مناهج المفسرين

الدكتور منيع عبد الحليم محمود

مناهج المفسرين

المؤلف:

الدكتور منيع عبد الحليم محمود


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب المصري
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٢

الإمام الألوسي وتفسيره روح المعانى

الألوسي هو العلامة المحقق شهاب الدين السيد محمود الألوسي البغدادى مفتى بغداد.

وكان مولده فى جانب الكرخ من بغداد سنة سبع ومائتين بعد الألف من الهجرة النبوية.

أخذ العلم عن العلماء الاعلام ، وعلى رأسهم والده وكان من العلماء الكبار والشيخ على السويدى ، والشيخ خ % لد النقشبندى .. وكان حرصه على العلم وما وهبه الله من قدرة على التحصيل ، وتمكن من الفهم ، وعمل على التزود من العلم من العوامل التى جعلت منه أرضا خصبة صالحة للانبات ، فأثمر علما يانعا جعل منه شيخ علماء العراق ، وصاحب التفسير الجامع الكبير.

ابتدأ النشاط العلمى الزاخر وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، ودرس فى عدة مدارس وكان حريصا على تبليغ العلم كما كان حريصا على جمعه ، فكان يشجع طلاب العلم ويواسيهم بما يملك ، ويقدم لهم ما يستطيع من وسائل الحياة ومتطلباتها ليتفرغوا للبحث والتحصيل.

وتقلد الألوسي الكثير من المناصب العلمية ، والاعمال المتصلة بالناحية الدينية فعين مفتيا للحنفية فى السنة الثامنه والأربعين بعد المائتين والألف من الهجرة المحمدية.

كما تولى قبل ذلك أوقاف المدرسة المرجانية ... وتفرغ فى شوال سنة ثلاث وستين ومائتين بعد الألف لتفسير القرآن الكريم حتى أتمه ، ثم سافر إلى القسطنطينية فى السنة السابعة والستين بعد المائتين والألف عارضا تفسيره على السلطان عبد المجيد خان ، فنال اعجابه ورضاه ..

٢٨١

تميز الألوس بسرعة الفهم ، واتساع الحافظة ، وثبات الحفظ ، حتى لقد عبر عن ذلك شاكرا فقال :

ما استودعت ذهنى شيئا فخاننى ، ولا دعوت فكرى لمعضلة إلا وأجابنى وكان جادا فى تحصيل العلم ، لا يبالى بما يصيبه فيه ، شعاره هذه البيت المشهور :

سهرى لتنقيح العلوم الذلى

من وصل غانية وطيب عناق

وخلف رحمه‌الله كثيرا من المؤلفات المفيدة فضلا عن تفسيره المشهور ..

منها حاشية على القطر فى النحو ، أكملها إلى موضع الحال ، وشرح المسلم فى المنطق والأجوبة العراقية عن الأسئلة اللاهورية ، والأجوبة العراقية على الأسئلة الإيرانية ودرة الغواص فى أوهام الخواص ، والنفحات القدسية فى المباحث الامامية والفوائد السنية فى علم آداب البحث ..

وقد توفى رحمه‌الله فى يوم الجمعة الخامس والعشرين من ذى القعدة ١٢٧٠ ه‍ ودفن مع أهله فى مقبرة الشيخ معروف الكرخى .. رحمه‌الله ونفع بعلمه ..

التفسير

قدم الألوسي لكتابه بمقدمة مهمة ، بين فيها منهجه ، وحدد فيها سبب تأليفه له ، وألمح إلى بعض مظاهر حياته ، وجوانب شخصيته فقال بعد الحمد والثناء :

أما بعد ، فيقول عيبة العيوب ، وذنوب الذنوب ، أفقر العباد إليه عز شأنه ، مدرس دار السلطنة العلية ، ومفتى بغداد المحمية ، أبو الثناء شهاب الدين السيد محمود الألوسي البغدادى عفى عنه.

٢٨٢

ان العلوم وان تباينت اصولها وغربت وشرقت فصولها ، واختلفت احوالها فهى بأسرها مهمة.

ثم بين أن اعلاها قدرا ، وأغلاها مهرا علم التفسير ، الباحث عما اراده الله سبحانه بكلامه المجيد ، الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.

