مناهج المفسرين

الدكتور منيع عبد الحليم محمود

مناهج المفسرين

المؤلف:

الدكتور منيع عبد الحليم محمود


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب المصري
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٢

الواحدى النيسابورى

وأسباب النزول

هو على بن أحمد بن محمد بن على الواحدى النيسابورى ، الامام الكبير أبو الحسن كان أبوه من التجار فتهيأ له طلب العلم والأخذ منه ، فأخذ العربية عن أبى الحسن القهندزى ، واللغة عن أبى الفضل أحمد بن محمد بن يوسف العروضى صاحب أبى منصور الأزهرى ، وسمع من أبى الطاهر الزيادى وأبى بكر أحمد بن الحسن الحيرى وأبى إبراهيم إسماعيل بن إبراهيم الواعظ ، وعبد الرحمن بن حمدان النصرونى ، وأحمد إبراهيم النجار وخلق.

وداب الواحدى فى طلب العلم ، وجد فيه حتى لقد قيل عنه : واحد عصره فى التفسير وكان له من المؤلفات الكثيرة فى التفسير وغيره ، ومن مؤلفاته فى ذلك :

البسيط ، والوسيط ، والوجيز ، وكلها تفسير للقرآن الكريم ، فالبسيط فى نحو ستة عشر مجلدا ، والوسيط فى اربعة مجلدات ، والوجيز فى أقل من ذلك :

ومنها : اسباب النزول وهو موضوع حديثنا وهو مطبوع بمصر محقق.

ومنها : التحبير فى شرح الأسماء الحسنى.

ومنها : شرح ديوان المتنبى.

ومنها : الدعوات.

ومنها : المغازى.

ومنها : الاغراب فى علم الاعراب.

ومنها : كتاب تفسير النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١٠١

ومنها : شرح ديوان المتنبى.

وكان له شعر مليح ، واختيار طيب لما ينقل ، فمن تفسيره فيما نقله التاج السبكى فى طبقاته ما قاله فى الوسيط فى تفسيره سورة القتال عند الكلام على قوله تعالى :

( وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ ).

أخبرنى أبو الحسن محمد بن أحمد بن الفضل بن يحيى ، عن محمد بن عبيد الله الكاتب قال :

قدمت مكة ، فلما وصلت إلى طيزناباذ ذكرت بيت أبى نواس :

كرم ما مررت به إلا

تعجبت ممن يشرب الماء

فهتف بى هاتف اسمع صوته ولا اراه :

و فى الجحيم حميم ما تجرعه

حلق فابقى له فى البطن امعاء

وفى تفسير « ألم نشرح » نقل بسنده عن ابن العتبى قال :

كنت ذات ليلة فى البادية بحالة من الغم ، فألقى فى روعى بيت من الشعر ، فقلت :

ارى الموت لمن أص

بح مغموما له اروح

فلما جن الليل سمعت هاتفا يهتف فى الهواء.

ألا ايها المرء ال

ذى الهم به برح

و قد انشد بيتا لم

يزل فى فكره يسبح

إذا اشتد بك ، الأمر

ففكر فى ألم نشرح

فعسر بين يسرين

إذا ابصرته فافرح

وقد نقل الواحدى عن الشعبى قال :

فرق الله تنزيله فكان بين أوله وآخره عشرون أو نحو عشرين سنة انزله قرآنا

١٠٢

عظيما وذكرا حكيما ، وحبلا ممدودا ، وعهدا معهودا ، وظلا عميما ، وصراطا مستقيما ، فيه معجزات باهرة وآيات ظاهرة ، وحجج صادقة ، ودلالات ناطقة ، دحض به حجج المبطلين. ورد به كيد الكائدين ، وايد به الاسلام والدين فلمع منهاجه ، وثقب سراجه ، وشملت بركته ، ولمعت حكمته على خاتم الرسالة ، والصادع بالدلالة ، الهادى للأمة ، الكاشف للغمة الناطق بالحكمة ، المبعوث بالرحمة ، فرفع اعلام الحق ، واحيا معالم الصدق ، ودفع الكذب ومحا آثاره ، وقمع الشرك وهدم مناره ، ولم يزل يعارض ببيناته المشركين ، حتى مهد الدين ، وابطل شبه الملحدين ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة لا ينتهى امدها ، ولا ينقطع مددها وعلى آله وأصحابه الذين هداهم وطهرهم ...

أما كتابه اسباب النزول فهو من احسن المؤلفات فى هذا الباب وقد جمع فيه تقريبا جميع المرويات من الحديث وأقوال الصحابة والتابعين فى سبب نزول الآيات ، وقد رتبه سورة بعد سورة. على ترتيب المصحف ويذكر فى كل سورة منها ما ورد من سبب نزول الآيات بها فليس كل آية ورد بها سبب نزول عنده ولكنه عد ذلك فى كثير من الآيات مع ذكر السند الذى يوثقها.

