المستشرقون والدّراسات القرآنيّة

الدكتور محمد حسين علي الصّغير

المستشرقون والدّراسات القرآنيّة

المؤلف:

الدكتور محمد حسين علي الصّغير


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المؤرّخ العربي
الطبعة: ١
الصفحات: ١٨٤

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

مقدمة

هذه دراسة تنظم جهود المستشرقين في الدراسات القرآنية المتنوّعة وتتناول بالبحث الموضوعي عطاءهم الفكري ، وتشير إلى أبرز أعمالهم في هذا المجال.

وليس في استقراء هذا الأثر حبّ بالمستشرقين أو تعصبا لهم ، بقدر ما فيه من حب للقرآن الكريم وإعجاب بذيوعه وانتشاره ، حتى بحثه من لا يؤمن بإعجازه ، وصنّف فيه من لا يراه وحيا إلهيا.

لقد ظلّ القرآن الكريم مثار دهشة الغربيين من مستعربين ومستشرقين ، بما أحدثه من تغيير شامل في المجتمع العربي والإسلامي وما أضافه إلى الحضارات الإنسانية من زخم وحياة ، وما قدّمه للثقافة من تطوّر وتجديد.

فحدبوا على دراسته بمثابرة ، وتتبعوا نصوصه بإمعان ، فرآه البعض مادّة للأبحاث الموضوعية فدرسه بهذا المنظور ، واشتد على البعض الآخر وقعه فأثار عنده الحقد الدفين ، ومن هذا وذاك طغت على السطح الأكاديمي دراسات الاستشراق القرآنية ، فاتسم بعضها بالموضوعية ، وبدا على قسم منها تبعات الهوى حينا ، وروائح الاستعمار حينا آخر ، وملامح التبشير بعض الأحايين ، فخلص لنا من كل أولئك مزيج عجيب يدعو إلى الحيرة ، وقد حاولنا في هذه الدراسة تصنيفه وتنقيته والوقوف فيه عند حدوده العلمية.

في هذه الدراسة الموجزة عرض ونقد وتحليل وفهرسة ، عني العرض بكشف أبرز البحوث القيّمة في موضوع الدراسات القرآنية ، وتكفل النقد بتهذيب وجهات النظر الضيقة والعودة بها إلى المناخ الطبيعي ، واقتصر التحليل على أفضل المعطيات العلمية للجهود الاستشراقية في دراسات

٥

القرآن ، وحاولت الفهرسة تصنيف أغلب الأبواب والموضوعات والدراسات والبحوث والمؤلّفات والتحقيقات والتراجم والتعقيبات في الموضوع والإشارة إلى زمان ومكان طبعها ونشرها قدر الإمكان.

ولقد كانت الجهود مضنية احتجت معها إلى ترجمة بعض النصوص ، من الإنكليزية ، والاستعانة ببعض الأساتيذ في الألمانية ، مضافا إلى عملية الإحصاء استعيابا واستقصاء ، لئلا يكون النقص في الحث كبيرا والهوّة واسعة.

وكانت المراجع للموضوع ما كتب عن المستشرقين ، وما كتبه المستشرقون أنفسهم.

أمّا ما كتب عن المستشرقين فكان دليلا هاديا إلى اكتشاف المجهول ، واستقراء ترجمة الجهود ، وإضافة قائمة بمؤلفات لم يحصل عليها ولم يطّلع على أسرارها. وأمّا ما كتبه المستشرقون في موضوع القرآن فكان مادّة البحث الأولى التي اعتمدناها في النصوص والتقييم والنقد.

ومن خلال هاتين الحصيلتين سلطت الأضواء على كوامن البحث في مصادره القيمة ومعالمه المتشعّبة. وكان ذلك بفضل جمع ما تناثر هنا وهناك ولمّ شمله وشعثه من صروف الشتات والتمزّق ، فعاد مجتمعا في بحث ومتداولا في كتاب.

ومن خلال استقراء متنوع الجهود الاستشراقية في الدراسات القرآنية وجدنا أهمّ أعمالهم تدور حول الموضوعات التالية بحسب أهميتها عندهم ، أو بحسب ما أنتجوه فيها :

١ ـ تأريخ القرآن الكريم ، وكل ما يتعلق بأسباب نزوله ، وتأريخ سوره ، ومكيّه ومدنيّه ، وقراءاته ولهجاته ، وكتابته وتدوينه ، وما دار في هذا الفلك من رأي ، أو فكرة أو نظرية.