ثم قال بعد ذلك :

وأنى ـ ولله تعالى المنة ـ مذ ميطت عنى التمائم ، ونيطت على رأسى العمائم لم أزل متطلبا لاستكشاف سره المكتوم ، مترقبا لارتشاف رحيقه المختوم طالما فرقت نومى لجمع شوارده ، وفارقت قومى لوصال خرائده فلو رأيتنى وأنا أصافح بالجبين صفحات الكتاب من السهر ، واطالع ـ ان أعوز الشمع يوما ـ على نور القمر ، فى كثير من ليالى الشهر ، وامثالى إذ ذاك يرفلون فى مطارف اللهو ، ويرقلون فى ميادين الزهو ويؤثرون مسرات الاشباح على لذات الارواح ، ويهبون نفائس الاوقات لنهب خصائص الشهوات ، وأنا مع حداثة سنى ، وضيق عطنى ، لا تغرينى حالهم ولا تغرينى افعالهم ، كان لبنى لبانتى ، ووصال سعدى سعادتى حتى وقفت على كثير من حقائقه ، ووفقت لحل وفير من دقائقه ، وثقبت ـ والثناء لله تعالى ـ من دره بقلم فكرى درا مثمنا ، ولا بدع فأنا من فضل الله الشهاب وأبو الثناء وقبل أن يكمل سنى العشرين جعلت اصدح به واصدع ، وشرعت أدفع كثيرا من اشكالات الأشكال وادفع ، وأتجاهر بما الهمنيه ربى مما لم أظفر به فى كتاب من دقائق التفسير ، وأعلق على ما أغلق مما لم تعلق به ظفر كل ذى ذهن خطير ولست أنا أول من من الله تعالى عليه بذلك ، ولا آخر من سلك فى هاتيك المسالك فكم وكم للزمان ولد مثلى ، وكم تفضل الفرد عز شأنه على كثير بأضعاف مثلى :

ألا أنما الأيام أبناء واحد

وهذى الليالى كلها أخوات

ألا أن رياض الأعصار أعصار ، وحياض تيك الامصار اعتراها

٢٨٣

اعتصار ، فصار العلم بالقيوق والعلماء أعز من بيض الأنوق. والفضل معلق باجنحة النسور ، وميت حى الأدب لا يرجى له نشور :

كان لم يكن بين الحجون إلى الصفا

أنيس ولم يسمر بمكة سامر

ولكن الملك المنان ـ أبقى من فضله الكثير قليلا من ذوى العرفان ، فى هذه الازمان دينهم اقتناص الشوارد ، وديدنهم افتضاض ابكار الفوائد ، يرون فيرمون ، ويقدحون فيرون ، لكل منهم مزية لا يستتر نورها ، ومرتبة لا ينتثر نورها ، طالما اقتطفت من ازهارهم ، واقتبست من انوارهم ، وكم صدر منهم أودعت علمه صدرى ، وحبر فيهم افنيت فى فوائده حبرى ، ولم أزل مدة على هذه الحال لا أعبأ بما عبا لى مما قيل أو يقال ، كتاب الله لى أفضل مؤنس ، وسميرى إذا اخلوا لكشف ظلمة الحناوس.

نعم السمير كتاب الله أن له

حلاوة هى احلى من جنى الضرب

به فنون المعانى قد جمعن فما

تفتر من عجب ألا إلى عجب

أمر ونهى وأمثال وموعظة

وحكمة أودعت فى أفصح الكتب

طائف يجتليها كل ذى بصر

وروضة يجتنيها كل ذى ادب

وكانت كثيرا ما تحدثنى فى القديم نفسى ، أن أحبس فى قفص التحرير ما اصطاده الذهن بشبكة الفكر ، أو اختطفه باز الالهام فى جو حدس.فاتعلل تارة بتشويش البال يضيق الحال ، وأخرى يفرط الملال وسعة المجال إلى أن رأيت فى بعض ليالى الجمعة من رجب الأصم سنة الألف والمائتين والاثنتين والخمسين بعد هجرة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم رؤية لا أعدها اضغاث احلام ـ ولا أحسبها خيالات أوهام : إن الله جل شأنه ـ وعظم سلطانه امرنى بطى السموات والأرض ورتق فتقهما على الطول والعرض ، فرفعت يدا إلى السماء ، وخفضت الأخرى إلى مستقر الماء ـ ثم انتبهت من نومتى وأنا مستعظم رؤيتى فجعلت افتش لها عن تعبير ، فرأيت فى بعض الكتب أنها إشارة إلى تأليف تفسير ،

٢٨٤

فرددت حينئذ على النفس تعللها القديم وشرعت مستعينا بالله تعالى العظيم.وكأنى ان شاء الله عن فريب عند اتمامه بعون عالم سرى ونجواى ، أنادى وأقول غير مبال بتشنيع جهول : هذا تأويل رؤياى ، وكان الشروع فى الليلة السادسة عشرة من شعبان المبارك من السنة المذكورة وهى السنة الرابعة والثلاثون من سنى عمرى جعلها الله تعالى بسنى لطفة ميسورة وهاك نموذجا من تفسيره : ـ

قال تعالى : ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ ـ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ).

