المستشرقون والدّراسات القرآنيّة

الدكتور محمد حسين علي الصّغير

المستشرقون والدّراسات القرآنيّة

المؤلف:

الدكتور محمد حسين علي الصّغير


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المؤرّخ العربي
الطبعة: ١
الصفحات: ١٨٤

ينظره المسلم نصا مقدسا ، ولا يمكن أن نتطلب من مستشرق أن يرى القرآن بعين المسلمين ، فلا نحمله أكثر من مهمته الأكاديمية ، فقد يتهاون بعض المستشرقين بأقدس جانب من القرآن ولا يراه تهاونا ، وقد يقصر في عرض وجهة نظر دقيقة ولا يجده تقصيرا ، وقد يطنب في نواح لا تستدعي اهتماما جديا في نظرنا ، ومع ذلك رأينا البعض الآخر يعامل القرآن معاملة تفوق معاملته للتوراة والانجيل وان كان يهوديا أو مسيحيا ، معتبرا القرآن من المقدسات الإلهية الكبرى ، كما هي الحال عند المتورعين من المسلمين.

وفي هذا الضوء يجب أن يكون الباحث منصفا في التقويم والجرح والتعديل ، ولا يتطلب من الحركة الاستشراقية أكثر مما تدعيه هي لنفسها ، أو أمرن مما تسمح به لها الطقوس الدينية المتداولة ، وهذا لا يعني أن نغض طرفا عن الأخطاء الطائلة إن وجدت ، أو النزاعات المتطرفة ان كشفت ، ولا نتستر على النيات المشبوهة الأحكام ، ولا نقف موقف المتسامح من القرار اللاموضوعي ، ولكن علينا أن لا نتمحّل فنتصور المستشرقين أتقياء بررة ، فنحملهم أكثر من طاقاتهم المتعارفة ، ولا نتغطرس فنجعلهم مثالا للأنانية ، فهم بشر ، والبشر فيه الصالح والطالح ، وهم ملتزمون بعقائد معينة ، قد يصاحب التزامهم هوى ، وقد تفرض النفوس الموضوعية.

إن الفهم الاستشراقي للقرآن قد يختلف أحيانا عن فهمنا له ، لأسباب متأصلة ، تمليها ظروف نفسية أو اجتماعية أو اقتصادية ، وقد تمليها نزعات عدائية حينا ، وتبشيرية حينا آخر ، وهنا يكمن الخطر المتفاقم إذ قد يشذّ المستشرق في هذه الأحوال عن الصواب ، وهنا يعامل النص العلمي بمنظور اليقظة والحيطة والحذر إذ قد يتجنى على العلم والحق.

وقد يختلف أحيانا عن فهمنا له ، لهموم علمية وأكاديمية تعتبر أجدى نفعا عندهم وأكثر تحصيلا مما هي عندنا.

وقد يختلف أحيانا عن فهمنا له لأنهم لا ينظرون إلى القرآن نظرة تقديس نظرتهم إلى التوراة والإنجيل ، فيكون التقصير مفروضا من داخل النفس الاستشراقية.

١٠١

وقد يختلف أحيانا عن فهمنا له لأنهم يرون أن القرآن كتاب ثقافي حضاري يدرس من هذا الجانب ، ولا يعالج منه ما له صلة بالوحي أو الغيب ، وإذا عولج هذا الجانب فقد يعالج معالجة من لا إيمان له به ، ولا ركون إليه ، وهي قضية أخرى.

٢ ـ التوثيق من ينابيعه الأولى :

لمسنا فيما سبق أن الطابع العام لدى المستشرقين العلميين هو الدقة والضبط وهما يشكلان الركن الأساسي في الجهد الاستشراقي ، وفي هذا الضوء وجدنا العناية فائقة بأصول القرآن تدوينا وكتابة وفهرسة وتحقيقا ونشرا وترجمة وتعقيبا باعتبار ذلك جميعا من الينابيع الأولى لتوثيق النص القرآني والمحافظة عليه من الضياع ، ولقد كانت مقررات المجمع العلمي البافاري في ميونيخ بجمع المصادر الخاصة بالقرآن الكريم ، وضبط قراءاته المختلفة ، وعهدته بذلك إلى الأستاذ ( براجشترايسر ١٨٨٦ م ـ ١٩٣٣ م ) ومن بعده إلى المستشرق الألماني ( أوتو بريتزل ) أستاذ اللغة العربية في جامعة ميونخ (١).

فقد وجدنا بريتزل متفتح الأفق ، جدي المبادرة ، عملي التنفيذ فكان أول ما بدأ به أن بعث بخطاب إلى المجمع العلمي العربي في دمشق يقول في جملة منه تحقيقا للمشروع الذي عهد لسلفه : ( براجشتراسر ) : « ولقد نوينا تسهيلا لمحبي الاطلاع أن ندون كل آية من القرآن الكريم في لوحة خاصة تحوي مختلف الرسم الذي وقفنا عليه في مختلف المصاحف مع بيان القراءات المختلف الرسم الذي وقفنا عليه في مختلف المصاحف مع بيان القراءات المتخلفة التي عثرنا عليها في المتون المتنوعة ؛ ومتبوعة بالتفاسير العديدة التي ظهرت على مدى العصور وتوالي القرون (٢).

وحينما انجلت المهمة عن طبع العديد من الآثار القرآنية لعلماء العرب والمسلمين لم يكتف بريتزيل عند هذا الحد بل أتحفنا برسالة فريدة « في تأريخ علم القرآن باللغة الألمانية وهي تحتوي على أسماء المؤلفات

__________________

(١) ظ : فيما سبق : التحقيق والفهرسة والتدوين.

(٢) الزنجاني ، تأريخ القرآن : ١٢.

