موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

الأصفر فيفصّل فيه بين الكثير العرفي والقليل العرفي بوجوب الغسل في الأول والوضوء في الثاني ، هذا.

ولا يخفى أن هذه المناقشة كسابقتها ، وذلك لما ظهر مما ذكرناه من أن صحيحة معاوية بن عمّار صريحة في أنه لا عبرة بحمرة الدم وصفرته ، وإنما المدار على ثقب الدم وعدمه ، وأن الدم الذي يجب معه الأغسال الثلاثة مع الثقب هو الدم الذي يجب فيه الغسل الواحد إذا لم يثقب ، سواء كان الدم أحمر أم أصفر ، والدم الأصفر لو ثقب لم يكن عنده موجباً للغسل لأنه قليل عرفاً فضلاً عما إذا لم يثقب ، على أن إطلاق الدم منصرف إلى الدم الأحمر ولا يمكن حمله على الأصفر ، فإنه جعل في بعض الأخبار في قبال الدم : « إذا رأت الدم وإذا رأت الصفرة » (١) ومعه كيف يحمل الدم في الصحيحة على الأصفر ، هذا كله.

مضافاً إلى أنه لا موجب أصلاً لتقييد الصحيحة بالموثقة ، إذ لا تنافي بينهما ولا تماسّ ، وذلك لأن الموضوع في الموثقة على ما فسرناه إنما هو الدم الثاقب وأنه مع التجاوز تجب فيه الأغسال الثلاثة ، ومع عدم التجاوز يجب فيه غسل واحد ، وأمّا الدم غير الثاقب فهو مما لم يتعرض له في الموثقة أصلاً ، والصحيحة متعرضة لحكمه ومع عدم التّماسّ بينهما في الدم غير الثاقب لا موجب لجعل إحداهما مقيدة لإطلاق الأُخرى.

وعليه فالصحيح ما ذهب إليه المشهور من أن الاستحاضة إذا كانت قليلة أي لم يكن الدم ثاقباً للكرسف وجب معه الوضوء لكل صلاة ، وإذا كانت متوسطة أي كان الدم ثاقباً للكرسف وجب عليها أن تتوضأ لكل صلاة ويجب أن تغتسل غسلاً واحداً لكل يوم وليلة ، لاجتماع الحدث الأصغر مع الحدث الأكبر حينئذ ، وإذا كانت كثيرة أي كان الدم ثاقباً ومتجاوزاً عن الكرسف وجب الوضوء والغسل لكل صلاة ، وذلك لصحيحتي معاوية وزرارة المتقدِّمتين.

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٩١ / أبواب الحيض ب ٨ ح ٤.

٤١

هذا كلّه في الدم الأحمر ، وبقي الكلام في الدم الأصفر.

الكلام في الدم الأصفر

وقد ذكر أن دم الاستحاضة إذا كان أصفر فإن كان كثيراً عرفاً بأن سال عن الكرسف فيجب معه الأغسال الثلاثة ، وإذا كان قليلاً عرفاً بأن لم يثقب الكرسف أو تجاوز عنه ولم يسل فيجب فيها الوضوء ، فلا قسم ثالث بينهما.

فهو قدس‌سره وإن التزم بوجوب الأغسال الثلاثة في مورد ، ووجوب غسل واحد في مورد آخر ، ووجوب الوضوء في مورد ثالث ، إلاّ أنه على ترتيب آخر غير الترتيب الذي سلكه المشهور ، لأنه التزم بوجوب الأغسال الثلاثة فيما إذا تجاوز الدم عن الكرسف وفيما إذا كان الدم أحمر ، وإذا سال وعدّ كثيراً عرفاً فيما إذا كان صفرة وبوجوب غسل واحد في خصوص الدم الأحمر غير المتجاوز عن الكرسف ثقب أم لم يثقب ، وبوجوب الوضوء في الدم الأصفر القليل عرفاً.

واستدل على ما ذهب إليه بما ورد في جملة من الروايات من أن المرأة إذا رأت الدم الأصفر وجب عليها الأغسال الثلاثة ، وما ورد من أنها إذا رأت صفرة تتوضأ وتصلِّي كما نقلناهما سابقاً (١).

فإنهما متعارضان بالتباين لدلالة إحداهما على وجوب الأغسال الثلاثة مع الصفرة مطلقاً ودلالة الأُخرى على وجوب الوضوء معها مطلقاً ، إلاّ أن هناك شاهد جمع ، وهو ما رواه محمد بن مسلم « في الحامل قد استبان حبلها ترى ما ترى الحائض من الدم ، قال : تلك الهراقة من الدم ، إن كان دماً أحمر كثيراً فلا تصلِّي ، وإن كان قليلاً أصفر فليس عليها إلاّ الوضوء » (٢).

حيث يدل على أنّ الوضوء في الدم الأصفر إنما يجب فيما إذا كان قليلاً ، وأمّا إذا كان كثيراً فمقتضى الطائفة الاولى أن يحكم فيه بوجوب الاغتسال ، هذا.

__________________

(١) تقدّم ذكر جميعها في نفس المسألة : الصفحة ٣٠.

(٢) تقدمت في الصفحة ٣١.

٤٢

ولا يمكن المساعدة على ما أفاده بوجه ، وذلك لضعف الرواية التي جعلها شاهد جمع بين الطائفتين بإرسالها ، فتبقى الطائفتان على تعارضهما.

والصحيح أن يقال : إن الطائفتين وإن كانتا متعارضتين بالتباين كما مر ، إلاّ أن الطائفة الدالة على وجوب الاغتسال مع الصفرة لا بدّ من حملها على ما إذا كانت الاستحاضة أي الدم الأصفر كثيرة بحسب الاصطلاح بأن ثقبت الكرسف وتجاوزت عنه ، فإنها لو كانت قليلة أي غير ثاقبة أصلاً لا يحتمل كونها موجبة للأغسال الثلاثة ، لأنّ الصفرة لا تزيد على الدم الأحمر ، والدم الأحمر غير الثاقب أعني الاستحاضة القليلة لا توجب الأغسال الثلاثة فكيف توجبها الصفرة.

