مناهج المفسرين

الدكتور منيع عبد الحليم محمود

مناهج المفسرين

المؤلف:

الدكتور منيع عبد الحليم محمود


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب المصري
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٢

وكيف يجوز أن ينزل القرآن فى وقت واحد. افعلوا كذا ولا تفعلوا .. ولم يفرض الله على عباده أن يحفظوا القرآن كله ، ولا أن يختموه فى التعلم ، وإنما أنزله ليعملوا بحكمه ، ويؤمنوا بمتشابهه ، ويأتمروا بأمره ، وينتهوا بزجره ، ويحفظوا للصلاة مقدار الطاقة ويقرءوا فيها الميسور.

وكان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضى الله عنهم وهم مصابيح الأرض ، وقادة الأيام بمنتهى العلم ، إنما يقرأ الرجل منهم السورتين والثلاث والأربع ، والبعض والشطر من القرآن الا نفرا منهم وفقهم الله لجمعه ، وسهل عليهم حفظه ..

وكانت وفود العرب ترد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيقرئهم شيئا من القرآن فيكون ذلك كافيا لهم.

وكان يبعث إلى القبائل المتفرقة بالسور المختلفة ، فلو لم تكن الأنباء والقصص مثناة ومكررة لوقعت قصة موسى إلى قوم ، وقصة عيسى إلى قوم ، وقصة نوح إلى قوم ، وقصة لوط إلى قوم.

فأراد الله بلطفه ورحمته أن يشهر هذه القصص فى أطراف الأرض ، ويلقيها فى كل سمع ويثبتها فى كل قلب ، ويزيد الحاضرين فى الإفهام والتحذير ..

وليست القصص كالفروض ، لأن كتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت تنفذ إلى كل قوم بما فرضه الله عليهم من الصلاة ، وعددها وأوقاتها والزكاة وسننها ، وصوم شهر رمضان وحج البيت ، وهذا ما لا تعرف كيفيته من الكتاب .. ولم تكن تنفذ بقصة موسى وعيسى ونوح وغيرهم من الأنبياء ، وكان هذا فى صدر الإسلام قبل إكمال الله الدين ، فلما نشره الله عزوجل فى كل قطر ، وبثه فى آفاق الأرض ، وعلم الأكابر الأصاغر ، وجمع القرآن بين الثقلين زال هذا المعنى واجتمعت الأنباء فى كل مصر ، وعند كل قوم ..

هذه بعض الملامح لتفكير ابن قتيبة وعلمه فيما يتصل بالقرآن. وكل

٢١

ما صدر منه فى ذلك ينبئ عن فكر ناضج ، وعلم واسع ، وحرص على الروح العلمية السليمة ، العاملة على كشف الشبهات ، وإزالة الأباطيل ، وبيان وجه الحق فيما تعرض له من شئون.

وكان ابن قتيبة معنيا بالرد على الشبه التى تثار حول النصوص الدينية وخاصة من المعتزلة ونحوهم ملتزما للمنهج العلمى فى ذلك ، فاستحق ثناء العلماء عليه.

قال ابن خلكان :

كان فاضلا ثقة سكن بغداد ، وحدث بها عن اسحاق بن راهويه وأبى اسحاق إبراهيم بن سفيان بن سليمان وأبى حاتم السجستانى وتلك الطبقة وتصانيفه كلها مفيدة.

وقال الذهبى فى المغنى عنه : صدوق.

وقال الخطيب : ثقة.

وكانت وفاته فجأة سنة ٢٧٦ ه‍ ، إذ أكل هريسة فأصابته حرارة فصاح صيحة شديدة ثم أغمى عليه ، ثم أفاق ، فما زال يتشهد حتى مات ـ

الله ونفع بعلمه ..

٢٢

معانى القرآن

لأبى زكريا الفراء

كان والده زياد الأقطع محبا لآل البيت ، متفانيا فى حبهم.