١٠٢

في علم القرآن الموجودة في الآفاق ودور الكتب في العالم (١).

وغير غريب بعد هذا أن نشاهد تحقيق : أسرار التأويل وأنوار التنزيل للبيضاوي ، والكشاف للزمخشري ، والاتقان للسيوطي وكتاب المصاحف للسجستاني ، ومقدمتان في علوم القرآن على أيدي مستشرقين آخرين ، وهي كتب مهمة في التفسير وعلوم القرآن ، نشدانا لتوثيق هذه النصوص الثمينة.

وقد سبق أن سردنا عشرات الكتب المحققة في موضوعها من البحث ولا حاجة إلى إعادة ذكرها.

ومع نفاسة هذه النوعية من الجهود ، إلاّ أننا نقف معجبين بما أسداه المستشرق الألماني الأستاذ ( جوستاف فلوجل ١٨٠٢ م ـ ١٨٧٠ م ) حينما ألف أول معجم مفهرس للقرآن في اللغة العربية ، عني بألفاظ القرآن ومفرداته وأسماه : ( نجوم الفرقان في أطراف القرآن ) وطبع لأول مرة في ليبزك ( ١٨٤٢ م ).

وهو عمل إحصائي أبجدي دقي اعتمد عليه محمد فؤاد عبد الباقي في موضوع ( المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم ).

وقد استفاد المستشرق الألماني مالير ( ١٨٥٧ م ـ ١٩٤٥ م ) من عمل فلوجل فألف في ضوئه ( دليل القرآن ) وزاد عليه أن اشتمل على حروف الجر والعطف وأضرابها ، وطبع للمرة الثانية في باريس ١٩٢٥ م.

وإن عجبنا بما حققه فلوجل ومالير فهو ليس بأقل من عجبنا بما قام به المستشرق الفرنسي ( جول لا بوم ) حينما وضع ( تفصيل آيات القرآن الكريم ) باللغة الفرنسية ، وذلك بترتيب الآيات الخاصة بالموضوع الواحد في فصل واحد ، فصنف القرآن نجوما بحسب موضوعاته ثم جمعها موضوعا فكان عمله هذا فريدا وإن لم يكن شاملا لموضوعات القرآن كافة ، أو لم يستوعب آيات كل موضوع إلى جانبه ، بل ندّ عنه النزر حينا ، والكثير حينا آخر.

__________________

(١) المرجع نفسه : ١٣.

١٠٣

وفي هذا الاتجاه نجد المستشرق الأمريكي : تشارلز تواري ( المولود ١٨٦٣ م ) ينشر بحثا قيما عن مفردات القرآن في مجلة عالم الإسلام ، ( ١٩٣٩ م ) ، أفاد به كثيرا مما حققه الراغب الأصبهاني ( ت ٥٠٢ ه‍ ) في المفردات في غريب القرآن.

ولقد قام المستشرق الانكليزي ستوري ( المولود ١٨٨٨ م ) بوضع فهرس إحصائي دقيق بأدب القرآن لمكتبة ديوان الهند في لندن في ( ٤٥ صفحة ) وطبع في كمبردج ( عاد ١٩٣٠ م ).

أما بحث الأستاذ ( براجشتر ايسر ) الذي رقّي به إلى مرتبة الأستاذية ( عام ١٩١٢ م ) فقد كان عبارة عن معجم إحصائي لقرّاء القرآن الكريم مع تراجمهم. وهو نوع من التوثيق والضبط قاربه المستشرق الألماني ( هو سلايتر ) حينما وضع فهرسا لتفسير الطبري (١).

ولقد كانت العناية بالتوثيق ، والدقة في رصد أبعاده متناهية حينما نشر المستشرق الأمريكي ( كورما رازومي ١٨٧٧ م ـ ١٩٤٧ م ) موضوعا قيّما بعنوان ( صحائف القرآن ) ، تجده في نشرة المتحف الفني في بوسطن ، ١٩٢٠ م. حقق فيه عدد صحائف القرآن الكريم (٢).

وقد قدمت المستشرقة الروسية ( فيراتشكو فسكايا ولدت ١٨٨٤ م ) بحثا أصيلا عن نوادر مخطوطات القرآن في القرن السادس عشر الميلادي أثنى عليه كثيرا الأستاذ أمين الخولي في مؤتمر المستشرقين الدولي الخامس والعشرين (٣).

ولقد شاء المستشرقون أن يفهموا النصوص القرآنية عن كثب ، فعمدوا إلى ترجمة القرآن الكريم إلى اللغات العالمية الحية ، فكانت الترجمات اللاتينية والإيطالية والألمانية والفرنسية والانكليزية والسويدية والهولندية والهندية وغيرها ، مشتملة على جهود مضنية قاسى منها المستشرقون متاعب

__________________

(١) ظ : فيما سبق : الفصل الثالث ، الفهرسة : فقرة رقم ٢.

(٢) ظ : فيما سبق : الفصل الثالث ، التدوين.

(٣) ظ : أمين الخولي ، مجلة الشبان المسلمين ، عدد ديسمبر.

١٠٤

جسيمة لا يطيقها الكثير من الباحثين المسلمين ، إذ ليس أمرا يسيرا أن يتفرغ فرد أو جماعات لغتهم الأم غير العربية إلى ترجمة نص عربي فريد ، يكمن في تعبيره الحس الاستعماري إلى جنب البعد التشبيهي ، والتعبير المجازي بسوية الإرادة الحقيقية من القول ، هذا مضافا إلى تداخل الأشباه والنظائر والمترادفات في الألفاظ ، ووجود التضاد والاشتراك في المادة الواحدة. مما يعني تمرسا دقيقا في فنون القول ، وعناء شاقا في اضطلاع اللغة والبيان ودلالة الألفاظ.