وكذلك الحال في الدم الأصفر المتوسطة بحسب الاصطلاح على مسلك صاحب الكفاية ، لأنها على مسلكه لو كان أحمر لم تكن موجبة للأغسال الثلاثة فكيف تكون الاستحاضة مع الصفرة موجبة للأغسال الثلاثة.

فهذه القرينة الخارجية أعني العلم بعدم كون الأصفر أشد من الدم الأحمر بحسب الحكم توجب اختصاص الأخبار الآمرة بالأغسال الثلاثة على الاستحاضة الكثيرة ، أي الصفرة فيما إذا كانت كثيرة بحسب الاصطلاح ، ومعه تنقلب النسبة من التباين إلى العموم المطلق.

فالطائفة الثانية تدل على وجوب الوضوء مع الصفرة في جميع الأقسام الثلاثة المتقدمة ، والطائفة الاولى تدل على وجوب الغسل في الدم الأصفر الكثير ، ومعه فالقاعدة تقتضي تخصيص الأُولى بالثانية والحكم في المستحاضة الكثيرة عند الصفرة بوجوب الأغسال الثلاثة ، وأمّا في المتوسطة والقليلة فيجب فيهما الوضوء.

إلاّ أن تلك الطائفة الآمرة بالوضوء في المتوسطة والقليلة معارضة بصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج ، قال « سألت أبا إبراهيم عليه‌السلام عن امرأة نفست فمكثت ثلاثين يوماً أو أكثر ، ثم طهرت وصلّت ، ثم رأت دماً أو صفرة ، قال : إن كانت صفرة فلتغتسل ولتصل ولا تمسك عن الصلاة » (١).

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٣٩٣ / أبواب النفاس ب ٥ ح ٢.

٤٣

لدلالتها على وجوب الغسل مع الصفرة من غير تقييده بالمرة الواحدة أو بثلاث مرات ولا بشي‌ء من أقسام الاستحاضة ، والنسبة بينهما عموم من وجه ، وذلك لأن صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج وإن كانت مطلقة إلاّ أنه لا بدّ من إخراج المستحاضة القليلة عن إطلاقها للقرينة المتقدمة من أن الصفرة لا يحتمل أن يكون حكمها أشدّ من الأحمر ، وقد تقدم أن الاستحاضة القليلة في الدم الأحمر لم تكن موجبة للاغتسال فكيف بالاستحاضة القليلة في الدم الأصفر.

فالصحيحة تختص بالاستحاضة الكثيرة والمتوسطة ، كما أن الأخبار الدالة على الوضوء مختصة بالمتوسطة والقليلة ، فالاستحاضة المتوسطة بالأصفر مورد للتعارض بين الروايتين ، فالصحيحة تدل على وجوب الغسل فيها ، والطائفة الثانية تدل على وجوب الوضوء فيها.

فإن أمكننا الجمع بينهما بالأخذ بكلتا الطائفتين فنأخذ بهما ونحكم بأن في المتوسطة الأصفر يجب الغسل والوضوء كما هو مسلك المشهور ، وتكون النتيجة بعد الجمع بين الأخبار وجوب الأغسال الثلاثة في الاستحاضة الكثيرة ، ووجوب الغسل الواحد والوضوء في المتوسطة ، ووجوب الوضوء خاصة في القليلة.

وإن لم يمكننا الجمع بينهما نظراً إلى أن الصحيحة تدل على جواز الاقتصار على الغسل في صحة الصلاة وإن لم تتوضأ ، والطائفة الثانية تدل على جواز الاقتصار على الوضوء فحسب وإن لم تغتسل ، فلا يمكن الجمع بينهما فلا مناص من الحكم بتساقطهما ، لأن تعارضهما بالإطلاق ، وبعد التساقط نرجع إلى صحيحة معاوية بن عمار وصحيحة زرارة المتقدمتين ، لأنهما الأصل في الاستحاضة ، وقد عرفت دلالتهما على أن العبرة في الاستحاضة بكمية الدم لا بكيفيته من الحمرة والصفرة ، فإنه إذا ثقب الكرسف مع التجاوز أي كان كثيراً أحمر كان أو أصفر ففيها الأغسال الثلاثة ، وإذا ثقب من غير تجاوز الكرسف ففيها غسل واحد ، وإذا لم يثقب ولم يتجاوز ففيها وضوء واحد ، فإن الروايتين لا معارض لهما بعد تساقط الطائفتين المتقدمتين بالتعارض.

٤٤

فريضة كانت أو نافلة (١) ، وتبديل القطنة أو تطهيرها (*).

______________________________________________________

وبهذا يتضح أن ما ذهب إليه المشهور هو الصحيح.

بقي الكلام في موثقة سَماعة حيث إن ظاهرها أو صريحها أن بين الدم الأحمر والأصفر فرقاً وتفاوتاً بحسب الحكم ، حيث قال « هذا إن كان دمها عبيطاً ، وإن كان صفرة فعليها الوضوء » (٢).

والجواب عن ذلك أنه لا مناص من حمل الموثقة على إرادة الكمية دون الكيفية بمعنى أن هذا إنما هو فيما إذا كان الدم كثيراً ، وأمّا إذا كان قليلاً بمثابة عدّ من الأعراض عرفاً بحيث يرى صفرة ولو كان أحمر حقيقة لقلّته ، فلا يجب فيه إلاّ الوضوء.

وذلك بقرينة الأخبار الأُخر الدالة على وجوب الغسل مع الصفرة إذا كانت ثاقبة الكرسف ، بل حمل الموثقة على ذلك مما لا مناص عنه حتى بناء على ما سلكه المحقق الخراساني قدس‌سره ، وذلك للأخبار الواردة في وجوب الأغسال الثلاثة فيما إذا كانت الصفرة كثيرة ، لأنه ملتزم بذلك كما عرفت ، فالمراد بالصفرة هو الدم القليل لا الدم الأصفر كما عرفت.

التسوية بين الفريضة والنافلة‌

(١) بعد ما عرفت أن في الاستحاضة القليلة والمتوسطة يجب الوضوء لكل صلاة يقع الكلام في أن هذا الحكم هل يختص بالفرائض ، كما نسب ذلك إلى الشيخ في مبسوطه (٣) من أن المستحاضة إذا توضأت للفرض جاز لها أن تصلِّي من النوافل ما شاءت ، أو يعم النوافل فيجب أن تتوضأ لكل صلاة من النوافل كما يجب أن تتوضأ‌

__________________

(*) على الأحوط.

