مناهج المفسرين

الدكتور منيع عبد الحليم محمود

مناهج المفسرين

المؤلف:

الدكتور منيع عبد الحليم محمود


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب المصري
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٢

( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ، وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً ). ( الفرقان : ٧٤ )

قرّة العين : هى السرور والفرح ، مصدر من قرت عينك قرة ، اى فرحت وسررت ، لأن الفرح يجعل العين قارة ، او لأن دمعة العين من السرور باردة.

والامام : الحجة المقتدى به ووحدت لانها مصدر ، ولا تكاد العرب تجمع المصادر ووحد الامام لانه ذهب به مذهب الاسم لا الصفة ، واذا ذهب به هذا المذهب وحد ، ويكون معناه : حجة ، تقول : هم امام ـ اى حجة ، كما تقول : هم بينة ، وقال بعضهم : ان الامام جمع آم ، كصيام فى جمع صائم.

بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأمة جاهلة ، على اشد حالة بعث عليها نبى فى فترة ، ما يرون دينا افضل من عبادة الاوثان ، فجاء بفرقان فرق بين الحق والباطل ، وفرق بين الوالد وولده ، حتى كان الرجل يرى ولده ووالديه واخاه كافرا وقد فتح الله قلبه للاسلام ، وهو يعلم انه ان مات قريب له من هؤلاء دخل النار ، فلا تقر عينه وهو يعلم ان حبيبه فى النار ، لذلك كان المسلمون يطلبون من الله ان يهب لهم من ذرياتهم وزوجاتهم من يطيع الله ويعبده لتقر عينهم بهذا ، ومن الطبيعى فى النفوس ان يحب الشخص لذريته واهله ما يحب لنفسه ، وان يتمنى الا تكون البيئة التى هو فيها تجعل العيش مريرا ، وتذهب بالفكر وتقسمه ، فلا يستقيم عيش ، ولا تتجه النفس اتجاها كاملا الى الخيرات والعبادات والنفع العام.

من صفات عباد الرحمن ان يطلبوا ذرية صالحة مؤمنة وازواجا مؤمنات ، ومن صفاتهم ان يطلبوا من الله زوجات عاليات فى التقوى والطاعة يشار اليها :

( أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً

٣٤١

خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً ) ( سورة الفرقان : ٧٥ و ٧٦ )

الغرفة : العلية ، وكل بناء عال فهو غرفة ، وقد ذكرت الغرفة واحدة والمراد الغرفات ، لدلالة الواحدة على الجنس بدليل قوله سبحانه :

( وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ ) ( سورة سبأ : ٨٧ )

وقوله : ( لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ )

( سورة الزمر : ٢٠ )

والمراد بها الدرجات العالية فى الجنة والتحية : الدعاء بالتعمير ، والسلام : الدعاء بالسلامة.

بين الله سبحانه انه اعد لعباده الموصوفين بالصفات السابقة جميعها جزاء على صالح اعمالهم هو الدرجات العالية فى الجنة ، وفيها تتلقاهم الملائكة بالتحية والسلام فيدعون لهم بالتعمير والخلود ، ويدعون لهم بالسلامة ، هذه الدرجات استحقها هؤلاء بصبرهم على الطاعات وعلى ترك الشهوات ، وعلى اذى الكفار ومجاهدتهم ، وعلى الفقر والمصائب ، وغير ذلك مما يعرض للمؤمن من المكروه ، وهذا دليل على ان المؤمنين يستحقون الجنة باعمالهم ، وهذا الاستحقاق بوعد الله سبحانه ، وهو صاحب الفضل فى وعد عباده بالجنة وبهذا الوعد استحقت الجنة.

يقول تعالى : ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ) ( سورة الحديد : ١١ )

القرض : ما يدفع من المال على شرط رده ، واذا وصف الله بالكرم فمعناه احسانه وانعامه الظاهران.

واذا وصف الانسان بالكرم فهو اسم للافعال والاخلاق المحمودة التى تظهر عليه ، ولا يقال هو كريم حتى يظهر ذلك منه ، وكل شىء شرف فى بابه يقال له كريم.