وكلمة « الأقطع » فى اسم والده هى وسام شرف ألحق باسمه بسبب حبه لآل البيت ، فقد قطعت يده فى حربه مع سيد الشهداء الإمام الحسين رضى الله عنه :

وإذا كان هناك من يسمى : أمير المؤمنين فى الحديث ـ كسفيان الثورى ـ فإنه كان يحلو لثعلب العالم الكوفى الكبير أن يسمى الفراء : أمير المؤمنين فى النحو وهو لقب استحقه الفراء بجدارة.

وإذا كان قد بلغ القمة فى النحو ، فإن ابن خالته هو محمد بن الحسن الفقيه الشيبانى صاحب أبى حنيفة كان قمة فى الفقه.

ومن أظهر أساتذة الفراء : على بن حمزة الكسائى ـ فى النحو ، وسفيان بن عيينة فى الفقه والحديث.

وكان الفراء معنيا بعلم القراءات ـ وأجاده إجادة كبيرة وقد أخذه عن الكسائى ، ومحمد بن حفص.

وهذه العقلية التى تمحضت ـ أو كادت ـ لدراسة علوم اللغة والنحو وما إليهما لا يأتى أن يكون عندها الاستعداد الفطرى لعلم الكلام ولكن طموح الفراء أبى إلا أن يحاول إتقان علم الكلام فاخفق وذلك لأن طبيعته هى طبيعة النحويين ، وعن ذلك يقول أديب العربية أبو عمرو الجاحظ :

« دخلت بغداد سنة أربع ومائتين حين قدم إليها المأمون ـ وكان الفراء يحبنى ، ويشتهى أن يتعلم شيئا من علم الكلام ، فلم يكن له فيه طبع.

٢٣

لقد أخفق فى دراسة علم الكلام ، ولكنه كان يحب أن يشتهر بالاعتزال والفلسفة ، وليس له فيهما قدم.

وأما تظاهره بذلك ، فإنما كان تقربا للمأمون. فإنه ما كان أحد يتقرب منه إلا إذا كانت له ميول اعتزالية ، ومرن لسانه على استعمال مصطلحات فلسفية.

ومع إخفاقه فى علم الكلام ، فإنه برع فى علوم كثيرة ، يقول ثمامة بن اشرس ـ وهو من أئمة المعتزلة ، وكان مقربا من المأمون ـ يقول عن الفراء :

رأيت له أبهة أدب فجلست إليه ، فناقشته عن اللغة ، فوجدته بحرا وعن النحو ، فشاهدته نسيجا وحده ، وعن الفقه : فوجدته فقيها عارفا باختلاف القوم ، وفى النجوم : ماهرا ، وبالطب : خبيرا ، وبايام العرب واشعارها : حاذقا.

واشتهر الفراء وذاع صيته ، فاستدعاه الرشيد ، وأنس له ، وجنى الفراء من وراء ذلك ثروة ومنزلة فألف التردد على أبواب الأمراء والملوك فقد اتصل بالمأمون ، ويروى المؤرخون له أن المأمون عهد إليه أن يؤلف ما يجمع به أصول النحو ، وما سمع من العرب ، فأمر أن تفرد له حجرة من حجر الدار. ووكل بها جوارى ، وخدما للقيام بما يحتاج إليه حتى لا يتعلق قلبه ، ولا تتشوق نفسه إلى شىء حتى أنهم كانوا يؤذنونه بأوقات الصلاة ، وصير له الوراقين ، والزمه الأمناء والمنفقين ، فكان الوراقون يكتبون حتى صنف كتاب الحدود ، وأمره المأمون بكتبه فى الخزائن.

وأنس المأمون به كما أنس الرشيد ، وأدناه المأمون إلى درجة أن وكل إليه تعليم أبنائه ومع أنه كان يتردد على أبواب الأمراء والوجهاء والملوك ، فقد كانت له ميزات حسنة نذكر منها :

أنه كان متقشفا بطبيعته ، وكان المال الذى يأتيه فى أثناء العام يجمعه إلى موعد معين يفارق فيه بغداد إلى الكوفة ، حيث أهله وعشيرته فيمكث بالكوفة

٢٤

أربعين يوما بين أهله وعشيرته يتفقد أحوالهم ويتودد إليهم وينفق عليهم ما ادخره أثناء العام ، ثم يعود من جديد إلى بغداد ...

