موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

وعلى الجملة : أنّ الشارع المقدّس قد يمضي ما أنشأه المنشئ على إطلاقه ، كما في أكثر المعاملات والإيقاعات الصحيحة. وقد لا يمضي على الإطلاق ، كما في المعاملات الفاسدة كالربوي وغيره. وقد يكون إمضاؤه متوسطاً بين الأمرين فلا هو يمضيه مطلقاً ولا هو لا يمضيه مطلقاً ، بل يمضيه مشروطاً بشرط كما عرفت ، ومعه يمكن أن يكون الطلاق من هذا القبيل ، لأنّ المنشئ وإن قصد البينونة مطلقاً إلاّ أنّ الشارع أمضاه بعد انقضاء العدّة فالمرأة قبل انقضائها زوجة حقيقة.

وهل هذا الأمر الممكن واقع؟

الصحيح نعم ، وذلك لما ورد في الروايات المعتبرة من أنّ المرأة إذا انقضت عدّتها فقد بانت (١) حيث علقت البينونة على انقضاء العدّة ، ومقتضى مفهوم الشرط عدم البينونة قبل انقضاء العدّة ، والبينونة في قبال الزوجية ، فيدل مفهوم الرواية على أنّ الزوجية باقية قبل انقضاء العدّة.

ويؤيّده ما ورد من مرغوبية تزيين المطلقة الرجعية وإراءة نفسها من زوجها لعله يرغب في نكاحها والرجوع إليها (٢) مع أنّ الأجنبية لا يجوز لها أن تتزين وترى نفسها للأجنبي.

ولأجل ما ذكرنا يجوز لزوجها أن ينظر إليها في زمان العدّة ويقبلها ويمسّها ، بل يجوز له كل شي‌ء حتى وطئها ولو بقصد الزِّنا وعدم الرجوع ، وإن استفدنا من الروايات (٣) أنّ الوطء بنفسه رجوع وهو مبطل للطلاق السابق عليه ، بخلاف مثل التقبيل واللمس والنظر ، فكونها رجوعاً يحتاج إلى القصد.

فالمتحصل : أنّ المطلقة الرجعية زوجة حقيقة فيجوز لها أن تغسل زوجها وبالعكس.

__________________

(١) الوسائل ٢٢ : ٢٠٣ / أبواب العدد ب ١٥.

(٢) الوسائل ٢٢ : ٢١٧ / أبواب العدد ب ٢١.

(٣) لاحظ الوسائل ٢٢ : ١٤٠ / أبواب أقسام الطّلاق ب ١٧ ، ١٨ ، ١٩.

٣٤١

وإن كان الأحوط ترك تغسيل المطلقة مع وجود المماثل خصوصاً إذا كان بعد انقضاء العدّة (*) ، وخصوصاً إذا تزوّجت بغيره إن فرض بقاء الميِّت بلا تغسيل إلى ذلك الوقت وأمّا المطلقة بائناً فلا إشكال في عدم الجواز فيها (١).

______________________________________________________

تغسيل الزّوجة زوجها بعد عدّة الوفاة‌

(١) ذكرنا أن كلا من الزوج والزوجة يجوز لكل منهما أن يغسل الآخر وينظر إلى بدنه حتّى إذا كانت في عدّة الطلاق.

وهل يجوز ذلك للزوجة بعد انقضاء عدّة الوفاء؟

فيه خلاف بين الأصحاب ، والظاهر من محكي كلام الشهيد (٢) أنّ الجواز هو المشهور بيننا ، بل الأمر كذلك وإن تزوجت ، وذلك للإطلاقات الدالّة على أنّ الزوج والزوجة يجوز لكل منهما أن يغسل الآخر حيث يستفاد منها كفاية الزوجية حال الممات في جواز تغسيل كل منهما الآخر كانت في عدّة الوفاة أو بعد انقضائها متزوجة كانت أم غير متزوجة وإن كانت المسألة بعيدة الوقوع والاتفاق ، لبعد بقاء الميِّت بحاله من دون أن يتلاشى في مدّة العدّة ، وهي أربعة أشهر وعشراً أو بوضع الحمل أو بأبعد الأجلين وتزوجها من زوجٍ ثانٍ ، إلاّ أنّه يمكن أن يفرض ذلك بسهولة في البلاد الباردة جدّاً ، لأنّ الميِّت إذا بقيت جثته تحت الثلوج يبقى مدّة مديدة كسنة ونحوها من دون أن تتلاشى أعضاؤه وأجزاؤه.

إلاّ أنّه قد يقال بعدم الجواز ، نظراً إلى أن طول المدّة يصيّر المرأة أجنبية عرفاً ، وبه تزول علقة الزوجية بينهما ، والأجنبية لا يجوز لها أن تغسل الأجنبي.

وفيه : أنّ علقة الزوجية إنّما تنقطع بالموت عرفاً لا بانقضاء العدّة ، والعدّة إنّما هي‌

__________________

(*) لا يترك الاحتياط في هذا الفرض.

(١) حكاه عنه في الجواهر ٤ : ٥٦ ، وراجع الذكرى : ٤٠ السطر ١.

٣٤٢

حكم شرعي تعبّدي إنّما جعلت تجليلاً للميت واحتراماً له لا لبقاء علقة الزوجية ، إذ لا معنى لاعتبار الزوجية للجماد الّذي منه الميِّت.

فالأخبار دلّت على ترتب الحكم على الزوجية حال الموت وأنّها الموضوع لجواز تغسيل كل منهما الآخر بعد الموت ، وهي أمر لا ينقلب عمّا وقع عليه بعد الوقوع.

على أن ذلك تنافيه التعليلات الواردة في الأخبار « بأنّ الزوجة منه في عدّة » كما في صحيحة عبد الله بن سنان وغيرها من الأخبار المتقدِّمة (١) المصرحة بأنّ الزوجة لها أن تغسل زوجها وتنظر بدنه ما دام لم تنقض عدّتها وهي أربعة أشهر وعشراً ، أو غيره كما مرّ ومنها يستكشف أن طول المدّة كأربعة أشهر وعشراً غير موجب لزوال علقة الزوجية تعبّداً ، فإذا لم تنقطع العلقة بتلك المدّة لم تنقطع بزيادة ساعة أو يوم عليها كما إذا انقضت عدّتها وبعد ساعة أرادت أن تغسل الرجل فطول المدّة غير مانع عن المدّعى.

