مناهج المفسرين

الدكتور منيع عبد الحليم محمود

مناهج المفسرين

المؤلف:

الدكتور منيع عبد الحليم محمود


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب المصري
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٢

معجبون لا يصدرون إلا عن رأيه ويتعصبون لكل ما يصدر عنه ، ووقف فى وجهه اعداء فى حياته وبعد موته ، كرهوه وكرهوا كل ما يصدر عنه ، وتوسط منصفون فأعطوه حقه ، وقرءوه فى انصاف فريفوا مازاف ، واثبتوا ما يمكث فى الأرض ، فكانوا مع الحق ، عنه يصدرون ، وعلى ضوئه يسيرون.

جهاده السياسى : ـ

ولقد سخر ابن تيمية نفسه وعلمه لخدمة المعركة الكبرى للمسلمين ضد عدوهم الخطير « التتار » لقد تقدم بنفسه لمفاوضة ملك التتار ، واستطاع ان يأخذ منه الامان ، وهجم التتار مرة ثانية على الشام ففزع الناس ، فكان ممن ثبت النفوس وساعد على رياضة القلوب بمواعظه المؤثرة ، وكلماته الحكيمة ، ولقد شهد معركة مع التتار فى رمضان تحقق فيها النصر للمسلمين.

نقد ابن تيمية : ـ

لقد انتقد بعض العلماء ابن تيمية لجرأته لرأيه ومهاجمة رأى خصمه ، ولقد كان فى تحمسه فى هذه المهاجمة يبتعد عن الحق احيانا غير متأن ، أو مترو ، ولو تأنى ، أو تروى لتبين له الأمر على حقيقته. ويؤخذ عليه أنه يتعصب لفكرته فى الصفات ، والاستواء على العرش ، وهى ليست على منهج السلف الذين يبتعدون عن الجدل فى صفات الله ، مقتنعين بحق أنها من ـ المتشابه الذى نهينا عن البحث فيه ، وهذا الجدل فى الصفات قد آثار عليه الكثير من كبار علماء الإسلام من المحدثين الذين يتبعون مذهب السلف ، ومن المتكلمين الذين يتبعون مذهب الخلف.

ويؤخذ عليه اسهابه المسهب فى توضيح رأيه واكثاره من الاستدلال والتكرار فيما يستدل عليه وانطلاقه مع فكرته فى اسلوب عنيف جارف يستميل العامة ، ولا يستسيغه كثير من الخاصة.

٢٠١

ومما أخذه عليه كثير من الناس حملته على الصوفية ، هذه الحملة التى يمدحها كثير من أصحابه والحق أن هؤلاء وأولئك لم يدرسوا ابن تيمية فى هذا الجانب دراسة عميقة ، وذلك أن ابن تيمية يقدس الإمام عبد القادر الجيلانى ، ويشرح كثيرا من فقراته مثنيا ومادحا ..

والإمام الجيلانى هو التصوف كله ، فلا يكاد يخرج رأى فى التصوف إلا وله فيه باع طويل.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية فى فتاواه ج ١١ ، ص ١٧ فى تحديد معنى الصوفى : « هو فى الحقيقة نوع من الصديقين ، فهو الصديق الذى اختص بالزهد والعبادة على الوجه الذى اجتهدوا فيه ، والصوفيون قد يكونون من أجل الصديقين بحسب زمانهم فهم من أكمل صديقى زمانهم ، والصديق فى العصر الأول أكمل منهم ، والصديقون درجات وأنواع ».

ويقول ابن تيمية أيضا : « ولأجل ما وقع من كثير منهم من الاجتهاد والتنازع فيه تنازع الناس فى طريقهم فطائفة ذمت الصوفية ، والتصوف وقالوا أنهم مبتدعون خارجون على السنة وطائفة غالت فيهم وادعوا أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء وكلا طرفى هذه الأمور ذميم والصواب أنهم مجتهدون فى طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل الطاعة ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده وفيهم المقتصد الذى هو من أهل اليمين وفى كل من النوعين من قد يجتهد فيخطئ وفيهم من يذنب فيتوب أولا يتوب.

٢٠٢

( تفسير ابن تيمية )

كان لابن تيمية فهم ممتاز فى كتاب الله ، ولم يؤلف تفسيرا خاصا ، بل تناثر تفسيره فى ثنايا كتبه وفتاواه ورسائله ، وكتب ما كتبه منه فى أوقات مختلفة بحسب المناسبات وقد قام جامع فتاواه عبد الرحمن بن محمد بن قاسم الجنيدى الحنبلى ، يجمع ما كتبه فى مجال التفسير فى المجلد الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر ، من مجموع فتاوى ابن تيمية فلم تخل سورة من تناول ابن تيمية لآية أو آيات منها مما يسهل لنا فهم منهجه فى التفسير والبحث عن مطابقة هذا المنهج لما قام بتفسيره.