٣٤٢

سمى الله سبحانه قرضا ما ينفق فى سبيله وفى وجوه الخير ابتغاء مرضاته.

والقرض ـ كما سبق بيانه ـ ما يعطى على شرط الرد ، ففي ذلك دلالة على انه سيرده الى المنفق ، ثم ذكر صراحة انه سيعطيه اجرا كريما وانه سيضاعف هذا الاجر الكريم ، ولا يوجد ما هو ابلغ فى الحث على الصدقة والاحسان من هذا التعبير يقول الله سبحانه : هذه يدى بسطتها اريد قرضا سارده وسأجزى عليه لكل كريما مضاعفا ، فمن يسمع هذا ولا يبادر الى الاجابة ويتمم عقد القرض مع الله؟

فالجملة مسوقة مساق التمثيل ، واثرها ظاهر فى النفس ، وهى ابلغ من كل عبارة تقال فى الحث على الصدقة ، وقد ذكروا ان يهوديا قال عند نزول هذه الآية : ما استقرض اله محمد حتى افتقر ، فلطمه ابو بكر ، فشكا اليهودى الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لأبي بكر : ما اردت بهذا؟ قال : ما ملكت نفسى ان لطمته ، ولم يقلها اليهودى الا استهزاء وحمقا وجهلا.

وقد ذكروا فى شروط القرض الحسن وجوها :

ان يكون حلالا ، فان الله طيب لا يقبل الا الطيب ، وان لا يكون رديئا وان يعطى للاحوج فالاحوج ، وان يكتم الصدقة ولا يتبعها المن والاذى ، وان يقصد بها وجه الله دون الرياء ، وان لا يستكثرها وان كانت كثيرة ، وان تكون من المال المحجوب عنده وان لا يرى لنفسه عزة الغنى ويرى للفقير ذلة الفقر ، وان يكون الانفاق فى حال رجاء الحياة وطول الامل.

وقد اكثر الله سبحانه فى القرآن من الحث على الصدقات وباساليب مختلفة ، وفى سورة البقرة طائفة من الآيات نورد بعضها هنا تتمة لموضوع الصدقة.

( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا

٣٤٣

هُمْ يَحْزَنُونَ ، قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ).

( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ ، فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ ، وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ).

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ، وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ).

( وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ).

( سورة البقرة : ٢٦٢ ، ٢٦٣ ، ٢٦٥ ، ٢٦٧ ، ٢٧١ ، ٢٧٢ )

ففي هذه الآيات ترغيب فى النفقة ، وفيها شروط القرض الحسن التى ، مر ذكرها وهناك احاديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرغبة فى الصدقة ، وكل هذا يدل على روح الاسلام وانه وجه للتعاون والتناصر ، تحقيقا للوحدة التى يبتغيها ، وتزهيدا فى المال اذا وجدت مصارفه ، وبان موضوع الحق فيه.

وهذا يدل على قيمة المال ، وعلى ان له قدرا عظيما ، فإنه وسيلة الى تحصيل الاجر العظيم من الله ، ووسيلة الى ان يعقد المؤمن مع الله قروضا ،

٣٤٤

وهو وسيلة فى اعزاز البلاد واعزاز الدين اذا ما تعرض المسلم للجهاد ، فلا يجوز التزهيد فى المال على معنى عدم طلبه وعدم جمعه وانما يكون التزهيد فيه على معنى عدم جمعه وحبه الحب الموجب للادخار وكيف يزهد فى المال مع ان الله وعد منفقه بالاجر العظيم ، وبالامن والمسرة حيث قال : ( فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ).

استمر السلف الصالح يفهمون هذه الآيات ويعملون بها ، فصانوا بلادهم وانفسهم وايدوا الوحدة الاسلامية والتضامن بين افراد الامة وقويت الروابط بينهم ، فلم يحقد الفقراء على الاغنياء ولم ينظر الاغنياء الى الفقراء نظر المدل الفخور.

ثم نسى ذلك وقست القلوب ، فظلم الناس فى جمع المال ، وظلموا فى ادخاره ، ولا سبيل الا بالرجوع الى الله وكتابه ، ولا فلاح الا بالايمان والتقوى والانفاق فى سبيل الله.