وقد يستدل عليه بأنّ الأخبار الدالّة على جواز تغسيل الزوج أو الزوجة صاحبه تنصرف إلى الغسل المتعارف كالغسل بعد ساعة من الموت أو ساعتين ونحو ذلك ولا يشمل الفروض النادرة.

وفيه : أنّ الانصراف بدوي وهو ممّا لا موجب له.

على أن ذلك ممّا تدفعه التعليلات الواردة في الأخبار ، لأن مقتضاها جواز تغسيل الزوجة زوجها ما دامت لم تنقض عدّتها ، وظاهر أنّ الغسل في آخر أيّام العدّة كالعشرة بعد أربعة أشهر أمر نادر أيضاً ، ومع ذلك تشمله الأخبار من غير شبهة.

على أنّه لا فرق في الندرة بين تغسيلها قبل انقضاء عدّتها وتغسيلها بعده بساعة وقد صرّحت الأخبار المتقدِّمة بأنّ الزوجة لها أن تغسل زوجها ما دام لم تنقض عدّتها الشاملة لتغسيلها في آخر أزمنة عدّتها. وعن بعضهم الاستدلال على ذلك بأنّ الأخبار‌

__________________

(١) في ص ٣٣٥.

٣٤٣

وعن بعضهم الاستدلال على ذلك بأنّ الأخبار المتقدِّمة (١) قد صرّحت بجواز تغسيل الزوجة زوجها إلى أن تنقضي عدّتها ، لتعليلها ذلك بأنّها منه في عدّة ، فهذه تدلّنا على أنّه إذا انقضت عدّتها ليس لها ذلك ، لأنّها ليست منه في عدّة.

وهذا الاستدلال لعلّه أحسن ما استدلّ به في المقام ، إلاّ أنّه لا يمكن المساعدة عليه أيضاً ، لما عرفت من أن تلك الأخبار لا بدّ من التصرّف فيها بقرينة صحيحة الحلبي الدالّة على جواز تغسيل الزوج زوجته ولو من وراء الثياب (٢) مع أنّ الزوج ليس في عدّة من زوجته.

ومن الجمع بين الأخبار يظهر أن تلك التعليلات ليست تعليلات لجواز التغسيل وإنّما هي تعليلات لجواز النظر إلى البدن ، لأنّ الزوج ليس في عدّة من زوجته ومع ذلك جاز له تغسيل زوجته كما مرّ.

فلا بدّ من حملها على جواز النظر إلى بدن زوجها لا إلى جواز تغسيلها فانّ التغسيل جائز كان هناك عدّة أم لم تكن كما في الزوج نعم ، الزوج ليس له أن ينظر إلى بدن زوجته كراهة أو تحريماً ، لعدم كونه من زوجته في عدّة والزوجة لها ذلك لكونها منه في عدّة. وعليه فبعد انقضاء العدّة يكون حال الزوجة حال الزوج قبل الانقضاء فيجوز لها أصل التغسيل ، وليس لها أن تنظر إلى بدن زوجها حينئذ كراهة أو تحريماً كما تقدم.

فالصحيح في المسألة هو الجواز وإن كان الأحوط ترك ذلك بعد انقضاء العدّة ، ولو لاحتمال كون طول المدّة قاطعاً لعلقة الزوجية كما قيل.

__________________

(١) في ص ٣٣٥.

(٢) الوسائل ٢ : ٥٣٢ / أبواب غسل الميِّت ب ٢٤ ح ١١.

٣٤٤

الثالث : المحارم بنسب أو رضاع‌ (١) ، لكن الأحوط بل الأقوى (*) اعتبار فقد المماثل‌

______________________________________________________

من الموارد المستثناة : المحارِم‌

(١) كما هو المشهور ، بل لعل المسألة ممّا لا خلاف فيها ، فمع وجود المحرم لا يدفن الميِّت من غير غسل.

وإنّما الكلام في أن جواز تغسيل المحارم مشروط بفقد المماثل والزوج أو الزوجة أو أنّ الحكم عام ويجوز تغسيل المحرم ولو مع وجود المماثل والزوج والزوجة؟

الصحيح هو الاختصاص وكونه مشروطاً بفقد المماثل والزوج أو الزوجة ، وذلك لأنّ الأخبار الدالّة على جواز تغسيل المحارم كلّها واردة في فرض الاضطرار وفقد المماثل أو الزوج والزوجة ، فيستفاد من مجموعها أن اعتبار المماثلة في صورة الاختيار كان مرتكزاً في أذهان المتشرعة.

ويؤيّد هذا الارتكاز ما ورد من أنّ المرأة لا يغسلها إلاّ المرأة (٢) وإن كانت هذه الرواية ضعيفة من حيث السند (٣) فجواز تغسيل غير المماثل من الزوج والزوجة أو المحارم يحتاج إلى دليل ، ولا دليل على جوازه إلاّ في فرض الاضطرار وفقد المماثل والزوج والزوجة ، بل إن موثقة أو حسنة عبد الله بن سنان بالوشاء ـ : قال « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : إذا مات الرجل مع النِّساء غسلته امرأته ، وإن لم تكن امرأته معه غسلته أولاهنّ به وتلّف على يديها خرقة » (٤) تدل على أنّ النوبة لا تصل إلى المحارم مع وجود الزوجة ، وقد مرّ ويأتي أنّ المراد بأولاهنّ هو المحارم ، لصراحة‌

__________________

(*) في القوّة بالنسبة إلى كونه من وراء الثِّياب إشكال نعم هو أحوط.

(١) الوسائل ٢ : ٥١٩ / أبواب غسل الميِّت ب ٢٠ ح ١٠ ، ٥٢٥ / ب ٢٢ ح ٧. ( وفيهما : لا يغسّل الرجل المرأة إلاّ أن لا توجد امرأة )

(٢) في السند محمّد بن سنان وهو ممّن لم تثبت وثاقته.

(٣) الوسائل ٢ : ٥١٨ / أبواب غسل الميِّت ب ٢٠ ح ٦.