وصلة الأرحام من أنفس القربات فى دين الإسلام الحنيف ومن الأمور التى تذكر بالخير للفراء هذا الموقف الكريم.

يروى ابن النديم خبرا يحكيه أبو العباس ثعلب أن السبب فى إملاء الفراء « الحدود » هو أن جماعة من أصحاب الكسائى صاروا إليه وسألوه أن يملى عليهم أبيات النحو ففعل ، فلما كان المجلس الثالث قال بعضهم لبعض : إن دام هذا على هذا علم النحو الصبيان والوجه أن يقعد عنه :

فغضب وقال : سألونى القعود ـ يعنى للمحاضرة والإملاء ـ فلما قعدت تأخروا ، والله لأملئن النحو ما اجتمع اثنان ـ فأملى ذلك ست عشرة سنة! ووثق به المأمون وبعلمه ، فاتخذه معلما لاولاده.

ونأتى الآن إلى ( كتاب المعانى ) ويذكر ثعلب أن السبب فى تأليفه أن عمر بن بكير كان من أصحابه ، وكان منقطعا إلى الحسن بن سهل ، فكتب إلى الفراء أن الأمير الحسن بن سهل ربما سألنى عن الشيء بعد الشيء من القرآن فلا يحضرنى فيه جواب ، فإن رأيت أن تجمع لى أصولا ، أو تجعل فى ذلك كتابا أرجع إليه فعلت!

فقال الفراء لأصحابه :

اجتمعوا حتى أملى عليكم كتابا فى القرآن ـ وجعل لهم يوما حضروا فخرج إليهم ، وكان فى المسجد رجل يؤذن ويقرأ بالناس فى الصلاة وكان يكتب عن الفراء الوراقون ـ وهم تجار الكتب ـ ومع أن عدد من كان يحضر الدرس لا يكاد يحصى فإن الذى حرص على الكتابة هم : الوراقون ولما انتهى الفراء من الإملاء خزن الوراقون الكتاب ليبيعوه بثمن مرتفع جدا ، وشكا الناس إلى الفراء فاحضر الوراقين وأخذ يتحدث معهم فى خفض ثمن النسخ فلم يفلح معهم وذلك لجشعهم.

٢٥

لقد أعلنوا أنهم ينسخون الخمس ورقات بدرهم ، ولم يجد معهم الحديث الإنسانى!

وعند ذلك أعلن الفراء أنه سيملى من جديد ، وبدأ فعلا ، وجاء الناس باقلامهم ومحابرهم ولما رأى الوراقون ذلك أتوا إلى الفراء ورضوا أن ينسخوا كل عشر ورقات بدرهم ، وتم الاتفاق على ذلك.

وعن هذا التفسير بقول ثعلب :

« لم يعمل أحد قبله مثله ، ولا أحسب أن أحدا يزيد عليه ».

وقد كان من الطبيعى أن الفراء كان مهمّا ـ وفى الدرجة الأولى ـ بالنحو كعلم له خطره. من بين العلوم ، ثم استخدمه فى تفسير القراءات وتعليل وجوهها من العربية ويمكن أن يقال ان اهتمامه الزائد بالقراءات هو الذى جعله يهتم اهتماما مماثلا بالنحو! والقراءات ليست علما للعلم فقط. وإنما هى مرتبطة بالمعنى ارتباطا وثيقا ، ومن هنا كان اهتمام كثير من المفسرين بها.

وكما اهتم بالقراءات وبالنحو ، فإنه اهتم بأسباب النزول واهتم من قبل ذلك ومن بعد بجمال الأسلوب القرآنى ، وبالمعنى اهتماما كبيرا ، وما كان ذلك إلا من أجل الدقة فى بيان المعنى لتقريره.

نماذج من تفسيره :

ونذكر هنا عددا من النماذج المختصرة :

ففي مجال اهتمامه بتوجيه القراءات وما تدل عليه من معنى يذكر فى تفسير قوله تعالى من سورة النجم.

( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ ).

