العقائد الإسلاميّة - ج ١

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية

العقائد الإسلاميّة - ج ١

المؤلف:

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-118-4
ISBN الدورة:
964-319-117-6

الصفحات: ٣٧٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

بديهية ، وإن لم يكن كذلك بل كانت متوقفة على علوم سابقة عليها ـ ولا محالة تنتهي إلى البديهيات قطعاً للدور أو التسلسل ـ فهي علوم كسبية . فظهر أن السبب الأول لحدوث هذه المعارف في النفوس الإنسانية هو أنه تعالى أعطى الحواس والقوى الداركة للصور الجزئية . وعندي أن النفس قبل البدن موجودة عالمة بعلوم جمة هي التي ينبغي أن تسمى بالبديهيات ، وإنما لا يظهر آثارها عليها ، حتى إذا قوي وترقى ظهرت آثارها شيئاً فشيئاً . وقد برهنا على هذه المعاني في كتبنا الحكمية فالمراد بقوله : لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا ، أنه لا يظهر أثر العلم عليهم ، ثم إنه بتوسط الحواس الظاهرة والباطنة يكتسب سائر العلوم . ومعنى : لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ، إن تصرفوا كل آلة في ما خلقت لأجله ، وليس الواو للترتيب حتى يلزم من عطف ( جعل ) على ( أخرج ) أن يكون جعل السمع والبصر والأفئدة متأخراً عن الإخراج من البطن .

ـ بحار الأنوار ج ١ ص ٩٣

مص : قال الصادق عليه‌السلام : الجهل صورة ركبت في بني آدم ، إقبالها ظلمة ، وإدبارها نور ، والعبد متقلب معها كتقلب الظل مع الشمس ، ألا ترى إلى الإنسان تارة تجده جاهلاً بخصال نفسه حامداً لها عارفاً بعيبها في غيره ساخطاً ، وتارة تجده عالماً بطباعه ساخطاً لها حامداً لها في غيره ، فهو متقلب بين العصمة والخذلان ، فإن قابلته العصمة أصاب ، وإن قابله الخذلان أخطأ ، ومفتاح الجهل الرضا والإعتقاد به ، ومفتاح العلم الإستبدال مع إصابة موافقة التوفيق ، وأدنى صفة الجاهل دعواه العلم بلا استحقاق ، وأوسطه جهله بالجهل ، وأقصاه جحوده العلم ، وليس شيء إثباته حقيقة نفيه إلا الجهل والدنيا والحرص ، فالكل منهم كواحد ، والواحد منهم كالكل .

وقال في هامشه : وقوله عليه‌السلام : الجهل صورة ركبت . . إلخ . لأن طبيعة الإنسان في أصل فطرتها خالية عن الكمالات الفعلية والعلوم الثابتة ، فكأن الجهل عجن في طينتها وركب مع طبيعتها ، ولكن في أصل فطرته له قوة كسب الكمالات بالعلوم والتَّنَور والمعارف .

٢١
 &

قوله عليه‌السلام : فالكل كواحد ، لعل معناه أن هذه الخصال كخصلة واحدة لتشابه مباديها ، وانبعاث بعضها عن بعض ، وتقوي بعضها ببعض ، كما لا يخفى .

ـ بحار الأنوار ج ١١ ص ١٠

. . . . عن الباقر عليه‌السلام أنه قال : إنهم كانوا قبل نوح أمة واحدة على فطرة الله لا مهتدين ولا ضلالاً ، فبعث الله النبيين . انتهى .

قال المجلسي رحمه‌الله : وعلى هذا فالمعنى أنهم كانوا متعبدين بما في عقولهم غير مهتدين إلى نبوة ولا شريعة .

ـ الإقتصاد للشيخ الطوسي ص ١٠٠

فإن قيل : لو كانت المعرفة لطفاً لما عصى أحد .

قلنا : اللطف لا يوجب الفعل ، وإنما يدعو إليه ويقوي الداعي إليه ويسهله ، فربما وقع عنده الفعل ، وربما يكون معه أقرب وإن لم يقع .

ـ شرح الأسماء الحسنى ج ٢ ص ٨٤

. . . . كما سئل عليه‌السلام : أنحن في أمر فرغ أم في أمر مستأنف ؟ فقال : في أمر فرغ وفي أمر مستأنف ، فالموضوعان السعيد والشقي الأخرويان كما قال تعالى : يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ .

إن قلت : هذا فيما سوى هذا الوجه ينافي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كل مولود يولد على فطرة الإسلام ، إلا أن أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ؟

قلت : كل مولود يولد على الفطرة روحاً وصورة بالجهة النورانية ، والسعيد سعيد في بطن أمه وكذا الشقي جسداً ومادة ، وإذا جعلنا بطن الأم النشاة العلمية فكل مولود يولد على الفطرة وجوداً ، والسعيد سعيد ماهية ومفهوماً ، وكذا الشقي شقي ماهية ومفهوماً ، كل منهما بالحمل الأولي ، ليس فاقداً لنفسه ، وليس مفهوم أحدهما هو المفهوم من الآخر ، فإن المفاهيم من أية نشأة كانت فطرتها وذاتيها الإختلاف ،

٢٢
 &

والوجود أية مرتبة منه ذاته وجبلته الوحدة والإتفاق ، ما به الإمتياز فيه عين ما به الإشتراك ، به استمساك الماهيات التي هي مثار الكثرة والمخالفة ، فهو جهة ارتباطها ونظمها وبه لا انفصام لها .

وبالجملة قد ظهر لك أن اختلاف الوجودات مرتبة في العين ، واختلاف قبول الماهيات لمراتب الوجود المقول بالتشكيك فيه ، على طبق اختلاف الماهيات بحسب المفهوم في العلم . وهذا معنى اختلاف الطينة في الأزل كما هو عن الأئمة عليهم‌السلام مأثور . . . . وهو مقتضى العدل .