( سورة البقرة : ١٨٨ )

( ولا تأكلوا اموالكم بينكم بالباطل ).

والمراد من ـ الأكل ما يعم الأخذ والاستيلاء ، وعبر به لأنه أهم الحوائج وبه يحصل اتلاف المال غالبا ..

والمعنى : لا يأكل بعضكم مال بعض ، فهو على حد ( وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ) سورة الحجرات : ١١ من تقسيم الجمع على الجمع ، كما فى « راكبو دوابهم » حتى يكون معناه لا يأكل واحد منكم مال نفسه ، بدليل قوله سبحانه : ( بينكم ) فإنه ـ بمعنى الواسطة ـ يقتضى أن يكون ما يضاف إليه منقسما إلى طرفين ، يكون الأكل والمال حال الأكل متوسطا بينهما ، وذلك ظاهر على المعنى المذكور ، والظرف متعلق بـ « تأكلوا » كالجار والمجرور بعده ، أو بمحذوف حال من ( الأموال ) والباء للسببية ، والمراد ـ من « الباطل » الحرام ، كالسرقة ، والغضب ، وكل ما لم يأذن بأخذه الشرع.( وتدلوا بها إلى الحكام ) عطف على تأكلوا ، فهو منهى عنه مثله ، مجزوم بما جزمه وجوز نصبه بأن مضمرة ، ومثل هذا التركيب وان كان للنهى عن الجمع إلا أنه لا ينافى أن يكون كل من الأمرين منهيا عنه.

٢٨٥

والادلاء فى الاصل إرسال الحبل فى البئر ثم استعير للتوصيل إلى الشيء أو الالقاء والباء صلة الادلاء ، وجوز أن تكون سببه ، والضمير المجرور للاموال أى لا تتوصلوا أو لا تلقوا بحكومتها والخصومة فيها إلى الحكام ، وقيل لا تلقوا بعضها إلى حكام السوء على وجه الرشوة وقرأ أبى ( ولا تدلوا ) ( لتأكلوا ) بالتحاكم والرفع إليهم.

فريقا : جملة.

من اموال الناس بالاثم : أى بسبب ما يوجب اثما كشهادة الزور واليمين الفاجرة ويحتمل أن تكون الباء للمصاحبة ، أى متلبسين بالاثم ، والجار والمجرور على الاول متعلق بتأكلوا .. وعلى الثانى حال من فاعله ، وكذلك :( وانتم تعلمون ) ومفعول العلم محذوف أى : تعلمون أنكم مبطلون.

وفيه دلالة على أن من لا يعلم أنه مبطل وحكم له الحاكم يأخذ مال يجوز له أخذه اخرج ابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير مرسلا أن عبد الله بن أشوع الحضرمى وامرؤ القيس بن عابس اختصما فى أرض ولم تكن بينه ، فحكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يحلف امرؤ القيس فهم به ، فقرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً )

( سورة آل عمران : ٧٧ )

فارتدع عن اليمين وسلم الأرض فنزلت.

واستدل بها على أن حكم القاضى لا ينقذ باطنا فلا يحل به الأخذ فى الواقع وإلى ذلك ذهب الشافعى رضى الله تعالى عنه ، وأبو يوسف محمد ، ويؤيده ما أخرجه البخارى ومسلم عن أم سلمه زوج النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قال : ـ

« إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلى ، ولعل بعضكم أن يكون الحن بحجته من بعض فأقضى له على نحو ما اسمع منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنه فإنما اقطع له قطعة من النار ».

