موسوعة الإمام الخوئي

الشيخ علي الغروي

واحد من أجزائه إلاّ أن موضوع الحكم في المقام إنّما هو مسّ الميِّت كما تقدّم ، ولا يصدق ذلك بمس جزء من أجزاء الميِّت ، لأنّه ليس مسّاً للميت وإنّما هو مسّ جزء منه.

ولا يقاس المقام بمثل ما دلّ على نجاسة الكلب الّذي قلنا إنّه ينحل إلى نجاسة كل جزء من أجزائه ، لأن مقتضى الارتكاز والفهم العرفي في مثله أنّ الكلب أُخذ عنواناً مشيراً إلى حقيقته ، وهي ليست إلاّ شعره ورجله ويده ولو منفصلة ، لعدم اعتبار الهيئة الاتصالية في الحكم بالنجاسة بالارتكاز.

وبعبارة اخرى : الحكم رتب على الكلب لا بما إنّه كلب ليقال إنّه غير صادق على يده أو رجله مثلاً ، والسر في ذلك واضح ، للقطع بأن تقطيع الكلب ليس مطهراً له بدعوى أن يده ليست بكلب فطاهرة وهكذا شعره ورجله ، فالهيئة الاتصالية غير دخيلة في الحكم بنجاسته.

إذن فالحكم ينحل إلى أجزاء الكلب متصلة كانت أم منفصلة ، فإذا قيل الكلب نجس فيفهم منه أن شعره وبقية أعضائه نجسة ولو كانت منفصلة ، لأنّه ليس إلاّ هي.

وهذا بخلاف المقام ، لأنّ الموضوع فيه بحسب النص هو مسّ الميِّت ، وهو لا يصدق بمس جزء من أجزائه.

وأمّا الثاني فلأنه من الاستصحابات التعليقية ، لتوقف الحكم بوجوب الغسل حال كون الجزء متصلاً على مسّه وأنّه لو مسّها وجب الغسل ، وهو حكم تعليقي ، فلا حكم فعلي في البين ، وقد بنينا في محلِّه على عدم جريان الاستصحاب في التعليقيات (١).

على أنّا لو قلنا بجريانها فالموضوع غير باق ، لأنّه كما عرفت عبارة عن مسّ الميِّت ، وقد كان مسّ القطعة حال اتصالها من مسّ الميِّت بلا كلام ، وهذا بخلاف ما إذا كانت منفصلة ، إذ لا يصدق مسّ الميِّت على مسّها ، واتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة فيها ممّا لا بدّ منه في جريان الاستصحاب كما هو ظاهر.

وأمّا الوجه الثالث فلأنه لو لم يصدق على مسّ تمام القطعات من الميِّت المتقطع‌

__________________

(١) راجع مصباح الأُصول ٣ : ١٣٤ التنبيه السّادس.

٢٢١

أجزاؤه مسّ الميِّت ، التزمنا بعدم وجوب الغسل بمسّها أيضاً ، إلاّ أنّه يصدق مسّ الميِّت عرفاً بمس تمام القطعات ، ومعه لا مناص من الالتزام بوجوب الاغتسال حينئذ ، وأين هذا من مسّ قطعة مبانة من الميِّت ، فإنّه لا يصدق عليه مسّ الميِّت كما مرّ ، فهذه الوجوه ساقطة.

وأمّا مسّ العظم المجرد المنفصل عن الميِّت فالمعروف وجوب الغسل بمسّه ، وقد استدلّوا على وجوب الغسل به بما تقدم في العظم المنفصل عن الحي من أنّه المناط في الحكم بوجوب الغسل في مسّ القطعة المبانة ، وغيره من الوجوه الثلاثة الأخيرة في مسّ القطعة المبانة من الميِّت.

وقد عرفت المناقشة فيها ولا نعيد.

ونزيدها في المقام أن مسّ العظم المجرّد المنفصل عن الميِّت لو كان موجباً للاغتسال لتلك الوجوه المتقدمة لم يكن مناص من الالتزام بوجوبه في مسّ اللّحم المجرّد منه أيضاً ، لجريان الوجوه الثلاثة فيه ، إذ لا فرق فيها بين كون الجزء عظماً أو لحماً ، فإنّ الاستصحاب أو دلالة الأدلّة على انحلال الحكم على كل واحد من أجزاء الميِّت لا يختصّان بالعظم ، وكذلك الوجه الثالث.

اللهمّ إلاّ أن يقال إن مقتضى الوجوه المذكورة وإن كان وجوب الغسل بمس اللّحم أيضاً إلاّ أنّ الإجماع التعبّدي قائم على عدم وجوبه بمسّ اللحم المجرد.

ولكن دعوى الإجماع التعبّدي بعيدة غايته.

وقد يستدل برواية إسماعيل الجعفي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « سألته عن مسّ عظم الميِّت ، قال : إذا جاز سنة فليس به بأس » (١) إلاّ أنّها ضعيفة السند بعبد الوهاب ومحمّد بن أبي حمزة (٢) ، فلا يمكن الاعتماد عليها بوجه.

ودعوى انجبار ضعفها بعمل الأصحاب ، مندفع بأنّ الرواية غير معمول بها‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٢٩٤ / أبواب غسل المسّ ب ٢ ح ٢.

(٢) محمّد بن أبي حمزة وقع في أسانيد كامل الزيارات وقد حكي وثاقته عن حمدويه أيضاً. فليلاحظ.

٢٢٢

عندهم ، لاشتمالها على التفصيل بين تجاوز السنة على العظم فلا يجب ، وبين عدم تجاوزها فيجب الغسل بمسّه ، وهو ممّا لا يقول به أحد من أصحابنا.

نعم ، ذهب أبو علي إلى التفصيل بين تجاوز السنة وعدمه (١) ، إلاّ أنّه في القطعة المُبانة دون العظم المجرّد ، وإن كان ما فعله غير ظاهر الدليل أيضاً ، اللهمّ إلاّ أن نتأول في الرواية بما ذكره صاحب الوسائل (٢) قدس‌سره من أنّ العظم قبل السنة لا يخلو عن اللّحم ، وأمّا بعد تجاوز السنة عليه فيتناثر لحمه ويبقى مجرّداً ، ومن هنا لم يجب الغسل بمسّه بعد تجاوزها.

وفيه أوّلاً : أنّه لا ملازمة بين تجاوز السنة وتناثر اللحم أو قبل تجاوزها وعدم تناثره ، لأنّ العظم قد يذهب لحمه بعد يومين أو شهر ، لأكل السبع أو رطوبة المكان والعظم ، وقد يبقى بعد السنة أيضاً.

