محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-15-2
الصفحات: ٥٧٠

من المبغوضية من دون أن تعرض لها جهة محبوبية نفسية أو غيرية ، بداهة أنّها تصرف في مال الغير بدون إذنه ومصداق للغصب ، ومعه كيف تعرض عليها جهة محبوبية ، وقد سبق أنّها ليست مقدمة لواجب أيضاً ليعرض عليها الوجوب الغيري ، غاية ما في الباب أنّ العقل يرشد إلى اختيار تلك الحركات من ناحية أنّها أخف القبيحين وأقلّ المحذورين ، وبما أنّ ذلك منتهٍ إلى اختيار المكلف فلا ينافي استحقاق العقاب عليها. وعلى تقدير تسليم كونها مقدمة فقد عرفت أنّها غير واجبة.

ولو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا عروض الوجوب الغيري لها ، فمن الطبيعي أنّه لا ينافي مبغوضيتها النفسية واستحقاق العقاب عليها إذا كان الاضطرار إليها بسوء الاختيار ، كما هو الحال في المقام ، ضرورة أنّ الوجوب الغيري لم ينشأ عن الملاك ومحبوبية متعلقه ليقال إنّها كيف تجتمع مع فرض مبغوضيتها في نفسها ، بل هو ناش عن مجرد صفة مقدميتها وتوقف الواجب عليها ، ومن المعلوم أنّها لا تنافي مبغوضيتها النفسية أصلاً.

ومن ذلك يظهر حال المثالين المزبورين أيضاً ، وذلك لأنّ العقاب فيهما ليس على التسبيب والاتيان بالمقدمة التي بها يضطر المكلف إلى شرب الخمر أو قتل النفس المحترمة ، والوجه في ذلك : هو أنّ تلك المقدمة لو كانت محرّمةً في ذاتها ومبغوضة للمولى لاستحق العقاب على نفسها ، سواء أكانت مقدمة لارتكاب محرّم آخر أم لا ، وأمّا لو لم تكن محرّمة بذاتها وكانت سائغة في نفسها ، فلا وجه لاستحقاق العقاب عليها أصلاً ، بل يستحق العقاب عندئذ على ارتكاب المحرم كشرب الخمر مثلاً أو قتل النفس ، لفرض أنّ الاضطرار إلى ذلك منتهٍ إلى الاختيار ، بداهة أنّه لو لم يكن هذا الشرب أو القتل الذي هو مقدمة لواجب أهم مبغوضاً للمولى ، بل كان محبوباً له من ناحية عروض الوجوب الغيري له

١٠١

على الفرض ، لا معنى لاستحقاق العقاب على التسبيب إليه وكونه ـ أي التسبيب ـ مبغوضاً ومحرّماً لوضوح أنّ التسبيب إلى المحرّم حرام ومبغوض ، لا التسبيب إلى غيره ، وأمّا إذا فرض كون هذا الشرب أو القتل محبوباً فلا يعقل كون التسبيب إليه محرّماً وهذا واضح. فاذن لا مناص من الالتزام بكون العقاب على نفس هذا الشرب أو القتل باعتبار أنّ الاضطرار إلى ارتكاب ذلك منتهٍ إلى الاختيار فلا ينافي العقاب ، ومجرد اتصافه بالوجوب الغيري على فرض القول به لا ينافي مبغوضيته في نفسه ، لفرض أنّ الوجوب الغيري لم ينشأ عن مصلحة ملزمة في متعلقه ، بل هو ناشٍ عن مصلحة في غيره فلا ينافي مبغوضيته أصلاً كما عرفت.

فالنتيجة : أنّ هذين المثالين وما شاكلهما كالخروج جميعاً داخل في كبرى قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار ، وأنّ الجميع بالاضافة إلى الدخول في كبرى تلك القاعدة على صعيد واحد ، وأنّ العقل في جميع ذلك يرشد إلى اختيار ما هو أخف القبيحين وأقل المحذورين.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ الصحيح هو ما أفاده المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره من أنّ الخروج أو ما شاكله ليس محكوماً بشيء من الأحكام الشرعية فعلاً ، ولكن يجري عليه حكم النهي السابق الساقط بالاضطرار من جهة انتهائه إلى سوء الاختيار ، ومعه لا محالة يبقى على مبغوضيته ويستحق العقاب على ارتكابه وإن كان العقل يرشد إلى اختياره ويلزمه بارتكابه فراراً عن المحذور الأهم ، ولكن عرفت أنّ ذلك لا ينافي العقاب عليه إذا كان منتهياً إلى سوء اختياره ، كما هو مفروض المقام.

١٠٢

[ حكم الصلاة حال الخروج ]

أمّا الكلام في المورد الثاني ، وهو حكم الصلاة الواقعة حال الخروج ، فيقع في عدة موارد :

الأوّل : ما إذا كان المكلف غير متمكن من الصلاة في خارج الدار أصلاً ، لا مع الركوع والسجود ولا مع الايماء ، لضيق الوقت أو نحوه.

الثاني : أن يتمكن من الصلاة مع الايماء فيه ، ولا يتمكن من الصلاة مع الركوع والسجود.

الثالث : أن يتمكن من الصلاة في الخارج مع الركوع والسجود لسعة الوقت.