( الآية ٣٢ )

يقول : قرأ يحيى بن وثاب « كبير » وفسر عن ابن عباس أن كبير الإثم هو : الشرك فهذا موافق لمن قرأ « كبير الاثم » بالتوحيد ـ يعنى : الإفراد دون

٢٦

الجمع « كبائر » ـ ... ثم يقول الفراء : وقرأ العوام : كبائر الإثم والفواحش ـ فيجعلون كبائر كأنه شىء عام وهو فى الأصل واحد ، وكانى استحب لمن قرأ « كبائر » أن يخفض « الفواحش » ... قال الفراء : وما سمعت أحدا من القراء خفض « الفواحش » ...

وعن جمال الأسلوب القرآنى الذى يكشف عنه الفراء نجد تفسيرا لقوله تعالى :

( وَالْعادِياتِ ضَبْحاً ، فَالْمُورِياتِ قَدْحاً ... فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً ... ). ( سورة العاديات الآية ١ ، ٢ ، ٤ )

قال : يريد به الوادى ـ ولم يذكر « الوادى » قبل ذلك وهو جائز لأن الغبار لايثار إلا من موضع. وإن لم يذكر إذا عرف اسم الشيء كنى عنه ، وإن لم يجر له ذكر.

قال الله تعالى :

( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ). ( سورة القدر الآية ١ )

يعنى القرآن وهو مستأنف سورة ، وما استأنفه فى سورة إلا كذكره فى آية قد جرى ذكره فيما قبلها كقوله ( حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ ، إِنَّا أَنْزَلْناهُ ).

وقال تبارك وتعالى :

( إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ ). ( سورة ص الآية ٣٢ )

يريد : الشمس ، ولم يجر لها ذكر.

وفى مجال اهتمام الفراء بالصناعة النحوية نجد له بعض النوادر الجملية.ففي قوله تعالى :

٢٧

( وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ، ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ ).

( سورة الزمر الآية ٨٠ )

يقول الفراء : نسى ما كان يدعو إليه : ترك الذى كان يدعوه إذا مسه الضر ، يريد الله تبارك وتعالى.

فإن قلت فهلا قال : نسى من كان يدعوه ، قلت : إن « ما » قد تكون فى موضع « من » قال الله تبارك وتعالى :

( قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ ). ( سورة الكافرون الآية ١ ، ٢ ، ٣ )

يعنى الله تبارك وتعالى.

وقال عزوجل.

( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ).

( سورة النساء الآية ٣ )

فهذا وجه وبه جاء التفسير ـ ومثيله : « أن تسجد لما خلقت بيدى » وقد يكون نسى ما كان يدعو إليه يراد به :

نسى دعاءه إلى الله عزوجل من قبل ، فإن شئت جعلت الهاء فى قوله « إليه ».

وإن شئت جعلتها لله عزوجل ، وكل مستقيم ...

نفع الله الناس بتفسير الفراء وبعلمه الغزير.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه.

٢٨

الإمام سهل بن عبد الله التسترى

وتفسيره

من أعلام العلماء ، وائمة التصوف ، الزاهد الورع ، والعابد المتقشف ، أبو محمد سهل بن عبد الله التسترى ، ولد فى تستر بالأهواز سنة ثلاث ومائتين من الهجرة وعاش فى القرن الثالث الهجرى ، ذلك القرن الذى حفل بالأئمة الكبار فى كل فن من الفنون.

نشأ سهل فوجد امامه فى جنح الليل خاله محمد بن سوار ، قائما يتبتل إلى الله ويضرع إليه ويناجيه ، يصلى فى خشوع ؛ ويدعو فى خضوع ، ويقضى الليل ساهرا فى عبادة خاشعة آسرة ، جذبت سهلا إليه ، وربطته به ، وحببته فيه.

ومرت أيام فإذا بالخال يقول :

يا سهل : ألا تذكر الله الذى خلقك؟

قال سهل : يا خال ، كيف أذكره؟

فقال الخال : قل بقلبك عند تقلبك فى ثيابك ثلاث مرات من غير أن تحرك به لسانك : « الله شاهدى ، الله معى ، الله ناظر إلى » يقول سهل : فقلت ذلك ثلاث ليال ثم أعلمته به ، فقال لى : قل فى كل ليلة سبع مرات فقلت ذلك ثم أعلمته ، فقال : قل فى كل ليلة : احدى عشرة مرة ، فقلت ذلك ، فوضع فى قلبى له حلاوة ، فلما كان بعد سنة قال لى خالى :

احفظ ما علمتك ودم عليه إلى أن تدخل القبر فانه ينفعك فى الدنيا والآخرة.

