المستشرقون والدّراسات القرآنيّة

الدكتور محمد حسين علي الصّغير

المستشرقون والدّراسات القرآنيّة

المؤلف:

الدكتور محمد حسين علي الصّغير


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المؤرّخ العربي
الطبعة: ١
الصفحات: ١٨٤

إلى لغة أخرى ، وإذا روي في الترجمة كل ذلك فمن الراجح أن تنقل حقائق القرآن ومفاهيمه إلى كل قوم بلغتهم ، لأنها نزلت للناس كافة ولا ينبغي أن تحجب ذلك عنهم لغة القرآن ما دامت تعاليمه وحقائقه لهم جميعا (١).

والخوئي بهذا يؤكد بدقة على نقل مفاهيم القرآن وحقائقه ، دون ألفاظه وتراكيبه ، لأن الترجمة ستصطدم بالمشكلات البلاغية.

وقد تعاقبت على القرآن الكريم ـ على المستوى التطبيقي ـ ترجمات متعددة بلغات متعددة ، بلغت العشرات ، منذ عام ١١٤١ م إلى عصرنا الحاضر ، وهي تختلف باختلاف ثقافة المترجم ، ودقة تحريه للأنسب وقد حاولت في أغلبها أن تقرب أصول المعاني وجملة المفاهيم إلى الأذهان ، وليس من اليسير أن ينبري أفراد أو جماعات ، لغتهم الأصلية غير اللغة العربية ، لترجمة أعظم نص عربي ، اتسم ببلاغته الفائقة ، وأقدس كتاب عند المسلمين رأوا إعجازه في نظمه وتأليفه ، وسحره في أسلوبه وجودة تعبيره. لذا فالترجمة للقرآن تعني تمرس المترجم بكثير من فنون البيان وطائفة من أساليب القول ، واضطلاع في اللغة والبلاغة وكفاية في دلالة المفردات (٢).

وقد بلغت الترجمات الانجليزية ـ التي ستكون مجالا للتطبيق والاستشهاد فيما بعد ـ حدا جديرا بالتأمل والاعتداد ، ورقما يدعو إلى البحث والمدارسة ، إذ تجاوزت ثلاثا وستين ترجمة حتى عام ١٩٧٢ م كما يحدد ذلك بعض الباحثين (٣).

وأهمية هذه الترجمات تنطلق من مبدأ يقول : ان الترجمات المتعددة للأثر الواحد في اللغة الواحدة ، هي في الحق نوافذ كثيرة مفتوحة على المعاني التي يتضمنها الأصل المترجم ، وكلما كثرت هذه النوافذ كان الاستمتاع بالأصل أكثر ، وبلوغ الفهم إليه أقرب (٤).

__________________

(١) الخوئي. البيان : ٥٠٥ وما بعدها.

(٢) ظ : المؤلف ، المستشرقون والدراسات القرآنية : ٤٧.

(٣) الندوى ، ترجمات معاني القرآن الكريم : ٣٣.

(٤) ظ : محمد عبد الغني حسن ، فن الترجمة في الأدب العربي : ١٠٢.

١٢١

ولقد كانت الترجمات المتعددة للقرآن الكريم في لغات متعددة مجالا لدراسات خاصة استوفينا البحث عنها في عمل مستقل (١).

ولا حاجة بنا هنا إلى تسليط الأضواء عليها ، والخوض في جواز الترجمة أو عدمه ، وسرد آراء الفقهاء في ملابساتها ، بقدر ما يهمنا الخوض في القضية الثانية لصميم الموضوع المتعلقة بالمشكلات البلاغية التي تعاني منها هذه الترجمات.

المشكلات البلاغية :

الترجمة في الأعمال الثقافية العادية ـ فضلا عن القرآن الكريم ـ لا تخلو من المشكلات ، وفي الحديث عن مشكلات الترجمة لا يصح أن نقحم ضعف المترجم في اللغة التي يترجم منها ، والتي يترجم إليها ، إذ لا يسمى المترجم مترجما حقا إلا حين يتمكن من اللغتين كتابة وقراءة وكذلك يجدر بنا أن نفترض إخلاص المترجم في عمله ، وحسن نيته وأنه حين أخرج النص المترجم قد بذل الجهد وتحرى الصواب ، ولم يكن متأثرا بمذهب خاص يصبغ ترجمته بصيغة خاصة. أن أن للترجمة مشكلات وصعوبات حتى مع اتقان المترجم للغتين ، وأمانته وإخلاصه في عمله. وتتمثل هذه المشكلات بما يلي :

أ ـ نظام الجملة في اختلاف اللغات بنظام الجمل وترتيب الكلمات.

ب ـ كل ما يتعلق بجمال الألفاظ وجرسها.

ج ـ دلالة الكلمات وحدود معانيها.

ودلالة الكلمات في مجال الأفكار وفي النشاط العلمي تلتزم عادة حدودا لا تتعداها ، أما في ترجمة النّصوص الأدبية فالمشكلة أشد عسرا وأصعب منالا ، ذلك لأن الآداب تعتمد على التصوير والعاطفة والتأثير والانفعال ، إلى جانب ما يمكن أن تشتمل عليه من أفكار (٢).

__________________

(١) ظ : المؤلف ، المستشرقون والدراسات القرآنية ، الفصل الثاني.

(٢) ظ : إبراهيم أنيس ، دلالة الألفاظ : ١٧١ وما بعدها بتصرف واختصار.

١٢٢

وإذا كانت هذه المشكلات تعترض أي نص أدبي ذي قيمة وأهمية فهي تنجلي بأبرز مظاهرها في ترجمة القرآن الكريم ، لتشكل عقبة فنية في طريق الترجمة المتكاملة وذلك لمؤشرات تختص بالقرآن الكريم دون سواه ، يمكن إجمالها بما يأتي :

١ ـ إن القرآن الكريم نزل بلغة يحتمل لفظها الواحد ، أو أكثر ألفاظها ، أكثر من معنى وأشمل من تفسير ، مما يفتح حياة متميزة في العقلية اللغوية ، تتسع لكثير من الاجتهادات والدرايات والمعارف.