منهجه فى التفسير : ـ

قسم ابن تيمية التفسير إلى نوعين : ـ

تفسير بالنقل ، وتفسير بالعقل.

أما عن التفسير بالنقل فذكر أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسر القرآن كله للصحابة.

قال تعالى :

( وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ).

( سورة النحل الآية ٤٤ )

وذكر أن الصحابة فسروا القرآن للتابعين ، وتحدث عن قلة الاختلاف بين الصحابة فى التفسير ، ثم شاع الخلاف بعد عصرهم شيئا فشيئا حتى وصل إلى حالة من التضاد والتناقض.

ويرى ابن تيمية أن الخلاف بين السلف فى التفسير هو اختلاف تنوع

٢٠٣

لا اختلاف تضاد كاختلافهم فى تفسير الصراط المستقيم حيث قال بعضهم هو القرآن.

وقال بعضهم : هو الإسلام ، والقولان متفقان ، لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن ولكن كل واحد منهما نبه على وصف غير الوصف الآخر ، وكذلك قول من قال هو السنة والجماعة وقول من قال : هو طريق العبودية ، وقول من قال هو طاعة الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وامثال ذلك فهؤلاء كلهم اشاروا إلى ذات واحدة ، يقصد اتباع القرآن ، لكن وصفها كل منهم بصفة من صفاتها.

ويرى ابن تيمية أن أحدا من علماء المسلمين لم يقل باختصاص اللفظ العام الوارد بسبب حادث معين بهذا الحادث ، وان الاختلاف إنما هو فى اختصاص هذا اللفظ بنوع ذلك السبب وما يشابهه أو شموله لكل ما يتناوله اللفظ.

فمثلا روى أن قوله تعالى :

( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ).

( سورة المائدة الآية ٤٩ )

نزل فى بنى قريظة والنضير ، واللفظ عام ليس فيه اختصاص : فهل يشمل هذا القول ما يماثل سبب النزول فقط ، أو يعم كل حكم ، وكل حاكم على مدى الزمان.

ولم يقل أحد بتعطيل الآية ، أو الوقف عن الأخذ بها بعد زوال سببها وهم بنو قريظة وبنوا النضير ، أو بعد زوال الوقت الذى نزلت فيه.

وقد تحدث ابن تيمية عن استطراد كثير من المفسرين بالنقل ، فيما يفيد ولا دليل على الصحيح منه مثل اختلافهم فى لون كلب اصحاب الكهف ومقدار سفينة نوح ونوع خشبها ونحو ذلك ـ ويبين ان ما كان من هذا القبيل طريقه النقل الصحيح عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو مقبول كالعلم بأن اسم صاحب

٢٠٤

موسى الخضر وان كان عن غير طريق صحيح إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم رددنا ما قطعنا بكذبه وتوقفنا فيما صح عن أهل الكتاب لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

لا تصدقوا اهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا آمنا بما انزل الينا وما انزل اليكم والهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون.

ثم يتحدث ابن تيمية عن القسم الثانى من التفسير وهو التفسير بالعقل فيقول : ان فى هذا اللون من التفسير خطأ وهذا الخطأ له وجهان : ـ

الأول : ـ قوم اعتقدوا معانى ثم ارادوا حمل الفاظ القرآن عليها فراعوا المعنى الذى رأوه واعتقدوه من غير نظر إلى ما تستحقه الفاظ القرآن من الدلالة والبيان ، يريد انهم يحللوا من كل ما ورد مما يتصل بالآية كسبب النزول والناسخ والمنسوخ والبيان النبوى لكثير من الآيات.

الثانى : ـ قوم فسروا القرآن بمجرد ما يفيده اللفظ العربى من غير نظر إلى منزل القرآن والمنزل عليه والمخاطب به فراعوا جانب اللفظ وتركوا ما عداه وكل من الطريقتين الأخريين فيما يرى ابن تيمية خطأ وأحسن طرق التفسير فى نظره تفسير القرآن بالقرآن فإن لم يتيسر ذلك فسرناه بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له ، قال الشافعى رحمه‌الله : كل ما حكم به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو بما فهمه من القرآن ـ ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

« الا انى اوتيت القرآن ومثله معه » أى السنة والسنة ايضا تنزيل عليه بالوحى كما ينزل القرآن لا انها لا تتلى كما يتلى.

وإذا لم يتيسر التفسير بالقرآن والسنة رجعنا إلى اقوال الصحابة لا سيما كبراؤهم وعلماؤهم كالخلفاء الراشدين وابن مسعود وابن عباس وغيرهم.