وثانياً : أنّ الرواية على هذا التقدير من أدلّة وجوب الغسل بمس القطعة المبانة من الحي ، ولا تدل على وجوب الغسل بمسّ العظم المجرد.

وعلى الجملة : الرواية ضعيفة وغير قابلة للاستدلال بها في المقام ولا في مسّ القطعة المبانة.

فقد تلخّص أنّ القطعة المبانة من الميِّت كالمبانة من الحي في عدم وجوب الغسل بمسّها ، بل المبانة من الميِّت أسوأ حالاً من المبانة من الحي ، لأنّ الغسل بمس المبانة من الحي قد نص عليه في بعض الروايات ، بخلاف القطعة المبانة من الميِّت.

اللهمّ إلاّ أن يتشبّث بالأولوية في المبانة من الميِّت ، أو يقال باستفادة حكم المبانة من الميِّت من نفس النص الوارد في الحي ، وذلك للتعليل الوارد في المرسلة « إذا قطع من الرجل قطعة فهي ميتة » (٣) ، لأنّها ظاهرة في أنّ الحكم المذكور بعده مترتب على كونها ميتة ، وهذا متحقق في المبان من الميِّت أيضاً ، ولكن ضعف الرواية مانع عن‌

__________________

(١) نقله عنه في الجواهر ٥ : ٣٤٠ / في غسل المسّ.

(٢) الوسائل ٣ : ٢٩٥ / أبواب غسل المسّ ب ٢.

(٣) الوسائل ٣ : ٢٩٤ / أبواب غسل المسّ ب ٢ ح ١.

٢٢٣

[٨٢٣] مسألة ٣ : إذا شكّ في تحقق المسّ وعدمه (١) أو شكّ في أنّ الممسوس كان إنساناً أو غيره (٢)

______________________________________________________

الاستدلال بها في كل من الحي والميِّت.

وقد ظهر ممّا ذكرناه في المقام أن ما ذكره الماتن قدس‌سره من أنّ الأحوط في السن المنفصل من الميِّت أيضاً الغسل بمسّه ممّا لا وجه له ، لعدم ثبوت الغسل بمسّ العظم المنفصل عن الميِّت.

وأمّا اللّحم المجرّد المبان عن الميِّت فالظاهر أنّه لا قائل بوجوب الغسل بمسّه وإن كان مقتضى الوجوه الثلاثة المستدل بها على وجوب الغسل بمسّ العظم وجوبه بمسّ اللّحم المجرّد أيضاً ، إلاّ أنّها لما كانت ضعيفة لم نلتزم بها هناك فضلاً عن المقام.

حكم الشك في تحقق المسّ‌

(١) الوجه في عدم وجوب الغسل حينئذ استصحاب عدم تحقق المسّ الّذي هو الموضوع للحكم بوجوب الغسل ، وهذا ظاهر.

(٢) بأن علم بمسّه وشكّ في أنّ الممسوس حيوان أو جماد ، أو علم بأنّه حيوان وشكّ في أنّه إنسان أو غيره.

والوجه في عدم وجوب الغسل حينئذ أصالة عدم كون الممسوس إنساناً ، لما قدمناه في محلِّه (١) من جريان الأصل في الأعدام الأزلية من غير فرق في ذلك بين الأوصاف الذاتية والعرضية.

وتقريبه في المقام أن ذات الممسوس وإن كانت معلومة الحدوث والتحقق إلاّ أنّا نشك في إضافته إلى الإنسان وغيره ، وحدوث الإضافة مشكوك ، وهي أمر حادث مسبوق بالعدم ، فالأصل عدم تحقق حدوث الإضافة إلى الإنسان ، أو يستصحب عدم وقوع المسّ على الإنسان ، وبه يرتفع وجوب الغسل لا محالة.

__________________

(١) في محاضرات في أُصول الفقه ٥ : ٢٠٧ وما بعدها.

٢٢٤

ثمّ لو منعنا جريان الاستصحاب في المقام فلا بدّ من الرجوع إلى استصحاب الحالة السابقة في المكلّف ، فإذا كان متطهراً قبل مسّه ثمّ مسّ شيئاً وشكّ في أنّه إنسان أو غيره فيشك في انتقاض طهارته بطروء الحدث بالمس وعدمه ، والأصل بقاؤه على طهارته وعدم طروء الحدث في حقّه ، وذلك لقوله عليه‌السلام « لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً » (١).

وأمّا إذا كان محدثاً بالأصغر كما إذا كان نائماً ثمّ مسّ ما يشك في كونه ميتاً إنسانياً فإن كان إنساناً فقد تبدّل حدثه الأصغر بالأكبر ، وإن كان غيره فحدثه الأصغر باقٍ بحاله ، فيستصحب بقاء حدثه الأصغر بحده وعدم تبدّله بالحدث الأكبر ، ومقتضى استصحاب بقاء حدثه الأصغر بحاله وعدم طروء الحدث الأكبر أنّه لا يجب عليه سوى الوضوء.

ومع هذا لا مجال لاستصحاب بقاء الحدث الكلي بعد الوضوء ، لأنّه نظير ما قدّمناه في مَن كان محدثاً بالأصغر ثمّ خرجت منه رطوبة مردّدة بين البول والمني بعد الاستبراء ، حيث قلنا إنّه يستصحب بقاء حدثه الأصغر بحاله وعدم تبدله بالحدث الأكبر ، فلا يجب في حقّه إلاّ الوضوء.

لأنّ الرطوبة إذا كانت بولاً فلا أثر لها ، لأنّ الحدث الأصغر بعد الأصغر لا أثر له وإذا كانت هي المني فأثرها وجوب الاغتسال ، إلاّ أن استصحاب بقاء حدثه الأصغر بحاله ينفي وجوب الغسل في حقّه ، ولا يجري معه استصحاب الكلي ، أعني استصحاب كلي الحدث بعد الوضوء.

ثمّ لو منعنا عن جريان الاستصحاب في محل الكلام فبناءً على غير ما هو التحقيق عندنا من إغناء كل غسل من الوضوء يكون أمر المكلّف في المقام دائراً بين الأقل والأكثر ، لأنّه بعد المسّ عالم بوجوب الوضوء عليه على كل حال فيما إذا كان محدثاً ويشك في توجه التكليف بالغسل عليه زائداً عليه ، فمقتضى البراءة عدم وجوب الأكثر في حقّه.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٦٦ / أبواب النجاسات ب ٣٧ ح ١.