(١) الوسائل ٢ : ٣٧٤ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ٦.

(٢) المبسوط ١ : ٦٨.

٤٥

لكل صلاة من الفرائض؟ هذا هو المعروف بينهم.

وقد يقال : إن القاعدة أيضاً تقتضي ذلك ، لأن الاستحاضة من الأحداث ، ومقتضى القاعدة سقوط الصلاة عن المستحاضة لأنها ذات حدث ، إلاّ أنّ الأخبار دلّت على أنها مع كونها محدثة لا تسقط عنها الصلاة (١) ، ومعه لا بدّ في الخروج عن مقتضى القاعدة من الاقتصار على المورد المتيقن ، وهو ما إذا توضأت لكل صلاة. وأمّا إذا لم تتوضأ لصلاة ولو نافلة فلا مناص من الحكم ببطلانها ، لأنها ذات حدث ولم يعلم الترخيص لها في تلك الصلاة التي تأتي بها من دون أن تتوضأ لها ، هذا.

وفيه : أن المستفاد من الأخبار الواردة في المقام أن صحّة الصلاة من المستحاضة مع التوضؤ إنما هي من جهة أنها طاهرة حينذاك وأن طهرها هو الوضوء عند الصلاة فصحة صلاتها ليس أمراً تعبدياً على خلاف القاعدة ومن باب التخصيص فيما دلّ على بطلان الصلاة مع الحدث ، بل هي من جهة كونها طاهرة ومن باب التخصيص في أدلّة النواقض وأن الدم الخارج منها بعد توضئها لا يكون ناقضاً لطهارتها.

كما ذكرنا ذلك في المسلوس والمبطون (٢) وقلنا إن طهارتهما هو توضؤهما وأن ما يخرج منهما بعد الوضوء لا يكون ناقضاً ، تخصيصاً في أدلّة النواقض ، لا أن صحّة صلاتهما من باب التخصيص فيما دلّ على اعتبار الطهارة في الصلاة وبطلانها مع الحدث ، وإذا حكم على المستحاضة بالطهارة لا يفرق معها بين أن تصلى صلاة واحدة أو صلاتين أو أكثر.

وقد يدعى أن مقتضى القاعدة عدم اعتبار التوضؤ في النوافل ، وذلك لأنّا إذا لم نعتبر فورية الصلاة على المستحاضة بعد توضئها وقلنا بجواز التأخير والفصل بينهما على المستحاضة ولا سيما فيما إذا اشتغلت بما هو من مقدمات الصلاة وبالأخص فيما إذا كانت المقدمة من المقدمات الشرعية كالنوافل ، لم يحتمل أن يكون وجود النافلة مبطلاً‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٣٧١ و ٣٧٨ / أبواب الاستحاضة ب ١ ، ٢ وغيرها.

(٢) شرح العروة ٦ : ٢١٤.

٤٦

للوضوء ، لما فرضنا من أنها لو سكتت بعد توضئها دقيقة أو دقيقتين مثلاً وصلّت بعد ذلك صحّت صلاتها وتوضئوها ، فإذا أتت بالنافلة بدل السكوت كيف يحكم ببطلان وضوئها ، وهل يكون وجود النافلة مبطلاً له مع عدم بطلانه بالسكوت لعدم وجوب الفورية على الفرض ، فلا مانع من أن تتوضأ وتصلِّي النافلة ثم تصلِّي الفريضة.

وكذا الحال فيما إذا أتت بالنافلة بعد الفريضة كما في صلاة المغرب ، لأن التأخير بمقدار فعل النافلة لا يكون موجباً لبطلان الوضوء كما عرفت ، فمقتضى القاعدة عدم وجوب التوضؤ لكل نافلة.

وهذا كسابقه ممّا لا يمكن المساعدة عليه ، وذلك لأن المدعى ليس هو أن الفصل الزماني بين الوضوء والفريضة موجب لبطلانه حتى ينتقض بما إذا سكتت بعد الوضوء ولم تشتغل بشي‌ء وصلّت بعد ذلك ، وإلاّ للزم الالتزام بصحة الاكتفاء بالوضوء الواحد فيما إذا توضأت لأداء فريضة وأتت قبلها بفريضة اخرى قضاء ، فإن وجود الصلاة المأتي بها قضاء لا يحتمل أن يكون ناقضاً لتوضئها بعد عدم كون السكوت بهذا المقدار مبطلاً له. مع أن هذا ممّا لا يلتزم به أحد ، لأنهم يدعون لزوم التوضؤ لكل فريضة الأعم من الأداء والقضاء. بل المدعى اعتبار التوضؤ لكل صلاة الأعم من الفريضة والنافلة ، وهذا لا يندفع بما ذكر.

ودعوى أن الصلاة منصرفة إلى الفرائض غير مسموعة ، لأن الصلاة صلاة ولا يفرق بين نفلها وفرضها ، وإلاّ لأمكن دعوى انصرافها إلى الأداء دون القضاء مع أنه ممّا لا يلتزم به القائل باختصاص الحكم بالفرائض ، لأنه يلتزم بوجوب الوضوء لكل فريضة في وقتها أو في خارج وقتها.

فلا بدّ في تحقيق الحال من مراجعة الروايات ، وهي على طائفتين :

ففي إحداهما : وجوب الوضوء على المستحاضة بالقليلة في وقت كل صلاة ، كما في صحيحة الصحّاف حيث قال « فلتتوضأ ولتصل عند وقت كل صلاة » (١).

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٣٧٤ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ٧.

٤٧

والثانية : أن يغمس الدم في القطنة ولا يسيل إلى خارجها من الخرقة‌ ، ويكفي الغمس في بعض أطرافها ، وحكمها مضافاً إلى ما ذكر غُسل قبل صلاة الغداة (١).

______________________________________________________

وفي ثانيتهما : وجوب الوضوء عند كل صلاة ، كما في صحيحة معاوية بن عمار « وصلّت كل صلاة بوضوء » (١) ورواية زرارة « وتصلِّي كلّ صلاة بوضوء » (٢).