فهم الدين شاهدوا التنزيل وعاصروا اسباب النزول وعرفوا الناسخ من المنسوخ وتلمسوا الجوانب المحيطة بالقرآن والمعانى التى اشار إليها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم انضر الناس فهما واقدرهم على الاجتهاد والاستنباط.

٢٠٥

فإن لم نجد التفسير فى اقوال الصحابة آخر ففيما اجمع عليه التابعون ثم تخيرنا فيما روى عنهم ثم لجأنا إلى الاجتهاد بالرأى فى حدود المنهج المقبول.

وهذا المنهج الذى رسمه ابن تيمية للتفسير منهج سلفى لا مجال للطعن فيه.

ولكن ابن تيمية فى تفسيره قد ابتعد فى بعض الأحيان عن هذا المنهج وإليك نموذجا من تفسيره :

سئل رضى الله عنه عن قوله تعالى :

( ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ).

( سورة الانعام الآية ٢ )

وقوله تعالى :

( وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ ).

وقوله تعالى : ( يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ).

( سورة الرعد الآية ٣٩ )

هل المحو الاثبات فى اللوح المحفوظ والكتاب الذى جاء فى الصحيح ( ان الله تعالى كتب كتابا فهو عنده على عرشه ) الحديث.

وقد جاء : « جف القلم » فما معنى ذلك فى المحو والاثبات؟

وهل شرع فى الدعاء ان يقول : « اللهم ان كنت كتبتنى كذا فامحنى واكتبنى كذا فإنك قلت : « يمحو الله ما يشاء ويثبت ».

وهل صح ان عمر كان يدعو بمثل هذا؟ وهل الصحيح عندكم ان العمر يزيد بصلة الرحم كما جاء فى الحديث؟ افتونا ماجورين.

٢٠٦

فأجاب رضى الله عنه : الحمد الله رب العالمين.

أما قوله سبحانه : ( ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ )

فالاجل الأول هو أجل كل عبد الذى ينقضى به عمره ، والأجل المسمى عنده هو اجل القيامة العامة.

ولهذا قال : « مسمى عنده » فإن وقت الساعة لا يعلمه ملك مقرب ولا نبى مرسل ، كما قال : يسألونك عن الساعة ايان مرساها؟ قل : انما علمها عند ربى ، لا يجليها لوقتها إلا هو بخلاف ما إذا قال مسمى.

كقوله : « إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى » إذ لم يقيد بأنه مسمى عنده ، فقد يعرفه العباد وأما أجل الموت فهذا تعرفه الملائكة الذين يكتبون رزق العبد وأجله وعمله ، وشقى او سعيد كما قال فى الصحيحين عن ابن مسعود : أحدكم يجمع خلقه فى بطن امه اربعين يوما نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث إليه الملك ، فيؤمر بأربع كلمات فيقال ، اكتب رزقه ، وأجله وعمله ، وشقى أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح فهذا الأجل الذى هو أجل الموت قد يعلمه الله لمن شاء من عباده.

وأما أجل القيامة المسمى عنده فلا يعلمه إلا هو.

وأما قوله : ( وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ ) فقد قيل ان المراد الجنس أى ما يعمر من عمر انسان ، ولا ينقص من عمر انسان ، ثم التعمير والتقصير يراد به شيئان :

« أحدهما » أن هذا يطول عمره ، وهذا يقصر عمره ، فيكون تقصيره نقصا له بالنسبة إلى غيره ، كما ان المعمر يطول عمره ، وهذا ينقص عمره ، فيكون تقصيره نقصا له بالنسبة إلى غيره. كما ان التعمير زيادة بالنسبة إلى آخر.

وقد يراد بالنقص من العمر المكتوب ، كما يراد بالزيادة الزيادة فى العمر المكتوب. وعن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم انه قال : « من سره ان يبسط له فى رزقه ،

٢٠٧

وينسأ له فى اثره فليصل رحمه » وقد قال بعض الناس : ان المراد به البركة فى العمر ، بأن يعمل فى الزمن القصير ما لا يعمله غيره إلا فى الكثير ، قالوا : لأن الرزق : والأجل مقدران مكتوبان.

فيقال لهؤلاء تلك البركة. وهى الزيادة فى العمل ، والنفع هى أيضا مقدرة مكتوبة وتتناول لجميع الأشياء.

والجواب المحقق : ان الله يكتب للعبد اجلا فى صحف الملائكة فإذا أوصل زاد فى ذلك المكتوب وان عمل ما يوجب النقص نقص من ذلك الكتاب.