أمّا الكلام في المورد الأوّل : فيجوز له الصلاة حال الخروج ، ولكن يقتصر فيها على الايماء بدلاً عن الركوع والسجود ، وذلك لاستلزامهما التصرف الزائد على قدر الضرورة ، ومعه لا محالة تنتقل الوظيفة إلى بدلهما وهو الايماء ، هذا على القول بالجواز وتعدد المجمع في مورد الاجتماع وجوداً وماهية. وأمّا على القول بالامتناع وفرض وحدة المجمع وجوداً فمقتضى القاعدة الأوّلية عدم جواز إيقاع الصلاة حال الخروج ، لفرض أنّ الحركات الخروجية متحدة مع الصلاة خارجاً ، ومعه لا يمكن التقرب بها ، ضرورة استحالة التقرب بما هو مبغوض للمولى ، ولكن مقتضى القاعدة الثانوية هو لزوم الاتيان بها ، لأنّها لا تسقط بحال ، ومردّ ذلك إلى سقوط المبغوضية عن تلك الحركات بمقدار زمان تسع الصلاة فيه.

وبكلمة اخرى : أنّ من دخل الدار المغصوبة بسوء اختياره ولا يتمكن من

١٠٣

الخروج عنها لمانع من سدّ باب أو نحوه إلى أن ضاق وقت الصلاة ، فعندئذ على القول بالجواز وتعدد المجمع لا إشكال في صحة الصلاة بناءً على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من الملزوم إلى لازمه ، لفرض أنّ مصداق المأمور به غير متحد مع مصداق المنهي عنه ، ومعه لا مانع من التقرب به أصلاً ، وإن كان المكلف مستحقاً للعقاب من ناحية أنّ تصرّفه في مال الغير بدون إذنه منتهٍ إلى الاختيار.

والاشكال إنّما هو على القول بالامتناع واتحاد الصلاة مع الحركات الخروجية ، وحاصله : أنّ الحرمة في المقام وإن سقطت من ناحية الاضطرار ، ضرورة أنّ بقاء الحرمة في هذا الحال مع عدم تمكن المكلف من الترك ـ أي ترك الحرام ـ لغو محض وتكليف بما لا يطاق ، إلاّ أنّ مبغوضيتها باقية ، ومن المعلوم أنّها تمنع عن قصد التقرب ، ضرورة استحالة التقرب بما هو مبغوض عند المولى ، وعلى هذا فلا يمكن الحكم بصحة الصلاة ، لفرض أنّها مبغوضة فيستحيل أن يكون مقرّباً ، هذا ما تقتضيه القاعدة الأوّلية ، فلو كنّا نحن وهذه القاعدة ولم يكن هنا دليل آخر يدل على وجوب الصلاة وعدم سقوطها بحال ، لقلنا بسقوطها وعدم وجوبها في المقام.

ولكن من جهة دليل آخر وأ نّها لا تسقط بحال ، نلتزم بوجوبها وعدم سقوطها في هذا الحال أيضاً ، ولازم ذلك هو سقوط المبغوضية ، بمعنى أنّ الصلاة في هذا الحال ليست بمبغوضة بل هي محبوبة فعلاً وقابلة للتقرب بها ، ولكن لا بدّ عندئذ من الالتزام بارتفاع المبغوضية عن هذه الحركات التي تكون مصداقاً للصلاة بمقدار زمان يسع الصلاة دون الزائد على ذلك ، فانّ الضرورات تتقدر بقدرها ، لوضوح أنّ ما دلّ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال من ناحية وعدم إمكان الحكم بصحتها هنا مع فرض بقاء المبغوضية من ناحية اخرى

١٠٤

أوجب الالتزام بسقوط تلك المبغوضية عن هذه الحركات الصلاتية لا محالة في زمان يسع لها فحسب لا مطلقاً ، لعدم المقتضي لارتفاع المبغوضية عنها في الزائد على هذا المقدار من الزمان ، بل هي باقية على حالها من المبغوضية.

وإن شئت فقل : إنّ المقتضي للالتزام بسقوط المبغوضية أمران :

الأوّل : وجوب الصلاة في هذا الحال وعدم سقوطها عن المكلف على الفرض.

الثاني : عدم إمكان الحكم بصحة الصلاة مع بقاء المبغوضية ، ضرورة استحالة التقرب بما هو مبغوض ، فعندئذ لو لم نلتزم بسقوط المبغوضية عنها في زمان يسع لفعلها للزم التكليف بما لا يطاق وهو محال ، ولأجل ذلك لا بدّ من الالتزام بسقوطها ، ومن المعلوم أنّ ذلك لا يقتضي إلاّجواز التصرف بمقدار زمان يسع لفعل الصلاة فحسب ، وأمّا الزائد عليه فلا مقتضي للجواز وارتفاع المبغوضية أصلاً ، هذا بناءً على وجهة نظر الأصحاب من القول بالجواز أو الامتناع في مسألة الاجتماع.

وأمّا بناءً على ما حققناه هناك من أنّ أجزاء الصلاة لا تتحد مع الغصب خارجاً ما عدا السجدة ، باعتبار أنّ مجرد مماسة الجبهة الأرض لا يكفي في صدقها بل لا بدّ فيها من الاعتماد على الأرض ، وبدونه لا تصدق السجدة ، ومن المعلوم أنّه تصرف في مال الغير بدون إذنه وهو مبغوض للمولى فلا يمكن التقرب به. نعم ، نفس هيئة السجود ليست تصرفاً فيه ، فانّها من هذه الناحية كهيئة الركوع والقيام والقعود ، وقد ذكرنا أنّ هذه الهيئات التي تعتبر في الصلاة ليس شيء منها متحداً مع الكون في الأرض المغصوبة ومصداقاً للغصب.