٢٨٦

وذهب الامام أبو حنيفة رضى الله تعالى عنه إلى أن الحاكم إذا حكم بينه بعقد أو فسخ عقد مما يصح أن يبتدأ فهو نافذ ظاهرا وباطنا ويكون كعقد فداء ، وإن كان الشهود زورا كما روى أن رجلا خطب امرأة هو دونها فأبت فادعى عند على كرم الله تعالى وجهه أنه تزوجها ، وأقام شاهدين ، فقالت المرأة لم اتزوجه وطلبت عقد النكاح فقال على كرم الله تعالى وجهه :

قد زوجك الشاهدان ، وذهب فيمن ادعى حقا فى يدى وأقام بينة تقتضى أنه له وحكم بذلك الحاكم أنه لا يباح له أخذه ، وان حكم الحاكم لا يبيح له ما كان قبل محظورا عليه وحمل الحديث على ذلك ، والآية ليست نصا في مدعى مخالفيه لانهم ان أرادوا أنها دليل على عدم النفوذ فى الجملة فسلم ولا نزاع فيه ، لأن الامام الأعظم رضى الله تعالى عنه يقول بذلك ، لكن فيما سمعت والمسألة معروفة فى الفروع والأصول ولها تفصيل فى أدب القاضى فارجع إليه.

٢٨٧
٢٨٨

حاشية الإمام الصاوى على الجلالين

والجلالين هنا هما جلال الدين المحلى ، وجلال الدين السيوطى ، وقد اشتركا فى تفسير القرآن غاية فى الإيجاز ، وربما كان أوجز تفسير للقرآن.

أما الذى نتحدث عنه اليوم فهو حاشية العالم العلامة العارف بالله تعالى ، الشيخ أحمد الصاوى المالكى على هذا التفسير.

والشيخ الصاوى إمام من أئمة علماء الأزهر ، وصوفى من كبار الصوفية ، وشيخه فى الطريق هو الامام الدردير الملقب بأبى البركات ، شيخ الدردير هو الإمام الأكبر الشيخ الحفنى الملقب بأبى الأنوار ..

والشيخ الصاوى مالكى المذهب ، خلوتى الطريقة ، من اقليم الغريبة ، بلدة « صان الحجر » بمصر ، ولد سنة ١١٧٥ ه‍ ١٧٦١ ميلادية.

وكانت وفاته بالمدينة المنورة سنة ١٢٤١ ه‍ ١٨٢٥ ميلادية.

وله كتب ، وله حواش على بعض كتب شيخه الشيخ أحمد الدردير فى فقه المالكية.

وله شرح مشهور على صلوات الدردير طبع عدة مرات بالقاهرة.

وهو يسير فى تفسيره للقرآن على نمط العلماء المتزنين ، وعلى نهج الصوفية الصادقين المتواضعين.

إنه يقول مثلا فى أوائل حاشيته مفسرا منهجه وطريقته :

وبعد : فيقول العبد الفقير الذليل أحمد بن محمد الصاوى المالكى الخلوتى :

ولما كان علم التفسير اعظم العلوم مقدارا ، وأرفعها شرفا ومنارا ، إذ هو

٢٨٩

رئيس العلوم الدينية ورأسها ، ومبنى قواعد الشرع واساسها ، وكان كتاب الجلالين من أجل كتب التفسير ، واجمع على الاعتناء به الجم الغفير ، من أهل البصائر والتنوير ، وجاءنى الداعى الالهى بقراءته ، فاشتغلت به على حسب عجزى ، ووضعت عليه ملخصة من حاشية شيخنا العلامة المحقق المدقق الورع الشيخ سليمان الجمل ، مع زوائد وفوائد فتح بها مولانا من نور كتابه وإنما اقتصرت على تلخيص تلك الحاشية لكونى وجدتها ملخصة من جميع كتب التفسير التى بأيدينا تنسب لنحو عشرين كتابا منها البيضاوى وحواشيه ، وحواشى هذا الكتاب ... ومنها الخازن والخطيب والسمين وأبو السعود والكواشى والبحر والنهر والساقية والقرطبى والكاشف وابن عطية والتحبير والاتقان ، ولم انسب العبارات لاصحابها غالبا اكتفاء بنسبة الأصل ، والله على ما أقول وكيل ، وهو حسبى وكفى ، وسلام على عباده الذين اصطفى ..

وقد تلقيت هذا الكتاب من أوله إلى آخره مرتين عن العلامة الصوفى سيدى الشيخ سليمان الجمل وعن الامام أبى البركات العارف بالله تعالى استأذنا الشيخ أحمد الدردير ، وعن أستاذنا العلامة الشيخ الامير ، وكل من هؤلاء الأئمة تلقاه عن تاج العارفين شمس الدين سيدى محمد بن سالم الحفناوى ، وعن أبى الحسن سيدى الشيخ على الصعيدى العدوى ومما يرويه فى مقدمته.

هذا الترتيب الذى نقرؤه توقيفى.