وهاك نموذجا من أسباب النزول : ـ

قوله تعالى :

( سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ). ( سورة الصف الآية ١ )

أخبرنا محمد بن جعفر ، حدثنا محمد بن عبد الله بن زكريا ، أخبرنا محمد بن عبد الرحمن الدغولى ، قال : حدثنا محمد بن بهيجى ، حدثنا محمد بن كثير الصنعانى عن الأوزاعى عن يحيى بن كثير ، عن ابن سلمة عن عبد الله بن سلام :

قال :

قعدنا نفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتذكرنا وقلنا :

١٠٣

لو نعلم أى الأعمال أحب إلى الله تبارك وتعالى عملناه. فأنزل الله تعالى :

( سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ).

إلى قوله :

( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ ). ( سورة الصف الآية ١ ، ٤ )

إلى آخر السورة فقرأها علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفى سورة الفتح : قوله عزوجل :

( لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ). إلى آخر الآية.

أخبرنا سعيد بن محمد المقرى قال : حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد المدينى ، قال حدثنا أحمد بن عبد الرحمن السقطى قال : حدثنا يزيد بن هارون قال : أخبرنا همام عن قتادة عن أنس قال :

لما نزلت :

( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ، لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ ).

قال أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هنيئا لك يا رسول الله ما أعطاك الله ، فما لنا؟ فأنزل الله تعالى :

( لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ... ). ( سورة الفتح الآية ١ ، ٥ )

١٠٤

الكشاف عن حقائق التنزيل

وعيون الأقاويل فى وجوه التأويل

مؤلفه هو : أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشرى ـ الملقب بـ « جار الله » وقد كان حنفى المذهب ، معتزلى العقيدة.

ولقب بجار الله ، لأنه ذهب إلى مكة وجاور بها زمنا.

أما مولده : فكان فى رجب سنة ٤٦٧ ه‍ ـ فى قرية من قرى « خوارزم تسمى « زمخشر » ومن هنا كان انتسابه إليها فقيل له : الزمخشرى.

رحلته :

وقد دأب الزمخشرى على السفر والانتقال من مكان إلى مكان ، فقد سافر إلى بغداد ، وسافر إلى « خراسان » عدة مرات ، وسافر إلى الأرض المقدسة ، وأقام بها طويلا ، وألف فيها كتابه « الكشاف » الذى يقول عنه : انه ألفه فى مدة مقدارها مدة خلافة أبى بكر رضى الله عنه أى سنتان وبضعة أشهر ، انه يقول :

« ووفق الله وسدد ففرغ منه فى مقدار مدة خلافة أبى بكر الصديق رضى الله عنه ، وكان يقدر تمامه فى أكثر من ثلاثين سنة ، وما هى إلا آية من آيات هذا البيت المحرم ، وبركة أفيضت على من بركات هذا الحرم المعظم ، اسأل الله أن يجعل ما تعبت فيه سببا ينجينى ونورا لى على الصراط يسعى بين يدى ويمينى ، ونعم المسئول ... »

لقد ألفه الزمخشرى فى أواخر عمره ، وألفه بعد أن أجرى تجربة فى التفسير كانت ناجحة ، وذلك أنه طلب إليه املاء تفسير ويقول عن ذلك :

فأمليت عليهم مسألة فى الفواتح ، وطائفة من الكلام فى حقائق سورة

١٠٥

البقرة ، وكان كلاما مبسوطا كثير السؤال والجواب ، طوف بالذيول والأذناب ، وإنما حاولت به التنبيه على غزارة نكت هذا العلم وأن يكون لهم منارا يحجونه ، ومثالا يحتذونه ... »

ونجحت هذه التجربة ، فأخذ الناس يفدون إليه ليأخذوها عنه ، ويسافرون إليه ليستفيدوا بها منه. ثم ـ لما حط رحاله بمكة ـ شرع فى تفسيره « الكشاف » ولم يؤلفه على نسق التجربة السابقة وإنما : « فى طريقة أخصر من الأولى ـ كما يقول ـ مع ضمان التكثير من الفوائد والفحص عن السرائر ».

توفى الزمخشرى سنة ٥٣٨ ه‍ ـ بجرجانية خوارزم.

أما كتابه فإن الناس يقولون عنه عادة : « الكشاف للزمخشرى » وهو كتاب أثار ـ وما زال يثير ـ الاستحسان الجم ، والنقد اللاذع إذ أن صاحبه يوصف بوصفين ظاهرين يعلنهما على الملأ ويذكرهما دون خفاء.