نعم ، الحركات المتخللة بينها كالهوي والنهوض وإن كانت تصرّفاً فيها

١٠٥

ومصداقاً له ، إلاّ أنّها ليست من أجزاء الصلاة ، فما هو من أجزائها غير متحد مع الغصب خارجاً ، وما هو متحد معه ليس من أجزائها ، وقد سبق الكلام في كل ذلك بشكل واضح ، فعندئذ لا مانع من الحكم بصحة الصلاة هنا أصلاً ، وإن قلنا بفسادها في غير حال الخروج من ناحية السجدة أو الركوع أو من ناحية مقدماتهما ، ومعه لا حاجة إلى التماس دليل آخر يدل على وجوبها في هذا الحال ، وذلك لأنّ الصلاة في حال الخروج في مفروض المقام ليست إلاّ مشتملة على التكبيرة والقراءة والايماء بدلاً عن الركوع والسجود ، ومن الطبيعي أنّه ليس شيء منها تصرّفاً في مال الغير عرفاً ومصداقاً للغصب.

أمّا التكبيرة والقراءة ، فلأ نّهما من مقولة الكيف المسموع ، ومن الواضح أنّه لا صلة لها بالتصرف في مال الغير أصلاً ، كما أنّه من الواضح أنّه لا يعدّ تموج الهواء وخرقه الناشئ من الصوت تصرّفاً.

وأمّا الايماء للركوع والسجود فأيضاً كذلك ، ضرورة أنّه لا يعدّ تصرفاً في ملك الغير عرفاً ليكون مبغوضاً. نعم ، لا تجوز الصلاة في هذا الحال مع الركوع والسجود لاستلزامهما التصرف الزائد وهو غير جائز ، فإذن لا محالة تنتقل الوظيفة إلى الايماء كما عرفت.

فالنتيجة : أنّ الصلاة مع الايماء في حال الخروج صحيحة مطلقاً من دون حاجة إلى التماس دليل آخر ، ومع الركوع والسجود باطلة.

وأمّا الكلام في المورد الثاني : وهو ما إذا لم يكن المكلف متمكناً من الصلاة في خارج الأرض المغصوبة إلاّمع الايماء للركوع والسجود ، فقد ظهر أنّه على القول بالجواز في المسألة وتعدد المجمع في مورد الاجتماع وجوداً وماهية كما حققناه الآن ، فلا إشكال في صحة الصلاة حال الخروج ، بناءً على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من الملزوم إلى لازمه ، والوجه في هذا

١٠٦

واضح ، وهو أنّ الصلاة حال الخروج ليست مصداقاً للغصب وتصرّفاً في مال الغير على الفرض ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّها لا تستلزم التصرف الزائد على نفس الخروج ، لفرض أنّها غير مشتملة على الركوع والسجود المستلزمين له. ومن ناحية ثالثة : أنّ المكلف غير قادر على الصلاة التامة الأجزاء والشرائط في خارج الدار ، لتكون هذه الصلاة ـ أعني الصلاة مع الايماء حال الخروج ـ غير مشروعة في حقّه ، لأنّها وظيفة العاجز دون القادر.

فالنتيجة على ضوء ذلك : هي أنّه لا مناص من الالتزام بصحة هذه الصلاة في هذا الحال أعني حال الخروج. وأمّا بناءً على القول بالامتناع وفرض اتحاد الصلاة مع الغصب خارجاً فلا تجوز الصلاة حال الخروج ، بل لا بدّ من الاتيان بها خارج الدار ، وذلك لفرض أنّها مصداق للغصب ومبغوض للمولى ، ومعه لا يمكن التقرب بها لاستحالة التقرب بما هو مبغوض.

وأمّا الكلام في المورد الثالث : وهو ما إذا كان المكلف متمكناً من الصلاة التامة الأجزاء والشرائط في خارج الدار ، فلا إشكال في لزوم إتيانها في الخارج وعدم جواز إتيانها حال الخروج ولو على القول بالجواز في المسألة ، والوجه في ذلك ظاهر ، وهو أنّ المكلف لو أتى بها في هذا الحال لكان عليه الاقتصار على الايماء للركوع والسجود ، ولا يجوز له الاتيان بها معهما ، لاستلزامهما التصرف الزائد على قدر الضرورة وهو غير جائز ، فإذن لا بدّ من الاقتصار على الايماء ، ومن الواضح جداً أنّ من يتمكن من المرتبة العالية من الصلاة وهي الصلاة مع الركوع والسجود لا يجوز له الاقتصار على المرتبة الدانية وهي الصلاة مع الايماء ، ضرورة أنّها وظيفة العاجز عن المرتبة الاولى ، وأمّا وظيفة المتمكن منها فهي تلك المرتبة لا غيرها ، لوضوح أنّه لا يجوز الانتقال من هذه المرتبة ، أعني المرتبة العالية إلى غيرها من المراتب إلاّفي صورة العجز عن الاتيان بها.

١٠٧

وإن شئت فقل : إنّ الواجب على المكلف هو طبيعي الصلاة الجامع بين المبدأ والمنتهى ، والمفروض أنّ المكلف قادر على إتيان هذا الطبيعي بينهما ، ومعه لا محالة لا تنتقل وظيفته إلى صلاة العاجز والمضطر وهي الصلاة مع الايماء كما هو واضح ، هذا على القول بالجواز. وأمّا على القول بالامتناع فالأمر أوضح من ذلك ، لأنّه لو قلنا بجواز الصلاة حال الخروج في هذا الفرض ـ أي فرض تمكنه من الصلاة المختارة في خارج الدار ـ على القول بالجواز فلا نقول به على هذا القول ، لفرض أنّ الصلاة على هذا متحدة مع الغصب خارجاً ومصداق له ، ومعه لا يمكن التقرب بها ، بداهة استحالة التقرب بالمبغوض.