٢ ـ إن القرآن الكريم قد تمخض عن أصول تعبيرية جديدة أقامت البيان العربي على مخزون جديد من الفن القولي ، فكان مصدرا جديدا للتراث في اللغة والبيان ، ووقف الناس حيارى أمام بلاغته ، ولم يخضع بمفهومه لمقاييس النقد الأدبي في إصدار الأحكام وتحديد الخصائص ، واعتبارات النصوص.

٣ ـ إن القرآن قد اشتمل على ثقافة موسوعية على نحو خاص من العرض والمعالجة والتشريع ، فقد تحدث عن الأحوال الشخصية في الزواج والطلاق والنفقة والمواريث والوصايا والحدود والديات والجروح والقصاص بما لا عهد به لأعرق الأمم تاريخا ، وأعمقها ثقافة ، وترجمة ما تقدم يعني الخوض في اصطلاحات لا قبل المترجمين على استيعابها بشكلها الدقيق.

٤ ـ إن القرآن الكريم لو فصل موضوعيا وبيانيا لوجدناه قد اشتمل على المحكم من الآيات والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، والمجمل والمفصل والمبهم والمبين ، والعام والخاص ، والمطلق والمقيد ، والظاهر وما وراء الظاهر ، فيد الله ، وعينه ، ووجهه ، وعرشه ، وكرسيه ، واستواؤه ومجيئه ، والحروف المتقطعة في أوائل السور ، كل أولئك مما يحتاج إلى الكشف والإيضاح في اللغة الأم فضلا عن اللغة المترجم إليها. والألفاظ المتلاحقة في الأصل التكويني للإنسان ، كالحمإ ، والحمأ المسنون ، والفخار ، والتراب ، والطين ، والطين اللازب مما يدعو إلى التفسير والترتيب لئلا يقع المترجم في احتمال التناقض ، فإذا استقبلنا الإشارات البلاغية التي لا يستطيع استخراج كنوزها إلا من أوتي نصيبا كبيرا من

١٢٣

العلم ، يكشف به الحدس الاستعاري ، والبعد الرمزي ، والتعبير المجازي ، والحس التشبيهي ، علمنا مدى مشكلات الترجمة (١).

لهذا كانت مهمة الترجمة القرآنية حتى مع أداء معاني القرآن ، ودون الالتزام بالترجمة اللفظية عملية شاقة لا سيما من وجهة نظر بلاغية.

ولقد أدرك جملة من المستشرقين موقع البلاغة من القرآن وأشاروا إليها بتأكيد ، فالمستشرق الفرنسي الأستاذ ريجيس بلاشير ( ١٩٠٠ م ـ ١٩٧٣ م ) قد اعتبر علم البيان العربي منطلقا من القرآن ، وركز في فصل من كتابه « القرآن » على الإعجاز القرآني ، وقناعة علماء البيان بأن القرآن يحتوي على جميع المواد الضرورية لهذا العلم (٢).

مما شكل حالة حضارية في شحذ الفكر البلاغي ، وخلق القوة التعبيرية في البيان العربي. وفي الوقت الذي أعجب فيه المستشرق الألماني الكبير الأستاذ. ثيودور نولدكه ( ١٨٣٦ م ـ ١٩٣٠ م ) بسحر القرآن البلاغي ، وإعجازه البياني ، نراه يغمز أسلوب القرآن الكريم ، ويشير إلى كثرة انتقال القرآن في خطاباته من صيغة إلى أخرى ، ومن حال إلى حال ، فمن غيبة إلى حضور إلى خطاب ، ومن ظاهر إلى مضمر وبالعكس ، واعتبر ذلك مجالا للتجريح (٣).

والحق أن نولدكه قد تطرف كثيرا في هذه الوجوه التي عرضها ، ومرد ذلك مع حسن الظن به إلى عدم تمرسه في ضروب البلاغة العربية التي لا يدرك أبعادها إلا العرب الأقحاح ، ومنها الالتفات الذي لم يدرك موقعه في بديع القرآن.

وإذا كان نولدكه وأضرابه من علماء المستشرقين يقفون هذا الموقف من بعض المشاهد البلاغية فما ظنك بمن هو أقل ثقافة ، وأدنى خبرة ، في الأصول البيانية الأخرى.

__________________

(١) ظ : المؤلف ، المبادئ العامة لتفسير القرآن الكريم : ٢٣٥ وما بعدها بتصرف.

(٢) ظ : بلاشير ، القرآن ، تدوينه ونزوله ، الفصل الرابع : ٩٠ ـ ١٠٥.

(٣) ظ : نولدكه ، مادة قرآن فيEdition,ll Brit, Ency,

١٢٤

لقد أشار المسلم النمساوي الأستاذ محمد أسد في مقدمة ترجمته لمعاني القرآن في الانجليزية إلى ما تختص به العربية في بلاغتها دون اللغات الأخرى ، واقتصر على معالجة فن الإيجاز من بلاغة القرآن فقال :

« إن البلاغة في كلام العرب مزية لا تضاهيها فيها لغة أخرى في العالم ومن البلاغة ، الإيجاز في البيان ، والقرآن معجزة في البلاغة ، وأسلوبه الإيجازي معجز كذلك ، فلا بد من التنبه به عند الترجمة إلى لغة أخرى وأن ترجمة الآيات بدون تحليل لفظي لما يضمه الإيجاز تجعل عبارة الترجمة مفككة غير مربوطة بعضها ببعض ، وقد لا يفهم منها شيء ، ولذا يحتاج المترجم أن يشرح المعنى المقصود من الآيات التي فيها الإيجاز حتى يرتبط الكلام وتنسجم العبارة » (١).

وليست بلاغة القرآن مقتصرة على الإيجاز وحده ، وإنما استقطبت جميع فنون البلاغة العربية ، والبلاغة ذات فنون ثلاثة هي : البيان والمعاني والبديع عند جمهرة البلاغيين بعامة ، باستثناء نفر قليل منهم كالخطيب القزويني ( ت ٧٣٩ ه‍ ) الذي فصل علم البديع عن البلاغة واقتصر بها على المعاني والبيان (٢).