٣٤٥

الأخبار في أنّ الميِّت إذا لم يكن عنده المحارم دفن من غير غسل لاعتبار المماثلة في غير المحارم (١) وبما أنّ الأخبار الواردة في اعتبار المماثلة مطلقة فمقتضى إطلاقها عدم جواز تغسيل المحارم مع الاختيار ووجود المماثل أو الزوج والزوجة ، لأنّ الخروج عن تلك المطلقات يحتاج إلى دليل ، وهو إنّما دلّ على سقوط هذا الاشتراط في المحارم عند فقدان المماثل والزوج والزوجة ، فمرتبة المحارم متأخرة عن مرتبة الزوج والزوجة المساوية مع المماثل على الصحيح أو المتأخرة عنه على بعض الأقوال والحسنة أو الموثقة هي المحكّمة في المقام.

إعادة وتوضيح : ذكرنا أن جواز تغسيل المحرم محرمه هو المشهور ، بل هو أمر متسالم عليه وممّا لا خلاف فيه في الجملة.

وإنّما الكلام في أن جواز تغسيل المحارم مشروط بفقد المماثل والزوج والزوجة أو أنّه غير مشروط بفقدهم؟

المعروف بينهم هو الاشتراط ، وذهب جماعة إلى عدم الاشتراط.

وقد استدلّ عليه بالإطلاقات الدالّة على وجوب تغسيل الميِّت كفائياً ، وإنّما خرجنا عن تلك المطلقات في غير المحارم ، لما دلّ على اعتبار المماثلة بين الغاسل والميِّت وأنّه يدفن من غير تغسيل فيما إذا لم يوجد المماثل. وأمّا في المحارم فلم يقم على اعتبار المماثلة دليل ، فمقتضى الإطلاقات جواز تغسيل المحرم محرمه كان هناك مماثل أم لم يكن ، لأنّ المحرم من أحد أفراد المكلّفين حتّى فيما إذا كان المماثل موجوداً.

وفيه : أنّ الاستدلال بالمطلقات وإن كان صحيحاً في نفسه إلاّ أنّه متوقف على عدم قيام الدليل على اعتبار المماثلة في المحارم في حال الاختيار وإلاّ فهو المتبع دون المطلقات كما يأتي إن شاء الله.

وأُخرى : يستدل عليه بصحيحة منصور بن حازم قال « سألت أبا عبد الله ( عليه‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٥٢٠ / أبواب غسل الميِّت ب ٢١.

٣٤٦

السلام ) عن الرجل يخرج في السفر ومعه امرأته أيغسلها؟ قال عليه‌السلام : نعم ، وأُمّه وأُخته ونحو هذا يلقي على عورتها خرقة » (١) حيث دلّت على جواز تغسيل المحارم مطلقاً من دون تقييد بما إذا لم يوجد مماثل.

وفيه : أنّ الصحيحة لا دلالة لها على المدّعى ، لأنّ السؤال فيها إنّما هو عن الرجل يخرج في السفر ، والسفر من موارد الاضطرار ، إذ لا يوجد فيه مماثل يغسل الميِّت غالباً ، فالصحيحة واردة في مورد فقد المماثل والاضطرار لا في صورة الاختيار.

وقد يقال : إنّ السفر ليس من موارد الاضطرار ، إذ كثيراً ما يوجد فيه المماثل من النِّساء والرجال ولو من غير ذوات الأرحام.

ويندفع بأن مطلق وجود المماثل لا يكفي في ارتفاع الاضطرار ، وإنّما يرتفع الاضطرار بوجود مماثل مقدم للتغسيل ، وهو لا يوجد في السفر إلاّ نادراً ، فالإتيان بهذا القيد أعني السفر كاشف عن اختصاص الحكم بموارد الاضطرار ، إذ لو لم يكن له دخل في الحكم لم يكن لذكره وجه في الكلام ، وللزم أن يسأل عن مجرّد جواز تغسيل الرجل زوجته ، فإضافة قيد السفر من جهة اختصاص الحكم بالاضطرار.

إذن لا تكون هذه الصحيحة موجبة للخروج عمّا دلّ على اعتبار المماثلة بين الغاسل والميِّت إلاّ في حال الاضطرار ، فان لم يقم دليل على عدم اعتبارها في حال الاختيار لا بدّ من اختصاص الحكم أعني جواز تغسيل المحرم بما إذا لم يوجد هناك مماثل ، وهذا هو الصحيح ، أي لم يقم دليل على عدم اعتبار المماثلة في المحارم ، وحيث إنّ الدليل يدل على اعتبارها ، وهو الارتكاز المتشرعي في الأذهان المؤيّد بما ورد في رواية أبي حمزة من أنّ المرأة لا يغسلها إلاّ امرأة (٢) فلا بدّ من تخصيص جواز تغسيل المحارم بصورة فقد المماثل والاضطرار.

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٥١٦ / أبواب غسل الميِّت ب ٢٠ ح ١.

(٢) الوسائل ٢ : ٥١٩ / أبواب غسل الميِّت ب ٢٠ ح ١٠ ، ٥٢٥ ب ٢٢ ح ٧. ( وفيهما : لا يغسل الرجل المرأة إلاّ أن لا توجد امرأة )

٣٤٧

وكونه من وراء الثِّياب (١).

______________________________________________________

ويؤيّده أيضاً : أنّ الأخبار الواردة في المقام كلّها مختصّة بصورة فقد المماثل أو السفر ولو في الأسئلة الواردة فيها ، فلم يقم دليل مخرج عن ذلك في صورة الاختيار هذا.

بل مقتضى حسنة ابن سنان أو موثقته عدم الجواز مع وجود المماثل أو الزوج ، قال « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : إذا مات الرجل مع النِّساء غسلته امرأته وإن لم تكن امرأته معه غسلته أولاهن به ، وتلف على يديها خرقة » (١) حيث دلّت على أنّ المحارم إنّما يغسلن الرجل إذا لم تكن امرأته معه فمرتبة المحارم متأخرة عن الزوجة. نعم ، هي مختصّة بالزوجة ولم يذكر فيها المماثل ، إلاّ أنّها تدل على أن مرتبة المحرم متأخرة عن مرتبة الزوجة ، والزوجة إمّا مرتبتها متساوية مع المماثل أو متأخرة عن مرتبته ، وعلى كلا التقديرين تدل على أن مرتبة المحارم متأخرة عن مرتبة المماثل.