وعلى الجملة : فالمانع على القول بالامتناع أمران : أحدهما مشترك فيه بينه وبين القول بالجواز ، وهو أنّ الصلاة مع الايماء ليست وظيفة له ، وثانيهما مختص به ، وهو أنّ الصلاة على هذا القول متحدة مع الحركة الخروجية التي هي مصداق للغصب ، ومعه لا يمكن أن تقع مصداقاً للمأمور به.

ثمّ لا يخفى أنّ الصلاة في حال الخروج مع عدم التمكن منها مع الركوع والسجود في الخارج على وجهة نظر شيخنا الاستاذ قدس‌سره تقع صحيحة مطلقاً ، أي بلا فرق في ذلك بين القول بالامتناع في المسألة والقول بالجواز ، وذلك لأنّ الحركات الخروجية على وجهة نظره قدس‌سره (١) محبوبة للمولى وواجبة من ناحية انطباق عنوان التخلية عليها ، وعلى هذا فلا محالة تقع الصلاة صحيحة ، وإن كانت متحدة مع تلك الحركات خارجاً ، لفرض أنّها ليست بمبغوضة لتكون مانعة عن صحتها والتقرب بها ، بل هي محبوبة. نعم لو استلزمت الصلاة في هذا الحال تصرّفاً زائداً فلا تجوز ، وهذا واضح.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٩٣.

١٠٨

فالنتيجة : أنّ نظريتنا تفترق عن نظرية شيخنا الاستاذ قدس‌سره في الصلاة حال الخروج ، فانّ الحركات الخروجية على وجهة نظرنا مبغوضة وموجبة لاستحقاق العقاب عليها ، ولذا تقع الصلاة فاسدة في صورة اتحادها معها خارجاً ، وعلى وجهة نظر شيخنا الاستاذ قدس‌سره محبوبة وتقع الصلاة في هذا الفرض صحيحة ، هذا تمام الكلام في مسألة الاضطرار.

بقي هنا أُمور :

الأوّل : أنّا قد ذكرنا أنّ مسألة الاجتماع على القول بالامتناع ووحدة المجمع في مورد الاجتماع وجوداً وماهية من صغريات كبرى باب التعارض ، كما أنّها على القول بالجواز وتعدد المجمع فيه كذلك من صغريات كبرى باب التزاحم وقد تقدم الكلام في هاتين الناحيتين بصورة واضحة (١) فلا نعيد ، كما أنّه تقدم النقد على ما ذكره المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره في ضمن المقدمة الثامنة والتاسعة والعاشرة فلا حاجة إلى الاعادة.

الثاني : أنّه على القول بالامتناع في المسألة فهل هناك مرجّح لتقديم جانب الحرمة على جانب الوجوب أو بالعكس ، أو لا يكون مرجّح لشيء منهما ، هذا فيما إذا لم يكن دليل من الخارج على تقديم أحدهما على الآخر كاجماع أو نحوه وإلاّ فلا كلام.

وقد ذكروا لترجيح جانب النهي على جانب الأمر وجوهاً :

منها : أنّ دليل النهي أقوى دلالةً من دليل الأمر ، وذلك لأنّ الاطلاق في طرف دليل النهي شمولي ، ضرورة أنّ حرمة التصرف في مال الغير بدون إذنه

__________________

(١) راجع المجلد الثالث من هذا الكتاب ص ٣٦٨ الجهة الرابعة.

١٠٩

بمقتضى قوله عليه‌السلام : « لايحل مال امرئ مسلم إلاّبطيب نفسه » (١) ونحوه ، لا تختص بمال دون مال وبتصرف دون آخر ، فهي تنحل بحسب الواقع بانحلال موضوعها ومتعلقها في الخارج ، ففي الحقيقة تكون نواهٍ متعددة بعدد أفراد الموضوع والمتعلق ، فيكون كل تصرف محكوماً بالحرمة على نحو الاستقلال من دون ارتباط حرمته بحرمة تصرف آخر ... وهكذا.

وهذا بخلاف الاطلاق في طرف دليل الأمر فانّه بدلي ، وذلك لأنّ الأمر المتعلق بصرف الطبيعة من دون تقييدها بشيء يقتضي كون المطلوب هو صرف وجودها في الخارج بعد استحالة أن يكون المطلوب هو تمام وجودها ، ومن المعلوم أنّ صرف الوجود يتحقق بأوّل الوجود فيكون الوجود الثاني والثالث وهكذا غير مطلوب ، وهذا معنى كون الاطلاق في طرف الأمر بدلياً ، وقد بينّا السر في أنّ الاطلاق في طرف الأوامر المتعلقة بالطبائع بدلي والاطلاق في طرف النواهي المتعلقة بها شمولي في أوّل بحث النواهي بصورة مفصّلة فلاحظ (٢) ولذلك ـ أي لكون الاطلاق في طرف النهي شمولياً ، وفي طرف الأمر بدلياً ـ ذكروا أنّ الاطلاق الشمولي يتقدم على الاطلاق البدلي في مقام المعارضة ، وذهب إليه شيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره (٣) وتبعه على ذلك شيخنا الاستاذ قدس‌سره (٤) واستدلّ عليه بوجوه ثلاثة وقد تقدمت تلك الوجوه

__________________

(١) الوسائل ٥ : ١٢٠ / أبواب مكان المصلي ب ٣ ح ١ ، ٢٩ : ١٠ / أبواب القصاص في النفس ب ١ ح ٣ ( مع اختلاف يسير ).

(٢) المجلد الثالث من هذا الكتاب ص ٢٩٥ وما بعدها.

(٣) مطارح الأنظار : ٤٩.

(٤) أجود التقريرات ١ : ٢٣٥.