ويمكن التوفيق بين هذا القول التحقيقي البرهاني والذوقي الوجداني ، وبين القول بالتسوية في الطينة باعتبار الوجود والماهية ، ولا سيما في مقام الجمع .

ـ شرح الأسماء الحسنى ج ١ ص ٥٤

قال صدر المتألهين : إن الله عز وجل لا يولي أحداً إلا ما تولاه طبعاً وإرادة ، وهذا عدل منه ورحمة . وقد ورد أن الله تعالى خلق الخلق كلهم في ظلمة ثم قال : ليختر كل منكم لنفسه صورة أخلقه عليها ، وهو قوله : خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ، فمنهم من قال رب اخلقني خلقاً قبيحاً أبعد ما يكون في التناسب وأوغله في التنافر ، حتى لا يكون مثلي في القبح والبعد عن الإعتدال أحد ، ومنهم من قال خلاف ذلك ، وكل منهما أحب لنفسه التفرد فإن حب الفردانية فطرة الله السارية في كل الأمم التي تقوم بها وجود كل شئ ، فخلق الله كلاً على ما اختاره لنفسه ، فتحت كل منكر معروف وقبل كل لعنة رحمة وهي الرحمة التي وسعت كل شئ ، فإن الله يولي كلاً ما تولى ، وهو قوله تعالى : وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ . . . نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ، فإن شك في ذلك شاك فليتأمل قوله تعالى : إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا . . الآية ، ليعلم أن الله تعالى لا يحمل أحداً شيئاً قهراً وقسراً ، بل يعرضه أولاً فإن تولاه ولاه وإلا فلا . وهذا من رحمة الله وعدله .

٢٣
 &

لا يقال : ليس تولي الشئ ما تولاه عدلاً حيث لا يكون ذلك التولي عن رشد وبصيرة فإن السفيه قد يختار لنفسه ما هو شر بالنسبة إليه وضر لجهله وسفاهته ، فالعدل والشفقة عليه منعه إياه .

لأنا نقول : هذا التولي والتوجيه الذي كلامنا فيه أمر ذاتي لا يحكم عليه بالخير والشر بل هو قبلهما ، لأن ما يختاره السفيه إنما يعد شراً بالقياس إليه لأنه مناف لذاته بعد وجوده ، فلذاته اقتضاء أول متعلق بنقيض هذه السفاهة ، فذلك هو الذي أوجب أن يسمى ذلك شراً بالقياس إليه .

وأما الإقتضاء الأول الذي كلامنا فيه فلا يمكن وصفه بالشر ، لأنه لم يكن قبله اقتضاء يكون هذا بخلافه فيوصف بأنه شر ، بل هو الإقتضاء الذي جعل الخير خيراً ، لأن الخير لشئ ليس إلا ما يقتضيه ذاته . والتولي الذي كلامنا فيه هو الإستدعاء الذاتي الأزلي والسؤال الوجودي الفطري الذي يسأله الذات المطيعة السامعة لقول كن ، وقوله ليس أمر قسر وقهر ، لأن الله عز وجل غني عن العالمين ، فكأنه قال لربه إئذن لي أن أدخل في عدلك وهو الوجود ، فقال الله تعالى كن .

ـ تفسير الميزان ج ٢ ص ٣٤٦

لكن يمكن أن يقال إن الإنسان بحسب خلقته على نور الفطرة هو نور إجمالي يقبل التفصيل ، وأما بالنسبة إلى المعارف الحقة والأعمال الصالحة تفصيلاً فهو في ظلمة بعد لعدم تبين أمره . والنور والظلمة بهذا المعنى لا يتنافيان ولا يمتنع اجتماعهما ، والمؤمن بإيمانه يخرج من هذه الظلمة إلى نور المعارف والطاعات تفصيلاً ، والكافر بكفره يخرج من نور الفطرة إلى ظلمات الكفر والمعاصي التفصيلية .

والإتيان بالنور مفرداً وبالظلمات جمعاً في قوله تعالى : يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ، وقوله تعالى : يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ، للإشارة إلى أن الحق واحد لا اختلاف فيه كما أن الباطل متشتت مختلف لا وحدة فيه ، قال تعالى : وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ . . . . الأنعام ـ ١٥٣

٢٤
 &

ـ مجموعة الرسائل للشيخ الصافي ٢٤٣

للشيخ المفيد في بحث الإعتقاد بالفطرة رأي آخر غير ما ذهب إليه الشيخ الصدوق ، ولتوضيح ذلك نقول : توجد في باب الإعتقاد بالفطرة وآيات الفطرة وأحاديثها كالحديث ( فطرهم على التوحيد ) أو ( كل مولود يولد على الفطرة ) ثلاثة أوجه :

الوجه الأول : أن المراد من ذلك هو أن الله جعل فطرة الإنسان نقية مقتضية للتوحيد والعقائد الحقة ، وحب الحق والخير والتصديق بحسن العدل وقبح الظلم والنفور عن الباطل والشر ، بحيث لو لم يحجب هذه الفطرة الأمور المخالفة من قبيل التربية فالإنسان بنفسه سيهتدي إلى الله ويقر بوجود الصانع ، كما يتقبل العقائد الحقة عند ما تعرض عليه .

والصدوق فسر الفطرة بهذا المعنى وقد بحثنا بتفصيل في ( رسالتنا ) في تفسير آية الفطرة حول هذا الوجه وكونه موافقاً لأصول العقائد الإسلامية في الفطرة والأحاديث الشريفة التي تدل على هذا المعنى .

الوجه الثاني : أن معنى ( فطر الله الخلق على التوحيد ) فطرهم للتوحيد ، أي خلق الناس للإعتقاد بالتوحيد ، وإلى هذا المعنى ذهب الشيخ الأعظم الشيخ المفيد ، واختاره .