ونزل القرآن على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى ثلاث وعشرين سنة على حسب الوقائع لقول الله تعالى : ـ

( وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً )

( سورة الفرقان : ٣٣ )

لكنه نزل لا على هذا الترتيب ، فإنه نزل عليه ثلاث وثمانون سورة بمكة قبل الهجرة وبالمدينة احدى وثلاثون على التحقيق.

فأول ما نزل بمكة : اقرأ.

٢٩٠

وآخر ما نزل بها : قيل : العنكبوت ، وقيل : المؤمنون ، وقيل المطففين ، وأول سورة نزلت بالمدينة : البقرة.

وآخر سورة نزلت بها : المائدة.

وأما أول آية نزلت على الاطلاق : فأقرأ باسم ربك.

وآخر آية على الاطلاق : « واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ».

ومن طريق ما يقوله فى مقدمته :

وعدة حروف القرآن : ألف ألف وخمسة وعشرون ألفا.

وعدة آياته : ستة آلاف وستمائة وستة وستون آية.

ونصفه بحسب الآيات قوله تعالى فى سورة الشعراء :

( فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ )

( الآية رقم ٤٥ )

ونصفه بحسب الحروف قوله تعالى :

( لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً ) ( سورة الكهف : ٧٤ )

فالنون من النصف الأول ، والكاف من الثانى.

ونصفه بحسب السور : الحديد ، والمجادلة من النصف الثانى ..

وعدة كلماته سبعة وسبعون ألفا وأربعمائة وخمسون كلمة.

وترتيب السور هكذا توقيفى.

وأما وضع أسمائها فى المصاحف ، وتقسيمها إلى أعشار وأرباع ، وأثلاث وأجزاء ، وأحزاب فمن الحجاج الثقفى بأخذ من الصحابة فى وضع أسماء السور ، وباجتهاد منه فى تقسيمه إلى ما ذكر ولذلك تجد ابتداء الربع وسط قصة.

٢٩١

وكان الامام الصاوى يأخذ على الحجاج أنه لم يراع المعنى فى ابتداء أرباع القرآن الكريم والنماذج التى نوردها نحاول أن تكون من خصائص الامام البيضاوى.

فهو عند قوله تعالى ( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ) ( سورة البقرة : ١٥٢ ) يقول : معنى اذكرونى : تذللوا لجلالى.

اذكركم : اكشف الحجب عنكم ، وافيض عليكم رحمتى واحسانى ، وأحبكم ، وأرفع ذكركم فى الملأ الاعلى ، لما فى الحديث : ( من تقرب إلى شبرا تقربت منه ذراعا ).

وفى الحديث أيضا : إن الله إذا أحب عبدا نادى جبريل فقال له : يا جبريل ، إنى أحب فلانا فأحبه ، فيحبه جبريل ، ثم ينادى فى السماء : إن الله يحب فلانا فأحبوه ، فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول فى الأرض.

وهذا من جملة الثمرات المعجلة ، وأما المؤجلة فرؤية وجه ربه الكريم ، ورفع الدرجات وغير ذلك ..

وينبغى للانسان أن يذكر الله كثيرا ، لقوله تعالى :

( وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ). ( سورة الاحزاب : ٣٥ )

ولا يلتفت لواش ولا رقيب ، لقول السيد الحفنى خطابا للعارف بالله تعالى ، استاذنا الشيخ الدردير :

يا مبتغى طرق أهل الله والتسليك

دع عنك أهل الهوى تسلم من التشكيك

أن اذكرونى لرد المعترض يكفيك

فاجعل سلاف الجلالة دائما فى فيك

ولا تترك الذكر لعدم حضورك مع الله فيه ، فربما ذكر مع غفلة يجر لذكر

٢٩٢

مع حضور ، لأنهم شبهوا الذكر بقدح الزناد ، فلا يترك الانسان القدح لعدم ايقاده من أول مرة مثلا ، بل يكرر حتى يوقد ، فإذا ولع القلب نارت الاعضاء فلا يقدر الشيطان على وسوسته ، لقوله تعالى : ـ

( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا )

( سورة الاعراف : ٢٠١ )

وخفت العبادة على الاعضاء فلا يكون على الشخص كلفة فيها ، قال العارف :

إذا رفع الحجاب فلا ملاله

بتكليف الإله ولا مشقّة

ويكفى الذاكر من الشرف قول الله تعالى فى الحديث القدسى :

( أنا جليس من ذكرنى )

وقوله تعالى : ( وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )

( الأنفال : ٤٥ )

وهل الأفضل الذكر مع الناس ، أو الذكر فى خلوة؟ والحق التفصيل ، وهو ان كان الانسان ينشط وحده ، ولم يكن مدعوا من الله لهداية الناس ، فالخلوة فى حقه أفضل وإلا فذكره مع الناس أفضل ، إما لينشط أو لتقتدى الناس به.