وقد كانت هذه الجهود المتقدمة مجتمعة سبيلا إلى توثيق نصوص القرآن ومعاينتها بمنظور عصري متميز من ينابيعها الأولى.

٣ ـ استقراء المجهول :

ولا شك أن هدفا أساسيا يحدو بالمستشرقين إلى خوض عباب القرآن ، والغوص في أعماق كنوزه ، ألا وهو استقراء المجهول ، واستكشاف الحقائق ، ولا يكون هذا الملحظ إلا علميا أصابوا الهدف أم أخطئوه. وقد كان مضمار هذا الارتياد السبق إلى المعرفة ، بالتأكيد على الجزئيات الأولية ، التي تمهد في الوصول للكليات الرئيسية ، فكان عملهم كالمقدمات الضرورية التي تنتهي إلى نتائج ضرورية ، فيما يقدرون لا فيما نقدر ، إذ قد نوافقهم حينا ونختلف معهم حينا آخر فيما قرروا من استنتاج.

ومهما يكن من أمر ، فقد سلكوا إلى تحقيق هذه الخطوة اتجاها عمليا أصيلا بالتأكيد على دراسة القرآن موضوعا ، موضوعا ، ولم يتناولوا بطبيعة الحال كل موضوعات القرآن ، بل اكتفوا بالبعض منها ، مما يسهل بحثه ، أو تتوافر مصادره ، أو يخلص إلى حصيلة مثمرة ، والحق أن هذا الاتجاه يعني الاستقصاء والاستيعاب الشامل ، ويتطلب القيام بعملية إحصائية في ذات الموضوع المراد بحثه. ومع أن الشك يخامرنا في قدرة جملة المستشرقين على تحقيق هذا الغرض ، إلا أننا لمسنا مقدرة فائقة أحيانا عند الطبقة الممتازة منهم ، ممن بدا على بحوثه سيماء الصبر والأناة والتحفز ، فالمشقة الدراسات الاستقرائية تضني الباحثين ، وقد لا يحققون قدرا يعتد به من النجاح إلا بعد سنين من التمحيص وعناء الاستنباط.

١٠٥

ولقد كان في إصدار الأحكام مصاحبا لجمهرة من الباحثين بعض الأحيان ، والارتجال ديدنا للبعض الآخر منهم ، وهذا نتيجة طبيعية لأمزجة المستشرقين المتأرجحة بين السطحية والموضوعية ، ومع هذا فقد تجنبنا الاسفاف فيما قدمنا لهم من بحوث قد يكون البعض منها مرضيا والآخر متهافتا ، ولا يعني هذا الغض من المنزلة العلمية من جهة ، أو إسدال الستار على الأخطاء من جهة ثانية ، فكان كل على سبيله.

لقد لمسنا في الفصل الخاص عن الدراسات الموضوعية التي بحثها المستشرقون جهدا لا ينتقض ، ومثابرة لا تجحد ، ففي مجال العقائد والديانات وضعنا أيدينا على بحوث قيمة في التشريع القرآني ، والمقارنة بين القرآن والكتب السماوية ، والعلاقات العامة بين الديانات وكان أبرز من أكد على هذا الجانب المستشرق الهولندي ( فث ١٨١٤ م ـ ١٨٩٥ م ) إذ واكب حديثه عن ذلك في خمسة بحوث تتعلق بالرسول الأعظم والقرآن الكريم ، وقد نشرها تباعا في مجلة الدليل الهولندية.

وقد كشف المستشرق الألماني الأستاذ ( بوشتارك ) عن العلاقة بين الإسلام واليهودية والنصرانية في أبحاث قيمة (١).

وكان التأكيد على علاقة الإسلام بالمسيحية مثار بحوث متعددة عند ولكر وآرنس وبوركهارت وريتشارد بل (٢).

ومن الطّريف حقا أن يرى ( يوزف كورت زولفرنك ) إشارات إلى صيغ تشريعية عربية قديمة في القرآن ، وأن يكشف ( اليونوره هونز ) عن إشارات قرآنية إلى الثقافة المادية للعرب القدماء ، وأن يتحدث ( فان جنيب ) عن إبراهيم عليه‌السلام في القرآن حديثا أكاديميا راقيا (٣).

وفي الحديث عن الفن القصصي في القرآن المشتمل على بيان الأحوال والطقوس والمفارقات للأمم الماضية ، وأهداف القصص الديني

__________________

(١) ظ : فيما سبق : الفصل الرابع : فقرة رقم ٥.

(٢) ظ : فيما سبق : الفصل الرابع ، الفقرات : ٨ ، ١٣ ، ١٦.

(٣) ظ : فيما سبق : الفصل الرابع ، الفقرات : ٩ ، ١٠ ، ١٢.

١٠٦

واختلافه عن القصص الدنيوي أدركنا المستشرق الألماني ( هورفيتش ) يبدي كثيرا من الملاحظات الدقيقة والمعلومات الصائبة في معالجة النصوص القصصية في القرآن الكريم ، ويكشف عن الجانب التأريخي القصص الأنبياء والأولياء والصالحين وعلاقة ذلك كله بمبدإ النبوة في القرآن.

وغير غريب أن نلمس الجانب الصوفي والمناخ الروحي في قصص الهجادة في القرآن ، ومصادر القصص الإسلامية وقصص الأنبياء في القرآن ، وقصص أهل الكتاب ، وأهل الكهف في القرآن ، وعناصر هذه القصص ورجالها وأدوارها (١).