أما أحد هذين الوصفين فهو : أنه يتمذهب بمذهب أهل الاعتزال ويعتز به إلى درجة أنه كان أحيانا إذا قصد صاحبا له ، واستأذن عليه فى الدخول يقول لمن يأخذ له الاذن :

« قل له : أبو القاسم المعتزلى بالباب »

ويركز على كلمة « المعتزلى ... »

وقد بدأ تفسيره منذ الكلمات الأولى على مذهب الاعتزال وسار فيه من أوله إلى آخره واضعا نصب عينيه هذا المذهب ، ففسر الآيات التى اختلف فيها بين أهل السنة وأهل الاعتزال على طريقة المعتزلة ، وأسرف فى ذلك ...

والقرآن الكريم ليس كتاب مذهب ، فإذا وضعت الاساس عند التفسير على طريقة معنة ، واتخذت ذلك شعارا فقد ملت عن شرعة الانصاف.

ومن هنا كان النقد المستفيض من قمم علماء أهل السنة.

أما الوصف الثانى ـ الذى ظهر فى وضوح فى التفسير وفى صاحب التفسير :

١٠٦

فهو هذا النوع من بيان اعجاز القرآن فى بلاغته وفصاحته ، وايضاح أنه حقيقة من كلام رب العالمين ، وليس للبشر إلى مثله من سبيل ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.

ولقد أعد الزمخشرى نفسه لهذا اعدادا كاملا :

لقد أعد له لغة ، وأعد له بلاغا وبيانا ، وأعد له اسلوبا وفصاحة وأعد له نحوا وصرفا ...

ولكن الذى يركز عليه صاحب الكشاف ولا يرى من اتقانه مناصا للمفسر هو : علم المعانى ، وعلم البيان وما من شك فى أن التفسير يحتاج إلى علوم جمة نترك للزمخشرى نفسه بيانها ، أنه يقول عن التفسير :

« لا يتم لتعاطيه واجالة النظر فيه كل ذى علم ـ كما ذكر الجاحظ فى كتاب نظم القرآن ـ فالفقيه ان برز على الاقران فى علم الفتاوى والاحكام والمتكلم وان بز الدنيا فى صناعة الكلام ، وحافظ القصص والاخبار وان كان من ابن القرية احفظ ( أحد فصحاء العرب ) والواعظ وان كان من الحسن البصرى أوعظ والنحوى وان كان انحى من سيبويه واللغوى وان علك اللغات بقوة لحييه : لا يتصدى منهم أحد لسلوك تلك الطرائق ، ولا يغوص عن شىء من تلك الحقائق إلا رجل قد برع فى علمين مختصين بالقرآن وهما : علم المعانى وعلم البيان ، وتمهل فى ارتيادهما آونة ، وتعب فى التنقير عنهما ازمنة ، وبعثته على تتبع مظانهما همة فى معرفة لطائف حجة الله ، وحرص على استيضاح معجزة رسول الله ـ بعد أن يكون أخذ من سائر العلوم بحظ جامعا بين أمرين : تحقيق ـ وحفظ ـ كثير المطالعات طويل المراجعات ، قد رجع زمانا ، ورجع إليه ورد عليه فارسا فى علم الاعراب مقدما فى حملة الكتاب ، وكان مع ذلك مسترسل الطبيعة منقادها ، مشتعل القريحة وقادها ـ يقظان النفس داركا للمحة وإن لطف شأنها ، منبها على الرمزة وإن خفى مكانها لاكزا جاسيا ولا غليظا جافيا ، متصرفا ذا دراية بأساليب النظم والنثر ، مرتضى غير ربض بتلقيح بنات الفكر ، قد علم كيف يرتب الكلام ويؤلف ، وكيف

١٠٧

ينظم ويرصف ، طالما دفع إلى مضايقة ، ووقع فى مداحضه ومزالقه »

ولقد أعجب الزمخشرى بتفسيره حتى أنه ليقول فيه شعرا ، منه :

إن التفاسير فى الدنيا بلا عدد

وليس فيها لعمرى مثل كشافى

إن كنت تبغى الهدى فالزم قراءته

فالجهل كالداء والكشاف كالشافى

وربما كان اصدق ما قيل فيه هو كلام الشيخ حيدر الهروى ، فانه وفاه حقه فيما هو عليه من البلاغة والبيان ، وذلك حق لا يمارى فيه انسان ، ثم بين ما أخذ عليه وهو حق أيضا لا ينكره منصف ، أما ما الزمخشرى ـ فيما رأى الشيخ الهروى ـ فإنه يقول :

« إن كتاب الكشاف عالى القدر ، رفيع الشأن لم ير مثله فى تصانيف الأولين ، ولم يرد شبيهه فى تآليف الآخرين ، اتفقت على متانة تراكيبه الرشيقة كلمة المهرة المتقنين ، واجتمعت على محاسن اساليبه الأنيقة السنة الكلمة من المفلقين ، ما قصر فى قوانين التفسير وتهذيب براهينه ، وتمهيد قواعده ، وتشييد معاقده.