ولا دلالة للطائفة الأُولى على جواز الاقتصار على وضوء واحد في أكثر من صلاة واحدة من غير جهة إطلاقها ، نعم مقتضى إطلاقها أنها تتوضأ في وقت كل صلاة سواء أتت بصلاة واحدة أم بصلاتين أم بأكثر.

إلاّ أن من المعلوم أن إطلاقها لا يعبأ به في مقابل العموم المصرح به في صحيحة معاوية « وصلّت كل صلاة بوضوء » ، ولأجله يحمل الإطلاق في الصحيحة على الغالب فإن أغلب النساء لا يأتين في وقت الصلاة إلاّ بالفريضة ولا يصلين متعدِّداً ، ولأجله اكتفى عليه‌السلام بالإطلاق ولم يقيد بقوله « توضأت لكل صلاة » مثلاً.

إذن فالصحيح أن في الاستحاضة القليلة يعتبر الوضوء لكل صلاة أعم من الفريضة والنافلة.

الاستحاضة المتوسطة‌

(١) ذكروا أن حكم الاستحاضة المتوسطة مضافاً إلى تبديل القطنة والتوضؤ لكل صلاة غسل واحد في اليوم والليلة.

أمّا تبديل القطنة فقد يقال كما تقدم إن وجوبه واعتباره على طبق القاعدة ، لأن دم الاستحاضة كدم الحيض والنفاس لا يعفى عن قليله ولا عن كثيره في الصلاة ، ومع عدم تبديل القطنة تبطل صلاتها (٣).

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٣٧١ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ١.

(٢) الوسائل ٢ : ٣٧٥ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ٩.

(٣) تقدّم مع جوابه في الصفحة ١٨.

٤٨

وقد عرفت الجواب عن ذلك في الاستحاضة القليلة وأنه لم يدل دليل على مانعية دم الاستحاضة بقليلها في الصلاة إلى آخر الأجوبة المتقدمة هناك ولا نعيد.

وقد يقال : إن وجوب تبديل القطنة للتعبد الخاص بالنص لا من جهة اقتضاء القاعدة ذلك ، وذلك لما ورد في صحيحة أو موثقة أبان بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله ، حيث ورد فيها : « فإن ظهر عن ( على ) الكرسف فلتغتسل ثم تضع كُرسُفاً آخر ثم تصلِّي » (١) ، لدلالة قوله « ثم تضع كرسفاً آخر » على وجوب تبديل القطنة واعتباره في صحة صلاة المستحاضة بالاستحاضة المتوسطة.

ولكن للمناقشة في دلالتها على المدعى مجال واسع ، وذلك :

أوّلاً : لاحتمال أنه عليه‌السلام كان بصدد بيان أمر عادي ، حيث إن الكرسف المملوّ من الدم لا يرجعنه النساء عادة إلى محلِّه بعد الاغتسال لقذارته ، بل يطرح إذ لا قيمة له ويوضع كرسف جديد ، لا أن هذا أمر معتبر شرعاً في حقها.

وثانياً : لاحتمال أن يكون ذلك من جهة أن إرجاع الكرسف السابق إلى المحل يوجب تنجس المحل ، لامتلائه بالدم على الفرض من كون الدم قد ثقبه ، ووضع مثله على المحل يوجب التنجس قهراً ، وأمّا أنه من جهة اعتبار ذلك في حق المستحاضة فلا.

وثالثاً : مع الغض عن المناقشتين السابقتين فلأجل أن غاية ما يستفاد من الرواية أنه يجب أن يوضع على المحل كرسف جديد ولو لأجل أن لا يتنجس أطراف المحل بوضع الكرسف الأول ، وأمّا أن وضع الكرسف السابق ولو مع ذلك الكرسف الجديد مانع عن صحة صلاتها كما هو محل البحث في المقام فلا يستفاد من الرواية بوجه.

ورابعاً : فلأنا لو أغمضنا عن جميع المناقشات السابقة فغاية ما هناك أن نقتصر على ذلك في خصوص مورد الرواية ، وهو ما إذا أخرجت المرأة كرسفها ، فهب أنه حينئذ يعتبر أن لا ترجعه إلى محلِّه ، وأمّا إذا اغتسلت وبدّلت القطنة في الزوال مثلاً ولم‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٣٧٥ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ٨.

٤٩

تخرج الكرسف عن محلِّه إلى آخر اليوم وليله فلا يعتبر في حقها تبديلها ، لأن مورد الرواية هو لزوم تبديل القطنة مع الإخراج أي على تقدير الإخراج ، ولا دلالة لها على وجوب الإخراج على المرأة.

وعليه فلا دلالة للرواية على وجوب تبديل القطنة أو تطهيرها على المرأة ، فنبقى نحن ومقتضى القاعدة وقد بيّنا في محلِّه أن المحمول المتنجس ولا سيما إذا كان باطنياً كما في المقام غير مانع عن الصلاة ، والكرسف من قبيل المحمول فلا يكون دم الكرسف مانعاً عن الصلاة حتى بناء على أن دم الاستحاضة مانع عن الصلاة بقليله وكثيره.

وذلك لأنه إنما هو فيما إذا لم يتنجس الكرسف الآخر على تقدير تبديله بعين ذلك الدم ، وأمّا مع تنجسه بذلك لفرض عدم انقطاع دم الاستحاضة فتبديل الكرسف من اللغو الظاهر حينئذ ، هذا كله في تبديل القطنة.

وأمّا وجوب الغسل عليها مرة واحدة فهو الذي ذهب إليه المشهور كما مرّ ، وخالف في ذلك العماني والإسكافي (١) والمحقق (٢) والعلاّمة (٣) وغيرهم (٤) من المتأخرين قدس‌سرهم ، حيث ذهبوا إلى وجوب الأغسال الثلاثة حينئذ ، وذكروا أنه لا فرق بين تجاوز الدم عن الكرسف وعدمه ، بل الدم بمجرّد أن ثقب الكرسف وجب على المرأة ثلاثة أغسال.

ولعلّ الوجه في ذلك صحيحة معاوية بن عمار الدالة على أن الدم إذا ثقب الكرسف اغتسلت للظهر والعصر ، وغسلاً للمغرب والعشاء ، وغسلاً لصلاة الصبح (٥) وغيرها من المطلقات.