ولقد كانت الموضوعية أكثر شيوعا في الأبحاث اللغوية الأصلية ، وقد كشف الأستاذ ( فرانكيل ) في رسالته للدكتوراه ( الكلمات الأجنبية في القرآن ) عمقا جديدا في مراحل فقه اللغة العربية ، وأثر القرآن الكريم في تطوير المفهوم اللغوي منذ مراحله الأولى ، وقد جدد هذا الفهم الأستاذ ( كاله ) في بحثه القرآن والعربية ، و ( بيكر ) في قواعد لغة القرآن في دراسات ( نولدكه ).

وكان لبلاغة القرآن نصيبها المحدود في دراسات المستشرقين ومما ينوه به ما بحثه الأستاذ ( بول ) في التشبيه والتمثيل في القرآن ، ( ربسون ) في الإعجاز في القرآن ، و ( ستانتون ) في بيان القرآن ، و ( كريستنس ) في سحر الآيات القرآنية (٢).

وفيما عدا هذه الأبواب ، لاحظنا عن كثب جمهرة لا يستهان بها من الدراسات المتنوعة لعدة جوانب من القرآن في كتابته ، وتدوينه ، وروايته ، وجمعه ، وفواصله ، ومصادره ، ومنتخباته ، وتفسيره ، ومتشابهه ، وقوانينه ، وتلاوته ، وقراءاته ، ولهجاته ، ... إلخ.

ان نقد هذه الدراسات وتقويمها ، يحتاج إلى توافر على مصادرها ومراجعها ، وهي بلغات متعددة ، ولا يتيسر أغلبها إلا في جامعات الغرب

__________________

(١) ظ : فيما سبق : الفصل الرابع : الفن القصصي.

(٢) ظ : فيما سبق : الفصل الرابع : بلاغة القرآن.

١٠٧

ومكتباته ، وما أفدنا منه كان نتيجة إمعان في بعضها ، وقراءة عن البعض الآخر ، ورواية لا ندري نصيبها من الصحة ، إلا أننا على العموم نكاد نقطع أن هذه الدراسات والقيم منها بخاصة قد شارك مشاركة فاعلة في إرساء صرح الحضارة القرآنية ، وأبان عن خباياها الثمينة ، وكشف عن وجهها الناصع.

لقد لمسنا فيما مضى دقّة ومرونة ، دقّة في الاستقراء ، ومرونة في الاستنباط والذي يعنينا بيانه : هو الجدية في العمل عند هؤلاء المستشرقين ، والمثابرة والصبر على البحث الصادق ، مما يدعونا إلى القول بعظيم ما حققوه من إنجاز ، وكبير ما قدّموه من عطاء.

١٠٨

الفصل السابع الأبعاد

الفنية لترجمة القرآن

ومشكلاتها البلاغية عند المستشرقين

١٠٩
١١٠

ترجمة القرآن الكريم

أبعادها الفنية ومشكلاتها البلاغية

هذا بحث يتكفل بطرح قضيتين من قضايا ترجمة القرآن الكريم هما :

الأبعاد الفنية والمشكلات البلاغية.

وتتناول دراستنا للقضية الأولى شذرات من الأبعاد الفنية للترجمة القرآنية تدور حول أقسام الترجمة وأجزائها ، وتشير إلى الضروري من آدابها وشروطها ، وتلخص بإيجاز أهميتها وقيمتها الفنية.

وتتألف القضية الثانية من مجموعة المشكلات البلاغية التي تعترض سبيل الترجمة القرآنية في اللفظ والمعنى والنظم القرآني ، حاولنا بتواضع الكشف عن مواطنها ، والتعقيب على مصاعبها ، وانتهينا إلى استحالة الترجمة الدقيقة للقرآن ، ورجحنا أن يكون ما تواضعوا عليه باسم ترجمة القرآن أو ترجمة معاني القرآن ، ينبغي أن يسمى ترجمة مفاهيم القرآن ، دون الخوض في مشكلة الألفاظ ودلالالتها ، أو استقصاء المعاني في إرادتها ، أو استيعاب النظم وسلامة البناء ، فكانت الحصيلة تقويما لظاهرة الترجمة القرآنية ، وتحقيقا لما ينبغي أن تكون عليه في ضوء تعاليم القرآن العامة ، استثناء من التّقيّد بالحرفية في النص أو الشمولية في المعنى أو الصورة في النظم ، مما يعني رفض المحاولات الساذجة في التسمية غير الدقيقة ، أو التطبيق اللافني ، لأن القرآن متعبد بتلاوته في لغته نصا ، مما يؤكد خروج أية ترجمة من الحد الأدنى للقرآنية ، ولأن القرآن معجز بألفاظه ومعانيه ،

١١١

ولا تصح صيغة الإعجاز إلا بوجه من عربيته ، فإذا انتفت عربيته انتفى إعجازه ، ولم يعد قرآنا في شتى صنوف الترجمات. نعم تبقى مفاهيمه قابلة للترجمة ، وأحكامه متسعة للنقل ، وفاء بعالمية القرآن وإنسانيته ، فالقرآن وإن كان عربي النص إلا أنه عالمي الدلالة ، وهو وإن كان إنساني الرسالة إلا أنه عربي العبارة وللتوفيق بين هاتين النظرتين الشموليتين ، كانت ترجمة مفاهيمه كافية لتحقيق الغرض الفني ، وإذا التقى الغرض الديني بالغرض الفني في نص من النصوص بلغ الذروة في الهدف ، وقد كان القرآن كذلك.

وأزاء عرض هاتين القضيتين لا بد من الإحاطة ولو جزئيا بمدلول الترجمة والترجمة القرآنية في صدر البحث تمهيدا للدخول في صلب الموضوع.

مدلول الترجمة :

للترجمة دلالتان ، تعنى الأولى بأصل الوضع اللغوي ، وتعنى الثانية بطبيعة المصطلح الفني لها.