٣٤٥
٣٤٦

تفسير الشيخ محمود شلتوت

كان الشيخ شلتوت رحمه‌الله من الشخصيات التى لا تهدأ : كان حركة وبحثا وانتاجا وجدلا هنا وهناك.

وكان لا يحب الروتين فى عمله ، وكان يتسم دائما بسمة التجديد ، والناس حينما يألفون شيئا يعتقدون أنه حقيقة ويستكينون إليه ، ويرضون به ، فاذا ما انسان خطأ بعض مفاهيمهم ، وقلب بعض الأوضاع التى يسيرون عليها ، فأنهم لا يسكتون عنه وإنما يشتبكون معه فى جدال ونقاش ، قد يكون أحيانا حادا عنيفا ، كذلك كان الامر مع الشيخ شلتوت وقد اشتبك فى معارك علمية كثيرة وهاجم ودافع وكان له أنصار وكان له خصوم.

ولم تكن حياته بسبب ذلك هادئة رخاء ، فقد فصل فى يوم من الأيام من الأزهر لأنه مجدد ومخرج ، وثائر على الأوضاع المعروفة ، واستمر فصله مدة طويلة ، ثم اعيد إلى الازهر من جديد فلم يترك منهجه فى السلوك.

وهو أول من اقترح على الاذاعة أحاديث الدين الصباحية ، ورأى القائمون على الاذاعة وجاهة الاقتراح فعهدوا إليه بالامر فترة طويلة من الزمن ، وكان صوته يجلجل كل صباح متسما بالحيوية القوية ، والاسلوب الطيب ، والفكرة الجديرة بأن تسمع.

واشترك مع غيره من علماء الدين النابهين فى التقديم للقرآن الكريم حينما يتلى فى الاذاعة وكان هذا تجديدا أيضا فى برامج الاذاعة وكان هذا التقديم متتابعا متتاليا يقدم الربع من القرآن الكريم ، ثم يقرأ القارئ فيكون المستمع على علم بمضمون ما يسمع من التلاوة.

وكان مركز الشيخ شلتوت يقوى ويتركز يوما فيوما حتى وصل به الامر إلى مشيخة الأزهر.

٣٤٧

وولد الامام الاكبر الشيخ محمود شلتوت شيخ الازهر الاسبق فى قرية منية بنى منصور بمحافظة البحيرة سنة ١٨٩٣ ودرس العلم بمعهد الاسكندرية الدينى .. واستمر فى طريق التعليم مرحلة بعد مرحلة حتى نال شهادة العالمية النظامية سنة ١٩١٨.

هذا عن تعليمه :

أما عن تدرجه فى الاعمال فقد عمل مدرسا بمعهد الاسكندرية ، ثم انتقل إلى التدريس بالقسم العالى .. وعمل بعض الفترات بالمحاماة ، ثم نال عضوية جماعة كبار العلماء سنة ١٩٤٢ وتدرج فى مناصب الازهر حتى اختير شيخا للازهر سنة ١٩٥٨.

وكان له نشاط بارز فى البحوث الدينية والمؤتمرات العلمية ومجال التأليف الذى كان أنضج ثمراته تفسير القرآن الكريم.

ويمثل تفسير الشيخ شلتوت الدراسة العلمية الموضوعية التى تجعل القرآن اصلا للبحث وأساسا للتشريع ، فيجمع إلى الآية التى يقصد تفسيرها ما يناسبها من آيات وما يرتبط بها من موضوعات العلوم ، ثم يعالج موضوع الآية معالجة عامة شاملة تبرز موقف القرآن بل الدين عامة من هذا الموضوع.

ويمتاز هذا التفسير بوضوح الفكرة وسهولة الاسلوب وجمال التنظيم.