الوجه الثالث : هو أنه عبر عن إرادة التوحيد منهم بالإرادة التكوينية ، والظاهر أن المفيد استظهر من كلام الصدوق هذا الوجه فأجاب عن ذلك بقوله : لو كان الأمر كذلك لكان الجميع موحدين .

وبديهي أنه لو كان الأمر دائراً بين الوجه الثاني والثالث ، فالقول الصحيح والمعتبر هو قول المفيد ( الوجه الثاني ) . لكن بما أننا قلنا بأن الوجه المعتبر المستفاد من الآية والروايات هو القول الأول ، وهو ما اختاره الصدوق ظاهراً ، وفيه رجحان على القول الثاني ظاهراً .

٢٥
 &

الفطرة والميثاق وعالم الذر

ـ تفسير نور الثقلين ج ١ ص ٥٥

ـ في كتاب علل الشرايع بإسناده إلى حبيب قال : حدثني الثقة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إن الله تبارك وتعالى أخذ ميثاق العباد وهم أظلة قبل الميلاد ، فما تعارف من الأرواح ائتلف ، وما تناكر منها اختلف .

ـ وبإسناده إلى حبيب ، عمن رواه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ما تقول في الأرواح إنها جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف ؟ قال فقلت إنا نقول ذلك ، قال : فإنه كذلك ، إن الله عز وجل أخذ من العباد ميثاقهم وهم أظلة قبل الميلاد وهو قوله عز وجل : وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ ، إلى آخر الآية ، قال : فمن أقر به يومئذ جاءت ألفته هاهنا ، ومن أنكره يومئذ جاء خلافه هاهنا .

ـ في كتاب التوحيد بإسناده إلى أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له : أخبرني عن الله عز وجل هل يراه المؤمن يوم القيمة ؟ قال : نعم وقد رأوه قبل يوم القيمة ، فقلت متى ؟ قال : حين قال لهم ألست بربكم قالوا بلى ، ثم سكت ساعة ثم قال : وإن المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيمة ، ألست تراه في وقتك هذا ؟ قال أبو بصير فقلت له : جعلت فداك فأحدث بهذا عنك ؟ فقال : لا ، فإنك إذا حدثت به فأنكره منكر جاهل بمعنى ما تقول ثم قدر أن ذلك تشبيه كفر . وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين ، تعالى الله عما يصفه المشبهون والملحدون .

ـ في الكافي محمد بن يحيى ، عن محمد بن موسى ، عن العباس بن معروف ، عن ابن أبي نجران ، عن عبد الله بن سنان ، عن ابن أبي يعفور ، عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال قال له رجل : كيف سميت الجمعة جمعة ؟ قال : إن الله عز وجل

٢٦
 &

جمع فيها خلقه لولاية محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ووصيه في الميثاق ، فسماه يوم الجمعة لجمعه فيه خلقه .

ـ في غوالي اللئالي ، وقال عليه‌السلام : أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان ، يعني عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم ، وتلا : ألست بربكم ، قالوا بلى .

ـ في الكافي ، أبو علي الأشعري ، عن محمد بن عبد الجبار ، عن صفوان ، عن أبي عميرة ، عن عبد الرحمان الحذاء ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : كان علي بن الحسين عليهما‌السلام لا يرى بالعزل بأساً ، أتقرأ هذه الآية : وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ ، فكل شيء أخذ الله منه الميثاق فهو خارج وإن كان على صخرة صماء .

ـ عن ابن مسكان ، عن بعض أصحابه ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن أمتي عرضت علي في الميثاق ، فكان أول من آمن بي علي عليه‌السلام ، وهو أول من صدقني حين بعثت ، وهو الصديق الأكبر ، والفاروق يفرق بين الحق والباطل .

ـ عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله : أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ ، قالوا بألسنتهم ؟ قال : نعم وقالوا بقلوبهم ، فقلت : وأي شيء كانوا يومئذ ؟ قال : صنع منهم ما اكتفى به .

ـ عن الأصبغ بن نباتة عن علي عليه‌السلام قال : أتاه ابن الكوا فقال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن الله تبارك وتعالى هل كلم أحداً من ولد آدم قبل موسى ؟ فقال علي عليه‌السلام : قد كلم الله جميع خلقه برّهم وفاجرهم وردوا عليه الجواب ، فثقل ذلك علي ابن الكوا ولم يعرفه ، فقال له : كيف كان ذلك يا أمير المؤمنين ؟ فقال له : أو ما تقرأ كتاب الله إذ يقول لنبيه : وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ، فقد أسمعهم كلامه وردوا عليه الجواب ، كما تسمع

٢٧
 &

في قول الله يابن الكوا وقالوا بلى ، فقال لهم : إني أنا الله لا إله إلا أنا ، وأنا الرحمان ، فأقروا له بالطاعة والربوبية ، وميز الرسل والأنبياء والأوصياء ، وأمر الخلق بطاعتهم فأقروا بذلك في الميثاق ، فقال الملائكة عند إقرارهم : شهدنا عليكم يا بني آدم أن تقولوا يوم القيمة إنا كنا عن هذا غافلين .

ـ في الكافي ، محمد بن يحيى وغيره ، عن أحمد عن موسى بن عمر ، عن ابن سنان عن سعيد القماط ، عن بكير بن اعين قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام : لأي علة وضع الله الحجر في الركن الذي هو فيه ولم يضع في غيره ؟ ولأي علة يُقَبَّل ؟ ولأي علة أخرج من الجنة ، ولأي علة وضع ميثاق العباد فيه والعهد فيه ولم يوضع في غيره ، وكيف السبب ذلك ؟ تخبرني جعلني الله فداك فإن تفكري فيه لعجب !