٢٩

واستمر سهل على ذلك سنين ، ووجد حلاوة للعبادة ، وأحس بهذه الحلاوة تملأ جوانحه وتسرى بين كل ثنايا شعوره ، وتملك عليه جميع أقطار نفسه ، ولما تعود الذكر وتمرس به وأصبح له وردا ، وأصبح له غذاء ، توجه إليه خاله قائلا :

يا سهل : من كان الله معه ، وهو ناظر إليه ، وشاهده ، أيعصيه؟

إياك والمعصية؟

ولكن كيف يتجنب المعصية وهى أمامه فى كل شىء إنها فى الطريق ، إنها فى العمل إنها فى كل مجال. إن عليه أن يهئ نفسه ويعدها اعدادا كاملا للخير ، ومن أجل ذلك اعتزل ، وتفرغ للعبادة والتهجد والذكر وكان لا يزال صغيرا لم يذهب إلى الكتاب بعد ..

وأرسلوه إلى الكتاب ، فاشترط ان يكون ذهابه ساعة من نهار حتى لا ينفرط عقد عبادته ، ولا يتشتت ذهنه.

وذهب إلى الكتاب. وضم إلى العمل العلم ، وإلى الذكر فيوضات الخير النابعة من داخل القلب ، لقد حفظ القرآن ، وتفقه فى امور الشرع لقد حفظ القرآن وهو ابن ست سنين ، وشغله الذكر والاستغراق فى العبادة عن متطلبات الحياة المادية العادية.

لقد تغذى بالذكر فخف احتياجه إلى ما سواه ، وكان يكتفى بخبز الشعير ، وكان يأكل أقل القليل منه.

يقول الإمام ابن عربى ، صاحب الفتوحات المكية ..

رحل إلى عبادان ، وتوجه إلى شيخ من كبار الشيوخ ، فسأله عن مسألة فأجابه ، فأعجب به ، ولزم خدمته ، وأقام عنده مدة ينتفع بكلامه ويتأدب بآدابه ، ولما حصل ما شاء الله له من علوم الشيخ عاد إلى تستر ، واشتهر فى مقام الزهد والتهجد والعبادة.

٣٠

ثم أخذ فى السياحة إلى شتى الأقطار ، ورحل إلى كثير من البلدان ، وقابل العديد من الأولياء والعلماء.

لقد حصل العلم بسلوكه ، وحصل العلم بتلقيه ومدارسته. لقد ضم إلى الشريعة الحقيقة ، واستمرت سياحته سنين ، وعاد إلى تستر ... عاد إليها على نور من ربه ، وبدأ دعوته إلى الله على هدى وبصيرة ، ولم يبدأ الدعوة إلى الله إلا بعد أن أذن الله له.

يقول صاحب كتاب صفة الأولياء ومراتب الأصفياء :

ذكر سهل التسترى ، وهو ابن سبع سنين وساح فى طلب العلم وهو ابن تسع سنين وكانت تلقى مشكلات المسائل على العلماء ثم لا يوجد جوابها إلا عنده وهو ابن إحدى عشرة سنة ، وحينئذ ظهرت عليه الكرامات.

وبلغ سهل النضوج العلمى والنضوج الروحى بتوفيق الله تعالى بعد جهاد ومجاهدة بعد ذكر وعبادة ، بعد صوم وسياحة ، وحينما أذن الله له فى الدعوة إليه ، أخذ يدعو إلى الله على بصيرة ، ويرسم الطريق إليه على هدى.

ولم تقتصر دعوته إلى الله على التربية وتعليم السلوك ، ولم تقتصر دعوته على القول والموعظة الحسنة ، لقد ترك مؤلفات قيمة فى مجالات متعددة ، وشارك فى أنواع من العلوم ـ ومن أشهر كتبه ..

رقائق المحبين.

مواعظ العارفين.

جوابات أهل اليقين.

قصص الأنبياء.