فالمتحصل : أن مقتضى العموم المستفاد من الارتكاز والروايات المؤيد برواية أبي حمزة والمؤيّد باشتمال الأخبار واختصاصها بمورد الاضطرار هو اعتبار المماثلة بين الغاسل والميِّت مطلقاً حتّى في حقّ المحارم ، وإنّما لا تعتبر المماثلة في المحارم عند الاضطرار وفقد المماثل.

اشتراط تغسيل المحارم بكونه من وراء الثِّياب‌

(١) هل يعتبر في تغسيل المحارم أن يكون الغسل من وراء الثِّياب أو يجوز تغسيل الميِّت مجرّداً؟

المعروف هو الأوّل ، وذهب جماعة إلى الثاني وأنّ المحرم يجوز له أن يغسل محارمه ولو مجرّداً ، وإنّما لا يجوز له أن ينظر إلى عورته ، لأنّ المحرم يحرم عليه النظر إلى عورة‌

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٥١٨ / أبواب غسل الميِّت ب ٢٠ ح ٦.

٣٤٨

محارمه ، وهذا هو الأظهر ، وذلك لأنّ الأخبار الواردة في المقام وإن اشتملت على أنّه لا يخلع ثوبه ويصب عليه الماء صباً ، أو من وراء الثِّياب وغير ذلك من التعابير ، إلاّ أنّها لا تدل على أنّ الغسل من وراء الثِّياب واجب مولوي تعبّدي ، بل إنّما يستفاد منها عرفاً أنّه من جهة حرمة النظر إلى عورة الميِّت والأمر به إرشاد إلى التخلص من الحرام.

ويدلُّ على ذلك ما ورد في صحيحة منصور المتقدِّمة (١) من الأمر بإلقاء الخرقة على عورتها ، لأنّه إنّما يصح فيما إذا كان بدن الميِّت عارياً وإلاّ فمع القميص أو الدرع على بدنه لا معنى للأمر به.

وبهذا يظهر أنّ التغسيل مجرداً لا محذور فيه ، وإنّما المحرّم النظر إلى عورته ، ومن ثمة أمر عليه‌السلام بإلقاء الخرقة على عورته حتّى يتخلص به عن ذاك الحرام.

بل يمكن أن يقال : إنّ التغسيل من وراء الثِّياب لأجل عدم وقوع النظر على عورة الميِّت ليس واجباً شرطياً في صحّة الغسل أيضاً ، وذلك لأنّه بحسب الفهم العرفي إنّما هو مقدمة لعدم وقوع النظر على عورة الميِّت بحيث لو غسله ليلاً أو كان المغسّل أعمى لم يشترط في صحّة الغسل أن يكون تغسيله من وراء الثِّياب ، بل لو غسله مع النظر إلى عورته وارتكابه عصياناً لم يبطل غسله وإن ارتكب محرماً.

وعلى الجملة : حمل الأمر أو النهي الواردين في الأجزاء والشرائط على بيان الشرطية أو الجزئية أو المانعية إنّما هو لأجل الظهور ، وبما أنّ الأخبار الآمرة بالتغسيل من وراء الثِّياب غير ظاهرة في الإرشاد إلى الشرطية ، فلا جرم يحمل الأمر بها على بيان الوجوب النفسي دون الشرطي ، بل مقتضى المناسبة أن يكون ذلك واجباً نفسياً ، لأنّه بعد تجويز تغسيل المحرم محرمة أمر عليه‌السلام بإلقاء الخرقة على عورته ، وظاهره أن ذلك واجب في نفسه وليس شرطاً في صحّة التغسيل بوجه.

__________________

(١) في ص ٣٤٦.

٣٤٩

الرابع : المولى والأمة‌ فيجوز للمولى تغسيل أمته (*) إذا لم تكن مزوّجة ولا في عدّة الغير ولا مبعّضة ولا مكاتبة (١).

______________________________________________________

إذن فلا وجه لرفع اليد عن ظواهر الأخبار في الوجوب النفسي المولوي ، بل نلتزم بوجوب كون التغسيل من وراء الثِّياب ، من غير أن يكون الإخلال به موجباً لبطلان التغسيل.

بقي هناك شي‌ء : وهو أن حسنة أو موثقة ابن سنان المتقدِّمة (٢) اشتملت على الأمر بلف الخرقة على يدها فهل هذا واجب معتبر في صحّة تغسيل المحارم أو غير معتبر في صحّته؟

الظاهر عدم اعتباره في التغسيل ، وذلك لأن كون اللف واجباً تعبّدياً أمر لا نحتمله ، وليس ذلك إلاّ من جهة التحفظ عن وقوع النظر على عورة الميِّت أو مسّها إلاّ أنّه لما لم يكن محرّماً على المحرم ، لجواز أن يمس بدنه وينظر إليه ، فلا مناص من أن يكون إرشاداً إلى التحفظ عن مسّ عورة الميِّت من القبل والدبر ، لأنّه محرم عليه فلا يكون شرطاً معتبراً في صحّة التغسيل.

فكما أنّ الأمر بالتغسيل من وراء الثِّياب إرشاد إلى عدم جواز النظر إلى عورة الميِّت ، كذلك الأمر بلف الخرقة على يدها إرشاد إلى عدم جواز مسّ عورتي الميِّت.

من الموارد المستثناة : المولى والأمة‌

(١) الكلام في هذه المسألة يقع في مقامين :

أحدهما : في تغسيل المولى أمته.

وثانيهما : في تغسيل الأمة مولاها إذا مات.

__________________

(*) فيه إشكال والاحتياط لا يترك.

(١) في ص ٣٤٨.

٣٥٠

ومحل الكلام في المقامين إنّما هو الأمة الّتي يجوز وطؤها للمولى كما إذا لم تكن مزوّجة أو معتدة أو مبعضة أو مكاتبة قد أدّت بعض ما عليها من الثمن. وأمّا إذا كانت محرّمة الوطء فهي خارجة عن محل الكلام ، لحرمة وطئها وعدم جواز نكاحها.

أمّا المقام الأوّل ، تغسيل المولى أمته : فقد ادّعي الإجماع على جواز تغسيل المولى أمته وأنّه لا يشترط فيه المماثلة ، وفي كلام بعض آخرين أنّ الحكم مقطوع به في كلام الأصحاب ، فالمسألة متسالم عليها بينهم ، ولم ينسب فيها الخلاف صريحاً إلى أحد.