قال فقال : سألت وأعضلت في المسالة واستقصيت ، فافهم الجواب وفرغ قلبك وأصغ سمعك ، أخبرك إن شاء الله ، إن الله تبارك وتعالى وضع الحجر الأسود وهي جوهرة أخرجت من الجنة إلى آدم عليه‌السلام فوضعت في ذلك الركن لعلة الميثاق ، وذلك أنه لما أخذ من بني آدم من ظهورهم ذريتهم حين أخذ الله عليهم الميثاق في ذلك المكان وفي ذلك المكان ترائى لهم ، وفي ذلك المكان يهبط الطير على القائم عليه‌السلام فأول من يبايعه ذلك الطير ، وهو والله جبرئيل عليه‌السلام وإلى ذلك المقام يسند القائم ظهره وهو الحجة والدليل على القائم ، وهو الشاهد لمن وافى في ذلك المكان ، والشاهد على من أدى إليه الميثاق والعهد الذي أخذ الله عز وجل على العباد .

فأما علة ما أخرجه الله من الجنة ، فهل تدري ما كان الحجر ؟ قلت : لا ، قال : كان ملكاً من عظماء الملائكة عند الله فلما أخذ الله من الملائكة الميثاق كان أول من آمن به وأقر ذلك الملك ، فاتخذه لله أميناً على جميع خلقه ، فألقمه الميثاق وأودعه عنده ، واستعبد الخلق أن يجددوا عنده في كل سنة الإقرار بالميثاق والعهد الذي أخذ الله عز وجل عليهم ، ثم جعله الله مع آدم في الجنة يذكره الميثاق ويجدد عنده الإقرار في كل سنة ، فلما عصى آدم أخرج من الجنة أنساه الله العهد والميثاق الذي

٢٨
 &

أخذ الله عليه وعلى ولده لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ولوصيه عليه‌السلام وجعله تائهاً حيراناً ، فلما تاب الله على آدم حول ذلك الملك في صورة بيضاء ، فرماه من الجنة إلى آدم وهو بأرض الهند ، فلما نظر إليه أنس إليه وهو لا يعرفه بأكثر من أنه جوهرة وأنطقه الله عز وجل ، فقال له : يا آدم أتعرفني ؟ قال لا ، قال : أجل استحوذ عليك الشيطان فأنساك ذكر ربك ، ثم تحول إلى صورته التي كان مع آدم عليه‌السلام في الجنة ، فقال لآدم : أين العهد والميثاق ، فوثب إليه آدم عليه‌السلام وذكر الميثاق وبكى وخضع وقبله ، وجدد الإقرار بالعهد والميثاق ، ثم حوله الله عز وجل إلى جوهرة درة بيضاء صافية تضئ ، فحمله آدم على عاتقه إجلالاً له وتعظيماً ، فكان إذا أعيا حمله عنه جبرئيل عليه‌السلام حتى وافى به مكة ، فما زال يأنس به بمكة ويجدد الإقرار له كل يوم وليلة ، ثم إن الله عز وجل لما بنى الكعبة وضع الحجر في ذلك المكان ، لأنه تبارك وتعالى حين أخذ الميثاق من ولد آدم أخذه في ذلك المكان ، وفي ذلك المكان ألقم الله الملك الميثاق ، ولذلك وضع في ذلك الركن وتنحى آدم من مكان البيت إلى الصفا وحوالي المروة ، ووضع الحجر في ذلك الركن ، فلما نظر آدم من الصفا وقد وضع الحجر في الركن كبر الله وهلله ومجده ، فلذلك جرت السنة بالتكبير واستقبال الركن الذي فيه الحجر من الصفا ، فإن الله أودعه الميثاق والعهد دون غيره من الملائكة . . . .

ـ بحار الأنوار ج ٣ ص ٢٧٦

سن : البزنطي عن رفاعة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله : وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ . قال : نعم لله الحجة على جميع خلقه أخذهم يوم أخذ الميثاق هكذا وقبض يده . نعم لله الحجة على جميع خلقه أخذهم يوم أخذ الميثاق ، هكذا وقبض يده .

ـ بحار الأنوار ج ٥ ص ٢٤٤

عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إن الله عز وجل خلق الخلق فخلق من أحب مما أحب ، وكان ما أحب أن خلقه من طينة الجنة ، وخلق من أبغض مما أبغض وكان ما أبغض

٢٩
 &

أن خلقه من طينة النار ، ثم بعثهم في الظلال : فقلت وأي شيء الظلال ؟ فقال : ألم تر إلى ظلك في الشمس شيء وليس بشيء ؟ ثم بعث منهم النبيين فدعوهم إلى الإقرار بالله وهو قوله عز وجل : وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ، ثم دعوهم إلى الإقرار بالنبيين فأنكر بعض وأقر بعض ، ثم دعوهم إلى ولايتنا فأقر بها والله من أحب ، وأنكرها من أبغض ، وهو قوله عز وجل : مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِن قَبْلُ ، ثم قال أبو جعفر عليه‌السلام : كان التكذيب ثَمَّ .

توضيح : قوله عليه‌السلام : في الظلال ، أي عالم الأرواح بناء على أنها أجسام لطيفة ، ويحتمل أن يكون التشبيه للتجرد أيضاً تقريباً إلى الأفهام ، أو عالم المثال على القول به قبل الإنتقال إلى الأبدان .

تذكير الأنبياء بميثاق الفطرة

سمى الله عز وجل القرآن الكريم : الذكر ، ووصف عمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنه تذكير ، واستعمل مادة التذكير في القرآن للتذكير بالله تعالى ، والتذكير باليوم الآخر ، والتذكير بالفطرة والميثاق .

ووصف أمير المؤمنين علي عليه‌السلام عمل الأنبياء عليهم‌السلام بأنه مطالبة للناس بالإنسجام مع ميثاق الفطرة ، قال عليه‌السلام في خطبة طويلة في نهج البلاغة ج ١ ص ٢٣ ، يذكر فيها خلق آدم عليه‌السلام وصفته :

فأهبطه إلى دار البلية ، وتناسل الذرية ، اصطفى سبحانه من ولده أنبياء ، أخذ على الوحي ميثاقهم ، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم ، لما بدل أكثر خلقه عهد الله إليهم فجهلوا حقه واتخذوا الأنداد معه ، واجتالتهم الشياطين عن معرفته ، واقتطعتهم عن عبادته ، فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ، ليستأدوهم ميثاق فطرته ، ويذكروهم منسي نعمته ، ويحتجوا عليهم بالتبليغ ، ويثيروا لهم دفائن العقول ، ويروهم آيات المقدرة من سقف فوقهم مرفوع . . . . إلى آخر الخطبة .