ففي اللغة : الترجمة بزنة فعللة ، بيان لغة بلغة أخرى ، واللغة التي تبين لغة أخرى ، وقد ترجم كلامه إذا فسره بلسان آخر ، والترجمان هو المفسر للسان ، وقد ترجمه وعنه إذا فسره بلسان آخر (١).

وتفسير الكلام بلسان آخر أو بلغة أخرى ، يخرج « علم التفسير » لغة واصطلاحا عن مدلول الترجمة ، إذ للتفسير بيان بلغة الأصل ، وهو يعنى بالكشف والبيان والإيضاح لغة ، ويبحث فيه عن القرآن الكريم في دلالته على مراد الله تعالى اصطلاحا (٢). وأما الترجمة فهي بيان بلغة غير الأصل ، وبذلك يزال اللبس بين المصطلحين ، وتبدو استقلالية كل منهما عند الاطلاق.

وأما الترجمة في دلالتها الاصطلاحية ، فهي عبارة عن النقل من لغة

__________________

(١) قارن في الجمع بين هذه التعريفات عند كل من : الفيروزآبادي ، القاموس المحيط : ٤ / ٨٣+ ابن منظور ، لسان العرب : ١٢ / ٢٢٩ + التهانوي ، كشاف اصطلاحات الفنون : ٣ / ٧٧.

(٢) ظ : محمد حسين الصغير ، المبادئ العامة لتفسير القرآن الكريم : ١٤ وما بعدها.

١١٢

إلى لغة أخرى نقلا حرفيا مع التزام الصورة اللفظية للكلمة أو ترتيب العبارة (١).

ويبدو أن المعنى الاصطلاحي للترجمة منحدر من الأصل اللغوي في حدود النقل من لغة إلى أخرى ، إلا أن المدلول اللغوي أوسع منه إذ لا تقييد فيه بالنقل الحرفي أو الصورة اللفظية ، بل هو تيسير ما يفي بمعنى العبارة ، وتفسير النص.

وفي هذا الضوء نميل إلى أن الترجمة في الاصطلاح : هي نقل الكلام من لغته الأصلية إلى لغة أجنبية مع الحفاظ على المعاني والخصائص والإشارات للغة الأولى في اللغة الثانية ، نصيا أو تعبيريا ، بحيث يؤدى المعنى المراد بمميزاته في اللغة الأم.

وبناء على هذا التأسيس فترجمة القرآن تعني : نقل القرآن الكريم من لغته العربية إلى لغة أجنبية مع الوفاء بجميع الدلالات والمعاني والخصائص الفنية للغة العربية حين النقل نصا أو تعبيرا ، بحيث يؤدى المعنى المراد متكاملا بمميزاته الأصلية في لغته الأولى.

وسنرى أن هذا النقل متعذر بخصوصياته بالنسبة للقرآن الكريم ، بحيث تعود معه الترجمة مستحيلة ، عند عرض المشكلات البلاغية للترجمة القرآنية ، بيد أنّا في المستوى التطبيقي قد وجدنا مئات الترجمات للقرآن الكريم ، تختلف في مدى صلاحيتها شدة وضعفا ، ولكل ترجمة طريقتها الخاصة في الأسلوب والبيان أما أنه يصح إطلاق مصطلح الترجمة عليها أو لا يصح ، فهذا ما سنكشف عنه فيما بعد ..

« ثم أن لوحظ في الترجمة ترتيب ألفاظ القرآن فتلك ترجمة القرآن الحرفية ... وان لم يلاحظ فيها هذا الترتيب فتلك ترجمة القرآن التفسيرية أو المعنوية » (٢) وهذا ما يدعونا إلى تفصيل القول في قسيمي الترجمة

__________________

(١) ظ : مرعشلي ، الصحاح في اللغة والعلوم : ١ / ١٣٩+ مجمع اللغة العربية مجموعة المصطلحات العلمية والفنية : ١ / ١٣٩ + مجمع اللغة العربية مجموعة المصطلحات العلمية والفنية : ١٠ / ١٣٢.

(٢) الزرقاني ، مناهل العرفان : ٢ / ٣٩ وما بعدها.

١١٣

القرآنية من خلال استقراء الأبعاد الفنية للترجمة القرآنية.

الأبعاد الفنية :

ترجمة القرآن الكريم على قسمين هما : ترجمة الألفاظ وترجمة المعاني.

أما ترجمة الألفاظ فهي تعنى بوضع لفظ بلغة ما ، مكان لفظ من القرآن ، بغض النظر عن المعاني الأخرى في اللفظ القرآني مما يحتمله في وجوهه المتعددة ، ولكنها تأتي بأقرب المعاني إليه مما يرادفه ويماثله تقريبا أو تحقيقا ، وقد تسمى بالترجمة الحرفية ، وهي التي تحاكي الأصل المترجم في الدلالة ، ويؤخذ عليها في المجال القرآني أنها لا تكون دقيقة عادة ، إذ أن ألفاظ القرآن الكريم يغلب على القسم الأوفر منها : المجاز والاستعارة والكناية والتشبيه والتمثيل. وصنوف الاستعمالات البلاغية الأخرى ، منفردة بذاتها أو منضمة إلى مثيلاتها مما لا تتوافر عليه لغة من اللغات الحية في العالم ، مضافا إلى توارد المترادف والمشترك والمتضاد في جملة من تلك الألفاظ ، مما يعني الفرز المضني لتحقيق المراد من اللفظ ، وهذا مما لا يتأتى بعمومه لأغلب المستعربين والمستشرقين ممن تعاقدوا على دراسة اللغة العربية ، إذ قد يجهلون ـ مع علمهم ـ طائفة من خصائصها الفنية ، وقد لا يدركون شتى مميزاتها البلاغية ، وفي هذا المناخ قد لا تؤدي الترجمة دورها في إعطاء المعنى أو إيضاح المراد ، لأنها قد تخرج ـ والحالة هذه ـ عن الأصل المترجم خروجا فاضحا يفقد معه قيمته وأهميته.