هذا فضلا عن تفسيره المشهور.

ولقد امتاز سهل بتعظيمه للسنة ، وبتعظيمه للشريعة.

لقد ذهب إلى أبى داود ـ صاحب السنن زائرا ـ واستقبله أبو داود فى

٣١

احترام واعزاز. وقبل سهل فم أبى داود ، لأنه ينطق بالسنة ويلغها للناس.

وأبان سهل بذلك عن تواضع جم ، واحترام عميق للسنة ولمن يخدمون السنة.

ومن كلماته الحكيمة الدالة على كمال الاقتداء :

« ما عبد الله بشيء أفضل من مخالفة الهوى »

« ما أعطى أحد شيئا أفضل من علم يستزيد افتقار إلى الله »

وكانت وفاته بالبصرة سنة ثلاث وثمانين ومائتين بعد حياة مباركة ، رحمه‌الله ونفع به.

٣٢

تفسير سهل بن عبد الله التسترى

هذا التفسير من التفاسير التى تمثل بحق التفسير الصوفى للقرآن الكريم.فمؤلفه له القدم الثابته فى مجال السلوك الصوفى القائم على أساس من الشريعة والاقتداء بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقد تكلم على بعض آيات من القرآن مبينا ما ألهمه بشأنها.

وقد جمع أقواله أبو بكر بن أحمد فى كتاب « عرف » بتفسير التسترى ، وهو هذا التفسير الذى نعرفه الآن ، والذى طبع فى كتاب متوسط الحجم باسم .. « تفسير القرآن العظيم ».

والناظر فى هذا التفسير ـ يلمح عليه دلائل التفسير الصوفى المستقيم ، ويرى فيه تحقيق قول المؤلف ..

« أصولنا سبعة .. التمسك بكتاب الله تعالى ، والاقتداء بسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأكل الحلال ، وكف الأذى ، واجتناب الآثام ، والتوبة ، وأداء الحقوق.

لقد سار سهل فى إطار القرآن ، وعرف ما قاله الأئمة أو كثير من الأئمة فى تفسير الآيات ، ولكن القرآن لا يمكن أن يحيط أحد بأقطاره ، ولا يمكن أن تكون المعانى اللغوية الضيقة هى كل ما عبر عنه القرآن ، إنها ـ إن عبرت ـ فإنها تعبر عن ظاهر.

ولكن القرآن الكريم ليس هو ما يظهر للناظر منذ الوهلة الأولى.

إن وراء ظاهره أسرارا لا تتعارض مع هذا الظاهر ، ولكنها توضحه وتجعله نافذا إلى القلوب جاذبا للنفوس ، آسرا للأرواح. إنها ما عبر عنه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله :

٣٣

( لكل آية ظهر وبطن ، ولكل حرف ، حد ومطلع )

ويرى سهل أن ظاهر الآية التلاوة ، وباطنها الفهم ، وحدها الحلال والحرام ومطلعها : اشراق القلب على المراد بها فقها من الله عزوجل ، فالعلم الظاهر علم عام والفهم لباطنه ، والمراد به خاص ، قال تعالى :

( فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً )

( سورة النساء الآية ٧٨ )

« أى لا يفقهون خطابا. وتفسيره على هذا الأساس يتجه إلى بيان بعض ما تشتمل عليه الآيات من إشارات ، وما تدل عليه من الهامات. فيبرز بعض ما يفهمه من دلائل هذه الآيات.

وقد تحدث كثير من العلماء عن هذا النوع من التفسير.

ويرى إمام ابن الصلاح أن ما ورد عن الصوفية المعتبرين من التفسير لم يذكره الصوفى على أنه تفسير للآية ولا ذهب به مذهب الشرح لها ، وإنما ذلك ذكر منهم لنظير ما ورد به القرآن فإنه النظير يذكر بالنظير.