وإنّما الكلام في مدرك هذا الحكم المتسالم عليه ، وأنّ الأمة لماذا قد استثنيت عن كبرى ما دلّ على اعتبار المماثلة بين الغاسل والميِّت.

والمدرك في ذاك الحكم إن كان هو الإجماع فلا كلام ، إلاّ أن تحصيل إجماع تعبّدي يوجب القطع أو الاطمئنان بقول الإمام عليه‌السلام في المسألة صعب غايته ، وذلك لاحتمال استنادهم في الحكم إلى الوجهين الآتيين ، فلا يكون الإجماع تعبّدياً لا محالة.

وقد يستدل عليه بانصراف ما دلّ على اعتبار المماثلة بين الغاسل والميِّت إلى ما إذا لم يجز للغاسل النظر إلى الميِّت ومسّه ، إذ المماثلة إنّما اعتبرت من أجل حرمة نظر غير المماثل إلى الميِّت وحرمة مسّه ، فالموارد الّتي يجوز فيها النظر إلى الميِّت ويجوز مسّه خارجة عن تلك الأدلّة ، لانصرافها إلى الموارد الّتي يحرم فيها المسّ والنظر.

وفيه : أن ما دلّ على اعتبار المماثلة بين الغاسل والميِّت مطلق لا يفرق فيه بين الأمة وغيرها ، لأن اعتبار المماثلة حكم تعبّدي وليس من أجل حرمة نظر الغاسل ومسّه لبدن الميِّت ، ومن ثمة لو غسّل الميِّت أجنبي في الظلمة أو كان أعمى من غير أن يمس بدنه لم نكتف به في الجواز ، لاعتبار المماثلة بين الغاسل والميِّت مطلقاً ، فدعوى الانصراف ساقطة.

وقد يستدل عليه بما دلّ على جواز تغسيل الزوج زوجته وعدم اعتبار المماثلة بينهما ، وذلك لأنّ الزوجة بمفهومها اللغوي وإن لم تشمل الأمة ، إلاّ أنّها بحسب ما يفهم منها عرفاً ولو بمناسبة الحكم والموضوع شاملة للأمة أيضاً ، لأن مفهومها‌

٣٥١

عرفاً هو من يجوز وطؤها والاستمتاع بها.

وفيه : أن علقة الزوجية والملكية قد انقطعت وارتفعت بالموت ، لأن طرف الإضافة فيهما إنّما هو الحي لا الجماد ، ومقتضى إطلاق ما دلّ على اعتبار المماثلة عدم جواز التغسيل من غير المماثل حتّى في الزوجة والأمة ، وإنّما خرجنا عنه في الزوجة لقيام الدليل على أنّ المماثلة غير معتبرة بين الزوج وزوجته ، بمعنى أنّ الدليل قام على أن من كانت زوجة للغاسل قبل موتها يجوز لزوجها أن يغسلها ، ولو لا ذلك الدليل لقلنا باعتبار المماثلة حتّى بينهما ، ولم يقم مثله على عدم اعتبارها بين الأمة والمولى ، فلا محالة تبقى تحت المطلقات. وتسرية حكم الزوجة إلى الأمة قياس ، لاحتمال أن تكون للزوجة خصوصية تستتبع الحكم بعدم اعتبار المماثلة فكيف يمكن التعدّي معه إلى الأمة.

نعم ، ورد في صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه‌السلام « عن الرجل يخرج في السفر ومعه امرأته أيغسلها؟ قال : نعم ، وأُمّه وأُخته ونحو هذا ، يلقي على عورتها خرقة » (١) فلو أُريد من « نحو هذا » نحو ما ذكر من المرأة والأُم والأُخت ، شملت الصحيحة الأمة أيضاً ، لأن معنى اللفظة حينئذ هو من يجوز النظر إليه ، أعم من أن يجوز وطؤها أو من يحرم ، والأمة من يجوز للمولى النظر إليها.

نعم ، لو أُريد منه نحو الام والأُخت فحسب ، كان معناه من يحرم نكاحها ، فلا يشمل الأمة لعدم حرمة نكاحها على المولى ، وهذا الاحتمال هو الأظهر ، بقرينة قوله عليه‌السلام بعد ذلك « يلقي على عورتها خرقة » لما قدمناه من عدم اعتبار ذلك في الزوجة ، ومنه يستفاد اختصاص الحكم بالأُم والأُخت وعدم شموله للأمة فقوله عليه‌السلام : « ونحو هذا » إمّا مختص بالأُم والأُخت أو أنّه مجمل.

فالمتحصل : أنّ الحكم بجواز تغسيل المولى أمته مشكل وإن كانت المسألة مورداً للتسالم كما مرّ.

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٥١٦ / أبواب غسل الميِّت ب ٢٠ ح ١.

٣٥٢

وأمّا تغسيل الأمة مولاها ففيه إشكال وإن جوّزه بعضهم بشرط إذن الورثة فالأحوط تركه ، بل الأحوط الترك في تغسيل المولى أمته أيضاً (١).

______________________________________________________

(١) وأمّا المقام الثاني ، في تغسيل الأمة مولاها ، فهي خلاف المسألة السابقة مورد الخلاف وفيها أقوال ثلاثة :

أحدها : الجواز مطلقاً ، ويمكن الاستدلال عليه بالوجهين المتقدمين في المسألة السابقة ، ففيهما ما عرفت من عدم انصراف الأدلّة وعدم شمول الزوجة للأمة فلا نطيل.

ثانيها : التفصيل بين الأمة أُم الولد فيجوز ، وبين غيرها فلا يجوز. ذهب إليه جمع منهم المحقق في المعتبر (١) مستدلاًّ عليه برواية إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن أبيه الباقر عليه‌السلام « إن علي بن الحسين عليه‌السلام أوصى أن تغسّله أُمّ ولد له إذا مات ، فغسلته » (٢). وحيث إنّ الوصية بالأمر غير المشروع غير جائزة ، فمنه يستكشف أن تغسيل أُمّ الولد لمولاها جائز في الشريعة المقدسة.

وقد ناقش فيها صاحب المدارك قدس‌سره بضعف السند (٣).