٣٠
 &

وقال الشيخ محمد عبده في شرح قوله عليه‌السلام ليستأدوهم ميثاق فطرته : كأن الله تعالى بما أودع في الإنسان من الغرائز والقوى ، وبما أقام له من الشواهد وأدلة الهدى قد أخذ عليه ميثاقاً بأن يصرف ما أوتي من ذلك فيما خلق له ، وقد كان يعمل على ذلك الميثاق ولا ينقضه لولا ما اعترضه من وساوس الشهوات ، فبعث إليه النبيين ليطلبوا من الناس أداء ذلك الميثاق ، أي ليطالبوهم بما تقتضيه فطرتهم وما ينبغي أن تسوقهم إليه غرائزهم .

دفائن العقول : أنوار العرفان التي تكشف للإنسان أسرار الكائنات ، وترتفع به إلى الإيقان بصانع الموجودات ، وقد يحجب هذه الأنوار غيوم من الأوهام وحجب من الخيال ، فيأتي النبيون لإثارة تلك المعارف الكامنة وإبراز تلك الأسرار الباطنة .

ـ وقال الراغب الإصفهاني في المفردات ص ١٧٩

الذكر : تارة يقال ويراد به هيئة للنفس بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة ، وهو كالحفظ إلا أن الحفظ يقال اعتباراً بإحرازه ، والذكر يقال اعتباراً باستحضاره ، وتارة يقال لحضور الشيء القلب أو القول ، ولذلك قيل الذكر ذكران : ذكر بالقلب وذكر باللسان ، وكل واحد منهما ضربان ، ذكر عن نسيان وذكر لا عن نسيان بل عن إدامة الحفظ . وكل قول يقال له ذكر .

فمن الذكر باللسان قوله تعالى : لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ ، وقوله تعالى : وَهَٰذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ ، وقوله : هَٰذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي ، وقوله : أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا ، أي القرآن ، وقوله تعالى : ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ . . . .

ومن الذكر عن النسيان قوله : فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ .

ومن الذكر بالقلب واللسان معاً قوله تعالى : فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ، وقوله : فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ . . . .

والذكرى : كثرة الذكر وهو أبلغ من الذكر ، قال تعالى : رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ، وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ . . . .

٣١
 &

ـ وقال الراغب أيضاً : الوعظ زجر مقترن بتخويف . قال الخليل : هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب . والعظة والموعظة الإسم ، قال تعالى : يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ، قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم . ذَٰلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ . قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ . . . .

ـ وقال أبو هلال العسكري في الفروق اللغوية ص ١٢١

الفرق بين التذكير والتنبيه : أن قولك ذكر الشئ يقتضي أنه كان عالماً به ثم نسيه فرده إلى ذكره ببعض الأسباب ، وذلك أن الذكر هو العلم الحادث بعد النسيان على ما ذكرنا . ويجوز أن ينبه الرجل على الشئ لم يعرفه قط ، ألا ترى أن الله ينبه على معرفته بالزلازل والصواعق وفيهم من لم يعرفه البتة فيكون ذلك تنبيهاً له كما يكون تنبيهاً لغيره ، ولا يجوز أن يذكره ما لم يعلمه قط . انتهى .

وفيما ذكره اللغويون فوائد ومحال للنظر ، وحاصل المسألة : أنه يصح القول إن تسمية القرآن والدين بالذكر لأنه يدل على ما أودعه الله تعالى في عمق فكر الإنسان ومشاعره من الفطرة على التوحيد ومعرفة الله ، ولكن السبب الأهم أنه يثير ما بقي في ذهنه ووجدانه من نشأته الأولى وحنينه إلى عالم الغيب والآخرة ، وإحساسه بالميثاق الذي أخذ عليه في تلك النشأة .

وقد لاحظت أن الروايات صريحة في أخذ الميثاق على الناس قبل خلقهم في هذه الدنيا ، وهي متواترة في مصادر المسلمين ، ولذا فإن تفسير تذكير الأنبياء لا يصح حصره بتذكير الإنسان بفطرته لكي ينسجم معها ، والتغافل عن التذكير الحقيقي بالميثاق الذي صرحت به الأحاديث الشريفة .

كل مولود يولد على الفطرة

ـ الكافي ج ٢ ص ١٢

. . . . قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كل مولود يولد على الفطرة ، يعني المعرفة بأن الله عز وجل خالقه ، كذلك قوله : وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ .

٣٢
 &

ـ علل الشرائع ج ٢ ص ٣٧٦

أبي رحمه‌الله قال : حدثنا محمد بن يحيى ، عن محمد بن أحمد ، عن سهل بن زياد ، عن علي بن الحكم ، عن فضيل بن عثمان الأعور قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : ما من مولود ولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ، وإنما أعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الذمة وقبل الجزية عن رؤوس أولئك بأعيانهم على أن لا يهودوا ولا ينصروا ولا يمجسوا . فأما الأولاد وأهل الذمة اليوم فلا ذمة لهم ! انتهى . ورواه الصدوق في الفقيه ج ٢ ص ٤٩ وفي التوحيد ص ٣٣٠ وروى المجلسي عدداً من هذه الأحاديث في بحار الأنوار ج ١٠٠ ص ٦٥ ، والعاملي في وسائل الشيعة ج ١١ ص ٩٦