نسأل الله أن يجعلنا من أهل ذكره.

وعند قوله تعالى :

( وَاشْكُرُوا لِي ) ( سورة البقرة : ١٥٢ ) يقول :

٢٩٣

الحق أنه يتعدى بنفسه وباللام والمعنى واحد ، وهو من عطف الخاص على لعام والنكتة فى الذكر ، فإن المقاصد فى الذكر مختلفة ، فمن قصد بذكره لدنيا فقط فهو دنى ، ومن قصد بذكره الجنة والنجاة من النار فهو اعلى من لأول ، ومن قصد بذكره شكر الله على خلقه إياه وانعامه عليه ، ولم يقصد غيره فهو من المقربين لما فى الحديث : أفلا أكون عبدا شكورا.

٢٩٤

الإمام جمال الدين القاسمى وتفسيره محاسن التأويل

من علماء الشام الكبار المحقق المدقق العالم الجليل جمال الدين ابن محمد سعيد بن قاسم القاسمى.

ولد فى سنة ثلاث وثمانين ومائتين وألف ونشأ فى حجر والده وتلقى مبادئ العلوم الدينية والشرعية على يديه ثم تلقى سائر العلوم على كثير من علماء عصره ومن أبرزهم الشيخ بكرى العطار والشيخ عبد الرازق البيطار.

مدحه أمير البيان شكيب ارسلان فكان مما قال عنه : كان فى هذه الحقبة الأخيرة جمال دمشق ، وجمال القطر الشامى بأسره فى غزارة فضله وسعة علمه.وشفوف حسه وذكاء نفسه وكرم اخلاقه وشرف منازعه وجمعه بين الشمائل الباهية والمعارف المتناهية.

وقد سما فى العلم والفضل وعلا فى سماء الشهرة والمجد حتى صار هو والشيخ عبد الرازق البيطار علمين من أعلام الشام تشابها كما يقول الأمير شكيب فى سماحة الخلق ورجاحة العقل ونبالة القصد وغزارة العلم والجمع بين العقل والنقل والرواية والفهم ولم يكن فى وقتهما أعلى منهما فكرا وأبعد نظرا وأثقب ذهنا فى فهم المتون والنصوص والتمييز بين العموم والخصوص ، وكان وجودهما ضربة شديدة على الحشوية ، الفرقة المجسمة فى العقائد تلك الطبقة الجاحدة التى صارت هى وأمثالها حجة على الاسلام فى تدهوره ، وقال عنه الشيخ رشيد رضا :

٢٩٥

هو علامة الشام ونادرة الايام والمجدد لعلوم الاسلام محيى السنة بالعلم والعمل والتعليم والتهذيب والتأليف واحد حلقات الاتصال بين هدى السلف والارتقاء الذى يقتضيه الزمن الفقيه الاصولى المفسر المحدث الأديب المتفنن التقى الأواب الحليم الأواه ـ العفيف النزيه صاحب التصانيف الممتعة والابحاث المقنعة.

بدأ الشيخ حياته العلمية مدرسا فى حياة والده فلما توفى والده تولى مكانة فى خدمة امامه فى جامع السنانين بدمشق ومارس نشاطه العلمى فى التأليف والشرح والنقد والاصلاح حتى ازدهرت تأليفه وكثرت مصنفاته ووصل عددها إلى ما يقرب من الثمانين ما بين مخطوط ومطبوع ومن أشهرها :

ـ محاسن التأويل فى تفسير القرآن الكريم.

ـ ومنها :

ـ فصل الكلام فى حقيقة عود الروح إلى الميت حين الكلام.

ـ بحث فى جمع القراءات المتعارف عليها.

ـ دلائل التوحيد.

ـ موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين.

ـ قواعد التحديث فى فنون مصطلح الحديث.

طريقته فى التأليف :

تعتمد طريقته فى التأليف على النقل الواعى من التراث الاسلامى الزاخر والاكتفاء بالترتيب والتبويب والتعقيب اللطيف أو الاستدراك الخفيف.