ويدفعه : أنّ الخدشة فيها مبتنية على مسلكه قدس‌سره من عدم اعتبار غير الصحاح ، وأمّا على ما بنينا عليه من عدم الفرق في الحجية بين الصحاح والموثقات والحسنات فلا شبهة في سندها بوجه ، لأنّ الشيخ يرويها عن محمّد بن أحمد بن يحيى الأشعري وطريقه إليه صحيح في المشيخة (٤) والفهرست (٥) ، وهو يروي عن الحسن ابن موسى الخشاب وهو حسن ، والخشاب يروي عن غياث بن كلوب أو كلتوب.

__________________

(١) المعتبر ١ : ٣٢١ / أحكام الأموات.

(٢) الوسائل ٢ : ٥٣٤ / أبواب غسل الميِّت ب ٢٥ ح ١.

(٣) المدارك ٢ : ٦٣ / تغسيل الميِّت.

(٤) التهذيب ( المشيخة ) ١٠ : ٧١.

(٥) الفهرست : ١٤٤ / ٦٢٢.

٣٥٣

والظاهر أن خدشة صاحب المدارك قدس‌سره إنّما هي من جهته ، لأنّه عامي إلاّ أنّا ذكرنا أن غياث بن كلوب وغيره من غير الاثني عشرية قد وثقهم الشيخ في عدّته (١) وهو كاف في جواز الاعتماد على روايتهم فلا خدش في سندها.

نعم ، ناقش فيها صاحبا الحدائق (٢) والوسائل (٣) قدس‌سرهما بأنّها محمولة على التقيّة ، أو مؤولة بإرادة المعاونة في التغسيل ، لما ورد في غير واحد من الروايات من أنّ المعصوم لا يغسّله إلاّ معصوم مثله (٤).

فوصيّة علي بن الحسين إنّما هي في إعانة أُم ولده في تنظيف بعض المواضع الّتي كان يكره الباقر عليه‌السلام من أن ينظر إليها أو يمسّها.

وهذه المناقشة جيّدة جدّاً وقد تقدّم (٥) في أخبار تغسيل علي فاطمة عليهما‌السلام من أنّها صدّيقة والصدّيق لا يغسله إلاّ صدّيق. ويؤيّد ذلك ما ورد في الفقه الرضوي من قوله : « ويروى أن علي بن الحسين عليه‌السلام لما أن مات ، قال الباقر عليه‌السلام لقد كنت أكره أن أنظر إلى عورتك في حياتك ، فما أنا بالّذي أنظر إليها بعد موتك ، فأدخل يده وغسل جسده ، ثمّ دعا أُم ولد له فأدخلت يدها فغسلت عورته » (٦).

وروايات الفقه الرضوي وإن لم تكن حجّة كما مرّ غير مرّة إلاّ أنّها صالحة للتأييد كما ذكرناه.

فتحصل : أن استثناء تغسيل الأمة مولاها عن إطلاق أدلّة اعتبار المماثلة غير ثابت ، والتفصيل أيضاً لا أساس له.

__________________

(١) العدّة : ٥٦ السطر ١٢.

(٢) الحدائق ٣ : ٣٩٢.

(٣) الوسائل ٢ : ٥٣٥ / أبواب غسل الميِّت ب ٢٥.

(٤) الكافي ١ : ٣٨٤.

(٥) في ص ٣٣٣.

(٦) المستدرك ٢ : ١٨٧ / أبواب غسل الميِّت ب ٢٢ ح ١ ، فقه الرضا : ١٨٨ / ب ٢٥.

٣٥٤

[٨٦٢] مسألة ١ : الخنثى المشكل إذا لم يكن عمرها أزيد من ثلاث سنين‌ فلا إشكال فيها. وإلاّ فان كان لها محرم (*) أو أمة بناءً على جواز تغسيل الأمة مولاها فكذلك (١).

______________________________________________________

فالصحيح هو القول الثالث ، أعني عدم جواز تغسيل الأمة سيِّدها ، وإن كان الحكم في المسألة الأُولى مورد التسالم والاتفاق.

تغسيل الخنثى المشكل‌

(١) إذا كان عمر الخنثى المشكل غير زائد عن ثلاث سنين فلا كلام في جواز تغسيل كل من الرّجال والنِّساء لها ، لما تقدم من أنّ الصبية يجوز للرجل أن يغسلها إذا لم يكن عمرها أزيد من ثلاث سنين. وكذا الصبي يجوز للمرأة أن تغسله إذا لم يتجاوز عمره عن ثلاث سنوات ، فلا تعتبر المماثلة بين الغاسل والميِّت إذا لم يتجاوز عمره عن ثلاث سنين.

وأمّا إذا كان عمر الخنثى زائداً عن الثلاث ، فإن كانت لها أمة فتغسلها أمتها بناءً على أنّ الأمة يجوز لها أن تغسل مولاها. وأمّا إذا لم تكن لها أمة أو كانت ولكن لم نجوّز تغسيلها لمولاها ، فيقع الكلام في أنّ الوظيفة ماذا حينئذ؟

فهل يجوز لكل من الرّجال والنِّساء أن تغسل الخنثى ولا تعتبر المماثلة وقئتذٍ ، أو لا يجب تغسيل الخنثى على المكلّفين ولا بدّ من دفنها من غير غسل؟

قد يقال بجواز تغسيل كل من الرّجال والنِّساء لها ، بدعوى أن أدلّة اعتبار المماثلة منصرفة إلى صورة حرمة نظر الغاسل إلى الميِّت ، ففي موارد جواز النظر إليه لا مقتضي لاشتراط المماثلة بوجه ، وحيث إن كلا من الرّجال والنِّساء يجوز أن ينظر إلى‌

__________________

(*) بناءً على ما تقدم من اعتبار فقد المماثل في جواز تغسيل المحارم لا بدّ من أن يكون المغسل رجلاً وامرأة من محارم الخنثى.

٣٥٥

الخنثى المشكل ، للشك في رجوليتها وأُنوثيتها فأصالة البراءة عن حرمة النظر إليها جارية ، فلا تشملها أدلّة اعتبار المماثلة بين الغاسل والميِّت ، فيجوز لكل من الرّجال والنِّساء تغسيل الخنثى حينئذ.