ولا يهمنا هذا الخلاف في الوقت الذي اعتبر فيه البديع دائرا حول معرفة توابع الفصاحة (٣).

وهو بلا ريب يستوعب مجموعة المحسنات اللفظية والمعنوية التي تنسحب في أغلب الأحيان على المعاني تارة وعلى البيان تارة أخرى.

أما البيان فينتظم مباحث : المجاز والتشبيه والاستعارة والكناية وأما المعاني فتنتظم مباحث : الخبر والإنشاء والتقديم والتأخير ، والحذف والذكر ، والفصل والوصل ، والإيجاز والأطناب ، والقصر (٤).

__________________

(١) ظ : الندوى : ترجمات معاني القرآن الكريم : ٨٦ ، وانظر مصدره.

(٢) ظ : القزويني ، الإيضاح : ٣٣٤.

(٣) ظ : ابن مالك ، المصباح : ٧٥.

(٤) ظ : السكاكي ، مفتاح العلوم : ٧٧ وما بعدها + أحمد مطلوب البلاغة عند السكاكي : ١٢٢.

١٢٥

وأما البديع وهو « مقصور على العرب ، ومن أجله فاقت لغتهم كل لغة وأربت على كل لسان » (١).

فينتظم على مباحث المطابقة ، والمقابلة ، ومراعاة النظير ، والمشاكلة والمزاوجة ، واللف والنشر والتفريق والتقسيم ، والجمع مع التفريق ، والجمع مع التقسيم ، والجمع مع التقسيم والتفريق ، والإيهام وتأكيد المدح بما يشبه الذم ، وتأكيد الذم بما يشبه المدح ، والتوجيه ، وسوق المعلوم مساق غيره ، والاعتراض والاستتباع ، والالتفات ، وتقليل اللفظ ولا تقليله ، وغير ذلك من المحسنات المعنوية (٢).

وإذا نظرنا المحسنات اللفظية وجدناها تشتمل على التجنيس ، ورد العجز على الصدر ، والقلب والسجع ، والفواضل ، والترصيع وأضراب ذلك.

لذلك قد تعود الترجمة مع المحافظة على البديع شبه مستحيلة بل مستحيلة ، إذ تنفقد أغلب موضوعاته التماسك فضلا عن الأداء.

وبذلك تكون الكلمات والعبارات المترجمة مفتقرة إلى جملة مقومات الفصاحة إن لم نقل كلها ، لأن هذه التفريعات المتطاولة مما تكامل بناؤه في اللغة الأم للقرآن الكريم وهي اللغة العربية ، ولدى نقل ألفاظ هذه اللغة إلى لغة أجنبية فستتعطل هذه المحسنات جملة وتفصيلا إلا نادرا إذ لا تتوافر معالمها ولو بجزء مهما كان ضئيلا في مختلف اللغات العالمية.

فإذا أضفنا إلى البديع علمي المعاني والبيان ، ونقلب القرآن الكريم في شتى فنونهما ، أدركنا صعوبة الترجمة وعناءها ، وهذه الفنون من الكثرة في المفردات بحيث قد تصل إلى مئات العناوين والموضوعات وبما قد يقسم فيه العنوان الواحد إلى عشرات الجزئيات ، فالمجاز وأفراده ، والتشبيه وتفريعاته ، والاستعارة وأنواعها ، والكناية وأغراضها مضافا إلى تقسيمات المعاني المتقدمة وضروب البديع المتعددة ، وكلها أمثلة نابضة يستوعبها

__________________

(١) الجاحظ ، البيان والتبين : ١ / ٥١.

(٢) ظ : أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : ٢٠٥.

١٢٦

القرآن الكريم. وبدون تسخير هذه المواد في عملية الترجمة القرآنية ، تتخلى أية ترجمة عن مقومات الجمال اللفظي ، والتناسق الفني ، والتعبير المجازي والبعد البياني ، في كل من جرس الألفاظ ودلالتها ، ووعي الكلمات وثرائها ، وأداء الصنعة وسلامتها في المعاني الأولية والثانوية إلى جانب وجوه تحسين الكلام.

ان استقراء المشكلات البلاغية لترجمة القرآن الكريم بمؤشر عام يتمثل بنقاط رئيسية على وجه الحصر من ضم بعضها إلى البعض الآخر فمنها ما يدور حول اللفظة المفردة ودلالتها الدقيقة ومنها ما ينتج من ضم اللفظ إلى لفظ آخر في تركيب جملي ، ومنها ما يتأتى من ارتباط الألفاظ بالمعاني ، والمعاني بالصور ، فتحصل من هذا أن المشكلة إما أن تكون مرتبطة باللفظ ، وإما أن تكون مرتبطة بالمعنى ، وإما أن تكون متعلقة باقتران الألفاظ بالمعاني ، وكشف العلاقة الفنية القائمة بينهما ، فتمثلت لنا المشكلات البلاغية ـ من خلال تصورنا القاصر ـ متعينة بثلاثة مؤشرات هي : دلالة الألفاظ ، التركيب الجملي ، النظم والسياق القرآني ، ولتتبع جزئيات هذه المفردات نقف بإزاء كل واحدة منها وقفة تمحيصية توضح وجه المشكلات ومعالمها :

أ ـ دلالة الألفاظ :

الألفاظ بصيغتها الانفرادية تنقل الصورة الذهنية للشيء من الخارج وبضمها إلى غيرها تشكل النص الأدبي ، وبطبيعتها في الدلالة تمثل حديث النفس في الرفض لها أو الاستجابة ، بحسب التأثر بموقعها من الأعماق.