أما ابن عطاء السكندرى الصوفى الشهير فإنه يوضح المفهوم الحقيقى لهذا النوع من التفسير « التفسير الصوفى » فيقول :

اعلم أن تفسير هذه الطائفة لكلام الله وكلام رسوله بالمعانى الغريبة ليس إحالة لظاهر عن ظاهره ، ولكن ظاهر الآية مفهوم منه ، ما جلبت له الآية ودلت فى عرف اللسان ، وثم افهام باطنه تفهم عند الآية والحديث لمن فتح الله قلبه ، وقد جاء فى الحديث :

« لكل آية ظهر وبطن »

ثم يرد على من يقول :

إن فى هذا النوع من التفسير إحالة لكلام الله وكلام رسوله وصرفا لهما عن معانيهما وما يقصد بهما ، فيقول :

٣٤

ليس ذلك بإحالة ، وإنما يكون إحالة لو قالوا :

لا معنى للآية إلا هذا وهم لم يقولوا ذلك ، بل يقرون الظواهر على ظواهرها مرادا بها ، موضوعاتها ويفهمون عن الله تعالى ما أفهمهم.

هذا هو الذى نراه فى هذا النوع من التفسير كتفسير سهل بن عبد الله.ان سهلا لم يقم بتفسير تقليدى ، يتبع فيه القرآن ، ويؤلف فيه تفسيرا شاملا يجمع ما استطاع جمعه من المعانى اللغوية والشرعية والأخلاقية والكونية ، وما إلى ذلك من المجالات التى تحدث عنها القرآن.

لقد تحدث عما أحس به من آثار وقوع الآية على قلبه ، وما نضح به شعوره المؤمن فى هذا المجال ، ولم يقل إن هذا تفسير كما يقول المفسرون ولم يقل إنه التفسير الوحيد الذى لا تقبل الآية سواه.

على أن سهلا ـ رحمه‌الله ـ لم يقتصر فى تفسيره على الجانب الإشارى من القرآن الكريم.

لقد ذكر فى أحيان كثيرة المعنى الظاهر للآية ، والذى شاركه فيه أكثر المفسرين قبل أن يذكر المعى الإشارى أو بعض ما يرى أنه المعنى الإشارى؟

ولقد اقتصر فى أحيان أخرى على المعنى الظاهر ، ولم يتحدث عن معنى إشارى وفى أحيان أخرى اقتصر على المعنى الإشارى لوضوح المعنى الظاهر أو شهرته متداولا بين الناس.

أنظر إليه عند تفسير قوله تعالى :

( ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ). ( سورة الروم الآية ٤١ ) يقول :

« مثل الله الجوارح بالبر ، ومثل القلب بالبحر وهو أعم نفعا واكثر خطرا » هذا هو باطن الآية ، ألا ترى أنه سمى قلبا لتقلبه وبعد غوره.

وهذا التفسير صغير الحجم ، سهل المأخذ ، يحوى الكثير من الإشارات

٣٥

اللطيفة التى لا تخالف ظاهر القرآن ، ومن الممكن أن تكون مما يشير إليه لفظ الآية ، ويحتمله معناها.

وقد جمع فيه كثيرا من حكايات الصالحين وأخبارهم ، ووجه الأنظار كثيرا إلى ما يذكر النفوس ويطهر القلوب ويسوق إلى الصلاح ومن نماذجه الطيبة :

سئل سهل عن قوله تعالى :

( وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ). ( سورة آل عمران الآية ٧٩ )

قال محمد بن سوار :

الربانى الذى لا يختار على ربه أحدا سواه وهو اسم مشتق من الربوبية :

وقال سهل : الربانيون هم العالون فى الدرجة من العلم بالعلم كما قال محمد بن الحنفية لما مات عبد الله بن عباس رضى الله عنهما : لقد مات هذا اليوم ربانى هذه الأمة وإنما نسب إلى الرب لأنه عالم من علمه ، كما قال :« من أنبأك هذا »؟ قال : نبأنى العليم الخبير فنسبه إلى النبوة بما علمه الله عزوجل ، وكل من أنباك بخبر موافق للكتاب والسنة فهو منبئ.

وقال عمر بن واصل : الربانيون هو المجموعون من العلماء ، كما قال على رضى الله عنه :

الناس ثلاثة : عالم ربانى ، ومتعلم على سبيل النجاة ، وهمج رعاع أتباع كل ناعق.

قوله سبحانه :

( وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ).