١١٠

مع المناقشة عليها بصورة مفصّلة في بحث الواجب المشروط (١) وملخصها :

١ ـ أنّ تقديم الاطلاق البدلي على الاطلاق الشمولي يقتضي رفع اليد عن بعض مدلوله ، وهذا بخلاف تقديم الاطلاق الشمولي على الاطلاق البدلي ، فانّه لا يقتضي رفع اليد عن بعض مدلوله لفرض أنّ مدلوله واحد وهو محفوظ ، غاية الأمر أنّ ذلك يوجب تضييق دائرة انطباقه على أفراده.

٢ ـ أنّ ثبوت الاطلاق البدلي يحتاج إلى مقدمة اخرى زائداً على كون المولى في مقام البيان وعدم نصب قرينة على الخلاف ، وهي إحراز تساوي أفراد المأمور به في الوفاء بالغرض ليحكم العقل بالتخيير بينها ، وهذا بخلاف الاطلاق الشمولي ، فانّه لا يحتاج إلى أزيد من المقدمات المعروفة المشهورة ، وبتلك المقدمات يتمّ الاطلاق وسريان الحكم إلى جميع أفراده ، وإن كانت الأفراد مختلفة من جهة الملاك المقتضي لجعل الحكم عليها ، ومن المعلوم أنّه مع وجود الاطلاق الشمولي لا يمكن إحراز تساوي الأفراد في الوفاء بالغرض ، وهذا معنى تقديم الاطلاق الشمولي على البدلي في مورد الاجتماع ، لفرض عدم ثبوت الاطلاق له بالاضافة إلى هذا الفرد.

٣ ـ أنّ حجية الاطلاق البدلي تتوقف على عدم المانع في بعض الأطراف عن حكم العقل بالتخيير ، والاطلاق الشمولي يصلح أن يكون مانعاً ، فلو توقف عدم مانعيته على وجود الاطلاق البدلي لدار.

ولنأخذ بالمناقشة عليها ، أمّا الوجه الأوّل فيرد عليه :

أوّلاً : أنّ العبرة في تقديم أحد الظهورين على الآخر إنّما تكون بقوته ، ومجرد

__________________

(١) في المجلد الثاني من هذا الكتاب ص ١٥٨.

١١١

أنّ تقدم أحدهما على الآخر يوجب رفع اليد عن بعض مدلوله دون العكس لا يكون موجباً للتقديم.

وثانياً : أنّ الحكم الالزامي في مورد الاطلاق البدلي وإن كان واحداً متعلقاً بصرف وجود الطبيعة ، إلاّ أنّ الحكم الترخيصي المستفاد منه ثابت لكل فرد من أفرادها ، وذلك لأنّ لازم إطلاقها هو ترخيص الشارع المكلف في تطبيقها على أيّ فرد من أفرادها شاء تطبيقها عليه ، فالعموم بالاضافة إلى هذا الحكم ـ أعني الحكم الترخيصي ـ شمولي لا محالة ، فإذن كما يستلزم تقديم الاطلاق البدلي على الشمولي رفع اليد عن بعض مدلوله ، كذلك يستلزم تقديم الاطلاق الشمولي على البدلي رفع اليد عن بعض مدلوله ، وعليه فلا ترجيح لتقديم أحدهما على الآخر.

وأمّا الوجه الثاني : فيردّه أنّ التخيير الثابت في مورد الاطلاق البدلي ليس تخييراً عقلياً ، بل هو تخيير شرعي مستفاد من عدم تقييد المولى متعلق حكمه بقيد خاص ، وبذلك يحرز تساوى الأفراد في الوفاء بالغرض من دون حاجة إلى مقدمة اخرى خارجية ، ولذلك لو شك في تعيين بعض الأفراد لاحتمال أنّ الملاك فيه أقوى من الملاك في غيره ، يدفع ذلك الاحتمال بالاطلاق ، فالاطلاق بنفسه محرز للتساوي بلا حاجة إلى شيء آخر. وعليه فلا وجه لتقديم الاطلاق الشمولي عليه ، بل تقع المعارضة بينهما في مورد الاجتماع ، فانّ مقتضى الاطلاق البدلي هو تخيير المكلف في تطبيق الطبيعة المأمور بها على أيّ فرد من أفرادها شاء تطبيقها عليه ، وهو يعارض مقتضى الاطلاق الشمولي المانع عن إيجاد مورد الاجتماع.

وعلى الجملة : فالنقطة الرئيسية لهذا الوجه أنّ ثبوت الاطلاق للمطلق البدلي يحتاج إلى مقدمة اخرى زائداً على مقدمات الحكمة ، وهي إحراز

١١٢

تساوي أفراده في الوفاء بالغرض ، وهذا بخلاف ثبوته في المطلق الشمولي ، فانّه لا يحتاج إلى مقدمة زائدة على تلك المقدمات ، فإذن هو مانع عن ثبوت الاطلاق له ، أي للمطلق البدلي بالاضافة إلى مورد الاجتماع ، ضرورة أنّه بعد كون مورد الاجتماع مشمولاً للمطلق الشمولي لا يمكن إحراز أنّه وافٍ بغرض الطبيعة المأمور بها كبقية أفرادها ، وهذا معنى عدم إحراز تساوي أفرادها مع وجود الاطلاق الشمولي.

ولكن تلك النقطة خاطئة جداً ، لأنّها ترتكز على كون التخيير بين تلك الأفراد عقلياً ، ولكن عرفت أنّ التخيير شرعي مستفاد من الاطلاق وعدم تقييد الشارع الطبيعة بحصة خاصة ، فإذن نفس الاطلاق كافٍ لاحراز التساوي وإلاّ لكان على المولى التقييد ونصب القرينة ، والعقل وإن احتمل وجداناً عدم التساوي إلاّ أنّه لا أثر لهذا الاحتمال بعد ثبوت الاطلاق الكاشف عن التساوي.