ونظير هذا ما فى الترمذى وغيره عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

ان آدم لما طلب من الله ان يريه صورة الأنبياء من ذريته فأراه اياهم ، فرأى فيهم رجلا له بصيص ، فقال : من ذا يا رب؟ فقال : ابنك داود.قال : فكم عمره؟ قال اربعون سنة. قال : وكم عمرى؟ قال : ألف سنة. قال : فقد وهبت له من عمرى ستين سنة. فكتب عليه كتاب ، وشهدت عليه الملائكة ، فلما حضرته الوفاة قال : قد بقى من عمرى ستون سنة. قالوا : وهبتها لابنك داود. فأنكر ذلك : فأخرجوا الكتاب ، قال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنسى آدم فنسيت ذريته : جحد آدم فجحدت ذريته ، وروى انه كمل لآدم عمره ولداود عمره.

فهذا داود كان عمره المكتوب اربعين سنة ، ثم جعله ستين ، وهذا معنى ما روي عن عمر انه قال : اللهم ان كنت كتبتنى شقيا فامحنى واكتبنى سعيدا فإنك تمحو ما تشاء وتثبت. والله سبحانه عالم بما كان وما يكون ، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون فهو يعلم ما كتبه له وما يزيده اياه بعد ذلك والملائكة لا علم لهم إلا ما علمهم الله والله يعلم الأشياء قيل كونها وبعد كونها.

فلهذا قال العلماء : ان المحو والاثبات فى صحف الملائكة ، وأما علم الله سبحانه فلا يختلف ولا يبدله ما لم يكن عالما به ، فلا محو فيه ولا اثبات.

وأما اللوح المحفوظ فهو فيه محو واثبات على قولين. والله سبحانه وتعالى أعلم.

٢٠٨

ابن جزى وكتابه التسهيل

أبو القاسم محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن جزى الكلبى الغرناطى من مشاهير العلماء بغرناطة ، وذوى الأصالة والنباهة فيها.

كان رحمه‌الله على طريقة مثلى من العكوف على العلم ، والاشتغال بالنظر والتقيد والتدوين ، جمع إلى الفقه جودة الحفظ واتقان التفسير ، وشارك فى كثير من الفنون كالعربية والأصول والقراءات بالحديث والأدب ، وجمع فى مكتبة العديد من الكتب المفيدة والمراجع المهمة ، وتولى الخطابة بالمسجد الأعظم فى بلده على حداثة سنه ، فاتفق على فضله واشتهر جده وعلمه ..

وكان رحمه‌الله مستغرقا فى همه ، وهمه بلوغ القمة فى علوم الشريعة ، وتحصيل ما يستطيع تحصيله ، وبث ذلك فى الناس ونشره ، ومما يعبر عن ذلك قوله :

لكل بنى الدنيا مراد ومقصد

وان مرادى صحة وفراغ

لأبلغ فى علم الشريعة مبلغا

يكون به لى فى الحياة بلاغ

ففي مثل هذا يستزيد اولوا النهى

وحسبى من الدنيا الغرور بلاغ

فما العيش إلا فى نعيم مؤبد

به العيش رغد والشراب يساغ

قرأ على الأستاذ أبى جعفر بن الزبير واستفاد منه فى العربية والفقه والحديث والقراءات وعلى ابى عبد الله بن العماد ، ولزم الحافظ بن رشيد ، ولازم الخطيب الفاضل أبا عبد الله بن برطال والاستاذ النظار المتفنن أبا القاسم قاسم بن عبد الله ..

وقد انتج ابن جزى فى مجال نشاطه كثيرا من المؤلفات منها :

الأنوار السنية فى الكلمات السنية.

٢٠٩

الدعوات والأذكار المخرجة من صحيح الأخبار.

التنبيه على مذهب الشافعية والحنفية والحنابلة.

تقريب الوصول إلى علم الأصول.

أصول القراء الستة غير نافع.

المختصر البارع فى قراءة نافع.

القوانين الفقهية فى تلخيص مذهب المالكية.

الفوائد العامة فى لحن العامة.

النور المبين فى قواعد عقائد الدين.

ومن معالم شخصيته المميزة حبه للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويعبر عن ذلك قوله :

أريم امتداح المصطفى فيردنى

قصورى عن ادراك تلك المناقب

ولو ان كل العالمين تألفوا

على مدحه لم يبلغوا بعض واجب

فأمسكت عنه هيبة وتأدبا

وخوفا وإعظاما لا رفع جانب

ورب سكوت كان فيه بلاغة

ورب كلام فيه عتب لعاتب

وكان رحمه‌الله من المجاهدين المحاربين ، فكان يحرض الناس يوم معركة طريف ، ومات شهيدا فى جمادى الأولى سنة احدى وأربعين وسبعمائة.