وكل كتاب بعده فى التفسير ـ ولو فرض أنه لا يخلو عن النقير والقطمير إذا قيس به ـ لا تكون له تلك الطلاوة ، ولا يوجد فيه شىء من تلك الحلاوة ، على أن مؤلفه يقتفى أثره ، ويسأل خبره وقلما غير تركيبا من تراكيبه إلا وقع فى الخطأ والخطل ، وسقط من مزالق الخبط والزلل ، ومع ذلك كله إذا فتشت عن حقيقة الخبر ، فلا عين منه ولا أثر ، ولذلك قد تداولته أيدى النظار فاشتهر فى الاقطار كالشمس فى وسط النهار ...

أما ما يؤخذ عليه فهو أمور منها :

أنه كلما شرع فى تفسير آية من الآيات القرآنية مضمونها لا يساعد هواه.

١٠٨

ومدلولها لا يطاوع مشتهاه : صرفها عن ظاهرها بتكلفات باردة ، وتعسفات جامدة ، وصرف الآية ـ بلا نكتة بلاغية لغير ضرورة ـ عن الظاهر ، تحريف لكلام الله سبحانه وتعالى ، وليته يكتفى بقدر الضرورة ، بل يبالغ فى الاطناب والتكثير لئلا يتهم بالعجز والتقصير ، فتراه مشحونا بالاعتزالات الظاهرة التى تتبادر إلى الافهام ، والخفية التى لا تتسارق إليها الأوهام بل لا يهتدى إلى حبائله إلا وراد بعد وراد من الأذكياء الحذاق ـ ولا ينتبه لمكائده إلا واحد من فضلاء الآفاق ، وهذه آفة عظيمة ، ومصيبة جسيمة.

ومنها : أنه يطعن فى أولياء الله المرتضين من عباده ، ويغفل عن هذا الصنيع لفرط عناده ، ونعم ما قال الرازى فى تفسير قوله تعالى : « يحبهم.ويحبونه » : خاض صاحب « الكشاف » فى هذا المقام فى الطعن فى أولياء الله تعالى ، وكتب فيها ما لا يليق بعاقل أن يكتب مثله فى كتب الفحش ، فهب أنه اجترأ على الطعن فى أولياء الله تعالى ، فكيف اجتراؤه على كتبه ذلك الكلام الفاحش فى تفسير كلام الله المجيد.

ومنها : أنه ... أورد فيه أبياتا كثيرة ـ وأمثالا غريزة ، بنى على الهزل والفكاهة أساسها وأورد على المزاج البارد نبراسها وهذا أمر من الشرع والعقل بعيد لا سيما عند أهل العدل والتوحيد.

ومنها : أنه يذكر أهل السنة والجماعة وهم الفرقة الناجية ـ بعبارات فاحشة ، فتارة يعبر عنهم بالمجبرة ، وتارة ينسبهم على سبيل التعريض إلى الكفر والإلحاد ـ وهذه وظيفة السفهاء الشطار ، لا طريقة العلماء الابرار ... ».

وهاك نموذجا من التفسير لقوله تعالى :

( الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ، يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ، الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ )

( سورة الزخرف الآية ٦٧ ، ٦٨ ، ٦٩ ، ٧٠ )

١٠٩

قال : « يومئذ » منصوب بعدو ، أى منقطع فى ذلك اليوم كل خلة بين المتخالين فى غير ذات الله ، وتنقلب عداوة ومقتا إلا خلة المتصادقين فى الله ، فإنها الخلة الباقية المزادة قوة إذا رأوا ثواب التحاب فى الله تعالى ـ والتباغض فى الله ـ وقيل « إلا المتقين » إلا المجتنبين اخلاء السوء.

وقيل : نزلت فى أبى بن خلف وعقبة بن أبى معيط.

« يا عباد » حكاية لما ينادى به المتقون المتحابون فى الله يومئذ « الذين آمنوا » منصوب المحل صفة لعبادى لانه منادى مضاف ، أى الذين صدقوا « بآياتنا وكانوا مسلمين » مخلصين وجوههم لنا جاعلين أنفسهم سالمة لطاعتنا.

وقيل : إذا بعث الله الناس فزع كل أحد فينادى مناد يا عبادى فيرجوها الناس كلهم ثم يتبعها الذين آمنوا فييأس الناس منها غير المسلمين.

قرئ يا عباد « تحبرون » تسرون سرورا يظهر حباره ، أى أثره فى وجوهكم كقوله تعالى :

« تعرف فى وجوههم نضرة النعيم ».

وقال الزجاج : تكرمون اكراما يبالغ فيه ، والحبرة المبالغة فيما وصف بجميل ».

رحم الله الزمخشرى ونفع الناس بعلمه.

١١٠

ابن العربى وتفسيره ( أحكام القرآن )

مؤلف هذا التفسير هو

: أحد الاعلام الكبار ـ ختام علماء الأندلس ، وآخر أئمتها وحفاظها القاضى أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أحمد ـ المعافرى الاندلسى الاشبيلى.