٢٢٥

أو كان ميتاً أو حياً (١) أو كان قبل برده أو بعده‌

______________________________________________________

(١) هذا الشك لا أثر له ، لأنّ المسّ بعد الموت غير موجب للغسل ما دام بحرارته ، فلا مناص من أن يكون أحد طرفي الشك بعد البرودة كما في المثال الّذي بعده ، بأن علم أنّه مسّ ميتاً إنسانياً يقيناً إلاّ أنّه يشك في أنّه بعد برودته ليجب عليه الغسل أو قبله فلا يجب عليه الغسل ، أو يشك في أنّه مسّه بعد برودته أو قبل أن يموت.

وهذا الشك له صور ، لأنّ هناك حادثين : أحدهما المسّ والآخر البرودة أو الموت فقد يكون تاريخ المسّ معلوماً وتاريخهما مجهولاً ، وقد يكون تاريخهما معلوماً وتاريخ المسّ مجهولاً ، وثالثة يكون كلا التاريخين مجهولاً.

صور الشك في المسّ بعد البرد أو قبل الموت

الصورة الأُولى : ما إذا كان تاريخ المسّ معلوماً دون تاريخ البرودة والموت ، فمقتضى استصحاب عدم البرودة أي الحرارة ، أو استصحاب الحياة وعدم الموت إلى حين المسّ وفي زمانه هو عدم وجوب الغسل في حقّه ، لعدم تحقق البرودة أو الموت في زمان المسّ ، مع أنّ الموضوع هو كونهما في زمانه أعني المسّ بالبرودة أو مع الموت.

الصورة الثانية : ما إذا كان تاريخ البرودة والموت معلوماً وتاريخ المسّ مجهولاً فالصحيح عدم وجوب الغسل في حقّه ، وذلك لاستصحاب عدم تحقق المسّ بعد البرودة أو الموت الّذي هو الموضوع المرتب عليه وجوب الغسل ، للصحيحة المتقدمة الدالّة على وجوب الغسل بالمس بعد ما برد (١).

والسر في جريانه أن وقوع المسّ قبل البرودة أو الموت أو عدم وقوعه ممّا لا أثر له شرعاً ، لأنّ الأثر إنّما هو للمس الواقع بعد الحياة أو الحرارة. إذن فاستصحاب عدم المسّ إلى حين البرودة أو الموت غير جارٍ ، لأنّه لا أثر له إلاّ بلحاظ لازمه العقلي وهو وقوعه بعد البرودة أو الموت ، إلاّ أنّه من الأصل المثبت ولا نقول به ، ومع عدم جريانه نشك في تحقق الموضوع لوجوب الاغتسال ، والأصل عدمه ، وهو غير‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٢٩٠ / أبواب غسل المسّ ب ١ ح ٢.

٢٢٦

أو في أنّه كان شهيداً أم غيره (*) (١) ،

______________________________________________________

معارض بشي‌ء.

الصورة الثالثة : ما إذا كان التاريخان مجهولين معاً ، ولا بدّ حينئذ من الحكم بعدم وجوب الغسل لاستصحاب عدم تحقق المسّ بعد البرودة أو الموت ، وذلك لعدم كونه معارضاً باستصحاب عدم تحققه قبلهما ، لأنّه لا أثر له كما عرفت.

إذا شكّ في أنّ الممسوس شهيد أو غيره‌

(١) يقع الكلام في ذلك في مقامين :

أحدهما : في الحكم الواقعي وأن مسّ الشهيد كمس غيره موجب للغسل أو لا يترتب على مسّه وجوب الغسل ، وهذا لم يتعرّض له المصنف قدس‌سره وكأنّه مفروغ عنه وأمر مسلّم عنده.

وثانيهما : فيما إذا شكّ في أنّ الميِّت شهيد أو غير شهيد فهل يجب غسل المسّ أو لا يجب؟

أمّا المقام الأوّل : فقد استدلّ على عدم وجوب الغسل بمسّ الشهيد بأمرين :

أحدهما : أن وجوب الغسل يختص بما إذا كان الميِّت ممّن يجب تغسيله ، لقوله عليه‌السلام « من غسّل ميتاً فعليه الغسل » (٢) وأمّا الميِّت الّذي لا يجب تغسيله فلا دليل على وجوب الغسل بمسّه ، ومن الظاهر أنّ الشهيد لا يغسل ولا يكفن كما يأتي إن شاء الله.

ويدفعه : أن غاية ما تدل عليه تلك الروايات وجوب الغسل بمسّ الميِّت الّذي يجب تغسيله ، أمّا أنّ الميِّت الّذي لا يجب تغسيله فلا يجب الغسل بمسّه فلا دلالة لها عليه بوجه.

__________________

(*) الظاهر أنّه لا فرق في وجوب الغسل بين كون الممسوس شهيداً وعدمه ، وعلى تقدير عدم الوجوب بمسّ الشهيد فالظاهر وجوبه عند عدم إحراز كون الممسوس شهيداً.

(١) الوسائل ٣ : ٢٨٩ / أبواب غسل المسّ ب ١.

٢٢٧

كما أشرنا إلى ذلك (١) في وجوب الغسل بمسّ الميِّت الكافر وقلنا إنّه وإن لم يجب تغسيله إلاّ أن ما دلّ على أن من غسّل ميتاً فعليه الغسل لا يدل على الملازمة بين الأمرين وعدم وجوبه فيما إذا لم يجب تغسيل الميِّت ، ومع عدم الدلالة على النفي والتقييد تبقى المطلقات الدالّة على وجوب الغسل بمسّ الميِّت بعد البرودة أو بعد ما برد بحالها وهي تقتضي الوجوب.

فعلى ذلك لا فرق بين الكافر والشهيد من هذه الجهة أي من جهة عدم وجوب التغسيل وإن كان عدم وجوب التغسيل في الشهيد لعلو شأنه وتجليله حتّى يلقى الله على تلك الحالة الّتي استشهد عليها ومتلطخاً بدمه ، وفي الكافر مستنداً إلى فسقه وعدم قبوله الطهارة بالغسل ، فكما أن مقتضى المطلقات في الكافر وجوب الغسل بمسّه كذلك الحال في الشهيد.

