومع عدم الانطباق لا محالة تقع فاسدة.

فالنتيجة : أنّ حال النهي عن الشرط من هذه الناحية حال النهي عن الجزء فلا فرق بينهما. نعم ، فرق بينهما من ناحية اخرى : وهي أنّ الأجزاء بأنفسها متعلقة للأمر وعبادة فلا تسقط بدون قصد القربة ، وهذا بخلاف الشرائط ، فانّ ذواتها ليست متعلقة للأمر والمتعلق له إنّما هو تقيد العبادات بها ، ومن هنا تكون الشرائط خارجةً عن مقام ذات العبادة وغير داخلة فيها ، ولذا لا يعتبر في سقوطها قصد القربة ، فلو أتى بالصلاة غافلاً عن كونها واجدةً للشرائط كالستر والاستقبال إلى القبلة ونحوهما صحت.

وكيف كان ، فلا فرق بين الجزء والشرط فيما نحن فيه ، فكما أنّ النهي عن الجزء يوجب تقييد العبادة كالصلاة مثلاً بغير الحصة المشتملة على هذا الجزء فلا يعقل أن تكون تلك الحصة مصداقاً للمأمور به وفرداً له ، لاستحالة كون المبغوض مصداقاً للمحبوب ، فكذلك النهي عن الشرط فانّه يوجب تقييد إطلاق العبادة بغير الحصة المقترنة به بعين الملاك المزبور.

وقد تحصّل مما ذكرناه : أنّه بناءً على ثبوت الملازمة بين حرمة عبادة وفسادها لا يفرق في ذلك بين أن تكون الحرمة متعلقة بذاتها أو بجزئها أو شرطها ، فعلى جميع التقادير تقع فاسدةً بملاك واحد وهو عدم وقوعها مصداقاً للعبادة المأمور بها ، فما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّ النهي متعلق بالشرط بالمعنى المصدري ، وما هو شرط في الواقع والحقيقة هو المعنى الاسم المصدري فلا يوجب الفساد ، لا يرجع إلى معنىً محصّل أصلاً ، لما عرفت من

١٥٨

أنّهما متحدان ذاتاً وخارجاً ومختلفان اعتباراً ، وقد عبّر عنهما في لغة العرب بلفظ واحد ، ويفرق بينهما بقرائن الحال أو المقال. نعم ، عبّر في لغة الفرس عن كل منهما بلفظ خاص. وكيف كان ، فلا يمكن أن يكون أحدهما متعلقاً للأمر والآخر متعلقاً للنهي.

وأمّا النقطة الثانية : وهي أنّ الطهارة الحاصلة من الأفعال الخاصة شرط للصلاة دون نفس هذه الأفعال ، فيردّها : أنّ ذلك خلاف ظواهر الأدلة من الآية والروايات ، فانّ الظاهر منها هو أنّ الشرط لها نفس تلك الأفعال ، والطهارة اسم لها وليست أمراً آخر مسبباً عنها. وعلى الجملة : فما ذكره قدس‌سره من كون الطهارة مسببة عنها وإن كان مشهوراً بين الأصحاب إلاّ أنّه لا يمكن إتمامه بدليل ، ومن هنا قلنا : إنّ ما ورد في الروايات من أنّ الوضوء على الوضوء نور على نور وأ نّه طهور (١) ونحو ذلك ، ظاهر في أنّ الطهور اسم لنفس تلك الأفعال دون ما يكون مسبباً عنها على ما فصّلنا الكلام فيه في محلّه.

ومن هنا يظهر حال النقطة الثالثة أيضاً : وهي أنّ شرائط الصلاة بأجمعها توصلية ، ووجه الظهور ما عرفت من أنّ نفس هذه الأفعال شرائط لها وهي تعبدية لا توصلية ، وعليه صحّ تقسيم شرائط الصلاة إلى تعبدية وتوصلية.

فما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من عدم صحة هذا التقسيم خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً.

وأمّا القسم الرابع : وهو النهي عن الوصف الملازم للعبادة ، فحاله حال النهي عن العبادة بأحد العناوين السالفة ، والوجه في ذلك : هو أنّ النهي عن

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٧٧ / أبواب الوضوء ب ٨ ح ٨ ، ٣.

١٥٩

مثل هذا الوصف لا محالة يكون مساوقاً للنهي عن موصوفه باعتبار أنّ هذا الوصف متحد معه خارجاً ولا يكون له وجود بدون وجوده ، وعليه فلا يعقل أن يكون أحدهما منهياً عنه والآخر مأموراً به ، لاستحالة كون شيء واحد مصداقاً لهما معاً ، ومثال ذلك : الجهر والخفت بالقراءة فانّ النهي عن الجهر بالقراءة مثلاً لا محالة يكون نهياً حقيقةً عن القراءة الجهرية ، أي عن هذه الحصة الخاصة ، ضرورة أنّه لا وجود للجهر بدون القراءة ، كما أنّه لا وجود للقراءة بدون الجهر أو الخفت في الخارج ، فلا يعقل أن يكون الجهر بالقراءة منهياً عنه دون نفس القراءة ، بداهة أنّها حصة خاصة من مطلق القراءة ، فالنهي عن الجهر بها نهي عن تلك الحصة لا محالة.

فالنتيجة : أنّ النهي عن الجهر أو الخفت يرجع إلى النهي عن العبادة ، غاية الأمر أنّ القراءة لو كانت بنفسها عبادة دخل ذلك في النهي عن نفس العبادة ، وإن كانت جزءاً لها دخل في النهي عن جزئها ، وإن كانت شرطاً لها دخل في النهي عن شرطها ، وعلى هذا الضوء فلا يكون هذا القسم نوعاً آخر في مقابل الأقسام المتقدمة ، بل هو يرجع إلى أحد تلك الأقسام لا محالة كما هو واضح.

وأمّا القسم الخامس : وهو النهي عن الوصف المفارق للموصوف فهو خارج عن مسألتنا هذه وداخل في مسألة اجتماع الأمر والنهي المتقدمة ، وذلك لأنّ هذا الوصف إن كان متحداً مع موصوفه في مورد الالتقاء والاجتماع فلا مناص من القول بالامتناع ، وعندئذ يدخل في كبرى مسألتنا هذه. وإن كان غير متحد معه وجوداً فيه ولم نقل بسراية الحكم من أحدهما إلى الآخر فلا مناص من القول بالجواز ، وعندئذ لا يكون داخلاً فيها. فالنتيجة : أنّ هذا القسم داخل في المسألة المتقدمة لا في مسألتنا هذه كما لا يخفى.

الثامنة : أنّه لا أصل في المسألة الاصولية ليعوّل عليه عند الشك في ثبوتها ،

١٦٠