ومن هذا البيان تظهر المناقشة في :

الوجه الثالث أيضاً ، وذلك لأنّ هذا الوجه أيضاً يبتني على كون التخيير عقلياً ، ولكن بعد منع ذلك وأنّ التخيير شرعي مستفاد من الاطلاق ، فان مفاده ترخيص الشارع في تطبيق الطبيعة المأمور بها على أيّ فرد من أفرادها شاء تطبيقها عليه ، ومن المعلوم أنّ حجية هذا لا تتوقف على أيّ شيء ما عدا مقدمات الحكمة ، فإذن لا محالة يعارض هذا الاطلاق الشمولي المانع عن إيجاد مورد الاجتماع للعلم بكذب أحد هذين الحكمين في الواقع وعدم صدوره من الشارع.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ هذه الوجوه بأجمعها خاطئة ولا واقع موضوعي لها أصلاً.

١١٣

فالصحيح : هو ما ذهب إليه المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) من أنّه لا وجه لتقديم الاطلاق الشمولي على البدلي ، وذلك لأنّ ثبوت كلا الاطلاقين يتوقف على جريان مقدمات الحكمة وتماميتها على الفرض ، ضرورة أنّه لا مزية لأحدهما بالاضافة إلى الآخر من هذه الناحية أصلاً ، فاذن الحكم بجريان مقدمات الحكمة في طرف المطلق الشمولي دون المطلق البدلي ترجيح من غير مرجح ، وعليه فيسقط كلا الاطلاقين معاً ، بمعنى أنّ مقدمات الحكمة لا تجري في طرف هذا ولا في طرف ذاك ، وهذا معنى سقوطهما بالمعارضة ، ومجرد كون الاطلاق في أحدهما شمولياً وفي الآخر بدلياً لا يكون سبباً للترجيح بعد ما كان الاطلاق فيه أيضاً شمولياً بالدلالة الالتزامية كما عرفت.

نعم ، العموم الوضعي يتقدم على المطلق سواء أكان شمولياً أو بدلياً ، والوجه فيه واضح ، وهو أنّ سراية الحكم في العموم الوضعي إلى جميع أفراده لا تتوقف على جريان مقدمات الحكمة وأ نّها فعلية ، لأنّها معلولة للوضع لا لتلك المقدمات ، وهذا بخلاف إطلاق المطلق ، فانّه معلول لاجراء تلك المقدمات وبدون إجرائها لا إطلاق له أصلاً. وعلى ذلك فالعام بنفسه صالح لأن يكون قرينة على التقييد ، ومعه لا تجري المقدمات ، إذ من المقدمات عدم نصب قرينة على الخلاف ومن المعلوم أنّ العام صالح لذلك ، ومن هنا قالوا إنّ دلالة العام تنجيزية ودلالة المطلق تعليقية.

فالنتيجة قد أصبحت مما ذكرناه : أنّ مجرد كون الاطلاق في طرف النهي شمولياً وفي طرف الأمر بدلياً لا يكون سبباً لتقديمه عليه إذا لم يكن العموم والشمول مستنداً إلى الوضع ، فإذن هذا الوجه باطل.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٠٦.

١١٤

ومنها : أنّ الحرمة تابعة للمفسدة الملزمة في متعلقه والوجوب تابع للمصلحة كذلك في متعلقه ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّهم ذكروا أنّه إذا دار الأمر بين دفع المفسدة وجلب المنفعة كان دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

فالنتيجة على ضوئهما : هي أنّه لا بدّ في المقام من ترجيح جانب الحرمة على جانب الوجوب ، لكونه من صغريات تلك القاعدة.

وغير خفي أنّ هذا الاستدلال من الغرائب جداً ، وذلك لأنّه على فرض تسليم تلك الكبرى فالمقام ليس من صغرياتها جزماً ، بداهة أنّه على القول بالامتناع ووحدة المجمع وجوداً وماهية فهو إمّا مشتمل على المصلحة دون المفسدة ، أو بالعكس. فإن قلنا بتقديم الوجوب فلا حرمة ولا مفسدة تقتضيه ، وإن قلنا بتقديم الحرمة فلا وجوب ولا مصلحة تقتضيه ، فليس في مورد الاجتماع مصلحة ومفسدة ليدور الأمر بين دفع المفسدة وجلب المنفعة ، ولا موضوع عندئذ لتلك القاعدة ، وموضوع هذه القاعدة وموردها هو ما إذا كان في فعل مفسدة ملزمة وفي فعل آخر مصلحة كذلك ولا يتمكن المكلف من دفع الاولى وجلب الثانية معاً ، فلا محالة تقع المزاحمة بينهما ، فيقال إنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ، فهذه القاعدة لو تمت فانّما تتم في باب التزاحم ، بناءً على وجهة نظر العدلية فحسب لا مطلقاً ، وأمّا في باب التعارض فلا تتم أصلاً ، وقد تقدم أنّ المسألة ـ أي مسألة الاجتماع ـ على القول بالامتناع داخلة في كبرى باب التعارض. على أنّه لا أصل لهذه القاعدة في نفسها ، لعدم الدليل عليها أصلاً ، لا من العقل ولا من الشرع ، بل يختلف الحال فيها باختلاف الموارد فقد يقدّم جانب المفسدة على جانب المنفعة ، وقد يقدم جانب المنفعة على جانب المفسدة ، وهكذا.