وثانيهما : أنّ الشهيد طاهر من الحدث والخبث ، ولذا لا يجب تغسيله ولا إزالة دمائه بل يدفن متلطخاً بدمه ، والأخبار الواردة في وجوب الغسل بالمس ظاهرة في استناده إلى وجود أثر في الممسوس من الحدث والخبث ، كما يشير إليه ما رواه الصدوق عن الفضل بن شاذان وعن محمّد بن سنان عن الرضا عليه‌السلام « إنّما أُمر من يغسّل الميِّت بالغسل لعلّة الطهارة ممّا أصابه من نضح الميِّت ، لأنّ الميِّت إذا خرج منه الروح بقي منه أكثر آفته » (٢) وحيث إنّ الموت لا يؤثر في الشهيد بالحدث أو الخبث فلذا لا يغسل ، فلا يدخل تحت تلك النصوص.

ويرد على ذلك أوّلاً : أنّه لم يقم دليل على أنّ الشهيد طاهر من الخبث والحدث بل يمكن أن يكون محدثاً وذا خبث ، إذ لا يمكن الحكم بأن من أصابت يده بدن الشهيد المتلطخ بالدم لا يجب عليه تطهير يده إذ لا خبث في الشهيد ، كما أن مقتضى ما ورد من أنّ الميِّت تخرج منه النطفة حال موته (٣) أنّ الشهيد أيضاً محدث ، إذ لا فرق فيه بين الشهيد وغيره.

__________________

(١) في ص ٢١٢.

(٢) الوسائل ٣ : ٢٩٢ / أبواب غسل المسّ ب ١ ح ١١ ، ١٢. علل الشرائع : ٢٦٨ / ٩ ، وص ٣٠٠ / ٣.

(٣) الوسائل ٢ : ٤٨٦ / أبواب غسل الميِّت ب ٣.

٢٢٨

وثانياً : لو سلمنا طهارة الشهيد من الحدث والخبث لا دليل على أن من كان كذلك لا يجب الغسل بمسّه.

وما ورد في الروايتين المتقدمتين من أن وجوب الغسل والتغسيل من جهة حدث الميِّت أو خبثه إنّما هو من قبيل الحكمة وليس علّة له ، كيف والأئمة المعصومون عليهم‌السلام طاهرون مطهرون ، ومع ذلك يجب تغسيلهم ويغسل بمسّهم ، وكذلك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما ورد في رواية الصفار (١) على ما قدّمناه ، حيث ورد أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان طاهراً مطهراً ، ولكن فعل أمير المؤمنين عليه‌السلام وجرت به السنة ، إذن فمقتضى العمومات وجوب الغسل بمسّ الشهيد وإن لم يجب تغسيل الشهيد تجليلاً لمقامه.

وقد يستدل على عدم وجوب الغسل بمسّ الشهيد : بأنّ الشهيد ومسّه كان مورداً للابتلاء به في تلك الأزمنة ، لكثرة الحروب في عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنين عليه‌السلام ، ومعه لم ينقل لنا وجوب الغسل بمسّه ، وهذا يكشف عن عدم وجوب الغسل بمسّ الشهيد ، وإلاّ لنقل إلينا لا محالة.

وهذا لا يمكن المساعدة عليه أيضاً ، لأنّه بعد ورود حكم مسّ الشهيد في المطلقات الدالّة على أن مسّ الميِّت موجب للغسل لا يلزم بيان حكم مسّ الشهيد بخصوصه.

والّذي يدلّنا على ذلك أنّا لو قلنا بذلك فهو مختص بالشهيد الّذي لا يغسل ، وهو الشهيد الّذي لم يدركه المسلمون حياً ، وأمّا الّذي به رمق وأدركه المسلمون حياً لو حملوه على رحله فمات هناك ، فهذا واجب التغسيل كما يأتي إن شاء الله تعالى ، فمسّه موجب للغسل. وهذا أيضاً كان كثير الابتلاء به ، إذ لم يكن كل من سقط في المعركة شهيداً كذلك ، أي من غير أن يدركه المسلمون حيّاً ، بل كان بعضهم ممّن يدركه المسلمون كذلك قطعاً ، ومع هذا لم يرد في وجوب الغسل بمسّه رواية ولم ينقل وجوبه إلينا ، مع أنّه واجب ولا وجه له إلاّ كفاية المطلقات الواردة الدالّة على وجوب الغسل‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٢٩١ / أبواب غسل المسّ ب ١ ح ٧.

٢٢٩

بالمس في ذلك من غير حاجة إلى نقل وجوبه في الشهيد بخصوصه. هذا كلّه في المقام الأوّل.

وأمّا المقام الثاني : فعلى ما قدّمناه لا أثر للشك في أنّ الميِّت الممسوس شهيد أو غيره ، لوجوب الغسل بالمس في مطلق الميِّت.

وأمّا بناءً على عدم وجوب الغسل بمسّ الشهيد فلو شكّ في أنّ الممسوس شهيد أو غيره فمقتضى الأصل وجوب الغسل بمسّه ، لأنّ الشهادة واستناد الموت إليها أمر حادث مسبوق بالعدم ، فهو ميت بالوجدان وليس بشهيد بالاستصحاب ، فلا بدّ من الغسل بمسّه وإن لم يثبت هذا الاستصحاب أن موته مستند إلى شي‌ء آخر ، إلاّ أنّه غير لازم في الحكم بوجوب الغسل بالمس للإطلاقات ، حيث لم يخرج عنها إلاّ الشهيد فإذا أثبتنا عدم كونه شهيداً بالاستصحاب وأحرزنا مسّه بالوجدان شملته العمومات والإطلاقات ، ومعه لا وجه لما أفاده الماتن قدس‌سره من عدم وجوب الغسل فيما إذا شكّ في أنّ الميِّت شهيد أو ليس بشهيد.

قتيل المعركة

نعم ، في صورة واحدة وفي مورد من موارد الشك في الشهادة نلتزم بعدم وجوب الغسل بالمس ، وهو القتيل في المعركة كما يأتي في كلام الماتن قدس‌سره عند الكلام على وجوب تغسيل الميِّت ، فإنّه إذا رأينا أحداً في المعركة وهو قتيل ولم ندر أن موته مستند إلى الشهادة أو إلى غيرها ، كما إذا كان في المعركة وأصابه سهم فمات من غير أن يكون من المتحاربين ، ذكروا أنّه ملحق بالشهيد ولا يجب تغسيله ولا يجب الغسل بمسّه ، وهذا لأمرين :

أحدهما : ظهور الحال ، لأن من كان في المعركة وفيه آثار الحرب ظاهره أنّه مات بالشهادة والمحاربة ، واحتمال أنّه مات لخوفه أو لمرضه ممّا لا يعتنى به ، فظاهر الحال يشهد بشهادته.