وفيه : ما قدّمناه من أن اعتبار المماثلة بين الغاسل والميِّت غير مستند إلى حرمة النظر إلى الميِّت وإنّما هو حكم تعبدي ، ومن ثمة اشترطنا في تغسيل المحارم فقد المماثل مع أنّ المحرم يجوز له أن ينظر إلى بدن الميِّت ، كما لا يجوز تغسيل غير المماثل للميت في الظلمة أو مع العمى أو غيرهما ممّا يمنع عن وقوع النظر إلى بدن الميِّت ، فأدلّة اعتبار المماثلة بحالها.

ومعه يقع الكلام في أن وظيفة المسلمين بالنسبة إلى الخنثى المشكل أي شي‌ء؟

ويقع الكلام في ذلك في مقامين : أحدهما في غير المحارم ، وثانيهما في المحارم (١).

أمّا المقام الأوّل : فإن قلنا إن حرمة تغسيل غير المماثل ذاتية فلا محالة يندرج المقام بالإضافة إلى الأجانب في كبرى دوران الأمر بين المحذورين ، وذلك لأن كلا من النِّساء والرّجال يعلم بتوجه تكليف إلزامي إليه ، وهو إمّا وجوب تغسيل الخنثى على تقدير كونها مماثلاً للغاسل واقعاً ، وإمّا حرمة التغسيل على تقدير عدم كونها مماثلاً للغاسل ، ومع دوران الأمر بين المحذورين أي بين الوجوب والتحريم لا مناص من التخيير ، بمعنى أن كلا من النِّساء والرجال له أن يترك تغسيل الميِّت الخنثى رأساً وله أن يغسلها بقصد القربة رجاءً.

نعم ، ليس له أن يغسلها من دون قصد التقرّب ، وذلك لأنّ المقام من الموارد الّتي لا يمكن فيها تحصيل الموافقة القطعية ، ويمكن فيها المخالفة القطعية ، فإنّ التغسيل واجب عبادي يعتبر فيه قصد القربة فيتمكن المكلّف من المخالفة القطعية ، بأن يغسل الخنثى من غير قصد التقرّب ، فإنّه يعلم حينئذ بالمخالفة ، حيث إنّ الخنثى إمّا مماثل معه فقد‌

__________________

(١) لم يتعرّض للمقام الثاني بعنوان مستقل.

٣٥٦

ترك تغسيله الواجب ، وهو التغسيل بقصد القربة ، وإمّا أنّه غير مماثل معه فقد ارتكب الحرام وهو تغسيل غير مماثله ، فليس له التغسيل من دون قصد التقرّب. وحيث أنّ الموافقة القطعية غير ممكنة فيتنزل العقل إلى المرتبة النازلة من الامتثال وهي الامتثال بالموافقة الاحتمالية باختيار ترك التغسيل أو فعله بقصد القربة رجاءً.

والنتيجة : أن كلا من النِّساء والرّجال يجوز أن يغسل الخنثى بقصد القربة كما يجوز أن لا يغسلها ، إلاّ أن الحرمة الذاتية في تغسيل غير المماثل ممّا لا يمكن تتميمه بدليل وذلك لأنّ المستفاد من النهي عن تغسيل غير المماثل وأنّ الرجل لا يغسله إلاّ رجل والمرأة لا يغسلها إلاّ امرأة ، أن تغسيل غير المماثل للميت غير واجب فلا يقع مصداقاً للمأمور به لعدم الأمر به ، لا أنّه محرم ، لأنّه نظير النهي عن الصلاة فيما لا يؤكل لحمه أو إلى غير القبلة أو غير ذلك من النواهي والأوامر الواردة في العبادات ، فإن غاية ما يمكن استفادته منها أنّ الصلاة إلى غير القبلة باطلة وليست مأموراً بها ، لأنّ القبلة شرط في صحّتها. وكذا الصلاة فيما لا يؤكل لحمه ليست مصداقاً للمأمور به ، لأنّه مانع من الصلاة ، لا أنّ الصلاة محرمة حينئذ.

إذن ليس هناك إلاّ تكليف واحد وهو وجوب تغسيل المماثل ، وبما أنّ المماثلة غير محرزة لكل من الرّجال والنِّساء فوجوب التغسيل مشكوك في كل منهما بالشك البدوي ، ومقتضى أصالة البراءة عدمه ، وبهذا يقوى عدم وجوب تغسيل الخنثى لكل من الرجل والمرأة ، فانّ المقام نظير الجنابة المرددة بين شخصين والعلم الإجمالي بتكليف متوجّه إليه أو إلى غيره من المكلّفين ممّا لا أثر له ، هذا.

نعم ، ربّما يقال : إنّ الخطاب بالتغسيل متوجّه إلى عامّة المكلّفين بلا فرق في ذلك بين المماثل وغيره ، فالمماثلة ليست شرطاً في توجّه التكليف والأمر بالتغسيل ، بل كل إنسان مماثل أو غيره مكلّف بالتغسيل ، إمّا بالمباشرة كما في المماثل وإمّا بالتسبيب بالأمر به أو الإخبار والإعلام به كما في غير المماثل ، نعم المماثلة شرط في المأمور به دون الأمر والخطاب. إذن لا بدّ من الاقدام على التغسيل إمّا بالمباشرة أو التسبيب‌

٣٥٧

بمقتضى العلم الإجمالي بلا فرق في ذلك بين الرّجال والنِّساء.

وهذه الدعوى دون إثباتها خرط القتاد ، لأنّ النواهي الواردة عن تغسيل غير المماثل وأنّ الرّجال لا يغسلهم إلاّ الرّجال ، والنِّساء لا يغسلهن إلاّ النِّساء إذا انضمت إلى الأوامر الواردة في التغسيل تفيد التقييد لا محالة ، فيتقيد الأمر بالتغسيل بالمماثل ولا يتوجّه الأمر بالتغسيل إلى غير المماثل بوجه.

نعم ، يجب على غير المماثل عند العلم بالميت إعلام المماثل وأمره بتغسيله من باب الأمر بالمعروف لا من ناحية توجه الأمر بالتغسيل إليه بالتسبيب ، وهذا لا يختص بالمقام بل يجري في جميع الواجبات الشرعية ، لوجوب الأمر بالمعروف وهو ظاهر.

والنتيجة : أنّ الأمر بالتغسيل مباشري ومختص بالمماثل وحسب ، وحيث أنّ المماثلة مشكوكة بالإضافة إلى كل من النِّساء والرّجال فمقتضى أصالة البراءة عدم وجوبه عليهما كما اختاره صاحب الجواهر قدس‌سره (١) هذا.