__________________

(١) نقله عنهما في المستمسك ٣ : ٣٨٩ / في الاستحاضة وعن الإسكافي أيضاً في المعتبر ١ : ٢٤٤.

(٢) المعتبر ١ : ٢٤٥ / في الاستحاضة.

(٣) المنتهي ٢ : ٤١٢ / في الاستحاضة.

(٤) كالأردبيلي وتلميذيه والبهائي على ما نقله عنهم في المستمسك ٣ : ٣٨٩.

(٥) الوسائل ٢ : ٣٧١ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ١.

٥٠

إلاّ أن دلالتها على وجوب الأغسال الثلاثة في الاستحاضة المتوسطة إنما هي بالإطلاق ، ولا مناص من تقييده بصحيحة زرارة (١) الدالة على أن وجوب الأغسال الثلاثة إنما هو مع تجاوز الدم عن الكرسف ، وأمّا إذا ثقب ولم يتجاوز عنه فلا يجب عليه إلاّ غسل واحد.

وهذه الرواية غير قابلة للمناقشة في دلالتها ولا في سندها ، ومعه لا بدّ من تقييد صحيحة معاوية بن عمار وغيرها من المطلقات بما إذا كان الثقب مع التجاوز.

تعيين محل الاغتسال

وبعد ما ظهر لك أن الواجب في الاستحاضة المتوسطة غسل واحد يقع الكلام في محلِّه وأنها تغتسل في أيّ موضع ، فإن غاية ما يستفاد من الأخبار الواردة في المقام أن الغسل شرط لواحدة من صلواتها ، فلها أن تأتي به بعد صلاة المغرب إذ به يتحقق الشرط ، فلزوم الإتيان به قبل صلاة الغداة كما ذهب إليه المشهور أمر لا موجب له.

وقد يقال : إن الأخبار وإن كانت مطلقة إلاّ أن الإجماع قام على لزوم الإتيان به قبل الغداة فيما إذا استحيضت قبلها ، وهو المقيد لإطلاقات الأخبار ، هذا.

ولا يخفى أنه يمكن استفادة ما ذهب إليه المشهور من لزوم الغسل قبل الغداة فيما إذا كانت الاستحاضة قبلها من نفس صحيحة زرارة من دون حاجة في ذلك إلى الإجماع وذلك لقوله عليه‌السلام « فإن جاز الدم الكرسف تعصبت واغتسلت ، ثم صلّت الغداة بغسل ، والظهر والعصر بغسل ، والمغرب والعشاء بغسل ، وإن لم يجز الدم الكرسف صلّت بغسل واحد » (٢).

وذلك بتقريب أن قوله عليه‌السلام مع تجاوز الدم إنها صلّت الغداة بغسل ، معناه أنها تغتسل قبل صلاة الصبح ، وإلاّ لو اغتسلت بعدها لم يصدق أنها صلّت الغداة بغسل ، وهكذا الحال في صلاتي الظهرين وصلاتي المغرب والعشاء. وعليه فمع تجاوز‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٣٧٣ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ٥.

(٢) الوسائل ٢ : ٣٧٣ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ٥.

٥١

الدم وجب عليها أغسال ثلاثة قبل الصلوات.

وأمّا مع عدم تجاوز الدم فلم يوجب عليها إلاّ غسل واحد ، لقوله « صلّت بغسل واحد » ، ومعناه في قبال ما تقدّم عند تجاوز الدم إنها أتت بالغسل قبل الصلاة وصلّت تلك الصلوات التي وجب أن تأتي بها مع تجاوز الدم بثلاثة أغسال قبلها بغسل واحد قبلها ، ولا يلزم التعدد في الغسل مع عدم التجاوز ، وإنما يجب أن تأتي بالصلوات بغسل واحد.

وعليه فيستفاد من الرواية لزوم اغتسالها قبل صلاة الغداة ليصدق إنها أتت بصلاتها بغسل واحد ، ومعه يكون الغسل من قبيل الشرط المتقدم لصلوات المستحاضة في القسم المتوسط منها ، ولا يكون من قبيل الشرط المتأخر لها ولا شرطاً لواحدة من صلواتها.

بل يمكن استفادة ذلك من الموثقة (١) أيضاً ، فإن المستفاد من قوله عليه‌السلام « وإن لم يجز الدم فعليها الغسل لكل يوم مرّة » في قبال ما تقدمه من قوله عليه‌السلام « إذا ثقب الدم الكرسف اغتسلت لكل صلاتين وللفجر غسلاً » بقرينة ما ارتكز في الأذهان من أن الغسل كالوضوء شرط متقدم على الصلاة أن عليها غسلاً واحداً لصلواتها اليومية ، أي يجب عليها أن تغتسل مرة واحدة قبل صلواتها اليومية.

ولأن المراد بذلك الغسل هو الغسل الواجب ثلاث مرات في الكثيرة ، وغاية الأمر أن التعدد غير واجب في المتوسطة ، وقد عرفت أن الغسل في الأغسال الثلاثة معتبر من باب الشرط المتقدم ، فيكون الغسل الواحد في المتوسطة كذلك.

فتحصل : أن الغسل الواحد يعتبر أن تأتي به المرأة فيما بين استحاضتها وأول صلاة تأتي بها ، فإذا كانت استحاضتها قبل الغداة فتأتي به بين استحاضتها وبين صلاة الغداة وإذا كانت واقعة قبل الزوال تأتي بالغسل بعد استحاضتها وقبل صلاة الظهر وهكذا هذا كلّه فيما ذكروه من وجوب الغسل على المستحاضة بالاستحاضة المتوسطة.

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٣٧٤ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ٦.

٥٢

وجوب الوضوء لكل صلاة

بقي الكلام فيما ذكروه من وجوب الوضوء عليها لكل صلاة مع أن صحيحة زرارة (١) لم تتعرض لوجوب الوضوء عليها لكل صلاة ، وكذا صحيحة معاوية (٢) لأنها إنما دلّت على أنها تتوضأ فحسب ، وأمّا أنها تتوضأ لكل صلاة فلا دلالة لها عليه.