ويمكن المناقشة في ذلك بأنّ الظهور لم يقم دليل على حجيته في غير باب الألفاظ لأنّه لا يفيد سوى الظن ، والظن لا اعتبار به شرعاً.

٢٣٠

أو كان الممسوس بدنه أو لباسه أو كان شعره (١) أو بدنه ، لا يجب الغسل في شي‌ء من هذه الصور.

______________________________________________________

وثانيهما : الأخبار الواردة في أنّ القتيل بين الصفوف لا يغسل ولا يجب الغسل بمسّه (١) فنلتزم بعدم وجوب الغسل بمسّه وإن كان مشكوك الشهادة واقعاً.

وأمّا في مطلق المشكوك في شهادته ، كما إذا رأينا قتيلاً في غير المعركة واحتملنا أنّه شهيد أصابه الجرح في المعركة فهرب وسقط في هذا المكان أو أنّه قتله لص أو عدوّ ، لم يمكننا الحكم بعدم وجوب الغسل بمسّه ، لما عرفته من استصحاب عدم استناد موته إلى الشهادة ، كما لا يمكن الحكم بعدم وجوب تغسيله.

ويحتمل أن يكون مراد الماتن قدس‌سره من الحكم بعدم وجوب الغسل بمسّ الميِّت المردّد بين الشهيد وغيره خصوص القتيل في المعركة المشكوك كونه شهيداً أو غير شهيد ، هذا.

ولكن الصحيح أنّ القتيل في المعركة كغيره ممّن يشك في شهادته وعدمها ، وذلك لأن ما دلّ على أنّه بحكم الشهيد ولا يغسل ولا يكفن ويترتب عليه بقيّة آثار الشهيد رواية ضعيفة بغير واحد ممّن وقع في سندها كما لعله يأتي عليه الكلام ، فما أفاده قدس‌سره في هذه الصورة ممّا لا أساس له بوجه.

(١) فيما إذا كان شعره طويلاً لا يصدق مسّ الميِّت بمسّه ، والوجه في عدم وجوب الغسل حينئذ هو الشك في تحقق الموضوع للحكم بوجوب الغسل ، أعني مسّ بدن الإنسان ، والأصل أنّ الممسوس غير مضاف إلى بدن الإنسان. أو نرجع إلى استصحاب عدم وقوع المسّ على بدن الإنسان ، أو إلى استصحاب الحالة السابقة في المكلّف من الحدث وأنّه لم يتبدل إلى الحدث الأكبر أو الطهارة وأنّها لم تنتقض بالحدث الأكبر ولم ترتفع ، أو إلى البراءة عن وجوب الأكثر كما مرّ تقريبه.

__________________

(١) الوسائل ٢ : ٥٠٦ / أبواب غسل الميِّت ب ١٤ ح ٣ ، لكن ليس فيه حكم المسّ.

٢٣١

نعم ، إذا علم بالمس وشكّ في أنّه كان بعد الغسل أو قبله وجب الغسل (١) ،

______________________________________________________

إذا شكّ في أنّ المسّ وقع قبل الغسل أو بعده‌

(١) هذه المسألة لها صور :

الاولى : أن يشك في أصل الغسل وعدمه ، ولا إشكال في هذه الصورة في أن مقتضى الأصل عدم تحقق الغسل في الممسوس ، ومعه يجب الغسل على الماس ، لأنّ المسّ وجداني وعدم كونه مغسلاً محرز بالاستصحاب.

الثانية : أن يعلم بحدوث كل من الغسل والمسّ ويشك في المتقدم والمتأخر منهما وهذا أيضاً له صور :

الاولى : ما إذا علم تاريخ المسّ كأوّل الصبح أو يوم السبت ويشك في أنّ التغسيل وقع يوم الجمعة أو يوم الأحد ، وهذه الصورة لا إشكال فيها في وجوب الغسل ، لأصالة عدم تحقق التغسيل قبل المسّ ، فالمس وجداني وعدم كون الممسوس مغسلاً محرز بالاستصحاب ، فيحكم عليه بوجوب غسل المسّ.

الثانية : عكس الاولى وهي ما إذا علم تاريخ التغسيل كيوم السبت وجهل تاريخ المسّ ، فقد يقال في هذه الصورة إن أصالة عدم تحقق المسّ قبل التغسيل يقتضي انتفاء موضوع الوجوب وهو المسّ قبل الغسل ، وبه يحكم بعدم وجوب الغسل على الماس.

وكذا في الصورة الثالثة ، وهي ما إذا جهل تاريخهما ، وذلك لتعارض أصالة عدم تحقق المسّ قبل الغسل بأصالة عدم الغسل قبل المسّ وتساقطهما ، فيرجع إلى استصحاب طهارة الماس أو استصحاب عدم مسّ الميِّت الّذي لم يغسل.

ولأجل هذا يحمل كلام الماتن قدس‌سره على الصورة الاولى أعني ما إذا شكّ في أصل التغسيل ، كما يؤيّده ما فرعه عليه من الإشكال في مسّ العظام المجردة المعلوم كونها من الإنسان ، للشك في وقوع الغسل عليها إلاّ أن يكون أمارة عليه ككونها في مقابر المسلمين ، هذا.

٢٣٢

والصحيح وجوب الغسل في جميع تلك الصور.

إمّا الأُوليان فواضحتان.

وأمّا الثالثة والرابعة فللأخبار الواردة في المقام الّتي دلّت على وجوب الغسل بمسّ الميِّت مطلقاً ، بل في بعضها لفظة « كل » وأن كل من مسّ ميتاً فعليه الغسل (١) ، ومقتضى تلك الأخبار عدم الفرق في وجوب الغسل بين مسّه قبل التغسيل وعدمه.