وقد اعتبره مؤلفه مظهرا من مظاهر نشاط المسلمين فى خدمة القرآن الكريم وقد تحدث فى مقدمته عن جهود المسلمين فى خدمة القرآن فقال :

« لا نكاد نعرف علما من العلوم التى اشتغل بها المسلمون فى تاريخهم الطويل إلا كان الباعث عليه هو خدمة القرآن الكريم من ناحية ذلك العلم :

فالنحو الذى يقوم اللسان ويعصمه من الخطأ أريد به خدمة النطق الصحيح للقرآن وعلوم البلاغة التى تبرز خصائص اللغة العربية وجمالها أريد بها بيان نواحى الاعجاز فى القرآن والكشف عن اسراره الادبية وتتبع مفردات

٣٤٨

اللغة والتماس شواردها وشواهدها وضبط الفاظها وتحديد معانيها ، أريد بها صيانة الفاظ القرآن ومعانيه أن تعدوا عليها عوامل التحريف والغموض.

والتجويد ، والقراءات لضبط اداء القرآن ، وحفظ لهجاته.

والتفسير لبيان معانيه والكشف عن مراميه.

والفقه لاستنباط احكامه.

والأصول لبيان قواعد تشريعه العام وطريقة الاستنباط منه.

وعلم الكلام لبيان ما جاء به من العقائد واسلوبه فى الاستدلال عليها.

وقل مثل ذلك فى التاريخ الذى يستدل به المسلمون تحقيقا لما أوحى به الكتاب الكريم فى مثل قوله :

( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ) ( يوسف : ٣ )

( وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ ) ( هود : ١٢٠ )

( وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ ) ( القمر : ٤ )

وقل مثل هذا أيضا فى علوم تقويم البلدان وتخطيط الاقاليم الذى يوحى به مثل قوله تعالى :

( فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ) ( آل عمران : ١٣٧ )

( فَامْشُوا فِي مَناكِبِها ) ( الملك : ١٥ )

وفى علوم الكائنات التى يوحى بها مثل قوله :

( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ )

( الانبياء : ٣٠ )

٣٤٩

( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ ، يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ ) ( النور : ٤٣ )

وهكذا علوم الفلك والنجوم والطب ، وعلوم الحيوان والنبات وغير ذلك من علوم الانسان لا يخلو علم منها أن يكون الاشتغال به فى نظر من اشتغل به من المسلمين مقصودا به خدمة القرآن ، أو تحقيق إيحاء أوحى به القرآن.

حتى الشعر انما اشتغلوا به ترقية لأذواقهم ، وتربية لملكاتهم ، واعدادا لها كى تفهم القرآن وتدرك جمال القرآن.

وحتى العروض من أسباب عنايتهم به أنه وسيلة لمعرفة بطلان قول المشركين أن محمدا شاعر وأن ما جاء به شعر.

وانتقل الشيخ شلتوت إلى بيان مناهج المفسرين والوان تفسيرهم ومنها ما يغلب عليه بيان نواحى البلاغة والاعجاز.

ومنها ما يهتم بالفقه والتشريع وبيان أصول الاحكام .. وهكذا.

ثم علق على ذلك بقوله :

لهذا كله اعتقد أنى لا أتجاوز حد القصد والاعتدال اذا قلت : أنه لم يظفر كتاب من الكتب سماويا كان أو أرضيا فى آية أمة من الأمم قديمها وحديثها بمثل ما ظفر به القرآن على أيدى المسلمين ومن شارك فى علوم المسلمين .. ولعل هذا يفسر لنا جانبا من الرعاية الالهية لهذا الكتاب الكريم الذى تكفل الله بحفظه وتخليده فى قوله :

٣٥٠

« ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) ».

فما كان الحفظ والتخليد بمجرد بقاء الفاظه وكلماته مكتوبة فى المصاحف مقروءة بالألسنة متعبدا بها فى المساجد والمحاريب ، وإنما الحفظ والخلود بهذه العظمة التى شغلت الناس وملأت الدنيا ، وكانت مثارا لأكبر حركة فكرية اجتماعية عرفها البشر.

ولم يقتصر الشيخ شلتوت على عرض الجهود ، وكشف مظاهر خدمة المسلمين للقرآن بل نبه إلى أشياء ينبغى تنزيه القرآن عنها ، فقال :

وإذا كان المسلمون قد تلقوا كتاب الله بهذه العناية ، واشتغلوا به على هذا النحو الذى افادت منه العلوم والفنون ، فان هناك مع الأسف الشديد ناحيتين كان من الخير أن يظل القرآن بعيدا عنهما ، احتفاظا بقدسيته وجلاله ، هاتان الناحيتان هما :

ناحية استخدام آيات القرآن لتأييد الفرق والخلافات المذهبية.