ودلالة الألفاظ تتقلب بين تخير اللفظ بإصابته للمعنى ، وإيقاع اللفظ في جرسه الموسيقى وفي موافقته لما قبله وما بعده في التركيب. وقد اهتم القرآن الكريم بهذه العناصر الفنية ، فحرص على موسيقى اللفظ وسحر العبارة ، وإصابة المعنى ، فكانت اللفظة المفردة عنده متميزة بقيمتها الجمالية ، ومفهومها البنائي في دلالات شتى ، تشمل مختلف الدلالات اللفظية ، صوتية كانت أو اجتماعية أو إيحائية أو هامشية ، وكلها ذات علاقة وثيقة بفهم من يستخرجها. فإذا تم استخراجها ، بقيت مسألة ترجمتها ، فهل

١٢٧

يتوافر المترجمون على استنباط هذه الخصوصيات؟ هذا ما يخالجنا فيه الشك؟ وهل تتحقق ترجمتها على أصولها في جرسها ونغمها حتى مع القدرة على اكتشافها؟ هذا ما سنتناوله في جزئيات تطبيقية فيما يلي :

١ ـ قال تعالى : ( ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ ) (١). فاللفظة متشاكسون تعبر لغة عن المخاصمة والعناد والجدل في أخذ ورد لا يستقران ، وقد تعطي بعض معناها الكلمة ( متخاصمون ) ولكن القرآن لم يستعملها وفاء بالدلالة الصوتية التي جمعت بين حروف الأسنان والشفة في التاء والشين والسين تعاقبا تتخللهما الألف والكاف فأعطت هذه الحروف نغما موسيقيا خاصا حملها أكثر من معنى الخصومة والجدل والنقاش بما أكسبها من أزير في الأذن يبلغ به السامع بأن الخصام قد بلغ درجة الفورة والعنف من جهة ، كما أحاطها بوقع شديد يؤثر في الحس والوجدان من جهة أخرى. ولدى ترجمتها إلى الانجليزية مثلا. فإنها تتردد بين تركيبين يدلان على المخاصمة والمشاكسة.

فالمخاصمة تترجم : To disPute

والمشاكسة تترجم : ILL TemPered

ولا دلالة صوتية لهما ، ولا تلمس جرسا موسيقيا بهما كما في لغة الأصل.

٢ ـ واللفظة ( صفوان ) من قوله تعالى : ( كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ ) (٢).

تعطي صورة الحجر المتكلس الذي يجتمع من ذرات متراكمة غير قابلة للانفصال ، فهو يتماسك ويتصلد بعد أن يخالطه التراب المهيل من هنا وهناك ، فيباكره تقاطر المطر ، وتدافع السيول فبدلا من أن يهش ويلين ويتفتت ، وإذا به يعود كتلة حجرية واحدة صلبا لا ينفذ ومتحجرا لا ينقد ، ولا تحقق لنا الترجمة الدلالة الفصيحة المركزية لهذا اللفظ بكل محتوياتها.

__________________

(١) الزمر : ٢٩.

(٢) البقرة : ٢٦٤.

١٢٨

فالحجر بالانجليزية يترجم إلى :.Stone

وتحجر واستحجر يترجم إلى : T petri F Y

٣ ـ وكلمة « مشكاة » في قوله تعالى : ( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (١) ذات دلالة خاصة بها ، وقد اختارها القرآن دون الكلمات الأخرى التي تفقد فيها مميزات لفظ المشكاة بخاصة ، وترجمتها لا تعطي دقائق المشكاة بما فيها من دلالة وبهاء وجمال ، وتبادر ذهني عميق وقد لا يوجد مماثلها في اللغة المترجم إليها ، مما يعني أن البديل لها يفقد الكلمة كل خصائصها الجمالية في الموروث البلاغي للقرآن.

٤ ـ قد نجد كثيرا من الألفاظ في استعمالاتها القرآنية تشكل مشكلة لا يستهان بها في ذاتية الترجمة ، فبعضها لا يمكن ترجمتها بل توضع على حالتها إذ لا يقابلها في اللغة المترجم إليها ما يدل على حرفيتها ، وبعضها لا تفي الترجمة بمعناها الاصطلاحي الدقيق ، فمن الأول أسماء الاعلام كافة ، فالتقيد الحرفي بها يوحي بضرورة كتابة نصها كما هو. وقد يصاحب ذلك فقدان البديل المناسب.

فالمستشرق الانجليزي بكثال في ترجمته لا يستعمل ( God ) لله تعالى بل يستعمل لفظة الله نفسها ، لأن كلمة ( God ) لا تدل على المفهوم الكامل والمدلولات الشاملة لما في كلمة الله (٢).

ومن الثاني جملة الألفاظ ذات المدلول الشرعي كالصلاة والتيمم والوضوء والغسل والسجود والركوع والصوم والحج والسعي والزكاة وأمثال هذه الألفاظ التي ان ترجمت لغويا فقدت دلالتها الشرعية.

وهناك قسم ثالث هو المدلول الاستعاري للكلمة والذي لا تفي به

__________________

(١) النور : ٣٥.

(٢) ظ : الندوى ، ترجمات معاني القرآن الكريم : ٧٥.

١٢٩

الترجمة كالاستعارة والتمثيل والكناية فهي إنما يتحقق معناها بالمفهوم المجازي المستعملة فيه ، ولا يتحقق هذا المفهوم إلا بمعرفة معنى المعنى أو المعنى الثانوي المستفاد من طبيعة الاستعمال المجازي ليتم التفريق بين الاستعمالين ، وفي ضوئه يصار إلى الترجمة بعد التوصل إلى إرادته الاستعمالية في القرآن لا سيما في الاستعارة التي عبر عنها عبد القاهر الجرجاني ( ت : ٤٧١ ه‍ ) « انك تثبت بها معنى لا يعرف السامع ذلك المعنى من اللفظ ، ولكنه يعرفه من معنى اللفظ » (١).

٥ ـ وما يشترط في مخارج الكلمة المفردة العربية ، وهو : أن يكون تأليف تلك اللفظة من حروف متباعدة المخارج (٢). ولا يمكن تحقيقه في الترجمة لألفاظ القرآن ، إذ تتعرض الألفاظ المترجمة لهذا النقص في أغلب الصيغ وقد يكون اللفظ القرآني سهلا ومرنا في فصاحته وليس الأمر كذلك في ترجمته ، سواء أكان ذلك في تركيب الحروف أم كان في جرسها وصداها الخارجي.