وفي هذا الضوء يرى بعض الباحثين أن ترجمة القرآن : إما أن تكون ترجمة بالمثل ، وإما أن تكون ترجمة بغير المثل. أما الترجمة بالمثل : فمعناها أن يترجم نظم القرآن بلغة أخرى تحاكيه حذوا بحذو بحيث تحل مفردات الترجمة محل مفرداته ، وأسلوبها محل أسلوبه حتى تتحمل الترجمة ما تحمله نظم الأصل من المعاني المقيدة بكيفياتها البلاغية وأحكامها التشريعية ، وهذا أمر غير ممكن بالنسبة لكتاب الله العزيز.

وأما الترجمة بغير المثل فمعناها أن يترجم نظم القرآن حذوا بحذو بقدر طاقة المترجم وما تسعه لغته ، وهذا أمر ممكن ، وهو إن جاز في كلام

١١٤

البشر ، لا يجوز بالنسبة لكتاب الله العزيز ، لأن فيه من فاعله إهدارا لنظم القرآن ، وإخلالا بمعناه (١).

ومن الطبيعي أننا لم نجد مدعيا قد تفوه بترجمة القرآن حرفيا ، وتوخيه نصّيّا لتراكم العقبات في طريقه ، ولاستحالة الإحاطة بالترجمة فعليا ، لذلك يحكم بعض الباحثين أنه « من المستحيل تأدية المعاني المستوحاة من كلمات القرآن الموجزة في الترجمة اللفظية » (٢) وذلك مما لا ريب معه ، إذ لو تحقق ، لكنا قد عمدنا إلى خصائص اللغة القرآنية ومسخنا أصلها إلى صورة أخرى ، تتلاشى معها مميزات القرآن في البلاغة والفن القولي ، ولكانت قضية الإعجاز الثابتة فيه مسألة ثانوية ، وهذا مما لا يتفق مع النهج الموضوعي.

يقول ابن الخطيب : « من المعلوم أن الترجمة الحرفية غير ممكنة وغير ميسورة ، وكذلك الترجمة اللفظية. وذلك لاختلاف الاصطلاحات ، وتشابه مدلول الألفاظ في شتى اللغات. فلم يبق أمامنا سوى ترجمة معاني القرآن ، وهي نفسها تسمى « ترجمة القرآن » لأن المراد من كل مقروء هو معانيه ومراميه. ولأن الألفاظ ان هي إلا ظرف للمعاني ... ولم يرسل الله تعالى لنا القرآن ، إلا لنفهم ما فيه من المعاني ، ونعمل بما جاء به من الأحكام فإذا ترجمت تلك المعاني وهذه الأحكام كانت ولا شك ترجمة صحيحة للقرآن وما جاء به القرآن ، وما أراده منزل القرآن ومن بلغته هذه الترجمة فقد وصلت إليه رسالة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصبح في عداد المنذرين » (٣).

وهذه دعوة صريحة إلى ترجمة معاني القرآن دون ألفاظه ، وهو دون شك يقصد إلى المفاهيم لا المعاني المكثفة.

وأما ترجمة المعاني : فهي عبارة عن تفسير موجز للقرآن الكريم بسبيل إعطاء معانيه في لغة ما بحيث يحافظ فيه على أصل المعنى ، ويعتمد فيها على مدى ثقافة المترجم ، وسعة استيعابه واستقصائه ، فهي تعنى

__________________

(١) الذهبي ، التفسير والمفسرون : ١ / ٢٤ وما بعدها.

(٢) الندوي ، ترجمات معاني القرآن الكريم : ١٩.

(٣) ابن الخطيب ، الفرقان : ٢٣١ وما بعدها.

١١٥

بمدلول الآيات القرآنية دون النظر بموافقة أصل الألفاظ حرفيا للمعنى المراد ، بل العكس هو الصحيح ، وهو تقريب المعاني العامة للمدلول القرآني دون الاعتماد على اللفظ المعين الوارد في القرآن الكريم ، وبذلك تكون الترجمة في هذا اللحاظ أقرب إلى الواقع العملي. لهذا نرى المحترزين من المستشرقين قد أدركوا هذه الحقيقة ومالوا إليها فالأستاذ : ج أربري رئيس قسم الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة كمبردج ، حينما ترجم القرآن اسمى ترجمته : القرآن مفسرا ، أو القرآن المعبر عنه : وصورة عنوان ترجمته هكذا : The Koran Interted وقد نظر في ذلك إلى هذه الحقيقة.

ويبدو أن أغلب ترجمات المستشرقين للقرآن هي ترجمات للمعاني في أحسن الأحوال ، إذ من الصعوبة فنيا وبلاغيا الترجمة الحرفية ، التي يستحيل أداؤها تطبيقيا ، لأنها تحتاج ـ على فرض إمكانها ـ إلى باع متمرس بمجازات القرآن وإيجازاته ، مما يحرجهم ويضيق عليهم أفاق الترجمة ، والأمر أشد من ذلك إذ تصاحبهم استحالة الترجمة النصية للقرآن بالنظر لإعجازه ، واستحالته هنا عقلية ضرورية من خلال وجهة نظر المسلمين أجمع ، وبملاحظة بلاغته في المفردات والجمل والتركيب والآيات ـ فضلا عن النظم والأسلوب والسياق ـ فالاستحالة عملية لأنها غير ممكنة صناعة ، بما سنلمسه عند بحث المشكلات البلاغية فيما بعد.