هذا والصحيح ما ذكره المشهور من وجوب الوضوء عليها لكل صلاة ، لأمرين :

أحدهما : صحيحة زرارة من جهة القرينة الخارجية ، وذلك لبُعد أن تبقى المستحاضة على طهارتها من أوّل الصبح إلى آخر وقت العشاء ، لأنه لا يتحقق أصلاً أو يتحقق نادراً ، ومع كونها محدثة بشي‌ء من الأحداث بعد غسلها أول الصبح إما أن تصلِّي مع الحدث وإما أن يجب عليها الوضوء والصلاة ، والأول لا يمكن الالتزام به ، فيتعين الثاني وهو المطلوب ، وقوله « صلّت بغسل واحد » لا نظر له إلى عدم وجوب الوضوء مع الغسل ، بل هو قبال الغسل المتعدد ويدلُّ على أن الغسل لا يجب تعدده عليها.

وهذا الوجه يمكن المناقشة فيه بأن بقاء المستحاضة إلى آخر العشاء على طهارتها وإن كان بعيداً إلاّ أنها تتمكن من البقاء عليها بمقدار صلاتين ، فمع طهارتها لماذا يجب عليها الوضوء للصلاة الثانية ، أو ننقل الكلام إلى صلاة الغداة التي اغتسلت قبلها لأيّ وجه يجب عليها أن تتوضأ لصلاة الغداة.

الثاني : وهو العمدة موثقة سماعة « وإن لم يجز الدم الكرسف فعليها الغسل لكل يوم مرة والوضوء لكل صلاة » (٣) ، لما تقدم من أن حمل « لم يجز » على لم يثقب خلاف الظاهر ولا يمكن الالتزام به بل هو باق بمعناه ، وهو مقيد لإطلاق الجملة السابقة عليه « إذا ثقب الدم الكرسف » ، نظير قوله تعالى ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ... وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) (٤) وقد مر الكلام فيه مفصلاً.

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٣٧٣ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ٥.

(٢) الوسائل ٢ : ٣٧١ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ١ وفي ذيلها : « وصلّت كل صلاة بوضوء ».

(٣) الوسائل ٢ : ٣٧٤ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ٦.

(٤) المائدة ٥ : ٦.

٥٣

والثالثة : أن يسيل الدم من القطنة إلى الخرقة‌ ، ويجب فيها مضافاً إلى ما ذكر وإلى تبديل الخرقة أو تطهيرها غُسل آخر للظهرين تجمع بينهما ، وغسل للعشاءين تجمع بينهما ، والأولى كونه في آخر وقت فضيلة الأُولى حتى يكون كل من الصلاتين في وقت الفضيلة (١)

______________________________________________________

وهذا تخصيص لما قدّمناه (١) من أن كل غسل يغني عن الوضوء ، وأشرنا إلى أن الاستحاضة المتوسطة خارجة عن ذلك بالنصوص الخاصة المعتبرة.

الاستحاضة الكثيرة‌

(١) وقد ذكروا أن المرأة في الاستحاضة الكثيرة يجب عليها تبديل القطنة والخرقة ويجب عليها الاغتسال ثلاث مرات : لصلاة الغداة والظهرين والعشاءين ، ويجب عليها الوضوء لكل صلاة.

أمّا تبديل القطنة فإن قلنا بوجوبه في المتوسطة فلا بد من الالتزام به في الكثيرة بطريق أولى ، لأنها لا تنقص عن المتوسطة لكثرة دمها ، وأمّا إذا لم نقل بوجوبه في المتوسطة فهل يجب الالتزام به في الكثيرة؟

قد يقال : إن وجوبه مطابق للقاعدة ، وقد عرفت الجواب عنه (٢).

وقد يقال بوجوبه من جهة النص ، وهو صحيح صفوان عن أبي الحسن عليه‌السلام قال « قلت له : إذا مكثت المرأة عشرة أيام ترى الدم ، ثم طهرت فمكثت ثلاثة أيام طاهراً ، ثم رأت الدم بعد ذلك أتمسك عن الصلاة؟ قال : لا ، هذه مستحاضة تغتسل وتستدخل قطنة بعد قطنة ، وتجمع بين صلاتين بغسل ، ويأتيها زوجها إن أراد » (٣) ، حيث دلت على وجوب استدخال قطنة بعد قطنة.

__________________

(١) في شرح العروة ٧ : ٤٠٢.

(٢) في الصفحة ١٨.

(٣) الوسائل ٢ : ٣٧٢ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ٣.

٥٤

وفيه أوّلاً : أن غاية ما يمكن استفادته من الرواية وجوب إدخال القطنة بعد القطنة ، وأمّا وجوب إخراج القطنة الاولى فلا دلالة لها عليه ، بل للمرأة أن تستدخل قطنة اخرى على القطنة الاولى ، وتستدخل قطنة ثالثة بعد الثانية ورابعة بعد الثالثة بمقدار يسعه المحل ، إذ لم تدل الرواية على وجوب إخراج القطنة السابقة.

وثانياً : أن الرواية لم تدل على وجوب إدخال القطنة بعد القطنة للصلاة كما هو المدعى ، وإنما هي بصدد بيان الوظيفة للمستحاضة في نفسها ولو لغير الصلاة ، وذلك دفعاً لخروج الدم وتنجس أطراف المحل واللباس ، فلا دلالة لها على المدعى.

فنبقى نحن ومقتضى القاعدة ، وقد ذكرنا عدم البأس بالصلاة في المحمول المتنجس الباطني ، فإن القطنة محمولة في الباطن. فهذا الحكم لا دليل عليه بمعنى أن بطلان الصلاة حينئذ يتوقف على القول بأن دم الاستحاضة ولو في المحمول الباطني يقتضي بطلان الصلاة.

وأيضاً ربما يستدل على وجوب تبديل القطنة عليها برواية الجعفي عن أبي جعفر عليه‌السلام « قال : المستحاضة تقعد أيام قرئها ثم تحتاط بيوم أو يومين ، فإن هي رأت طهراً اغتسلت ، وإن هي لم تر طهراً اغتسلت واحتشت فلا تزال تصلِّي بذلك الغسل حتى يظهر الدم على الكرسف ، فإذا ظهر أعادت الغسل وأعادت الكرسف » (١).