ولد أبو بكر سنة ٤٦٨ هجرية وتأدب ببلده وقرأ القراءات وسمع به من أبى عبد الله بن منظور ، وأبى محمد بن خزرج ثم انتقل ورحل إلى جملة من البلاد والأقطار فسمع العلم فى بلاد الاندلس وبخاصة قرطبة التى زخرت بالعلماء أمثال أبى عبد الله بن عتاب وأبى مروان بن سراج وغيرهما وحصلت له عناية العبادية ـ أصحاب اشبيلية فى ذلك الوقت ـ رئاسة ومكانة فلما انقضت دولتهم خرج إلى الحج مع ابنه القاضى أبى بكر سنة ٤٨٥ ه‍ وطوف فى البلاد يأخذ عن علماء كل قطر ينزل فيه ، فلقى بمصر أبا الحسن الخلعى ، وأبا الحسن بن مشرف ، وأبا الحسن بن داود الفارسى وغيرهم ، وفى مكة سمع من أبى عبد الله الحسين بن على الطبرى وغيره ، وفى الشام لقى أبا حامد الغزالى والإمام أبا بكر الطرطوشى الذى تفقه به ، وأبا سعيد الزنجاني ، وأبا نصر المقدسى وغيرهم كثير ، وفى عاصمة العلم بغداد التى زارها عدة مرات سمع من أبى الحسن المبارك بن عبد الجبار الصيرفى ، ومن أبى بكر بن طرخان ، ومن النقيب الشريف أبى الفوارس طراد بن محمد الزينبى ، وأبى زكريا التبريزى وآخرين يضيق المقام عن سرد أسمائهم ، وما أحد منهم إلا وله شهرة فى فنه وعلمه فعن هؤلاء وهؤلاء أخذ مجلة من الفنون حتى اتقن الفقه والأصول ، وقيد الحديث واتسع فى الرواية ، واتقن مسائل الخلاف والكلام وتبحر فى التفسير وبرع فى الأدب والشعر ...

١١١

وأخيرا وبعد هذه الرحلات المتوالية والجد فى طلب العلم عاد ابن العربى ، عاد وفى جعبته العلم الكثير حتى قيل عنه :

لم يأت به أحد قبله ممن كانت له رحلة إلى المشرق وعلى الجملة فقد كان رحمه‌الله من أهل التفنن فى العلوم والاستبحار فيها ـ والجمع لها متقدما فى المعارف كلها ـ متكلما فى أنواعها ـ نافذا فى جمعها ـ وحريصا على ادائها ونشرها حتى قالوا عنه :

إنه أحد من بلغ مرتبة الاجتهاد ، واحد من انفرد بالاندلس بعلو الإسناد ويجمع إلى ذلك كله :

آداب الاخلاق ، مع حسن المعاشرة ، وكثرة الاحتمال ـ وكرم النفس وحسن العهد ، وثبات الود ، وغير ذلك من صفات العلماء العاملين الذين يألفون ويؤلفون رضى الله عنه وارضاه.

هذا هو ابن العربى ـ كما تصوره المصادر ـ حتى صار استاذا.

وكثر تلاميذ الاستاذ ابن العربى كثرة فائقة : رحلوا إليه وسمعوا منه وأخذوا عنه ـ ويكفى أن نذكر من تلاميذه : القاضى عياض الذى قال عن استاذه :

« واستقصى أبو بكر ببلده فنفع الله به أهلها لصرامته وشدته ونفوذ احكامه ، وكانت له فى الظالمين سورة مرهوبة ، يؤثر عنه فى قضائه احكام غريبة ، ثم صرف عن القضاء ، وأقبل على نشر العلم وبثه.

وكان نصيحا ادبيا شاعرا كثير الخبر ، مليح المجلس » وأخذ عنه أبو زيد السبيلى ـ وأحمد بن خلف الطلاعى ـ وعبد الرحمن بن ربيع الاشعرى والقاضى أبو الحسن الخلعى وغيرهم.

أما التصانيف التى تركتها المعية ابن العربى فهى من الكثرة والإفادة بمكان نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر :

احكام القرآن ـ وهو ما نحن بصدده

كتاب : المسالك فى شرح موطأ مالك.

١١٢

كتاب : القبس على موطأ مالك.

عارضة الأحوذى على كتاب الترمذى.

القواصم والعواصم.

المحصول فى أصول الفقه

وكتاب القانون فى تفسير الكتاب العزيز.

وكتاب الانصاف فى مسائل الخلاف ـ عشرون مجلدا ـ وغير ذلك كثير ـ ومما يجدر بالذكر ما قاله ابن العربى فى كتابه ( القبس ) : إنه ألف كتابه المسمى « انوار الفجر فى تفسير القرآن » فى عشرين سنة ثمانين ألف ورقة ، وتفرقت فى أيدى الناس ـ وبا لجملة فقد خلف ابن العربى رحمة الله كتبا كثيرة انتفع الناس بها بعد وفاته ، كما نفع هو بعلمه من جلس إليه فى حياته.