أضف إلى ذلك : أنّ هذه القاعدة على فرض تماميتها وكون الأولوية فيها

١١٥

أولوية قطعية لا ظنّية ، فهي لا صلة لها بالأحكام الشرعية أصلاً ، وذلك لوجهين :

الأوّل : أنّ المصلحة ليست من سنخ المنفعة ولا المفسدة من سنخ المضرة غالباً ، والظاهر أنّ هذه القاعدة إنّما تكون في دوران الأمر بين المنفعة والمضرة لا بين المصلحة والمفسدة كما لا يخفى.

وبكلمة اخرى : أنّ الأحكام الشرعية ليست تابعة للمنافع والمضار ، وإنّما هي تابعة لجهات المصالح والمفاسد في متعلقاتها ، ومن المعلوم أنّ المصلحة ليست مساوقة للمنفعة والمفسدة مساوقة للمضرة ، ومن هنا تكون في كثير من الواجبات مضرة مالية كالزكاة والخمس والحج ونحوها ، وبدنية كالجهاد وما شاكله ، كما أنّ في عدة من المحرمات منفعة مالية أو بدنية ، مع أنّ الاولى تابعة لمصالح كامنة فيها ، والثانية تابعة لمفاسد كذلك ، فاذن لا موضوع لهذه القاعدة بالاضافة إلى الأحكام الشرعية أصلاً.

الثاني : أنّ وظيفة المكلف عقلاً إنّما هي الاتيان بالواجبات والاجتناب عن المحرمات بعد ثبوت التكليف شرعاً ، وأمّا دفع المفسدة بما هي أو استيفاء المصلحة كذلك فليس بواجب لا عقلاً ولا شرعاً ، فلو علم المكلف بوجود مصلحة في فعل أو بوجود مفسدة في آخر مع عدم العلم بثبوت التكليف من قبل الشارع لا يجب عليه استيفاء الاولى ولا دفع الثانية ، وأمّا مع العلم بثبوته فالواجب عليه هو امتثال ذلك التكليف لا غيره ، فالواجب بحكم العقل على كل مكلف إنّما هو أداء الوظيفة وتحصيل الأمن من العقاب ، لا إدراك الواقع بما هو واستيفاء المصالح ودفع المفاسد.

وعلى هذا فلا يمكن ترجيح جانب الحرمة على جانب الوجوب من ناحية هذه القاعدة ، بل لا بدّ من الرجوع إلى مرجحات وقواعد اخر لتقديم أحدهما على الآخر إن كانت ، وإلاّ فيرجع إلى الاصول العملية.

١١٦

ومن الغريب ما صدر عن المحقق القمي قدس‌سره (١) في المقام حيث إنّه أجاب عن هذا الدليل بأ نّه مطلقاً ممنوع ، لأنّ في ترك الواجب أيضاً مفسدة ، فاذن لا يدور الأمر بين دفع المفسدة وجلب المنفعة ، بل يدور الأمر بين دفع هذه المفسدة وتلك.

ووجه الغرابة واضح ، ضرورة أنّه لا مفسدة في ترك الواجب كما أنّه لا مصلحة في ترك الحرام ، فالمصلحة في فعل الواجب من دون أن تكون في تركه مفسدة ، كما أنّ المفسدة في فعل الحرام من دون أن تكون في تركه مصلحة وإلاّ لكان اللازم أن ينحل كل حكم إلى حكمين أحدهما متعلق بالفعل والآخر متعلق بالترك ، ولازم هذا أن يستحق عقابين عند ترك الواجب أو فعل الحرام ، أحدهما على ترك الواجب والآخر على فعل الحرام ، لفرض أنّ ترك الواجب محرّم ولا نظن أن يلتزم بذلك أحد حتى هو قدس‌سره كما هو واضح.

ومنها : الاستقراء ، بدعوى أنّا إذا تتبعنا موارد دوران الأمر بين الوجوب والحرمة في المسائل الشرعية واستقرأناها ، نجد أنّ الشارع قدّم جانب الحرمة على جانب الوجوب ، فمن جملة تلك الموارد حكم الشارع بترك العبادة أيام الاستظهار ، فانّ أمر المرأة في هذه الأيام يدور بين وجوب الصلاة عليها وحرمتها ، ولكنّ الشارع غلّب جانب الحرمة على جانب الوجوب وأمر بترك الصلاة فيها. ومنها : الوضوء أو الغسل بماءين مشتبهين ، فانّ الأمر يدور حينئذ بين حرمة الوضوء أو الغسل منهما ووجوبه ، ولكنّ الشارع قدم جانب الحرمة على جانب الوجوب وأمر باهراق الماءين والتيمم للصلاة. ومنها : غير ذلك. ومن مجموع ذلك نستكشف أن تقديم جانب الحرمة أمر مطرد في كل مورد دار

__________________

(١) قوانين الاصول ١ : ١٥٣.

١١٧

الأمر بينهما بلا اختصاص بمسألة دون اخرى وبباب دون آخر.

ويرد عليه أوّلاً : أنّ الاستقراء لا يثبت بهذا المقدار حتى الاستقراء الناقص فضلاً عن التام ، فانّ الاستقراء الناقص عبارة عن تتبع أكثر الجزئيات والأفراد وتفحصها ليفيد الظن بثبوت كبرى كلية ، في قبال الاستقراء التام الذي هو عبارة عن تتبع تمام الأفراد ، ولذلك يفيد القطع بثبوت كبرى كلية ، ومن الواضح جداً أنّ الاستقراء الناقص لا يثبت بهذين الموردين.