تفسيره

قدم ابن جزى للتفسير بمقدمة جليلة فقال بعد الحمد والثناء :

أما بعد ، فإن علم القرآن العظيم هو ارفع العلوم قدرا ، واجلها خطرا ، وأعظمها اجرا واشرفها ذكرا ، وان الله انعم على بأن شغلنى بخدمة القرآن وتعلمه وتعليمه ، وشغفنى بتفهم معانيه ، وتحصيل علومه ، فاطلعت على

٢١٠

ما صنف العلماء رضى الله عنهم فى تفسير القرآن من التصانيف المختلفة الأوصاف ، المتباينة الاصناف ، فمنهم من اثر الاختصار ومنهم من طول حتى كثر الاسفار ، ومنهم من تكلم فى بعض العلم دون بعض ، ومنهم من اعتمد على نقل أقوال الناس ، ومنهم من عمل على النظر والتحقيق والتدقيق ، وكل أحد سلك طريقا نحاه ، وذهب مذهبا ارتضاه ، ( وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى ) ( سورة الحديد الآية ١٠ ) ، فرغبت فى سلوك طريقهم والانخراط فى مساق فريقهم ، وصنفت هذا الكتاب فى تفسير القرآن العظيم ، ـ وسائر ما يتعلق به من العلوم وسلكت مسلكا نافعا ، إذ جعلته وجيزا جامعا ، قصدت به اربعة مقاصد تتضمن اربع فوائد :

الفائدة الأولى : جمع كثير من العلم فى كتاب صغير الحجم ، تسهيلا على الطالبين وتقريبا على الراغبين ، فلقد احتوى هذا الكتاب على ما تضمنته الدواوين الطويلة من العلم ولكن بعد تلخيصها ، وتنقيح فصولها ، وحذف حشوها وفضولها ، ولقد اودعته من فن من فنون علم القرآن اللباب المرغوب فيه ، دون القشر المرغوب عنه ، من غير افراط ولا تفريط ثم انى عزمت على ايجاز العبارة ، وافراط الاختصار ، وترك التطويل والتكرار ..

الفائدة الثانية : ـ ذكر نكت عجيبة ، وفوائد غريبة ، قلما توجد فى كتاب ، لأنها من نبات صدرى وينابيع ذكرى ، ومما أخذته عن شيوخى رضى الله عنهم ، أو مما التقطته من مستطرفات النوادر الواقعة فى غرائب الدفاتر ..

الفائدة الثالثة : ـ ايضاح المشكلات ، اما بحل العقد المقفلات ، واما بحسن العبارة ورفع الاحتمالات ، وبيان المجملات.

الفائدة الرابعة : تحقيق أقوال المفسرين ، السقيم منها والصحيح ، وتمييز الراجح من المرجوح وذلك ان أقوال الناس على مراتب : فمنها الصحيح الذى يعول عليه ، ومنها الباطل الذى لا يلتفت إليه ، ومنها ما يحتمل الصحة

٢١١

والفساد ، ثم ان هذا الاحتمال قد يكون مساويا أو متفاوتا والتفاوت قد يكون قليلا أو كثيرا ، وانى جعلت لهذه الأقسام عبارات مختلفة ، ـ تعريفها كل مرتبة وكل قول ، فادناها ما صرح بأنه خطأ أو باطل ، ثم ما أقول فيه أنه ضعيف أو بعيد ، ثم أقول أن غيره ارجح أو اقوى ، أو اظهر أو اشهر ، ثم ما أقدم غيره عليه اشعارا بترجيح المتقدم او بالقول فيه : قيل كذا قصدا للخروج من عهدته ، واما صرحت باسم قائل القول فانى افعل ذلك لاحد امرين :

اما للخروج عن عهدته ، واما لنصرته إذا كان قائله ممن يقتدى به.

ثم قال : وسميته « كتاب التسهيل لعلم التنزيل » وقدمت فى أوله مقدمتين : إحداهما : فى أبواب نافعة ، وقواعد كلية جامعة ، والأخرى فيما كثر دوره من اللغات الواقعة ثم قدم لكتابيه مقدمات :

المقدمة الأولى : فيها اثنا عشر بابا.

الباب الأول : فى نزول القرآن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أول ما بعثه الله بمكة وهو ابن اربعين سنة إلى ان هاجر إلى المدينة ثم نزل عليه بالمدينة إلى ان توفاه الله.

الباب الثانى : ـ فى السور المكية والمدنية.

الباب الثالث : ـ فى المعانى والعلوم التى تضمنها القرآن.

الباب الرابع : ـ فى فنون العلم التى تتعلق بالقرآن.