٢ ـ ترجمة القرآن إلى مختلف اللغات العالمية والألسن الحيّة ، ترجمة حرفية أو تفسيرية أو لغوية ، جزئية وكلية.

٣ ـ نشر ما كتب عن القرآن وما ألّف فيه ، وتحقيق النصوص القديمة في آثاره ، والتدوين والفهرسة بمختلف الأصناف.

٦

٤ ـ بعد هذا وجدنا البحوث العامّة ، والدراسات المتنوعة التي تنبثق عن القرآن في علومه وفنونه وبلاغته ، ومسايرته للحياة في الفن والفلسفة والاجتماع فكانت أداة صالحة للدراسات الموضوعية الجادة.

٥ ـ وقد عقبنا هذه الدراسات المتشعبة الموضوعات بتقويم نقدي لأشهر الجهود الاستشراقية في الدراسات القرآنية تأريخيا وتدوينيا وتفسيريا وموضوعيا ، كشفنا فيه طبيعة الفهم الاستشراقي للقرآن ، وتوثيق القرآن عند المستشرقين من ينابيعه الأولى ، واستقراء المجهول في مختلف الأبحاث الاستشراقية.

٦ ـ واستيعابا لمادة البحث الأولى صنّفنا معجما إحصائيا بأبرز الدراسات الاستشراقية للقرآن الكريم ، وبوّبنا ذلك أبجديا تيسيرا للقارئ ، وتنظيما لهذا التراث الضخم.

وكان نتيجة ذلك أن تكونت هذه الدراسة من ستة فصول ، انتظمت كل فقرة فيما سبق على فصل خاص بها.

وسنقف بإذن الله تعالى وقفة تمحيصية احصائية عند هذه الأركان الأساسية من الموضوع ، بعد أن نعطي لمحة خاطفة عن تعريف الاستشراق ودوافعه في مدخل الكتاب ، قد تكون هذه اللّمحة ضرورية بين يدي هذا البحث لاستكمال عناصره واستقراء معالمه.

وما توفيقي إلاّ بالله العليّ العظيم

عليه توكّلت وإليه أنيب

وهو حسبنا ونعم الوكيل

الجامعة المستنصرية ـ كلية الفقه

النجف الأشرف

الدكتور

محمد حسين علي الصغير

٧
٨

المدخل

١ ـ تعريف الاستشراق

٢ ـ دوافع الاستشراق

٩
١٠

(١)

تعريف الاستشراق

الاستشراق بتعبير موجز : دراسة يقوم بها الغربيّون لتراث الشرق وبخاصة كل ما يتعلق بتأريخه ، ولغاته ، وآدابه ، وفنونه ، وعلومه ، وتقاليده وعاداته (١).

وإذا كان الاستشراق يستقطب هذه الصيغة ، فالمستشرق ـ بهذا الاعتبار ـ هو الغربي الذي يدرس تراث الشرق ، وكل ما يتعلق بتأريخه ، ولغاته ، وآدابه ، وفنونه وعلومه وتقاليده ، وعاداته.

ولا بدّ لدراسة هذا التراث من أداة توصله إلى ثماره المنشودة وهذه الأداة التي يجب أن يتحصّن بها المستشرق : هي اتقان لغة الشّرق ، والتخصّص بأبرزها آثارا في التأريخ والفنون والآداب والعلوم ، وهي اللغة العربية لا ريب.

لهذا يرى المستشرق الألماني المعاصر « ألبرت ديتريش » أن المستشرق : هو ذلك الباحث الذي يحاول دراسة الشرق وتفهمه ، ولن يتأتّى له الوصول إلى نتائج سليمة ما لم يتقن لغات الشرق (٢).

ومصطلح الاستشراق يرجع إلى العصر الوسيط ، بل إلى العصور القديمة ، أي إلى الوقت الذي كان فيه البحر المتوسط كما قيل يقع في

__________________

(١) ظ : جبور عبد النور :

المعجم الأدبي ١٧ ، دار العلم للملايين ، بيروت ، ١٩٧٩ م.