( سورة الفرقان الآية ٥٨ )

٣٦

سئل ابن سالم عن التوكل والكسب بأيهما تعبد الخلق؟

قال : التوكل حال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكسب سنته ، وإنما سن الكسب لهم لضعفهم حين أسقطوا عن درجة التوكل الذى هو حاله ، فلم يسقطهم عن درجة طلب المعاش بالكسب الذى هو سنة ، ولو لا ذلك لهلكوا ..

قال سهل : من طعن فى الكسب فقد طعن فى السنة ، ومن طعن فى التوكل فقد طعن فى الإيمان.

٣٧
٣٨

الإمام الطبرى وتفسيره

إذا ما جئنا بالحديث عن ابن جرير الطبرى وتفسيره فقد جئنا شيخ المفسرين بلا منازع لقد كان ابن جرير أديبا ذا أسلوب ـ يندر أن يصل إليه فحول الأدباء ، لا تحس حينما تقرأه بتكلف أو تصنع بل تحس بالبلاغة والفصاحة تنساب انسياب الماء الرقراق ، أو تهدر هدير الأعصار المجتاح ، وفى كلا الأمرين تكون بصدد الاسلوب المتقن الآسر.

وكان ابن جرير فقيها. صاحب مذهب فى الفقه ، يؤسفنا أن لم يعن به أحد وهذا المذهب الفقهى يصلح أن يعنى به أحد طلبة الدكتوراة فيكون رسالة نفيسة تفيد العلم وتلقى بأضواء نفاذة فى الفقه الإسلامى.

وكان ابن جرير مؤرخا من كبار المؤرخين ، وله تاريخه المستفيض المشهور ، وكان محدثا من كبار المحدثين ، لقد كان أمة وحده.

ولنسر معه فى تسلسل حياته وفى أقوال العلماء عنه وعن تفسيره ، فيكون ذلك تفصيلا لما ذكرناه.

هو الإمام المفسر المؤرخ أبو جعفر محمد بن جرير الطبرى ...

ولد بآمل سنة خمس وعشرين ومائتين ، واتجه منذ بواكير حياته إلى طلب العلم ودراسة علوم الدين ، فحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين ، وكتب الحديث وهو ابن تسع سنين ، ورحل فى طلب العلم إلى كثير من مدن الإسلام ملتقيا بعلمائها ، متعرفا على أخبارها ، متزودا مما تذخر به من ألوان الثقافة ، حتى توفر له من المراجع والمعارف ما مكنه من تأليف الكتب النافعة الجامعة التى خلدت اسمه ، ورفعت ذكره ، ووضعته فى مكانه البارز بين علماء الإسلام.

٣٩

لقد رحل إلى الرى فسمع بها محمدا بن حميد الرازى وغيره من مشاهير المحدثين.

ثم انتقل عنها إلى البصرة فسمع محمدا بن المعلى. ومحمدا بن بشار المعروف ببندار ..

ثم رحل إلى الكوفة فسمع من هناء بن السرى ، وأبى كرب محمد بن العلاء الهمدانى وانتهى به المسير فى بلاد العراق إلى بغداد فنهل مما تذخر به من علم. واستفاد مما تحتوى عليه من ألوان الثقافة الدينية.

وتجاوز بغداد إلى الشام فقرأ القرآن على العباس بن الوليد البيرونى بقراءة الشامين واستفاد منه ...

ثم انتهى به المسير إلى مصر فلقى بها من مشاهير العلماء محمدا بن عبد الله بن الحكم والمزنى ومحمدا بن اسحاق بن خزيمة وتلاميذ بن وهب.

وعاود رحلة العودة إلى طبرستان ثم انقطع للتدريس ببغداد حتى وافته منيته فى عشية الأحد ليومين بقيا من شوال سنة عشر وثلاثمائة. دفن فى داره برحبة يعقوب ولم يغير شيبه ...

صنف الكثير من الكتب مثل.

كتاب التفسير.

وكتاب التاريخ.

وكتاب اختلاف الفقهاء.

وكتاب تهذيب الآثار وتفصيل الثابت عن رسول الله من الأخبار وهو الذى سماه القفطى شرح الآثار.

وكتابه ذيل المذيل ..

٤٠