الباب الخامس : ـ فى أسباب الخلاف بين المفسرين ، والوجوه التى يرجح بها بين أقوالهم.

الباب السادس : ـ فى ذكر المفسرين.

الباب السابع : ـ فى الناسخ والمنسوخ.

الباب الثامن : ـ فى جوامع القراءة.

٢١٢

الباب التاسع : ـ فى الوقف.

الباب العاشر : ـ فى الفصاحة والبلاغة وادوات البيان.

الباب الحادى عشر : ـ فى اعجاز القرآن واقامة الدليل على انه من عند الله عزوجل.

الباب الثانى عشر : ـ فى فضل القرآن.

المقدمة الثانية : ـ فى تفسير معانى اللغات أى الكلمات التى يكثر ورودها فى القرآن أو تقع فى موضعين فأكثر من الأسماء والأفعال والحروف.

وكان فى كل ذلك سالكا سبيل الاختصار ، مكتفيا بالتركيز عن الاطالة ، ممهدا الطريق لبدء تفسير الآيات ، فاشتملت المقدمة على كثير مما حال الاختصار دون ذكره فى تفسير الآيات ، وحقق بها ما يمكن ان يضم إلى الكتب المؤلفة فى كل فن من الفنون التى اشتملت عليها.

ومن نماذجه : قال تعالى :

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً )

( سورة النساء الآية ١٩ )

( لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ ) قال ابن عباس :

كانوا فى الجاهلية إذا مات الرجل كان اولو الحق بامرأته ان شاءوا تزوجها أحدهم وان شاءوا زوجوها من غيرهم ، وان شاءوا منعوها التزوج ، فنزلت الآية فى ذلك ، فمعنى الآية على هذا : لا يحل لكم ان تجعلوا النساء يورثن عن الرجال كما يورث المال.

٢١٣

وقيل : الخطاب للازواج الذين يمسكون المرأة فى العصمة ليرثوا مالها من غير غبطة بها.

وقيل الخطاب للاولاد الذين يمنعون امهاتهم من التزوج ليرثوهن دون الزوج.

ولا تعضلوهن : معطوف على ان ترثوا أو نهى ، والعضل المنع ، قال ابن عباس : هى أيضا فى أولياء الزوج الذين يمنعون زوجته من التزوج بعد موته ، إلا أن قوله « ما آتيتموهنّ » على هذا معناه ما اتاها الرجل الذى مات.

وقال ابن عباس : هى فى الأزواج الذين يمسكون المرأة ويسيئون عشرتها حتى تفتدى صداقها وهو ظاهر اللفظ فى قوله « ما آتيتموهن » وبقوله « وعاشروهنّ بالمعروف » فإن الاظهر فيه ان يكون فى الأزواج ، وقد يكون فى غيرهم .. وقيل للأولياء ..

( إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) : قيل الفاحشة هنا الزنا ، وقيل نشوز المرأة وبغضها فى زوجها ، فإذا نشزت جاز له ان يأخذ ما آتاها من صداق أو غير ذلك من مالها ، وهذا جائز على مذهب مالك فى الخلع إذا كان الضرر من المرأة ، والزنا أصعب على الزوج من النشوز فيجوز له أخذ الفدية ..

( فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَ ) الآية ... معناها ان كرهتم النساء لوجه فاصبروا فعسى ان يجعل الله الخير فى وجه آخر ..

وهذا معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا يترك مؤمن مؤمنة ، ان سخط منها خلقا رضى آخر ..

* * *

٢١٤

الإمام النسفى وتفسيره

من علماء المذهب الحنفى المشهورين ، وممن لهم قدم راسخ فى كثير من العلوم ، المفسر الشهير ، والعالم النحرير ، حافظ الدين أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفى المنسوب إلى نسف ببلاد السند بين جيحون وسمرقند.

كان عالما بالفقه وأصول الدين وأصول الفقه والتفسير وامتازت مؤلفاته بجودة التحرى ودقة التعبير وشدة التركيز وحشد المعلومات المتنوعة فى حيز بسيط حتى ليعسر على غير المتخصص الأخذ عنها ، وفهم كل ما يشير إليه.

وقد استفاد من شتى طرق البحث السابق عليه فخرج بين استدلالات المتكلمين وجدل الأصوليين واستنباط الفقهاء متميزا بطريقته الخاصة فى التأليف. كما استفاد من شيوخه المشاهير ومنهم شمس الأئمة الكردى ، وأحمد ابن محمد العتابى وغيرهم من كبار العلماء المتخصصين.

مؤلفاته :

للإمام النسفى مؤلفات طبع أكثرها ، وأخذ مجاله فى سوق العلم حتى اشتهر كمفسر ، وأشتهر كفقيه ، وأشتهر كباحث فى أصول الدين وباحث فى أصول الفقه ... ومن هذه المؤلفات :

١ ـ عمدة العقائد فى الكلام.