وقد كانت وفاته بعد هذه الحياة العلمية الكريمة سنة ٥٤٣ ه‍ فى مراكش وحمل ميتا إلى مدينة فاس ، ودفن بها رضى الله عنه وارضاه.

تفسير ابن العربى : أحكام القرآن

يتعرض هذا التفسير لآيات الأحكام فى القرآن الكريم كما يظهر من اسمه ـ وطريقه فى تفسيره : أن يذكر السورة ـ ثم يذكر عدد ما فيها من آيات الاحكام ، ثم يأخذ فى شرحها آية آية قائلا : الآية الأولى وفيها خمس مسائل مثلا ...

والآية الثانية وفيها سبع مسائل مثلا ... وهكذا حتى يفرغ من آيات الاحكام الموجودة فى السورة كلها.

وكتاب احكام القرآن يعتبر مرجعا مهما للتفسير الفقهى عند المالكية ، وذلك لان ابن العربى كان مالكى المذهب كثير التعصب له والدفاع عنه.

غير إنه ـ والحق يقال ـ لم يكن مشتطّا فى تعصبه إلى الدرجة التى يتغاضى فيها عن كل زلة علمية تصدر من مجتهد مالكى ، ولم يبلغ به التعسف إلى الحد الذى يجعله ينقد كلام مخالفه إذا كان وجيها ومقبولا.

١١٣

والذى يتصفح هذا التفسير يلمس منه روح الانصاف لمخالفيه أحيانا ـ كما يلمس منه روح التعصب المذهبى التى تستولى على صاحبها فتجعله احيانا كثيرة يرمى مخالفيه ، وان كان اماما له قيمته ومركزه بالكلمات المقذعة اللاذعة ، تارة بالتصريح ، وتارة بالتلميح.

فإذا أضيف إلى ذلك ما ذكرناه من قبل إنه جمع آداب الاخلاق وحسن المعاشرة وكثرة الاحتمال ، وكرم النفس وحسن العهد وثبات الود .. إذا أضيف ذلك علمنا أن ما كتبه ابن العربى فى كتبه كلها انما هو محوط بسياج الروح العلمية الاسلامية الكريمة من عالم جمع إلى العلم وفضله العمل به والسير على منواله. رحم الله ابن العربى واجزل له المثوبة ونفع الله بعلمه أنه سميع مجيب.

وهاك نموذج من تفسيره : قوله تعالى ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) فيها ست مسائل :

المسألة الأولى : قوله تعالى ( أمه ) كلمة ذكر لها علماء اللسان خمسة عشر معنى رأيت من بلغها إلى أربعين ، منها أن الأمة بمعنى الجماعة ، ومنها أن الأمة الرجل الواحد الداعى إلى الحق.

المسألة الثانية : فى هذه الآية إلى بعدها وهى قوله :

( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ )

( سورة آل عمران الآية ١١٠ )

دليل على أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فرض كفاية ومن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر نصرة الدين باقامة الحجة على المخالفين ، وقد يكون فرض عين إذا عرف منه.

المسألة الثالثة : فى مطلق قوله تعالى :

( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ ) ( سورة آل عمران الآية ١٠٢ )

١١٤

دليل على أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فرض يقوم به المسلم ، وإن لم يكن عدلا ، خلافا للمبتدعة الذين يشترطون فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر العدالة.

وقد بينا فى كتب الأصول أن شروط الطاعات لا تثبت إلا بالادلة ، كل أحد عليه فرض فى نفسه أن يطيع ، وعليه فرض فى دينه أن ينبه غيره على ما يجهله من طاعة أو معصية ، وينهاه عما يكون عليه من ذنب ، وقد بيناه فى الآية الأولى قبلها.

المسألة الرابعة ـ فى ترتيب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر : ثبت عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال :

« من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان » وفى هذا الحديث من غريب الفقه أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدا فى البيان بالأخير فى الفعل ، وهو تغيير المنكر باليد ، وإنما يبدأ باللسان والبيان فإن لم يكن فباليد.

يعنى أن يحول بين المنكر وبين متعاطيه بنزعه عنه وبجذبه منه فإن لم يقدر إلا بمقاتلة وسلاح فيتركه ، وذلك إنما هو إلى السلطان ، لأن شهر السلاح بين الناس قد يكون مخرجا إلى الفتنة وآئلا إلى فساد أكثر من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، مثل أن يرى عدوا يقتل عدوا فينزعه منه ولا يستطيع الا بدفعه ويتحقق أنه لو تركه قتله ، وهو قادر على نزعه ولا يسلمه بحال وليخرج السلاح.