وتسمى ترجمة المعاني عند الذهبي بالترجمة التفسيرية للقرآن ، لأنها عبارة عن شرح الكلام ، وبيان معناه بلغة أخرى بدون محافظة على نظم الأصل وترتيبه (١).

ويميل بعض الباحثين إلى تسمية هذه الترجمة باسم : ترجمة تفسير القرآن ، أو تفسير القرآن بلغة كذا ، ولا يجوز أن تسمى ترجمة معاني القرآن ، لأن الترجمة لا تضاف إلا إلى الألفاظ ولأن هذه التسمية توهم أنها ترجمة للقرآن نفسه. وهو وجه لا يخلو من دقة وضبط حدود (٢).

__________________

(١) الذهبي ، التفسير والمفسرون : ١ / ٢٧.

(٢) ظ : الزرقاني ، مناهل العرفان : ٢ / ٣.

١١٦

ومن خلال استقرائنا للترجمات القرآنية بهذا المنظور لدى المستشرقين وجدناها على نوعين هما : الترجمة الكلية والترجمة الجزئية.

أما الترجمة الكلية ، فهي التي تشمل القرآن عموما ابتداء من سورة الفاتحة وانتهاء بسورة الناس ، أو بحسب ترتيب النزول عند البعض ولكنها تستقطب جميع مفردات القرآن.

وأما الترجمة الجزئية فهي التي تعتمد على مختارات مترجمة من القرآن ، بحسب الموضوعات أو السور أو الأجزاء (١).

ولا تترك أية ترجمة للقرآن ـ أنى كانت طريقتها ـ على عواهنها ، ولا بدلها من شروط احترازية تساعد على الاطمئنان إليها ، والاعتماد عليها.

وهذه الشروط منها ما يعود على المترجم ومنها ما يعود على الترجمة. أما المترجم ، فمن البديهي أن يكون متمرسا في اللغتين لغة النص ولغة الترجمة. ليؤدي مهمته من خلال معرفة علمية ، وذائقة فنية ، تنظر في اللفظ ودلالته ، والأسلوب وسلامته ، والتركيب وتناسقه مضافا إلى توافر الهدف العلمي النابع من أصالة موضوعية ، لا تميل إلى هوى ، ولا تجنح إلى عاطفة ، فإذا استقام هذان الجانبان جاءت الترجمة سليمة الأبعاد.

يقول بعض الدارسين « إن الترجمة الفنية لكي تكون عملا ناجحا مثمرا ، ونشاطا ثقافيا مجديا ، لا بد لها من مترجم له الصلاحية التامة من الناحية اللغوية والفنية. والتكوين اللغوي يتنوع بتنوع اللغات ، والتكوين الفني يتنوع بتنوع المادة العلمية أو الأدبية التي تتناولها الكتب أو تعالجها المقالات والبحوث » (٢).

وأما الترجمة ، فمن الضروري أن يشار إليها في مصادرها الأولى بحيث تعتبر مستمدة من أصل القرآن ، ومقررة في شرائع الإسلام. بالإضافة إلى فصلها عن النص القرآني ليكون كل على شاكلته أصلا قائما بذاته ، وفرعا متعقبا لذلك الأصل.

__________________

(١) ظ : المؤلف المستشرقون والدراسات القرآنية ، الفصل الثاني.

(٢) محمد عوض محمد ، فن الترجمة : ١٩.

١١٧

وكاختبار لسلامة الترجمة القرآنية وجودة أدائها ، هو رد الترجمة إلى أصلها العربي ، فكلما كانت الإعادة متقاربة مع الأصل كانت الترجمة أقرب إلى الدقة ، وكلما اختلف النص المعاد ، كانت الترجمة أبعد عن الضبط وفي ضوء هذا المنظور يتوافر الحكم على الترجمة ومدى صلاحيتها.

وقد أفاض بعض الباحثين في هذه الآداب والاعتبارات يرجع إليها في طلب التفصيل وزيادة الإيضاح (١).

ان الترجمة حركة إنسانية عالمية ، تعنى بنقل الفنون والآداب بين الأمم ، لا تحدها حدود ولا تمنعها قيود ، سعيا وراء المعرفة واستقراء المجهول ، فالعلوم والمعارف جميعا لا تعرف وطنا تستقر فيه ولا تؤمن بالقيود الإقليمية التي يفرضها علم الاجتماع على الحياة ... فهي تنتقل من ذهن إلى ذهن غير غائبة بعقبة اللغة ، وتتداعى لها العقول أيا كانت المذاهب والعقائد التي يدين بها أهل العلم والمعرفة ، فالعلم إنساني عام والمعرفة شاملة.

وهذا الطابع الإنساني البشري الشامل الذي يميز العلم والمعارف قد اقتضى أن يكون بين اللسان واللسان تفاهم وتجاوب : ... وهذا ما حمل المترجمين عبئا ثقيلا ، لأنه طالبهم بأن ينقلوا إلى لغة العالم الحية كل خطوة من خطى العلم مهما ضؤل شأنها ، وكل كشف يهتدي إليه عالم ولو كان لسانه لهجة دارجة من مئاب اللهجات الصينية ، وكل ظاهرة طبيعية يرصدها راصد ولو كان أبكم اللسان (٢).