ـ من لا يحضره الفقيه ج ٢ هامش ص ٥٠

وقال الفاضل التفرشي : قوله : إلا على الفطرة ، أي على فطرة الإسلام وخلقته ، أي المولود خلق في نفسه على الخلقة الصحيحة التي لو خلي وطبعه كان مسلماً صحيح الإعتقاد والأفعال ، وإنما يعرض له الفساد من خارج ، فصيرورته يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً إنما هي من قبل أبويه غالباً لأنهما أشد الناس اختلاطاً وتربية له ، ولعل وجه انتفاء ذمتهم أن ذمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم تشملهم ، بل أعطاهم الذمة بسبب أن لا يفسدوا اعتقاد أولادهم ليحتاجوا إلى الذمة . ولم يعطوا الذمة من قبل الأوصياء عليهم‌السلام لعدم تمكنهم في تصرفات الإمامة ، وإنما يعطوها من قبل من ليس له تلك الولاية ، فإذا ظهر الحق وقام القائم عليه‌السلام لم يقروا على ذلك ولا يقبل منهم إلا الإسلام . وأخذ الجزية منهم هذا الزمان من قبيل أخذ الخراج من الأرض ، والمنع عن التعرض لهم باعتبار الأمان . وأما قوله في حديث زرارة الآتي : ذلك إلى الإمام ، فمعناه أنه إذا كان متمكناً ويرى المصلحة في أخذ الجزية منهم كما وقع في زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو لا ينافي انتفاء الذمة عنهم اليوم . انتهى .

٣٣
 &

ـ تفسير التبيان ج ٨ ص ٢٤٧

قال مجاهد : فطرة الله الإسلام ، وقيل فطر الناس عليها ولها وبها بمعنى واحد ، كما يقول القائل لرسوله : بعثتك على هذا ولهذا وبهذا بمعنى واحد . ونصب فطرة الله على المصدر ، وقيل تقديره : اتبع فطرة الله التي فطر الناس عليها ، لأن الله تعالى خلق الخلق للإيمان ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه .

ومعنى الفطر الشق ابتداءً يقولون : أنا فطرت هذا الشيء أي أنا ابتدأته ، والمعنى خلق الله الخلق للتوحيد والإسلام .

ـ بحار الأنوار ج ٣ ص ٢٢

ـ غوالي : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه وينصرانه .

بيان : قال السيد المرتضى رحمه‌الله في كتاب الغرر والدرر بعد نقل بعض التأويلات عن المخالفين في هذا الخبر : والصحيح في تأويله أن قوله يولد على الفطرة ، يحتمل أمرين :

أحدهما : أن تكون الفطرة هاهنا الدين ، ويكون على بمعنى اللام ، فكأنه قال : كل مولود يولد للدين ومن أجل الدين ، لأن الله تعالى لم يخلق من يبلغه مبلغ المكلفين إلا ليعبده فينتفع بعبادته ، يشهد بذلك قوله تعالى : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ . والدليل على أن على تقوم مقام اللام ما حكاه يعقوب بن السكيت عن أبي يزيد عن العرب أنهم يقولون : صف عليَّ كذا وكذا حتى أعرفه ، بمعنى صف لي ، ويقولون : ما أغبطك عليَّ يريدون ما اغبطك لي ، والعرب تقيم بعض الصفات مقام بعض ، وإنما ساغ أن يريد بالفطرة التي هي الخلقة في اللغة الدين من حيث كان هو المقصود بها ، وقد يجري على الشئ اسم ماله به هذا الضرب من التعلق

٣٤
 &

والإختصاص ، وعلى هذا يتأول قوله تعالى : فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ، أراد دين الله الذي خلق الخلق له . وقوله تعالى : لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ أراد به أن ما خلق الله العباد له من العبادة والطاعة ليس مما يتغير ويختلف ، حتى يخلق قوماً للطاعة وآخرين للمعصية . ويجوز أن يريد بذلك الأمر ، وإن كان ظاهره ظاهر الخبر فكأنه قال : لا تبدلوا ما خلقكم الله له من الدين والطاعة بأن تعصوا وتخالفوا .

والوجه الآخر في تأويل قوله عليه‌السلام على الفطرة : أن يكون المراد به الخلقة ، وتكون لفظة ( على ) على ظاهرها لم يرد بها غيره ، ويكون المعنى : كل مولود يولد على الخلقة الدالة على وحدانية الله تعالى وعبادته والإيمان به ، لأنه عز وجل قد صور الخلق وخلقهم على وجه يقتضي النظر فيه معرفته والإيمان به وإن لم ينظروا ويعرفوا ، فكأنه عليه‌السلام قال : كل مخلوق ومولود فهو يدل بخلقته وصورته على عبادة الله تعالى وإن عدل بعضهم فصار يهودياً أو نصرانياً . وهذا الوجه أيضاً يحتمله قوله تعالى : فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا .

وإذا ثبت ما ذكرناه في معنى الفطرة فقوله عليه الصلاة والسلام : حتى يكون أبواه يهودانه وينصرانه ، يحتمل وجهين :

أحدهما : أن من كان يهودياً أو نصرانياً ممن خلقته لعبادتي وديني فإنما جعله أبواه كذلك ، أو من جرى مجراهما ممن أوقع له الشبهة وقلده الضلال عن الدين ، وإنما خص الأبوين لأن الأولاد في الأكثر ينشؤون على مذاهب آبائهم ويألفون أديانهم ونحلهم ، ويكون الغرض بالكلام تنزيه الله تعالى عن ضلال العباد وكفرهم ، وأنه إنما خلقهم للإيمان فصدهم عنه آباؤهم ، أو من جرى مجراهم .

والوجه الآخر : أن يكون معنى يهودانه وينصرانه أي يلحقانه بأحكامهما لأن أطفال أهل الذمة قد ألحق الشرع أحكامهم بأحكامهم ، فكأنه عليه‌السلام قال : لا تتوهموا من حيث لحقت أحكام اليهود والنصارى أطفالهم أنهم خلقوا لدينهم ، بل لم يخلقوا

٣٥
 &

إلا للايمان والدين الصحيح ، لكن آباءهم هم الذين أدخلوهم في أحكامهم ، وعبر عن إدخالهم في أحكامهم بقوله : يهودانه وينصرانه .