(٢) ظ : البرت ديتريش :

الدراسات العربية في ألمانيا ، تطوّرها التأريخي ووضعها الحالي ٧ ، جوتنجن / ١٩٦٢ م.

١١

وسط العالم ، وكانت الجهات الأصلية تتحدّد بالنسبة إليه. فلمّا انتقل مركز ثقل الأحداث السياسية بعد ذلك من البحر المتوسط إلى الشمال بقي مصطلح الشرق رغم ذلك دالاّ على الدول الواقعة شرق البحر المتوسط (١).

ويبدو أن مصطلح الشرق لم يقتصر على هذه الرّقعة جغرافيا فحسب ، بل تجاوزها إلى غرب الجزيرة العربية ، وشمال إفريقيا ، وذلك بعد الفتوحات الإسلامية ، فعدّت كل من مصر والمغرب وشمال إفريقيا وما تعرّب من سكان هذه الدول من الشرق ، فشملها هذا الاسم باعتبار دينها الإسلام ، ولغتها العربية.

وكما تخطّى مصطلح الشرق حدوده الجغرافية إلى غرب الجزيرة العربية وشمال إفريقيا ، فقد تخطّى مصطلح الاستشراق الغربيين ، وتجاوزهم إلى المستعربين بعامّة ، ممن لم يعتنقوا الإسلام دينا ، ولم ينطقوا بالعربية لغة ، وكان من شأنهم أن بحثوا في تراث الشرق لغة وأدبا ، وإن كانوا شرقيين ، فشملهم هذا التعبير ، وغمرهم هذا المصطلح ، فعادوا مستشرقين.

وفي ضوء ذلك يصحّ لنا إطلاق الاستشراق الروسي على المعنيين بالشئون المشار إليها من قضايا الشرق الثقافية ، وهكذا يقال الاستشراق الياباني أو الاستشراق الصيني. كما يقال الاستشراق الأمريكي أو الانكليزي جنبا إلى جنب.

لقد عاد الإسلام واللغة العربية مادة خصبة لموضوع الاستشراق ، وطغت هذه المادة على ما سواها ، ولقد قدّر للقرآن الكريم أن يحتضن الإسلام واللغة العربية بوقت واحد ، حتى أضحى القرآن أغنى المواضيع عند المستشرقين على الإطلاق ، فبحثوا جزئيّاته وكلّياته ، وانصبّت بحوثهم الأكاديمية حوله بشكل يلفت النظر ، ويستوقف الباحث.

__________________

(١) ظ : دودي بارت :

الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية : ١١ ، ترجمة د. مصطفى ماهر ، دار الكاتب العربي ، القاهرة ، ١٩٦٧ م.

١٢

(٢)

دوافع الاستشراق

للاستشراق بوجه عام من خلال دراساته العربية والإسلامية دوافع متفاوتة شدّة وضعفا ، اتّسم بعضها بهدف تبشيري ، واتجه البعض الآخر منها بغرض استعماري ، وخلص القسم الثالث باتجاه علمي ، فشكلت بذلك دوافع تبشيرية ، ودوافع استعمارية ، ودوافع علمية ، وسنلقى على هذه الدوافع بعض الضوء الكاشف لنخلص إلى الحقيقة المجردة.

أ ـ الدوافع التبشيرية :

ذهب « رودي بارت » إلى أن الهدف الرئيسي من جهود المستشرقين في بدايات الاستشراق في القرن الثاني عشر الميلادي وفي القرون التالية له : هو التبشير ، وعرّفه بأنه : إقناع المسلمين بلغتهم ببطلان الإسلام ، واجتذابهم إلى الدين المسيحي ، ويمكن الاطلاع على هذا الموضوع في الكتاب الكبير الذي وضعه : « نور من دانيل » باسم : الإسلام والغرب ( ١٩٦٠ م ) (١).

وقد أكّدتهم المستشرقين التبشيرية الأستاذ « محمد البهي » بكتاب أسماه « المبشرون والمستشرقون » في موقفهم من الإسلام وقد ناقشه فيه وردّ عليه الدكتور « محمد يحيى الهاشمي » ، الذي فنّد أغلب النوايا الهامشية للاستشراق (٢).