أما ما اشترطه علماء البلاغة بكون الكلمة معتدلة « غير كثيرة الحروف فإنها متى زادت على الأمثلة المعتادة المعروفة قبحت وخرجت عن وجه الفصاحة » (٣) فأمر غير متيسر إطلاقا في الترجمة العادية فضلا عن الترجمة القرآنية ، إذ قد تترجم اللفظة القليلة الحروف بما يعادلها معنى في لفظ كثير الحروف. وتأسيسا على ما تقدم فإن فصاحة الكلمة وسلامة مخارجها ، ومناسبة حروفها ، من مشكلات الترجمة التي لا يمكن تلافيها بعامة.

٦ ـ وقد تكون اللفظة في القرآن من الأضداد ، تصدق على المعنى وضده ، كما هي الحال في القرء من قوله تعالى : ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨) ) (٤).

__________________

(١) الجرجاني ، دلائل الإعجاز : ٣١٠.

(٢) ابن سنان ، سر الفصاحة : ٦٦٥.

(٣) المصدر نفسه : ٩٥.

(٤) البقرة : ٢٢٨.

١٣٠

في دلالتها على الطهر والحيض ، وكما في ( عسعس ) من قوله تعالى : ( وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) ) (١) في إرادة المتقابلين منها في معنى : اقبل تارة وادبر تارة أخرى.

وفي هذه الحالة قد لا تتوافر في اللغة المترجم إليها اللفظة التي تعطي المعنى وضده ، وما يقال في مجال الأضداد قد يصدق أحيانا في وجوه المشترك والمترادف والوجوه والنظائر لألفاظ القرآن الكريم.

٧ ـ وقد تكون اللفظة ذات دلالة قرآنية خاصة ومتميزة ، كالإشارة في القرآن بأكثر من مائة مرة إلى الكتاب المرتبط بعملية التنزيل والإنزال والوحي الإلهي ، وليس الحال كذلك في ترجمتها إلى الانجليزية بلفظ قد يعني استعمالا ساذجا لا دلالة إيحائية معه ، فهو يصدق على كل كتاب دون خصوصية في ذلك اللفظ الانجليزي : Book وقد تنبه بعض المترجمين إلى هذا الملحظ الدقيق فأولوه عناية خاصة بحدود ، فالأستاذ محمد أسد في ترجمته لمعنى الكتاب يضع التعبير التالي Divine writ أي الاعلام السماوي أو الإلهي (٢).

ويقول الأستاذ عبد الله يوسف علي ، وقد ترجم القرآن إلى الانجليزية أن كلمة رب ، في ( رَبِّ الْعالَمِينَ ) (٣) هي ( Lord ) أي المالك عند عموم المترجمين ، وتطلق هذه الكلمة على الإله والمسيح كما هو في قاموس اكسفورد ، وقاموس بريطانيا الكبير ، وعند ما يراد بها الله تعالى يسبقها ضمير المتكلم المنفصل أو حرف النداء ، أما كلمة رب العربية القرآنية فهي أعم من هذا المدلول وأشمل ، ومعناها الملكية التامة مع الرعاية والتعهد للمربوب.

وقد اختار بدلا من ذلك كلمتين قد تفيان بالجزء الأكبر من المعنى وهما : sustainer Cherisher -.

وتتضمن الأولى معنى التعهد مع الرعاية والحنان. وتعني الثانية :

__________________

(١) التكوير : ١٧.

(٢) ظ : الندوى ، ترجمات معاني القرآن : ٥٨٨.

(٣) الفاتحة : ٢.

١٣١

الكفالة بجميع مرافق الحياة اللازمة للإنسان (١).

٨ ـ وهناك ألفاظ في القرآن لا تجد مفهومها متكاملا في ألفاظ من لغة أخرى ، فيختار لها ما هو المقارب أو المناسب كما في كلمة « الغيب » المترجمة إلى الانجليزية بكلمة : Unseen.

أي غير المرئي. كما اختار ذلك جملة من المترجمين في حين لا تدل الكلمة الانجليزية هذه على المفهوم الشامل المتكامل لمعنى الغيب وهنا نجد الأستاذ محمد أسد يختار تعبيرا مفصلا هو :

Whichis Be yond The Reach of Human PercePtion

أي ما هو فوق مبلغ الحواس البشرية.

وكذلك ذهب الجمهور من المترجمين إلى ترجمة المتقي بتعبير Good ـ Fearing أي مخافة الله ، أو الخائف من الله ، ولكن محمد أسد ينفرد بتعبير آخر مقابل هذه الكلمة وهو : The Good Concious أي المراقب لله بضميره.

وفي الوقت الذي يحافظ فيه على هذا المستوى نجده يترجم كلمة الآية بكلمة Meage أي الرسالة والطاغوت بتعبير Forces of Evil أي قوى الشر ، كما يفسر لفظ الجن في سورة الأعراف Invisile Being بمعنى الوجود غير المرئي (٢).

وهي تصرفات في الألفاظ إلى معان قد لا تطابقها تماما.

٩ ـ يلاحظ عند بعض المترجمين تعمد الابتعاد عن المعنى الدقيق للترجمة أو التفسير غير المطابق للألفاظ دلالة ومعنى ، مما يخرج الكلام عن دائرته اللغوية والبلاغية بوقت واحد ، فالمستشرق الانجليزي الأستاذ روديل عند ترجمته لقوله تعالى : ( أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) ) (٣) يؤكد أن العبد هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكنه يعقب على ذلك أن الذين آمنوا بالشريعة

__________________

(١) عبد الله يوسف علي ترجمة معاني القرآن : ١ / ١٤.

(٢) الندوى ، ترجمات معاني القرآن : ٩٠ وما بعدها+ محمد أسد ترجمة القرآن : ٢٤٨.

(٣) العلق : ٩ ـ ١٠.

١٣٢

الإسلامية كان أكثرهم مماليك (١).