إلاّ أنها ضعيفة السند أولاً بقاسم بن محمد الجوهري. وقاصرة الدلالة ثانياً ، وذلك لأن غاية ما هناك أن تدل على وجوب تجديد الكرسف على تقدير إخراجه لئلاّ يتنجس به أطراف المحل عند إعادته ، وأمّا إذا لم تخرجه فلا يجب عليها التجديد ، إذ لا دلالة لها على وجوب إخراج الكرسف على المرأة ، وعليه فهذا الحكم مبني على الاحتياط ولا دليل عليه.

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٣٧٥ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ١٠ ، والقاسم بن محمد الجوهري ثقة ، لوجوده في أسناد كامل الزيارات.

٥٥

وأمّا وجوب الغسل عليها للفجر والظهرين والعشاءين فقد ظهر الوجه فيه ممّا قدمناه في الاستحاضة القليلة والمتوسطة فلا نعيده.

وأمّا وجوب الوضوء عليها لكل صلاة فقد التزم به المشهور ، والظاهر المستفاد من كلماتهم أن القول به وبعدمه غير مبتن على إجزاء كل غسل عن الوضوء وعدم أجزائه ، فإن السيد المرتضى (١) وغيره ممن قالوا بإغناء كل غسل عن الوضوء التزموا بوجوب الوضوء على المستحاضة في المقام لكل صلاة.

ولكن الصحيح عدم وجوب الوضوء ، وذلك لعدم دلالة شي‌ء من الأخبار الواردة في المقام في الاستحاضة الكثيرة سوى المطلقات الواردة في أن المستحاضة تتوضأ (٢) ، أو المطلقات الآمرة بالوضوء كقوله تعالى ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ... ) (٣) والإطلاقات الدالة على أن من نام أو بال يتوضأ (٤) ، فإنها شاملة للمستحاضة في المقام ، وأمّا غير المطلقات فلا دليل على وجوب الوضوء لكل صلاة في الاستحاضة الكثيرة.

إلاّ أن هذه المطلقات لا بدّ من الخروج عنها بالأدلّة الخاصة النافية لوجوب الوضوء في الاستحاضة الكثيرة.

وذلك كصحيحة معاوية بن عمار ، حيث دلت على أن المستحاضة إن ثقب دمها الكرسف وجبت الأغسال الثلاثة عليها ، وإذا لم يثقب الكرسف وجب عليها أن تتوضأ لكل صلاة.

والوجه في دلالتها أن التفصيل قاطع للشركة ، وهي قد فصلت بين الدم الثاقب‌

__________________

(١) جمل العلم والعمل : ٢٧.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٧٨ ، ٢٨٠ / أبواب الحيض ب ٤ ح ١ ، ٧ ، ٨ ، ٢٨١ / ب ٥ ح ١ ، ٣٧٦ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ١٣.

(٣) المائدة ٥ : ٦.

(٤) الوسائل ١ : ٢٤٥ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ و ٢ و ٣.

٥٦

والدم غير الثاقب ودلت على وجوب الوضوء في الثاني وعلى وجوب الأغسال الثلاثة في الأول ، وهي تدل على أن الأول لا يجب فيه الوضوء.

وموثقة سماعة حيث دلت على أن المستحاضة إذا ثقب دمها الكرسف اغتسلت للغداة وللظهرين وللعشاءين ، وإذا لم يتجاوز اغتسلت غسلاً واحداً وتوضأت لكل صلاة.

وذلك لعين التقريب الذي مر في صحيحة معاوية ، حيث إنها فصلت بين الدم الثاقب المتجاوز فأوجبت فيه أغسالاً ثلاثة ، وبين الدم الثاقب غير المتجاوز فأوجبت فيه غسلاً واحداً مع الوضوء لكل صلاة ، وتفصيلها هذا يدل على أن المرأة عند ثقب دمها الكرسف وتجاوزه غير مكلفة بالوضوء.

ويؤيده ما قدّمناه (١) من القاعدة الثانوية من أن كل غسل يغني عن الوضوء ، ومع اغتسال المرأة لا تحتاج إلى الوضوء ، هذا.

وعلى الجملة إن الأخبار الواردة في الاستحاضة الكثيرة قد دلت على وجوب الأغسال الثلاثة في حقها وسكتت عن وجوب الوضوء عليها لكل صلاة ، وسكوتها عن وجوبه وهي في مقام البيان يدلنا على عدم وجوب الوضوء في حقها.

على أن في جملة من الأخبار كموثقتي سَماعة وصحيحة معاوية فصّل بين الاستحاضة الكثيرة والمتوسطة أو بين الكثيرة والقليلة وحكم بوجوب الوضوء على المتوسطة والقليلة ، ولم يحكم بوجوبه في الكثيرة بل حكم بوجوب الأغسال الثلاثة في حقها ، وحيث إن التفصيل قاطع للشركة فيعلم من ذلك عدم وجوب الوضوء في الاستحاضة الكثيرة ، هذا كله.

مضافاً إلى ما ذكرناه من أن الغسل يغني عن الوضوء ، وإنما خرجنا عنه في الاستحاضة المتوسطة بالنص الخاص كما مر.

ولكنه قد يقال : إن وجوب الوضوء لكل صلاة في المستحاضة الكثيرة مستند إلى‌

__________________

(١) في شرح العروة ٧ : ٤٠٢.

٥٧

النص كما استند إليه في المتوسطة ، وهذا النص هو مرسلة يونس الطويلة حيث ورد فيها « وسئل عن المستحاضة فقال : إنما ذلك عرق عابر ( عائذ ) أو ركضة من الشيطان فلتدع الصلاة أيام أقرائها ، ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة ، قيل : وإن سال؟ قال : وإن سال مثل المَثعَب » (١) أي مجرى الماء.

وقد ذكرنا أن الرواية معتبرة وخارجة عن حكم الإرسال ، وقد ادعي صراحتها بحسب الدلالة على وجوب الوضوء لكل صلاة في المستحاضة الكثيرة.