وقد خرجنا عن عمومها أو إطلاقها بصحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام « مسّ الميِّت عند موته وبعد غسله والقُبلة ليس بها بأس » (٢) وغيرها من الأخبار ، فالخارج عن العموم أو الإطلاق عنوان وجودي وهو المسّ الّذي يكون بعد الغسل ، والموضوع لوجوب غسل المسّ المسّ الّذي لا يكون بعد الغسل ، ومن الظاهر أن أصالة عدم المسّ قبل التغسيل لا أثر لها حينئذ ، لأنّ الأثر مترتب على المسّ بعد الغسل أو المسّ المتّصف بالوصف العدمي وهو ما لا يكون بعد الغسل ، ففي الأوّل لا يجب الغسل ويجب في الثاني. وأصالة عدم المسّ قبل التغسيل ليس لها أثر بنفسها إلاّ بلحاظ إثبات أنّ المسّ بعد التغسيل إلاّ أنّه من الأُصول المثبتة ، لأن نفي أحد الضدّين لا يثبت الآخر ، فأصالة عدم المسّ قبل الغسل غير جارية في نفسها.

وحيث إنّا علمنا بالمس خارجاً ولم نحرز تحقق العنوان المستثنى عن العموم أو الإطلاق فلا مناص من الحكم بوجوب الاغتسال ، للشك في تحقق المسّ بعد الغسل والأصل عدمه.

ومجمل الكلام في المقام أنّه ورد في صحيحة الصفار « إذا أصاب يدك جسد الميِّت قبل أن يغسل فقد يجب عليك الغسل » (٣) وظاهرها أنّ الموضوع لوجوب الغسل هو المسّ الّذي قبل التغسيل ، أي المقيد بالعنوان الوجودي لا العدمي كما ذكرناه.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٢٩٥ / أبواب غسل المسّ ب ٣ ح ٣.

(٢) الوسائل ٣ : ٢٩٥ / أبواب غسل المسّ ب ٣ ح ١.

(٣) الوسائل ٣ : ٢٩٠ / أبواب غسل المسّ ب ١ ح ٥.

٢٣٣

ومعه يمكننا نفي هذا الموضوع بالأصل ونقول الأصل أنّ المسّ لم يتحقق قبل التغسيل ، فلا يجب الغسل في الصورتين الأخيرتين.

إلاّ أن ظاهر الصحيحة غير مراد قطعاً ، لأن لازمها عدم وجوب الغسل بمسّ الميِّت إذا لم يقع بعد المسّ تغسيله إلى يوم القيامة ، لعدم تحقق المسّ قبل الغسل ، لأنّ القبلية والبعدية متضائفتان فلو لم يقع غسل بعد المسّ لم يتصف المسّ بالقبلية ، فلا يجب الغسل بالمس حينئذ مع أنّه ممّا لا يمكن الالتزام به.

فلا مناص من التأويل في الصحيحة بحملها اي بحمل القبلية على المعية والاقتران ، كما التزمنا بذلك فيما ورد من أن هذه قبل هذه (١) ، لأن صلاة الظهر لا يشترط في صحّتها أن تقع العصر بعدها ، مع أن لازم الرواية اعتبار كونها واقعة قبل العصر والعصر واقعة بعد الظهر للتضايف بين القبلية والبعدية ، مع أنّه لو صلّى الظهر ولم يصل العصر أصلاً أو صلّى العصر قبل الظهر وقعت صلاة الظهر صحيحة وإنّما تبطل العصر فقط ، ومن هنا حملناها على إرادة وقوع العصر لا مع الظهر ، وكذلك القول في المقام إلاّ أنّا نحتمل أن يراد بالمس قبل الغسل ، المسّ الّذي لا يكون بعد الغسل.

توضيح هذا المجمل أن في المقام ضدّين : المسّ قبل الغسل والمسّ بعد الغسل وغسل المسّ إذا وجب في أحدهما لا يكون واجباً في الآخر لا محالة ، وليس لهما ثالث في المقام ، وبما أنّ المسّ بعد الغسل لا يجب معه غسل المسّ قطعاً فيكون المسّ قبل الغسل محكوماً بوجوب غسل المسّ معه ، وحيث إن القبلية كما عرفت لا يمكن أن تؤخذ في موضوع وجوب الغسل فيمكن أن يراد بالقبل غير الواقع بعد الغسل.

ومعه يكون الموضوع لوجوب غسل المسّ هو المسّ الّذي لا يكون بعد الغسل ، وإطلاق أحد الضدّين اللذين لا ثالث لهما وإرادة غير الضد الآخر أمر ممكن ، ومعه‌

__________________

(١) الوسائل ٤ : ١٢٦ ، ١٣٠ / أبواب المواقيت ب ٤ ح ٥ ، ٢٠ ، ٢١ وغيرها.

٢٣٤

لا تجري أصالة عدم المسّ قبل التغسيل ، إذ لا أثر لها في نفسها ، وبهذا تصبح الصحيحة مجملة ولا يمكن الاعتماد عليها في الاستدلال.

وحاصل ما ذكرناه في المقام : أنّ المسّ الّذي أُخذ موضوعاً لوجوب غسل المسّ مقيّد بأن لا يكون واقعاً بعد الغسل ، والخارج أمر وجودي وهو المسّ بعد الغسل ومعه لا بدّ من الحكم بوجوب الغسل في جميع الصور المتقدمة ، كان تاريخ المسّ مجهولاً والتغسيل معلوماً أم انعكس أو كان كلا التاريخين مجهولاً.

وذلك لأنّ المسّ معلوم بالوجدان ونشك في أنّه واقع بعد الغسل أو ليس بواقع بعده ، ومقتضى الأصل عدم كونه واقعاً بعد الغسل ، فهو مسّ بالوجدان وليس واقعاً بعد الغسل بالتعبّد ، أي ليس من القسم الخارج بالتعبد ، لأنّ الخارج أمر وجودي يمكن أن يحرز عدمه بالأصل ، فلا مناص من الحكم معه بوجوب غسل المسّ مطلقاً.

وهذا بخلاف ما إذا كان المسّ مقيّداً بقيد عدمي آخر وهو أن لا يكون معه غسل فإنّه على ذلك لا نلتزم بوجوب الغسل فيما إذا كان تاريخ المسّ مجهولاً وكان تاريخ التغسيل معلوماً.

فإن مقتضى استصحاب عدم كون المسّ واقعاً قبل الغسل عدم تحقق موضوع الحكم بوجوب الاغتسال ، أعني المسّ الّذي ليس معه غسل ، لأنّه ينفي وجود المسّ قبل التغسيل ، فليس هناك مسّ لا يكون معه غسل ، فلا يجب غسل المسّ حينئذ بخلاف بقيّة الصور.