المسألة الخامسة : فى هذه الآية دليل على مسالة اختلف فيها العلماء ، وهى إذا رأى مسلم فحلا يصول على مسلم فإنه يلزمه أن يدفعه عنه ، وإن أدى إلى قتله ولا ضمان على قاتله حينئذ ، سواء كان القاتل له هو الذى صال عليه الفحل أو معينا له من الخلق وذلك إنه إذا دفعه عنه فقد قام بفرض يلزم جميع المسلمين فناب عنهم فيه ، ومن جملتهم مالك الفحل فكيف يكون نائبا عنه فى قتل الصائل ويلزمه ضمانه؟

١١٥

وقال أبو حنيفة : يلزمه الضمان ، وقد بيناها فى مسائل الخلاف.

المسألة السادسة : فى هذه الآية دليل على تعظيم هذه الأمة وكذلك فى قوله سبحانه :

( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ).

١١٦

تفسير الإمام ابن الجوزى « زاد المسير »

تقديره :

الإمام ابن الجوزى علم من أعلام الفكر الإسلامى ، برز فى الحديث والوعظ والتفسير والتاريخ وغيرها من أصناف العلوم الدينية ، ووصل فيها إلى مرتبة مشهورة ، تحدث عنها باعجاب ، وأقره العلماء على هذا الحديث ، قال فى كتابه « لفتة الكبد » :

ولقد وضع الله لى من القبول فى قلوب الخلق فوق الحد ، واوقع كلامى فى نفوسهم فلا يرتابون بصحته ، وقد أسلم على يدى نحو مائتين من أهل الذمة.

وقال سبطه أبو المظفر : أقل ما كان يحضر مجلسه عشرة آلاف ..

وسمعته يقول على المنبر فى آخر عمره : « كتبت باصبعى هاتين ألفى مجلدة ، وتاب على يدى مائة ألف ».

وقال عنه الحافظ الدبيثى فى ذيله على تاريخ ابن السمعانى :

شيخنا الإمام جمال الدين بن الجوزى صاحب التصانيف فى فنون العلم من التفاسير والفقه والحديث والوعظ والرقاق والتواريخ وغير ذلك ، وإليه انتهت معرفة الحديث وعلومه ، والوقوف على صحيحه من سقيمه ، وله فيه المصنفات من المسانيد والأبواب والرجال ، ومعرفة ما يحتج به فى أبواب الأحكام والفقه وما لا يحتج به من الأحاديث الواهية الموضوعة ، والانقطاع والاتصال ، وله فى الوعظ العبارة الرائقة ، والاشارات الفائقة ، والمعانى الدقيقة ، والاستعارة الرشيقة ، وكان من أحسن الناس كلاما ، وأتمهم نظاما ، واعذبهم لسانا ، وأجودهم بيانا ، وبورك له فى عمره وعمله فروى الكثير ، وسمع الناس منه أكثر من أربعين سنة ، وحدث بمصنفاته مرارا ...

١١٧

وقال الموفق عبد اللطيف : كان ابن الجوزى لا يضيع من زمانه شيئا ، يكتب فى اليوم أربعة كراريس ، ويرتفع له كل سنة من كتابته ما بين خمسين مجلدا إلى ستين ، وله فى كل علم مشاركة ، لكنه كان فى التفسير من الاعيان ، وفى الحديث من الحفاظ ، وفى التاريخ من المتوسعين ، ولديه فقه كاف.

وقال ابن خلكان : وبالجملة فكتبه أكثر من أن تعد ، وكتب بخطه شيئا كثيرا ، والناس يغالون فى ذلك حتى يقولوا : إنه جمعت الكراريس التى كتبها وحسبت مدة عمره ، وقسمت الكراريس على المدة فكان ما خص كل يوم تسع كراريس .. ويقال : إنه جمعت براية أقلامه التى كتب بها حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحصل منها شىء كثير ، وأوصى أن يسخن بها الماء الذي يغسل به بعد موته ، ففعل ذلك ، فكفت وفضل منها.

حياته :

ولد ابن الجوزى أبو الفرح جمال الدين عبد الرحمن بن أبى الحسن بن على فى سنة إحدى عشرة وخمسمائة من الهجرة ببغداد ، وتوفى والده وهو ابن ثلاث فكفلته امه وعمته ، واتجه إلى العلم منذ بدأ وعيه بالحياة ، فاتجه إلى سماع العلم فى سن الخامسة وحفظ القرآن وهو صغير ، وسمع أمهات كتب الحديث كمسند أحمد وصحيحى البخارى ومسلم وجامع الترمذى وما لا يحصى من كتب الحديث.

ومن ملامح نشأته ، ومظاهر حياته ما يقوله ابن العماد من أنه كان يراعى حفظ صحته ، وتلطيف مزاجه ، وما يفيد عقله قوة ، وذهنه حدة ، لباسه الناعم الأبيض المطيب .. وله مداعبات حلوة وما تناول ما لا من جهة لا يتيقن حلها ، ولا ذل لأحد .. قال فى لفتة الكبد يخاطب ولده : وما ذل أبوك فى طلب العلم قط ، ولا خرج يطوف فى البلدان كغيره ، من الوعاظ ولا بعث رقعة إلى أحد يطلب منه شيئا ..