وكان من المعجبين بالشيخ ابن تيمية ومن اقطاب المدرسة السلفية وقد اكتسب خبرة واسعة فى الاطلاع والاحاطة حتى لقد حكى عن نفسه أنه قد من الله عليه بفضله فاسمع صحيح مسلم رواية ودراية فى مجالس من اربعين يوما

٢٩٦

وسنن ابن ماجة احدى وعشرين يوما والموطأ فى تسعة عشر يوما وطالع بنفسه لنفسه كتاب تقريب التهذيب لابن حجر مع تصحيح سهو القلم فيه وضبطه وتحشيته من نسخة مصححة جدا ثم قال : وهذه الكتب قرأتها اثر بعضها فأجهدت نفسى وبصرى حتى رمدت.

ولقد ذكرنا ذلك لنعرف بهمته العالية واطلاعه الواسع وعلمه الغزير ولشدة عنايته بالاصلاح واخلاصه فى بث الدعوة ونشر الدين والحرص على التجديد.

اتهم بالدعوة إلى مذهب جديد فى الدين سمى بالمذهب الجمالى وقبض عليه وحقق معه ولكنه رد التهمة وأثبت براءته فأخلى سبيله.

ولم تخل حياته من التنقل والارتحال فرحل إلى مصر وزار المدينة وعاد إلى دمشق فانقطع فى منزله للتصنيف والقاء الدروس الخاصة والعامة فى التفسير والأدب وعلوم الشريعة إلى أن وافاه الموت فى شهر رجب من سنة اثنين وثلاثين وثلاثمائة وألف من الهجرة.

رحمه‌الله ونفع به.

تفسير القاسمى

إذا أحببت أن تقرأ تفسيرا كاملا للقرآن لا تجد فيه خرافة ولا أسطورة ولا شيئا من الإسرائيليات المذمومة التى حشيت بها التفاسير فعليك بكتاب الإمام القاسمى ( محاسن التأويل ) الذى فسر به القرآن الكريم تفسيرا يعتبر نموذجا إلى حد كبير ..

وقد تحدث القاسمى فى مقدمة تفسيره فقال بعد أن أثنى على القرآن : ( وإنى كنت حركت الهمة إلى تحصيل ما فيه من الفنون والاكتمال باثمد مطالبه لتنوير العيون فاكببت على النظر فيه وشغفت بتدبير لآلئ عقوده ودراريه

٢٩٧

وتصفحت ما قدر لى من تفاسير السابقين وتعرفت ـ حين درست ـ ما تخللها من الغث والثمين ـ ورأيت كلا ـ بقدر وسعه ـ حام حول مقاصده ، وبمقدار طاقته جال فى ميدان دلائله وشواهده ، وبعد أن صرفت فى الكشف عن حقائقه شطرا من عمرى ووقفت على الفحص عن دقائقه قدرا من دهرى أردت أن انخرط فى سلك مفسريه الأكابر قبل أن تبلى السرائر وتفنى العناصر ).

وقد استخار الله تعالى فى تسميته وتأليفه ثم شرع فى تنفيذ ما عزم عليه فكان هذا الكتاب الجليل.

وكان شروعه فى هذا التفسير بعد تكرار الاستخارة فى العشر الأول من شوال سنة ست عشرة وثلاثمائة وألف من الهجرة وما أن تم هذا العمل الجليل حتى تفسيرا حافلا فى سبعة عشر مجلدا.

فسد فراغا وحقق نفعا للعامة والخاصة ونفع الله به المسلمين.

والناظر فى هذا التفسير يجد أن مؤلفه قد أفرد جزءا كاملا مقدمة لتفسيره وفى هذه المقدمة يتجلى منهجه فى التفسير بل فى التأليف عموما.

لقد ناقش قضايا عامة وخطيرة فيما يتصل بالتفسير ونقل كثيرا عن مشاهير العلماء فى الأصول والتفسير وسائر العلوم القرآنية.

لقد تحدث عن مصادر التفسير وعد أن أصولها أربعة :

الأول : النقل عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى المفسر بطريق النقل أن يحذر من الضعيف والموضوع.

الثانى : الأخذ بقول الصحابى اذ هو المعاصر للتنزيل والفاهم لجو القرآن.

الثالث : الأخذ بمطلق اللغة.

الرابع : التفسير بما يقتضيه معنى الكلام ومفهوم الشرع.

ومصادر مقدمته غالبا من الشيوخ المعروفين :

٢٩٨

الإمام الشاطبى والإمام ابن تيمية وشذرات من كلام العز بن عبد السلام ،

والإمام الغزالى والراغب الاصفهانى وبعض العلماء المحدثين مثل الشيخ محمد عبده والشيخ رشيد رضا.