وناحية استنباط العلوم الكونية والمعارف النظرية الحديثة منه.

ويهمنا هنا تفصيل الناحية الثانية وتتمثل فيما يرى الشيخ شلتوت فى طائفة المثقفين الذين أخذوا يستندون إلى ثقافتهم الحديثة ويقيسون آيات القرآن على مقتضاها.

ومن الامثلة على ذلك أن يفسر بعض الناظرين فى القرآن الكريم قوله تعالى : ـ

( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ ، يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ ) ( الدخان : ١٠ ، ١١ )

بما ظهر فى هذا العصر من الغازات السامة والغازات الخانقة التى انتجها العقل البشرى فيما أنتج من وسائل التخريب والتدمير ، يفسرون الآية بهذا ويغفلون عن قوله تعالى :

٣٥١

( رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ، أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ، ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ ، وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ ).

( الدخان : ١٢ ، ١٣ ، ١٤ )

ثم يقول : ولسنا نستبعد ـ اذا راجت عند الناس فى يوم ما نظرية داروين مثلا ـ أن يأتى إلينا مفسر من هؤلاء المفسرين الحديثين فيقول :

« ان نظرية داروين قد قال بها القرآن منذ مئات السنين »

وهذه النظرة للقرآن خاطئة من غير شك ، لأن الله لم ينزل القرآن ليكون كتابا يتحدث فيه إلى الناس عن نظريات العلوم ، ودقائق الفنون ، وأنواع المعارف.

وهى خاطئة من غير شك لأنها تحمل أصحابها والمغرمين بها على تأويل القرآن تأويلا متكلفا يتنافى مع الاعجاز ولا يسيغه الذوق السليم.

وهى خاطئة لأنها تعرض القرآن للدوران مع مسائل العلوم فى كل زمان ومكان والعلوم لا تعرف الثبات ولا القرار ولا الرأى الاخير ، فقد يصح اليوم فى نظر العلم ما يصبح غدا من الخرافات.

فلو طبقنا القرآن على هذه المسائل العلمية المتقلبة لعرضناه للتقلب معها وتحمل تبعات الخطأ فيها ولا وقفنا انفسنا بذلك موقفا حرجا فى الدفاع عنه.

وحسبنا أن القرآن ولم يصادم ـ ولن يصادم ـ حقيقة من حقائق العلوم تطمئن إليها العقول ولا يتأتى أن ننقل نموذجا كاملا من هذا التفسير لاعتماده على الناحية الموضوعية واسهابه فى الكلام عما يتعرض له من آيات.

وعن قوله تعالى : ( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ) ( النساء : ١١٤ )

٣٥٢

يشير إلى أن الاعمال وخاصة ما ذكر فى الآية يكون لصاحبها الاجر العظيم اذا فعلها خالصة بها نيته مبتغيا بها مرضاة ربه.

هذا هو الاساس فى فهم الفضيلة : ترسم أوامر الله وتنفيذها ابتغاء مرضاة الله ومن هنا جهد المؤمنون بالله فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ، وأهليهم وعشيرتهم ، وكان ذلك فى نظرهم الحياة الخالدة ، والغنى الدائم والسعادة الابدية.

وهناك فريق من الناس يرون أن اساس الفضيلة هو تلبية الضمير فيما يعتقدون خيّرا للمجتمع ويرون ان هذا كاف لسعادة الانسان ومد الضمير كفيل بتقدير الخير ومعرفته دون الرجوع إلى الله ، وما يرسم لعباده من شرع وخلق ، وأنهم بهذا ليسوا فى حاجة إلى الوحى وان الوحى إذا كان قائما يحتاج إليه لإرشاد من ليسوا أرباب الضمائر الحية المستيقظة.