وثانياً : أنّ الأمر في هذين الموردين أيضاً ليس كذلك ، وأنّ الحكم بعدم الجواز فيهما ليس من ناحية هذه القاعدة ، بيان ذلك :

أمّا في مورد الاستظهار ، فلأنّ الروايات الواردة فيه في باب الحيض والنفاس مختلفة غاية الاختلاف ، ولأجل اختلاف تلك الروايات والنصوص في المسألة اختلفت الأقوال فيها ، فذهب بعضهم كالمحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) والسيد والعلاّمة الطباطبائي قدس‌سرهم في العروة (٢) إلى استحباب الاستظهار وعدم وجوبه. وجعل المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره اختلاف النصوص قرينة على الاستحباب وعدم اهتمام الشارع بالاستظهار ، كما جعل قدس‌سره اختلاف النصوص قرينة على عدم الالزام في غير هذا المورد أيضاً ، منها : مسألة الكر. وعلى الجملة : فهذا من الأصل المسلّم عنده قدس‌سره ففي كل مسألة كانت النصوص مختلفة غاية الاختلاف كهذه المسألة مثلاً ولم تكن قرينة من الخارج على أنّ الحكم في المسألة إلزامي جعل الاختلاف قرينة على عدم كون الحكم فيها إلزامياً.

__________________

(١) كتاب في الدماء الثلاثة : ٣٩.

(٢) العروة الوثقى ١ : ٢١٩ المسألة ٢٣ [٧٢٣].

١١٨

واختار جماعة وجوبه في يوم واحد والتخيير في بقية الأيام. وهذا هو الصحيح في نظرنا ، وأ نّه مقتضى الجمع العرفي بين هذه الروايات ، وقد ذكرنا نظير ذلك في مسألة التسبيحات الأربعة وقلنا في تلك المسألة أيضاً بوجوب واحدة منها والتخيير في التسبيحتين الأخيرتين ، بمعنى أنّ للمكلف أن يقتصر على الواحدة وله أن يأتي بالبقية أيضاً وهو الأفضل. وذهب جماعة إلى وجوبه ثلاثة أيام. وذهب جماعة اخرى إلى وجوبه عشرة أيام.

هذه هي الأقوال في المسألة ، ومن الواضح جداً أنّ شيئاً من هذه الأقوال لا يرتكز على القاعدة المزبورة ، أعني قاعدة وجوب تقديم جانب الحرمة على جانب الوجوب بالكلية.

أمّا على القول الأوّل فواضح ، لأنّ النصوص على هذا القول محمولة على الاستحباب ، أي استحباب الاستظهار لا وجوبه ، فلم يقدّم احتمال الحرمة على احتمال الوجوب.

وأمّا على القول الثاني فالأمر أيضاً كذلك ، لأنّ إيجاب الاستظهار إذا كان من جهة تقديم احتمال الحرمة على احتمال الوجوب لوجب الاستظهار إلى عشرة أيام ، ولم يختص بيوم واحد ، ضرورة أنّ احتمال الحرمة كما هو موجود في اليوم الأوّل كذلك موجود في اليوم الثاني والثالث وهكذا ، فاختصاص وجوبه بيوم واحد منها قرينة على أنّه أجنبي عن الدلالة على القاعدة المزبورة كما هو واضح.

وأمّا على القول الثالث ، فلأنّ حاله حال القول الثاني من هذه الناحية ، إذ لو كان وجوب الاستظهار من جهة تلك القاعدة لوجب إلى عشرة أيام ، لبقاء احتمال الحرمة بعد ثلاثة أيام أيضاً.

١١٩

وأمّا على القول الرابع ، فقد يتوهم أنّ الروايات على هذا القول تدل على تلك القاعدة ، ولكنّه من المعلوم أنّه توهم خاطئ جداً ، وذلك لأنّ مجرد مطابقة الروايات للقاعدة لاتكشف عن ثبوت القاعدة وابتناء وجوب الاستظهار عليها ، فلعله بملاك آخر مثل قاعدة الامكان ونحوها. على أنّ هذا القول ضعيف في نفسه فكيف يمكن أن يستشهد به على ثبوت قاعدة كلية.

أضف إلى ذلك : أنّ الاستشهاد يتوقف على القول بحرمة العبادة على الحائض والنفساء ذاتاً ، إذ لو كانت الحرمة تشريعية لم يكن الأمر في أيام الاستظهار مردداً بين الحرمة والوجوب ، فايجاب الاستظهار في تلك الأيام يكون أجنبياً عن القاعدة المزبورة بالكلية.

وأمّا المورد الثاني : وهو عدم جواز الوضوء بماءين مشتبهين فقد ظهر حاله مما تقدم ، فانّ عدم جواز الوضوء بهما ليس من ناحية ترجيح جانب الحرمة على جانب الوجوب ، بل هو من ناحية النص الخاص (١) الذي ورد فيه الأمر باهراقهما والتيمم ، وإلاّ فمقتضى القاعدة هو الاحتياط بتكرار الصلاة ، إذ بذلك يحرز المكلف أنّ إحدى صلاتيه وقعت مع الطهارة المائية ، ومن المعلوم أنّه مع التمكن من ذلك لا تصل النوبة إلى التيمم على تفصيل ذكرناه في بحث الفقه (٢).

أضف إلى ذلك : أنّ حرمة التوضؤ منهما ليست حرمة ذاتية بالضرورة ، بل هي حرمة تشريعية وهي خارجة عن موضوع القاعدة ، ضرورة أنّ موضوعها هو دوران الأمر بين الحرمة الذاتية والوجوب ، وأمّا الحرمة التشريعية فهي

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٤٥ / أبواب التيمم ب ٤ ح ١.

(٢) شرح العروة ٢ : ٣٥٦ المسألة ٧ [١٥٥].

١٢٠