فإذا عرفت الفارق بين القيدين العدميين والمدعى ، فنقول في إثبات ذلك :

إنّ المطلقات دلّت على وجوب الغسل بالمس مطلقاً ، وقد دلّت صحيحة محمّد بن مسلم المتقدمة (١) على أنّ المسّ بعد التغسيل لا بأس به ، وإذا انضمّ هذا إلى المطلقات دلّتا على أنّ المسّ الواجب معه الغسل هو المسّ الّذي لا يكون بعد الغسل ، ومعه بما‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٢٩٥ / أبواب غسل المسّ ب ٣ ح ١.

٢٣٥

وعلى هذا يشكل مسّ العظام (*) المجردة المعلوم كونها من الإنسان في المقابر أو غيرها ،

______________________________________________________

أنّ المسّ معلوم بالوجدان وعدم كونه بعد الغسل بالاستصحاب لا بدّ من الحكم بوجوب الغسل في جميع الصور المتقدِّمة.

نعم ، ورد في صحيحة الصفار : أنّ المسّ قبل الغسل موجب للغسل (٢) ، إلاّ أن ظاهرها وهو كون المسّ مشروطاً وجوبه بالتغسيل بعده على نحو الشرط المتأخّر أمر غير محتمل ، لاستلزامه أن لا يجب المسّ فيما إذا لم يقع تغسيل إلى يوم القيامة ، وهو ممّا لا يمكن الالتزام به.

ومعه إمّا أن يراد بالقبل عدم الغسل بمعنى أنّ المسّ الّذي ليس معه غسل موضوع للوجوب ، ومعه تجري أصالة عدم تحقق المسّ قبل التغسيل في صورة العلم بتاريخ الغسل ، وبه ننفي وجود الموضوع لوجوب الاغتسال دون بقية الصور كما مرّ.

وإمّا أن يراد به عدم كون المسّ واقعاً بعد الغسل نظراً إلى الواقع ، لأنّ المسّ إمّا أن يقع قبل الغسل وإمّا أن يقع بعد الغسل ولا ثالث ، فإذا لم يمكن إرادة القبلية قطعاً فلا مناص من حمل القبل على إرادة أن لا يكون المسّ هو الضد الآخر الّذي لا يجب فيه الغسل ، أي المسّ الّذي لا يكون بعد الغسل ، وهو القيد العدمي الّذي ذكرناه ، ومعه يحكم بوجوب غسل المسّ في جميع الصور كما مرّ.

وحيث إنّ الصحيحة لا قرينة فيها على أحد الأمرين فتصبح مجملة ، والمجمل يحمل على المبين وهو صحيحة محمّد بن مسلم الدالّة على أنّ المسّ بعد الغسل لا يجب معه الغسل ، ومعه يكون المسّ الّذي يجب معه الغسل مقيّداً بأن لا يقع بعده غسل كما بيّناه.

__________________

(*) لا إشكال فيه بناءً على ما ذكرناه من عدم الوجوب في مسّ العظم المجرّد.

(١) الوسائل ٣ : ٢٩٠ / أبواب غسل المسّ ب ١ ح ٥.

٢٣٦

نعم لو كانت المقبرة للمسلمين يمكن الحمل على أنّها مغسّلة (١).

______________________________________________________

مسّ العظام المجرّدة‌

(١) فهل يحكم بوجوب الغسل بمسّها لأنّ المسّ محرز بالوجدان وعدم كونه بعد الغسل بالاستصحاب ، أو لا يحكم به لأنّ الظاهر كون الميِّت في مقابر المسلمين مغسلاً لا محالة؟

بناءً على ما قدّمناه من أن مسّ العظام المجردة غير موجب للغسل حتّى مع العلم بعدم كونها مغسلة فلا إشكال في عدم الوجوب ، لعدم وجوب الغسل عند العلم بعدم كونها مغسلة فضلاً عمّا إذا شكّ في ذلك.

وأمّا بناءً على وجوب الغسل بمسّها أو كانت مع اللحم فهل يجب الغسل بمسّها؟

التحقيق عدم وجوبه إذا كانت خارجة بعد الدفن لنبش أو سيل أو بسبب حيوان أخرجه ونحو ذلك ، وهذا لا للظاهر ، لأنّه لا يفيد أزيد من الظن وهو ليس بحجّة شرعاً ، بل لحمل فعل المسلمين على الصحّة ، لأن من شرائط صحّة الدفن تغسيل الميِّت قبله ، ومع الشك في صحّة دفنهم يبنى على صحّته بالسيرة الجارية على ذلك فإذا حكمنا بصحّته ثبت شرعاً تغسيل الميِّت قبله.

وممّا يدلّنا على هذه السيرة أنّ المتدينين من المسلمين لا يخرجون أمواتهم من القبور ليغسلوها ويصلّوا عليها مع الشك في جملة كثيرة من الأموات وأنّها هل غسلت على وجه شرعي وصلّى عليها أم لا؟

وليس هذا إلاّ لعدم الاعتناء باحتمال عدم التغسيل والصلاة ، وللبناء على صحّة دفنهم المستلزمة شرعاً لعدم وجوب تغسيل الأموات والصلاة عليهم في مفروض الكلام ، وهذه السيرة من أظهر السير ، وبها يثبت عدم وجوب الغسل بمسّ العظام.

٢٣٧

[٨٢٤] مسألة ٤ : إذا كان هناك قطعتان يعلم إجمالاً أن إحداهما من ميت الإنسان فإن مسّهما معاً وجب عليه الغسل ، وإن مسّ إحداهما (١) ففي وجوبه إشكال (*) ، والأحوط الغسل.

______________________________________________________

العلم الإجمالي بأن إحدى القطعتين من الإنسان‌

(١) الصحيح أن حكم المسألة يختلف باختلاف زمان العلم الإجمالي ، لأنّ العلم بأن أحد الميتين ميت إنساني أو أن أحدهما غير مغسل قد يتحقق قبل المسّ لأحدهما ، كما إذا علم إجمالاً بذلك ووجب عليه تغسيل كل منهما ودفنهما وغير ذلك من الأحكام المترتبة على الميِّت الإنساني في نفسه من دون ضميمة بمقتضى العلم الإجمالي ، وبعد ما تنجزت عليه الأحكام وسقطت الأُصول في أطرافه مسّ أحدهما.

وفي هذه الصورة لا يجب غسل المسّ ، لعدم العلم بوقوع المسّ على الميِّت الإنساني ، ومقتضى استصحاب عدم وقوع المسّ على الإنسان أو البراءة من التكليف الزائد على ما علم إجمالاً عدم وجوب غسل المسّ حينئذ ، لأنّهما غير معارضين بشي‌ء وهو من الشك البدوي ، كما ذكرنا نظيره في ملاقي أحد أطراف الشبهة بعد العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما.