والقرآن الكريم ذو طابع إنساني عام ، وهو وان كان عربي العبارة إلا أنه عالمي الرسالة ولا بد للإنسانية أن تتفاعل معه ، وللعالم أن يتداعى إليه ، ولا سبيل إلى ذلك ، إلا بنشر معالم هذا الكتاب ، ولا طريق إلى نشره إلا الترجمة في إطارها الموضوعي ، لأنها تطل على العالم بنوع من أنواع الثقافة العليا لتخترق بها حواجز البيئات التي حجبت معارفها بأسوار

__________________

(١) ظ : الذهبي ، التفسير والمفسرون : ١ / ٢٩+ الزرقاني ، مناهل العرفان : ٢ / ٩.

(٢) وديع فلسطين ، مقومات الترجمة الصحيحة ، مجلة المجمع العلمي العربي ، يناير ١٩٦٢ م.

١١٨

الأنانية. قال ابن الخطيب : « إن الواجب على العلماء وعلى سائر الناطقين بالضاد أن يبادروا إلى تبليغ القرآن للأمم التي لم يصلها نوره ، ولم ترتق بتعاليمه ، لتتم بذلك رسالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ أنه أرسل إلى الخلق كافة ، ولم يرسل إلى العرب خاصة ، ولما كان هذا التبليغ لا يتم إلا بترجمة هذا « النور » إلى الأقوام المراد هدايتهم وجب على الأمة الإسلامية عامة ، وعلمائها خاصة القيام بمهمة ترجمة القرآن إلى سائر اللغات الذائعة الشائعة » (١).

وقد يرد على هذا أن القرآن إذا كان كذلك فهلا نزل بلغات متعددة لتبلّغ به كل أمة بلغتها ، أما وقد نزل بالعربية فهو حجة للعرب دون سواهم ، وقد تكفّل الزمخشري ( ت : ٥٣٨ ه‍ ) بالرد على هذا الافتراض فقال : « فإن قلت : لم يبعث رسول الله إلى العرب وحدهم وإنما بعث إلى الناس جميعا ، بل إلى الثقلين وهم ألسنة مختلفة ، فإن لم تكن للعرب حجة فلغيرهم الحجة وإن لم تكن لغيرهم حجة ، فلو نزل بالعجمية لم تكن للعرب حجة أيضا قلت : لا يخلو أن ينزل بجميع الألسنة أو بواحد منها ، فلا حاجة إلى نزوله بجميع الألسنة لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفي التطويل ، فبقي أن ينزل بلسان واحد ، فكان أولى الألسنة لسان قوم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنهم أقرب إليه ، فإذا فهموا عنه وتبينوه وتنوقل عنهم وانتشر ، قامت التراجم ببيانه وتفهمه .. ولأنه لو أنزل بألسنة الثقلين كلها مع اختلافها وكثرتها وكان مستقلا بصفة الإعجاز في كل واحد منها وكلم الرسول العربي كل أمة بلسانها كما كلم أمته التي هو منها ، يتلوه عليهم معجزا ، لكان ذلك أمرا قريبا من الالجاء » (٢).

وقد تناول ابن حجر العسقلاني ( ت : ٨٥٢ ه‍ ) مجابهة هذه الشبهة ، وأحال حلها إلى الترجمة فقال :

« إن الوحي متلوا وغير متلو ، إنما نزل بلغة العرب ، ولا يرد على هذا كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد بعث إلى الناس كافة ، عربا وعجما وغيرهم ، لأن اللسان الذي

__________________

(١) ابن الخطيب ، الفرقان : ١٧٠.

(٢) الزمخشري ، الكشاف : ٣ / ٣٦٦.

١١٩

نزل به الوحي عربي ، وهو يبلغه إلى طوائف العرب ، وهم يترجمونه لغير العرب بألسنتهم » (١).

ومن هنا تبدو أهمية الترجمة القرآنية لأنها مستمدة من أهمية القرآن نفسه ، فالقرآن كتاب هداية وتشريع يتسم بصيغته الشمولية ، فهو يتخطى المناخ الجغرافي والتاريخي والإقليمي بحياة الإنسانية ، ليلقي بتعاليمه إلى الناس كافة ، وينفذ برنامجه في هداية البشر وتشريع الأحكام وكلما ضقنا بحدود ترجمة مفاهيمه ذرعا ، وحاولنا الوقوف بمسيرتها ، كلما قمنا بتحديد مهمة القرآن في رسالته ، وقيدنا وظيفته دون مسوغ.

قال الخوئي : لقد بعث الله نبيه لهداية الناس معزّزة بالقرآن ، وفيه كل ما يسعدهم ويرقى بهم إلى مراتب الكمال ، وهذا لطف من الله لا يختص بقوم دون قوم بل يعم البشر عامة. وقد شاءت حكمته البالغة أن ينزل قرآنه العظيم على نبيه بلسان قومه ، مع أن تعاليمه عامة وهدايته شاملة ولذلك فمن الواجب أن يفهم القرآن كل أحد ليهتدي به.

ولا شك أن ترجمته مما يعين على ذلك ، ولكنه لا بد وأن تتوفر في الترجمة براعة وإحاطة كاملة باللغة التي ينقل منها القرآن إلى غيرها لأن الترجمة مهما كانت متقنة لا تفي بمزايا البلاغة التي امتاز بها القرآن بل ويجري ذلك في كل كلام ، إذ لا يؤمن أن تنتهي الترجمة إلى عكس ما يريد الأصل.

ولا بد ـ إذن ـ في ترجمة القرآن من فهمه ، وينحصر فهمه في أمور ثلاثة :

١ ـ الظهور اللفظي الذي تفهمه العرب الفصحاء.

٢ ـ حكم العقل الفطري السّليم.

٣ ـ ما جاء من المعصوم في تفسيره.

وعلى هذا تتطلب إحاطة المترجم بكل ذلك لينقل منها معنى القرآن

__________________

(١) ظ : ابن الخطيب ، الفرقان : ٢٢٢.

١٢٠