__________________

(١) المصدر نفسه : ٩.

(٢) ظ : ١٩٦٣ ـ ١٩٦٢. ٨ .N. S Die Welt Des ISLAMS,

١٣

إننا لا نستطيع أن ننفي هذه التهم جملة وتفصيلا ، فلهذه التهم أصل من الصحة ، ولا يمكننا أن نزيّف جميع الجهود الاستشراقية ونصمها بالتبشير ففي هذا بعض الغلو والتطرف ، ولكننا نستطيع أن ننزه قسما ونتهم قسما آخر. فالمستشرقون بشر ، والبشر فيه الموضوعي وفيه السطحي ، والمستشرقون مجتهدون ، وقد يخطئ المجتهد وقد يصيب.

يلحظ أن جماعة من المستشرقين قد دأبوا منذ زمن حتى عصرنا الحاضر على وصف القرآن بأنه نسيج من السخافات ، وبأن الإسلام مجموعة من البدع ، وبأن المسلمين وحوش ، وكان نموذج ذلك من المشترقين : « نيكولا دكيز ، وفيفش ، وفراتشي ، وهو تنجر ، ويلياندر ، وبريدو » ، وغيرهم (١).

وهذا النوع من المستشرقين قد دفع تبشيريا إلى الغض من مكانة القرآن والإسلام ، لتقليل أهميتهما وزعزعة النفوس عنهما ، وإسدال ظلال كثيفة قاتمة حول التأريخ الإسلامي لخدع البسطاء والمترددين ، تبعا لهوى في نفوس القوم. ولكن الحديث المتأطر بهذا القناع لا يمكن أن يوافق قبولا لدى الباحثين لأنه حديث عاطفي.

وقد عمد قسم من المستشرقين الألمان واليهود أمثال ، « فيل ، وجولد سهير ، وبول » ، وغيرهم إلى القول بأن القرآن حرّف وبدّل بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي صدر الإسلام الأول ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصاب بالصرع! وأنّ ما كان يسميه الوحي الذي ينزل عليه إنّما كان أثرا لنوبات الصرع! فكان يغيب عن صوابه ، ويسيل منه العرق ، وتعتريه التشنّجات ، وتخرج من فيه الرّغوة ، فإذا أفاق من نوبته ذكر أنّه أوحي إليه ، وتلا على المؤمنين ما يزعم أنه من وحي ربه (٢).

__________________

(١) ظ : الدكتور بكري أمين التعبير الفني في القرآن : ١٨ ، دار الشروق / بيروت / ١٩٧٢ م.

(٢) ظ : Emile Der meng hem,

The Life of mahomet. PP. ١٣٥

New york Deal Press. ١٣٩٠

١٤

وقد تكفل بالردّ على هذه المزاعم الكاذبة جملة من المستشرقين المنصفين لا سيما « السير وليام موير » في كتاب « حياة محمّد » : فكان ما تحدث فيه عن منزلة القرآن ودقّة وصوله سالما ، خير ردّ على التجنّي والحقد الأعمى ، واعتبر ذلك تهرّبا عن البحث العلمي الرّصين.

وعقّب على ظاهرة الوحي ، فنفى ما افتراه الجاهلون على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حالات الصرع المدعاة ، لأن نوبة الصرع لا تذر عند من تصيبه أي ذكر لما مر به أثناءها ، ذلك لأن حركة الشعور والتفكير تتعطل فيه تمام العطل (١).

وهذا ما نشاهده عيانا في حالات الإغماء وقد أيّد كل من « الأب هنري لامنس » ، و « فون هامر » مذهب « موير » في التفريق بين حالة الصرع والوحي (٢).

بينهما زعم آخرون : بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان في القرآن ساحرا ، وأنه لم ينجح في الوصول إلى كرسي البابويّة فاخترع دينا جديدا لينتقم من زملائه (٣).

وقد هزّ هذا التحدي السافر المستشرق « آميل درمنجهام » ، ففند أباطيل هؤلاء الدعاة وحمل عليهم ، ورد هذه التهم الرخيصة التي خالفت الواقع (٤).

وبذلك أدين المستشرقون المتطرّفون بفم المستشرقين المنصفين.