وقد يحصل المسّ أوّلاً ثمّ بعد ذلك يتحقق العلم الإجمالي بأن أحدهما ميت إنساني ، وحينئذ قد يكون للطرف الآخر غير الممسوس حكم إلزامي كما إذا مسّ أحدهما ودفن ، والميِّت الآخر غير مدفون وبعد ذلك حصل له العلم الإجمالي بأن أحدهما ميت إنساني فإنّه يجب غسل المسّ حينئذ.

لأن هذا العلم الإجمالي ينحل إلى علمين ، أحدهما أن أحد الميتين ميت إنساني وثانيهما أنّ الماس إمّا يجب عليه غسل المسّ لو كان الميِّت الإنساني هو الممسوس ، وإمّا يجب عليه دفن الميِّت الآخر لو كان هو الإنساني ، ومقتضى العلم الإجمالي ثبوت كلا الحكمين وتنجزهما في حقّه.

__________________

(*) أظهره عدم الوجوب إلاّ إذا كان العلم الإجمالي بعد المسّ وكان الطرف الآخر مورداً لحكم إلزاميّ من وجوب دفن ونحوه.

٢٣٨

[٨٢٥] مسألة ٥ : لا فرق بين كون المسّ اختيارياً أو اضطرارياً في اليقظة أو في النوم كان الماس صغيراً أو مجنوناً أو كبيراً عاقلاً (١) ، فيجب على الصغير الغسل بعد البلوغ ، والأقوى صحّته قبله أيضاً إذا كان مميزاً ، وعلى المجنون بعد الإفاقة (٢).

______________________________________________________

وقد لا يكون للطرف الآخر حكم إلزامي كما إذا دفن كلاهما أو كان الميِّت الإنساني المعلوم بالإجمال كافراً ، فإن مسّه موجب للغسل حينئذ إلاّ أنّه لا يجب دفنه ولا تكفينه ولا غير ذلك ، وبعد ذلك حصل العلم الإجمالي بأن أحدهما ميت إنساني فإنّ المسّ حينئذ لا يترتب عليه وجوب الغسل ، لأصالة عدم كون الممسوس إنساناً أو للبراءة عن وجوبه ، لأنّه من الشك في التكليف أو لاستصحاب طهارته ، كما ذكرناه في ملاقي أطراف الشبهة مفصلاً ، فإن حال المقام حال الملاقي بعينه.

المسّ الاضطراري كالاختياري‌

(١) الوجه في ذلك كلّه هو إطلاقات الأخبار الدالّة على وجوب الغسل بالمسّ (١).

هل يصح غسل المسّ من الصغير قبل البلوغ؟

(٢) هذه المسألة مبتنية على أن عبادات الصبي شرعية أو تمرينية ، فعلى الأوّل لو اغتسل من المسّ قبل بلوغه صحّ ولم يجب عليه بعد البلوغ ، بخلاف ما لو قلنا بالثاني إذ لا أمر حينئذ ، فلا تكون عبادات الصبي مشروعة وكافية عنها بعد بلوغه.

والصحيح أن عباداته شرعية ، وهذا لا لما ذكره جماعة من الأعلام من شمول أدلّة التكاليف للصبي أيضاً بإطلاقها ، فإن حديث رفع القلم إنّما يرفع الإلزام فيبقى أصل الأمر شاملاً له من دون إلزام ، ومعه تكون عبادات الصبي شرعية.

والوجه في عدم استنادنا إلى ذلك أنّ المجعول الشرعي الوارد في أدلّة التكاليف ليس أمراً مركباً من أمر وإلزام أو أمر وترخيص ، بأن يكون الإلزام أو الترخيص‌

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٢٨٩ / أبواب غسل المسّ ب ١.

٢٣٩

[٨٢٦] مسألة ٦ : في وجوب الغسل بمسّ القطعة المبانة من الحي‌ لا فرق بين أن يكون الماسّ نفسه أو غيره (١).

[٨٢٧] مسألة ٧ : ذكر بعضهم أن في إيجاب مسّ القطعة المبانة من الحي للغسل لا فرق بين أن يكون قبل بردها أو بعده‌ (٢) وهو أحوط (*).

______________________________________________________

منوّعين للمجعول الشرعي حتّى ينفى الإلزام بالحديث ويبقى الأمر المجعول الشرعي شاملاً للصبيان ، بل المجعول الشرعي أمر واحد ، والوجوب والاستحباب أمران منتزعان للعقل من ورود القرينة على الترخيص في الترك أو على المنع عنه أو عدم قيامها على الترخيص في الترك.

ومن الظاهر أن حديث رفع القلم غير ناظر إلى رفع ما ينتزعه العقل ، وإنّما هو ناظر إلى رفع ما جعله الشارع على العباد بالإضافة إلى الصبي والمجنون ونحوهما ، ومع ارتفاع ما هو المجعول في حقّ الصبي لم يبق هناك ما يقتضي شرعية عباداته.

بل الوجه في شرعية عباداته ما ورد من أمر الأولياء بأمر صبيانهم بالصلاة والصيام فإنّ المستفاد من قوله عليه‌السلام « مروا صبيانكم بالصلاة » (٢) أمر الصبيان بالصلاة ونحوها شرعاً ، لما قدّمناه في محلِّه (٣) من أنّ الأمر بالأمر بشي‌ء أمر بذلك الشي‌ء عرفاً وحيث إنّ القرينة قامت على الترخيص في الترك في حقّ الصبيان فيستفاد منهما شرعية عبادات الصبي من غير أن تكون واجبة في حقّه.

(١) بناءً على القول بوجوب الغسل بمسّ القطعة المبانة المشتملة على العظم اعتماداً على مرسلة أيوب بن نوح (٤) لا وجه للتفرقة بين كون القطعة المبانة الممسوسة مبانة من الماس أو من غيره لإطلاق المرسلة.

(٢) اعتماداً على إطلاق قوله في المرسلة « فإذا مسّه إنسان فكل ما كان فيه عظم‌

__________________

(*) وإن كان الأظهر عدم وجوبه قبل البرد.

(١) الوسائل ٤ : ١٩ / أبواب أعداد الفرائض ب ٣ ح ٥.

(٢) محاضرات في أُصول الفقه ٤ : ٧٤.

(٣) الوسائل ٣ : ٢٩٤ / أبواب غسل المسّ ب ٢ ح ١.

٢٤٠