وقد فات هؤلاء أن فهم ما ينفع الهيئة الاجتماعية وما لا ينفعها كثيرا ما تختلف فيه الانظار والآراء وقلما تجد فى تاريخ هذه النظرية قديمة وحديثة ـ اتفاقا على نفع جزئية معينة أو ضرر جزئية معينة وفاتهم أيضا أن النظر الواحد أو الضمير الواحد كما يعبرون كثيرا ما يتغير فى معرفة الخير والفضيلة.

وقد عدل كثير من الفلاسفة عن آرائهم الاولى واستحدثوا آراء أخرى جديدة .. ولهذا تعترك فى عصرنا الحاضر المذاهب الاجتماعية ، من ديمقراطية وفاشية ونازية وشيوعية واشتراكية بل يتنازع أرباب المذهب الواحد ، بل يتناقض الفرد الواحد مع نفسه ورأيه ، فى وقتين مختلفين وكل هؤلاء يتحاكمون إلى الضمير أو يتحاكمون إلى الادراك البشرى وفى معرفة الفضيلة وهو تحاكم ـ كما نرى ـ إلى أساس غير ثابت ولا منضبط ولا مأمون العاقبة.

وهو فى الوقت ذاته سير بالنفس وبالعالم فى طريق محفوفة بالمخاطر تهدد العالم فى امنه واستقراره وتشعل فيما بين جوانبه نار الحروب والتدمير.

٣٥٣

ولا سبيل إلى الاستقرار فى هذا العالم ، وسلامته من أثر الآراء المشتجرة بالا بالرجوع إلى أساس ثابت منضبط ، صادر عن عليم بطيات النفوس ، ونزعات البشرية ، يبصرهم ذلك الاساس بالخير والفضيلة التى ارتسمت فى لوح الوجود الحق الذى لا يكتبه إلا خالق الوجود ومدبر الكون على ما يعلم فيه من سنن وشئون ، وليس ذلك المبصر إلا وحى العليم الحكيم :

( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ).

( الإسراء : ٩ )

٣٥٤

تاج التفاسير لكلام الملك الكبير

للامام محمد عثمان الميرغنى

انه تفسير فى جزءين ، كل منهما يقرب من ستمائة صحيفة ، وهو مؤلف على سبيل الايجاز على غرار تفسير الامامين الجليلين : جلال الدين المحلى ، وجلال الدين السيوطى.

أما مؤلف هذا التفسير الجليل : فهو امام من كبار الائمة فى العصر الحديث وكان له أثر كبير فى نشر الدعوة الاسلامية فى افريقيا ، وكان من أثر تبشيره أن اعتنق الاسلام على يديه عشرات الألوف من الوثنيين.

ولقد اتخذ الاسلوب الموفق للدعوة وذلك أنه كان صوفيا قد تجرد من الطمع والشره واخذ الاجر على دعوته.

كان متواضعا ، رفيقا ، زاهدا ، عابدا ، ذاكرا صاحب اوراد وحضرات ، فكان بذلك يجذب العدد الكثير إلى الاسلام.

ولد رضى الله عنه فى الطائف فى سنة ١٣٠٨ هجرية ، وفقد والديه صغيرا فكفله عمه ، وأخذ الامام فى الدراسة والتعليم ، فحفظ القرآن وتعلم العلم وأصبح فى مكانة علمية مرموقة ودفعته نزعته الدينية وشعوره الروحى الفطرى أن يتلمس الطريق إلى الله على مذهب التصوف وبعد دراسة علمية عند هؤلاء وأولئك استقر به المقام عند الشيخ أحمد بن ادريس الفاسى الذى كان يتخذ من مكة مقاما ، وهو الذى وجهه إلى الرحلة التبشيرية.

سافر الامام إلى مصر والحبشة واريتريا ، وتوقف فى اريتريا فترة من الزمن هاديا مرشدا ، وقد كان يسكن جبال اريتريا كثير من القبائل الوثنية فانغمس فيهم ، ولما رأوا النور فيه والاشراق تابعوه وأخذوا عليه العهد ، ولما اطمأن إلى خلفائه فى اريتريا ذهب إلى صعيد مصر ، ومكث فترة سافر بعدها إلى السودان

٣٥٥

متنقلا بين سهوله وجباله شرقا وغربا ، ولما وصل كردفان أسس فيها مسجدا كعادته فى كل مكان يطيل فيه الاقامة السنية التى تسمى الآن الختمية. أما مدينة سواكن فإنه أسس بها ثلاثة مساجد.