ولم تكن حياته كلها سهلة ميسرة ، لينة مبهجة ، لقد استلذ فى سبيل العلم

١١٨

ما يستصعبه غيره وقنع فى سبيل الوصول إلى ما يبتغيه بالقليل .. إنه يذكر فى كتابه صيد الخاطر ، إنه كان فى زمن الطلب يأخذ معه ارغفة يابسة ويخرج فى طلب الحديث ، فيقف على نهر عيسى لا يقدر على أكل هذا الخبر اليابس إلا عند المالك ، كلما أكل لقمة شرب عليها شربة ، وأنه وجد مع ذلك من لذة العلم وحلاوة الإيمان ما جعله يخاف على نفسه العجب ان شرحه ..

ولقد حبب إليه العلم من زمن الطفولة ، ولم يرغب فى فن واحد من فنونه ، بل رغب فى كل منه ، وكان يتردد أبدا بين الزهد والعبادة وبين العلم والبحث.

شيوخه :

ومن أهم شيوخه أبو الحسن بن الزاغونى الذى كان كما قال ابن الجوزى :له فى كل فن من العلم حظ وافر ، ووعظ مدة طويلة ، وكان له حلقة بجامع المنصور يناظر فيها يوم الجمعة قبل الصلاة ثم يعظ فيها بعد الصلاة ، ويجلس يوم السبت أيضا.

وكان من شيوخه أبو القاسم الحريرى وأبو القاسم السمرقندى ، وأبو منصور القزاز ، وعبد الجبار بن منده ، وقرأ الادب على أبى منصور الجواليقى صاحب كتاب المعرب.

وكان فى كل ذلك كما قال عن نفسه : لم أقنع بفن واحد بل كنت اسمع الفقه والحديث ، واتبع الزهاد ، ثم قرات اللغة ، ولم أترك أحدا ممن يروى ويعظ ، ولا غريبا يقدم ، إلا وأحضره ، وأتخير الفضائل ، ولقد كنت أدور على المشايخ لسماع الحديث فينقطع نفسى من العدو لئلا أسبق ، وكنت أصبح وليس لى مأكل ، وأمسى وليس لى مأكل ، ما أذلنى الله لمخلوق قط.

الواعظ :

أما عن وعظه فقد بلغ فيه غاية الشهرة ، وكان من أهم أسباب ارتفاع منزلته ، وسمو مكانته قال الإمام ناصح الدين بن الحنبليّ الواعظ عنه :

١١٩

اجتمع فيه من العلوم ما لم يجتمع فى غيره ، وكانت مجالسه الوعظية جامعة للحسن والإحسان بإجماع ظراف بغداد ، ونظاف الناس ، وحسن الكلمات المسجوعة ، والمعانى المودعة فى الالفاظ الرائجة ، وقراءة القرآن بالاصوات المرجعة ، والنغمات المطربة ، وصيحات الواجدين ، ودمعات الخاشعين ، وانابة النادمين ، وذل التائبين ، ووعظ وهو ابن عشر سنين إلى أن مات.

وكانت وفاة ابن الجوزى كما قال سبطه بين العشاءين فى ليلة الجمعة الثالث عشر من شهر رمضان سنة سبع وتسعين وخمسمائة فى داره ببغداد وعمره نحو التسعين وكانت جنازته مشهودة اجتمع لها أهل بغداد ، وغلقت الاسواق وحملت جنازته على رءوس الناس ، ودفن بباب حرب بالقرب من مدفن أحمد بن حنبل رضى الله عنه ..

مؤلفاته :

وقد خلف ابن الجوزى الكثير من الكتب ، ومن أشهرها كتابه زاد المسير فى علم التفسير حفزه إلى تأليفه قوله :

لما كان القرآن العزيز أشرف العلوم وكان الفهم لمعانيه أو فى الفهوم ، لأن شرف العلم بشرف المعلوم ، وإنى نظرت فى جملة من كتب التفسير فوجدتها بين كبير قد يئس الحافظ منه ، وصغير لا يستفاد كل المقصود منه ، والمتوسط منها قليل الفوائد ، عديم الترتيب ، وربما أهمل فيه المشكل وشرح غير الغريب ، فأتيتك بهذا المختصر اليسير ، منطويا على العلم الغزير ، ووسمته بـ : زاد المسير فى علم التفسير ، وقد بالغت فى اختصار لفظه فاجتهد وفقك الله فى حفظه ، والله المعين على تحقيقه ، فما زال جائدا بتوفيقه ..

وقد قدم لكتابه بعدة فصول :

الفصل الأول فى فضيلة علم التفسير.

الثانى فى معنى التفسير والتأويل

١٢٠