٢ ـ شرح عمدة العقائد وسماه الاعتماد.

٣ ـ منار الأنوار فى أصول الفقه.

٤ ـ الكافى فى شرح الوافى فى الفقه الحنفى.

٥ ـ كنز الدقائق فى الفقه الحنفى.

٢١٥

صفاته :

كان الإمام النسفى على نسق غيره من كبار العلماء المسلمين مشهورا بالزهد والصلاح والتقوى ، فضلا عن تفرغه للعلم والدراسة والبحوث وقد اشتهر علمه وذاع فضله فى عصره وبعد عصره وبارك الله فى مؤلفاته ، فأصبحت مرجع الباحثين ، ومجال البحث والدراسة بين الدراسين ، لما فيها من تدقيق وتحقيق ، واكتفاء بالاشارة عن التفصيل ، وبالإيجاز عن الاطناب.

وقد قدره العلماء حق قدره ، فقد كتب عنه صاحب ( الدرر الكامنة ) فوصفه بهذه الكلمة المدوية ( علامة الدنيا ).

وكتب عنه الحافظ عبد القادر فى طبقاته فقال :

« أحد الزهاد المتأخرين ، صاحب التصانيف المفيدة فى الفقه والأصول ، له المستصفى فى شرح المنظومة ، وله شرح النافع سماه بالمنافع ، وله الكافى فى شرح الوافى ، وله كنز الدقائق ، وله المنار فى أصول الفقه ، وله العمدة فى أصول الدين ، تفقه على شمس الأئمة الكردى ، وروى الزيادات عن أحمد بن محمد العتابى » ..

والنسفى باعتباره من أئمة أهل السنة كان له مواقف فى غاية القوة ، وفى غاية العمق ، فى الرد على كل انحراف فى تفسير القرآن ، وخصوصا تفسير الكشاف .. ، .. ولم يقتصر فى الرد على المعتزلة على ما كتبه عن تفسير الكشاف ، وإنما فعل ذلك فى كل كتبه الكلامية التى كانت لقيمتها الكبرى مجال اهتمام فى رحاب الأزهر ، قررت على الطلبة فى مختلف مراحل التعليم ، وقام الأساتذة باختصارها ، وبشرحها ، وبالتعليق عليها مستفيدين منها ، ومفيدين للغير بها ـ والله سبحانه وتعالى يقول :

( وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ ). سورة يس الآية ١٢

وان آثار الإمام النسفى فى الخير هائلة.

٢١٦

وفاته :

وكانت وفاة الإمام النسفى رحمه‌الله عام واحد وسبعمائة من الهجرة ببلدة ايذج بين خوزستان واصبهان.

رحمه‌الله ونفع بعلمه ..

تفسير النسفى

سماه الإمام النسفى ( مدارك التنزيل وحقائق التأويل ) ويعتبر هذا التفسير من التفاسير العلمية المحررة ، ليس بالطويل الممل ، ولا بالقصير المخل.

وقد تحدث الإمام النسفى عن السبب الذى دعاه إلى تأليف هذا التفسير فقال :

( سألنى من تتعين أجابته كتابا وسطا فى التأويلات ، جامعا لوجوه الاعراب والقراءات ، متضمنا لدقائق علمى البديع والاشارات ، حاليا بأقاويل أهل السنة والجماعة ، خاليا عن أباطيل أهل البدع والضلالة ، ليس بالطويل الممل ، ولا بالقصير المخل .. ثم ذكر أنه تردد فى الاجابة .. ولكنه قطع هذا التردد ، وسار فى تأليفه بجد ، حتى أتمه فى مدة يسيرة.

والناظر فى هذا التفسير يجد فيه فهما واعيا ، وخبرة دقيقة ، واطلاعا واسعا ، وحسن استفادة من هذا الاطلاع ..

وقد استفاد من تفسيرى البيضاوى والكشاف أيما استفادة ، فأخذ من البيضاوى معناه الدقيق ، وفهمه الواعى ، وتوجيهه السديد ، وإيجازه المركز .. وأخذ من الزمخشرى فى كشافه خبرته الواسعة باللغة ، ومناقشته للآراء المتعددة ، واختيار ما يراه .. على أنه لم يقع فيما وقع فيه الزمخشرى فى كشافه من التعصب لمذهب الاعتزال ، وحمل الآيات فى تعسف على تأييد أصوله وقواعده.

٢١٧

إنه على العكس من ذلك اتخذ موقفا مضادا ، فحارب ما يخالف المذهب الأشعرى مستفيدا من طريقة الزمخشرى ، رادا عليه ، منتقدا طريقته وحججه.