ومن الطريف أنه أسس فى هذه المدينة مدرسة لتعليم المرأة فكانت أول مدرسة أسست للمرأة فى السودان ، ومن هذه المسألة تبين افقه الواسع وفكره الثاقب.

وفى أثناء هذه الرحلات الكثيرة كان يؤلف فى المسائل التى تعرض له أثناء سياحته.

ان مشاكل المجتمعات كثيرة ، ولا بد لها من حل فكان الامام كلما عرضت له مشكلة ألف فيها حتى لا تكون فتواه كلاما ينسى على مر الزمن.

ومن مؤلفاته ، وربما كان اهمها كتابه « تاج التفاسير » الفه فى الربع الثانى من القرن الثانى عشر الهجرى ، يقول بعض من كتبوا عنه :

« وقد امتاز تفسيره بوضوح الاسلوب والخلوص من مصطلحات العلوم والفنون ، فهو يتناول الآيات الكريمة ويفسرها تفسيرا يقوم على الدلالات اللغوية وربطها بما ترمى إليه من المعانى الشرعية والروحية فى أسلوب مبين ، وعبارة موجزة واضحة لا لبس فيها ولا غموض.

وقد خلا هذا الكتاب من الاسرائيليات ومن الاسهاب فى القصص التاريخى ، والتزم بما جاء فى أوائل السور المرموزة من التفسير الاشارى ، وان كان لا يتعرض اليه ـ فيما عدا ذلك ـ إلا قليلا مما لا يتعارض مع ما يرمى اليه النظام الحكيم ـ هذا مع العناية بالقراءات فى غير اسهاب ولا تطويل ، بالاضافة إلى ذكر الاحاديث النبوية الواردة فى فضائل السور.

أما المؤلف نفسه فإنه يقول فى تواضع جم :

« لقد رسخ فى الخاطر الغائر منذ سنوات مع التماس بعض الاحباب

٣٥٦

الاكابر ، والاخلاء أصحاب الخاطر العاطر ، تأليف تفسير لكلام من لا يحيط بعلوم سواه ، ولا يعلم اجمال وتفصيل ما به العلوم غير مصطفاة ، ولكن عبر كل وبحسب ما اقتبس من مشكاة بحر انواره ، فافتقيت الاثر ، واستمددت منه ومن كتب أخباره المستمدين منه فوضعت هذا التفسير واختصرته الاختصار الذى لا يفيد دونه الصغار ولا الكبار وجعلته فى عبارة سهلة يفهمها العوام والخواص ومزجه بالسنة الغراء » أ. ه.

وهاك نموذجا من تفسيره .. يقول تعالى :

( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ، قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ، لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ، ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) ( المائدة : ١١٨ ، ١١٩ )

يقول : ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ ) أى تعذب من كفر منهم ( فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ ) لا شريك لك فيهم ( وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ ) أى تغفر لمن آمن منهم ، ( فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ ) القادر على الثواب والعقاب ( الْحَكِيمُ ) فى تنزيل كل أحد منزله.

وفى الصحيحين : عن ابن عباس رضى الله عنهما قال : قام فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بموعظة فقال :

« يا أيها الناس انكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا ، كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا انا كنا فاعلين ، ألا وان أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم الا وانه يجاء يوم القيامة برجال من أمتى فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول : يا رب أصحابى فيقال : انك لا تدرى ما أحدثوا بعدك؟ فأقول كما قال العبد الصالح : « وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شىء شهيد ، ان تعذبهم فإنهم عبادك ، وان

٣٥٧

تغفر لهم فانك أنت العزيز الحكيم » فيقال لى : « انهم لم يزالوا مرتدين على اعقابهم منذ فارقتهم ».

وفى الحديث أنه قام صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة كاملة بآية ، والآية : ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ).

قال الله هذا يوم ، وقرئ يوم ، أى يوم القيامة « ينفع الصادقين » الذين صدقوا فى معاملة الله « صدقهم ».