إن كثيرا من الصيغ التي نهجها بعض المستشرقين لم تتسم بصفة

__________________

(١) ظ : Sir William Muir

29 ـ Life of Mohammad. PP.14

.( Form original sources)

John Grant. ١٩١٢ Ed inburgh,

(٢) ظ : الدكتور بكري أمين :

التعبير الفني في القرآن : ١٩.

(٣) ظ : موسوعة لاروس الفرنسية ، مادّة محمّد :

. ١٨٣ ، Paris Renawlte et Francisk. Mahomet,

(٤) ظ : اميل درمنجهام ، المرجع السابق : ١٣٥.

١٥

البحث العلمي ، لهذا ردت من قبل مستشرقين آخرين ، لأنها لم تدعم بدليل نصي أو تأريخي أو واقع اجتماعي مدروس ، سوى الميل إلى الهوى والجنوح إلى العاطفة ، وهذا ما يؤسف له حقا.

ب ـ الدوافع الاستعمارية :

وقد يكون دافع الاستشراق دافعا استعماريا تمليه طبيعة عمل المستشرقين في البلدان العربية والإسلامية ، من ضرورة إتقان اللغة ، والتخصص بجملة من فنون الشرق ، ومن ثم يتولد لدى المستشرق ولع خاص يحدو به إلى الاضطلاع بمهماته ، ولكنه لا يخضع هذا الولع على سجيته ، بل يخضعه لمفاهيم استعمارية قد خطط لها من ذي قبل ، كأن يشكّك المسلمين بعقيدتهم ، أو يسفّه أحلامهم ، أو ينحو باللائمة على أئمتهم ، أو يقلل من أهمية تراثهم.

وقد لا تملي هذا طبيعة العمل بل يكون هو الهدف الأول والأخير للاستعمار من عمل المستشرق في هذا المحيط أو ذاك.

ومن هنا قد يكون المنهج الاستعماري فاضحا للاستشراق بالطريقة التي برمجها للمستشرق من تشتيت أمر الأمّة ، والدعوة إلى تفريق الكلمة ، وإبراز وجهات الاختلاف ، أو تعدد المذاهب ، فيدعى المستشرق من قبل دوائره إلى تضخيم هذه النزعات ، وتكثيف تلك الدعاوى ، فيبث سمومه من خلال هذه الثغرات ، ويمثل الإسلام بأنه : دين فرقة وخصومة وتصدع ، والأغلب أن يضيف من عنديّاته ما لم يكن ، فيصور ما لم يحدث ، ويناقش ما لم يقع. لا سيما إذا كانت كتابته تتعلق بدين أو تراث أو تاريخ تخطيط للبلدان ، أو تصوير للاجتماع ، أو دراسة نفسية لطبيعة الشعوب المستعمرة.

فعلى سبيل المثال : كان « كرستيان سنوك هورجرونية » ( ١٨٥٧ م ـ ١٩٣٦ م ) رجلا يعتمد على خبرته العلمية بالشرق ، وقد قام في رسالته ـ ( العيد المكّي ـ ١٨٨٠ م ) تلك التي لم تفقد قيمتها إلى اليوم ـ بفحص ناقد للتصريحات القرآنية الخاصة بإبراهيم عليه‌السلام ، واعتباره الأب الأول للإسلام ومنشئ الكعبة ، وقد أقام ـ استعدادا للعمل في خدمة الاستعمار ـ نصف عام متخفّيا في ١٨٨٥ م بين المسلمين في مكّة ، وأنجز كتابا عن مكّة خدمة

١٦

لمهمته الاستعمارية الهولندية الهندية (١).

وقد أغدقت الدول الاستعمارية على جملة من المستشرقين بمختلف الامدادات حتى شكل ذلك دافعا اقتصاديا لدى البعض منهم ، أو مكسبا شخصيا أو سياسيا يحقق للبعض مطمحا أو مطمعا أو منصبا ، ويمكن أن يندرج ضمن الدافع الاستعماري ، أو من جملة مرجّحاته ومقتضياته ، أو من طبيعة مستلزماته ومغرياته.