ويمتاز تفسير النسفى باقلاله من الاسرائيليات ، وابتعاده ما استطاع عنها.

كما يمتاز بتحريه فى اختيار أكثر الأحاديث ، ويظهر ذلك أبلغ ما يظهر فى تركه ذكر الاحاديث الموضوعة فى فضائل السور ..

كما أنه لم يتوسع فى الإعراب ، ولم يدخل فى تفصيلات فرعية ، تشتت الذهن ، وتبتعد بالقارئ عن الجو القرآنى.

ولم يخل تفسيره من الإشارة إلى المذاهب الفقهية فى بعض آيات الأحكام ، والانتصار لمذهبه الحنفى.

تفسير قوله تعالى :

( إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ).

( سورة المائدة الآية ١١٢ )

عن الحسن : أن المائدة لم تنزل ، ولو نزلت لكانت عيدا إلى يوم القيامة ، لقوله : وآخرنا .. والصحيح أنها نزلت :

فعن وهب : نزلت مائدة منكوسة تطير بها الملائكة ، عليها كل طعام إلا اللحم ..

وقيل : كانوا يجدون عليها ما شاءوا.

وقيل : كانت تنزل حيث كانوا بكرة وعشيا.

٢١٨

ما يؤخذ على تفسيره :

ولا يسلم تفسير النسفى على وجه العموم من النقد :

لقد اكتفى بإشارات فى غاية الايجاز إلى الآراء المختلفة فيما يتعلق بالآيات التى استدلت بها الفرق ، وكأنه يفترض شهرة هذه الآراء ، ومعرفة الكل بها ، ودوام هذه المعرفة ، ويتمثل لنا ذلك فى تفسير قوله تعالى :

( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ )

( سورة الملك الآية ١٤ )

إنه يقول : أنكر أن لا يحيط علما بالمضمر والمسر والمجهر من خلقها ، وصفته أنه اللطيف أى العالم بدقائق الأشياء ، الخبير العالم بحقائق الأشياء ، وفيه إثبات خلق الأقوال فيكون دليلا على خلقه أفعال العباد ، وقال أبو بكر بن الأمم وجعفر بن حرب من مفعول والفاعل مضمر وهو الله تعالى ، فاحتالا بهذا لنفى خلق الأفعال ..

ولم يسلم من الإسرائيليات رغم احتياطه وتحفظه ، فتراه عند تفسيره لقوله تعالى من سورة النمل :

( وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ).

( سورة النمل الآية ١٦ )

روى أنه صاحب فاختة ( طائر معروف ) فأخبر أنها تقول : ليت ذا الخلق لم يخلقوا ، وصاح طاوس فقال : يقول : كما تدين تدان ، ثم ذكر أصنافا من الطير ، وقول كل صنف من هذه الأصناف ، دون أن يعقب على ذلك ، بل دون أن يحترز من ذكر مثل هذه الأقوال التى لا سند لها من الأحاديث الصحيحة.

٢١٩

ونأخذ عليه : أن أسلوبه يعلو على مستوى العامة ، حيث حشد مفسره فيه ألوانا من العلوم المتعلقة بالقرآن لا يفهمها إلا من عنده فكرة سابقة عنها .. وفى آية المائدة التى ذكرناها سابقا يذكر آراء عن الحسن وعن وهب وعن غيرهما دون أن يوجه نظره إلى ما رواه الترمذى بسنده عن عمار بن ياسر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

( انزلت المائدة من السماء خبزا ولحما .. الخ الحديث ) ..

والواقع أنه على الرغم من منزلة الإمام النسفى الكبرى فإن مكانته فى علم الكلام هى مناط شهرته ، ومصدر ذيوع صيته ، أما تفسيره على ما له من مكانة كبيرة لا تنكر ، ومن منزلة سامية لا يشك فيها ، فإنه ـ كان فيه عالة على تفسير الإمام البيضاوى ، وعلى تفسير الإمام الزمخشرى ، فى مجال معين هو مجال الجوانب البلاغية التى برع فيها جار الله الزمخشرى ولم يجاره فيها مجار والإمام النسفى وإن كان عنى عناية بالغة بالرد على الإمام الزمخشرى فإنه تبنى كل ما كتبه الإمام الزمخشرى تقريبا فى البلاغة القرآنية.

ورحم الله الإمام النسفى رحمة واسعة جزاء زهده ونشره للعلم فقها وأصولا وكلاما وتفسيرا.

نماذج من تفسير النسفى

١ ـ يقول الله تعالى :

( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ ، وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ ، خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )

( سورة التوبة لآية ١٠٠ )

٢٢٠