وفى الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : « عليكم بالصدق ، فإنه باب من أبواب الجنة وإياكم والكذب فإنه باب من أبواب النار ».

« لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار » محتوية على أشرف النعم بفضل الغفار « خالدين » فيها أبدا « لا يخرجون منها » رضى الله عنهم « وأحلهم بحبوحة رضاه » ورضوا عنه حيث أولاهم نعماه ودخول حماه ، وشهود محياه.

( ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) وكيف لا وقد احتوى على النظر لوجه الله الكريم » أ. ه.

ونموذج آخر من تفسيره : يقول الله تعالى :

( إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ، ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ).

( فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ).

٣٥٨

( وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ ، وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ ، انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ). ( الأنعام : ٩٧ ، ٩٨ ، ٩٩ )

يقول :

« إن الله فالق » شاق « الحب » بالنبات « والنوى » من النخل « يخرج الحى كالإنسان والطير » من الميت « كالنطفة والبيضة » ومخرج الميت « كالنطفة والبيضة » من الحى « من الإنسان والطير » ذلكم الله « هو القادر على ذلك » فانى « فكيف » « تؤفكون » تصرفون عن توحيده ، مع هذه الدلائل الواضحة ـ « فالق الإصباح » شاق عمود الصبح عن ظلمة الليل ـ وقرئ الأصباح بفتح الهمزة ، فالق بالنصف « وجعل الليل سكنا » يسكن فيه الخلق من التعب ، لأن فيه النوم ، والنوم به الراحة ، وقرئ .. وجعل الشمس والقمر وقرئ بالجر ، وقرئ بالرفع « حسبانا » تحسب بهما الأوقات « ذلك » تسييرهما بالحساب « تقدير العزيز » مقدرة لهما على السير المطلوب منهما العليم بكيفية سيرهما « وهو الذى جعل » خلق « لكم النجوم » رحمة منه لتهتدوا بها « فى سيركم » فى ظلمات البر والبحر وتعرفوا بها الجهات « قد فصلنا » بينّا الآيات الدالات على كمال قدرتنا « لقوم يعلمون » وفى ذلك يتفكرون ، وفى الخبر قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « تعلموا من النجوم ما تهتدون به فى ظلمات البر والبحر ، ثم انتهوا » أخرجه ابن مردويه فى تفسيره « وهو الذى انشأكم » خلقكم « من نفس واحدة » أى آدم « فمستقر » فى الاصلاب ومستودع فى الارحام ، « قد فصلنا الآيات » بيناها « لقوم يفقهون » وعن الله يفهمون « وهو الذى أنزل من السماء » لإغائة عباده « ماء » مطرا « فأخرجنا » لرزق عباده « به » الضمير للماء « نبات » نبت كل شىء من أصناف المنبت « فأخرجنا منه » أى من النبات « خضرا »

٣٥٩

شيئا أخضر « نخرج منه » الضمير للخضر « حبا متراكبا » سنابل « ومن النخل » من طلعها وهو أول ما يخرج منها « قنوان » عراجي « دانية » قريب بعضها من بعض « وجنات » بساتين « من أعناب » أي من عنب وهو من أشرف الفواكه وأحسنها وألطفها ، وفيه يقول الله لموسى فى مكالمته : « يا موسى لو كنت آكلا لأكلت الخبز بالعنب » وفى الجاف منه يقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « عليكم بالزبيب فإنه يكشف المرة ويذهب بالبلغم ، ويشد العصب ، ويذهب العياء ، ويحسن الخلق ، ويطيب النفس ويذهب الهم » رواه أبو نعيم.

« والزيتون » هو شجر أيضا شريف فيه بركة كثيرة « والرمان » وهو من ألطف الفواكه وأحسنها « مشتبها وغير متشابه » فى الألوان والطعوم « انظروا » معتبرين « إلى ثمره إذا أثمر » كيف يثمر ضعيفا كأنه لا ينتفع به « وينعه » كيف يعود ضخما ينفع ويلذ « ان فى ذلكم » من الأشياء المذكورة « لآيات » تدل على كمال قدرة الحق « لقوم يؤمنون » فإن نور الإيمان هو الذى به يهتدى.

٣٦٠