لقد كان الإمام القاسمى بوفرة اطلاعه ودقة فهمه وأمانته فى النقل ينتقى أجود الأقوال فيما يختص بموضوع بحثه ثم ينقله فى كتبه وعلى هذا النهج جرى فى تفسيره ، فتفسيره أشبه ما يكون بحديقة غناء لا ترى فيها إلا زرعا ناضرا أو وردا عاطرا ولا تجد فيه ما يؤذى النفس ويثير الشعور ويمتاز هذا التفسير الجليل زيادة على التحرى فى النقل وحسن الاختيار والبعد عن الضعيف والموضوع بما يأتى :

١ ـ العناية بالمعانى اللغوية للمفردات وتوجيه الاعراف فى سهولة ويسر دون تفريع أو تطويل.

٢ ـ اعتماده فى تفسير القرآن على القرآن ثم على السنة الصحيحة ثم على أقوال الصحابة وآراء السلف الصالح.

٣ ـ اهتمامه بالآيات التى تحتاج إلى بحث واطالته النفس فيها وذلك أن فى القرآن آيات بينه واضحة لا تحتاج إلى بحث لأنها واضحة من ناحية المعنى.

وفى القرآن آيات واضحة ولكن بعض المفسرين قد حاول اثارة الجدل فيها أو أخطأ فى فهمها أو فسرها باسرائيليات أو انحرفت بها الأهواء على أى وضع كانت ويشتد اهتمام مفسرنا بمثل هذه الآيات .. شارحا ومبينا ومحققا للحق وكاشفا لزيف الباطل .. وينقل فى سبيل ذلك عن القدماء ما يؤيد فكرته ويتخذ من هذا التأييد كمصدر أول ـ القرآن نفسه فإنه يفسر بعضه بعضا ويتخذ كذلك الأحاديث الصحيحة الشريفة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كمصدر آخر ثم ينقل عن العلماء القدامى وعن العلماء المحدثين ما يؤيد وجهة نظره ، وهى فى الأغلب الأعم وجهة نظر سليمة.

٤ ـ اهتمامة بذكر وجوه القراءات مع الترجيح بينها يقول فى تفسير قوله تعالى :

٢٩٩

( فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ ).

( آية ٣٦ من سورة البقرة )

فأزلّهما الشيطان عنها : أى اذهبهما عن الجنة وأبعدهما يقال : نزل عن مرتبته وزل عن ذاك : اذا ذهب عنك ... وزل من الشهر كذا .. وقال ابن جرير : فأزلهما بتشديد اللام بمعنى استنزلهما .. من قولك زل الرجل فى دينه إذا هفا فيه وأخطأ فأتى ما ليس له اتيان فيه .. وازله غيره إذ سبب له ما يزل من أجله فى دينه أو دنياه .. وقرئ ( فأزلهما ) بالألف من التنحية فأخرجهما مما كان فيه من الرغد والنعيم والكرامة.

لقد ذكر الإمام القاسمى كلا من القراءتين والمعنى على حسب كل قراءة ونقل من كلام العلماء ما يؤيد ما ذهب إليه.

أما عن العلماء الذين تأثر بهم الإمام القاسمى فأولهم الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وهو يهتم اهتماما واضحا بكل ما انفراد به من آراء : انه ينقل عن ابن تيمية رأيه فى مجازات القرآن ، وهو من الآراء التى اشتهر بها ابن تيمية وخالف فيها كثيرا من العلماء وذكر ابن تيمية منهجه فى التفسير ورأيه فى مناهج المفسرين.

وتأثر فى منهجه بهذا المنهج فى التفسير.

ولقد أعجب القاسمى بالإمام محمد عبده ونقل عنه رأيه فى وجوه التفسير ومراتبه نقلا عن مقدمة تفسير الإمام محمد عبده المشهور .. لقد نقلها محبذا لها مقرا لكل ما فيها .. ونستطيع أن نقول بحق : لقد تأثر القاسمى بهذا المنهج ونسق بينه وبين منهج ابن تيمية فى تفسيره لكن هذا الإعجاب بالشيخ محمد عبده لم يمنعه من مخالفة الاستاذ الإمام فى مسائل الملائكة وآدم وابليس والسحر وغير ذلك ـ لم يقل برأى الإمام فى هذه الأمور وسار على رأى الجمهور فى أنها حقائق وليست تعبيرا بالمثال والإرشاد والتفهيم.

٣٠٠