ما يقتضيه تدقيق النظر

ولكن مقتضى تدقيق النظر وجوب تغسيل الخنثى على كل من النِّساء والرّجال والسرّ في ذلك : أنّ النظر إلى الخنثى المشكل جائز على الرّجال والنِّساء حال الحياة للشك في موضوع حرمة النظر أعني الشك في الرجولية بالإضافة إلى النِّساء والشك في الأُنوثية بالإضافة إلى الرّجال ومع الشك في الموضوع تجري البراءة عن حرمة النظر ، لأنّه شبهة موضوعية تحريمية. وإذا ماتت الخنثى تشكّل لدينا علم إجمالي في حق كل من النِّساء والرّجال ، إمّا بارتفاع حلية النظر وإمّا بوجوب تغسيل الخنثى لأنّ الخنثى إن كانت مماثلة مع الغاسل واقعاً فقد توجّه إليه الأمر بتغسيلها ، وإن كانت غير مماثلة معه فقد ارتفعت عنه حلية النظر الظاهرية وحرم عليه النظر إلى بدنها.

ولا يمكن إجراء البراءة عن حرمة النظر حينئذ ، لابتلائها بالمعارض وهو البراءة‌

__________________

(١) الجواهر ٤ : ٧٩.

٣٥٨

عن وجوب تغسيلها ، فالأصلان يتعارضان ويتساقطان ، ومقتضى العلم الإجمالي لزوم تغسيلها وعدم جواز النظر إليها. وقد ذكرنا في محله ، أنّ المعارضة الموجبة للتساقط لا يفرق فيها بين أن تكون من الابتداء وبين أن تكون بحسب البقاء ، فإنّ البراءة عن حرمة النظر وإن كانت سليمة عن المعارض قبل الممات ، إلاّ أنّها بعد ممات الخنثى معارضة بأصالة البراءة عن وجوب تغسيلها.

إذن يجب على كل من الرّجال والنِّساء أن يغسل الخنثى ولا ينظر إلى بدنها ، هذا.

وقد ذهب الشيخ قدس‌سره إلى القرعة في المقام (١) ليظهر أنّ الخنثى رجل حتّى يغسله الرّجال ، أو أنّه امرأة فتغسلها النِّساء ، ولم يستبعده الماتن قدس‌سره واستدلّ عليه بالإجماع والأخبار.

والظاهر أن مراده بالأخبار هو الأخبار الواردة في أنّ القرعة لكل أمر مشكل أو مشتبه أو مجهول على اختلاف الروايات (٢). وكذا مراده بالإجماع هو الإجماع على أنّ القرعة للأمر المشتبه ، وإنّما الشيخ قدس‌سره طبّق معقد الإجماع ومورد الأخبار على المقام أعني الخنثى إذا ماتت. فلا يرد عليه أنّه لا أخبار ولا إجماع في المسألة إذ أن مقصوده الأخبار والإجماع في كبرى الأمر المشتبه ، وإنّما يدعي تطبيقها على المقام.

نعم ، لا يمكن المساعدة على دعوى التطبيق بوجه ، وذلك لأنّ القرعة إنّما هي للأُمور الّتي لم يعلم حكمها بحسب الواقع أو الظاهر ، فلا يتأتى في قبال العلم الإجمالي بحرمة النظر أو وجوب التغسيل في المقام ، لأنّه من العلم الإجمالي المتعلق

بحكم إلزامي مردّد بين التعلّق بالنظر أو التغسيل ، وهو يقتضي الاحتياط في الطرفين ويوجب التغسيل على كل من الرّجال والنِّساء ، فكيف يكون المقام من الأمر المشتبه. فان حال المقام حال بقية موارد العلم الإجمالي كالعلم بوجوب القصر أو التمام أو بوجوب الظهر أو‌

__________________

(١) الخلاف ٤ : ١٠٦ / كتاب الفرائض. ولم نجد له كلاماً في المقام.

(٢) الوسائل ٢٧ : ٢٥٧ / أبواب كيفيّة الحكم ب ١٣ ، المستدرك ١٧ : ٣٧٣ / أبواب كيفيّة الحكم ب ١١.

٣٥٩

وإلاّ فالأحوط تغسيل كل من الرجل والمرأة إيّاها من وراء الثِّياب وإن كان لا يبعد الرجوع إلى القرعة (*) (١).

______________________________________________________

الجمعة أو غيرهما ، فهل تحتمل القرعة في تلك الموارد حتّى يحتمل في المقام.

نعم ، وردت القرعة في بعض موارد العلم الإجمالي مثل الشاة الموطوءة الّتي وطئها راعيها فأرسلها في الشياه ، إلاّ أن ذلك للنص الخاص (٢) لا أن موارد العلم الإجمالي موارد للقرعة.

هل يشترط أن يكون تغسيل الخنثى من وراء الثِّياب‌

(١) بعد البناء على وجوب تغسيل الخنثى على كل من النِّساء والرّجال يقع الكلام في أنّ التغسيل يجب أن يكون من وراء الثِّياب أو لا يشترط ذلك في تغسيلها؟

اعتبار كون التغسيل في الخنثى المشكل من وراء الثِّياب لم ينص عليه في الأخبار بخصوصه ، والّذي يمكن الاستدلال به عليه أمران :

أحدهما : أن تغسيل المحارم يعتبر فيه أن يكون من وراء الثِّياب ، فكأنّ الشارع لم يرض بالتغسيل عارياً في غير الزوج والزوجة ، فإذا اعتبر ذلك في المحارم فيثبت اعتباره في حق غير المحارم بالأولوية القطعية.

وهذه الأولوية وإن اعتمد عليها جمع من الأصحاب إلاّ أنّها واضحة الدفع والفساد وذلك لأمرين :

الأوّل : أنّا لم نسلّم شرطية كون التغسيل من وراء الثِّياب في المحارم ، وإنّما بنينا على استحبابه من باب احترام الميِّت.

__________________

(*) بل هو بعيد ولا بدّ من الاحتياط بالجمع.

(١) الوسائل ٢٤ : ١٦٩ / أبواب الأطعمة المحرّمة ، ب ٣٠ ح ١ ، ٤.

٣٦٠