وفيه : أن المرسلة لا دلالة لها على وجوب الوضوء في الاستحاضة الكثيرة إلاّ بالإطلاق ، فحالها حال بقية المطلقات المتقدمة ، وأمّا قوله « وإن سال مثل المثعب » فهو غير ناظر إلى أن وجوب الوضوء للمستحاضة ثابت حتى فيما إذا سال دمها مثل المثعب ، بل هو ناظر إلى وجوب الصلاة عليها حتى إذا سال دمها مثل المثعب ، وذلك لأن الرواية إنما هي بصدد بيان أن المرأة ذات الدم متى تجب عليها الصلاة ومتى لا تجب.

ومن هنا قسمتها إلى قسمين أعني الحائض والمستحاضة وأوجبت الصلاة على الثانية ، بمعنى أنها قسّمت المرأة ذات الدم إلى ذات العادة فدلت على أنها ترجع إلى عادتها ، وإلى واجدة الصفات فأوجبت رجوعها إلى الصفات وتمييز الحيض عن الاستحاضة بصفاتهما ، وإلى غير واجدة الصفات فأرجعتها إلى العدد أعني الستة أو السبعة.

وعلى الجملة : إن هذه الرواية لا دلالة لها على أن المستحاضة يجب عليها أن تغتسل وتتوضأ لكل صلاة في الاستحاضة الكثيرة ، لما عرفت من أن قوله عليه‌السلام « وإن سال مثل المثعب » راجع إلى وجوب الصلاة على المرأة لا إلى وجوب الوضوء لكل صلاة ، لعدم كونها ناظرة إلى أحكام الاستحاضة وإنما هي واردة لبيان وجوب الصلاة عليها فحسب.

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٨١ / أبواب الحيض ب ٥ ح ١.

٥٨

ولكن الامام عليه‌السلام لما حكم بعدم وجوب الصلاة عليها في أيام أقرائها وحكم بوجوبها عليها في الاستحاضة ، وتعجّب السائل من وجوبها عليها حتى في الكثيرة وفيما إذا سال منها الدم نظراً إلى أن حال المرأة حينئذ كحالها حال أقرائها من حيث كثرة الدم في كليهما قال وإن سال؟ فأجابه عليه‌السلام بقوله : « وإن سال مثل المثعب » إشارة إلى أن الاستحاضة لا تقاس بالحيض.

نعم ، هذه الرواية من الأخبار الدالة على وجوب الوضوء على المستحاضة مطلقاً وذلك لأن المراد بالاغتسال في قوله « ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة » هو الغسل من الحيض أي تغتسل بعد أيام أقرائها ، كما في الرواية حيث قال عليه‌السلام « فلتدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل » وليس المراد به غسل الاستحاضة.

ويؤيده أنه إن أُريد به غسل الاستحاضة وجب الغسل لكل صلاة بمقتضى قوله « تغتسل وتتوضأ لكل صلاة » مع أنك عرفت أن الغسل لا يجب لكل صلاة في المستحاضة حتى في الكثيرة ، بل لكل صلاتين غسل واحد كما تقدم ولا يجب الغسل لكل صلاة ، فإذا كان الغسل فيها غسل الحيض فالرواية تدل على وجوب الوضوء لكل صلاة في حق المستحاضة مطلقاً.

وقد خرجنا عن إطلاقها في المتوسطة لما دلّ من الأخبار على أن المستحاضة في المتوسطة لا يجوز لها أن تكتفي بالوضوء فقط بل تغتسل في اليوم والليلة مرة واحدة وتتوضأ لكل صلاة.

وكذلك نخرج من إطلاقها في الكثيرة بما دلّ على أن المستحاضة بالكثيرة تغتسل ثلاث مرات ولا يجب عليها الوضوء لكل صلاة ، للاكتفاء بذلك في مقام البيان وبقرينة التقابل والتقسيم.

ومن جملة تلك الروايات ذيل هذه الرواية حيث قال « فقال : احتشي كرسفاً فقالت : إنه أشد من ذلك ، إني أثُجّه ثجاً ، فقال : تلجّمي وتحيّضي في كل شهر في علم الله ستة أيام أو سبعة أيام ، ثم اغتسلي غسلاً وصومي ثلاثة وعشرين يوماً أو أربعة‌

٥٩

وعشرين ، واغتسلي للفجر غسلاً ، وأخّري الظهر وعجّلي العصر واغتسلي غسلاً وأخّري المغرب وعجّلي العشاء واغتسلي غسلاً » (١).

وكيف كان فمحط نظر الرواية إلى تشخيص أن ذات الدم أين تجب عليها الصلاة وأين لا تجب ، ولا نظر لها إلى بيان أوصاف المستحاضة وأقسامها وأحكامها من غير جهة الصلاة ، ومعه يكون قوله عليه‌السلام « وإن سال مثل المثعب » ناظراً إلى ما تقدّمه من وجوب الصلاة عليها وأنها واجبة في حقها وإن سال مثل المثعب ، ومعه لا تعرض للرواية لخصوص الاستحاضة الكثيرة بوجه.

والذي يدلنا على ذلك أن الامام عليه‌السلام تعرض بعد ذلك لحكم المستحاضة الكثيرة وأوجب عليها أغسالاً ثلاثة من دون أن يوجب الوضوء عليها ، فلو كانت الرواية في هذا المقام أيضاً ناظرة إلى بيان أحكام المستحاضة ودالّة على وجوب الوضوء في حقها لكانت الرواية بصدرها وذيلها متناقضة.

وجوب الجمع بين الصلاتين

بقي الكلام في وجوب الجمع بين الصلاتين في الاستحاضة الكثيرة كما هو المشهور إلاّ أنه واجب شرطي للاكتفاء بغسل واحد للصلاتين وليس واجباً نفسياً ، بل للمرأة أن تفصل بينهما وتغتسل لكل منهما غسلاً ، والحكم بوجوب الجمع بين الصلاتين بناء على لزوم الفورية وعدم جواز تأخير الصلاة عن الأغسال في حق المستحاضة واضح.

وذلك لعدم جواز تأخير الصلاة الثانية عن الاغتسال إلاّ بمقدار الصلاة الأُولى فحسب على ما يستفاد من الأخبار من جواز الاكتفاء بغسل واحد إذا جمعت بين الصلاتين ، وأمّا زائداً على مقدار الصلاة الأُولى فالتأخير مانع عن الاكتفاء بذلك الغسل.

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٢٨٨ / أبواب الحيض ب ٨ ح ٣.

٦٠