يقول الأستاذ نجيب العقيقي : « فلما أرادت معظم دول الغرب عقد الصلات السياسية بدول الشرق والاغتراف من تراثه ، والانتفاع بثرائه ، والتزاحم على استعماره ، أحسنت كل دولة إلى مستشرقيها فضمهم ملوكها إلى حاشياتهم أمناء أسرار وتراجمة ، وانتدبوهم للعمل في سلكي الجيش والدبلوماسية إلى بلدان الشرق ، وولوهم كراسي اللغات الشرقية في كبرى الجامعات والمدارس الخاصة ، والمكتبات العامة ، والمطابع الوطنية ، وأجزلوا عطاءهم في الحل والترحال ، ومنحوهم ألقاب الشرف وعضوية المجامع العلمية » (٢).

وقد يكون الدافع الاقتصادي الذي أوجده الجهد الاستعماري مرتبطا بالهدف العلمي باعتبار الاستشراق مهنة عملية يوظف لها الاكفاء والمتخصصون ، « فأساتذة اللغات الشرقية في العصر الوسيط وتراجمته عملوا لقاء أجر ، وأوائل المستشرقين وعلماء الجدل والموسرون نالوا جزاءهم بإرساء النهضة الأوروبية على التراث العربي » (٣).

ج ـ الدوافع العلميّة :

ويبدو لي من خلال معايشة الحركة الاستشراقية بوجه عام أن الهدف العلمي من وراء دراسة القرآن الكريم والتراث العربي قد يشكل أسلم

__________________

(١) ظ : رودي بارت ، المرجع السابق : ٣١.

(٢) نجيب العقيقي :

المستشرقون : ١١٤٩ ، دار المعارف ، القاهرة ، ١٩٦٤ / م ١٩٦٥ م.

(٣) المرجع نفسه : ١١٤٨.

١٧

الدوافع وأنبل الأهداف ترجيحا لدي ، فكثير من هؤلاء المستشرقين لمسوا في اللغة العربية لغة ثقافة وأدب وحضارة ، ووجدوا القرآن في الذروة من هذه اللغة ، فحدبوا على دراسته بدافع علمي محض تحدو به المعرفة ، وتصاحبه اللذة ، فأبقوا لنا جهودا عظيمة مشكورة.

وهذا الحكم لا يؤخذ على عمومه ، ولكنه الأعم الأغلب ، وسواه شاذ ، والشاذ لا يقاس عليه. ولكن الهدف العلمي ـ مهما كانت الضمائم ـ هو الهدف الأسمى لأغلبية هؤلاء المستشرقين.

ومن الجدير بالذكر أن معركة كبيرة تدور رحاها بين علمائنا وأدبائنا وبين المستشرقين حول صحة هذا الغرض أو التشكيك فيه ، وقد عرض لها الأستاذ « نجيب العقيقي » وناقش كثيرا من أبعادها ، ودافع عن المستشرقين دفاعا مخلصا ، ورأى أن الاستشراق مهنة علمية حرة ترسى قواعدها على أصول التحقيق والترجمة والتصنيف (١).

ومع كل ما تقدم ، فالمفروض أن نقف موقف الحذر والحيطة من جملة جهود المستشرقين واجتهاداتهم بالنسبة للدراسات القرآنية ، فهم يخضعون القرآن ـ عادة ـ إلى مناهج وطرائق واستنتاجات قد تكون بعيدة عن الفهم القرآني الأصيل ، لا سيما في مجالي التفسير والترجمة ، فالتفسير مهما كان دقيقا ، قد لا يتوافر منه المراد في اللغات الأخرى كما يتوافر في اللغة العربية ، والترجمة مهما كانت حرفية فقد تشذ عن الأصول البلاغية والأساليب الجمالية التي جاء بها القرآن الكريم.

وكما يجب أن نقف من التفسير والترجمة هذا الموقف ، يجب أن نرصد ما كتب في تاريخ القرآن ، ودعوى التحريف بمنظور متيقظ لئلا نقع بما وقع به بعض المستشرقين من الإسفاف والخلط.

إن هذا الملحظ لا يعني أننا نغض من قيمة وأصالة الجهود الاستشراقية ، ولكننا ندعو إلى تقويمها ورصدها للوصول إلى الحقيقة العلمية الخالصة.

__________________

(١) ظ : المرجع نفسه : ١١٤٨ ـ ١١٦٦.

١٨

الفصل الأول

تأريخ القرآن

١٩
٢٠