*       *

ـ وقال البخاري في صحيحه ج ٢ ص ٩٧

. . . . أن أبا هريرة رضي‌الله‌عنه قال قال رسول الله صلی الله عليه وسلم : ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة ، هل تحسون فيها من جدعاء ، ثم يقول أبو هريرة رضي‌الله‌عنه : فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم .

ـ وقال في ج ٢ ص ١٠٤ :

عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال قال رسول الله صلی الله عليه وسلم : كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ، كمثل البهيمة تنتج البهيمة ، هل ترى فيها جدعاء . انتهى . وروى نحوه في ج ٦ ص ٢٠ وفي ج ٧ ص ٢١١ ورواه أحمد في مسنده ج ٢ ص ٢٣٣ كما في رواية البخاري الأولى . ورواه في ج ٢ ص ٢٧٥ وزاد ( ثم يقول واقرؤوا إن شئتم : فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ) .

ـ وروى أحمد في ج ٢ ص ٢٨٢

عن طاوس عن أبي هريرة أن النبي صلی الله عليه وسلم قال : كل مولود ولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ، مثل الأنعام تنتج صحاحاً فتكوى آذانها . انتهى . وروى نحوه في ج ٢ ص ٣٤٦ وج ٣ ص ٣٥٣ وروى نحوه مسلم في ج ٨ ص ٥٢ وأبو داود في ج٢ ص ٤١٦ والترمذي ج ٣ ص ٣٠٣ والحاكم ج ٢ ص ٣٢٣ وكنز العمال ج ١ ص ٢٦٦ والسيوطي في الدر المنثور ج ٢ ص ٢٢٤ وج ٥ ص ١٥٥ والبيهقي في سننه ج ٦ ص ٢٠٢ وج ٩ ص ١٣٠ ـ وفي شعب الإيمان ج ١ ص ٩٧ عن أبي هريرة ، وروى عنه أيضاً أن رسول الله ( ص )

٣٦
 &

قال : كل إنسان تلده أمه على الفطرة يلكزه الشيطان في حضنيه ، إلا مريم وابنها . انتهى . وهو غريب يشبه مقولات النصارى .

وكل الحيوانات فطرت على معرفة الله تعالى

ـ الكافي ج ٦ ص ٥٣٩

أبو علي الأشعري ، عن محمد بن عبد الجبار ، عن الحجال ، وابن فضال ، عن ثعلبة ، عن يعقوب بن سالم ، عن رجل ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : مهما أبهم على البهائم من شئ فلا يبهم عليها أربعة خصال : معرفة أن لها خالقاً ، ومعرفة طلب الرزق ومعرفة الذكر من الأنثى ، ومخافة الموت . انتهى . ورواه في من لا يحضره الفقيه ج ٢ ص ٢٨٨ وقال : وأما الخبر الذي روي عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : لو عرفت البهائم من الموت ما تعرفون ما أكلتم منها سميناً قط ، فليس بخلاف هذا الخبر ، لأنها تعرف الموت لكنها لا تعرف منه ما تعرفون . انتهى . ورواه في وسائل الشيعة ج ٨ ص ٣٥٢ ، ومحل هذا الموضوع في المعرفة ، لكن أوردناه هنا ليتضح أن الإنسان والحيوان مفطوران على معرفة الله تعالى ، بل والجماد أيضاً كما قال تعالى ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) .

التوجه الفطري إلى الله تعالى

ـ شرح الأسماء الحسنى ج ١ ص ٦٧

يا ملجئي عند اضطراري . فإن الإنسان إذا انقطعت جميع وسائله وانبتت تمام حبائله التجأ إليه تعالى بالفطرة وتشبث به بالجبلة ، ولذا استدل الأئمة المعصومون كثيراً على منكري الصانع بالحالات المشاهدة ، والوقوع في مظان التهلكة .

ـ شرح الأسماء الحسنى ج ١ ص ١٦٤

يا أحب من كل حبيب . أما أنه أحب من كل حبيب لأهله فواضح ، وقد مر ، وأما أنه أحب للكل كما هو مقتضى الإطلاق فلأن كل كمال وإفضال لما كان عكس كماله

٣٧
 &

وإفضاله ومحبوبيتها باعتبار وجهها إلى الله ، رجع محبوبيتها إلى محبوبيته ، فإليه يرجع عواقب الثناء كما ورد عن المعصوم ، ولكن لا يستشعر بذلك إلا الخواص .

والتفاضل والإيمان والكفر بذلك الإستشعار ، أو لأنه أحب لهم إجمالاً أو فطرة ، كما أن الجاهل يعلم أن العالم خير منه ، والغضبان يصدق بأن الحليم أشرف منه ، والبخيل بأن الجواد أفضل منه ، فهم يحبون الصفات الحميدة فطرةً وإن أحبوا تلك الرذايل بالغريزة الثانية .

ـ شرح الأسماء الحسنى ج ٢ ص ٤

. . . . تنبيهاً على أنه تعالى هو المعروف بتلك الصلات والصفات عند الفطرة الأولى التي فطر الناس عليها ، فلا تذهب العقول إلى غيره تعالى حتى عقول الكفار ، كما قال تعالى : وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ، وحين قال الخليل عليه‌السلام : إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ، لم ينكره نمرود بل بهت ، لأن فطرته حاكمة بأن القادر على ذلك ليس إلا هو .

رأي صاحب تفسير الميزان في عالم الذر والمعرفة والميثاق

ـ تفسير الميزان للطباطبائي ج ٨ ص ٣٠٥ ـ ٣٣١

قوله تعالى : وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا . . . .

أخذ الشئ من الشئ يوجب انفصال المأخوذ من المأخوذ منه واستقلاله دونه بنحو من الأنحاء ، وهو يختلف باختلاف العنايات المتعلقة بها والإعتبارات المأخوذة فيها كأخذ اللقمة من الطعام وأخذ الجرعة من ماء القدح ، وهو نوع من الأخذ ، وأخذ المال والأثاث من زيد الغاصب ، أو الجواد أو البائع أو المعير ، وهو نوع آخر ، أو أنواع مختلفة أخرى ، وكأخذ العلم من العالم وأخذ الأهبة من المجلس وأخذ الحظ من لقاء الصديق ، وهو نوع ، وأخذ الولد من والده للتربية ، وهو نوع . . إلى غير ذلك .

٣٨
 &

فمجرد ذكر الأخذ من الشئ لا يوضح نوعه إلا ببيان زائد ، ولذلك أضاف الله سبحانه إلى قوله وإذ أخذ ربك من بني آدم الدال على تفريقهم وتفصيل بعضهم من بعض : قوله من ظهورهم ، ليدل على نوع الفصل والأخذ ، وهو أخذ بعض المادة منها بحيث لا تنقص المادة المأخوذ منها بحسب صورتها ولا تنقلب عن تمامها واستقلالها ، ثم تكميل الجزء المأخوذ شيئاً تاماً مستقلاً من نوع المأخوذ منه ، فيؤخذ الولد من ظهر من يلده ويولده وقد كان جزء ، ثم يجعل بعد الأخذ والفصل إنساناً تاماً مستقلاً من والديه بعد ما كان جزء منهما . ثم يؤخذ من ظهر هذا المأخوذ مأخوذ آخر وعلى هذه الوتيرة حتى يتم الأخذ وينفصل كل جزء عما كان جزء منه ويتفرق الأناسي وينتشر الأفراد وقد استقل كل منهم عمن سواه ، ويكون لكل واحد منهم نفس مستقلة لها ما لها وعليها ما عليها .

فهذا مفاد قوله : وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ، ولو قال أخذ ربك من بني آدم ذريتهم أو نشرهم ونحو ذلك ، بقي المعنى على إبهامه .

وقوله : وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ، ينبئ عن فعل آخر إلۤهي تعلق بهم بعد ما أخذ بعضهم من بعض ، وفصل بين كل واحد منهم وغيره ، وهو إشهادهم على أنفسهم ، والإشهاد على الشئ هو إحضار الشاهد عنده وإراءته حقيقته ليتحمله علماً تحملاً شهودياً ، فإشهادهم على أنفسهم هو إراءتهم حقيقة أنفسهم ليتحملوا ما أريد تحملهم من أمرها ، ثم يؤدوا ما تحملوه إذا سئلوا .

وللنفس في كل ذي نَفَس جهات من التعلق والإرتباط بغيرها يمكن أن يستشهد الإنسان على بعضها دون بعض ، غير أن قوله : أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ، يوضح ما أشهدوا لأجله وأريد شهادتهم عليه ، وهو أن يشهدوا ربوبيته سبحانه لهم فيؤدوها عند المسألة .

فالإنسان وإن بلغ من الكبر والخيلاء ما بلغ وغرته مساعدة الأسباب ما غرته واستهوته ، لا يسعه أن ينكر أنه لا يملك وجود نفسه ولا يستقل بتدبير أمره ، ولو

٣٩
 &

ملك نفسه لوقاها مما يكرهه من الموت وسائر آلام الحياة ومصائبها ، ولو استقل بتدبير أمره لم يفتقر إلى الخضوع قبال الأسباب الكونية والوسائل التي يرى لنفسه أنه يسودها ويحكم فيها ، ثم هي كالإنسان في الحاجة إلى ما وراءها والإنقياد إلى حاكم غائب عنها يحكم فيها لها أو عليها ، وليس إلى الإنسان أن يسد خلتها ويرفع حاجتها .

فالحاجة إلى رب مالك مدبر حقيقة الإنسان ، والفقر مكتوب على نفسه ، والضعف مطبوع على ناصيته ، لا يخفى ذلك على إنسان له أدنى الشعور الإنساني ، والعالم والجاهل والصغير والكبير والشريف والوضيع في ذلك سواء . فالإنسان في أي منزل من منازل الإنسانية نزل ، يشاهد من نفسه أن له رباً يملكه ويدبر أمره ، وكيف لا يشاهد ربه وهو يشاهد حاجته الذاتية ، وكيف يتصور وقوع الشعور بالحاجة من غير شعور بالذي يحتاج إليه .

فقوله : أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ بيان ما أشهد عليه ، وقوله : قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا ، اعتراف منهم بوقوع الشهادة وما شهدوه .

ولذا قيل إن الآية تشير إلى ما يشاهده الإنسان في حياته الدنيا أنه محتاج في جميع جهات حياته من وجوده وما يتعلق به وجوده من اللوازم والأحكام ، ومعنى الآية إنا خلقنا بني آدم في الأرض وفرقناهم وميزنا بعضهم من بعض بالتناسل والتوالد وأوقفناهم على احتياجهم ومربوبيتهم لنا ، فاعترفوا بذلك قائلين بلى شهدنا أنك ربنا . وعلى هذا يكون قولهم بلى شهدنا من قبيل القول بلسان الحال أو إسناداً للازم القول إلى القائل بالملزوم ، حيث اعترفوا بحاجاتهم ولزمهم الإعتراف بمن يحتاجون إليه .

والفرق بين لسان الحال والقول بلازم القول ، أن الأول انكشاف المعنى عن الشئ لدلالة صفه من صفاته وحال من أحواله عليه ، سواء شعر به أم لا ، كما تفصح آثار الديار الخربة عن حال ساكنيها وكيف لعب الدهر بهم وعدت عادية الأيام عليهم فأسكنت أجراسهم وأخمدت أنفاسهم ، وكما يتكلم سيماء البائس المسكين عن

٤٠