وهذا التعبير ذو شقين : الأول لا مانع فيه ، والثاني لا يعضده دليل نصي أو تاريخي ، فلم يكن شيوخ المهاجرين والأنصار وأهل البيت عليهم سلام ، وهم أتباع محمد صلّى الله وعليه وله وسلّم مماليك ، وفي هذا الضوء يضع كلمة Slave بمعنى المملوك أو الرقيق ترجمة لذلك ، مع أن الترجمة المتعارفة لذلك هي Servant وإن اختار بعضهم Bond man أي العبد الخاضع ، وهما أدق في الترجمة مما وضع ، و Slave لا نقاش في صحتها ، لو لا توهم الرقية ، فتخرج بذلك عن الدقة ، إذ ليس المراد في القرآن الإشارة إلى الرق إنما المراد جنس العبد بالنسبة إلى الله تعالى حتى وإن كان محمدا صلى الله وعليه وله وسلّم وإلا فالارقاء والأحرار كلهم على حد سواء عبيد الله تعالى ، وإرادة الرقية من الكلمة خلاف الإرادة البلاغية في التعبير القرآني الموحية بأن هذا الإنسان الحر القادر المتصرف هو في واقعه عبدا لله تعالى.

١٠ ـ وفي كثير من الأحيان قد تقابل اللفظة العربية في القرآن لفظة في اللغة المترجم إليها ولكن دلالتها متعددة الجوانب ، والمراد بها أكثر من معنى مستفاد ، كما يبدو ذلك من استقراء القواميس الأجنبية ، ولا التقاء بين أكثر هذه المعاني دلالة ، وهنا تكمن الحيرة عند المترجم في استيفاء المعنى وتحديده ، فقد يضطر إلى استعمال البديل المقارب للمعنى إذا أدرك تشتت المعنى في اللفظة الأولى.

وقد تتقابل اللفظة القرآنية الواحدة ، بألفاظ متعددة متشابكة في اللغة المترجم إليها فهي من قبيل المترادفات ، وهنا يتوافر الذوق البلاغي على اختيار أمس الألفاظ صلة ، وأشدها أسرا باللغة القرآنية.

فالمترجم في الحالة الأولى يعاني من مشكلة تحديد اللفظ ، وفي الحالة الثانية يعاني من مراعاة موافقة الأولى مناسبة للنص. وهنا يتضح أن اختيار اللفظ المناسب في الترجمة ازاء المعنى المناسب من مشكلات الترجمة البلاغية إلى جانب إيجاد اللفظ في اللغة المترجم إليها ، إذ قد لا

__________________

(١) الندوى ترجمات معاني القرآن : ٤٢ ، وانظر مصدره.

١٣٣

يتأتى في جملة من الأحوال ، وبمثل هذه الحالة يلجأ المترجم إلى اختيار اللفظ الملائم بعد تجربة صلاحيته للمعنى المراد ، وفي هذا الاختيار تتجلى الذائقة الفنية والمقدرة البلاغية للمترجم ، وتجاه هذا الملحظ تجب العناية بموقع اللفظة المختارة فنيا وبلاغيا لأن دلالة اللفظة على المعنى في نقلها إليه شرط أساسي ، والإيجاز الملائم لطبيعة النص دليل على أصالة الترجمة.

ب ـ التركيب الجملي :

أصالة التركيب الجملي في التعبير القرآني ، من أولى دلائل الإعجاز البلاغي للقرآن ، فعند رعاية القرآن لسلامة اللفظ ، وعنايته بجودة المعنى ، تبدو دقائق التراكيب ، وملامح التناسق ، وتدافع الصور البيانية بما يمثل ظاهرة فنية تعنى بالعلاقات القائمة بين الألفاظ والمعاني لهذا يرى ابن الأثير ( ت : ٦٣٧ ه‍ ) أن التركيب الجملي هو الذي يميز خصيصة الألفاظ من حيث قيمتها وعلوها ، وهو الآمر الذي انفرد بأصول تركيبة القرآن الكريم فقال :

« ألا ترى أن ألفاظ القرآن الكريم من حيث انفرادها قد استعملها العرب ومن بعدهم ، ومع ذلك فإنه يفوق جميع كلامهم ويعلو عليه وليس ذلك إلا لفضيلة التركيب » (١).

وما سبق بيانه فيما يتعلق بمشكلات الألفاظ المنفردة عند الترجمة يصدق في كثير من تطبيقاته على الألفاظ المركبة حين تعود جملا ذات دلالة معينة ، وتعود القضية معقدة حين تفقد الترجمة أصالة المعنى المراد بحيثياته وجزئياته كافة.

وعلى سبيل المثال لا الحصر نطرح النماذج القرآنية التالية :

١ ـ في قوله تعالى : ( هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ

__________________

(١) ابن الأثير ، المثل السائر : ١ / ٢١٣.

١٣٤

الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) (١).

بالنسبة للزوجات ، لا أعلم مترجما قد حقق مراد القرآن في ذلك ، إذ قد ترتبط الترجمة بمادية الألفاظ دون التوصل إلى حقيقة الاستعمال المجازي في رصانته التعبيرية ، ودلالته الإيحائية مما يؤكد ما أورده عبد القاهر الجرجاني ( ت : ٤٧١ ه‍ ) : « ان الألفاظ تثبت لها الفضيلة وخلافها في ملائمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها أو ما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظ » (٢).

وهذا ظاهر في دلالة الآية القرآنية إذ يلازمها من الفهم الكنائي ما لا تعلق له بصريح اللفظ لهذا كان التفطن للمعنى المراد من الألفاظ حالة تركيبها ضروريا لأداء المهمة البيانية لأي تعبير لا يوحي لفظه بالمعاني المترتبة عليه ، وأنى لمترجمي القرآن إلى اللغات الأجنبية الوفاء بهذا الملحظ الدقيق الذي يعني أن يستفيد المترجم إفادة معنوية خاصة من التركيب الجملي للألفاظ في استخراج معنى المعنى ، واستكناه العلاقة الفنية القائمة بين الألفاظ والمعاني للتوصل إلى المعاني الثانوية التي لا ينطق بها اللفظ بذاته دون الضمائم الأخرى.

٢ ـ وفي مسألة التقديم والتأخير بالنسبة للتركيب الجملي في القرآن تكون الإحاطة بأصول التركيب ضرورة ملحة في الترجمة ، فبملاحظة قوله تعالى : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤) ) (٣).

نجد الكلام قد حمل على التقديم والتأخير من أجل تنزيه يوسف عليه‌السلام مما يفتأت عليه « ويكون التقدير : ولقد همت به ولو لا أن رأى برهان ربه لهمّ بها ، وكما رأى برهان ربه لم يهم بها » (٤).

__________________

(١) البقرة : ١٨٧.

(٢) الجرجاني ، دلائل الإعجاز : ٣٨.

(٣) يوسف : ٢٤.

(٤) الطبرسي ، مجمع البيان : ٣ / ٢٢٤.

١٣٥

والمترجم لهذا النص قد لا ينتبه إلى فنية الآية بلاغيا ، فيترجمها متسلسلة عادة ، وفي ذلك فساد للمعنى ، إذا كان المعنى كما سبق بيانه.

٣ ـ وفي الاستعمال الاستعماري لقوله تعالى : ( وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ ) (١).

تبدو مشكلة الترجمة لهذا التعبير شبه مستحيلة لما فيه من حمل اللفظ الحقيقي على المجاز وما يشتمل عليه في جزئياته من بعد استعاري حققته دلالة التركيب بخصائص عدة طرحتها اللغة القرآنية من خلال عمقها البلاغي في إرادتها فوق ما يعطيه لفظ : الشرب ، القلب ، العجل والترجمة بذات النص قد لا تفي بذات الدلالة ، وهي قضية ترتبط بعلمي المعاني والبيان في تتبع خواص التركيب من جهة علم المعاني ، وفي ارتباطها بالاستعمالات المجازية والاستعمارية والتشبيهية من علم البيان.

٤ ـ ان التركيب البياني في قوله تعالى : ( فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) ) (٢).

يقتضي في الترجمة الالتفات إلى التمييز بين الحقيقة والمجاز في كل من : الأبواب ، السماء ، عيونا. كما يقتضي التفريق بين الفتح لأبواب السماء ، والتفجير للأرض عيونا ، وبين استعمال الأبواب في موقع المفعول ، والعيون في موقع التمييز ، ولما ذا لم يعكس الاستعمال أو لم يتوافق في الحالتين ، كأن يكون تمييزا في الموقعين ، أو مفعولا في الموضعين وفي الاغماض عن هذا الترتيب ، والتغافل عن هذا التركيب ، تكون الترجمة عبثا من الوجهة البلاغية ، ومهما أوتي المترجم من سعة مدارك ، وقوة تعبير : وإحاطة بالمفردات ، فإنه سيكون قاصرا أمام التعبير عن هذا التركيب ، وفي هذه الحالة لا يكون القصور تقصيرا بل هو طبيعي ازاء الجمال البياني في القرآن لتعذر وسائل نقله.

٥ ـ وفي قوله تعالى : ( وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ) (٣) يقف المترجم حائرا

__________________

(١) البقرة : ٩٣.

(٢) القمر : ١١ ـ ١٢.

(٣) مريم : ٤.

١٣٦

ازاء الاستعارة في هذا الجزء من الآية ، واستفادة المعنى المراد منها في استنباط القدر الجامع بين المستعار منه والمستعار له ، وفي التماس الشبه الحسي بينهما ، مما يجعل الترجمة غير قادرة على كشف هذه المميزات وسبر أغوارها.

وما يقال هنا يقال بالنسبة للاستعارة التخييلية في قوله تعالى :

( وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ) (١).

فهذا التركيب ينظر له من جهتين ، الأولى : الألفاظ ودلالتها منفردة. والثانية دلالة هذه الألفاظ منضمة إلى بعضها ، لإدراك حقيقة الاستعارة من الألفاظ ذاتها بربط بعضها من بعض ، لأن الألفاظ منثورة تلتبس بين الاستعمال الحقيقي والمجازي ، وبتركيبها الجملي تبرز دلالتها المحددة في الاستعمال.

ومن هنا يبدو أن تحديد الغرض الأصلي والفرعي من هذه المركبات الجملية إنما يتميز من خلال التركيب نفسه ، وهذا التركيب يجب الوفاء به في الترجمة ، وهو ما يعسر تطبيقه ، وشواهد القرآن على هذا لا تحصى ، ومعالمه لا تستقصى.

ان الذي يهمنا في بحث التركيب الجملي عند الترجمة هو المحافظة على الأداء الذي يعطي المعاني والأغراض والإشارات متكاملة وهذا ما لم نجده في ترجمة ما على وجه اليقين.

ج ـ النظم والسياق القرآني :

يقول أبو سليمان الخطابي ( ت : ٣٣٨ ه‍ ) :

« وأما رسوم النظم فالحاجة إلى الثقافة والحذق فيها أكثر ، لأنها لجام الألفاظ وزمام المعاني وبه تنتظم أجزاء الكلام ، ويلتئم بعضه ببعض فتقدم له صورة في النفس يتشكل بها البيان (٢).

__________________

(١) الإسراء : ٢٤.

(٢) الخطابي ، بيان إعجاز القرآن : ٣٦.

١٣٧

وذلك أن الالتفات إلى ربط أشتات الكلام بعضها ببعض ، وعلاقة اللفظ بالمعنى ، والمعنى بالسياق ، وتعلق كل كلمة بما بعدها ، وارتباطها بما قبلها ، والصورة التي تستنبط من اقتران الألفاظ بالمعاني كل أولئك ضروري في تحقيق فكرة النّظم ، إذ لا يبدو النص متكاملا في الألفاظ ما لم يضف إليه علاقتها بالمعاني ، وانتظام كل من الألفاظ والمعاني بالسياق العام ، وما ينطوي عليه النص من فنون تتفاوت معرفتها في حالات القول في الإسناد أو الشرط أو الاستفهام أو الاستدراك ، أو الخبر أو الإنشاء ، أو الفصل أو الوصل ، أو الحذف أو الإضمار ، أو التقديم أو التأخير. والإحاطة بصنوف هذه الأجزاء بديهي التوافر في مقتضيات الترجمة الفنية في نص عميق الأصالة كالقرآن الكريم يقول عبد القاهر الجرجاني ( ت : ٤٧١ ه‍ ) وهو يتحدث عن التلاؤم بين الألفاظ ، والترابط في السياق القرآني لقوله تعالى :

( وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤) ) (١).

« فتجلى لك الإعجاز ، وبهرك الذي ترى وتسمع أنك لم تجد ما وجدت من المزية الظاهرة والفضيلة القاهرة إلا لأمر يرجع إلى ارتباط هذه الكلم بعضها ببعض ، وإن لم يظهر الحسن والشرف إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية والثالثة بالرابعة : وهكذا إلى أن تستقر بها إلى آخرها ، وأن الفضل نتائج ما بينها ، وحصل من مجموعها » (٢).

وعبد القاهر يؤكد على جانب التناسق الفني بين ربط الألفاظ بعضها ببعض ، والاتساق في النظم والسياق عند جلاء صورة الكلام وفضيلته.

ومهمة العناية بالنظم القرآني عند الترجمة مهمة شاقة ومضنية ، فالقرآن معجز بحسب ترتيبه ونظم آياته كما يرى الرازي (٣).

والكشف عن هذا الإعجاز في الترجمة متعذر التحقيق ، وتطبيقه على

__________________

(١) هود : ٤٤.

(٢) الجرجاني ، دلائل الإعجاز : ٣٦.

(٣) الرازي ، مفاتيح الغيب : ٧ / ١٣٨.

١٣٨

مواطن النظم يدعو إلى ترصد ناحية ذات أهمية خاصة اقتضها حكمة النظم القرآني ، وهي تعدد الموضوعات في السورة الواحدة ، ومع ذلك نجد السورة لا تفقد وحدتها الموضوعية. واستيفاء هذا الملحظ لا تستطيعه أية ترجمة ، لأن هذه الطريقة قد انفرد بها القرآن الكريم ولا نظير لها في النصوص الأدبية الأخرى إذ تعتمد النصوص وحدة الموضوع عادة دون الدخول بتفصيلات مماثلة ، بينما يحافظ القرآن على وحدة الموضوع ليربطه بموضوع آخر دون تصادم في الأفكار ، أو تجاوز للتجانس الموضوعي ، حتى في السور ذات الموضوعات المتعددة ، إذ أنها تتحد في التخطيط ضمن إطار الأسلوب الواحد المتدرج في الانتقال إلى جزئيات أخرى ، يحتل كل منها موقعه في نظام السورة مما يشكل تنوعا في المفردات ، تتجمع في ظل هيئة تركيبية موحدة ، وتصل في النهاية إلى ترتيب جديد في العرض والأسلوب والمعالجة ، والترجمة على حذقها قد لا تحيط خبرا بهذه الملابسات التكوينية للسور ، فتجيء مرتبكة مبعثرة لا يربطها خط رئيسي كما في النص القرآني.

يقول فخر الدين الرازي ( ت : ٦٠٦ ه‍ ) :

« اعلم أن عادة الله في ترتيب هذا الكتاب الكريم وقع على أحسن الوجوه ، وهو أن يذكر شيئا من الأحكام ثم يذكر عقيبه آيات كثيرة في الوعد والوعيد والترغيب والترهيب. ويخلط بها آيات دالة على كبرياء الله وجلال قدرته وعظمة إلهيته ، ثم يعود مرة أخرى إلى بيان الأحكام ، وهذا أحسن أنواع الترتيب وأقربها إلى التأثير في القلوب ، لأن التكليف الشاق لا يقع في موقع القبول إلا عند القطع بغاية كمال من صدر عنه الوعد والوعيد ، فظهر أن هذا الترتيب أحسن الترتيبات اللائقة إلى الدين الحق » (١).

ان هذه الظاهرة الفريدة تدعونا بجدية إلى ملاحظة أن الترابط بين أوائل السور وأوساطها وأواخرها ذو رؤية مدركة في بيان حسن النظم

__________________

(١) الرازي ، مفاتيح الغيب : ١١ / ٦١.

١٣٩

وترتيب السياق في القرآن ، وهي عملية مقصودة بذاتها وليست كيفما اتفق بل تجري وفق تخطيط دقيق كفيل بإيضاح تعلق الآيات بالموضوعات والموضوعات بالسور ، وذلك كاف في الدلالة على الاتصال المباشر بين جزئيات السورة الواحدة ، بل وبين عبارات الآية الواحدة ، ورصد هذا الترابط في النظم بحاجة إلى إحساس بلاغي عميق في موضع البيان كافة لاستجلاء خصائص البناء القرآني في جميع أبعاده المتشعبة.

لهذا يبدو أن الترجمة لا تكون دقيقة حتى إذا كانت على وجه التفسير وبذلك لا تعود ذات قيمة بلاغية لفقدانها الكثير من مواقع التعبير القرآني بصلاته السابقة واللاحقة في منظور النظم والسياق.

وهناك مضافا إلى ما سبق بيانه من مشكلات النظم القرآني وطبيعته التركيبية ما نلمس معه بعض التصرفات غير الأمينة في جملة من الترجمات ينطبع أثرها على السياق والنظم ، منها ما لم يقصد إليه ولكنه اجتهاد خاطئ ، ومنها ما قصد إليه عمدا بغية تغيير المفاهيم ، وتحديد شمولية القرآن الكريم فمن القسم الأول ما وقع به عبد الله يوسف علي في ترجمته الانجليزية للقرآن ، فقد لوحظ أن المترجم قد يبيح لنفسه تقديم كلمة في التركيب وتأخير أخرى ، حتى وإن أدى ذلك إلى تغيير المعنى وتجاوز النظم. ففي قوله تعالى :

( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) ) (١).

يترجمها كالآتي :

To those F ear god، Without doubt ، initisg uidan eesure ؛ This is the Book (٢)

ومعناها : هذا هو الكتاب ، فيه هداية قطعية من دون شك للذين يخافون الله.

__________________

(١) البقرة : ٢.

(٢) عبد الله يوسف علي ، ترجمة معاني القرآن : ١ / ١٧+ الندوى ترجمات معاني القرآن الكريم : ٨.

١٤٠